مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة البقرة

اشارة

الآية 228-229 بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْم.......

اشارة

وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (229) الآيتان في بيان بعض أحكام الطلاق فإنّه لما ذكر سبحانه أنّ المولي من زوجته مكلّف بأحد أمرين: إمّا الفئة أو الطلاق عقّب عز و جل ذلك ببعض أحكام الطلاق و أقسامه، فذكر سبحانه عدة المطلقة و رجوع الزوج في العدة ثم قسم الطلاق إلى البائن و غيره خلافا لما كان عليه العرف السائد في الجاهلية في أمر الطلاق.

و تتضمن الآيات المباركة أصلا من أصول نظام الزوجية و الأحوال الشخصية في الإسلام بأحسن بيان و أجمع كلام، كما تتضمن قانونا من قوانين النظام الاجتماعي المشتمل على العدل و الإنصاف في جميع الأحوال.

ص: 5

التّفسير

228 - قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .

الطلاق معروف و هو بمعنى الفراق و السراح، و التخلية عن الوثاق، و في اصطلاح الشرع هو: الفراق بين الزوجين و التخلية عن وثاق الزوجية بشرائط خاصة.

و إنّما ذكر سبحانه المطلّقات لبيان تلبسهنّ بالطلاق المشروع و المراد من المطلّقات هنا بيان حكم صنف خاص منهنّ أي: خصوص المدخول بها، غير اليائسة و غير الحامل، لأنّ غير المدخول بها و اليائسة لا عدة لهما حتّى يجب عليهما التربص ثلاثة قروء. و الحامل عدتها وضع الحمل كما يأتي في قوله تعالى: وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق - 4].

و التربص: هو الانتظار و الإمساك. و يتربصن بأنفسهنّ أي: يمسكن بأنفسهنّ و يحبسنها عن الازدواج و التمكين و هو يفيد معنى الاعتداد.

و جملة (يتربصن) خبرية يراد بها الإنشاء لأنّها أبلغ في الطلب من غيرها كما هو مذكور في أصول الفقه.

و قروء جمع القرء و يجمع على الأقراء أيضا،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اقعدي عن الصلاة أيام إقرائك» و مادة (قرء) تدل على الجمع و الاجتماع الذي يعقبه التحويل و التفرق، فتطلق على القراءة. و سمي القرآن

ص: 6

قرآنا لأجل أنّه جمع في حروفه.

و يطلق هذا اللفظ على نفس الحيض كما مرّ في قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) كما يطلق على حالة الانتقال من الحيض إلى الطهر بحسب الوضع كما عن جمع من اللغويين، و لا يطلق على نفس الطهر، لأنّ المرأة الطاهر التي لا ترى أثر الحيض لا يقال لها ذات قرء فهو من الأضداد.

و كيف كان فالمراد به في المقام الطهر لما ذكرنا و عليه إجماع الإمامية، و وردت فيه أحاديث كثيرة و به يقول المالكية و الشافعية و جمع كثير من الفقهاء.

و لكن عن الحنفية و الحنابلة و جمع آخرين أنّ القرء في الآية المباركة هو الحيض،

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دعي الصلاة أيام إقرائك»

و بما روي عن عليّ (عليه السلام): «إنّ القرء هو الحيض».

و لكن المناقشة فيه ظاهرة لأنّ اللفظ المشترك إذا وقع في استعمال مقرونا بقرينة تدل على أحد معنييه لا يكون ذلك دليلا على أنّه كلّ ما استعمل فيه هذا المشترك - و لو بلا قرينة على التعيين - يكون المراد منه ما استعمل فيه مع القرينة، و هو خلاف المحاورات العرفية، و لا يقول به أحد في نظائر المقام.

و القرينة في الحديث المروي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أنّ المراد من الإقراء الحيض ظاهرة، و أما قول عليّ (عليه السلام) فهو - مضافا إلى كونه قاصرا سندا - إنّه معارض بغيره مما هو أقوى منه من جهات.

و دعوى: أنّه لو دار تكليف بين القصير و الطويل يكون الأول معلوما و الثاني مرفوعا

لقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع ما لا يعلمون» المتفق عليه بين الأمة غير صحيحة لوجود النص الخاص و البحث مذكور بالتفصيل في كتب الفقه.

و المعنى: إنّ المطلقات ينتظرن و يمسكن بأنفسهنّ عن قبول الزوج حتّى يرين ثلاثة أطهار.

قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ .

الأرحام جمع رحم، مثل كتف و الأكتاف. و الرحم في المرأة منشأ نمو

ص: 7

النطفة و تربيتها، كما أنّ الأرض منشأ نمو البذرة و تربيتها و تسمّى القرابة رحما لانتهائهم إلى رحم واحد.

و ما خلقه اللّه في الرّحم أعم من الدم و الحمل و إن كان الأصل هو الدم لأنّه أهم مادة في تكوين الجنين، و يمكن اعتبار الأول كمادة و الثاني كصورة متبادلة استعدادية للأول، فلا فرق بين أخذ الموصول بمعنى الدم بما له من الأطوار، أو بمعنى الحمل بما له من المنشأ فالجميع واحد، و هذا مروي كما يأتي، فلا وجه لاختلاف المفسرين في ذلك.

و المعنى: لا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ من الحيض أو الحمل استعجالا للخروج من العدة و إضرارا بالزوج في رجوعه أو تطويلها لأجل أخذ النفقة و نحو ذلك.

و في تقييد ما في الأرحام بكونه مما خلقه اللّه للإعلام بأنّه عالم به و قادر على أن يفعل خلاف إرادتهنّ .

قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

أي: إن كنّ مؤمنات باللّه الذي ينزل الأحكام لمصالح العباد و يفعل مقتضى الحكمة، و اليوم الآخر الذي يجازى فيه كلّ عامل، فلا يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ .

و في التقييد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر حث و ترغيب إلى مطاوعة الحكم، و لبيان أنّها من لوازم الإيمان بهما، فالكتمان ليس من فعل أهل الإيمان، و فيه من التوعيد الشديد و التهديد ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً .

البعولة جمع البعل مثل الفحولة و الفحل: و هو الذكر من الزوجين سمي به لاستعلائه على المرأة، و لأجل ذلك استعمل هذا اللفظ في كلّ ما فيه هذا المعنى فسمي الصنم بعلا قال تعالى: أَ تَدْعُونَ بَعْلاً [الصّافات - 125] أي ربا.

ص: 8

و البعال مباشرة النساء

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أيام العيد: «إنّها أيام أكل و بعال» و لعلّ الوجه في التعبير به دون غيره ليترتب عليه أحقية الزوج برد الزوجة المطلقة أو لإخراج غير المدخول بها.

و الضمير في بعولتهنّ يرجع إلى بعض المطلقات على سبيل الاستخدام هنّ الرجعيات دون جميع المطلقات.

و المعنى: إنّ بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى الزوجية في العدة إن قصد الإصلاح و المعاشرة بالمعروف في رجوعه أما إذا كان قصده الإضرار و المضارة و منعها من التزويج كما في قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة - 231] فهو آثم.

و لفظ «أحق» أفعل التفضيل جيء به تأكيدا لثبوت الحق للزوج في الرجوع في العدة فتكون الآية المباركة مثل قوله تعالى: فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة - 13]، فالتعبير بصيغة أفعل التفضيل للمبالغة و الاهتمام لاستيناف الحياة الزوجية و إعادتها ما دامت في العدة و هذه الأحقية تتحقق برد الزوج لها و الرجوع بها إلى العصمة الأولى. و هذا الحكم مختص بالرجعيات فقط دون غيرها من المطلقات و ليس للمرأة حق المعارضة في ظرف العدة.

و إنّما ثبتت هذه الأحقية للزوج باعتبار كونه معاشرا لها قبل الطلاق و قد أفضى بعضهم إلى بعض، و في هذا التعبير تحريض للزوج على المراجعة.

قوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

تتضمن هذه الآية الشريفة أتقن القوانين المتكفّلة لأهم ما يناط به النظام الاجتماعي بالنسبة إلى الفرد و النوع بأحسن بيان و أعذب أسلوب و أجمع كلام.

تبتهج له النفوس، و تطمئن إليه القلوب و يشعر الإنسان عند سماعه بلذة العدل و الإنصاف في جميع الأحوال و يسعد الزوجان به في حياتهما الزوجية، و ترغب كلّ فتاة خلية بالزواج كرغبتها بلبس الحرير و الدّيباج.

و تتجلّى من هذه الكلمة أهمية النظام العائلي في الإسلام و هي تنص على مساواة الرجل مع المرأة في الحقوق و المماثلة في الوظائف إلا ما اختص

ص: 9

أحدهما بما ورد في الشريعة به و لا يمكن ابتغاء ما كتب في هذه الحياة المشتركة إلا باحترام كلّ واحد من الزوجين حقوق الآخر. و بقدر إتيان الوظائف تتم السعادة و الرخاء.

فالآية المباركة ميزان الحق و العدل في جميع الشؤون و الأحوال و بذلك امتاز الإسلام عن سائر الأديان الإلهية في شأن النساء و القوانين الوضعية التي لم تصل إلى ما تدعيه في مساواة النساء و احترامهنّ إلا بعد قرون عديدة و هي مع ذلك لم تبلغ إلى ما تريده بل جلبت الشقاء و الفساد لهنّ .

و المعنى: إنّ لهنّ من الحقوق فيما تعارف بين الناس على الرجال مثل ما للرجال عليهنّ .

و لم يذكر سبحانه و تعالى ما هو الثابت على كلّ واحد منهما و إنّما أوكله إلى ما تعارف عليه الناس ليشمل جميع ما يتعلّق بحسن المعاشرة و الخلق الحسن و ما ورد في الشرع و ما يحكم به العقل فإنّ جميع ذلك من المعروف.

و قد كرر سبحانه و تعالى هذا اللفظ في الآيات المتعلقة بالنكاح و الطلاق اثنتي عشرة مرة لبيان أنّ جميع ذلك من سنن الفطرة و شؤون المجتمع الإنساني و هي تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و المجتمعات.

قوله تعالى: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ .

الدرجة: المنزلة و المراد بها الفضل و التفوّق و القيام بالمصالح الشرعية.

و الإسلام مع أنّه سوّى بين النساء و الرجال قد أعطى للرجال درجة عليهنّ .

و قد بيّن سبحانه و تعالى تلك الدرجة في آية أخرى فقال عزّ شأنه: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء - 34]، و إعطاء هذه الدرجة للرجال من الأمور الفطرية التي بنى الإسلام عليها أحكامه، فإنّ المجتمع يحتاج إلى من يعتمد عليه فيما يطرأ عليه من المخاطر و الاختلاف و من يحميه عنها و يقدر على تنفيذ ما يراه من المصلحة و الإنفاق عليه، و الحياة الزوجية لا تخرج عن هذه السنة بل احتياجها إلى الرجل أشد فهو الذي يتحمل الصعاب في تحصيل النفقة و المطالب بحماية المرأة

ص: 10

و الأولاد، و لذا أمر الشارع المرأة بتنفيذ أوامره إلا ما حرّم حلالا أو حلّل حراما و إذا خرجت من هذه الطاعة تعتبر ناشزة فذاك موضوع آخر له أحكام خاصة تأتي في الآيات اللاحقة و من ذلك يعرف سر التعبير ب «الرجال» في المقام دون الأزواج، و فيه من الإشارة إلى وجه التفوق و المنزلة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه قويّ لا منازع له و لا معترض عليه. حكيم في أفعاله يفعل وفق المصلحة.

و فيه من التوعيد و التهديد للمعترض على أحكامه و المخالف لما أنزله اللّه تعالى ما لا يخفى.

قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

المرة من المرور بمعنى الاجتياز و المضي. و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردة و تثنية و جمعا، قال تعالى: فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس - 12]، و قال تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة - 101]، و قال تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان - 72].

و المراد بها في المقام: التكرار و الوقوع مرة بعد أخرى.

و مادة (مسك) تأتى بمعنى التعلق و الحفظ و الاعتصام قال تعالى:

وَ يُمْسِكُ اَلسَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ [الحج - 65]، و قال تعالى:

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف - 43]، و قال تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ اَلسَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل - 79]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ [الأعراف - 170].

و المسك - بالفتح - الإهاب لأنّه يمسك البدن، و المسك - بفتحتين - الأسوار لاستمساكها باليد، و المسك - بالكسر - دم الغزال - و هو عطر مخصوص - سمّي به لمساك عطره و بقائه مدة كثيرة، و في الحديث: «لخلوق فم الصائم أحب عند اللّه من ريح المسك».

ص: 11

و مادة (سرح) تأتي بمعنى الإطلاق و الإرسال قال تعالى: وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً [الأحزاب - 49]، و قال تعالى: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ [النحل - 6].

و الطلاق إذا وقع مستجمعا للشرائط المعتبرة و كان طلاقا صحيحا يوجب ارتفاع الزوجية و انقطاع العلقة بين الزّوجين و زوال العصمة بينهما فلا ترجع تلك العلقة إلا بالرجوع إليها في العدة أو بعقد جديد بعد انقضائها فقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ يدل على الأول. و قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يدل على الثاني. و على هذا فيكون قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة - 230]، بيانا للطلاق الثالث.

و قيل: إنّ الآية المباركة في مقام بيان الطلاق الرجعي و الطلاق البائن، فإنّ الأول هو الذي يجوز فيه الإمساك بالمعروف و الثاني هو التطليقة الثالثة، و يدل عليه التفريع في قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ

و حديث أبي رزين الأسدي أنّه سأل النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «سمعت اللّه تعالى يقول:

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ . فأين الثالثة ؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ . و على هذا فيكون قوله تعالى بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ بيانا تفصيليا بعد البيان الإجمالي. و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.

ثم إنّ تقييد الإمساك بالمعروف و التسريح بالإحسان لبيان أنّ النكاح و المعاشرة و الطلاق إنّما هي أمور عرفية فطرية فلا يجوز أن يتأتّى منها الإضرار أو المنكر أو الانتقام، فالرد إلى الزوجية الذي يجوّزه الشرع المبين إنّما هو فيما إذا كان بقصد الالتثام و الأنس و سكون النفس الذي كتبه اللّه تعالى في الحياة الزوجية.

و كذا التسريح الذي شرّعه اللّه تعالى إنّما يكون معتبرا فيما إذا لم يكن عن انتقام و سخط بل لا بد أن يكون مما تعارف عليه الناس و حسن المعاملة و أداء النفقة و هذا هو المراد من قوله تعالى في الآية الشريفة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

ص: 12

و كذا التسريح الذي شرّعه اللّه تعالى إنّما يكون معتبرا فيما إذا لم يكن عن انتقام و سخط بل لا بد أن يكون مما تعارف عليه الناس و حسن المعاملة و أداء النفقة و هذا هو المراد من قوله تعالى في الآية الشريفة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

و من ذلك يعرف أنّ في هذين القيدين كمال العناية و اللطف.

قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً .

بعد ما ذكر سبحانه و تعالى من أنّ التسريح لا بد أن يكون بإحسان حرّم في المقام أن يأخذ الزوج من الزوجة شيئا مما آتاها، فإنّه من الظلم و الغصب و هو خلاف الإحسان المأمور به، بل الإحسان إليهنّ أن يمتعهنّ بشيء كما قال تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً [الأحزاب - 49]، ليكون قد تدارك بذلك ما فات عن المرأة من مزايا الحياة الزوجية.

و المراد من مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ هو المهر أو ما ملّكها إياه.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ .

أي: الوظائف المجعولة لهما. و الخوف توقع وقوع المحذور ظنا أو علما، كما أنّ الرجاء توقع المطلوب كذلك أي: أن لا يقيما أحكام اللّه تعالى فيخافا أن يقعا في المعصية بارتكاب المخالفة.

و المراد خوف الزوج و إنّما ذكر خوف الزوجة معه للاقتران بينهما في ذلك و تأكد تحقق الخوف و عدم كونه من مجرد دعواه فقط فجعل اللّه تعالى ذلك الحق لها إشفاقا عليها لعلّها ترجع عما يوجب الفرقة.

أو لبيان أنّ إقامة حق اللّه تعالى أهمّ من كلّ شيء بالنسبة إلى كلّ واحد من الزوجين بل بالنسبة إلى كلّ أحد.

قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ .

العدول من التثنية إلى الجمع إما لأجل الإرشاد إلى حسن الاجتماع في الإصلاح و السعي في ذلك.

أو لبيان أنّ المدار على الخوف أن يكون معلوما يعرفه العرف لا أن

ص: 13

يكون من مجرد التوهم و الوسوسة و نحو ذلك.

أو للإرشاد إلى أنّ ذلك من المصالح العامة فيطالب به المجتمع و الأمة فيلزمهم مراعاة حال الزوجين و مساعدتهما في هذه الحالة، و لأجل ذلك عدل عن الإضمار إلى التصريح فقال تعالى: أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فإذا خافا عدم إقامة حدود اللّه فلا جناح على المرأة أن تبذل شيئا و تجعله فداء لها من الزوج. كما لا جناح على الزوج أخذ ما افتدت به الزوجة فيتوافقان على الطلاق بالفدية و هذا هو طلاق الخلع و لا يدخل في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ لأنّ ذلك كان لأجل عدم رضاء الزوجة و الإضرار بها و أما في المقام فقد تراضيا على ذلك و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها .

أي: إنّ تلك الأحكام المتقدّمة من الحدود التي يلزم مراعاتها لتتم السعادة بين الزوجين، و يرتفع التنافر و الظلم و يسود العدل و الإنصاف. و هذه الأحكام كما أنّها تشتمل على فروع فقهية تشتمل أيضا على أصول المعارف و الأخلاق الفاضلة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

أي: و من يتجاوز أحكام اللّه بأن يخالفها و لا يهتم بمراعاتها فإنّ في ذلك إماتة للدين و هدما للسعادة و تخريبا للعمران و إبطالا لما أراده اللّه تعالى في إنزال الأحكام من المصالح.

ص: 14

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ جملة خبرية في مقام الإنشاء و مثل هذا التعبير مألوف في القرآن الكريم، و إنّما يستعمل في مقام التأكيد و الاهتمام بالمراد.

و هو أبلغ من الإنشاء في الطلب و الإيجاب، لظهوره في وقوع المطلوب حتّى صار من شؤون المطلوب منه و ليس في صيغة الأمر ما يفيد ذلك.

و في كلمة بِأَنْفُسِهِنَّ من البلاغة و الإبداع ما لا يخفى، فإنّها بإيجازها تشتمل على معان دقيقة بالإشارة و التلويح فإنّ فيها ترك التصريح إلى ما تتشوق النساء إليه و الاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه، و عدم إيئاسهنّ مع اجتناب إخجالهن و توقي تنفيرهنّ أو التنفير منهنّ فإنّ الكلام في المطلّقات و هنّ معرّضات للزواج و خلوهنّ عن الأزواج و لا بد من ضبط النفس و منعها أن تقع في غمرة الشهوة المحرمة.

و لو لا هذه الكلمة لما أفادت الجملة تلك اللطائف الدقيقة. و لا يبلغ إلى هذا الإعجاز سواه تبارك و تعالى.

مضافا إلى اشتمال الجملة على وجه الحكمة في تشريع هذا الحكم

ص: 15

و هو التحفظ عن اختلاط المياه و فساد الأنساب.

و التاء في بُعُولَتُهُنَّ زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة و هو شاذ لا يقاس عليه و يعتبر فيه السماع.

و قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ منصوب على أنّه مفعول به على تقدير مضيّ ثلاثة قروء، و على أنّه مفعول فيه على تقدير مدة ثلاثة قروء.

و إنّما ذكر العدد مؤنثا «ثلاثة» باعتبار لفظ القرء المذكور سواء أريد به الطهر أو الحيض.

و القرء من الأضداد و يصح أن نقول: إنّه إذا كانت حقيقة واحدة ذات حالات مختلفة يصح وضع ألفاظ متعدّدة باعتبار تلك الحالات، فدم الحيض حقيقة نوعية واحدة من حالاتها الاستعداد في عروق الرحم و الجريان منه، فتسمّى حيضا باعتبار الجمع و الجريان أو هما معا، و من حالاتها تبادلها مع الطهر و الانتهاء إليه أو البدء منه فتسمّى قرءا، و باعتبار الافتضاض فتسمى طمثا قال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [الرحمن - 56]، و بانبساط الرحم تسمى ضحكا كما في قوله تعالى: - إن أريد به الحيض - وَ اِمْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود - 71]. أي: حاضت. و أما إذا أريد منه التعجب بقرينة قوله تعالى: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ [هود - 73]، فلا ربط له بالمقام. و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم و لغة العرب.

و لنا أن نجعل المقام من متحد المعنى و تلك الحالات من دواعي الاستعمال لا من خصوصيات الموضوع له أو المستعمل فيه و هذا هو المتيقّن و الأخيران مشكوكان و إثباتهما يحتاج إلى دليل و هو مفقود.

و في قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ نوع من الاستخدام الذي هو من المحسنات الكلامية و هو عبارة عن أن تكون الكلمة لها معنيان فيذكر أحدهما ثم يراد بالضمير الراجع إليها معناه الآخر.

ص: 16

ففي المقام يراد من المطلّقات العموم - الأعم من البائن و الرجعي - و من الضمير الراجع إليها قسم خاص منها. و هو من الأساليب المعهودة في كلام العرب و وارد في القرآن الكريم كثيرا.

و اختصاص الضمير بالبعض لا فرق فيه بين أن يكون لقرينة داخلية كما قيل في المقام من أنّ الأحقية إنّما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، أو لأجل أخبار خاصة أو نحو ذلك فالضمير في جميع الحالات يرجع إلى بعض المطلّقات دون العموم.

و إنّما جيء بلفظ (إن) في قوله تعالى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً لذكر الحالة التي يتحقق بها الرد و إرادته كما في قوله تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور - 33].

ثم إنّ قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ التفات عن خطاب الجمع الوارد في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ و قوله تعالى: فَلا تَعْتَدُوها إلى خطاب المفرد بقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ ثم إلى الجمع بقوله تعالى: فَلا تَعْتَدُوها ثم إلى المفرد في قوله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ كلّ ذلك لتنبيه المخاطب و رفع الكسل في الإصغاء و تتشيط الذهن ليستعد لسماع الحكم من غير ملل.

و في قوله تعالى: أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ التفات من الخطاب إلى الغيبة تكريما و استبعادا للمخاطب عن الوقوع في المخالفة و عدم إقامة حدود اللّه.

ص: 17

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يدل قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ على وجوب الاعتداد على المطلّقة و وجه الحكمة في تشريع هذا الحكم و إن كانت الحكمة لا تطّرد و لا تنعكس.

الثاني: تدل جملة يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ على أنّ الأمر الذي لا بد منه في مدة التربص هو حفظ النساء أنفسهنّ فيمسكنها عما تقتضيه طبائعهنّ من الطموح إلى الزّواج.

و فيها دلالة على وجوب أن لا يخرجن من رعاية الزوج و حيطته.

و هذه الجملة من روائع الأسلوب في الدّلالة و الفصاحة بإيجاز كما ذكرنا.

الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ بالملازمة على اعتبار قولهنّ إذا أخبرن بما في أرحامهنّ من الحيض، و الطهر، و الحمل.

و لعلّ

ما ورد في الأحاديث: «إنّ اللّه فوض إلى النساء ثلاثة أشياء:

الحيض، و الطهر، و الحمل» مستفاد من هذه الآية الشريفة.

و قد سيق ذلك مساق القاعدة الكلية، و أجمع الفقهاء على اعتبار قولهنّ

ص: 18

في هذه الثلاثة ما لم يعلم الكذب و هو موافق للقاعدة النظامية المذكورة في الفقه من أنّ «كلّ من استولى على شيء فقوله معتبر فيما استولى عليه» و لهذه القاعدة موارد كثيرة في فقه المسلمين.

الرابع: قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يدل على أنّ الحكم و هو وجوب حفظ أنفسهنّ في العدة و حرمة كتمانهنّ لما في الأرحام من لوازم الإيمان فلا استغناء عنه و فيه الزجر الشديد.

و يستفاد منه الردع الأكيد عن عادة كانت متبعة بينهنّ قبل نزول الآية الشريفة و أنّها مخالفة للإيمان.

الخامس: يدل قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ على كمال عطفه و شدة اهتمامه عزّ و جل ببقاء العصمة الأولى حيث عبّر تعالى. «بردهن» دون غيره، فجعل للزوج حق الرد باعتبار الحالة التي قبل الطلاق فكأنّها لم تقطع، و لا حق للمرأة في المعارضة و لا منافاة في ذلك مع القول بأنّ للزوج حق في المطلقة و لسائر الخطاب حق أيضا و لكن الرد لا يتحقق إلا مع الزوج الأول في العدة.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة رجحان المراجعة و حسنها، و يدل عليه العدول عن التعبير بالزوج إلى البعولة لإخراج غير المدخول بها و للترغيب في المراجعة و تذكر الحالة السابقة و العصمة الأولى.

السادس: يستفاد من تعقيب الآية المتقدمة بقوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أنّ رد الرجل امرأته إلى حبالته و عصمته على ما يريده اللّه تعالى إنّما يتحقق بإرادة الإصلاح و هي القيام بحقوقها و يلازم ذلك قيام المرأة بحقوق الزّوج فذكر سبحانه و تعالى حقّ كلّ واحد منهما على الآخر و أجمل في ذلك بعبارة فصيحة و هي بإيجازها تشتمل على جميع ما ينبغي ذكره في هذه الحالة ثم أرجع ذلك إلى العرف المتداول في كلّ مجتمع.

السابع: يستفاد من تكرار المعروف في هذه الآيات المباركة - فقد ذكر فيها اثنتا عشر مرّة - حجية العرف كما عليه المحققون من الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم).

ص: 19

الثامن: إنّما ذكر سبحانه و تعالى لفظ الرجال في قوله: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ للإشارة إلى وجه التفوق و أنّه كمال الرجولية و فضل قيامه بأمورها و رعايتها كما فسرت هذه الدرجة في آية أخرى على ما ذكرنا في التفسير فراجع.

التاسع: يدل قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ على مرجوحية الطلاق و الفرقة يعني: أنّ أصل الطلاق مرجوح و لو أريد العمل بهذا المرجوح فمرّتان و الا فسيرى أثر عمله في الدنيا و الآخرة التي تظهر فيها منويات العبد فإنّها عالم الظهور و الشهود، و قد ذكر العلماء آثارا خطيرة على الطلاق حيث إنّه يوجب فساد الأخلاق بين الزوجين، و سوء تربية الأولاد و يوجب الأمراض النفسية إلى غير ذلك، فهذا الأمر من الأمور التي تترتب عليه آثار كثيرة و متعددة الجوانب منها الصحية و الأخلاقية و التربوية الفردية و الاجتماعية، و لذا لا بد من تقييده بقيود توجب الإقلال منه و حصره في موارد كما سنذكرها في بحث آخر.

العاشر: أنّ قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يلهم الزوجين بأعذب أسلوب و ألطف بيان و بعناية خاصة نبذ الفرقة و الاختلاف و يلقي بينهما الايتلاف و الانس و سكون النفس الذي جعله اللّه تعالى بين الرجل و المرأة، و لذا اعتبر أن يكون الإمساك بمعروف و ألغى الإمساك الواقع عن مضارّة و إضرار و هكذا التسريح.

الحادي عشر: إنّما قيّد سبحانه و تعالى الإمساك بمعروف، لنفي الإمساك المضار كما في قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة - 231]، و قيد التسريح بالإحسان ليترتب عليه قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً لأنّه قد ينافي أخذ شيء من المرأة العرف الدائر بين الناس، و لأنّ من الإحسان هو أداء النفقة و الإسكان و حسن المعاشرة حتى تنقضي العدة و هذه مزية في الإحسان لم تكن في المعروف، و لذا اختلف القيد في الموردين.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ أنّه لا بد من كراهة الزوجة لأنّ الافتداء إنّما

ص: 20

يستعمل فيما إذا كان إكراه أو أسر في البين و هذه الكراهة و النفرة هي التي توجب الخوف بأن لا يقيما حدود اللّه. و هذا هو طلاق الخلع الذي هو قسم من الطلاق و تجري عليه نفس الأحكام التي تترتب على مطلق الطلاق إلا ما استثني.

ص: 21

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في صحيح زرارة في قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال (عليه السلام):

«الأقراء: هي الأطهار».

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ عن زرارة قال: «سمعت ربيعة الرأي يقول: إنّ من رأيي أنّ الأقراء التي سمى اللّه تعالى في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين و ليس بالحيض قال: فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فحدثته بما قال ربيعة فقال (عليه السلام): كذب و لم يقل برأيه إنّما بلغه عن عليّ (عليه السلام) فقلت: أصلحك اللّه أ كان عليّ (عليه السلام) يقول ذلك ؟! قال:

نعم، كان يقول: إنّما القرء: الطهر، تقرأ بما فيه الدم فيجمعه فإذا حاضت قذفته قلت: أصلحك اللّه رجل طلق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها و حلت للأزواج - الحديث».

أقول: الروايات في كون القرء هو الطهر كثيرة و هو المشهور بين الفقهاء.

و قول أبي جعفر (عليه السلام): «نعم كان يقول: إنّما القرء الطهر» رد على

ما نسب إلى عليّ (عليه السلام) من أنّه يقول إنّ القرء: هو الحيض.

ص: 22

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «لا يحل للمرأة أن تكتم حملها أو حيضها، أو طهرها و قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر، و الحيض، و الحبل».

أقول: ما ذكر في الحديث بيان لإطلاق ما ورد في الآية الشريفة و تقدم سابقا ما يتعلّق بذلك.

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «الحيض و الحبل».

أقول: ليس ذلك في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.

و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الآية المباركة: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «يعني لا يحل لها أن تكتم الحمل إذا طلّقت و هي حبلى، و الزوج لا يعلم بالحمل فلا يحلّ لها أن تكتم حملها و هو أحق بها في ذلك الحمل ما لم تضع».

أقول: مرّ في الرواية السابقة أنّها ليست في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قال (عليه السلام): «حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال».

أقول: إنّ الفضيلة لا تنافي أصل التساوي في الجملة.

و في التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قال (عليه السلام):

«التطليقة الثالثة التسريح بإحسان».

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «التسريح بالإحسان التطليقة الثالثة».

ص: 23

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «التسريح بالإحسان التطليقة الثالثة».

و في الفقيه عن الحسن بن فضال قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال (عليه السلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ إنّما أذن في الطلاق مرّتين فقال عزّ و جل: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يعني في التطليقة الثالثة و لدخوله فيما كره اللّه عزّ و جل من الطلاق الثالث حرّمها عليه فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق و لا يضاروا النساء».

أقول: لا ريب في أنّ التطليقة الثالثة من التسريح بإحسان لعدم تحقق التلاعب و الاستخفاف بالمرأة في طلاقها.

و أما أنّ هذه الآية الشريفة تدل على وقوع الطلقات الثلاث بلفظ واحد أو في مجلس واحد ففيه منع و مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على خلاف ذلك و قد حرّرنا الكلام في الفقه فمن شاء فليراجع (مهذب الأحكام).

في أسباب النزول عن عروة عن أبيه: «كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له و إن طلّقها الف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها، و قال: و اللّه لا آويك إليّ و لا تحلّين أبدا، فأنزل اللّه عزّ و جل:

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ عن الصادق (عليه السلام) قال: «الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة لزوجها: «لا ابرّ لك قسما و لأخرجنّ بغير إذنك، و لأوطئنّ فراشك غيرك، و لا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك أمرا أو تطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها و كلّ ما قدر عليه مما تعطيه من مالها فإذا تراضيا على ذلك طلّقها على

ص: 24

طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، و هو خاطب من الخطاب، فإن شاءت زوّجته نفسها و إن شاءت لم تفعل فإن تزوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين و ينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإن ارتجعت في شيء مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك، و قال (عليه السلام): لا خلع و لا مباراة و لا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، و المختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلّقها يحلّ للأول أن يتزوّج بها و قال: لا رجعة للزوج على المختلعة و لا على المباراة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها».

أقول: قد حرّرنا تفصيل طلاق الخلع في الفقه فمن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

و في الفقيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا قالت المرأة لزوجها جملة لا أطيع لك أمرا مفسرة أو غير مفسرة حلّ له ما يأخذ منها و ليس له عليها رجعة».

أقول: المراد بالمفسرة التصريح بالمقصود جملة و غير المفسرة الكناية و غيرها.

في الدر المنثور أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة قال: «كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته و كان رجلا دميما فجاءت و قالت يا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إنّي لا أراه فلو لا مخافة اللّه لبزقت في وجهه، فقال لها: أ تردين عليه حديقته التي أصدقك ؟ قالت: نعم فردت عليه حديقته و فرق بينهما فكان ذلك أول خلع في الإسلام».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تبارك و تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها فقال: إنّ اللّه غضب على الزاني فجعل له مائة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى اللّه منه بريء فذلك قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها .

أقول: يريد (عليه السلام) بذلك الوقوف عند ما عينه اللّه تعالى في أحكامه المقدسة وضعية كانت أو غيرها فكلّ من تعدّى عنها فقد تعدّى عن حدّه تعالى و الشرع منه بريء.

ص: 25

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الشرعية الفقهية التالية:

الأول: يدل قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أنّ مدة العدة ثلاثة أطهار كما هو الحق و عليه جمع كثير من الجمهور - منهم المالكية و الشافعية و في الدر المنثور عن ابن شهاب أنّه قال: «سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا و هو يقول هذا أي أنّ القرء بمعنى الطهر» فيكفي في الطهر الأول مسماه و لو لحظة فلو طلقها و قد بقيت من الطهر لحظة يحسب ذلك طهرا واحدا، فإذا رأت طهرين آخرين بينهما حيضة واحدة انقضت أيام التربص (العدة).

و إذا كان المراد من القرء الحيض فإنّ أقل الحيض ثلاثة أيام و لا يكون أقل منها، و أكثره عشرة أيام لا يكون أكثر منها، و أقل الطهر عشرة أيام لا يكون أقل منها و أكثره لا حدّ له و التفصيل يطلب من (مهذب الأحكام) أحكام العدد.

الثاني: إنّ المراد من قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ هو الصنف الخاص منهنّ ، أي: المدخول بها و غير اليائسة، و غيرهما لا تشملهنّ الآية الشريفة فإنّ غير المدخول بها لا عدّة لها حتى يجب عليها التربص ثلاثة قروء.

و الحامل عدتها وضع الحمل كما يأتي في قوله تعالى: وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق - 4].

ص: 26

الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ على قبول قولهنّ في إخبارهنّ بما في أرحامهنّ من الحمل، و الحيض، و الطهر. و لا يختص الحكم بخصوص الحمل كما ذكره بعض الفقهاء لأنّ هذا الزجر الشديد يناسب أن يكون على كتمان الحمل و لكن إطلاق اللفظ يشمل جميع ما ذكر.

الرابع: يدل قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ أنّ الزوج إذا طلب الرجوع لا حق للمرأة في معارضة البعل في ردها.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ أنّ طبيعي الطلاق على نوعين نوع يجوز للزّوج المراجعة في العدة ورد الزوجة إلى العصمة الأولى، و النوع الآخر لا يجوز للزوج رد الزوجة حتى تنقضي العدة فلا بد من عقد جديد حينئذ.

السادس: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً عدم جواز استرداد المهر من الزوجة لأنّها تملك صداقها بمجرد العقد الصحيح الجامع للشرائط و إن استقرت ملكية التمام بالدخول.

و بالجملة: إنّ التصرف في صداقها بدون رضاها يكون تصرفا في حق الغير بدون الإذن و هو حرام بالأدلة الأربعة كما قرّرناه في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) و أما مع الرضا و طيب النفس فلا بأس به لكونه حلالا كما في قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء - 4].

السابع: يدل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ على مشروعية طلاق الخلع و يفترق عن غيره من أقسام الطلاق بأنّ الأول إنّما يشرع إذا كان نفرة من الزوجة للزوج و بذلها الفداء عوضا عن الطلاق، و يدل على كلا الأمرين قوله تعالى: فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ و يصح الفداء بكلّ ما يتموّل قليلا كان أو كثيرا، كان بقدر المهر أو أنقص أو أزيد.

ص: 27

و طلاق الخلع بائن لا يصح فيه الرجوع من الزوج ما لم ترجع المرأة فيما بذلت، و لها الرجوع في الفدية ما دامت في العدة فإذا رجعت كان له الرجوع.

و لو طلّقها مع عدم الكراهة و كون الأخلاق ملتئمة لم يملك العوض و حرم عليه التصرف و لكن يصح أصل الطلاق و إن بطل الخلع.

الثامن: لا بد في الكراهة الموجبة لجواز الخلع من الزوجة أن تكون بحيث يخاف منها الوقوع في المعصية، و عدم إقامة حدود اللّه و هي أحكامه المقدسة.

ص: 28

بحث علمي

الآيات المباركة المتقدمة تدل على مشروعية الطلاق في الإسلام و هي من جملة المؤاخذات التي أخذها أعداء الإسلام عليه باعتبار أنّ الطلاق تفريق بين الزوجين و إلغاء العصمة بينهما.

و الزواج حاجة إنسانية شرّعه اللّه تعالى لمصلحة الفرد و المجتمع، و بقاء النوع الإنساني كما قلنا ذلك سابقا.

و الطلاق إبطال لهذه المصلحة فإنّه سبب للفراق الذي هو مبغوض لكل ذي شعور و هو يجلب جملة من المفاسد التي هي أساس كلّ محظور، و لذا حرمته بعض الشرائع السماوية كشريعة عيسى (عليه السلام) و بعض القوانين الوضعية.

و الجواب عن ذلك: أنّ الإسلام دين الرحمة و الألفة و التعاطف، و قد حث على الاجتماع و التواصل و الاتحاد بين الأفراد و حرّم كلّ ما يوجب الفرقة و الاختلاف، و يدل على ذلك القرآن الكريم و السنة المقدسة، و من مظاهر ذلك: الزواج، فإنّه حرض عليه في مواضع متعددة من القرآن الكريم بأساليب مختلفة قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً [الروم - 21]، و يستفاد منه كمال العناية بهذه الحياة التي جعلها سبحانه حياة سكن و راحة و فيها المودة و الرحمة التي

ص: 29

هي سبب السعادة في الحياة.

و اهتم الإسلام بجميع جوانب هذه الحياة و بيّن كلّ ما يرتبط بسعادتها و شقاوتها شرحا وافيا قلّما يوجد في أمر من الأمور مثل ذلك و من مجموع ما ورد في ذلك يستفاد أنّ الزواج هو المحبوب لدى الشارع الأقدس و الطلاق مرغوب عنه فإنّه حاجة موقتة يرجع إليه فيما إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهدّد كيانها و هذا مما أكد عليه الإسلام في مواضع متعددة من القرآن الكريم و السنة الشريفة

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أبغض الحلال إلى اللّه تعالى الطلاق»

و في حديث آخر: «أبغض الأشياء إلى اللّه تعالى الطلاق» و يمكن استفادة ما ذكرناه من أمور:

الأول: أنّه لم يرد في القرآن الكريم الأمر بالطلاق بخلاف الزواج و المعاشرة الزوجية قال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء - 3] و قال تعالى: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [النور - 32]، فقد حث عليه الإسلام بأساليب مختلفة كما ذكرنا و هو يكشف عن أنّ الطلاق أمر ثانوي يرجع إليه في حالات خاصة.

الثاني: أنّ الإسلام جعل أمر الطلاق بيد شخص واحد و هو الزوج و تحت سلطته الخاصة ففي الحديث المتواتر بين المسلمين «الطلاق بيد من أخذ بالساق» بخلاف الزواج فإنّ لكلّ واحد من الطرفين السلطة فيه. و هذا هو تحديد آخر في الطلاق يخرجه عن تلاعب الأهواء و العواطف و يبعده عن النزوات الشخصية.

الثالث: أنّه جعل في الطلاق حدودا و قيودا لم يكن مثلها في الزواج مما يقلل أفراده في الخارج.

الرابع: يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الطلاق في هذه السورة و غيرها أنّ الطلاق آخر ما يمكن الرجوع إليه، فقد جعل سبحانه و تعالى لحلّ

ص: 30

ما يطرأ من المشكلات على الحياة الزوجية طرقا متعددة منها الرجوع إلى العرف، أو التحكيم، أو أهل الزوجين، أو الهجر في المضاجع، أو الضرب بحدود و قيود و غير ذلك، فلو كان الطلاق هو الحل الوحيد في نظر الإسلام لما كان لهذه الطرق المختلفة وجه معتبر فهو آخر الطرق و مع ذلك هو أبغض الحلال إلى اللّه تعالى.

و هو الطريق الأمثل لحل المشكلات إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهددها، فإنّ الحل الذي يمكن تصوره في هذه الحالة إما وجوب التحفظ على الحياة الزوجية مهما بلغ الأمر و لو رجع إلى الفرقة إلى آخر عمر الزوجين كما يقول به بعض مذاهب النصارى. و هذا تعطيل لحقوق الأفراد و تحديد في حريتهما من دون مبرّر و إبقاء للمشكلات من دون حلّ لها. مع أنّه يرجع إلى الفرقة العملية بينهما و هو من أعقد المشاكل و أصعبها.

و إما الرجوع إلى قطع العلاقة بين الزوجين بعد استنفاذ جميع الحلول الملائمة فتنتهي الحياة الزوجية بالطلاق و التفرقة بين الزوجين لئلا يقعا في الحرام و تخرج الحياة الزوجية عن الكمال المطلوب منها فتجلب الشقاء للزوجين و الأولاد و هذا أمر لا يرتضيه أحد، فالطلاق هو آخر ما يتصوّر في حلّ المشكلات و إرجاع كلّ واحد من الزوجين إلى حياته الخاصة.

و من ذلك يعلم: أنّ الطلاق إنّما يصح إذا استجمع جميع الشروط المقررة في الشرع و منها أن لا يكون اقتراحيا من قبل الزوج من دون أيّ موجب مع كمال الملائمة بين الزوجين فإنّ صحة مثل هذا الطلاق موضع بحث لدى الفقهاء.

ص: 31

بحث عرفاني

تقدم بعض ما يرتبط بطلاق الزوج لزوجته و هو أمر مبغوض عند الخالق و المخلوق. و هناك طلاق آخر هو مجمع الكمالات الإنسانية و أهم طرق السّير و السلوك إلى اللّه تعالى و تتجلّى أهميته في اجتماع التخلية عن الرذائل، و التحلية بالفضائل، و التجلية بصفات الباري عزّ و جل فيه، و هو طلاق الدنيا و ما سوى اللّه جلّت عظمته و هو أيضا مرتان فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و إنّ له درجات:

الأولى: ما إذا كانت الدنيا سببا للانغمار في عالم الغرور و حجابا عن عالم النور. فترتع النفس في الجهالات و الظلمات فلا يفيدها منع مانع و لا ترتدع بأيّ رادع. و طلاق مثل هذه الحالة واجب على كلّ نفس تريد الاستكمال و الترفع عن دار الوهم و الخيال و الارتقاء إلى عالم الحقائق التي لم تزل و لا تزال.

الثانية: ما إذا أمسك نفسه عن الانغمار في عالم الغرور طلبا للاستكمال، فتشرق على النفس من عالم الأنوار فترفض الدنيا و ما يبعدها عن ساحة قدسه تعالى، و لا ريب في حسن هذا الطلاق بالشرائط المقرّرة في الشريعة المقدّسة و بعد ذلك تصل النوبة إلى الإمساك بالمعروف فيعمل بما يرتضيه الرّحمن و يرتقي بذلك إلى درجات الجنان.

ص: 32

الثالثة: و هي آخر المراتب و أعلاها و هي قطع العلاقة و الإضافة القلبية مطلقا عملا بما يقال: «إنّ التوحيد إسقاط الإضافات» و هذا هو التسريح بالإحسان.

و طلاق الدنيا في أيّ مرتبة حصل لا ينافي بقاء الدنيا تحت سلطته و إرادته كما في طلاق أولياء اللّه تعالى للدنيا فقد تمثلت الدنيا في صورة خارجية - و هي صورة أجمل النساء - لسيد الأنبياء في ليلة المعراج، و في صورة بثينة التي كانت أجمل نساء عصرها

لعليّ (عليه السلام) فقال لها:

«غرّي غيري لا حاجة لي فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها» فطلاق الدنيا بالشرائط المقرّرة في الشرع من أفضل الدّرجات و أعلى المقامات واجب عند المخلصين و الصدّيقين المتفانين في حبّ اللّه تعالى.

و هو أول منزل من منازل السّير إلى ربّ العالمين، و من جهة الاستقامة و البقاء عليه تجتمع فيه سائر المقامات من التخلية و التحلية و التجلية بل الفناء، و الثبات عليه ثبات في الرحمة الواسعة التي لم تزل و لا تزال و يشتد مقام التوحيد فيعبد اللّه جلّت عظمته حبّا له لا لشوق الوعد و لا خوف الوعيد.

ص: 33

سورة البقرة الآية 230

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِي.......

اشارة

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) الآية الشريفة في غاية إيجازها و اشتمالها على أربعة عشر ضميرا هي في منتهى الفصاحة خالية عن التعقيد، فيها جملة من الكنايات مما زادت في بلاغتها. و هي تبيّن حكما آخر من أحكام الطّلاق و هو عدم حليّة المطلّقة ثلاثا على الزوج حتى تنكح زوجا غيره فإن طلّقها بعد العقد و التزويج يجوز لهما أن يتراجعا بشرط اطمينانهما أن يقيما حدود اللّه تعالى. و هذا الحكم يعتبر تحديدا لعدد الطلقات الواقع من الزوج و ردعا له لئلا يقدم على تكرار الطلاق و إعادته.

ص: 34

التفسير

230 - قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ .

المراد من الطلاق هو التطليقة الثالثة، و نفي الحلية عن نفس الزوجة لبيان أنّها لا تحلّ لا بالعقد و لا بالمراجعة فالحرمة متعلّقة بهما معا.

و المعنى: فإن طلق زوجته بعد مرّتين من الطلاق فلا تحلّ له بعد الطلاق الثالث مهما طال الزمن و تقادم العهد حتى تنكح زوجا غيره.

قوله تعالى: حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ .

يستفاد من هذه الآية المباركة أنّ الحرمة في هذه المرأة غير دائمية أي:

فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا آخر نكاحا صحيحا مشتملا على العقد الصحيح و المباشرة - و قد كنّى سبحانه و تعالى عنهما بكناية لطيفة مؤدبة - فتكون زوجة له.

و تدل هذه الآية على أنّ النكاح لا بد أن يكون صحيحا مصاحبا للمباشرة و الغشيان لا مجرد العقد فقط، فيختص بخصوص العقد الدائم الصادر عن البالغ العاقل.

و قد استدل بعض المفسرين و جمع من فقهاء الجمهور بهذه الآية المباركة على أنّ النكاح الذي تحلّ به المطلّقة ثلاثا لا بد أن يكون زواجا

ص: 35

صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها، فلو نوى بالتزويج التحليل أي: إحلال الزوجة للزوج الأول كان زواجه غير صحيح و لا تحلّ به المرأة إذا هو طلقها بل هو معصية

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لعن اللّه المحلل و المحلل له».

و يمكن المناقشة في ذلك: بأنّ الآية المباركة لا تدل على ما ذكروه بل هي أجنبية عنه، و الحديث - على فرض اعتباره - إرشاد إلى ترك ذلك منهما لا أن يكون النّهي عنه نهيا تحريميا و على فرض كونه كذلك فإنّهم لا يقولون بأنّ النّهي في غير العبادات يوجب الفساد و النّكاح ليس بعبادة محضة، فلا فرق في النكاح بين أن يكون بنية التحليل إذا حصل قصد النكاح الدّائم الصحيح الجامع للشرائط. نعم، إذا لم يحصل قصد أصل النكاح الدائم يبطل من هذه الجهة.

قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا .

المراد بالتراجع: هو العقد و قد كنّى به عنه، و هو يختلف عن الرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الأولتين بأنّ التراجع إنّما يكون بين اثنين فلا بد من التوافق بينهما بخلاف الرجوع.

و المعنى: فإن طلّقها الزّوج الثاني طلاقا صحيحا يوجب انقطاع العصمة بينهما فلا جناح أن يتراجع الزّوجان إلى الحياة الزوجية بعقد شرعي و يستأنفا تلك الحياة الجديدة برغبة منهما مع حسن المعاشرة بينهما و إلغاء الحزازات السابقة، فالتراجع مشروط بذلك. و يلحق بطلاق الزّوج الثاني موته، لأنّه يوجب انقطاع العصمة بينهما كالطلاق.

قوله تعالى: إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ .

أي: أنّ التراجع بينهما و الرجوع إلى الحياة الجديدة مشروط بما إذا ظنّ كلّ واحد من الزوجين أن يقوم بحقوق الآخر و هي حسن المعاشرة و الإخلاص و سلامة النية و نحوها التي هي حدود اللّه تعالى التي كتبها في مثل هذه الحياة و الا فالرجوع مرجوح و إن كان العقد صحيحا إن وقع جامعا للشرائط.

ص: 36

قوله تعالى: وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .

وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّ الحدود في المقام غير الحدود السابقة.

و خص العالمين بالذّكر تشريفا للعلم و تعظيما لحدود اللّه تعالى، و لأنّ أهل العلم هم الذين يدركون مصالح تلك الحدود و آثارها و خصوصياتها و غيرهم عاجزون عن ذلك.

ص: 37

بحث دلالي

تكرر في هذه الآيات المباركة جملة حُدُودَ اَللّهِ و ذلك لإزالة ما شاع في الجاهلية من أقسام التفرقة و الطلاق و انحصارها في الإسلام بما قرّره الشارع بحدوده و قيوده و التجاوز عنها تجاوز عن حدود اللّه تعالى و لذا كرّرت تلك الجملة للتأكيد كما كرّر التوجه إلى القبلة في الآيات السابقة لأجل إزالة ما سبق و إثبات قبلة أخرى.

و يستفاد من قوله تعالى: أَنْ يَتَراجَعا أنّه لا بد من رضاء الطرفين في الرجوع و لا يتحقق ذلك إلاّ بعقد جديد جامع للشرائط كما عرفت آنفا بخلاف الرجوع في الطلاق الأول أو الثاني فقد عبّر سبحانه و تعالى بالرد و قال:

وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ و في السنة المقدسة و كلمات الفقهاء عبّر بالرجوع و هو عبارة أخرى عن الرد.

ثم إنّه ربما يستدل بقوله تعالى: حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ على صحة استقلالها في النكاح من دون مراجعة الوليّ لأنّه أضاف النكاح إلى نفسها فقط.

و هذا صحيح بالنسبة إلى البالغة الرشيدة الكاملة، و أما بالنسبة إلى غيرها فالدّليل لا يشملها، و إنّ التمسك بالآية المباركة فيها من التمسك بالدليل في الموضوع المشكوك و هو باطل عند الجميع و قد فصلنا البحث في الفقه و من شاء فليراجع النكاح من المهذب.

ص: 38

بحث روائي

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ؟ قال (عليه السلام): هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة فهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره و يذوق عسيلتها».

و في الكافي أيضا: «في الرجل يطلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتّى تنكح زوجا غيره ثم تتزوج رجلا و لم يدخل بها قال (عليه السلام) «لا حتّى يذوق عسيلتها».

أقول: العسيلة تصغير العسلة: و هي القطعة من العسل شبه لذة الجماع بذوق العسل،

و في الحديث «إذا أراد اللّه بعبد خيرا عسّله في الناس» أي طيّب ثناءه فيهم.

و احتمل بعض اعتبار الإنزال فيه مضافا إلى لذة الجماع لكنّه مردود بالأصل و الإطلاق كما ذكرنا في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام).

و في الدر المنثور عن البزار و الطبراني و البيهقي «أنّ امرأة رفاعة أتت النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قالت: «كنت عند رفاعة فبتّ طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير و ما معه إلاّ مثل هدبة الثوب فتبسّم النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و قال لها: لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتّى تذوقي

ص: 39

عسيلته و يذوق عسيلتك».

أقول: إنّما صغره إشارة إلى القدر القليل أو المسمّى الذي يحصل به الحل.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته طلاقا لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره و تزوجها رجل متعة أ يحل له أن ينكحها؟ قال (عليه السلام): لا، حتّى يدخل في مثل ما خرجت منه».

أقول: الروايات في أن المتعة لا توجب التحليل كثيرة تعرضنا لبعضها في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام).

و في التهذيب عن محمد بن مضارب قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الخصيّ يحلّل ؟ قال (عليه السلام): لا يحلّل».

أقول: هذا في الخصيّ الذي لا يقدر على الجماع كما هو الغالب و أما إذا قدر فتشمله العمومات و الإطلاقات.

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام): «بيّن سبحانه و تعالى حكم التطليقة الثالثة فقال تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها يعني التطليقة الثالثة».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا قال: «في الطلاق الأول و الثاني».

أقول: لو فرض هذا من كلام المعصوم فلا بد فيه من التأويل أو الحمل و الا فالإشكال فيه ظاهر.

ص: 40

سورة البقرة الآية 231-232

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا .......

اشارة

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231) وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) الآيات المباركة تبيّن أحكاما أخرى في الطلاق فذكر سبحانه و تعالى أنّه يجب معاملة النساء المطلّقات معاملة متعارفة و حسن المعاشرة معهنّ و أرشد الإنسان إلى أنّ مصلحته الايتمار بأوامر اللّه و الانتهاء عن نواهيه و الا كان ظالما لنفسه. و نهاه عن الإضرار و الاعتداء. و توعّد على من يتخذ آيات اللّه هزوا و أمره بالتقوى.

ثم نهى الأولياء و غيرهم عن منع المرأة المطلقة عدوانا و سخطا أن تنكح زوجا ثانيا بعد انتهاء العدة إن هي رغبت و تراضى الزوجان بالمعروف.

و حذرهم عن مخالفة أحكامه و أرشدهم إلى أنّهم لا يعلمون إلا أن يعلّمهم اللّه تعالى.

ص: 41

التفسير

231 - قوله تعالى: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ .

المراد ببلوغ الأجل: الإشراف على تمامية العدّة، لأنّه لو كان المراد انقضاؤها و تمامها فلا موضوع للإمساك و التسريح حينئذ.

و البلوغ كما يستعمل في الغاية يستعمل أيضا في الإشراف عليها و الاقتراب منها.

و المعروف: من العرف و هو ما استحسنه العقل و لم يردع عنه الشرع فيشمل الفطريات و المحسنات العقلية و بناء العقلاء فإنّ جميعها حسن و معروف و إن كان الفرق بينها بالاعتبار، و الشرع حاكم و مسلّط عليها جميعا فإنّه يتمّمها.

و قد اهتم الشارع بالمعروف و العرف كما يستفاد ذلك من مجموع هذه الآيات المباركة و غيرها. و قد أسس الفقهاء قاعدة «أنّ كلّ ما لم يرد من الشرع في موضوع من الموضوعات تحديد خاص يرجع إلى العرف في تعيينه» و مصاديق هذه القاعدة كثيرة على ما هي مفصّلة في الفقه.

و المعنى: و إذا طلّقتم النّساء و أشرفن على الوصول إلى آخر عدّتهنّ فإما

ص: 42

إمساك المرأة بالرجوع إليها أو تركهنّ على حالهنّ حتى تنقضي عدتهنّ كلّ ذلك بمعروف في معاملتها من النفقة و المهر من دون إضرار بهنّ في شيء من ذلك.

قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا .

تأكيد لما سبق، و نهي عن الرجوع بقصد الإضرار أي: و لا تراجعوهن تريدون بذلك إضرارهنّ و إيذائهنّ لتعتدوا عليهنّ بالاستيلاء على أموالهنّ و غيره كما كان يفعل في الجاهلية.

و الضّرار: مصدر إما نائب عن المفعول المطلق أي: لا تمسكوهنّ إمساكا أو مفعول لأجله و هو الأصح.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .

بيان لوجه حكمة النّهي أي: و من يمسك بقصد الإضرار فقد أوقع نفسه في الهلاك و التعب و الغضب الإلهي بمعصية اللّه و خرج عن جادة الصواب و انحرف عن الفطرة الإنسانية، بل حرّم على نفسه سعادة الحياة. و الرجوع بالمعروف رجوع إلى تلك السعادة فإنّه وصل و اجتماع بعد الفصل و الانقطاع.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اَللّهِ هُزُواً .

مادة (الهزء) تأتي بمعنى الخفة و الاستخفاف و الاستهزاء، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن و غالبها من المخلوق بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و بالنسبة إلى أنبيائه و رسله قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر - 11]، و قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزخرف - 7]، و قال تعالى: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام - 10]، و كذا بالنسبة إلى آيات اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة قال تعالى: وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً [الكهف - 56]، و قال جلّ شأنه في شأن أهل النار: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية - 35]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً [المائدة - 57]، و قد كرر ذلك في القرآن بأساليب مختلفة تسلية لأهل الحق و إرشادا لهم بأن لا يتأثروا من استهزاء أهل الباطل، و هذا من شعب الصراع بين الحق و الباطل الذي هو قديم جدّا بل يستفاد من أدلة كثيرة أنّ الدنيا لا تقوم إلا بهذا الصراع، و لا يختص بالإنسان بل المضادة و المعاندة موجودة في جميع الموجودات بجواهرها و أعراضها لكنّها خفية لا يمكن دركها إلا لبعض النفوس المستعدة و قد كشف العلم الحديث عن بعض جوانبها في موارد مخصوصة.

ص: 43

مادة (الهزء) تأتي بمعنى الخفة و الاستخفاف و الاستهزاء، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن و غالبها من المخلوق بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و بالنسبة إلى أنبيائه و رسله قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر - 11]، و قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزخرف - 7]، و قال تعالى: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام - 10]، و كذا بالنسبة إلى آيات اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة قال تعالى: وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً [الكهف - 56]، و قال جلّ شأنه في شأن أهل النار: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية - 35]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً [المائدة - 57]، و قد كرر ذلك في القرآن بأساليب مختلفة تسلية لأهل الحق و إرشادا لهم بأن لا يتأثروا من استهزاء أهل الباطل، و هذا من شعب الصراع بين الحق و الباطل الذي هو قديم جدّا بل يستفاد من أدلة كثيرة أنّ الدنيا لا تقوم إلا بهذا الصراع، و لا يختص بالإنسان بل المضادة و المعاندة موجودة في جميع الموجودات بجواهرها و أعراضها لكنّها خفية لا يمكن دركها إلا لبعض النفوس المستعدة و قد كشف العلم الحديث عن بعض جوانبها في موارد مخصوصة.

و أما المجردات فلا يتحقق التضاد و الصراع بينها لأنّه لا معنى للتجرد عن المادة إلا ذلك و الا لزم الخلف.

و المعنى: لا تتهاونوا بحدود اللّه و أحكامه فتتركوا العمل بها فإنّ فيها صلاحكم و رشدكم، فاللّه تعالى لم يشرع حدوده و أحكامه و معارفه إلا على مصالح عامة و حكم نوعية و الأخذ بها يصلح النوع و الاجتماع و يوصل الإنسان إلى الكمال المعدّ له و تتم له سعادة الحياة، و يستقيم بها نظام الاجتماع و الخليقة.

و الاستهزاء بحدود اللّه تعالى و آياته يتحقق بعدم العمل بها أو التعدّي عليها أو الاقتصار على ظواهرها و نبذ غيرها، فإنّ جميع ذلك من مظاهر الاستهزاء و التهاون.

و في الآية المباركة تهديد أكيد و وعيد شديد لمن يتعدّى حدود اللّه تعالى و فيها ردع عن العادات التي كانت متبعة عند نزول الآية الشريفة بشأن طلاق النساء و التزويج بهنّ .

ثم إنّ حذف الهمزة في كلمة هُزُواً أولى، لثقلها

و قد ورد في الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) «لو لا أنزل جبرئيل القرآن بالهمزة ما همزنا أهل البيت» أي ما نطقنا أهل البيت بالهمزة و قد وضع الأدباء بابا مستقلا لتخفيف الهمزة و جعلوا ذلك من المحسّنات و هو حسن ما لم يكن دليل على الخلاف.

ص: 44

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

المراد بالنعمة: نعمة الرحمة و الألفة و المودة التي بين الزوجين و ما شرع بالنسبة إلى الحياة الزوجية، أو نعمة الدّين، أو المعارف و الأحكام، أو مطلق النعم الإلهية التكوينية و التشريعية التي أعدت في سبيل كمال الإنسان و سعادته.

و في الآية الشريفة حث على العمل بالأحكام و تذكير لهم بالنعم التي لا بد لهم أن يؤدوا شكرها بالإيمان و العمل الصالح و الايتمار بأوامره جلت عظمته و الانتهاء عن نواهيه.

قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ .

مادة (حكم) تأتي بمعنى الإتقان و المنع عن التعدّي و هي ملازمة في الجملة للعقل النظري و العملي.

و قد اختلف العلماء في معناها:

فقيل: إنّها عبارة عن العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة الإنسانية و هي بهذا المعنى ترادف الفلسفة.

و قيل: إنّها عبارة عن صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني.

و قيل: إنّها الأسفار الأربعة النفسانية التي جعلها بعض الأكابر مفتتح كتابه القيم.

و قيل: إنّها العالم الأكبر،

كما نسب إلى عليّ (عليه السلام):

أ تزعم أنّك جرم صغير * و فيك انطوى العالم الأكبر إلى غير ذلك مما ورد في معناها، و يمكن إرجاع الجميع إلى معنى واحد.

و لكن المستفاد من الآيات الشريفة التي ذكر فيها هذا اللفظ أنّها معرفة

ص: 45

ظاهر الشريعة و باطنها و المعارف العالية من التوحيد و النبوة و الأخلاق الفاضلة، و معرفة المصالح و الحكم المبتنى عليها دين اللّه عزّ و جل فإنّ بها تصفو النفوس و تصل إلى الكمال المطلوب و تتصف بالأخلاق الفاضلة.

و بعبارة أخرى: هي معرفة الصراط المستقيم من جهة التكوين و التشريع كما جعله اللّه تعالى و العمل بما عرف.

و لها أهمية عظمى في كمال النفس بل هي الكمال بعينها، و قد اعتنى بها عزّ و جل اعتناء بليغا في القرآن الكريم و جعلها من الخير الكثير فقال تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة - 269]، و ذكرها في مقابل الكتاب في جملة كثيرة من الآيات منها المقام و يأتي في الموضع المناسب شرحها شرحا وافيا إن شاء اللّه تعالى.

و مادة (وعظ) من المواد الكثيرة الاستعمال في الكتاب الكريم و السنة المقدّسة، و نسب إلى الخليل أنّه التذكير بالخير و نحوه مما يرق له القلب.

و العظة و الموعظة اسمان.

و عن آخر أنّه زجر مقترن بتخويف، و تستعمل بالنسبة إلى اللّه تعالى و الأنبياء و غيرهم

و في الدعاء: «اللهم إنّي أعوذ بك أن تجعلني عظة لغيري» أي موعظة لغيري بأن يتعظ بي.

و المعنى: اذكروا نعم اللّه عليكم و ما أنزل من الأحكام و حدودها الظاهرية و الباطنية و المعارف الحقة التي لم ينزلها إلا للصلاح و السعادة و بيّنها بلسان الوعظ و الإرشاد بما هو خير لكم فلا تتوانوا في العمل بها و لا تعرضوا عنها، فإنّ الإعراض عنها إعراض عن الكمال الذي أعدّه اللّه لكم و السعادة التي أرادها منكم.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

في شرعه بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه لا سيما تلك الأحكام التي شرعها في النساء و ما يوجب التآلف و السكون بين الزوجين و ما بينه في أمر الطلاق.

ص: 46

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ .

بيان لعلة الحكم السابق أي: و ليكن عملكم و تقواكم عن توجه بأنّ اللّه عليم بكلّ شيء لا تخفى عليه أعمالكم و يجازيكم على ذلك فإنّ من علم بأنّ اللّه كذلك وجب عليه بحكم العقل أن يتقيه و يعمل بما أنزله، فيوافق بين ظاهره و باطنه و لا يخالف بينهما.

و هذه الآية الشريفة من الآيات التي تدل على لزوم مراقبة اللّه تعالى في العمل و حسن النية و الإخلاص له، و تطابق الظاهر مع الباطن.

و هذه الآية تفيد معنى زائدا على نفس العلم و هو أنّه تعالى حاضر مراقب و كذا جميع الآيات المباركة التي وقعت هذه الجملة فيها بعد الأمر بالتقوى، مع أنّ الرقيب من أسمائه الحسنى و هو يرجع إلى ما هو عين الذات لأنّه من شؤون علمه عزّ و جل بل لنا أن نقول إنّ مبدأ الخلق و مبدأ التشريع الذي هو المحاسب و المجازي لا بد أن يكون رقيبا بكلّ معنى الكلمة بعد فرض حضوره لدى الأشياء و حضورها عنده تعالى و الا لزم الخلف و هو باطل.

فالأسماء الحسنى المتفرعة عن علمه الأتمّ الأكمل و اللازمة للذات باللزوم العقلي كثيرة تجمعها لفظ «اللّه» الذي هو اسم للذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية و الإدراكية المنفي عنه جميع النقائص الواقعية و الإدراكية.

فتكون جميع الأسماء المباركة منطوية في هذا اللفظ الجليل المبارك انطواء الفرد في الكلّ . فالوحدة حاصلة في هذا المقام و في الواقع بالعين و الحقيقة و لا أقول بوحدة الصنف و النوع، و لا بوحدة الشعاع و الشمس، و لا بوحدة القطرة و البحر، لجلالة ذلك المقام الأقدس عن كلّ ذلك. و إن كان التشبيه يقرب من جهة و يبعد من جهات بل الوحدة الحقة الحقيقية التي هي إسقاط جميع الإضافات و انقهارها في القهارية المطلقة التي لا حد لها من كل جهة، و يشير إلى ذلك

ما نسب إلى عليّ بن الحسين (عليهما السلام) في دعائه: «إلهي كيف تخفى و أنت الظاهر أم كيف تغيب و أنت الرقيب الحاضر» و سيأتي شرح ذلك في المستقبل إن شاء اللّه تعالى.

ص: 47

232 - قوله تعالى: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ .

مادة (عضل) تأتي بمعنى الشدة و الضيق و الحبس و المنع، فهي بمنزلة الجنس لهذه الأنواع و تستعمل في الجميع، فتكون من متحد المعنى لوجود الجنس القريب بين جميع الأنواع و لا يعتبر في الجامع القريب أن يكون معلوما من جميع الجهات بل يكفي صحة الانطباق على الأنواع المستعمل فيها اللفظ عرفا، و ربما يكون هذا سببا في تعدد الموضوع له في جملة كثيرة مما حكم أهل اللغة بالتعدد فيها.

و كيف كان، فإنّ هذه المادة لم تستعمل في القرآن الكريم إلا في موردين كلاهما بالنسبة إلى النساء أحدهما المقام. و الثاني قوله تعالى: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء - 14]، و المعروف كما تقدم هو ما تعارف بين الناس و لم ينه عنه الشرع، و هو مما يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و العادات.

و المراد بالبلوغ: الانتهاء من العدة و الخروج منها، فإنّها ما دامت في العدة لم يكن لأحد عليها ولاية و سلطة إلا لبعولتهنّ فإنّهم أحق بردهنّ .

و الخطاب عام لكلّ من كان له علقة بزواج المرأة و يرجع فيه إليه سواء كان وليّا شرعيّا أم غيره فيشمل كلّ عاضل.

كما أنّ المراد من أزواجهنّ مطلق الأزواج الأعم من الزوج الأول قبل الطلاق و غيره باعتبار أنّ في المستقبل يكون زوجا إذا تحقق التراضي بين الزوجين بالمعروف.

و يمكن تعميم المعروف بما هو المتعارف شرعا، فيشمل جميع الشرائط الشرعية بالدلالة المطابقيّة.

و الآية تدل على نهي من بيده أمر الزوجة و يرجع في الزواج بها إليه عن منع المرأة من الزواج بأيّ رجل شاءت عدوانا و عنادا.

ص: 48

كما أنّها تردع عن عادة سيئة كانت في الجاهلية حيث يتحكم الرجال في تزويج النساء بمحض إرادتهم فقط و ربما يمنعن من التزويج بعد الطلاق لجاجا و عنادا و قد نهى سبحانه و تعالى عن هذه العادة.

قوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

التفات من خطاب الجمع إلى خطاب المفرد لأنّ الخطاب المشتمل على الأحكام موجه إلى الجميع ثم وجّه الخطاب إلى شخص الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لأنّه واسطة الفيض و المخاطب من غير واسطة و لكن غيره مخاطب بواسطته.

و المعنى: ذلك الذي تقدم من الأحكام و المواعظ يوعظ بها من كان مؤمنا باللّه و اليوم الآخر فإنّهم يتقبلون تلك الأحكام و يعملون بها طاعة للّه تعالى و رجاء لمثوبته، و هم الذين تنفعهم المواعظ و يقفون عند حدود اللّه و لا يتجاوزونها.

و التقييد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر لأجل أنّهما يدعوان إلى نبذ كل اختلاف و افتراق فإنّ دين اللّه هو دين التوحيد، و تشريف للمؤمنين و قد مرّ في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ [البقرة - 228]، ما يتعلق بالمقام فإنّ الموردين واحد.

قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ .

التفات من خطاب المفرد إلى خطاب الجمع لبيان كثرة الاهتمام بالمراد و تصريحا بالتعميم و إعلاما بالفضل العظيم.

و أصل الزكاة النمو الحاصل عن بركة اللّه تعالى و هذا اللفظ أعم من التنمية المعنوية و الجسمانية لأنّ العمل بالأحكام الإلهيّة كما ينمّي المعنويات كذلك يفعل بالجسمانيات.

و المشار إليه باسم الإشارة: الحكم السابق و هو النّهي عن العضل.

أي: أنّ هذا الحكم كغيره من أحكام اللّه تعالى يوجب نمو الكمالات الإنسانية

ص: 49

و العمل بها يوصل العبد إلى الكمال المطلق و يفاض عليه من المولى ما لا يمكن دركه بالحواس الظاهرة. و أنّها أطهر لنفوس المؤمنين من الرذائل و تحليتها بالفضائل و الكمالات. ففي المقام إنّ الحكم السابق و الارتداع عن منع الزوجة من نكاح الزوج إرجاع إلى الوصل بعد الفصل و يزيد كمالات النفس و تتربّى على الملكات الفاضلة كالحياء و العفة و تتحفظ عن الوقوع في الحرام.

فالآية المباركة تبيّن بعض الحكم و المصالح في هذه الأحكام، و هي ترشد الإنسان إلى أنّ المهمّ هو طهارة النّفس و العمل بالأحكام الشرعية من طرق تحصيلها، و قد اهتم الإسلام بتطهير الروح و النفس.

و المستفاد من مجموع الآيات الشريفة: أنّه الغاية المتوخاة من تشريع الأحكام الإلهية.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

أي: أنّكم لا تعلمون الأحكام و مصالحها و حكمها إلا ما يعلّمكم اللّه تعالى، و هذه قضية عقلية أثبتها محققوا الفلاسفة قديما و حديثا من أنّ العلم بالحقائق المستورة عن الحواس الظاهرية لا يحصل إلا لمن كان منزّها عن المادة و الماديات، و اللّه تبارك و تعالى فوق ما نتعقله من التنزه عنها، فيكون علمه بالحقائق تاما و لا بد أن يكون كذلك لأنّ علمه عين ذاته و ذاته لا تدرك فعلمه أيضا كذلك.

و أما عدم علم من سواه بشيء الا ما يعلّمه اللّه بواسطة أنبيائه فلفرض تعلق النفس بالمادة و هو مانع عن العلم بالحقائق و بقدر تجرد النفس عنها تنكشف لها الحقائق قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [البقرة - 282]، فما هو الدائر بين الناس لا يكون إلا من كشف الظواهر بالظواهر كما هو معلوم.

ص: 50

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يستفاد من تكرار المعروف في هذه الآيات و غيرها اعتبار العرف و حجيته عند الشارع إلا إذا ورد الرّدع عنه في مورد مخصوص، و قد ذكرنا أنّه يرجع إلى حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، فيشمل بناء العقلاء أيضا بل يظهر منها أنّ الأحكام الشرعية مبتنية على العرفيات ما لم يحدها الشارع بحد معيّن.

الثاني: أنّ إرجاع أولياء الأمور في النكاح و الطلاق إلى المعروف فيه كمال العناية بمراعاة ما تعارف عليه أهل كلّ واحد من الزوجين و إرشاد إلى حسن الاجتماع و التآلف، فإنّ النكاح و الطلاق من الأمور الاجتماعية فلا بد أن يرجع فيما يرتبط بهما إلى الاجتماع و العرف فلا يستبد أحدهما بأمر ينكره العرف و الاجتماع.

الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا أنّ من أضرّ بالغير يستلزم رجوع الضّرر عليه فيكون هو المتضرّر الوحيد بقرينة كلمة ضِراراً و يؤكد ذلك قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أنّ

ص: 51

الإعراض عما أنزله اللّه تعالى و عدم الايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه يكون ظلما على نفس المكلّف حيث حملها على الانحراف عن السعادة و الصراط المستقيم و ما أعده اللّه تعالى له من الكمال فهو بين اثنين القلق و الاضطراب و الذل في الدنيا، و التعرّض لسخط اللّه تعالى في العقبى، فلا تختص هذه الحكمة بالمقام بل تشمل جميع التكاليف الشرعية و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم.

الخامس: يدل قوله تعالى: وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اَللّهِ هُزُواً على وجوب احترام حدود اللّه تعالى و أحكامه. و حرمة التهاون بها و التواني في العمل بها و الإيراد عليها لأنّه يعدّ استهزاء بأحكامه المقدّسة التي شرعها لمصالح العباد.

ص: 52

الاخلاقي، و ذكرنا أنّها تعتبر التقوى هي الوسط في جميع الفضائل و هي المدينة الفاضلة التي وعد بها الأنبياء و المرسلون.

و التقوى: عبارة عن جعل النفس في وقاية مما يخاف و يحذر، فيتحد الفاعل و القابل ذاتا و يختلفان اعتبارا. و لها درجات لا تتناهى و في بعض الدّرجات يصل العبد إلى مرتبة تجلّي الحق تعالى في مشاعر العبد و قواه و ذلك التجلّي يبقى و يدوم و لا يفنى و إن تبدلت العوالم و تغيرت.

أ أمنع عن ذاك الحمى و هو موطني ؟! *** أ ابعد عن جيرانه و هم إلفي ؟!

و سيأتي في الموضع المناسب من الآيات المباركة بقية الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ بعد تشريع الأحكام و بيان الحدود الإلهية الاهتمام بالباطن و حسن النية و الاعتناء بتوافق الظاهر مع الباطن فإنّ حسن الظاهر إن لم يكن من حسن الباطن لا اعتبار به بل هو نفاق مذموم و اجتراء على اللّه تعالى و هدم للباطن، و الأحكام الإلهية و المعارف الربوبية إنّما نزلت لتكميل النفوس و تحسينها فإنّ الآية الشريفة ترشد إلى مراقبة النفس.

التاسع: ربما يقال إنّ قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ يدل على عدم صحة العقد إلا بإجازة الوليّ .

و لكنّه مردود فإنّ الخطاب لم يكن مختصّا بالأولياء فقط و النّهي إرشادي إلى ما يترتب من المصالح و المنافع فالآية أجنبية عمّا ذكروه بل إنّها ترشد إلى قاعدة السلطنة فقد أثبتت الولاية للمرأة في تزويج نفسها إذا تراضيا بالمعروف و نهي من له علقة بها أن يعضلها عن ذلك.

العاشر: يدل قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ على بعض مصالح تشريع الأحكام الإلهية فإنّها شرّعت لتطهير النفوس عن رذائل الأخلاق و تنمية الملكات الفاضلة.

الحادي عشر: يستفاد من هذه الآيات و ما في سياقها علم النفس

ص: 53

بالحقائق كما هي عليها في الواقع. و قد ذكر أكابر الفلاسفة أنّه من ثمرات تجرد النفس، و لكن ذكرنا أنّ ذلك لا كليّة فيه، و تقدم أنّ العلم بحقائق الموجودات مطلقا من الغيب الذي يختص به جلّ جلاله أو من يفاض عليه من عنده عزّ و جل بل إنّ إفاضة جميع العلوم لا بد أن تنتهي إليه، فيصح نفي العلم عن غيره عزّ و جل بقول مطلق و يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

الثاني عشر: قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ مشتمل على الحكم و علته و الأول عبارة عن الأمر بالتقوى التي هي إتيان الواجبات و ترك المحرّمات.

و الثاني: هو أنّ الحاكم بذلك عالم بكلّ شيء من الجزئيات و الكليات و يجازي على ذلك، و من كان هكذا وجب بحكم العقل أن يتّقى، فتقوى اللّه واجبة إما لذلك، أو لأنّ دفع الضرر الأخروي واجب عقلا.

و من هذه الآية الشريفة بقرينة غيرها من الآيات نستفيد قاعدة جليلة و هي: أنّ كلّ ما يصدر من الذات المقدسة التي لا تناهي في أيّ جهة من جهاتها بالنسبة إلى جميع مخلوقاته فضلا عن أجلّها لا يكون إلا عن علم و حكمة و خبرة و لطف و رحمة و بصيرة، و إحاطة بالجزئيات حدوثها و بقائها و فنائها و ما تصير إليه بعد الفناء و صورها و تبدلها، و أطوار الوجود و تغييراتها - فهو تعالى عليم حكيم خبير بصير لطيف رقيب يعلم جميع الموجودات من ذرة التراب إلى أشرف فرد من ذوي العقول و الألباب علما إحاطيا، قال تعالى:

أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ [الملك - 14]، و علمه بما سواه لا يقبل التغيير و التبديل لأنّه عين الذات و هو غير متناه أيضا فهو قبل الجعل و مع الجعل و بعده و مع التغيير و التبديل و ما يصير إليه كلّ ذلك في عرض واحد بالنسبة إلى علمه الفعلي و السبق و اللحوق و التقدم و التأخر إنّما هو في المعلوم بالعرض في سلسلة الزمان لا في العلم و لا في المعلوم بالذات. و لا تتصوّر الكلية و الجزئية في هذا النحو من العلم المختص به جلّت عظمته و إنّ إطلاقهما عليه باعتبار المعلوم بالعرض لا في مرتبة ذات العلم و لا المعلوم

ص: 54

بالذات بالنسبة إليه عزّ و جلّ . و ستأتي تتمة الكلام في علمه عزّ و جلّ إن شاء اللّه تعالى، و إن كان مثل هذا البحث عميقا جدا.

ما زلت أنزل من صفاتك منزلا *** تتحيّر الألباب عند نزوله

فتصير صرعى عند قرب حلوله فبأيّ وجه حام حول نزوله

ص: 55

بحث روائي

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا قال: الرجل يطلّق حتى إذا كاد أن يخلو أجلها راجعها، ثم طلّقها ثم راجعها يفعل ذلك ثلاث مرات فنهى اللّه عنه».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا قال (عليه السلام): «إذا طلّقها لم يجز له أن يرجعها إن لم يردها».

أقول: يدل على أنّ المراجعة لا أثر لها ما لم تكن عن إرادة جدية.

و في الفقيه عن الحسن بن زياد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثم يراجعها و ليس له فيها حاجة ثم يطلّقها، فهذا الضّرار الذي نهى اللّه عنه إلا أن يطلّق ثم يراجع و هو ينوي الإمساك».

أقول: هذا معنى الضّرار بأن يراجع تلاعبا بها من دون إرادة جدية للمراجعة كما مر.

و في تفسير العياشي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من قرأ القرآن من هذه الأمة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات اللّه هزوا».

أقول: تدل الرواية الشريفة على أنّ قراءة القرآن من دون العمل استهزاء و استخفاف بالقرآن و في سياقها روايات كثيرة أخرى منها

قول نبينا الأعظم (صلّى

ص: 56

اللّه عليه و آله): «ربّ تال القرآن و القرآن يلعنه».

و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ : «نزلت في معقل بن يسار قال: كنت زوجت أختا لي من رجل فطلّقها حتّى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له:

زوجتك و أفرشتك و أكرمتك فطلّقتها ثم جئت تخطبها لا و اللّه لا تعود إليها أبدا قال:

و كان رجلا لا بأس به و كانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل اللّه عزّ و جل هذه الآية فقلت الآن أفعل يا رسول اللّه فزوجتها إياه».

أقول: قريب من ذلك في البخاري و السنن الكبرى للبيهقي.

و في الدر المنثور و أسباب النزول عن السدي قال: «نزلت في جابر بن عبد اللّه الأنصاري كانت له بنت عم فطلّقها زوجها تطليقة فانقضت عدتها ثم رجع يريد رجعتها فأبى جابر و قال: طلّقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها [الثانية]؟! و كانت المرأة تريد زوجها فقد رضيت به فنزلت الآية».

أقول: لا بأس بتعدد منشإ النزول، و إنّ الآية الشريفة في مقام بيان الكبرى الكلية - تعدد منشأ نزولها أولا - و هذه الروايات لا تدل على ثبوت الولاية لمن ذكر فيها بوجه و ذكرنا في تفسير الآية أنّها أجنبية عن الولاية المدّعاة في المقام و إنّما تدل على الترغيب إلى الايتلاف بينهما بأي وجه أمكن شرعا.

ص: 57

سورة البقرة الآية 233

وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُ.......

اشارة

وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) الآية الشريفة تقرر أمرا من الأمور التكوينية الاجتماعية بأسلوب بليغ مشعر بالعطف و الحنان و الألفة، و هو تنشئة الأولاد بالرضاع و الحضانة و التربية، فأمر تعالى الوالدين بالقيام بشؤون الأولاد و العناية بهم، كما أمر الوالدات بارضاعهم مع التراضي و التوافق بينهما كل ذلك مع لحاظ المعاشرة بالمعروف التي أمرنا بها في الآيات السابقة فإنّ هذه الحياة متقومة بهما فلا بد من التعاون بينهما لانقاذها من المشكلات و الصعاب و جلب السعادة لهما و صلاح الأولاد الناشئين في حضانتهما.

ثم أمر بالتقوى لأنّها الغاية من كل تكليف و ارشاد و لا تحصل الا بمراقبة النفس و ما ورد في هذه الآية الشريفة يعترف به العقل السليم و الطبع المستقيم الذي نزل به الوحي المبين على قلب سيد المرسلين.

ص: 58

التفسير

233 - قوله تعالى: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ .

مادة (رضع) تأتي بمعنى شرب اللّبن من الثّدي. و الرضاع من صفات الأنثى كالحائض، و الحامل، فإذا أريد الصفة يقال مرضع و إذا أريد الفعل يقال مرضعة قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ [الحج - 2]، و قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ [القصص - 12].

و مادة (حول) تأتي بمعنى التغير و التبدل و الانفصال، و بهذا الاعتبار يقال: حال فلان بيني و بينك. قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال - 24]، و قال تعالى: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ - 54]، و قال تعالى: وَ حالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فَكانَ مِنَ اَلْمُغْرَقِينَ [هود - 43].

و التغير و التبدل إما بالذات، أو بالصفات، أو بالإضافات، و يمكن أن يجتمع في الزمان جميع ذلك، لأنّه متغيّر بالذات، و كذا بالصفات و الإضافات.

و المراد بالحولين الكاملين: أربعة و عشرون شهرا، فلا يكفي الحول و بعض الحول لما ورد في الآية المباركة من التحديد و التوصيف.

و الآية إخبار عن سنّة من سنن الطبيعة الجارية في النظام الأحسن حفظا للنوع، لأنّ شفقة الأم على الولد و اهتمامها بحفظه من حين الولادة إلى أن

ص: 59

يستقل الولد، و عطفها عليه بحيث لا تدخر عنه شيئا، و تبذل النفس و النفيس له و تقاسي في سبيله، فقرّر سبحانه و تعالى هذا القانون الطبيعي التكويني في التشريع السّماوي.

و يستفاد من هذا الخطاب الحنان و الرأفة و كمال العناية بتربية الأولاد فقدم تعالى الوالدات، لكثرة علاقتهنّ و عنايتهنّ بالأولاد.

و ذكر سبحانه و تعالى الولد حتّى يشمل الذكر و الأنثى من دون فرق بينهم خلاف ما كان شايعا في عصر نزول الآية الشريفة ثم جعل الوالدة في كفالة الوالد.

و يختص الحكم في الآية المباركة بالوالد و الوالدة و الولد و إنّما عدل سبحانه عن الأمهات إلى الوالدات، لأنّ الأخيرة تشعر بالعناية الشديدة و تشتمل على الحكمة أيضا فإنّ الولد يولد من الوالدة و يكون بمنزلة الثمرة لها.

قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ .

يستفاد منه أنّ التحديد المذكور غالبي فإن اقتضت المصلحة عدم البلوغ إلى آخر المدة كان لهما ذلك، فإنّ الأمر موكول إلى الوالدين بلا فرق في ذلك بين الوالدة المطلّقة و غير المطلّقة، و لكن يستفاد من الآية المباركة أنّ الرضاعة من حق الوالدة، و لا يمكن أن يستبد الوالد بالأمر من دون موافقتها، و يدل عليه ذيل الآية الشريفة.

و إنّما عدل سبحانه و تعالى من خطاب الإناث إلى خطاب الذكور لأجل أنّ الحضانة و الرضاعة لا تتمان إلا بموافقة الوالد و تقريره، لأنّه الركن الأساسي في المجتمع الزوجي.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

أي: كلاهما مسئولان تجاه هذا الرضيع، و إنّما عدل سبحانه من الوالد إلى المولود له لاشتمال الأخير على الحكمة أيضا، فإنّ الولد ملحق بالوالد و بعض منه، فعليه كفالته و القيام بمصالحة و منها النفقة على الوالدة و كسوتهنّ

ص: 60

لقيامهنّ بحفظ الولد و رعايته و قد تحملن مشقة الحمل و الرضاع فلا بد من رعايتهنّ و الإنفاق عليهنّ و كسوتهنّ بحسب المعروف و اللائق بحال الوالدين، و المتعارف يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الغنى و الفقر و العادة.

و هذه الآية شارحة لقوله تعالى: وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و إنّما الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل.

قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها .

تأكيد لما سبق من الأحكام أي: لا تكلّف نفس إلا ما تتسع قدرتها و تقدر على تحمله، و قد شرح سبحانه ذلك في آية أخرى، قال تعالى:

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اَللّهُ لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اَللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق - 7]، و هذا التعليل عام يشمل جميع التكاليف الإلهية قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [البقرة - 185]، فالتكاليف الإلهيّة بأقسامها إنّما تتنجز في حدود طاقة الإنسان و لا تتجاوزها، و في سياق ذلك جملة من الآيات المباركة و الأخبار المتواترة

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في كلمته المباركة:

«بعثت بالشريعة السهلة السمحاء».

قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ .

تفريع على الحكم السابق. و الضرر مقابل النفع، و المضارة الضّرار من الجانبين. و الكلمة مجزومة ب لا، الناهية، و حركت آخر الكلمة بالفتحة لمشاكلتها للحرف الذي قبلها و ذلك لرفع التقاء الساكنين.

و قرئ بالرفع و لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى، و هو النّهي الإلزامي.

و المعنى: إنّه يحرم إضرار كلّ واحد من الزوجين الآخر في ولده فلا يستغل الوالد عواطف الأم و حنانها على ولدها الرضيع بإضرارها في منعها عن إرضاع الولد مع قدرتها و مكنتها أو حرمانها من الحضانة أو رؤيته، أو التضييق عليها برضاعه بلا مقابل أو الامتناع عن إعطائها الولد و سائر أنحاء المضارة. كما

ص: 61

لا تستغل هي عطف الوالد بإضراره في منعه عن الاستمتاع بها أو طلب النفقة منه فوق وسعه أو تمنع الوالد من المعاشرة مع ولده و نحو ذلك، و مع الاختلاف لا بد من التراضي و الرجوع إلى العشرة بالمعروف.

و إنّما وضع سبحانه الظاهر موضع الضمير فقال تعالى: وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ لبيان أنّ الولد لهما و متكوّن منهما معا فلا بد من مراعاة الجانبين له فإنّه كما يحتاج إلى الرضاع و الحضانة يحتاج إلى التربية و الرعاية من الوالد و الإنفاق عليه و هذا أمر تكويني قرّر في ظاهر الشرع أيضا.

أو لأجل بيان أنّ الولادة تضاف إلى الجانبين فيقال ولد الأب و ولد الأم فهما في النسبة سواء، فلا بد من ملاحظة كلّ منهما الولد و الاهتمام به.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ .

المراد بالوارث: ورثة كلّ واحد من الأب و الأم لو مات أحدهما تنتقل المسؤولية و التكفل إلى وارثه فلا يضار الوارث الطرف الآخر، فإذا ماتت الأم لا يضار وارث الأم الوالد بسبب الولد و لو مات الوالد فوارثه هو المكلّف في البذل على الأم بالمعروف و الحسنى حتى لا يضيع شأن الطفل و تنهار مصلحته، ففي الجميع لا بد من الإصلاح و المعاشرة بالمعروف، فإنّ فيه النجاة و الفلاح، و قد وردت روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) تدل على ما ذكرنا. و قيل في تفسير الآية الشريفة وجوه أخرى مذكورة في كتب الفقه.

قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما .

الفصال: هنا: بمعنى فصل الصّبيّ عن الرضاع أي الفطام، و الفطيم أي المفطوم يقع على الذكر و الأنثى فلهذا لم تلحقه الهاء.

و التشاور: استخراج الرأي بمراجعة البعض مع البعض و منه المشورة و الشورى و مثله المفاوضة في الكلام لظهور الحق، و قد حبذ الإسلام التشاور

ص: 62

و الاجتماع على المشورة، و يأتي في قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ [آل عمران - 159]، ما يتعلّق بالمشورة.

و المعنى: إذا أراد الوالد و المرضعة أو الوارث و الوالدة أن يفطما الرضيع عن الرضاع قبل استيفاء الحولين عن مراضاة بينهما و تشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته و عدم الإضرار به فلا بأس في ذلك لأنّ الحقّ لا يعدوهما و إنّ الحد المذكور للرضاع ليس من الواجبات التي لا تقبل التغيير و التبديل.

و التحديد إنّما كان لمصلحة الولد فإذا كانت تقتضي الفطام قبل ذلك أو كانت المصلحة تقتضي أن يكون الفصل و الفطام بعد الحولين فلا بأس بذلك إذا تراضيا عليه و كان صلاح الطفل في ذلك.

و إنّما قيّد سبحانه الحكم بالتشاور بعد التراضي لبيان أنّه لا بد من مراعاة صلاح الولد الواجب عليهما حمايته و رعايته لا مجرّد تراضيهما مراعاة لرغبتهما و أهوائهما، و يستفاد منه الترغيب إلى المشورة أيضا في الأمور و نبذ الاستبداد فيها.

قوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ .

تفريع على الحكم السابق من أنّ الحق لهما فإذا أراد الوالد أن يسترضع لولده من ترضعه فلا بأس به إذا سلّم لها الأجرة تسليما بالمعروف بحيث لا تكون الإجارة مزاحمة لحق الوالدة، و لا أن تكون الأجرة مجحفة، و بها يكون الضمان لتربية الطفل و رعايته أشد إن كان إرضاع غير الأم في مصلحة الولد أو غير ذلك مما يجب أن يكون معروفا غير مزاحم لحق أحد من الأطراف.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

أمر بالتقوى بعد تشريع تلك الأحكام و ربط العمل بها بالتقوى لبيان أنّ المهم هو الإخلاص في النية و توافق الظاهر مع الباطن لأنّه العالم بما تعملون، و قد تقدم تفسير ذلك.

ص: 63

و البصير من الأسماء الحسنى و يرجع إلى علمه أي لا يخفى عليه المبصرات، و يستفاد منه الحضور العلمي في الجزئيات فضلا عن الكليات.

و قد ذكرنا أيضا أنّ جملة وَ اِعْلَمُوا أدعى للعمل لأنّه حينئذ يشتد قبح التقصير مع العلم، و سيأتي في البحث الدلالي ما يرتبط بتكرار هذا التعبير في الآية المباركة المتقدمة مع الاختلاف في الصفة.

ص: 64

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ يرشد - كما ذكرنا - إلى أمر طبيعي، و هو رضاع الأم ولدها نظرا إلى شفقة الأم و لطفها و حنانها، و احتياج الطفل إلى عناية تامة قد لا تتوفر في غير الأم، و أما الوجوب فلا يمكن استفادته من الجملة الخبرية فإنّها إنّما تدل على الوجوب إذا كانت في مقام الإنشاء و لم تكن قرينة على الخلاف، و هي موجودة في المقام، كما عرفت.

الثاني: أنّ الآية الشريفة ترشد إلى أهمية لبن الأم و أولويته بالنسبة إلى غيره و ترغّب الأم في إرضاع ولدها لما فيه من الأثر الكبير في جسم الطفل و أخلاقه و صحته و نشأته بل و جميع صفاته النفسية و العقلية و أثبتت التجارب العصرية و العلوم الصحية و النفسية أنّ رضاع الام في فترة الحولين ضروري لنمو الطفل نموّا سليما، و لا يقوم مقامه غيره فهو الغذاء الذي لا يقابله غيره له، و هذه قرينة أخرى على عدم دلالة الجملة على الوجوب، فيجوز لغير الأم إرضاع الولد إن كان في إرضاع الأم موانع خلقية أو خلقية أو لجهات أخرى.

الثالث: يدل قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ على أنّ المعتبر هو أربعة و عشرون شهرا فلا يصدق الحولان على الحول الواحد و بعض من الحول

ص: 65

الثاني، و يمكن حمله على التأكيد فإنّ الطفل في هذه المدة أحوج منه في غيرها إلى العناية و الرعاية و قد ذكر علماء الطب و التربية أنّ الغذاء في هذه المدّة يعين مصير الطفل من حيث صحته و سقمه و صفاته النفسية و الخلقية، و قد كشف القرآن بهذه الكلمة الوجيزة عن كلّ ما وصل العلم إليه بعد جهدهم الأكيد في قرون، فعلى المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم فإنّه تعرض إلى كلّ ما يرشدهم إلى الهداية و الصلاح و السعادة في الدنيا و الآخرة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ أنّ المدة المذكورة إنّما هي لمصلحة الطفل فإذا اقتضت أن تكون الرضاعة أقل منها فلا بأس به و أوكل ذلك إلى اجتهاد الوالدين، و لهذا عدل عن خطاب الأم إلى خطاب الذكور لبيان أنّها لا بد من الرجوع إلى الوالد في تقرير مصير الطفل في أمر الرضاع و الفطام، و هذا مما يؤكده قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالاً في ذيل الآية الشريفة.

الخامس: ذكر بعض المفسرين أنّ قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ يدل على أنّ الوالدات إنّما ولدن للآباء فقط، و لذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، و استشهد بقول القائل:

و إنّما أمهات الناس أوعية *** مستودعات و للآباء أبناء

و المناقشة في ما ذكره واضحة، فإنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الولد لوالديه فهو بمنزلة الثمرة لهما، و إنّما يرجع فيه إلى الاعتبارات، و ما عليه المجتمع الإنساني، و هو يختلف باختلاف الأمم، كما هو واضح.

و إنّما عبّر سبحانه بالمولود له لبيان الحكمة في الحكم و إثارة العاطفة و الحنان فيه، فما ذكره المستدل مخالف لصريح الآية الشريفة و إنّما هو عادة جاهلية قد أبطلها الإسلام.

السادس: يدل قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ على أنّ إضرار كلّ واحد من الوالدين بالآخر موجب للإضرار بالولد، و يؤثر ذلك في تربيته و نشأته و صحته و نفسيته. و النهي عام يشمل جميع أقسام الإضرار.

ص: 66

السابع: إطلاق قوله سبحانه و تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يشمل جميع الورثة فإنّه يحرّم الإضرار مطلقا من أيّ شخص كان وارث الوالد أو وارث الوالدة أو وارث الولد و إن كان المنصرف من الآية المباركة وارث الوالدين.

الثامن: إنّما عبّر سبحانه و تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لأنّه ورد في المقام أحكام كثيرة مرتبطة بالوالد و الوالدة و الولد و لذلك عقبها بعلمه الإحاطي بالجزئيات و علمه يستلزم حكمه بما هو الصّلاح.

و أما الآية السابقة فقد ورد فيها: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ و هي تشتمل على مصالح العباد و سبل هدايتهم و سعادتهم فعقبها بقوله تعالى:

وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ليشعروا بأهمية الإنعام و غزارة الفيض.

ص: 67

بحث روائي

في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ قال (عليه السلام): «ما دام الولد في الرّضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالأب أحقّ به من الأم فإذا مات الأب فالأم أحق به من العصبة و إن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم، و قالت الأم: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإنّ له أن ينزعه منها إلا أنّ ذلك أخير له و أقدم و أرفق به أن يترك مع أمه».

أقول: يستفاد من هذه الرواية أفضلية لبن الأم من لبن غيرها.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «لا تجبر الحرة على إرضاع الولد و تجبر أم الولد».

أقول: أما عدم إجبار الحرة فلعدم ثبوت حق له عليها في هذه الجهة، و الآية الشريفة إنّما تبيّن حكم المرأة لا حكم الرجل. نعم، لو اقتضت المصلحة الوجوب تجبر على الإرضاع بإذن الحاكم لأنّه حينئذ من موارد الأمر بالمعروف.

و أما إجبار المملوكة فلفرض كونها و لبنها ملكا للوالد.

في الكافي أيضا عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قال (عليه السلام): «كانت امرأة منا ترفع يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها تقول: لا أدعك أنا أخاف أن أحمل على ولدي، و يقول الرجل لا أجامعك إنّي أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي فنهى اللّه عزّ

ص: 68

و جل أن تضارّ المرأة الرجل و أن يضارّ الرجل المرأة».

أقول: هذا بيان بعض مصاديق الإضرار و الآية المباركة عامة لجميع أنحاء الإضرار.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قال الصادق (عليه السلام): «الجماع».

أقول: تقدم ما يتعلق به لو كان مضرّا.

و فيه أيضا عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قال (عليه السلام): «هو في النفقة على الوارث مثل ما على الوالد».

أقول: الآية الشريفة عامة، و ما ورد في هذه الرواية بيان بعض المصاديق.

و في تفسير العياشي أيضا في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عن الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي للوارث أن يضارّ المرأة فيقول: لا أدع ولدها يأتيها و يضارّ ولدها إن كان لهم عنده شيء فلا ينبغي له أن يقتر عليه».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.

في الكافي في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ، عن الصادق (عليه السلام): «نهى أن يضارّ بالصبيّ أو يضارّ أمه في رضاعه و ليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين فإن أرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور قبل ذلك كان حسنا و الفصال: هو الفطام».

أقول: هذا بيان لبعض المصاديق و الآية المباركة عامة شاملة للجميع.

في الدر المنثور عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا يتم بعد حلم، و لا رضاع بعد فطام، و لا صمت يوم إلى الليل، و لا وصال في الصيام، و لا نذر في معصية، و لا نفقة في معصية، و لا يمين في قطيعة رحم، و لا تعرّب بعد الهجرة، و لا هجرة بعد الفتح، و لا

ص: 69

يمين لزوجة مع زوج، و لا يمين لولد مع والد، و لا يمين لمملوك مع سيده، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك».

أقول: المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): لا رضاع بعد فصال أي:

بعد فطام، و هو بعد الحولين، كما يدل عليه

ما رواه حماد في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا رضاع بعد فطام قلت له: جعلت فداك و ما الفطام ؟ قال (عليه السلام): الحولان اللذان قال اللّه عزّ و جلّ ».

أقول: هذا بحسب الحكم الأولي، و أما العناوين الثانوية فقد توجب الرضاع و لو كان بعد الفطام.

ص: 70

سورة البقرة الآية 234-235

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُ.......

اشارة

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى جملة من أحكام الطلاق و ما يتبعه كالعدة بيّن هنا حكم المتوفى عنها زوجها و عدتها و بعض ما يتعلّق بها حين العدة مثل خطبتها في أثنائها أو بعدها و أنّ مدّة عدتها أربعة أشهر و عشرا و بذلك يرفع توهم اتحاد عدّة الوفاة و الطلاق.

و يضع حدّا لما كان عليه أهل الجاهلية في المتوفّى عنها زوجها التي كانت تلقى العنت و المشقة الكثيرة.

و هو حكم اجتماعي أدبيّ يحفظ به نظام الأسرة بعد فقد قيّمها و اهتماما بحقوق الزوجية بأسلوب رفيع يخفف لوعة المصاب.

ثم بيّن سبحانه و تعالى كيفية المعاشرة و التحدث مع المعتدّة بعدة الوفاة و اعتبر أن يكون الكلام معها بالتعريض مشتملا على المعروف و الحشمة.

ص: 71

التفسير

234 - قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً .

مادة (و في) تأتي بمعنى التمام و الإتمام في جميع استعمالاتها الكثيرة في القرآن الكريم، و الوفاة هي تمام مدة الحياة قال تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الآية - 42]، أي يتم قضاؤه عليها في الحياة أو الموت و قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفّى [النجم - 37]، أي أتم عهد اللّه عليه بالكمال، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة - 1]، أي أتموها، و قال تعالى: وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ [الأنعام - 152]، أي أتمّوهما و لا تنقصوا منهما شيئا.

و قد استعملت في القرآن بهيئات مختلفة متفاوتة

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ليلة المعراج: «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت» أي تمّت و طالت.

و يذرون أي: يتركون و الفعل مضارع ليس له ماض من لفظه و إنّ ماضيه ترك - بالفتحات الثلاث -. و تقدم في قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة - 228]، ما يتعلّق بهذه العبارة الفصيحة.

و المعنى: و الذين يتمّون مدة حياتهم و يموتون و يتركون زوجات يجب

ص: 72

عليهنّ الانتظار و حبس أنفسهنّ من الازدواج و الزينة و غيرهما مدة أربعة أشهر و عشرا، و المراد بالعشر الأيام مع لياليها، و حذفت لدلالة السياق عليه، لأنّ المراد اتصال هذا المقدار من الزمان، كما في أصل العدة مطلقا.

قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ .

أي: إذا أتممن عدّتهنّ فلهنّ الاختيار و لا سبيل لأحد عليهنّ ، فلا إثم عليهنّ في أن يخترن الأزواج و يفعلن ما وجب عليهنّ تركه في أثناء العدة، فيجوز لهنّ استعمال الزينة بما هو المتعارف بالنسبة إليهنّ و لا يستنكر من أمثالهنّ و كذا التعرض للخطبة، و الخروج من البيوت فإنّ جميع ذلك جائز لهنّ بالمعروف و الاستقامة و العفة.

و في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إبطال للعادات السيئة التي كانت المتوفى عنها زوجها تعانيها من أهلها و قرابة الزوج بل من المجتمع الجاهلي، كما أنّ فيه إشعارا بإلزام الأقارب بعدم التدخل في شؤون الزوجات.

و الحداد: عبارة عن إظهار الحزن على فقد عزيز بعلامات خاصة و هو من الأمور الاجتماعية التي لا تخلو عنه أمة من الأمم و التي تتفاوت في هذه العادة فبعض الأمم تشرك الذكور و الإناث فيها في حين أنّ امة أخرى تخص هذه العادات بالإناث، كما أنّ مدّة الحداد لم تكن متساوية لدى الجميع، و قد اختلطت بكثير من الأوهام و الخرافات حتّى أنّ بعض الأمم كانت تقضي بإحراق الزوجة الحية، أو دفنها مع الزوج و هي حية، أو الاغتراب من بلد الزوج، أو عدم تزويجها إلى آخر العمر، أو سنة واحدة، أو تسعة أشهر، أو من دون مدة معينة، و هذه العادات و إن كانت قاسية في بعض الحالات و يشمئز منها الضمير الإنساني إلا أنّ أصل الحداد في الجملة أمر يقبله الطبع لأنّه يرجع إلى حفظ حقوق الزوجية و احترام مشاعر أسرة البيت و رعاية الحب الذي كان متبادلا بين الزوجين.

فهو معنى قائم بالطرفين إلا أنّه آكد في الزوجة و ألزم، فالحداد من تلك

ص: 73

الأمور الاجتماعية التي يجتمع فيه الجانب الأخلاقي و الأدبي، و يحفظ فيه حق الحاضر و المتوفّى لكن بشرط خلوه عن العادات السيئة و الأوهام و الخرافات و لا يتحقق ذلك إلا بالرجوع إلى الوحي السماوي و الشرايع الإلهية.

و قد قبله الإسلام و عيّن له مدة محدودة و هي أربعة أشهر و عشرا و ألزم المرأة ترك الزواج و الزينة، و الخروج عن المنزل فيها إلا في موارد يدعو الإلزام و الضرورة إليها.

و لعلّ الحكمة في اعتبار هذه المدة المعينة ظاهرة فإنّ ثلاثة أشهر منها العدة الغالبية التي تجب في كلّ فراق سواء كان اختياريا - كالطلاق - أو قهريّا كالموت و الأربعون الاخرى هي مدة الحداد على الميت و احترامه كما هو المعتاد في كلّ ميت، و قد تقدم في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة - 226]، بعض الكلام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .

أي: و اللّه عليم بالأعمال رقيب عليها، و هو مطلع عليكم اطلاع ذي الخبرة بالنسبة إلى ما يكون خبيرا فيه إلا أنّه خبير بما يؤدي إليه الظاهر، و اللّه جل شأنه خبير بالباطن و الحقيقة و السرائر.

و قد ختمت الآية المباركة بهذا الخطاب اهتماما بالموضوع لأنّ الغريزة الجنسية داعية لكل فساد إلا إذا أمسك زمامها بما يرتضيه الرحمن فإنّه الخبير بالحقائق و الأعمال و عالم بالمصالح فيحكم وفق المصلحة فيجب إطاعته و يحرم مخالفته.

235 - قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ .

مادة (جنح) تأتي بمعنى الإثم المائل عن الحق، و استعير لفظ الجناح لكلّ إثم و معنى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ : لا إثم عليكم و قد استعمل هذا اللفظ

ص: 74

في مواضع كثيرة من القرآن الكريم تقدم بعضها و يأتي الآخر منها.

و (التعريض): قسم من الكناية التي هي أبلغ من التصريح و لكنّه خلافها فالكلام إما ظاهر في المعنى المقصود، أو صريح فيه، أو تعريض به، و الجميع معتبر في المحاورات العرفية و يترتب الأثر عند المتعارف فقول: إنّي أريد أن أنكحك، صريح في المطلوب. و قول: إنّي أريد معاشرتك - مثلا - ظاهر فيه. و قول: كم راغب فيك تعريض، ففي التعريض يكون المعنى المقصود غير ما عرّض به كالمثال الأخير، و في الكناية لا يقصد من اللفظ غير المكنى عنه.

و الخطبة - بكسر الخاء - من الخطب و المخاطبة. و التخاطب بمعنى المراجعة في الكلام، و تستعمل في طلب المرأة للنكاح من هذه الجهة و يصح استعمالها في الحالة الخاصة الكلامية مطلقا، و الفارق القرائن الخاصة، فيقال: خطب الخطيب على المنبر كما يقال خطب المرأة بمهر كذا إلا أنّ في الخطبة - بالضم - يأتي الخطيب و في الخطبة - بالكسر - يأتي الخاطب.

و الإكنان من الكن - بالكسر - و هو ما يحفظ به الشيء، قال تعالى:

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات - 49]، و قال تعالى: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور - 24]، و ما يستر في النفس يسمّى كنّا أيضا، قال تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ [النحل - 74].

و المعنى: لا إثم على الرجل في التعريض بخطبة المرأة المتوفّى عنها زوجها أي: بالإشارة التي تفيد المرأة أنّ الرجل يريدها زوجة له أو يخفي في نفسه الرغبة في الزّواج بها و لا يظهرها إلا بعد انتهاء العدة.

و ظاهر الآية الشريفة و إن كان يشمل جميع المعتدات لكن سياقها يدل على اختصاصها بعدة الوفاة.

قوله تعالى: عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ .

بيان للسبب في الحكم السابق أي: أنّ ذكركم لهنّ أمر غريزي قهري

ص: 75

و اللّه تعالى أصلح هذا الأمر الفطري بما هو صلاح لكم فإنّ الشرايع الإلهية تراعي الميول الفطرية و لا تحطمها و إنّما تضبطها و تهذبها حتى تستقيم معها الحياة السعيدة الصالحة للبشرية، فرخص لكم التعريض بهنّ و إخفاء الرغبة في نكاحهنّ دون ذكرهنّ باللسان حفظا للآداب و صونا لجرح المشاعر لأنّ الدين دين الفطرة.

قوله تعالى: وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا .

السر معروف و هو مقابل الإعلان أو الجهر قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ [النحل - 23]، و إنّه من صفات ذات الإضافة و له مراتب كثيرة حتّى إنّه يمكن أن يكون شيء واحد سرّا من جهة و جهرا من جهة أخرى.

و هو عام يشمل الجماع و الزواج، و قيل: إنّ المراد به الجماع و استشهد بقول امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني *** كبرت و أن لا يشهد السر أمثالي

و قول الأعشى:

و لا تقربن جارة إنّ سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا

و لكن تقدم مرارا أنّ غالب هذه الإطلاقات، بل جميعها من باب اشتباه المصداق بالمفهوم و ليس من متكثر المعنى في شيء.

و المعنى: لا تواعدوهنّ على الزواج أو الرّفث و ما يرجع إليهما وعدا صريحا في السّر، فإنّ ذلك خلاف الحشمة، و مظنة للفتنة بخلاف التعريض بالخطبة فإنّه لا بأس به.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً .

أي: إلاّ أن يكون ما وعدتموهنّ في السّر موافقا للمعروف و الحياء و الحشمة و الأدب بحيث لو كان ذلك في العلن لما كان فيه عيب و لا يستحيى منه.

ص: 76

و الآية المباركة بمجموعها تدل على كيفية المعاشرة مع المرأة المعتدة بعدة الوفاة و التحدث معها في أمر الزواج فاعتبر الشارع أن يكون التحدث معها موافقا مع الحشمة و الحياء و لا ينافي الآداب العامة و يخدشها، فرخص التعريض و كريم الخطاب، فإنّ المرأة في هذه الحالة لم تكن مسلوبة الحقوق و الأحكام سوى أنّها تعمل ببعض الواجبات احتراما للزوج المتوفّى.

و في الآية الشريفة رد لعادات كانت سائدة في عصر النزول من منع التحدث معهنّ و اعتباره من الأمور المستهجنة جدّا لا سيّما إذا كان في أمر الزواج. و من المؤسف جدّا أنّ بعض تلك العادات السيئة الجاهلية متبعة عند بعض المجتمعات الإسلامية، و لا بد من الرجوع إلى تعاليم الإسلام فإنّ فيها الهداية و السعادة.

و هذه الآية و ما بعدها قرينة على أنّ موردها هو المعتدات بعدة الوفاة لا مطلق العدة فتكون اللام في قوله تعالى: مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ للعهد دون جنس العدة، كما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ .

العزم و العزيمة بمعنى عقد القلب على إمضاء الشيء و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ [آل عمران - 159]، و قال تعالى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ [لقمان - 17]، و قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [الأحقاف - 35]، أي الذين لهم قدم ثابت و راسخ في هذا المقام الذي تزل فيه الأقدام حتّى من الأنبياء العظام.

و في السنة المقدسة: «خير الأمور عوازمها» أي ما وكدت نفسك عليه في مرضاة اللّه تعالى.

و العقدة من العقد بمعنى الشدّ و هما و العهد بمعنى واحد، و في الآية استعارة بليغة حيث شبه عقد النّكاح بالعقدة التي يعقد بها أحد الحبلين بالآخر، و جعلها أمرا قلبيا لبيان أنّ هذه الأمور من الاعتبارات العقلائية التي يقوم عليها نظام المجتمع.

ص: 77

و المعنى: لا توقعوا عقد النكاح بالإرادة الجدية بحيث يترتب عليه الأثر حتى تنقضي مدّة العدة، فمن أوجد العقد عليها في العدة مع العلم بها يكون العقد باطلا و تحرم عليه المرأة أبدا كما فصل في السنة المقدسة.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ .

ربط بين ما شرعه سبحانه و تعالى و الخشية منه لأنّه العالم بالسرائر و تأكيد بليغ لسوق الناس إلى إتيان أوامره جلّت عظمته و التحذير عن مخالفته.

و إنّما ذكر تعالى: وَ اِعْلَمُوا لأنّه آكد في الترغيب و التحذير و يستفاد من قوله تعالى: يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ إحاطته الفعلية بضمائر القلوب و سرائرها، و لبيان أنّ مخالفته تعالى فيما ذكر في الآية الشريفة و ارتكابه من المهلكات، و لكن باب التوبة في جميع الخطايا مفتوح و لذا عقبه ب:

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ .

ترغيب في التوبة و الرجوع إليه تعالى و أنّه لا يعجّل بالعقوبة.

و «حليم» من أسماء اللّه الحسنى و جميع أسمائه المقدّسة حسنى و التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيا.

و هو بمعنى عدم العجلة في عقوبة العصاة. كما أنّ «صابر» من أسمائه الحسنى يرجع إليه أيضا، و قد علّل ذلك في بعض الآثار «و إنّما يعجل من يخاف الفوت، و إنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف و قد تعاليت عن ذلك علوّا كبيرا». و هذا مطابق للأدلة العقلية فإنّ قهاريته على جميع ما سواه، و حكمته المتعالية على الإطلاق كيف يعقل فيهما العجلة، فيصح أن يجعل الحليم من شؤون حكمته تعالى فيرجع معناه إلى الحكيم بتوسعة في معناه في الجملة، فيكون الإمهال و ترك التعجيل على الأخذ بالمعاصي من شؤون العلم و الحكمة علما إحاطيا مطلقا بما مضى و ما يأتي، و حكمته بالغة يراعى فيها كليات الأمور و جزئياتها.

ثم إنّ الغفور من الأسماء الحسنى الذي لم يرد في القرآن الكريم إلا مقرونا باسم آخر كالرّحيم و الحليم و نحو ذلك، كما مرّ في آية (226) ما يرتبط بالمقام.

ص: 78

بحث أدبي

الفاعل للوفاة في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ هو اللّه تعالى أي: و الذين يأخذهم اللّه تعالى وافين و يستوفون مدة حياتهم.

وَ اَلَّذِينَ مرفوع بالابتداء و جملة: يَتَرَبَّصْنَ خبره و جملة: يُتَوَفَّوْنَ صلة و جملة: يَذَرُونَ عطف عليها.

ثم إنّه إذا جعلنا المبتدأ قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ و الخبر جملة:

يَتَرَبَّصْنَ تكون المطابقة بين المبتدإ و الخبر خفية و قد قيل في ذلك وجوه منها ما قاله الكسائي و الأخفش أنّ الرابط بينهما هو الضمير العائد إلى الأزواج الذي هو من متعلّقات المبتدإ.

و هذا من الموارد التي لا بد من التكلف فيها لتطابق قول النحويين.

و الصحيح أن يقال: إنّه يراعى في الأخبار صحة المعنى سواء تطابق المبتدأ و الخبر أم لا، و المعنى في المقام واضح و جلي بل المستفاد من هذه الجملة الاتحاد بين الزوجين و كمال التقارب بينهما بحيث يعدان في نظر الإسلام واحدا، و تدل عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة - 187].

و يَذَرُونَ مثل (يدعون) لفظا و معنى، و لا ماضي لهما من مادتهما و ماضيهما (ترك).

ص: 79

و اللام في قوله تعالى: مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ للعهد دون الجنس كما تقدم.

ص: 80

بحث روائي

في التهذيب عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «كلّ النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة أو على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر و عشرا».

أقول: يستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة أيضا.

في تفسير العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً جئن النساء يخاصمن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و قلن لا نصبر فقال لهن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتتتها ثم اكتحلت بها ثم تزوجت فوضع اللّه تعالى عنكنّ ثمانية أشهر».

أقول: لعل ترك ذكر عشرة أيام أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان في مقام بيان تعداد الشهور لا مطلق زمان العدة.

في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر، و عدّة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر و عشرا؟ فقال (عليه السلام): أما عدة المطلقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد. و أما عدة المتوفّى عنها

ص: 81

زوجها فإنّ اللّه عزّ و جلّ شرط للنساء شرطا و شرط عليهنّ شرطا فلم يجابهن فيما شرط لهنّ و لم يجر فيما اشترط عليهنّ . شرط لهنّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول اللّه عزّ و جلّ : «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» فلم يجوّز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك و تعالى أنّه غاية صبر المرأة من الرجل. و أما ما شرط عليهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر و عشرا فأخذ منها له عند موته ما أخذ منه لها في حياته عند الإيلاء قال اللّه تعالى: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» و لم يذكر العشرة الأيام في العدّة إلا مع الأربعة أشهر و علم أنّ غاية صبر المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع فمن ثم أوجبه عليها و لها».

أقول: روي قريب من ذلك في تفسير العياشي و غيره عن الباقر و الرضا (عليهما السلام) و ما ورد فيها من بيان وجه الحكمة في تشريع هذه العدة و تقدم في التفسير ما يتعلّق بها أيضا.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ - الآية - قال (عليه السلام):

«المرأة في عدّتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، و لا تقول: إنّي أصنع كذ، أو أصنع كذا القبيح من الأمر في البضع و كلّ أمر قبيح».

أقول: ما ذكره (عليه السلام) مقتضى الأدب المعاشري أيضا.

و في رواية أخرى: «تقول لها و هي في عدّتها: يا هذه لا أحب إلا ما أسرّك و لو قد مضى عدّتك لا تفوتيني إن شاء اللّه و لا تستبقي بنفسك و هذا كلّه من غير أن يعزموا عقدة النكاح».

و في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً قال (عليه السلام):

«هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدّتها أوعدك بيت آل فلان ؟ ليعرّض لها بالخطبة، و يعني بقوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً : التعريض بالخطبة و لا يعزم عقدة النكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله».

أقول: روي قريب من ذلك في عدة روايات.

ص: 82

سورة البقرة الآية 236-237

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَ.......

اشارة

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أقسام الطلاق و عدته و بعض أحكامه بيّن في هاتين الآيتين حكم الطلاق قبل الدخول فذكر ما يجب على الزوج في هذه الحالة من العطاء إلى الزوجة المطلقة إن لم يفرض لها مهرا معينا و طلّقها قبل المس و المباشرة و لهذه العطية أثرها النفسي في المرأة التي انفصمت عنها عقدة الحياة الزوجية و ذاقت ألم الفراق و مرارة العتاب كما حفظ تعالى استطاعة الزوج فيها فعلى الغني بقدر غناه و على الفقير حسب ما يستطيع.

و لو فرض لها مهرا فيجب عليه دفع نصفه إن طلّقها قبل المس إلا إذا عفى الولي أو عفت الزوجة عن بعض المهر و أرشد الإنسان إلى توخي المودة و الإحسان، و اختتمها بمراقبة اللّه تعالى و أنّه مطلع على النيات لتبقى القلوب نقية خالصة موصولة به جلّ شأنه فيتم الترهيب و الترغيب.

ص: 83

التفسير

236 - قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً .

المس و المسيس هو اللمس يكنّى به عن المباشرة الجنسية و غشيان النساء بالقرائن الخارجية.

و الفريضة: المهر لأنّه يقطع من مال الزوج للزوجة. و فرض الفريضة تسمية المهر و تقديره تفصيلا أو إجمالا.

و المراد ب لا جُناحَ رفع المنع و المسؤولية في كلّ من الموردين أي:

عدم المس، و عدم ذكر الصداق و المهر فإنّهما لا يمنعان عن صحة الطلاق، و لا يجب على الزوج شيء.

و قد ذكر سبحانه و تعالى في هاتين الآيتين المباركتين و غيرهما كما في قوله تعالى: وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النّساء - 4]، و ما ورد في السنة أقساما أربعة:

الأول: أن يكون الطلاق قبل المباشرة و غشيان النساء و قد فرض المهر،

ص: 84

فتستحق المرأة نصف المهر المسمّى.

الثاني: أن يكون الطلاق قبل الدخول و لم يسم لها مهرا في عقد النكاح فيجب عليه أن يمتعها على الموسع قدره و على المقتر قدره.

الثالث: أن يكون الطلاق بعد المس و بعد التسمية فتستحق المرأة المهر المسمّى.

الرابع: أن يكون الطلاق بعد المس و لم يسم المهر في عقد النكاح فيجب عليه مهر المثل.

و لكلّ واحد من هذه الأقسام أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه مأخوذة من الكتاب الكريم و السنة المقدّسة الشارحة.

قوله تعالى: وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ .

الموسع اسم فاعل، و يراد به من كان في سعة، و المقتر خلافه أي من يكون في ضيق. و أصل القتر: قلة النفقة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان - 67]، و قال تعالى:

وَ كانَ اَلْإِنْسانُ قَتُوراً [الإسراء - 100]، و هو يدل على أنّ البخل مما جبل عليه الإنسان فيكون مثل قوله تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ [النساء - 128].

و القتر - بالتحريك -: سوء الحال، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس - 41].

و المتعة و المتاع: ما يتمتع به أي ينتفع به، و التمتيع: هو إعطاء المتعة.

و القدر - بفتح الدال و سكونها - قدر الطاقة و الإمكان.

و المعنى: يجب على الأزواج أن يمتعوا المطلّقات - اللّواتي لم يفرض لهنّ فريضة و لم يدخل بهنّ - شيئا بحسب حال الزوج في الغنى و الفقر.

و يستفاد من سياق الآية المباركة أنّ المتعة من الحقوق التي تستحقها المرأة على الرجل بحسب حاله، و يشهد له الاعتبار أيضا كما مر، و لكنّ

ص: 85

الكلام في أنّها من الحقوق الواجبة التي يلزم على الرجل وفاؤها أو أنّها من الحقوق المجاملية الأدبية ؟ ظاهر الآية الشريفة هو الأول لظاهر الأمر.

و هذه الآية الشريفة و الآية التالية تشتركان في أنّ الطلاق فيها قبل المس و الغشيان و إنّما تفترقان في أنّ الآية التالية قد فرض لها فريضة فيجب إخراج نصف المهر، و في الأولى لم يفرض لها فريضة فيجب إعطاء المتعة لها و هي غير مهر المثل و إنّما جعلت لها المتعة تطييبا لنفسها و جلبا لخاطرها.

و إنّما كرّر سبحانه و تعالى كلمة قَدَرُهُ لبيان أنّ الموسع يلاحظ قدر وسعه و لا ينقص عن ذلك، و المقتر أيضا يلاحظ حاله و لا يزيد على ذلك و لو لم تكن مكررة لما أفاد هذه الفائدة.

قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ .

متاعا مفعول مطلق، لقوله تعالى: وَ مَتِّعُوهُنَّ و هو إما بمعنى ما يتمتع به أو بمعنى التمتيع.

و قيل: إنّه حال من قَدَرُهُ . و قيل: إنّه تأكيد لمتعوهنّ و الجميع يرجع إلى معنى واحد.

و حقا صفة للمتاع. و المعروف: ما تعارف عليه الناس على اختلاف طبقاتهم و حالاتهم.

و المعنى: إنّ المتعة هي حق واجب على من يريد الإحسان، أو إنّها من الإحسان الذي يرغب إليه المحسنون، و هذه قرينة أخرى على أنّها من الحقوق الإلزامية كما سيأتي في البحث الرّوائي.

و إنّما ذكر المحسنين تعظيما لشأنهم و ترغيبا إلى الإحسان، و تحريضا للناس على أن يدخلوا في زمرة المحسنين، كما في سائر الخطابات التي تكون في هذا السياق، كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ .

و الحسن عبارة عن كل مرغوب إليه - بأي قوة من القوى النفسانية ظاهرية كانت أو باطنية - و تتصف به جميع الأشياء من الجواهر و الأعراض بل

ص: 86

جميع الاعتباريات، و هو و الإحسان بمعناهما الأعم من المعاني التي تدرك و لا توصف كما هو كذلك في جملة كثيرة من المعاني.

و من فسره ببعض المعاني الخاصة فهو من باب التطبيق لا التخصيص و ليس للحسن حد معيّن إلا أنّه محدود بما لم ينه عنه الشرع، و هو من الصفات الإضافية فربّ حسن عند قوم لا يكون حسنا عند آخرين و ما ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة من الترغيب إلى الإحسان و الحسنة إنّما يراد بهما ما هو المتعارف. و المحسن من أسماء اللّه الحسنى و أما الحسن - بفتحتين - فلم أجد استعماله فيه تعالى منفردا نعم ورد في المأثورات «يا حسن التجاوز».

237 - قوله تعالى: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ .

بيان للقسم الأول من الأقسام المتقدمة، و فيه تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي: و إن وقع الطلاق قبل الدخول بهنّ و قد فرض لهنّ المهر فلهنّ نصف المفروض.

و تدل الآية المباركة على أنّ نصف المهر حق ثابت لهنّ يجب إعطاؤه، و النصف الثاني يرجع إلى ملك الزوج، و ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّ مجرد العقد مقتض لثبوت المهر في الجملة.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ .

أي: إلا أن تعفو المطلّقات عن النصف كلاّ أو بعضا و حق الإسقاط و العفو إنّما يكون للمرأة البالغة الرشيدة جائزة التصرف في أموالها بلا فرق بين أن يكون العفو منهنّ مباشرة أومن وكيلهنّ في العفو فقط أو المأذون له في كلّ تصرّف.

و العفو: أعم من الإبراء و الهبة، فيكون كالتنازل من الإنسان الراضي.

و يعفون في موضع نصب ب إِنْ ، و هو مبني لاتصاله بضمير جماعة المؤنث.

ص: 87

قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ .

أي: أو يعفو وليّ الزوجة الصغيرة الذي جعل اللّه في يده عقدة النكاح، و الولي هو الأب أو الجد للأب أو الأخ القائم على أمرها و تدل على ذلك جملة من الروايات.

و قيل: إنّ المراد به الزوج أيضا لأنّ بيده عقدة النكاح و حلّها أيضا.

و لكنّه مردود فإنّه حينئذ يكون مخيّرا بين دفع نصف المهر كلاّ أو تشطيره و تبعيضه، فلا يكون الطلاق مشطرا في نفسه، أو يعفو عن جميعه، و هو مناف لملكية المرأة المهر بالعقد و التصرف في حقها.

و أما عفو الزوج عن النصف الآخر فهو أيضا ليس بصحيح فإنّه ليس للمرأة حق في النصف الآخر و لا يجب على الزوج دفعه إليها حتّى يصح في مورده العفو، فإذا دفع إليها النصف فهو إحسان و فضل منه.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى .

أي: أنّ العفو على أية حال و من أيّ واحد صدر هو أقرب للتقوى لأنّ عفو الإنسان عن حقّه فيه الفضل الكبير و هو أقرب إلى فضيلة التقوى، و لأنّ فيه من التشبه بأخلاق اللّه تعالى لأنّه عفوّ غفور فيكون أقرب للتقوى.

قوله تعالى: وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ .

مادة (نسي) تأتي بمعنى الترك و الإهمال، و التأخير، و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صلة الرحم منسأة للأجل و مثراة للمال» و تأتي بمعنى الذهول و الغفلة في مقابل الذكر و الالتفات، و منه قوله تعالى: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف - 63]، و قال تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر - 19].

و المراد به في المقام: هو الأول بقرينة تعلّق التكليف به، و يمكن إرادة الأخير أيضا إن كان منتهيا إلى الاختيار و لو ببعض أسبابه.

و الفضل: هو الزيادة في المكارم و ما يكون ممدوحا و ليس بواجب و في

ص: 88

المقام الفضل بالنسبة إلى الرجل: أن يعطي أكثر من النصف و لو بقليل، و بالنسبة إلى المرأة: أن تأخذ أقل منه و لو بقليل.

و الآية المباركة تحرّض الإنسان على ابتغاء الفضل و الإحسان بالعفو عن الحقوق و التخفيف، و عدم التغافل عن المكارم عند عروض أسباب التخاصم و التنازع، فإنّها تشير إلى قاعدة عقلية تشمل كلّ ما يقع في طريق الاستكمال و السعادة الأبدية، و إن كانت باعتبار سياق الكلام و المورد ظاهرة في الحقوق المجاملية المتعارفة بين الناس.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

ربط ذلك بمراقبته تعالى حتّى تكون الأعمال - كالقلوب - خالصة موصولة باللّه على كلّ حال. فيكون ذلك زيادة في الترهيب و الترغيب أي: أنّ أعمالكم ظاهرة و غير خفية لدى من يحيط بها و أنّه يجازيكم بها.

ص: 89

بحث روائي

في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال (عليه السلام): عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام) «ما يمتع مثلها من النساء» أي مثلها في مراعاة حال الزوج فلا اختلاف بين هذه الرواية و غيرها الدالة على اعتبار حال الزوج فقط.

في تفسير العياشي عن أبي الصباح عن الصادق (عليه السلام): «إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها و إن لم يكن سمّى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره و ليس لها عدة و تتزوج من شاءت من ساعتها».

أقول: قريب من هذه الروايات روايات كثيرة أخرى ذكرناها في الفقه.

في الكافي و التهذيب و تفسير العياشي في عدة روايات عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام): «إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الولي».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة.

في الفقيه و التهذيب عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ قال: «يعني الأب و الذي توكله المرأة و توليه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما».

ص: 90

في الفقيه و التهذيب عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ قال: «يعني الأب و الذي توكله المرأة و توليه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما».

أقول: المستفاد من هذا الحديث أنّ المراد ممن بيده عقدة النكاح من يتولاها إما بوكالة من المرأة وكالة تفويضية أو بولاية من الشرع مع مراعاة المصلحة كما ذكرنا في الصداق من (مهذب الأحكام).

في التهذيب عن رفاعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الذي بيده عقدة النكاح قال: الولي الذي يأخذ بعضا و يترك بعضا و ليس له أن يدع كلّه».

أقول: يمكن حمله على وجود المصلحة و الا فليس من شرائط العفو ذلك.

في تفسير العياشي في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ .

قال: «هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه».

و في الدر المنثور عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ الذي بيده عقدة النكاح: الزوج».

أقول: وردت عدة روايات عن طريق الجمهور دالة على تفسير الآية الشريفة بالزوج و لكن يمكن حملها على ما إذا فوضت المرأة أمر المهر إلى الزوج حتّى العفو و تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير أيضا.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يأتي على الناس زمان عضوض يعض كلّ امرئ على ما في يديه و ينسون الفضل بينهم قال اللّه تعالى: وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ».

أقول: المراد بالعضوض: الشدة في الإمساك لأجل تركهم مكارم الأخلاق و فضائلها.

ص: 91

سورة البقرة الآية 239

حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُو.......

اشارة

حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى جملة من الأحكام المتعلقة بشؤون الحياة الزوجية و بيّن ما يكون سببا في سعادة هذه الحياة و نبّه الإنسان إلى ابتغاء الإحسان في جميع شؤونه، و عدم تناسي الناس الفضل بينهم.

بيّن في هاتين الآيتين المباركتين ما هو من أعظم الشؤون العبودية التي لها دخل في تكميل الحقيقة الإنسانية و هي الصلاة التي دعا إليها جميع الأنبياء و بها يتشرف المصلّي بالتكلّم مع الحيّ القيوم و هي إسراء النفوس إلى الملكوت الأعلى و معراج أرواح المتعبّدين إلى قاب قوسين أو أدنى، و هي التي تنهى عن الفحشاء و المنكر، و تبعث النفوس الغافلة إلى التذكر بجلال اللّه عزّ و جل و جماله، و تذكير الإنسان إلى مكانته الحقيقية، و تجعله مراقبا لنفسه لتطهيرها من رذائل الأخلاق و تحليتها بفواضلها، و تمكنها على تحمل المصاعب و الآلام في طريق الاستكمال.

و في تعقيب تلك الأحكام بالأمر بالصلاة التي هي أكبر العبادات إشارة إلى أنّ الايتمار بأوامر اللّه سبحانه و تعالى و الانتهاء عن نواهيه إنّما يكون في

ص: 92

النفوس المستعدة و هي لا تحصل إلا بإقامة الصلاة و المحافظة عليها و أدائها بخضوع و خشوع لتنال النفس سعادتها. فهي الروح لتلك الأحكام و إنّها بدون الصلاة كالجسم الذي لا روح له.

ص: 93

التفسير

238 - قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ .

مادة (حفظ) تأتي بمعنى المواظبة على الشيء و الإقبال عليه مرة بعد أخرى، و المحافظة على الصّلوات هي المواظبة عليها بإقامتها في أوقاتها بحدودها و شرائطها، و الإقبال عليها بالإخلاص و الخشوع و الخضوع، فالمحافظة أخص من مطلق الإتيان لأنّ الحفظ عبارة عن التفقد و التعهد و الرعاية.

و إنّما عبّر سبحانه و تعالى بهذا اللفظ المشعر بفعل الإثنين لبيان أنّ كلّ من حافظ على الصّلاة و أدّاها على ما هي عليه في الواقع هي أيضا تحافظ على رعايته، فهي تردعه عن الفحشاء و المنكر، كما قال تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [العنكبوت - 45]، و في السنة الشريفة من ذلك الشيء الكثير.

و للصلاة أنحاء من الوجودات و المظاهر فهي في هذا العالم مركبة من جملة من الأعراض، و في عالم آخر لها وجود مستقل تمدح فاعلها و تشفع له أو تذمه و تلعنه، و في نشأة أخرى: غيب الغيوب تكون من صقع اللّه جلّ جلاله لا يعلمها إلا هو.

و الصّلوات في الإسلام من أهم العبادات التي أمر الناس بها فهي عمود

ص: 94

الدين إن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها.

تنهى عن المنكر و الفحشاء *** أقصر فذاك منتهى الثّناء

و أعدادها كثيرة و الواجب منها الصّلوات الخمس المعروفة بين المسلمين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم و شرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا و بيّنت أركانها و شروطها و آدابها و سائر جهاتها بيانا قوليا و عمليا.

قوله تعالى: وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى .

تخصيص بعد تعميم للاهتمام بها و الترغيب إليها.

و الوسطى تأنيث الأوسط و هو من الأمور الإضافية يصح إطلاقه على ما يقع وسطا بين الاثنين أو أكثر و لهذا اختلف العلماء في تعيين الوسطى من الصّلاة:

فقيل: إنّها الصبح لكونها وسطا بين فرائض الليل و فرائض النهار و القيام إليها شديد و قال به جمع من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و قيل: إنّها الظهر، لأنّها وسط بين العشاء و الصبح، و العصر و المغرب، و أنّها وسط النهار المبتدئ من طلوع الفجر و المنتهي بغروب الشمس، و لأنّها أول صلاة صلّيت في الإسلام، و في قراءة عائشة و حفصة «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر» بالواو و روى مالك في موطّئه، و الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: «الصلاة الوسطى: صلاة الظهر»

و زاد الطيالسي «و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يصليها بالهجير». و قال بهذا جمع من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو المشهور بين الإمامية المروي في عدة أخبار كما يأتي في البحث الروائي.

و قيل: إنّها العصر، لكونها وسطا بين الظهر و المغرب، و أنّ ما قبلها صلاتان نهاريتان و هما الصبح و الظهر، و بعدهما صلاتان ليليتان و هما المغرب و العشاء، و قال بهذا جمع آخر من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و به قال الجمهور،

و أخرج الترمذي عن ابن مسعود «قال رسول اللّه (صلّى اللّه

ص: 95

عليه و آله): الصلاة الوسطى صلاة العصر»،

و روى مسلم و أبو داود عن عليّ (عليه السلام) مرفوعا: «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» يعني يوم الأحزاب،

و في رواية الشيخين أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال يوم الأحزاب: «ملأ اللّه قبورهم و بيوتهم نارا كما حبسونا و شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».

و قيل: إنّها المغرب لأنّها متوسطة في عدد الركعات، و لا تقصر في السفر، و أنّها وسط بين صلاتي جهر و صلاتي إخفات.

و قيل: إنّها العشاء الآخرة لأنّها بين صلاتين لا تقصران، و لأنّها يستحب تأخيرها، و ذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها، هذا بحسب الأقوال:

و أما بحسب الأخبار فسيأتي في البحث الرّوائي ما يتعلّق بها، و لكن نفس الآية الشريفة لا تدل على شيء مما ذكر و هي مجملة لا يظهر المراد منها فلا بد من ترجيح أحد الاحتمالات من الرجوع إلى السنة الشريفة و القرائن القطعية.

و مذهب أهل البيت عليهم السلام: أنّها صلاة الظهر كما يأتي في البحث الروائي بل يمكن أن يستشهد له بقوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 115]، حيث إنّه تعالى لم يذكر صلاة الوسطى بين الطرفين و خصوصا بعد الأمر في قوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ [الإسراء - 78] المتفق بين المسلمين على أنّها صلاة الظهر المعبّر عنها في لسان عليّ (عليه السلام) بصلاة الأوّابين.

مع أنّ وقت الظهر عظيم جدّا

ففي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): «سألته عن ركود الشمس فقال: يا محمد ما أصغر جئتك و أعضل مسألتك و إنّك لأهل للجواب، إنّ الشمس إذا طلعت جذبها سبعون ألف ملك بعد أن أخذ بكلّ شعاع منها خمسة آلاف من الملائكة بين جاذب و دافع حتّى إذا بلغت الجوّ و جازت الكوّ قلبها ملك النور ظهرا لبطن فصار ما

ص: 96

يلي الأرض إلى السماء و بلغ شعاعها تخوم العرش فعند ذلك نادت الملائكة:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر و الحمد للّه الذي لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له وليّ من الذل و كبّره تكبيرا فقال له: جعلت فداك أحافظ على هذا الكلام عند زوال الشمس ؟ فقال: نعم حافظ عليه كما تحافظ على عينك».

و سيأتي شرح الرواية في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى. و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في الصحيح: «إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء و أبواب الجنان و استجيب الدعاء فطوبى لمن رفع له عند ذلك عمل صالح».

قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ .

مادة (قوم) تدل على الثبوت و العزم و الاستقامة و الرعاية و الحفظ و قد ورد جميع ذلك في الآيات الشريفة المتعدّدة، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى و المراد به هنا ما يكون عن استقامة و تثبت.

و أما مادة (قنت) فقد وردت في القرآن كثيرا بهيئات مختلفة منتسبة إلى الرجال تارة و إلى النساء أخرى و إلى مخلوقاته و موجوداته ثالثة و كلّها مقرونة بالمدح و التمجيد، قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [النحل - 120]، و قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اَللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً [الزمر - 9]، و قال جل شأنه: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران - 43]، و قال تعالى:

وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْقانِتاتِ [الأحزاب - 35]. و قال تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [البقرة - 116]. فإنّ جميع الموجودات تتصف بالقنوت له جلّت عظمته لأنّ كلّ مربوب قانت و خاضع لربه.

و أصلها ينبئ عن خضوع خاص يكون مظهرا للعبودية، و ما ذكره المفسرون و اللغويون من الدعاء، و العبادة، و الخشوع، و الصلاة، و السكوت، و طول القيام كلّ ذلك من المصاديق لا أن تكون معاني مستقلة في حدّ نفسها، فلا يكون من مشترك اللفظ أو المعنى.

ص: 97

و قد اطلق على السكوت، كما في حديث زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة حتّى نزلت: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فأمسكنا عن الكلام». و لكنّه سكوت خاص بقرينة

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين إنّما هي قرآن و تسبيح».

و القنوت من أفضل مقامات العبودية و له مراتب كثيرة شدة و ضعفا.

و المراد به في المقام: الخضوع و الخشوع الخاص، كما يأتي في البحث العرفاني.

و المعنى: اشتغلوا بطاعة اللّه عزّ و جل طاعة خضوع و خشوع مخلصين له لا تغلبكم زخارف الدنيا و زبرجها.

و لا يختص القيام للّه تعالى و القنوت له جلّت عظمته بحالة دون أخرى بل يجريان في جميع الحالات لا سيّما في العبادات فإنّهما روحها و لا ينال العبد سرّ التوحيد إلاّ إذا كانت جميع أعماله الجوانحيّة و الجوارحيّة بل تمام حركاته للّه تعالى، فيكون مسيره من الحق إلى الحق، و يخرج عن الفقر إلى الغنى المطلق، و يتنزه عن كلّ ما يوجب البعد عنه تعالى حتّى يكون جل شأنه سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به، كما ورد في الحديث، لأنّه قام في الحق بالحق للحق.

239 - قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً .

الخوف: توقع المكروه، و رجال جمع راجل كقيام جمع قائم و أصحاب جمع صاحب، و هو الكائن على رجليه في مقابل الركبان الذي هو جمع الراكب كفرسان جمع فارس، و كل شيء علا شيئا آخر فقد ركبه.

و الآية الشريفة عطف على الآية السابقة و هي بمنزلة الشرط لها أي:

حافظوا على الصّلوات إن لم يكن هناك خوف و الا فتتقدر المحافظة بقدر الخوف، فأدّوا الصّلاة حينئذ رجالا أو ركبانا.

و هذه الآية المباركة تكشف عن الأهمّية البالغة التي ينظر بها سبحانه و تعالى إلى الصّلاة و المحافظة عليها و لا تسقط حتّى في ساعة الخوف

ص: 98

و الشدة، فإنّ كلّ موضوع كثر الاهتمام به ازداد ابداله و أطواره و شؤونه، و لا يوجد موضوع شرعي و لا قانون إلهي أفضل و أجل من هذه العبادة الخاصة أي الصلاة فإنّ فيها جذب العبد إلى عالم الأحدية و السعادة الأبدية فأيّ قانون يتصوّر أفضل منها، و لأجل ذلك أرسل الفقهاء قاعدة

«أنّ الصّلاة لا تسقط بحال»، و قد وردت في السنة المقدسة قواعد تسهيلية امتنانية في الصلاة لم نرد في غيرها من العبادات.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة: إجزاء الصلاة في حالة الخوف بأي نحو اقتضاه الخوف، و لا تحتاج إلى الإعادة أو القضاء بعد الأمن لعدم الإشارة إلى ذلك، و هذا هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة.

و لم يحدد سبحانه و تعالى الخوف الموجب لتبدل التكليف بل أوكله إلى نفس الإنسان بعد مراعاة جانب عقله، قال تعالى: بَلِ اَلْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة - 14]، فيكون المناط تحقق الخوف العقلائي لدى المكلّف من أي مصدر تحقّق سواء كان في القتال المأذون فيه شرعا أو كان في الدّفاع عن النفس و العرض و المال، أو الحاصل من السبع و الحرق أو الغرق و نحو ذلك. و يتقدّر التكليف بقدره فيترك كلّ ما ينافي الحذر و يبقى ما لا ينافيه على حاله، و يجب تحرّي المقدور مهما أمكن فيسقط جملة من شرائط الصّلاة الاختيارية عند عروض الخوف كالاستقرار، و القبلة، و الطمأنينة بل قد يوجب سقوط الركوع و السجود و التعويض عنهما و الإيماء لهما لأنّه الميسور له، و قد ذكر سبحانه و تعالى كيفية صلاة الخوف في القتال في سورة النساء.

و إنّما قدم الراجل على الراكب لاشتداد الأمر بالنسبة إليهم، و لأنّ الغالب في عصر النزول كانوا راجلين، و ذكرهما بالخصوص لبيان وجوب المحافظة على الصّلاة على كلّ حال يمكن من المشي و الركوب و عدم سقوطها بحال، و لا يجب تأخيرها عن وقتها في هذه الحالة، كما يراه بعض الفقهاء، و الآية مجملة في كيفية صلاة الخوف، و لكن شرحتها السنة الشريفة و ذكرها الفقهاء في كتب الفقه.

ص: 99

قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ .

تفريع على المحافظة على الصّلاة أي: إذا زال الخوف و اطمأنت النفس فاذكروا اللّه ذكرا مثل ما علّمكم في كيفية عباداته و شرايع دينه. و إطلاق الآية المباركة يدل على مطلق الذكر كمّا و كيفا، و يمكن الاختلاف باختلاف الحالات و الخصوصيات، و ربما تجب الصلاة بالكيفية المعهودة في حال الاختيار و الأمن.

و لعل الوجه في وجوب ذكر اللّه تعالى في هذه الحالة لأنّ الناس غالبا بعد زوال الخوف يذكرون الأشخاص و يفتخرون بالألقاب و الأعمال، فأمرهم عزّ و جل بذكر اللّه تعالى لأنّه المنعم الحقيقي و السبب الواقعي في زوال الخوف، و قد أنعم الأمن و الأمان و الخير و الإحسان فيجب شكره على ما علّمكم معالم دينكم.

ص: 100

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ الإجمال في الصلاة الوسطى و عدم تعيينها بالخصوص لأجل أهمية شأن الصّلوات فإنّ المحافظة عليها كلّها توجب الإصابة بالوسطى منها قهرا، فيكون كالإجمال في الاسم الأعظم، و ليلة القدر، و ساعة الاستجابة في يوم الجمعة فيهتم الإنسان بجميع أسمائه تعالى حتّى يصيبه و كذا في ليالي شهر رمضان أو ساعات يوم الجمعة.

الثاني: إنّما خص اللّه تعالى الصّلاة الوسطى زائدا على سائر الصّلوات بالفضل، لأنّ المحافظة بالوسطى تستلزم المحافظة على طرفيها أو باعتبار وقتها لأنّ وقت الظهر - كما في صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) - له أهمية كبرى كما مر.

الثالث: أنّ التعبير بالقيام في قوله تعالى: قُومُوا لِلّهِ يدل على لزوم نصب العبد نفسه للعبادة للّه تعالى و الخضوع له و الاستقامة في ذلك و الرعاية فيها حق الرعاية بلا اختصاص لها بحالة دون أخرى.

الرابع: أنّ اللام في قوله تعالى: قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ للغاية حتّى يكون

ص: 101

القيام - أي: مطلق الحركات و السكنات في كلّ عمل - له جل شأنه فهو الغاية القصوى صلاة كانت أو غيرها بناء على ظاهر السياق، و هذا هو معنى قصد القربة المعتبر في كلّ عمل عبادي على ما فصّله الفقهاء في العبادات و غيرها.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ توقيفية العبادات و توقيفية أسمائه المقدسة، لأنّ ذكره تعالى لا بد أن يكون باسمه و صفاته عزّ و جل فقط.

السادس: يدل قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ على أنّ تكليف الصّلاة مطلقا يدور مدار وسع المكلّف و عدم العسر و الحرج و أنّ تغيير التكليف بحسب الحالات يكون بيد من كان أصل التشريع بيده كما ثبت ذلك في علمي الفلسفة و الكلام.

ص: 102

بحث روائي

في تفسير العياشي عن زرارة و محمد بن مسلم أنّهما سألا أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى قال (عليه السلام): «صلوة الظهر و فيها فرض اللّه الجمعة و فيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل خيرا إلا أعطاه اللّه إياه».

أقول: المأثور عن الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في روايات كثيرة أنّ الصّلاة الوسطى هي صلاة الظهر، و ادعى شيخ الطائفة الإجماع عليه، و قوله (عليه السلام): «فيها» أي في صلاة الظهر لأنّ الجمعة و الظهر واحدة حقيقة و إنّما سقطت ركعتا الجمعة، لمكان الخطبتين فليستا حقيقتين مختلفتين.

و في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «عما فرض اللّه عزّ و جل من الصّلاة فقال (عليه السلام): خمس صلوات في الليل و النهار.

فقلت: فهل سماهنّ و بينهنّ في كتابه ؟ قال: نعم قال اللّه تبارك و تعالى لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله): أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ و دلوكها زوالها ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سماهنّ و بينهنّ و وقتهنّ و غسق الليل هو انتصافه، ثم قال: وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً فهذه الخامسة، و قال اللّه تعالى في ذلك: أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ فطرفاه المغرب و الغداة و زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ و هي صلاة العشاء الآخرة، و قال اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى و هي

ص: 103

صلاة الظهر، و هي أول صلاة صلاّها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هي وسط النهار، و وسط صلاتين بالنهار: صلاة الغداة و صلاة العصر. و في بعض القراءات «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين» قال: و نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في سفره فقنت فيها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): و تركها على حالها في السفر و الحضر، و أضاف للمقيم ركعتين و إنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام».

أقول:

قوله (عليه السلام) «في بعض القراءات» لا بد أن يكون المراد قراءة غيرهم (عليهم السلام) و إنّما ذكر ذلك لبيان أنّ كون الوسطى صلاة الظهر منقولا عن غيرهم أيضا، و لكن في نفس القراءة أيضا بحث لأنّه يمكن أن يكون محاذرة من الوقت و أهله فيكون الحكم الأول هو المتبع.

في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قرأ «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قريب منه، و لكن فيه «و كذلك كان يقرأها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: إنّه يحتمل أن يكون قوله «صلاة العصر» من القرآن فتكون صلاة الوسطى الظهر، و يستفاد أهمية صلاة العصر أيضا، كما يحتمل أن يكون تفسيرا للصلاة. لا أن يكون قراءة للقرآن، و يدل عليه أنّ الجمهور نقلوا في مجامعهم «صلاة الوسطى: صلاة العصر» و مع تعارض القراءتين و عدم ترجيح في البين فالحكم هو التخيير لو لم نقل بكون الوسطى هي الظهر أرجح من جهات كثيرة.

و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن المنيع، و النسائي، و ابن جرير و غيرهم من طريق الزبرقان: «أنّ رهطا من قريش مرّ بهم زيد بن ثابت و هم

ص: 104

مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى ؟ فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصلّي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف و الصفان، و الناس في قائلتهم و تجارتهم فأنزل اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لينتهينّ رجال أو لأحرقنّ بيوتهم».

أقول: تقدم في التفسير ما يدل عليه أيضا، و لكن بإزاء ذلك روايات مختلفة مروية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من طرق الجمهور. منها ما يدل على أنّها صلاة العصر، و منها ما يدل على أنّها صلاة الصبح و منها غير ذلك.

و مع التعارض لا يصح الأخذ بأحدها بالخصوص، و لكن تقدّم أنّ الترجيح مع ما يدل على أنّها صلاة الظهر.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ قال (عليه السلام): «إقبال الرجل على صلاته و محافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها و لا يشغله شيء».

أقول: تقدّم في التفسير أنّ من معاني القنوت الرعاية، و ما ورد في الرواية يكون من باب التطبيق.

و في المجمع في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ قال: «هو الدعاء في الصّلاة حال القيام، و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام)».

أقول: إنّ ذلك من باب التطبيق فلا تعارض في البين أصلا.

و في الكافي عن عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً قال: «كيف يصلّي ؟ و ما يقول إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلّي ؟ قال (عليه السلام): يكبّر و يومي إيماء برأسه.

أقول: يدل على ذلك الإجماع و نصوص أخرى و هي تدل على تبدل

ص: 105

الصلاة إلى الأبدال الاضطرارية حسب ما تقتضيه الظروف.

في الفقيه عنه (عليه السلام) أيضا قال: «تكبّر و تهلّل، تقول: اللّه أكبر، يقول اللّه: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً .

أقول: تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.

و في الفقيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصّا أو سبعا فصلّ الفريضة و أنت على دابتك».

أقول: المسألة محرّرة في الكتب الفقهية فلا مجال لذكرها هنا.

ص: 106

بحث عرفاني

يستفاد من هذه الآية الكريمة و أمثالها كمال العناية بشأن الصلاة لأنّ فيها إضافة إلى عالم لا نهاية له في الجلال و الجمال و الإفضال إضافة اختيارية يظهر أثرها على أفعال الجوارح و الجوانح توجب عظمة المضاف و ارتفاع درجاته و مقاماته المعنوية الأبدية لا سيّما إذا كان المضاف إليه داعيا لإيجاد تلك الإضافة و مرغبا إليها فإنّه من سنخ تعلق المحبوب بحبيبه. ففي الصّلاة هذا السّر المعنوي الذي تدركه العقول بحقائق الإيمان لا الحواس الظاهرة التي في الإنسان.

فالصّلاة هي العمود النوري المتصل بين الحيّ القيوم و العبد الذي هو في معرض الحوادث و الآلام، و لذا أمرنا بالاستعانة بها إذا أهمنا أمر. قال تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ [البقرة - 45]، و كانت الأنبياء (عليهم السلام) إذا دهمهم أمر استعانوا بالصلاة.

و الصّلاة علامة الإيمان باللّه تعالى و بها و بقرينتها الزكاة تتحقق الأخوة الدينية، قال تعالى: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ [التوبة - 11].

و إنّ تاركها من الكافرين،

فعن نبينا الأعظم: «بين الرجل و بين الشرك و الكفر ترك الصلاة». و إنّ تركها يوجب الحسرة العظمى في الدار العقبى، قال

ص: 107

تعالى حكاية عن أهل سقر: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ [المدثر - 44]، و إنّ إهمالها و تضييعها و قطع تلك الرابطة التي بين العبد و الباري يوجب ارتكاب المعاصي و اتباع الشهوات، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم - 59].

و الصّلاة هي آية الإنسانية الكاملة لأنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر فتتحقق بها التخلية عن الرّذائل و تتجلّى فيها الفضائل فيكون المصلّي المحافظ عليها هو الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه جميع الصّفات الحسنة.

و الصلاة هي الرادع الباطني في الإنسان تمنعه عن ارتكاب الجرائم و الآثام، و توقظ الضمير الإنساني فيردعه عن ركوب الشهوات و تضييع الحقوق فيعظم الحق و يكبر عليه تركه إلى غير ذلك من الصفات الحميدة و الآثار الرفيعة التي لو أردنا ذكرها لما وسعه المقام.

و قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ على إيجازها تكفي في الاهتداء إلى عالم النور العالم الذي يرى فيه الإنسان آثار أعماله بل يجد فيه حقيقة نفسه و فطرته، و يلتذ بما يشاهد من مقامه الرفيع.

و هو يعم جميع أوامر اللّه جل جلاله و أحكامه المقدسة و يرشد إلى ترك نواهيه حتّى يصير الفرد من اللّه و إلى اللّه، و تنهدم فيه الأهواء النفسانية و لا يبقى في نفسه سوى حبه جلّ شأنه و هذا الإطلاق موافق لإطلاق قول نبينا الأعظم «إنّما الأعمال بالنيّات» و تقتضيه أذواق المتألهين و العرفاء الشامخين، و لعل أولياء اللّه تعالى و أحبّاءه اقتبسوا من هذه الآية الشريفة ما أبرزته قلوبهم عند مناجاتهم لخالقهم منها

ما نسب إلى الحسين بن عليّ (عليهما السّلام):

«إلهي أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتّى لم يحبوا سواك و لم يلجؤا إلى غيرك، و أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، و أنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم، ماذا وجد من فقدك و ما الذي فقد من وجدك». و ما ذكره (عليه السلام) من أهم آثار القيام للّه من كل جهة قانتا له

ص: 108

و خاضعا لربوبيته، فالقيام بامتثال أوامر اللّه تعالى و ترك نواهيه و الاستقامة فيه غاية آمال المخلصين و العارفين به تعالى.

و هذه الآية المباركة من أهم الآيات التي تحن إليها قلوب ذوي البصائر و الأحلام، و تزل دون الوصول إليها الأقدام إلا من عصمه العليم العلام.

ص: 109

سورة البقرة الآية 240-242

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَ.......

اشارة

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) الآيات المباركة تتمة لما جاء في الآيات السابقة في أمر الطلاق و العدة.

و الآية الأولى تبين حكم الزوجة أثناء عدة الوفاة و لا بد من ملاحظتها مع ما ورد في ما سبق من الآيات فيها أيضا. و يبيّن عزّ و جل في الآيتين الأخيرتين وجه الحكمة في إنزال الأحكام الإلهية و الشرايع الدينية.

ص: 110

التفسير

240 - قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً .

أي: و الذين يتمون مدة حياتهم و يشرفون على الوفاة و يتركون أزواجا و قد تقدم مثل هذا التعبير في آية (235) فراجع ما ذكرناه هناك.

قوله تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ .

كلمة وصية مفعول مطلق لمقدّر أي: يوصون وصية. و متاعا منصوب بفعل مقدّر أي: يمتعون أزواجهم متاعا. و جملة: غَيْرَ إِخْراجٍ بدل من متاعا بدل البعض من الكل.

و قيل: إنّ متاعا بدل من وصية بمعنى الموصى به غَيْرَ إِخْراجٍ صفة المتاع ليعم السكنى.

و المعنى: و الذين يموتون و يتركون أزواجا ليوصوا وصية لأزواجهم و يمتعوهنّ متاعا تمام مدة الحول المبتدإ من حين الوفاة من غير إخراج لهنّ من البيوت.

و يمكن أن يكون تعريف الحول لأجل كونه مدة الحداد في الجاهلية فنزلت الآية توصي الأزواج أن يمتعوهنّ في مدة الحداد مالا يتمتعن به في بيوت الأزواج من غير إخراجهنّ منها.

ص: 111

و يحتمل أن يكون تحديدا شرعيّا لهذا الحكم و لم تكن مدة الحداد لعدة الوفاة فإن شاءت أن تبقى في بيت زوجها فلها الإنفاق و السكنى.

و على الاحتمال الأول تكون الآية المباركة منسوخة بآية عدة الوفاة و آية الميراث و هذا هو المشهور بين الفقهاء و المفسرين، و يدل عليه بعض النصوص، و هو من حسن التدبير في جعل القانون بأن يقرّر جاعله بعض القوانين السابقة ثم ينسخها بالتدريج و الإمهال فإنّ في ذلك الوصول إلى المطلوب مع جلب القلوب.

و على الثاني فلا نسخ في البين بل هو حكم أدبي نظير قوله تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ [البقرة - 181].

و إذا كان نسخا فهو لوجوب الوصية و أما رجحانها فلا نسخ فيه و هذا هو الظاهر من الآية الشريفة و قد تقدم في آية 181 من هذه السورة ما يرتبط بالمقام.

قوله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ .

أي: فإن خرجن من بيوت أزواجهنّ من عند أنفسهنّ بلا جبر و إكراه فلا إثم عليكم - على أهل الزوج و عشيرته - فيما فعلن في أنفسهنّ من حيث الزواج أو ما تختار بحسب المعروف و ما يوافق حالهنّ لأنّ ذلك حق لها يجوز تركه.

و إخراج الزوجة من بيت زوجها المتوفّى إما أن يكون جبرا و على كره منها أو يكون بالتماس منها أو يكون برضائها بلا إكراه و التماس و المتيقّن من الآية الشريفة على فرض عدم النسخ هو الأول، لما ذكرنا.

و الآية المباركة في مقام الترخيص لهنّ في استعمال ما هو المعروف سواء كان في الزواج أو استعمال الزينة و لكن بشرط أن تنقضي أربعة أشهر و عشرا إن قلنا بعدم نسخ الآية.

ص: 112

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه حكيم يراعي في أحكامه مصالح العباد.

241 - قوله تعالى: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ .

المتاع: ما يتمتع به و هو يدور في المقام بين أن يكون المراد منه المتعة التي تقدمت في آية (236) أو المهر كما في آية (237) أو نفقة المطلقة الرجعية و الأخير هو المتيقن، لأنّ الأولين يستلزمان التكرار كما لا يخفى و إنّ ذكر المطلق و إرادة بعض أفراده قسم من الاستخدام الذي هو من المحسنات البديعية فيكون المراد من قوله تعالى: حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ مطلق الحق الشامل للواجب و المندوب و لما هو أدبي محض و الخصوصيّات تعلم من الجهات الخارجية من باب تعدد الدال و المدلول.

و ذكر المتقين ليس من باب التخصيص بل لبيان أنّ المتقين أهل للايتمار و للإشعار بأهمية هذه الصفة.

242 - قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

المراد من الآيات في القرآن الكريم: ما يفرق به بين الحق و الباطل، و كل ما ينزله تبارك و تعالى حق، لما أثبتوه بالأدلة القاطعة أنّه جلّ شأنه حق محض بذاته و جميع صفاته و أفعاله و ما ينسب إليه.

و لعلّ في المقام: في معنى التعليل أي يبينها لكي تعقلوا و ترتفع بذلك نفوسكم عن حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية الكاملة، و يستفاد من هذه الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ العقل بذاته لا يكفي في نيل السعادة و الوصول إلى الكمال إلا أن يؤيد من عالم الغيب و الحق المطلق فيكتسب من ذلك نورا يمشي به في ظلمات المادة.

الثاني: أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ غاية إرسال الرسل و إنزال الشرايع

ص: 113

الإلهية ليست إلا لأجل تعقل الإنسان و تفكره في أنّه لماذا، و إلى أين مسيره و مال أمره، و هل أنّ عمله دليل على أنّه من السعداء أو يدل على أنّه من الأشقياء، و يشير إلى ذلك

ما ورد عن علي (عليه السلام): «العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» فإنّ ما سوى ذلك و هم زائل و خيال محض لا حقيقة له في الدنيا فضلا عن الأخرى.

الثالث: أنّ ما أنزله اللّه تعالى إنّما يرجع نفعه إلى الإنسان و اللّه هو الغني المطلق.

الرابع: أنّ التعقل النافع هو التعقل في آيات اللّه تعالى من حيث الإضافة إليه عزّ و جلّ ليعرف بذلك الخالق و المعبود، و أما التعقل في ذوات الأشياء من حيث هي فإنّ فطرة الإنسان داعية إلى ذلك لا يحتاج إلى ترغيب منه عزّ و جلّ .

ص: 114

بحث روائي

في تفسير العياشي عن معاوية بن عمار قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جل: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال (عليه السلام): منسوخة نسختها آية:

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و نسختها آية الميراث».

و في تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير في قول اللّه تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً - الآية - قال (عليه السلام): «هي منسوخة قلت: و كيف كانت ؟ قال (عليه السلام): كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث، ثم نسختها آية الربع و الثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها».

أقول: قد ورد في عدة روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) أنّ هذه الآية منسوخة و هي على فرض النسخ لا يضرها تقدم آية عدة الوفاة في التلاوة لما ذكرنا في أحد مباحثنا أنّ التقدم و التأخر و التقارن لا يعتبر كلّ ذلك في النسخ.

ثم إنّ النسخ في المقام لا يستلزم أن يكون بالنسبة إلى أصل التشريع بل يجوز أن يكون بالنسبة إلى الوجوب و الإلزام و يبقى أصل التشريع و حسنه

ص: 115

بحاله و بذلك يمكن أن يرتفع الاختلاف بين الكلمات و قد تقدم في التفسير ما ينفع المقام فراجع.

في الكافي عن حفص البختري عن الصادق (عليه السلام): «في الرجل يطلق امرأته أ يمتعها؟ قال (عليه السلام): نعم أما تحب أن يكون من المحسنين أما تحب أن يكون من المتقين!!».

أقول: هذه الرواية عامة تشمل جميع المطلقات سواء كنّ مدخولا بهنّ أولا، و سواء فرض لهنّ المهر أولا، و هو أيضا أمر ممدوح و يشهد له قوله تعالى: حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ .

في الكافي أيضا عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ قال: متاعها بعد ما تنقضي عدتها على الموسع قدره و على المقتر قدره، و كيف لا يمتعها و هي في عدتها ترجوه و يرجوها و يحدث اللّه عزّ و جل بينهما ما يشاء؟ قال (عليه السلام): إذا كان الرجل موسعا عليه متع امرأته بالعبد و الأمة. و المقتر يمتع بالحنطة و الزبيب، و الثوب، و الدراهم، و إنّ الحسن بن عليّ (عليهما السلام) متّع امرأة له بأمة و لم يطلّق امرأة إلا متعها».

أقول: كلّ ذلك يدل على الرجحان و أنّ متاع المطلقة من محاسن الأخلاق و من الحقوق المجاملية. و أما استفادة الوجوب بنحو الإطلاق فمشكلة فلا بد من مراعاة القرائن الخارجية، و قد ذكرنا في التفسير ما يتعلّق بذلك.

ص: 116

سورة البقرة الآية 243

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اَللّهَ لَذُو .......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) الآية الشريفة في أسلوبها الرائع و بلاغتها الخلابة تبيّن آية من الآيات الإلهية التي وقعت في الأمم السابقة للعبرة و الموعظة. و قد ذكرها سبحانه و تعالى في ختام آيات الأحكام لتثبيت ما ورد فيها من الأحكام التي لوحظ فيها مصلحة الفرد و النوع و توطئة لما يأتي من الآيات التي تدعو إلى بذل النفس و الإنفاق.

و ترشد الإنسان إلى الرجوع إلى اللّه تعالى في مواضع الخطر و أنّ الموت و الحياة بيده جلّ شأنه و أنّ الحذر لا يقي القدر.

و تبيّن أنّ جميع التدبيرات الأرضية مقهورة تحت إرادة السماء و هي التي تحفظ الإنسان من جميع الشرور و الأخطار فيجب شكره تعالى و لكنّ أكثر الناس لا يشكرون.

ص: 117

التفسير

243 - قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ .

ألم أداة استفهام تستعمل في مقام التعجب و لم تأت في القرآن الكريم غالبا إلا و هي معدّاة ب (إلى) و إن كانت هي في نفسها متعدية فيستفاد منه أسلوب خاص يستعمل في الأمثال.

و الرؤية في المقام بمعنى العلم حيث نزّل علم المخاطب بما فيه من الإيمان و اليقين أو ما عليه من الظهور منزلة الرؤية بالبصر.

و الديار جمع الدار و هي المنزل و تستعمل في البلد أيضا بل الدنيا و الآخرة يقال الدار الدنيا و الدار الآخرة قال تعالى: وَ لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ [النحل - 30]، و قال تعالى: فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ [الرعد - 24].

و المراد بجملة: وَ هُمْ أُلُوفٌ هو الكثرة الموجبة للاستغراب و يضرب به المثل للكثرة.

و مادة (حذر) تأتي بمعنى الاحتراز عما يخاف منه، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران - 28].

ص: 118

و هو إما مفعول له أي: خرجوا حذر الموت، أو مفعول مطلق أي:

يحذرون الموت حذرا.

و الخطاب و إن كان موجّها إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لكن يراد به الأمة أيضا و كلّ من بلغه لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) واسطة الفيض.

و المعنى: ألم تعلم أيّها الرسول أو من يبلغه الخطاب إلى حال الذين خرجوا و هم على كثرة تثير الدهشة و العجب فرارا من الموت. و لم يبيّن سبحانه و تعالى سبب الموت في المقام هل هو مهاجمة الأعداء أو شيء آخر.

قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ .

تعبير عن الإرادة التكوينية بالأمر بالموت لبيان تمام قدرته و نفوذ أمره و هذا لا ينافي أن يكون الموت بسبب من الأسباب الطبيعية كالطاعون - على ما ورد في الأخبار - أو الغرق أو استيلاء الأعداء و نحو ذلك. ثم أحياهم بعد موتهم للعيش إما إتماما للحجة أو لأجل اعتبار الأمم اللاحقة من ذلك، أو لبيان تمام قدرته و نحو ذلك من المصالح لأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.

ص: 119

قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [التوبة - 111]، و من المعلوم أنّ كلاّ من المشتري و ملكه و قدرته و أوصافه حتى صفة الاشتراء ترجع إليه تعالى بنحو الاقتضاء و جميع ذلك فضل منه عزّ و جل فهو تعالى يعرّف عباده قدرته و يحوطهم بألطافه، و يجللهم برحمته و نعمائه، و يرشدهم إلى مواعظه و أحكامه.

و الفضل و الجود و الرحمة مفاهيم مختلفة و هي من صفاته الحسنى فإنّه تعالى جواد رحيم ذو الفضل، فالمفاهيم و إن كانت مختلفة لكنّها متصادقة فيه عزّ و جل، و الفرق إنّما يكون بالاعتبار.

و لعلّ الفرق أنّ الرحمة و الجود يعمّان جميع الموجودات، و الفضل يختص بالإنسان، هذا إذا لوحظت الرحمة بالمعنى العام و أما إذا لوحظت بعنوان الرحمانية و الرحيمية فقد تقدم الفرق بينهما في أول سورة الفاتحة.

و إنّ فضل الإنسان لا بد أن يرجع إلى كمال عقله العلمي و العملي و تأدبه بآداب اللّه و تخلّقه بمكارم الأخلاق فإنّه حينئذ يدوم بدوام الحيّ القيوم و ما سوى ذلك كظلّ زائل و نجم آفل.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ .

وضع الظاهر (النّاس) موضع المضمر لبيان أنّ الأكثر من جميع الناس لا الطائفة السابقة الذين أحياهم اللّه تعالى.

و هذه هي الأكثرية المذمومة في جملة من الآيات الشريفة الذين وصفهم عزّ و جل بأوصاف مختلفة قال تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام - 37]، و قال تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر - 59]، و قال تعالى: فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ إِلاّ كُفُوراً [الفرقان - 50]، إلى غير ذلك من الآيات.

و شكر اللّه واجب عقلي و ما ورد في الآيات إرشاد إلى حكم العقل و إتمام الحجة ليصح الجزاء ثوابا على الفعل و عقابا على الترك.

ص: 120

و هو يتحقق بالعمل بما يرتضيه المنعم المشكور و الاجتناب عما يسخطه و لا يرضيه و هو الشكر الحقيقي و مع وجوده يستغنى عن الشكر اللساني و لو مرة و مع عدمه لا يكفي الأخير و لو ألف مرة.

و هذه الآية المباركة تشير إلى حقيقة من الحقائق التاريخية التي وقعت في الأمم الماضية و لها شؤون في الكتب، و قد ورد ما يماثلها في العهد القديم.

و لكن ذكر بعض المفسرين: أنّها مثل لا حقيقة لها. و ذكر آخرون: أنّ المراد من الموت هو استيلاء العدو و استعمار الأقوام و استعبادهم و إزالة استقلالهم و سلب مواردهم و نهب إمكانياتهم المادية و المعنوية و أنّ المراد بالإحياء هو نهوض الأمة في إبادة الأعداء و استعادة الاستقلال إليهم و دفاعهم عن حقوقهم.

و لكن ذلك خلاف سياق الآية الشريفة فإنّها كما ذكرنا تدل على حقيقة تاريخية واقعة في الخارج و سيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق بها.

ص: 121

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من هذه الآية المباركة أمور:

الأول: ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الإنسان لا يمكنه الفرار عن مقدّرات اللّه تبارك و تعالى و أنّ الهلع لا يرد قضاءه و أنّ الواجب عليه التسليم و يشير إلى مدلول هذه الآية قوله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً [الأحزاب - 16]، فلن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم و إذا فروا فإنّهم ملاقوه لا محالة.

الثاني: لم يرد في الآية المباركة تفصيل و بيان كيفية الموت من أنّه كان جماعيا أو انفراديا في زمان محدود؟ و هل أنّهم ماتوا بسبب ما هربوا منه ؟ و لعلّ السّر في إخفاء كلّ ذلك أنّ الآية في مقام بيان أصل التسليم و أخذ العبرة من طبيعة الواقعة بأنّ الفزع و الجزع و الحذر لا يغيّر المصير أو القضاء المبرم و أنّ الصبر و الثبات و الرجوع إلى قضائه هو المتعيّن و أما جزئيات الواقعة، فهي لا تكون موضع العبرة غالبا.

الثالث: إنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ أولا: لتعدد الموضوع و هذا يقتضي الإظهار. و ثانيا:

الاهتمام بالفضل و إظهار قدرته عزّ و جل و انحصاره فيه تعالى.

ص: 122

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ : أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ فقال: إنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام و كانوا سبعين الف بيت و كان الطاعون يقع فيهم في كلّ أوان فكانوا إذا أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم و بقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا و يقلّ في الذين خرجوا، و يقول الذين خرجوا: لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت، و يقول الذين أقاموا لو كنا خرجنا لقل فينا الموت.

قال: فاجتمع رأيهم جميعا أنّه إذا وقع الطاعون فيهم و أحسّوا به خرجوا كلّهم من المدينة فلما أحسّوا بالطاعون خرجوا جميعا و تنحوا عن الطاعون حذر الموت، فساروا في البلاد ما شاء اللّه ثم إنّهم مروا بمدينة خربة قد جلا عنها أهلها و أفناهم الطاعون فنزلوا بها، فلما حطوا رحالهم و اطمأنوا بها قال لهم اللّه تعالى: موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما تلوح و كانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم و جمعوهم في موضع فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له (حزقيل) فلما رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم فعمروا بلادك و ولدوا عبادك و عبدوك مع من يعبدك من خلقك، فأوحى اللّه إليه أ فتحب ذلك ؟ قال: نعم يا ربّ ، فأحياهم اللّه فأوحى اللّه عزّ و جل إليه قل كذا و كذا فقال الذي أمره اللّه

ص: 123

عزّ و جلّ أن يقوله - فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) و هو الاسم الأعظم - فلما قال حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبّحون اللّه عزّ و جل و يكبّرونه و يهلّلونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أنّ اللّه على كلّ شيء قدير. قال عمر بن يزيد فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): فيهم نزلت هذه الآية».

أقول: سواء كان حزقيل من أوصياء بني إسرائيل كما عن بعض أو نبيا من أنبياء بني إسرائيل فإنّ له شأنا لمكان الاسم الأعظم الذي عنده، فأصل الواقعة مما لا ينكر و إنّما ذكرت في القرآن للردع عن الاعتماد على النفس من كلّ جهة و الحث على التوكل على اللّه تعالى، و للتنبيه على أنّ إرادته تعالى قاهرة و مهيمنة على ما سواه كما مرّ في الآيات السابقة و يأتي في الآيات اللاحقة إن شاء اللّه تعالى.

و عن عليّ (عليه السلام): «عند التقادير ضلت التدابير» فكم من هارب من بلية و هو واقع فيها بأشد مما فرّ منها. و أما محل الواقعة فسيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق به.

هذا، و إنّ رجلا من أمناء فرعون في مصر كان يدعى حزقيل أيضا و كان أول أمره نجارا و هو الذي سألته أم موسى (عليه السلام) أن يصنع لها تابوتا صغيرا تضع فيه ابنها الوليد ثم ألقت بوليدها في النّهر و قد حبس لسانه عند ما أراد إفشاء سرّ موسى (عليه السلام) و سيأتي في الآيات المناسبة تتمة الواقعة.

و لكن لا يخفى أنّ حزقيل النبيّ غير هذا الرجل. كما أنّه غير ذي الكفل كما توهمه بعض.

الطبرسي في الاحتجاج في حديث عن الصادق (عليه السلام) قال:

«أحيا اللّه قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم فأماتهم اللّه دهرا طويلا حتّى بليت عظامهم و تقطعت أوصالهم و صاروا ترابا فبعث اللّه في وقت أحبّ أن يري خلقه قدرته نبيا يقال له (حزقيل)، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم و رجعت فيها أرواحهم و قاموا كهيئة يوم ماتوا لا يفتقدون من أعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا».

ص: 124

أقول: قريب منه ما عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في الكافي و يستفاد من هذه الروايات أنّ المعاد عين المبتدإ كما أثبتوه في الفلسفة الإلهية. و حزقيل أي: قوة الربّ .

ص: 125

بحث تاريخي

ذكر جمهور المفسرين أنّ الآية الشريفة تشير إلى قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء فخرجوا هاربين فنزلوا واديا فأماتهم اللّه تعالى، و قد اختلفوا في القرية التي كانوا فيها فنقل عن بعضهم أنّها (داوردان) من نواحي شرقي واسط. و قيل: إنّها قرية من قرى الشام.

كما أنّهم اختلفوا في عددهم بين مقلل لهم و هو أربعة آلاف و مكثر لهم و هو ستمائة ألف.

و قد اختلفوا أيضا في مدّة موتهم، و قيل أماتهم اللّه قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم.

هذا، و لكن بعثهم كان معجزة لنبي من أنبيائهم و هو حزقيل بن يوزي ثالث أنبياء العبرانيين الكبار كان معاصرا لأرميا و دانيال في القرنين السادس و السابع قبل الميلاد، و كان من الذين ساروا إلى السّبي و هو صغير السّن و كان يخبر رفقاءه في السّبي بالأخطار و المصائب المحدقة بهم، و له سفر من أسفار التوراة تكثر فيه الرؤيا و التشابيه الشعرية و الاستعارات التي كان الغرض منها تهذيب الأسرى و توبيخهم على تذمرهم و إصرارهم على خطاياهم و دعوتهم للتوبة و تسلية للأتقياء منهم برجاء العودة إلى ديارهم و هلاك أعدائهم.

و قد وردت هذه الواقعة تقريبا في الإصحاح السابع و الثلاثين من سفر

ص: 126

حزقيال حيث ورد فيه «كانت عليّ يد الربّ فأخرجني بروح الربّ و أنزلني في وسط البقعة و هي ملآنة عظاما، و أمرّني عليها من حلوها و إذا هي كثيرة جدّا على وجه البقعة و إذا هي يابسة جدّا فقال لي: يا ابن آدم أ تحيا هذه العظام ؟ فقلت: يا سيد الرّب أنت تعلم، فقال لي: تنبّأ على هذه العظام و قل لها:

أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الربّ هكذا قال السيد الربّ لهذه العظام هانذا ادخل فيكم روحا فتحيون و أضع عليكم عصبا و أكسيكم لحما و أبسط عليكم جلدا و أجعل فيكم روحا فتحيون إنّي أنا الربّ فتنبأت كما أمرت و بين ما أتنبأ كان صوت و إذا رعش فتقاربت العظام كلّ عظم إلى عظمه و نظرت و إذا بالعصب و اللحم كساها و بسط الجلد عليها من فوق و ليس فيها روح فقال لي:

تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم و قل للروح هكذا قال السيد الربّ هلمّ يا روح من الرياح الأربع و هبّ على هؤلاء القتلى ليحيوا، فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا و قاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا».

و كيف كان فإنّ كثيرا مما ذكره المفسرون لم يقم عليه دليل معتبر و قال ابن عطية: «إنّ هذه القصص كلّها لين الأسانيد» و إنّ الآية الشريفة لم يذكر فيها الا أصل الواقعة كما عرفت.

و أكبر الظن أنّ منشأ القول في هذه الواقعة بأنّ النبيّ هو الذي دعا اللّه تعالى في بعثهم و إحيائهم ما تقدم في سفر حزقيال و أنّه صاحب رؤيا قيام العظام اليابسة و كان متأخرا عن عصر موسى بكثير.

ص: 127

سورة البقرة الآية 245

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْع.......

اشارة

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اَللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) بعد ما بيّن سبحانه أنّ الإنسان لا يمكنه الفرار من القضاء الإلهي و أنّه تعالى هو الحافظ له في الأخطار و المصائب فكان ذلك توطئة لهاتين الآيتين و هو فرض القتال، و القرض الحسن، فإنّه مع العلم بأنّ الإنسان لا ينفعه الخوف و لا الاغترار بنفسه، و أنّ الأمر كلّه بيد اللّه تعالى و لا بد من متابعته في كلّ ما ينزله ليحوز السعادة و النجاح فأمر الناس بالجهاد و التضحية في سبيل اللّه لإعلاء كلمة الحق و حرضهم على الإنفاق بأسلوب رفيع خلاّب لأنّ الدفاع عن الحق يلازم الاستعداد له و تجهيز العدة و القوة من بذل المال و يبيّن سبحانه أنّه سميع لما يصدر من الإنسان في الاعتذار عن العمل و التثبيط عن الجهاد عليم بالنيات و أنّه القابض لما ينفقه المؤمنون و إليه مرجع الجميع.

ص: 128

التفسير

244 - قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

الخطاب عام لجميع الناس و هو ظاهر في الفرض و الوجوب، و قد قيده سبحانه في المقام و غيره بكونه في سبيل اللّه، و المراد به كل ما يؤدي إليه جلّت عظمته و التقييد به ظاهر فإنّ القتال في سبيل اللّه إعلاء للحق و نشر لدين اللّه الذي فيه صلاح الإنسان، و لأنّ القتال في سبيله فيه الحياة السعيدة و الكمال الذي يطلبه الإنسان و لأنّه المحفّز على مقارعة السيوف و اقتحام الصفوف، و لئلا ينسبق إلى الذهن أنّ القتال إنّما هو لإيجاد الحكومة الدنيوية و التسلط على رقاب الناس و توسيع المملكة الظاهرية كما يدعيه خصوم الإسلام.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه تعالى سميع لا تخفى عليه المسموعات سواء كانت منكم أو من غيركم عليم بالنيات و خطرات القلوب.

و فيه تحذير عن المخالفة و تحريض إلى مراقبة النفس فلا بد من الامتثال و نبذ ما يوجب الجبن و الفتور و التعلّل بما يوجب النفاق كما كان يفعله المنافقون و اليهود فإنّ من علم بأنّ اللّه سميع لما يتعلّل به و ما يقوله في الجهاد، عليم بالنيات راقب نفسه و استعد للقتال و مبارزة الأبطال و هان عليه

ص: 129

عمل الشدائد و الصعاب و تحمّل المشاق

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صفرة في سبيل اللّه خير من حمر النّعم» أي: جوعة في سبيل اللّه.

245 - قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً .

خطاب في منتهى الفصاحة و أعلى مراتب البلاغة يتضمّن الحثّ على الإنفاق و التحريض على تقديم الخير بأسلوب رفيع يجد الفرد لذة النداء في البذل و العطاء و فيه غاية التأثير على النفوس الضعيفة يدعو الغنيّ و الفقير إلى البذل و تقديم الخير على السواء و يفتخر العاقل بالمبادرة إلى العمل بمفاده، و لذة المخاطبة تذهب كلّ مشقة و صعوبة كيف و إنّ الخطاب صادر من المالك الحقيقي و الغنيّ عن العالمين يستقرض عباده مما أنعم عليهم و يعدهم الدّفع بأضعاف مضاعفة و ما أبعد من حرم عن هذه المرابحة و ما أشد خسارة من بقي في الخسران و المخاطرة.

و من ذلك يعلم وجه تغيير الخطاب من الأمر في الآية السابقة إلى الاستفهام للتهييج و تنشيط الذهن بتغيير الخطاب و للإكبار و الاستعظام له كما هو مستعمل في كلّ أمر يراد إعظامه و يندر الإقدام عليه قال تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255].

و القرض: يأتي بمعنى القطع، لأنّ المقرض يقطع إضافة ما يقرضه عن نفسه و يربطها بالمقترض و هو على قسمين:

قرض حاجة، و هو محال بالنسبة إليه عزّ و جل لاستغنائه عن الغير بالذات و احتياج الكل إليه كذلك.

و قرض رباح، لأن يرجع المال إلى المقرض مع الربح الحلال و هو جائز بالنسبة إليه تعالى، و عليه يدور النظام المصرفي فيصرف المال المقترض في المنافع العامة ثم يرجع إلى صاحبه مع النفع، و لكن لا بد من تقييده بما إذا كان مطابقا للموازين الشرعية.

و المراد به في المقام: كلّ ما يقدّمه الإنسان من الخير الذي يرجع نفعه

ص: 130

إلى النفس أو المجتمع، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى به لبيان التنظير، و ليس المراد القرض الاصطلاحي الذي يؤخذ لرفع الحاجة و الضرورة و يشرح هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ أَقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً [المزمل - 20].

و قد اعتبر سبحانه ما يقدمه الإنسان من الخير إلى النفس أو المجتمع و ما ينفقه في سبيله قرضا لنفسه للحث و الترغيب فإنّ رغبة الإنسان إلى البذل ضعيفة في نفوس الكثيرين فلا بد فيه من الحث الأكيد و المبالغة الشديدة لقرضه تعالى، و للإرشاد إلى أنّ القرض إنّما يكون قرضا له إذا كان في سبيله و لوجهه عزّ و جلّ .

و القرض الحسن: ما كان خالصا لوجهه الكريم خاليا عن شوائب الشرك و الرياء و فاقدا للمنّ و السمعة و ما كان فيه منفعة عامة ترجع إلى الصالح العام و أن يتضمن الخير و ما يقرّبه إلى الربّ الكريم.

قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً .

جواب للطلب المؤكد في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ و يضاعفه منصوب جوابا للاستفهام و قرئ بالرفع أيضا.

و الأضعاف واحدها ضعف و هو: أداء المثل و زيادة، و منه الحديث:

«تضعف صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمسا و عشرين درجة».

و هذه الآية المباركة تؤكد ما ورد في صدرها فإنّه يدل على أنّ ما يقدمه له تعالى لا يضيع و لما كان ذلك غير كاف في الترغيب أكده بأنّ الجزاء إنّما يكون أضعافا مضاعفة كثيرة - في الدنيا و الآخرة - لا نهاية لها و لا حدّ و لا يحصي عددها إلا اللّه تعالى.

و قد ورد في آيات أخرى تحديد الجزاء تارة بالعشرة قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام - 160]، و أخرى بالسبعمائة مثل قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة - 261]، و ثالثة بقوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ - 39]، و يحمل الاختلاف على مراتب الخلوص عن الشرك و الرياء و الموانع، أو مراتب حسن النية و مراتب الانقطاع التام.

ص: 131

و قد ورد في آيات أخرى تحديد الجزاء تارة بالعشرة قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام - 160]، و أخرى بالسبعمائة مثل قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة - 261]، و ثالثة بقوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ - 39]، و يحمل الاختلاف على مراتب الخلوص عن الشرك و الرياء و الموانع، أو مراتب حسن النية و مراتب الانقطاع التام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ .

حث منه تعالى على الإنفاق و إرشاد إلى أنّ أمر الرزق بيده عزّ و جل و القبض: القتر و الضيق. و يقابله البسط. و قرئ بالصاد تفخيما للسين لمجاورته للطاء.

أي: إنّ اللّه تعالى غنيّ عن العالمين لا يضرّه منع مانع فهو الباسط للرزق و القابض له يقترّ على وفق المصلحة و الحكمة المتعالية فإنّ الأمر كلّه بيده فلا ينبغي أن يخاف المنفق الفقر بإنفاقه لأنّ بيده تعالى بسط الرزق فلا بد من اغتنام الفرصة في البذل و الإنفاق من قبل أن يضيق الرزق و يذهب المال و تبقى الحسرة.

و يمكن أن يحمل هذان اللفظان على المعنى الأعم مما قلناه و من أنّه تعالى يقبض بيده المال المنفق في الخيرات و يبسط الجزاء بيده أيضا، و يشهد له قوله تعالى: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ [التوبة - 104]، و ما ورد في السنة المقدسة من أنّ المال المنفق يصل إلى اللّه تعالى أولا ثم إلى المنفق عليه.

و إنّما ذكرهما في المقام لئلا يستبعد الجزاء العظيم الذي وعده اللّه تعالى على الإنفاق و القرض.

قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .

وعد للذين آمنوا و أنفقوا فإنّهم إليه يرجعون فيوفّيهم جزاء ما أنفقوا و وعيد للذين تركوا نهج الهدى و اتبعوا النفس الأمارة فتشتد حسرات المقتر الشحيح على ما فرط.

ص: 132

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية المباركة على أمور:

الأول: أنّ تقييد القتال بكونه في سبيل اللّه في قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ للإرشاد إلى أنّه لا بد من أن يكون الجهاد و القتال خالصا عن الأوهام المنحرفة و الأفكار السيئة و يكون لوجهه الكريم لتشييد الدّين و أركان الحق، و لبيان أنّ الجهاد في الإسلام إنّما يكون لتوسعة سلطان الحق و الدّين الذي فيه سعادة الدنيا و الآخرة، و ليس لأجل توسيع الرقعة و إيجاد السلطة الدنيوية.

الثاني: أنّ ذكر: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ في ذيل آية القتال للإعلام بشدة الاهتمام بالجهاد في الإسلام فإنّ في القتال هيجان النفس و اشتداد الغضب و ربما يقع المقاتل بسبب ذلك فيما لا يرضيه تعالى فأكد سبحانه بأنّ اللّه مراقب له في هذه الحال و حذّره عن المخالفة و النفاق.

الثالث: إنّما عبّر سبحانه بالقرض دون غيره لأنّ في القرض حفظ الرد و الجزاء و يشعر باحتياج المستقرض إلى المقرض فيكون أدعى لرفع اليد عن

ص: 133

كلّ ما يملكه و إنفاقه ابتغاء مرضاة اللّه تعالى، و إثارة العطف في قلب المؤمن على كلّ ذي حاجة وفاقة.

الرابع: إنّما عبّر سبحانه و تعالى ب: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً زيادة في التلطف و إثارة للحنان و أيّ لطف أشد منه ؟! و هو مالك السّموات و الأرض غنيّ عن العالمين يستقرض منهم بالإنفاق.

الخامس: إطلاق القرض يشمل بذل النفس و المال و المنافع و الانتفاعات بل ما يعتقده الإنسان و مكارم الأخلاق فإنّ كلّ ذلك يعتبر قرض اللّه تعالى إذا كان حسنا خالصا عن شوب النفاق و الشرك و الرياء.

السادس: تدل الآية المباركة على التوحيد العملي و الحرية في الأعمال فإنّ اللّه يستقرض عباده فهم مخيّرون في الأداء و الوفاء و أحب أن يكون حسنا لوجهه الكريم فيتجلّى التوحيد العملي على الجوانح و الجوارح.

السابع: تشمل هذه الآية الشريفة و أمثالها ما إذا كان القرض مباشريّا أو تسبيبيا فإنّ فضله الكريم يعم الجميع، و تدل على ذلك أخبار كثيرة في السنة المقدسة.

الثامن: تشمل هذه الآية ما إذا كان الإقراض في زمان الحياة أو بعد الموت فتشمل جميع الوصايا التبرعية و غيرها من الخيرات.

التاسع: لا ريب في تفاوت مراتب الإقراض من حيث الفضل و الأفضلية كما شرح ذلك في السنة المقدّسة فعموم الآية المباركة تشمل جميعها كما أنّها تشمل ما إذا اشترط المقرض الزيادة على اللّه تعالى أو لم يشترط.

العاشر: أهم ما تشمل هذه الآية قرض الجاه بجميع مراتبه خصوصا لو كان لنجاة النفوس المحترمة و كان خالصا لوجهه الكريم.

ص: 134

بحث روائي

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): ربّ زدني فأنزل اللّه تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ربّ زدني فأنزل اللّه: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً و الكثير عند اللّه لا يحصى.

أقول: قريب منه ما رواه في المعاني أيضا و لا بد أن يكون كذلك لأنّ الإضافة إليه غير محدودة بحد أبدا و إنّما التحديد يتحقق باعتبار متعلّقه و موضوعه و هو يختلف باختلاف المقاصد و النيات.

في تفسير العياشي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قال:

هي صلة الإمام (عليه السلام).

أقول: قريب منه غيره و إنّه من باب التطبيق و ذكر بعض المصاديق و قد تقدم في التفسير ما يتعلّق به أيضا.

القرطبي عن زيد بن أسلم قال: «لما نزل: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدّحداح: فداك أبي و أمي يا رسول اللّه إنّ اللّه يستقرضنا و هو غنيّ عن القرض ؟! قال (صلّى اللّه عليه و آله): نعم يريد أن يدخلكم

ص: 135

الجنة به، قال: فإنّي أقرضت ربّي قرضا يضمن لي به و لصبيتي الدحداحة معي الجنة. قال (صلّى اللّه عليه و آله): نعم، قال: فناولني يدك فناوله رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يده فقال: إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة و الاخرى بالعالية، و اللّه لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا للّه تعالى. قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): اجعل إحديهما للّه و الأخرى دعها معيشة لك و لعيالك. قال: فأشهدك يا رسول اللّه أنّي قد جعلت خيرهما للّه تعالى و هو حائط فيه ستمائة نخلة قال (صلّى اللّه عليه و آله): إذا يجزيك اللّه به الجنة.

فانطلق أبو الدحداح حتّى جاء أم الدحداح و هي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل. فأنشأ يقول:

هداك ربّي سبل الرشاد * إلى سبيل الخير و السداد يبني من الحائط بالوداد * فقد مضى قرضا إلى التناد أقرضته اللّه على اعتمادي * بالطوع لا منّا و لا ارتداد إلا رجاء الضّعف في المعاد * فارتحلي بالنفس و الأولاد و البر لا شك فخير زاد * قدّمه المرء إلى المعاد قالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك اللّه لك في ما اشتريت ثم أجابته أم الدحداح و أنشأت تقول:

بشّرك اللّه بخير و فرح * مثلك أدّى ما لديه و نصح قد متع اللّه عيالي و منح * بالعجوة السوداء و الزهو البلح و العبد يسعى و له ما قد كدح * طول الليالي و عليه ما اجترح ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم و تنفض ما في أكمامهم حتّى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): كم من عذق رداح و دار فياح لأبي الدحداح».

أقول: روي ذلك بطرق متعددة و في بعضها قال (صلّى اللّه عليه و آله):

ص: 136

«كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة» و يدل عليه قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ و أما أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، بإبقاء إحدى الحديقتين على ملك أبي الدحداح لأنّ البذل على العيال أيضا صدقة للّه لئلا يصير أبو الدّحداح عالة على الغير و ذلك مذموم في الشرع المقدس.

ص: 137

بحث عرفاني

تقدم أنّ اللّه جلّ جلاله محيط بما سواه إحاطة واقعية قيوميّة بالقدرة التامة و الحكمة البالغة و العلم الأكمل الأتم لا يعزب عنه شيء في السّموات و لا في الأرض، و من أهم جهات إحاطته السلطة على كلّ ما يضاف إليه عزّ و جل و لا يعقل بينونة عزلة له مع خلقه.

فسبيل اللّه تعالى لا بد أن يرجع إلى علمه و حكمته و هما عين ذاته الأقدس بالوجود العلمي الواقعي، و إن كان بالوجود الخارجي قتل العدو أو الظالم أو المنافق أو الكافر، و إماطة الأذى عن طريق العابر فإنّ كلّ ذلك من سبيله عزّ و جل بالوجود العلمي و إن كان فعلا خارجيا للعبد و الجزاء على ذلك كلّه من شؤون ذاته المقدّسة لأنّه يرجع إلى رحمته و هي من صفات الذات و كيف تعقل غفلته تعالى عن ذلك لا سيّما في مثل هذه الحياة التي لا يمكن درك حقيقتها، و استقراض هذا الحيّ القيوم و القبض و البسط بالنسبة إليه.

و كذا جميع ما يتعلق به من أهم جهات رحمته و حنانه و حكمته و كل ذلك من صفات الذات و جامعيته لتلك الكمالات غير المتناهية فلا بد أن يكون المتوجه إلى اللّه تعالى متوجها إلى هذه الجهات، فإنّه لا يفني نفسه بالقتال و لا ينعدم عنه المال بل يتحوّل في جميع ذلك إلى أحسن الأحوال و ينكشف عنه الغطاء و يرى ذلك في الحال و المال. و قد أخبر سبحانه و تعالى أنّ الكلّ يرجع إليه بجميع شؤونه و حيثياته لفرض كون مبدإ عملهم منه و هو تعالى هو المبدئ المعيد فلا بد في قوس الصعود من رجوع الشيء إلى مبدئه.

ص: 138

سورة البقرة الآية 246-252

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ قالَ .......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (246) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ قالَ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اَللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ (249) وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ وَ لكِنَّ اَللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (252)

ص: 139

الآيات الشريفة نزلت عقيب الأمر بالقتال و الترغيب إلى القرض الحسن و بذل النفس و المال في سبيل اللّه تعالى و إقامة الحق و تبيّن موردا خاصا مما يمكن أن ينطبق عليه ما ورد في الآيتين السابقتين من جميع الجهات التي بينها سبحانه و تعالى.

فترشد الآيات المباركة إلى ما للقتال من الدخل في النظام الاجتماعي و التربوي و الديني، و ما يترتب عليه من السعادة إن كان في سبيل اللّه تعالى و الدفاع عن الحق و هي تبيّن الشروط التي لا بد من توفرها في متولّي الأمر و هي العلم و الصحة و الإيمان و بعض الصفات التي لا بد من أن تتحلّى بها الأمة و هي الإيمان و الجرأة و التوكل و عدم مخالفة القائد و نبذ الضعف و الجبن.

و بيّن سبحانه أنّ باجتماع تلك الشروط و الصفات تتحقق السعادة و الوصول إلى الكمال و القرب إلى التأييد الإلهي و النصر.

و هذا الذي ذكره سبحانه هو قصة قوم من بني إسرائيل طلبوا من نبيّ لهم أن يبعث لهم قائدا يقودهم إلى الدفاع عن النفس و الرجوع إلى الوطن و الأهل بعد أن اجتمع رأيهم على ذلك و قد وعدهم نبيهم بالنصر إن هم وفوا بما عاهدوا عليه، و لكن وهن عزمهم و انفسخت إرادتهم و انعدم فيهم الثبات و الاستقامة إلا قليلا منهم ممن ألهمهم اللّه تعالى الرشد و الصواب فبلغوا النصر.

و إنّما ذكر سبحانه هذه القصة، ليعتبر بها من بعدهم من الأمم و يسيروا على هدى القرآن حتّى يصلوا إلى ما كتبه لهم من النصر و السعادة.

و قد ذكر سبحانه في هذه الآيات كل ما له دخل في القيادة الصحيحة و النظام الاجتماعي السعيد.

ص: 140

التفسير

246 - قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى .

الملأ اسم جمع لجماعة من الناس يجتمعون على أمر و لا واحد له من لفظه كلفظ القوم، سموا بذلك لأنّهم يملؤون العيون منظرا و النفوس عظمة و بهاء.

و بعبارة أخرى: الجمع المعني بهم الناس.

و يأتي بمعنى الخلق و منه الحديث لما ازدحم الناس على الميضاة:

«أحسنوا الملأ فكلكم سيروى» أي أحسنوا خلقكم.

و هذا اللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النحل - 29]، و قال تعالى: إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص - 20]، و قال تعالى: وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص - 38]، و هو من الأمور الإضافية فإنّ لكلّ قوم ملأ و لكل ملإ رأيا.

و تقدم الكلام في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ .

و المراد به: ألم تعلم قصة هؤلاء الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى (عليه السلام).

ص: 141

قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

المراد ببعث الملك: إقامته فيهم و إمارته عليهم. أي: طلبوا من نبيّ لهم أن يقيم فيهم ملكا و أميرا تصدر الناس عن رأيه في السلم و الحرب و النظام يقاتلون تحت لوائه في سبيل اللّه.

و قد اختلف المفسرون في اسم هذا النبيّ فقيل: إنّه أرميا النبي. و قيل:

إنّه يوشع بن نون. و قيل: إنّه شمعون.

و لكن جميع ذلك لا يمكن المساعدة عليه فإنّ أرميا معاصر لنبوخذ نصّر و سبي بابل و بينه و بين ما ورد في الآية الشريفة زمان طويل يقارب أربعمائة سنة و تسعة أجيال. و أما يوشع بن نون فهو فتى موسى و هو يخالف صريح الآية التي ذكر فيها أنّها كانت بعد موت موسى. و أما شمعون فإن كان هو ابن يعقوب فهو باطل و إن كان غيره فلم يعلم من هو هذا.

و لكن المشهور أنّه اشموئيل الذي هو معرب صموئيل المذكور في التوراة و كتب التاريخ و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و في مجمع البيان و هو بالعربية إسماعيل و ذكره المحاسبي أيضا هذا و لكن ذكر شيخنا البلاغي (قدس سرّه) أنّ فيه منعا فإنّ إسماعيل في العبرانية (يشمع إيل).

و كيف كان فإنّ طلبهم من نبيهم كان بعد تسلط الملك الجبار عليهم و نالوا منه الذلة و الهوان و التشريد عن الديار و الأهل فطلبوا منه الجهاد.

و المستفاد من سياق الآية الشريفة و ذيلها وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ أنّ السبب في ذلك ظلمهم، فإنّهم عملوا المعاصي و أظهروا الخطايا و الأحداث المغيّرة للدّين، فسلّط اللّه تعالى عليهم من ينتقم ذلك منهم فأخرجهم من ديارهم و أبنائهم، فتوسّلوا في ذلك إلى نبيّ لهم ليجاهدوا مع الجائرين.

و الملك الذي سلّطه اللّه عليهم هو جالوت الذي تملكهم و سار فيهم بما أوجب فقد استقلالهم في الحياة و إخراجهم من الديار و بعدهم عن الأهل

ص: 142

و الأبناء حتّى بلغ بهم الأمر أن تيقظت فيهم روح العصبية فطلبوا من نبيهم أن يبعث فيهم ملكا يسيرون تحت لوائه و يقاتلون معه في سبيل اللّه، و يستفاد ذلك ممّا ورد في التوراة أيضا كما يأتي في البحث التاريخي.

قوله تعالى: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا .

عسيتم - بفتح السين - و هي القراءة المشهورة و قرئ شاذا بالكسر.

و المراد بها في المقام: الإشفاق في المكروه أي: هل أتوقع منكم الجبن و التولّي في القتال إذا كتب عليكم.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ الأمر ليس بيد النبيّ الذي طلبوا منه الملك، بل أوكل الأمر إلى اللّه تعالى و لم يصرّح باسمه عزّ و جل تعظيما، لأنّ ما أوجب سؤالهم و هو المخالفة كانت مرجوة منهم و لذا ورد الخطاب على نحو الاستفهام و فيه إيماء إلى تولّيهم عن القتال و إنكارهم بعد ذلك لما ذكروه و تعهدوا به و إتمام للحجة عليهم. و الآية في كمال الفصاحة و البلاغة.

قوله تعالى: وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا .

أي: و ما يمنعنا من القتال و قد أخرجنا من الوطن و بعدنا عن الأهل و الأولاد، و الإخراج من الديار يوجب ذهاب الاستقلال و الوهن في العزيمة و المنع عن التمتع بملاذ الدنيا فقد كنّى سبحانه و تعالى عن جميع ذلك بالإخراج.

و ألاّ: هي أن المصدرية و لا النافية كما ذكر في العلوم الأدبية.

و قد ذكر في الآية الشريفة سببان للقتال:

أولهما: كونه في سبيل اللّه و أنّه دفاع عن الحق و العقيدة و هذا أهمّ دافع في الجهاد.

الثاني: الظلم عليهم بإخراجهم من الديار و البعد عن الأولاد و منعهم عن

ص: 143

التمتع بضروب الحياة فلا عذر بعد ذلك في ترك القتال و لا سبب عقليّ يتصوّر في الجبن و التولّي.

قوله تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .

التولّي: هو ترك العمل بالتكاليف بلا عذر.

أي: فلما فرض عليهم القتال و بعث الملك لهم بسؤال النبي من اللّه تعالى أعرضوا و تخاذلوا و جبنت نفوسهم لما رأوا العدوّ و فترت عزائمهم الا قليلا منهم ثبتوا على ما عاهدوا عليه و استمرت عزائمهم على القتال في سبيل اللّه تعالى.

و يستفاد من هذه الآية: أنّ إشفاق النبي عليهم في المخالفة لأجل أنّهم كانوا أهل الدّعة و العيش الرغيد و قد طلبوا الحرب بعد أن ثارت في نفوسهم الحمية الوقتية و أنفت نفوسهم من الظلم و لم يكن عن عقيدة راسخة، و التجربة تقضي بأنّ كلّ من كان كذلك يفتر عند الحرب و ينقاد إلى الطبع حين الشدة.

أو كان عن وحي من اللّه تعالى إليه بأنّهم سيتولّون عن القتال.

و كيف كان ففي الآية المباركة العبرة العظيمة و الإرشاد إلى الثبات و الاستقامة على العهد و الذمام و عدم الاغترار بالنفس في هيجانها و حماسها و لكنّها في الواقع لم تكن مستعدة و لم يثبت العزم فيها و إلى ذلك يشير

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تتمنّوا لقاء العدوّ و سلوا اللّه العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا».

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ .

أي: و اللّه يعلم بالذين ظلموا من قبل ذلك، و الظلم ينطبق على التولّي عن أوامر اللّه تعالى و هو يوجب استحقاق العقاب عقلا، فهذه الآية الشريفة تفيد قضية عقلية مشتملة على العلة و المعلول أي: يجازيهم على ظلمهم لأنّه تعالى عالم بصدور ذلك منهم باختيارهم فتمت الحجة عليهم باستحقاقهم العقاب، و تسمّى مثل هذه القضية في علم الفلسفة بالقضايا التي قياساتها معها.

ص: 144

247 - قوله تعالى: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً .

طالوت: هو من ملوك بني إسرائيل و يدعى المختار، لأنّه اختاره اللّه تعالى ملكا عليهم، ليجمعهم تحت سلطة واحدة و يمنعهم عن أعدائهم.

و كان أطول من سائر الناس من كتفه فما فوق و ذلك من المحاسن المأثورة لدى العبرانيين، ففي سفر صموئيل الأول: «من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب» و لعلّه لذلك سمّي في القرآن الكريم بهذا الاسم و إلاّ فإنّه يدعى في كتب التاريخ و العهد العتيق ب (شاءول).

و هو ممنوع من الصّرف للتعريف و العجمة.

و في نسبة البعث إلى اللّه تعالى و تأكيده تنبيه لهم بأنّ اختيار الملك و إقامته إنّما يكون من اللّه تعالى و إرشاد لهم بأنّ الطلب لا بد أن يكون منه عزّ و جل و إن كان بواسطة النبي.

قوله تعالى: قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ .

أنّى: أداة استفهام للسؤال عن الحال و المكان، و هي تدل على تحيّرهم في اختياره ملكا عليهم مع أنّ الملك بزعمهم يجب أن يكون من بيت الشّرف و العزّة و أن يكون واسع المال، و لم يتوفر في طالوت ذلك فكان سببا في اعتراضهم على هذا الاختيار.

و لا يختص ما زعموه بهم، بل كلّ ملإ إذا أعرض عن الحقيقة و غفل عن قضاء اللّه و قدره و اقتصر على المحسوس الظاهر يذعن بأمور هي مخالفة للواقع، ففي المقام إنّهم اقتصروا على الظاهر و ما اعتاد عليه الناس من أنّ الملك إنّما يكون ملكا إذا كان شريفا من بيت العزّ و الشرف ذا مال يمكنه أن يؤسس ملكه عليه و يديره به و هما كانا منتفيين في طالوت و لذا اعترضوا على اختياره.

و قال بعض المفسرين: إنّ سبب إنكارهم أنّهم كانوا من أولاد لاوي أو

ص: 145

بهوذا اللذين اجتمع فيهما النبوة و الملك و طالوت كان من أولاد بنيامين و أنّه كان فقيرا معدما.

و لكن ذلك غير صحيح:

أما الأول: فإنّ طالوت كان من أولاد شمعون كما في سفر التكوين - 9/46 أو من بني قهات كما في سفر أخبار الأيام الأول الإصحاح السادس:

34 و لم يكن من أولاد بنيامين بل هذا هو بولس الرسول الذي كان اسمه شاءول أيضا كما هو مذكور في كتب التاريخ و سيأتي في البحث التاريخي مزيد بيان لذلك.

كما أنّ الملوكية لم تكن في بني إسرائيل قبل طالوت و هو أول ملك فيهم فكيف كانت في أولاد يهوذا.

و أما الثاني: فإنّ المذكور في كتب التاريخ أنّه لم يكن فقيرا معدما بل حصل جانبا من ثروة أبيه و ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّه لم يكن واسع المال و هو أعم من الفقر، و أنّهم أحق بالملك لأنّهم الملأ من بني إسرائيل أصحاب عزّة و شرف و قد جبّل في نفوسهم إنكار من لم يكن مثلهم في العزّة و الشرف و الغنى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ .

الاصطفاء: الاختيار أي: اختاره لتدبير شؤونكم و إصلاح أموركم و تحقيق طلباتكم.

و يستفاد منه: أنّ الملوكية مزية خاصة يجعلها اللّه تعالى في بعض الأفراد لما فيه من الاستعداد و القابلية للتصدي لها. و فيه رد لمزاعمهم و أنّ الفضل ما فضله اللّه تعالى و الشريف من شرّفه عزّ و جل. و الملك هبة ربانية و منحة إلهية يمنحها لبعض عباده و لو كان خاملا حسب الحكمة المتعالية.

قوله تعالى: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ .

البسطة: السعة، أي: أعطاه اللّه سعة في العلم و عظم الجسم و هما

ص: 146

صفتان ينبغي وجودهما في كلّ ملك و قائد، فإنّ بالأول يدير النظم و يدبر الأمور و هما يتطلبان معرفة المصالح و المفاسد و العلم بخصوصيات الإدارة فإنّ الملك عبارة عن تدبير الرعية و استقرار السلطة عليهم بما يوجب وصولهم إلى الكمال اللائق بهم.

و بالثاني يمكن بسط نفوذه و هيبته في المجتمع و تحقيق إرادته و سلطته و هذه الآية تشير إلى ما هو القوام في كلّ ملك و رأي من العلم و الشجاعة و أحدهما مكمّل للآخر فإنّ بالأول تساس الرعية بالصلاح و بالأخير يجلب الأمن و الأمان في البلاد.

و من ذلك يستفاد: أنّه لا دخل للمال و لا الشرف في الملك بل الملوكية الحقة تستلزم إيجاد المال لتدبير الملك.

قوله تعالى: يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ .

حصر للملكية به تعالى وحده و بيان أنّ جميع المناصب الدنيوية تحت مشيته المباركة و إرادته المقدسة، فهو الذي يفيض الملك على من يشاء و يمنعه عمن يشاء و ليس لأحد الاعتراض عليه فهو السبب المطلق، و تبيّن ذلك عدة آيات منها قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [آل عمران - 26].

فلا يمكن أن ينال الملك بالمكر و الحيلة و الخديعة و الكذب، فإنّ الخلق عباد اللّه و لا يرضى لعباده ذلك.

هذا إذا كان الملك من قبل اللّه تعالى لأوليائه و أصفيائه قال تعالى:

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ [القصص - 68]، و أما الملك الظاهري الدنيوي فإنّه أمر اعتباري يدور مدار تحقق أسبابه و لكنّه أيضا لا بد أن ينتهي إلى قضاء اللّه و قدره اللذين يعمان كلّ ممكن و لكن رضاه و ارتضاءه أخص منهما.

و هذه الإرادة و المشيئة و إن كانت مطلقة إلا أنّه تعالى لا يفعل ذلك

ص: 147

جزافا من غير حكمة بل هو الحكيم العليم يفعل وفق الحكمة المتعالية يراعي في أفعاله صلاح العباد و كمالهم و يدل على ذلك أيضا عدة آيات.

كما لا يفيض فيضا على أحد إلا بالأسباب الظاهرية فإنّه تعالى:

«أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها» و تشهد لذلك الأدلة العقلية، و لهذا اعتبر سبحانه في الملك البسطة في العلم و الجسم و هو الموفق بتسخير الأسباب له.

فالآية بصدرها و ذيلها تبيّن أهم القواعد في النظام الأحسن فهو المفيض المطلق على العباد بما يرجع إلى مصالحهم و لكن الإفاضة لا تكون إلا بالأسباب الظاهرية لئلا يختل النظام و يعطل الإنسان عن العمل و يبطل قانون الجزاء.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه واسع في الفضل و التصرف و القدرة إذا شاء أمرا يقع لا محالة و لا يمنعه شيء.

عليم بوجوه الحكمة يفعل بما تقتضيه الحكمة في كلّ مقام.

و الواسع من أسمائه الحسنى يستعمل في كلّ جهاته المتصوّرة فيه جل شأنه ذاتا و صفة و فعلا و لهذا اللفظ سعة استعمالية يستعمل في الواجب و الممكن الجوهر و العرض. و إذا أطلق عليه سبحانه و تعالى يراد به أنّه ليس له حد محدود.

و قد قرن لفظ (واسع) بالعلم في عدة آيات، و لعله كناية عن السعة العلمية لجميع ما سواه و يستلزم ذلك السعة الوجودية و الغناء عن كلّ شيء و احتياج الكلّ إليه أي: فوق ما نتعقله من معنى السعة لأنّ العلم عين الذات فإذا كان للذات سعة فيكون العلم كذلك، و لكن لا يمكن درك هذه السعة.

فكما أنّ أسماء اللّه المقدسة توقيفية لا بد في إطلاقها عليه جل شأنه من ورود الإذن من الشرع و ليس لأحد استعمال كلّ لفظ فيه جلّت عظمته و إن كان مدحا، فكذلك المعاني في تلك الأسماء الواصلة إلينا من الكتاب و السنة

ص: 148

المقدّسة و ليس للعقول تحديدها بما تتعقّلها فهو جلّت عظمته واسع في جميع شؤونه و جهاته فوق ما نتعقله من معنى السعة و لهذا كان الأولى تحديدها بالمعنى السلبي أي: لا يحده و لا يعجزه شيء. و إنّما التحديد يكون في المتعلّق. و لا نقص في العقل إن عجز عن درك ذلك بل كمال العقل الاعتراف بالتقصير و العجز أمام عظمته و كبريائه تعالى.

248 - قوله تعالى: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ .

الآية: هي العلامة الظاهرة و الحجة المعروفة الدامغة. و التابوت:

صندوق من الخشب يوضع فيه ما يراد حفظه و ستره.

و هذا التابوت كان له شأن كبير في بني إسرائيل، و قد وصفه العهد العتيق بأوصاف متعدّدة غريبة و يستفاد منه أنّ له أصلا أصيلا و موقعا محترما لدى الأنبياء بل كانت أمة موسى (عليه السلام) يتبركون به و يتوسلون إليه في الشدائد و يغلبون به على أعدائهم.

و يقال: إنّه الصندوق الذي وضعت أم موسى ابنها فيه بعد ولادته و ألقته في اليمّ بوحي من اللّه تعالى كما حكى اللّه قصتها في القرآن الكريم.

و روي أنّ بني إسرائيل كانوا في مأمن به من الأخطار و الشدائد تحترمهم الأمم و الشعوب ما داموا مهتمّين باحترام التابوت و تعظيمه و بقدر احترامهم تلك الآية الربانية كانوا معزّزين محترمين حتّى عصوا و استخفوا به فغلبوا على أمرهم و انتزع منهم فوقع فيهم الأحداث و تشتت جمعهم ثم رده اللّه تعالى إليهم تحمله الملائكة.

و ذكر بعض المفسرين: أنّ الأصل في هذا التابوت النزعة الوثنية التي كانت عند بني إسرائيل التي عرفوها من أيام المصريين الوثنيين.

و لكن ذلك باطل نشأ من الجهل بالتاريخ، بل المستفاد من الأدلة الواصلة إلينا أنّ التابوت من المقدسات الدينية التي كانت محترمة حتّى عند الأنبياء كغلاف المصحف الشريف الذي هو مقدّس عند المسلمين لكونه حاويا

ص: 149

لأعلى المعارف الإلهية و أسناها و كل مقدّس ديني - كالحجر الأسود مثلا - إذا استهين به يرفعه اللّه تعالى بلا فرق بين أمة و أمة أخرى، و لم يلاق المسلمون ما لا قوه إلا من جهة استهانتهم بالقرآن الكريم و ما أنزله اللّه تعالى

و قد ورد في بعض الأخبار «لتتبعنّ سنن من قبلكم باعا فباعا حتّى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» و تشهد به التجربة أيضا و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بالتابوت.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بما احتج به نبيهم عليهم فجعل لهم علامة تدل على أنّ طالوت مختار من قبل اللّه تعالى و مؤيد منه و ستتحقق به أمانيهم و ترد إليهم عزّتهم و شوكتهم و وحدتهم فيكون التابوت من أدلة صدق ذلك الملك كما هو كذلك في جميع الدّعاوى، لأنّ نسبة التابوت في أمة موسى (عليه السلام) كنسبة المقدّسات الدينية في سائر الأديان السّماوية فإذا ظهر على يد أحد و هو يعمل بما فيه يكون ذلك دليلا على صدقه.

قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ .

السكينة: من السكون، و يراد منها ما تسكن إليه النفس فقد تكون موهبة ربانية كالحكمة توجب سكون النفس و قوة العزيمة تنبث على الجوارح و الجوانح فتصدر الأفعال و الأعمال وفق الحكمة و الشريعة قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح - 4].

و قد تكون السكينة مكتسبة مما أنزله اللّه تعالى من الأحكام و المعارف، لأنّها توافق الفطرة فتطمئنّ النفس إليها و تبتعد عن الاضطراب و الشكوك و الأوهام.

و كان التابوت يشتمل على ألواح موسى (عليه السلام) و ما أنزل اللّه تعالى على أنبياء بني إسرائيل و قد رأوا منه العجائب و الغرائب في حياتهم في سلمهم و حربهم، فأوجب فيهم السكينة و اطمينان القلب و ربط الجأش و غيرها

ص: 150

من الصّفات الحميدة و ما ورد في الروايات من أنّ فيها ريحا هفافة من الجنّة كلّها مصاديق و إشارات إلى ما يوجب السكون.

و لا ريب في أنّ هذه السكينة بأيّ معنى أخذت تشتمل على لطيفة ربانية هي معجزة، فتكون بمنزلة الروح بالنسبة إلى الأجساد كما يسمّى القرآن و الوحي السّماوي روحا قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى - 52]، و قال تعالى:

رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاقِ [المؤمن - 15]، و إدراك هذا الرّوح يختص بمن كان مؤمنا له الأهلية لذلك، و هذا هو المستفاد مما وصل إلينا من النصوص.

قوله تعالى: وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ .

آل الرجل: خاصته، و يطلق على الفرد تعظيما كإطلاق الأمة عليه. و آل موسى و آل هارون نفسهما و من يتبعهما في العمل بما أتيا به، و هذا الإطلاق صحيح لا ريب فيه.

و بقية آل موسى و آل هارون: تشمل البقايا الجسمانية و المعنوية و آثار النبوة كعصا موسى و بعض ثياب الأنبياء (عليهم السلام) التي كانوا فيها يعبدون اللّه تعالى و يجاهدون في سبيله عزّ و جل لإزالة الشرك و العدوان و الألواح و غيرها من الآيات.

و هي موجودة كسائر آثار الأنبياء (عليهم السلام) و لا تقدر الطبيعة على إزالتها و فنائها و إنّها باقية مدى الدّهر و ستظهر إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ .

جملة حالية من يأتيكم. و هي تدل على أهمية التابوت و عظمته و فيها إشارة إلى أنّ التابوت بمكان من القداسة لا يليق بكلّ يد أن تلمسه لما فيه من السّكينة من اللّه فإنّه لا يمسّه إلا المطهّرون من الأقذار المعنوية و الظاهرية لا سيّما في شريعة موسى (عليه السلام) التي بنيت على التشديد و لذلك كانت

ص: 151

تحمله الملائكة و لم يكن أحد يرى الملائكة إلا أنبياء اللّه تعالى و أصفياؤه و هم الأقلون.

و قد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية الشريفة ما لا يليق بكلام اللّه تعالى و قداسة هذه المأثرة النبوية الخالدة فإنّ أغلب ما ذكروه هو من الإسرائيليات التي وردت في العهد القديم و هي غير سليمة من التحريف.

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

أي: إنّ في الإخبار بأنّ طالوت جعل ملكا و إتيانه بالتابوت الذي فيه السكينة و آثار النبوة و غير ذلك علامة مشخصة على أنّه منصوب من اللّه تعالى إن كنتم من المؤمنين باللّه و آياته لا من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فإنّهم لا تنفعهم آيات اللّه تعالى و دلائله، إذ المنافق عرف بالجحود و اللجاج فلا ينفعه البرهان و الاحتجاج.

و في الآية الشريفة دلالة على أنّهم سألوا نبيّهم الآية على صدق دعواه.

249 - قوله تعالى: فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي .

فصل الجنود: إخراجهم عن مقرهم و السير إلى الحرب. و الفصل يأتي بمعنى القطع و المفارقة و منه قوله تعالى: وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفاصِلِينَ [الأنعام - 57]، كما أنّ منه مفارقة المكان قال تعالى: وَ لَمّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ [يوسف - 94]، و منه الفصل المعروف في العلوم لانقطاع ما قبلها عما بعدها.

و الجنود جمع جند و هو: بمعنى المجتمع القوي من كلّ شيء، و سمي العسكر به لتزاحم الأفراد فيه و قوتهم. و في الكلمة دلالة على كثرة عددهم.

و الابتلاء: الاختبار قال تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة - 124].

و النّهر: مجرى الماء الفائض و جمعه أنهار، و النّهر - بفتحتين - لغة في النهر بالفتح و السكون، و النّهار: الوقت الذي ينتشر فيه الضوء، فالفيضان

ص: 152

و الانتشار مأخوذ فيهما لكن الأول في الماء و الثاني في النور.

و الشرب معلوم: و هو تناول الماء بالفم و بلعه.

و المعنى: فلما ملك طالوت و جنّد جنوده من بني إسرائيل خرج بهم عن معسكرهم و قال لهم: إنّ اللّه يمتحنكم في طريقكم بنهر ليبين المطيع من العاصي.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ بني إسرائيل بعد أخذ المواثيق من نبيهم وفوا بما قاله لهم و اتخذوا طالوت ملكا عليهم فنظّم الجنود و رتبهم حسب درجاتهم و مراتبهم و استعرضهم ليعرف مقدار استعدادهم و أرشدهم إلى الحقّ و اختبرهم، لمعرفة الرّوح المعنوية فيهم و تمييز الثابت على إيمانه و الحافظ لذمامه عن غيره.

و أضاف الاختبار إلى اللّه تعالى ليعظم ذلك في قلوبهم، و لأنّه ولي الجميع و من عنده النصر و الظفر، و كان إبلاغ الاختبار قبل وقته لتتم الحجة به عليهم، و لا بد أن تكون الظروف و الحالات هي التي أوجبت أن يكون الاختبار بالشرب من النهر حتّى يكون مناسبا لحالهم، و قد ورد في التاريخ:

أنّهم كانوا في مفازة و كان الوقت حارا فشكوا قلة الماء فابتلاهم اللّه بالنهر و شرب الماء منه، كما هو مذكور في الآية الشريفة.

و يمكن أن يكون المرشد له إلى هذه الأمور هو النبي الذي نصبه ملكا على بني إسرائيل، و يدل عليه قوله تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي لأنّ مخالفة الأمر توجب سلب الانتساب عن المخالف فيسلك حينئذ في مسلك العدو.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي .

الطعم: تناول الغذاء و نسبته إلى الطاعم كنسبة الأكل إلى الآكل، و قد يطلق على ما يتناول أيضا قال تعالى: وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ [المائدة - 96]، و يطلق الطعام على البرّ كثيرا كما في الاستعمالات الفصيحة

ففي

ص: 153

الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في صدقة الفطرة: «صاع من طعام أو شعير».

و تستعمل المادة في شرب الماء على الطعام إما لأجل التغليب أو لأجل أنّ طعم الماء لا يدرك غالبا إلا في هذه الحالة، و قد أطلق على ماء زمزم أيضا

كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّه طعام طعم و شفاء سقم».

و لا يختص الطعام بالجسمانيات بل يشمل المعنويات أيضا،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي فيطعمني و يسقيني ربّي»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام و الشراب، فإنّ اللّه يطعمهم و يسقيهم»

و قد ورد في تفسير قوله تعالى:

فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عبس - 24]، أي: إلى علمه عمّن يأخذه.

و المراد به في المقام: الذوق، أي: و من لم يذقه فإنّه من أصحابي و سيكون معي.

قوله تعالى: إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ .

الغرفة - بالضم -: المقدار الذي يتجمع في الكف، و الاغتراف: الأخذ من المائع باليد و نحوها، و الاستثناء من الشرب، فيكون المنهي عنه هو الشرب بحيث يرتوي الشارب إلا من أخذ غرفة بيده.

و الآية تدل على أنّ الامتحان كان بالشرب بحيث يرتوي من الماء فالذين شربوا منهم كذلك هم الخارجون الذين تبرأ منهم، و من لم يشرب كذلك كان من المؤمنين المطيعين و هذا القسم على درجات في الصبر فمنهم من لم يتذوق الماء أصلا و هم على أكمل و أعلى درجات الإخلاص و الاعتماد على اللّه تعالى، و منهم من اغترف الماء بيده فقط و هم أدنى من الطائفة السابقة في الإيمان و الصّبر.

قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً .

أي: فخرج أكثرهم من الابتلاء عاصين إلا قليلا منهم وفوا بما عاهدوا

ص: 154

اللّه عليه و قد ثبت فيهم الإيمان و هذه الطائفة قليلون في كلّ عصر، و لا بد أن يجتاز الإنسان الامتحان ليعرف المؤمن الخالص عن غيره قال تعالى: الم أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكاذِبِينَ [العنكبوت - 3]، فليس كلّ من يدّعي الإيمان يكون صادقا في إيمانه إلا إذا خرج من الامتحان الإلهيّ مطيعا ثابتا. و امتحاناته تبارك و تعالى كثيرة لا حدّ لها و لا حصر يمتحن بها عباده حسب الاستعداد و مراتب الإيمان.

و اختلفوا في عدد الذين ثبتوا معه و المروي أنّ عددهم كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و يأتي في البحث الروائي ما يتعلّق به.

قوله تعالى: فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ .

الطاقة: القوة و القدرة. و جالوت هو القائد الفلسطيني المشرك الذي أذل اليهود و أخرجهم من ديارهم و الضمير في (جاوزه) يرجع إلى النّهر.

و الجواز: التخطي و المفارقة عن المكان قال تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ [يونس - 90].

أي: فلمّا تخطّى طالوت و جنوده المؤمنون به النّهر قال بعضهم لبعض:

لا قدرة لنا على محاربة جالوت و جنوده لكثرة عددهم و عدتهم.

و يستفاد من تعقيب هذه الآية بعد الامتحان بالكيفية السابقة أنّ المغترفين هم الذين قالوا هذا الكلام لأنّهم لم يكونوا على اليقين الذي عليه الطائفة التي لم تطعم الماء أبدا.

قوله تعالى: قالَ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اَللّهِ .

الظن يستعمل في القرآن الكريم بمعنى اليقين، و بمعنى مطلق الرجحان، و بمعنى الوهم، و الفارق القرائن و تقدم في آية (46) ما يرتبط بالمقام.

ص: 155

و قيل: إن استعمل مع (أنّ ) المؤكدة يكون بمعنى اليقين، و يمكن أن يكون ذلك قرينة.

و هو في المقام: بمعنى اليقين، و القرينة على ذلك ملاقاة اللّه تعالى أي: غلبهم الشوق إلى لقاء اللّه تعالى و استيقنوا بالموت الذي يرفع به الحجاب عنهم و عن ملاقاة ربّهم فيجازيهم.

و هذه هي الطائفة التي لم تطعم من الماء و لم يغترفوا منه.

قوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ .

الفئة: الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض.

و الإذن بالنسبة إليه عزّ و جل: يستعمل في العلم و القدرة و الإرادة، و الأولان من صفات الذات و الأخيرة من صفات الفعل، فيستعمل الإذن في كلّ من صفات الذات و صفات الفعل و إن كان استعماله في الإرادة أغلب.

و العلم و القدرة و الحكمة و إن كانت مفاهيم مختلفة لكنها بالنسبة إليه تعالى ترجع إلى شيء واحد، لأنّ علمه جلّ شأنه عين ذاته الأقدس، و قدرته العليا ترجع إلى علمه و كذا الحكمة، و أما إرادته فإنّها عين فعله و الفعل منبعث عن العلم و الحكمة، فيرجع الجميع إلى شيء واحد، و الفرق بينها في القرآن العظيم يستفاد من القرائن التي منها سياق الآية المباركة بملاحظتها مع نظائرها.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ كثرة الجنود أو القوى الدافعة ليست بأنفسها منشأ للغلبة، بل هي من بعض الأسباب الظاهرية و السبب الحقيقي إرادة اللّه جلّت عظمته، و الأدلة العقلية و النقلية، بل التجربة تدل على ذلك، و في الكلام احتجاج على الخصم لإقناعه ببيان بعض المصاديق.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ .

وعد منه عزّ و جل بالمعية مع الصابرين، و هذه المعيّة معيّة قيّومية لا يعقل معها الهزيمة فإنّها من الخلف.

ص: 156

و فيه بشارة للصابرين بالجزاء الجميل و تلقين الجنود الصّبر و الثبات عند تقلب الأحوال و توارد الأهوال فتزداد شوكتهم و تشتد عزائمهم.

250 - قوله تعالى: وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

مادة (برز) تأتي بمعنى: الظهور في الفضاء، و الظهور من الأمور الإضافية، له مراتب كثيرة، و هو إما تكوينيّ كقوله تعالى: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف - 47]، أو اختياري كقوله تعالى: فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [النساء - 81]، و منه مبارزة الصفوف للقتال، و المقام منه أو تسخيري مثل قوله تعالى: وَ بَرَزُوا لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [ابراهيم - 48].

و الإفراغ: الصب السيال بحيث يخلو المحل منه، و أصل الفراغ الخلو، شبّه الصّبر بالماء الذي في وعاء و هو كناية عن كمال الصّبر و نهايته، فطلبوا إفراغه عليهم.

و المراد منه: إفاضة الصّبر عليهم بتمامه.

و التنكير فيه لأجل شمول أنحائه من القتل و الجرح و الجوع و فراق الأهل و الأحبة و غير ذلك.

و مادة (ثبت) في أي هيئة استعملت تدل على اللزوم و الاستقرار فهي ضد الزوال و المحو في جميع استعمالاتها و هي كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [الرعد - 39]، و قال تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [الإسراء - 74]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد - 7]، و قال جلّ شأنه: يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ [ابراهيم - 27]، إلى غير ذلك مما هو كثير في القرآن و السنة الشريفة و العرف، و المراد به الاستقامة في الحق.

و ثبوت الأقدام الذي هو الفاصل بين الإنسان و غيره و الاستقامة من أعلى منازل السالكين إلى اللّه عزّ و جل، و هي أول مقامات السير في الربوبيّة

ص: 157

العظمى المطلقة و الأحدية التي لا يعقل تحديدها بحد.

و النصرة: العون، و اللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى:

وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ [آل عمران - 126]، و قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ [آل عمران - 160]، و النصير من الأسماء الحسنى.

و المعنى: و لما ظهر طالوت و جنوده المؤمنون في ساحة الحرب و القتال مع أعدائهم جالوت و جنوده لجأوا إلى اللّه تعالى يطلبون منه الصّبر في الوغى و الثبات على الحق و الجهاد و العون و النصرة على القوم الكافرين و لم يعتمدوا على أنفسهم مهما بلغوا في الإيمان و الطاعة.

و إنّما قدّموا الصّبر على الثبات و النصرة لأنّ بالصّبر يتحقق الثبات على الحق و به تتحقق النصرة على الأعداء فيكون ترتب النصر على الاستقامة من قبيل ترتب المعلول على العلة، فهم راعوا الترتيب الطبيعي.

و قد لوحظ في الآية الشريفة ما هو المطلوب في أدب الدعاء و هو أمور:

الأول: استعمال لفظ (الرّبّ ) فإنّه يدل على قربه مع مربوبه و معيته معه، و قد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلق به و قلنا: إنّه يستعمل في دعوات الأنبياء و من يتلو تلوهم عند انقطاعهم إلى ربّهم.

الثاني: طلبهم جميعا العون و الثبات و النّصر منه تعالى، قال تعالى:

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكانُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ * وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ [آل عمران - 147].

الثالث: مراعاة الترتيب في كيفية الدعاء كما ذكرنا و تدل على كل واحد من هذه الأمور السنة الشريفة.

ص: 158

251 - قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّهِ .

الهزم و الدفع و الحطم و الكسر و الخرم نظائر، و الفرق بينها بالاعتبار، و يمكن أن يجعل الجامع الفصل و القطع، و لم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلا في موضعين أحدهما المقام و الثاني قوله تعالى: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزابِ [ص - 11].

و المراد بإذن اللّه هنا: إرادته القاهرة الغالبة في استجابة دعوتهم و هزيمة عدوّهم.

و إنّما قدّم سبحانه الهزم مع أنّه يكون بعد قتل جالوت عادة للدلالة على سرعة استجابة دعائهم، فإنّ الدّعاء حين تحقق الابتلاء أقرب إلى الاستجابة لانكسار القلوب و توجهها إلى الواحد الأحد المحبوب، و إنّ النصر حليف ثبوت الاستقامة و الجد و الاجتهاد، و الأخبار في ذلك متواترة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و آله الطّاهرين (عليهم السّلام).

قوله تعالى: وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ .

أخر ذكر القتل ليكون ما ذكره عزّ و جلّ لداود من الفضائل على وتيرة واحدة و نسق متحد، فإنّه أبلغ في التمجيد و لبيان عظم النعمة عليه.

و المراد بالملك الملك الظاهري، كما أنّ المراد بالحكمة الملك المعنوي سواء أريد بها النبوة، أو المعارف الإلهية.

و حكمة داود و آله معروفة في السير و الأحاديث، و قد ورد فيها: «أنّ زبور داود كان مائة و خمسين سورة كلّها مواعظ و حكم و تمجيد ليس فيها حكم من الأحكام» و قد علّم سبحانه داود فصل الخطاب و ما يتطلبه الملك و الحكم و الإدارة و التدابير الظاهرية.

قوله تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ .

الآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام الاجتماعية الواقع في النوع

ص: 159

الإنساني، كما تذكر وجها من وجوه الحكمة في مشروعية القتال و الجهاد مع أعداء اللّه تعالى.

و المعنى: و لو لا دفع اللّه أهل البغي و الشر و الظلم بأهل الصّلاح و الإيمان لعمّ الطغيان و الفساد الأرض و أهلها، و يفسد المجتمع الإنساني باستيلاء أهل الشرور و الآثام.

و الآية تبيّن حقيقة من الحقائق و هي أنّ فساد النوع الإنساني يوجب فساد الأرض و ما عليها بالتبع كما أنّ صلاح الأرض إنّما يكون بصلاح أهلها، و يدل على ذلك آيات متعدّدة مثل قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96].

و ذلك لأنّ اللّه تعالى خلق الأرض و ما فيها من القوى المادية الطبيعية و جعل بينها تجاذبا طبيعيا تسير وفق النظام الأحسن و حكمة متعالية لا يمكن التخلف عنها، و هي تتحرّك نحو الكمال المعدّ لها، فلو اختلت هذه الوحدة المجعولة بينها لاختل النظام الكوني و نتج منه خلاف المطلوب هذا بالنسبة إلى النظام الكوني.

و أما بالنسبة إلى الإنسان الذي خلقه فوق هذه البسيطة و سخر له عالم المادة بجميع أجزائها و جزئياتها ليتمتع بها و قد جعله مختارا في أفعاله يفعل وفق إرادته و لكنّ اللّه تعالى أنزل التشريعات السّماوية و أودع العقل في الإنسان ليهديه إلى سبل السعادة و يرشده إلى الكمال الذي يتوخاه في سعيه، و لا يمكن الوصول إلى السعادة إلا بالاتحاد و التعاون بين أفراد المجتمع الإنساني و باختلال تلك الوحدة يغلب الفساد على النوع و من ثمّ يسري إلى الأرض التي سخرها له، و إنّما تختل الوحدة في النوع الإنساني لغلبة أهل الشر و الفساد على أهل الصّلاح و الإيمان و يعم الظلم أرجاء العالم و لا يمكن رفعه الا بدفع أهل الشر و الفساد و الغلبة عليهما ليمكن إعادة الوحدة بين الأفراد و تتحقق السعادة بها، فهي إنّما تقوم على أساس المغالبة بين الأفراد و الا كانت إرادة كلّ فرد من أفراد المجتمع هي الملزمة و لا يمكن للآخر دفعها و في ذلك

ص: 160

إبطال الاجتماع باستيلاء الفساد و الشر دائما و لا يمكن دفعه بوجه من الوجوه، و هذا خلاف الحكمة.

فالدفع و الغلبة من فطريات كل ذي شعور و عليهما يتحقق الاجتماع الإنساني و هما يوقفان الفساد عند الأفراد و هذا من أهم القوانين التي بينها القرآن الكريم في النظام الاجتماعي للإنسان.

ثم إنّ الدفع و الغلبة لهما مصاديق مختلفة فقد يتحقق كلّ منهما بغلبة المؤمن على الكافر المفسد كما في مورد الآية المباركة، و قد تتحقق بدفع اللّه العذاب عن الأشرار و الفجار بسبب الأبرار و في ذلك وردت روايات خاصة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

ففي الحديث «إنّ اللّه يصلح - بصلاح الرجل المسلم - ولده و ولد ولده، و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم» و ربما يتحقق بدفع الظالم بالظالم و تضعيف شوكته ليستعد المصلح و يتمكن من قهره و الغلبة عليه. و ربما يكون من إلقاء اللّه تعالى الخوف في نفوس المفسدين من صولة القوة و ثورة النزاع و فوز الخصوم فيكون رادعا نوعيا في وقف الفساد و كبح جماح المفسد من الطغيان.

و يمكن تعميم دفع اللّه الناس بعضهم ببعض بمطلق الإرشاد إلى الحق سواء كان بالقول أو العمل أو العلم، و يشمل جميع أنحاء الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر مع تحقق الشرائط، كلّ ذلك صحيح و لا بأس به بعد انطباق الآية المباركة عليه.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

أي: أنّ دفع الفساد في الأرض بدفع الناس بعضهم ببعض تفضل من اللّه تعالى، و اللّه ذو فضل على الخلق لأنّ في تركه مفسدة عظيمة و إخلالا بالحكمة و إبطالا للاجتماع كما عرفت.

252 - قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ .

التلاوة: عبارة عن القراءة المتتابعة فكلّ تلاوة قراءة و لا عكس.

ص: 161

أي: أنّ تلك الحوادث التي وقعت في القرون الماضية و ما حكاه اللّه تعالى في هذه الآيات من إحيائه جلّت عظمته الموتى، و سؤال الملإ من بني إسرائيل من نبيهم ما سألوه في أمر الملك و القتال مع الأعداء و ابتلائهم بما قال لهم نبيهم، و صيرورة طالوت ملكا عليهم و ظهور التابوت و ودائع النبوة و غلبة داود على جالوت، و غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، و جعل اللّه داود ملكا و إعطائه الحكمة و العلم كلّ ذلك علامات علم اللّه و حكمته و قدرته تلاها للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالحق لتكون دليلا على نبوته و رسالته و إنّ الإحاطة بها من الأمي الذي لم يكن مرتبطا مع أحد من أهل الكتاب مستحيلة عادة إلا بوحي من السّماء و لا ينزل وحي السّماء إلا على الرسل و الأنبياء.

و قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ في مقام التعليل لقوله تعالى:

نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ . كما أنّ قوله تعالى: بِالْحَقِّ يبيّن معنى تلاوته جلّ شأنه.

يعني: إنّ تلك التلاوة حق و صدق لا مرية فيها فتكون تلاوته عز و جل بذاتها برهانا متقنا على حقية نبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنّ الممكن لا يصل إلى حد الواجب بالذات و ما من شؤونه إلا بنحو الإشارة. كما يقول أحدنا (أنا) مشيرا إلى نفسه و هو لا يعلم نفسه إلا بهذه الإشارة بل جميع العلماء مع نهاية جهدهم لم يحيطوا بها، فإذا كان هذا حال الممكن المحتاج فكيف بالواجب الغني بالذات، و يشهد لما قلناه كثير من الأدلة العقلية و النقلية تقدم بعضها و يأتي بعضها الآخر.

و لو عبّرنا عن ذلك بتجلّي الحق لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لا بأس به فإنّ تجلياته المباركة لا تختص بجهة دون أخرى فهو كما يريد و يشاء.

ثم إنّ ذكر رسالة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في آخر الآيات المتقدمة لبيان أنّ العلّة الغائية مقدمة في العلم و إن كانت متأخرة في الوجود الخارجي، و يكون توطئة لذكر الرسل في الآية التالية، و للإشارة إلى جلالة و عظمة رسالة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

ص: 162

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى أنّ بني إسرائيل لم تنفعهم المواعظ و الآيات التي كانت فيهم فاضطروا إلى الالتماس من نبيّهم أن يرسل إليهم من يجري فيهم القوة القضائية.

الثاني: يدل قوله تعالى: وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا على أنّ الإخراج من الديار و الأهل من الفساد الذي يحكم العقل و الشرع بلزوم المدافعة عنه، و قطع أصله و أساسه.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أنّ القتال في سبيله تعالى لا بد أن يكون مع ملك مبعوث من قبل اللّه تعالى بواسطة نبيّ أو وصيّ نبيّ منصوب من قبله بحيث ينتهي إلى اللّه تعالى.

الرابع: أنّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ يدل على انطباق الظلم على من تولّى عن أوامر اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة بلا عذر، و الظلم يوجب

ص: 163

استحقاق العقاب عقلا.

الخامس: يمكن أن يكون عدم ذكر النبيّ الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا لأجل أنّه من الأنبياء الذين كانت مهمتهم شرح التوراة و بيانها لبني إسرائيل، كما أنّ علماء أمة سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) شأنهم بيان ما يستفيدون من القرآن الكريم و السنة الشريفة للأمة.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ أنّ الملك الذي به تستقيم الأمور و تنظّم به البلاد و يسود العدل و الوئام و يقطع به دابر الأعداء و ذوي الآثام إنّما يكون بنصب من اللّه تعالى و في غيره يكون ملكا ظاهريا لا يتحقق منه الكمال المطلوب، و يشترط فيه العلم و الحكمة و الشجاعة أحدهما مفيد في تنظيم النظام و التدبير بين الأنام و الآخر في بسط العدل و الأمان و إذلال الأعداء و الكفار.

السابع: يدل قوله تعالى: تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ على أهمية التابوت و عظمته لأنّه لا يليق لكلّ أحد أن يلمسه إلا من كان طاهرا من الأقذار المعنوية و الظاهرية، كما أنّ قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يدل على أنّ سبب نصرتهم على أعدائهم هو التابوت الذي حلّت فيه السكينة التي أوجبت شد قلوبهم و تمسكهم بمبادئهم.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أنّ الامتحان لا بد منه في تمييز المستقيم عن غيره فإنّ مقام القتال و الجهاد شديد و تختلف درجاته حسب اختلاف استعداد الأفراد و الآية المباركة تدل على ذلك أيضا.

التاسع: يدل قوله تعالى: قالَ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اَللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ على أنّ ظنّ ملاقاة اللّه تعالى يوجب سكون النفس و اطمينانها و تحقير ما يصيب الإنسان في جنب اللّه تعالى و أنّ الملاقاة هي الغاية القصوى و الهدف الأسمى فلا يبالي بما يبتلى به لأجل تحصيل تلك الغاية فلا يهتم لكثرة الأعداء و شدتهم و قوتهم أية أهميّة كما حكى تعالى عنهم

ص: 164

بقوله جل شأنه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً .

العاشر: يشمل قوله تعالى: وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ كلّ ما يشاء داود و أراده في امور الدين و الدنيا من دون اختصاص بشيء خاص، و لذا ورد في جملة

من النصوص: «إذا ظهرت دولة الحق يحكم فيها بحكم داود و لا يسئل الناس البينة» و لعلّ ذلك لشمول حكم داود لجميع متطلبات الحياة، و لغلبة الصدق عليهم و صفاء قلوبهم لا يحتاج إلى البينة، و يستفاد ذلك من الآيات المباركة الواردة في شأن داود كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

الحادي عشر: الفرق بين الحكمة و العلم كما في قوله تعالى: وَ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ أنّ الأولى في كليات الأمور، و الثاني في الخصوصيات و الجزئيات التي لا تختص بعصر دون آخر.

الثاني عشر: عن بعض المفسرين من الجمهور أنّ قوله تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ و ما في سياقه من الآيات المباركة يدل على ما اشتهر بين بعض الفلاسفة في العصر الحديث من التنازع في البقاء ثم بقاء الأصلح و استشهد بقوله تعالى: فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ [الرعد - 17].

و فيه أنّ الآيات الشريفة ليست في مقام بيان ما ذكره حتّى يصح التمسك بها في مقام الاستدلال و البرهان.

و أما أصل البحث أي: (التنازع في البقاء و بقاء الأصلح) فله وجه سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى، أو بالنسبة إلى نظام الطبيعة:

أما الأول - فلما أثبتوه في محلّه من قاعدة «إمكان الأشرف فالأشرف» و قد فصّلوا القول في ذلك.

و أما الثاني - فلأنّ الدار دار الاستكمال و التعالي و الترقي بالتجربة و الحس، فيثبت ذلك كلّه و هذا إجمال ما لا بد في شرحه من تفصيل المقال في محلّ آخر.

ص: 165

الثالث عشر: أنّ ما ورد في الآيات الشريفة هو من القضايا الحقيقية التي لا تختص بأمة دون أخرى و يمكن جريانها في هذه الأمة أيضا.

ص: 166

بحث اجتماعي

قد ثبت بالبراهين العقلية أنّه لا بد لكلّ موجود من سبب يستند وجوده و تحققه إليه فلا يعقل تحقق شيء بلا سبب من غير فرق بين الكليات و الجزئيات و الجواهر و الأعراض و الاعتباريات إلا في الواحد الأحد الصمد الذي هو موجود بذاته من ذاته لذاته. و عليه فإنّ الحكومة الظاهرية الحاصلة في هذا العالم لا بد لها من سبب يوجب حدوثها في المجتمع، و قد اختلفوا فيه على نظريات متعددة و نشير إلى أهمها على سبيل الإيجاز معرضين هنا عن صحتها و سقمها إلى موضع آخر يأتي إن شاء اللّه تعالى و هي:

الأولى: نظرية الحق الإلهي - و يرى أصحاب هذه النظرية أنّ الملك و الزعيم منصوب من قبل الإله، و الملوكية منحة إلهية يهبها الرب لمن يشاء، فلم يكن للشعب و المجتمع اختيار في تعيينه، و لهذه النظرية جذور تاريخية، بل كانت معتقد الشعوب السالفة في غابر العصور حيث كان الجمهور يرى أنّ المجتمع يتكوّن من عشائر مختلفة و أصول متعددة متنافرة و متعادية و لا يمكن دمجها إلا بقوة قاهرة و لا تتيسر هذه القوة إلا إذا كانت من الإله.

الثانية: نظرية الحق الطبيعي أو الانتخاب الطبيعي - حيث إنّ الأمة تحتاج إلى الأشخاص الموهوبين فلا بد أن يكون على رأس المجتمع من يكون موهوبا و قادرا على الإدارة و التدبير الأكمل فيكون سبب الحكومة

ص: 167

صلاحية الملك و الزعيم و توفر شرائط الحكومة فيه، و هذه النظرية حدثت بعد تقدم الإنسانية في الحضارة، فإنّ الإدارة و الحكومة تتطلب العلم بكيفية الإدارة و شؤون الحكم كما تتطلب الشجاعة و الإقدام لكبح جماح المعتدين، و هذان الأمران لا يتوفران في كلّ فرد فمن كان منهم موهوبا فهو الملك و الزعيم.

الثالثة: نظرية العقد الاجتماعي - التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي روسو في عصر النهضة و هذه النظرية حدثت كرد فعل للاستبداد و النظريات السابقة، و لكن لها جذور تاريخية أيضا فإنّ أصحابها يرون اختيار الشعب للزعيم و لهم أدلة و شواهد يقيمونها على صحة هذه النظرية.

الرابعة: النظرية القائلة بأنّ الحكومة إنّما تنشأ بالقهر و الغلبة و لا يخلو عصر من الأعصار عن مثل هذه الحكومة خصوصا في الأقوام البدائية و العصور القديمة و ما بعدها.

هذه هي أهم النظريات في الحكومة و الإدارة و قد الّفت كتب كثيرة فيها و أقيمت الحجج على صحة كلّ واحدة منها.

و لكن الحق أن يقال: إنّ أصحاب كلّ نظرية من تلك النظريات إن أرادوا منها العلية التامة المنحصرة بحيث يمتنع تخلف المعلول عن العلة فالفرض بعيد في غالب ما ذكروه، و إن أرادوا بيان مجرد الاقتضاء فإنّ الجميع صادق، إذ يمكن أن يكون لشيء واحد مقتضيات كثيرة و حيث إنّ العالم الذي نعيش فيه عالم الأسباب و قد أبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها فلا بد من انتهاء الجميع إلى مشيته و إرادته بنحو القضاء و القدر، و الأديان الإلهية و الكتب السماوية تحكم بأنّ السبب هو اللّه تعالى قال عزّ و جل: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [آل عمران - 26]، و قال تعالى:

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [القصص - 68]، و لكنّ ذلك لا ينافي أن يتحقق ما أراده اللّه تعالى بسبب من الأسباب الظاهرية. و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ حيث إنّ مجرد كونه فردا من الأفراد لم يكن مستحقا للملك الظاهري بل اجتمع فيه بعض الصّفات التي أوجبت استحقاق هذا المنصب.

ص: 168

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [القصص - 68]، و لكنّ ذلك لا ينافي أن يتحقق ما أراده اللّه تعالى بسبب من الأسباب الظاهرية. و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ حيث إنّ مجرد كونه فردا من الأفراد لم يكن مستحقا للملك الظاهري بل اجتمع فيه بعض الصّفات التي أوجبت استحقاق هذا المنصب.

و مما ذكرنا يعرف أنّ أكثر تلك النظريات ترجع إلى أمر واحد و هو أنّ الزعيم و الملك إنّما يكون كذلك إذا اجتمعت فيه الشروط المطلوبة و لكنّهم اختلفوا في الشروط فقد يجعل بعضها اختيار الشعب له ملكا و زعيما، أو شجاعته و سطوته و قهره الأعداء و الاستيلاء على الملك أو غير ذلك هذا بالنسبة إلى الحكومة الظاهرية.

و أما الحكومة الواقعية فلها شأن آخر لا يعلم أحد خصوصياتها إلا اللّه تعالى قال عزّ و جلّ : اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124].

ص: 169

بحث تاريخي

ذكر سبحانه و تعالى بعض ما جرى في بني إسرائيل في الآيات الشريفة المتقدمة و قد ذكرها جل شأنه في القرآن للاعتبار منها و العمل بما ورد فيها من الحقائق إذا عرض علينا ما يماثل تلك الحوادث.

و قد بيّن سبحانه و تعالى حقيقة تلك القصص و الصحيح منها و أعرض عزّ و جل عما ورد في التوراة و غيرها و هو يدل على وقوع التحريف فيها و عدم صحتها عقلا.

و قد ذكر العلماء و المفسرون في تفسير هذه الآيات أمورا لم يقم عليها دليل بل إنّ بعضها ينافي ما ضبط في الكتب التاريخية المعتبرة و قد أشرنا إلى ذلك في التفسير.

و لهذه القصص جذور إسرائيلية توافق ما ورد في العهد القديم في الجملة، و قد ذكرت القصة في سفر صموئيل الإصحاحات الحادي عشر فما بعد و نحن نذكر ما ورد فيها بإيجاز: «إنّ ناحاش زحف على مدينة يابيش جلعا في شرق الأردن التي كان يقيم فيها فريق من بني إسرائيل فطلبوا منه الأمان على أن يخضعوا له فقبل منهم ذلك بشرط و هو أن يقلع كلّ عين يمنى لهم ليكون ذلك عارا على جميع بني إسرائيل، أو لأجل الازدراء و الاحتقار و الاستهانة بهم و قد طلبوا منه مهلة سبعة أيام و أرسلوا إلى إسرائيل بحبر من

ص: 170

أحبارهم و هم يرفعون أصواتهم بالبكاء.

و لما بلغ الخبر صموئيل النبي جمع الناس في الجلجال و أعلنوا هناك تمليك شاءول و ذبحوا ذبائح سلامة أمام الرب و فرح الجميع فرحا عظيما، و قد استنفر شاءول بني إسرائيل فنفروا و كان عددهم ثلاثمائة و ثلاثين ألفا فزحف بهم على يابيش و حرب العمونيين حتّى لم يبق منهم اثنان، ثم تحرّش شاءول بالفلسطينيين».

و ورد في الإصحاح الثاني عشر من السفر المزبور: «أنّ أحد قواده و ابنه يوناتان ضرب محرس الفلسطينيين في جبع فثاروا و صعدوا إلى بني إسرائيل و كان معهم ثلاثون ألف مركبة و ستة آلاف فارس و شعب كالرمل الذي على البحر في الكثرة و نزلوا على نحماس شرقي بيت آون - و هي قرية من رام اللّه - فذعر الإسرائيليون في المنطقة و التجأوا إلى المغاور و الكهوف و الفيافي و منهم من فر إلى شرق الأردن و سرى الذعر إلى بقية الملك حارب كلّ من كان موله من الأعداء من المؤابين و بين عمون و الادوميين و ملوك صوبة و الفلسطينيين و كان حيثما اتجه ظافرا و ضرب عماليق و أنقذ بني إسرائيل من أعدائهم و كانت حربا شديدة على الفلسطينيين أيام شاءول و كان رئيس جنده انير ابن عمه».

و في الإصحاح الخامس عشر: «أنّ صموئيل أوعز لشاؤول أمر الرب و تعالى و تقدس بضرب عماليق و تحريم كلّ أموالهم و عدم العفو عنهم و قتل كلّ رجل و امرأة و طفل و رضيع و كلّ بقرة و جمل و حمار و غنيمة لأنّ الرب افتقد ما عمله عماليق بإسرائيل فحشد شاءول مأتي ألف رجل و عشرة آلاف من يهوذا و زحف على عماليق و قبض على أجاج ملك عماليق حيّا و حرم جميع الشعب بحد السيف و عفا عن أجاج».

و في الإصحاح السادس عشر من سفر صموئيل الأول: «أنّ الرب أذهب عن شاءول روحه انتقاما منه لمخالفته لأمره في عماليق و بغته بروح رديئة - أي الصرع - و نصحه عبيده بدعوة داود لأنّه يجيد الضرب على العود و كان مجرّبا للصراعة فدعاه و أحبه و جعله حامل سلاحه و كان يضرب له على العود فيذهب الروح الردي».

ص: 171

و في الإصحاح السابع عشر: «ثم تجمع الفلسطينيون لأخذ ثارهم و حشد شاءول رجالا و سيره للقائهم و بروز جليات - و هو جالوت الذي ورد ذكره في القرآن الكريم - الذي كان طوله ستة أذرع و شبر على رأسه خوذة من نحاس و على جسمه درع حرشفي وزنه خمسة آلاف شاكل و جرموق نحاسي في رجليه و مزراق نحاسي بين كتفيه و سنان رمحه ستمائة شاكل حديد و نادى إسرائيل بالبراز و قال: إن قدر أحد منكم أن يقتلني يصير الفلسطينيون لكم عبيدا و إن قدرت عليه تصيرون أنتم عبيدا لنا و ظلّ يتحداهم أربعين يوما فارتاع شاءول و بنو إسرائيل من التحدّي فتقدم داود إلى شاءول و أبدى استعداده للمبارزة و اختبره - إلى أن قال - و لكن داود رماه من مقلاعه بمحجر فوقع في جبهته فسقط على وجهه و سارع داود و قطع رأس الفارس بسيفه و هرب الفلسطينيون و لحقهم بنو إسرائيل حتّى أبواب عقرون و فتكوا بهم و نهبوا معسكرهم و حمل داود رأس الجبار و أتى به إلى أورشليم».

هذه خلاصة ما ورد في هذه الأسفار من هذا الإصحاح. و لكن الفساد بيّن على كثير منها. و الحق ما ورد في الآيات المباركة كما مر و ما تضمنته السنة الشريفة.

ص: 172

بحث روائي

في تفسير القمّي عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) «أنّ بني إسرائيل بعد موت موسى (عليه السلام) عملوا المعاصي و غيّروا دين اللّه، و عتوا عن أمر ربّهم و كان فيهم نبي يأمرهم و ينهاهم فلم يطيعوه. و روي أنّه ارميا النبي (عليه السلام) فسلّط اللّه عليهم جالوت و هو من القبط فأذلّهم و قتل رجالهم و أخرجهم من ديارهم و أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم و قالوا: سل اللّه أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه و كانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، و الملك و السلطان في بيت آخر، و لم يجمع اللّه النبوة و الملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه فقال لهم نبيهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا و كان كما قال اللّه تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ فقال لهم نبيهم: إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فغضبوا من ذلك و قالوا: أَنّى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ و كانت النبوة في ولد لاوي، و الملك في ولد يوسف، و كان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لأمه و أبيه و لم يكن من بيت النبوة و لا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ و كان أعظمهم

ص: 173

جسما و كان شجاعا قويّا و كان أعلمهم إلا أنّه كان فقيرا فعابوه بالفقر فقالوا:

لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ فقال لهم نبيهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ .

و كان التابوت الذي أنزله اللّه على موسى فوضعته فيه أمه و ألقته في اليمّ و كان في بني إسرائيل معظّما يتبركون به فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوة و أودعه يوشع وصيه فلم يزل التابوت بينهم حتّى استخفوا به و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ و شرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم، فلما سألوا النبي بعث اللّه طالوت عليهم ملكا يقاتل معهم فرد اللّه عليهم التابوت كما قال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ قال: البقية ذرية الأنبياء».

أقول: في هذه الرواية جهات من البحث:

الأولى: إنّ

قوله (عليه السلام): «و روي أنّه أرميا النبي» يمكن أن يحمل على أنّ هذه الرواية كانت منقولة إلى الإمام (عليه السلام) من ناقل فنسبه إلى الرواية، و يمكن أن يحمل لفظ «و روي» على نقل الراوي فتكون رواية معترضة.

الثانية: إنّ

قوله (عليه السلام): «و هو من القبط» لا بد أن يحمل على نحو من العناية فإنّ جالوت كان من العمالقة، كما مر.

الثالثة:

قوله (عليه السلام): «و كانت النبوة في بني إسرائيل في بيت و الملك و السلطان في بيت آخر» يستفاد منه أنّه كان في بني إسرائيل نبوة و ملك يفترق كلّ واحد منهما عن الآخر، و لكن السّبر للتواريخ يشهد بأنّه لم يكن فيهم ملك و إنّما حدث في طالوت و هو أول ملك فيهم من بني إسرائيل و كان قبله عهد القضاة.

و أمّا قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ [يوسف - 101]، فليس

ص: 174

المراد منه الملك الظاهري، بل المراد النبوة، فإنّ يوسف (عليه السلام) لم يكن ملكا بل كان عزيز مصر و أميرها. و أما قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة - 20]، فالمراد منه الملك المعنوي باعتبار الإيمان و عناية اللّه بهم بقرينة صدر الآية و ذيلها. مع أنّه لو كان المراد الملك الظاهري لصدق بحدوثه بعد طالوت و هو المتيقن و غيره لم يشهد له تاريخ معتبر.

و يمكن حمل الملوكية في كلام الإمام (عليه السلام) على القاضي المدبر للشؤون. و يحتمل أنّهم إنّما اختاروا الملوكية لأنّ السطوة في تلك الأعصار كانت بيد الملك.

الرابعة:

قوله (عليه السلام): «إلا أنّه كان فقيرا فعابوه بالفقر» يمكن حمله على الفقر الإضافي بقرينة قوله تعالى: وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ .

و تقدم في التفسير ما يرتبط بذلك.

الخامسة: أنّ

قوله (عليه السلام): «و كان التابوت الذي أنزل اللّه على موسى (عليه السلام) فوضعته فيه أمه و ألقته في اليمّ » يشهد على صحة ذلك ما ورد في التوراة و بعض الأخبار، كما يشهد له الاعتبار أيضا.

السادسة: أنّ

قوله (عليه السلام): «البقية ذرية الأنبياء» ليس شرحا لما كان في التابوت بل هو كلام مستأنف، أو يفسر آل موسى و آل هارون.

السابعة: يستفاد من مجموع هذه الرواية أنّ الاستخفاف بالمقدّسات الدينية و مشاعرها يوجب استحقاق العقاب و رفع البركة و الأمان من بين الناس.

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو شموئيل و هو بالعربية إسماعيل».

أقول: تقدم ما يرتبط بذلك في التفسير، و قلنا: إنّ الصحيح أنّ اشموئيل هو صموئيل و ليس إسماعيل و قصور سند الحديث يغنينا عن البحث في متنه.

في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ :

ص: 175

إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قال: «لم يكن من سبط النبوة و لا من سبط المملكة».

أقول: تقدم في التفسير ما يرتبط بالحديث.

في الكافي عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث: «و قال اللّه تعالى: إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فشربوا منه الا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا منهم من اغترف، و منهم من لم يشرب فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا: لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ . و قال الذين لم يغترفوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ ».

أقول: ورد هذا العدد في روايات كثيرة عن المسلمين. و أما قول الذين لم يغترفوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ لتمكن قدرة اللّه في قلوبهم فرأوا العدوّ كالعدم فضلا عن احتمال غلبته عليهم. و أما من قال: لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ فلحصر أنظارهم على الأسباب الظاهرية، و تقدم في التفسير ما يتعلّق به أيضا.

في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ قال: «كان القليل ستين ألفا».

أقول: اختلفت الأخبار في عددهم، فالمشهور ما ذكرناه، و في رواية أخرى أنّهم عشرة آلاف، و ما تقدم في الرواية هو أكثر العدد الذي ورد فيهم، و يمكن الجمع بينها بحمل الأقل على المخلصين منهم و البقية على مراتب إيمانهم و خلوصهم.

في تفسير القمي في قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قال الرضا (عليه السلام): «السكينة: ريح من الجنة لها وجه كوجه الإنسان فكان إذا وضع التابوت بين يدي المسلمين و الكفار فإن تقدم التابوت لا يرجع رجل حتّى يقتل أو يغلب، و من رجع عن التابوت كفر و قتله الإمام فأوحى اللّه إلى نبيّهم أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى، و هو رجل من ولد لاوي ابن يعقوب اسمه داود بن آسي - و كان آسي راعيا و كان له عشرة بنين أصغرهم

ص: 176

داود فلما بعث طالوت إلى بني إسرائيل و جمعهم لحرب جالوت بعث إلى آسي أن أحضر ولدك، فلما حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه الدّرع درع موسى فمنهم من طال عليه و منهم من قصر عنه فقال لآسي هل خلفت من ولدك أحدا؟ قال: نعم أصغرهم تركته في الغنم يرعاها فبعث إليه فجاء به فلما دعي أقبل و معه مقلاع قال فناداه ثلاث صخرات في طريقه قلن: يا داود خذنا فأخذها في مخلاته و كان شديد البطش قويا في بدنه شجاعا فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى (عليه السلام) فاستوى عليه ففصل طالوت بالجنود و قال نبيهم: يا بني إسرائيل إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ في هذه المفازة فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فليس من حزب اللّه و من لم يشرب منه فإنّه من حزب اللّه.

إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فلما وردوا النّهر أطلق اللّه لهم أن يغرف كلّ واحد منهم غرفة بيده فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فالذين شربوا منه كانوا ستين ألفا و هذا امتحان امتحنوا به كما قال اللّه تعالى».

أقول: الروايات في معنى السكينة مختلفة، و سيأتي التعرض لبعضها و الجامع بينها. و أما نطق الحجر لداود فليس ببعيد لأنّه من الأسرار المعنوية التي وهبها اللّه تعالى لنبيه داود (عليه السلام).

عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال:

«جعلت فداك ما كان تابوت موسى (عليه السلام) و كم كان سعته ؟ قال (عليه السلام): ثلاثة أذرع في ذراعين قلت ما كان فيه ؟ قال: عصا موسى، و السكينة قلت و ما السكينة ؟ قال: روح اللّه يتكلّم كانوا إذا اختلفوا في شيء كلّمهم و أخبرهم».

و في المجمع قال: «إنّ السكينة التي كانت فيه ريح هفافة من الجنة لها وجه كوجه الإنسان عن عليّ (عليه السلام).

أقول: المستفاد من مجموع الأخبار الواردة في تفسير السكينة أنّها أمر معنوي من عالم الغيب مؤيد من قبل اللّه تعالى فيه إدراك و شعور، و لا ينافي ذلك تصورها بصور مختلفة، لأنّ ذلك من شأن موجودات عالم الغيب كما أثبتنا ذلك في أحد مباحثنا السابقة، فجميع الروايات تشير إلى معنى واحد

ص: 177

- و هو الأمر المعنوي من عالم الغيب - و إن كانت العبارات مختلفة. و المراد من الروح هي روح مخلوقة من اللّه تعالى.

في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ قال (عليه السلام): «تحمله في صورة البقرة».

أقول: يمكن أن تكون صورة البقرة منقوشة على التابوت و مزخرفة عليه بفعل الناس ترمز إلى شيء عندهم و الإمام (عليه السلام) ينقل ذلك الموجود الخارجي و إلا فليس ذلك من قبل اللّه تعالى، و على أي تقدير فلا ربط لصورة البقرة بما في التابوت.

في تفسير العياشي عن محمد الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال:

«كان داود و أخوة له أربعة و معهم أبوهم شيخ كبير و تخلف داود في غنم لأبيه ففصل طالوت بالجنود فدعا أبوه داود و هو أصغرهم، فقال: يا بني اذهب إلى إخوتك بهذا الذي قد صنعاه لهم يتقوّون به على عدوّهم و كان رجلا قصيرا أزرق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج و قد تقارب القوم بعضهم من بعض.

فذكر عن أبي بصير قال سمعته يقول: فمر داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني فاقتل بي جالوت فإنّي إنّما خلقت لقتله فأخذه فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي كان يرمي بها عن غنمه بمقذافه فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم داود: ما تعظمون من أمره فو اللّه لئن عاينته لأقتلنّه فتحدثوا بخبره حتّى ادخل على طالوت.

فقال: يا فتى و ما عندك من القوة و ما جربت من نفسك ؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذه برأسه فأفك لحييه فآخذها من فيه. قال: ادع لي بدرع سابغة. قال: فأتي بدرع فقذفها في عنقه فتملأ حتّى راع طالوت و من حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: و اللّه لعسى اللّه أن يقتله به. قال: فلما أن أصبحوا و رجعوا إلى طالوت و التقى الناس. قال داود:

أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به عينيه فدمغه و نكس عن دابته. و قال الناس: قتل داود جالوت، و ملكه الناس حتّى

ص: 178

لم يكن يسمع لطالوت ذكر و اجتمعت بنو إسرائيل على داود، و أنزل اللّه عليه الزبور و علمه صنعة الحديد فلينه له، و أمر الجبال و الطير يسبحن معه. قال:

و لم يعط على أحد مثل صوته فأقام داود في بني إسرائيل مستخفيا و اعطي قوة في عبادته».

أقول: يمكن أن يكون تكلّم الحجر بإيجاد كلام من اللّه تعالى فيه ليكون تسكينا لقلب داود، و هو نحو معجزة كما أوجده تعالى في شجرة الطور لموسى (عليه السلام) قال تعالى: فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ اَلْوادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ [القصص - 30]. و كالحصى التي نطقت في كفّ نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و ذلك كلّه يسير في قدرته الكاملة التامة.

و أما قوة داود و استواء الدرع عليه و قتله جالوت فإنّها كلّها من الأسرار المعنوية التي وهبها اللّه تعالى لرسوله داود، و كثير مما ورد في هذا الحديث مذكور في التوراة أيضا.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) كما عن الثعلبي: «إنّ اللّه يدفع العذاب بمن يصلّي من أمتي عمّن لا يصلّي، و بمن يزكّي عمّن لا يزكّي و بمن يصوم عمّن لا يصوم و بمن يحج عمّن لا يحج و بمن يجاهد عمّن لا يجاهد، و لو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم اللّه طرفة عين ثم تلا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ ».

و قريب منه ما عن الصادق (عليه السلام) كما في تفسير القمي.

أقول: هذا من باب التطبيق و بيان أنّ دفع اللّه الناس بعضهم ببعض أعم من الغلبة الظاهرية الجسمانية و الروحانية المعنوية، و قد تقدم في التفسير بيان ذلك.

في ربيع الأبرار للزمخشري عن ابن عمر قال: «سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقول: إنّ اللّه ليدفع بالمسلم الصالح نحو مائة ألف بيت

ص: 179

من جيرانه البلاء ثم قرأ: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ .

أقول: تقدم في الحديث السابق ما يرتبط بهذا الخبر أيضا.

ص: 180

سورة البقرة الآية 253

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنا.......

اشارة

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى في الآيات السابقة وجوب الإنفاق و الجهاد في سبيل اللّه و إقامة الحق و قد ضرب عزّ و جلّ لذلك مثلا من الأمم الماضية ليعتبر به المؤمنون و لتطيب به نفوسهم بما يلقونه من العنت و المشقة في سبيل اللّه تعالى و إقامة دينه عزّ و جلّ و قد وعد المؤمنين بالنصر و بشرهم بالفوز و ختم الكلام بالمرسلين الذين هم واسطة الفيض أرسلهم اللّه ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.

ذكر في هذه الآية الشريفة أنّ تلك الرسل ميّزهم اللّه تعالى في الفضل و الدّرجات بعد ما أيدهم بالبينات.

و ذكر من أسباب التفضيل ثلاثة: تكليم اللّه تعالى، و رفع الدّرجات و التأييد بروح القدس، و خص سبحانه من الأنبياء الذين بقي لهم أتباع، فأمرهم بالاتحاد و نبذ الاختلاف اللذين هما من أركان الأديان الإلهية. و لكنّهم اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات فآل أمرهم إلى الاقتتال، و لو شاء اللّه لأزال ما يوجب الاختلاف و الاقتتال و لكن قضت حكمة اللّه المتعالية أن يجري الأمور بالأسباب و لا رادّ لحكمه و هو يفعل ما يريد.

ص: 181

التفسير

253 - قوله تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ .

تلك إشارة إلى الرسل الذين تضمنهم قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ و أنّثها باعتبار الجماعة، و إنّما أتى بها بعيدا لبيان فخامة أمرهم و عظم شأنهم كما ذكرنا في قوله تعالى: ذلِكَ اَلْكِتابُ [البقرة - 3].

و مادة رسل من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم مفردة و جمعا، تكسيرا و سالما، مقرونا باللّه تعالى كقوله عزّ و جل: رَسُولٌ مِنَ اَللّهِ [البينة - 2]، و قوله تعالى: جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ [المائدة - 32]، و قوله تعالى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي [المجادلة - 21]، و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ [الفتح - 28]، و غير ذلك مما هو كثير.

و الرسالة فضيلة إلهية و سفارة ربانية تشتمل على جميع الخيرات و الفضائل لها من الرفعة و البهاء و العظمة ما تقصر عن بيانها الألفاظ يمنحها عزّ و جل لبعض أفراد الإنسان كما قال جلّت عظمته: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124]، لأنّها ترجع إلى كمال الإنسان غير المحدود بحد المؤيد من عالم الغيب فإنّ آخر قوس الصعود في الممكنات إنّما هو مقام الإنسانية ثم ترتفع في عالم لا حدّ له و لا نهاية له لا سيما إذا زالت الاثنينية بالكلية، كما في قوله تعالى مخاطبا لحبيبه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، و قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح - 10]، فإنّ آخر مقامات الإنسانية الكاملة و الدرجات المعنوية الشاملة هي الرسالة الإلهية فهي برزخ بين العالم المحدود بحد الإمكان و العالم الرّبوبي غير المحدود بحد.

ص: 182

و الرسالة فضيلة إلهية و سفارة ربانية تشتمل على جميع الخيرات و الفضائل لها من الرفعة و البهاء و العظمة ما تقصر عن بيانها الألفاظ يمنحها عزّ و جل لبعض أفراد الإنسان كما قال جلّت عظمته: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124]، لأنّها ترجع إلى كمال الإنسان غير المحدود بحد المؤيد من عالم الغيب فإنّ آخر قوس الصعود في الممكنات إنّما هو مقام الإنسانية ثم ترتفع في عالم لا حدّ له و لا نهاية له لا سيما إذا زالت الاثنينية بالكلية، كما في قوله تعالى مخاطبا لحبيبه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، و قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح - 10]، فإنّ آخر مقامات الإنسانية الكاملة و الدرجات المعنوية الشاملة هي الرسالة الإلهية فهي برزخ بين العالم المحدود بحد الإمكان و العالم الرّبوبي غير المحدود بحد.

و للرسول شأن عظيم في ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، و هو السفير الخاص من العالم الربوبي اختاره اللّه تعالى لتبليغ الرسالة و هداية العباد إلى ما فيه السعادة.

و السفير لا بد أن يكون مطلعا على أسرار ما يكون سفيرا فيه و يحيط بخصوصيات من يكون سفيرا إليه، فإنّ عظم المنصب يقتضي ذلك و إنّ بالرسول يعرف المرسل

و قد قال عليّ (عليه السلام): «يعرف عقل الرجل من سفيره».

و رسل اللّه تعالى كلّهم يشتركون في فضيلة الرسالة و يستوون في هذه الموهبة الإلهية و المنحة الربانية و يتفقون في أصل النبوة القابلة للتشكيك إلى مراتب متفاوتة، و هم حقيقون بالاتباع و جديرون بالاقتداء بهديهم إلاّ أنّهم متفاضلون في الدّرجات و يتفاوتون في المقامات، ففيهم من هو أفضل و من يكون مفضّلا عليه بما امتاز به الأفضل من الخصائص التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى قال عزّ و جلّ : اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران - 179].

و المراد بالرسل جميعهم و لكن خصّ بعضهم بالذكر و الوصف تعظيما، أو لأجل بقاء اتباعهم و هم ثلاثة من أولي العزم: موسى، و عيسى، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله و عليهم).

قوله تعالى: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ .

الفضل معروف و هو إما فردي كفضل زيد على عمرو مثلا، أو صنفي كفضل العالم على الجاهل، أو نوعي كفضل الإنسان على الحيوان، أو جنسي كفضل الحيوان على النبات، و فضل الرسل بالنسبة إلى غيرهم من قبيل الثاني، و فضل بعضهم على بعض من قبيل الأول.

ص: 183

ثم إنّ تفاضل الرسل بعضهم على بعض يكون من جهات:

الأولى: اختلاف الاستعدادات التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

الثانية: اختلاف نفس هذا المقام الإلهيّ و الجمال المعنوي، فإنّه إذا كان للجمال الظاهري مراتب لا تحصى، فالجمال المعنوي أحق بذلك و أولى.

الثالثة: الاختلاف في العلوم و المفاض عليهم من عالم الغيب.

الرابعة: الاختلاف في مراتب الانقطاع إليه عزّ و جل التي لا نهاية لها.

الخامسة: الاختلاف في مراتب تحمل الأذى في إبلاغ الرسالة الإلهية.

السادسة: الاختلاف في عدد الأمة و الأتباع و فضائلهم المعنوية.

السابعة: الاختلاف في الشريعة في كمالها و تأييدها و نحو ذلك.

الثامنة: الاختلاف في كون كتبهم السماوية شرعة و منهاجا لعدد من الأنبياء اللاحقين.

التاسعة: الاختلاف في تشعير المشاعر الدّينية و إعلامها.

العاشرة: الاختلاف في البينات و الآيات و المعجزات كمية و كيفية.

الحادية عشرة: الاختلاف في التصرف في هذا العالم و هم في عالم البرزخ في كونهم واسطة الفيض و البركات التي تنزل عليهم ثم منهم إلى غيرهم.

الثانية عشرة: الاختلاف في الغرض و هو مراتب الجنان فإنّ الأنبياء (عليهم السلام) يختلفون فيها فإنّ بعضهم في جنة الرضا و بعضهم في الرضوان.

و بعض تلك الأمور من الأمور التكوينية الذاتية و بعضها من المجعولة للذات، و الجميع تنتهي إليه عزّ و جل إمّا بالجعل البسيط أو المركب و لا يسع المقام تفصيل ذلك.

ص: 184

و كيف كان فإنّ جميع تلك الجهات موجودة في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي جعله خاتما لما سبق و فاتحا لأبواب المعارف على اللاحقين و هو صاحب المعجزة الخالدة.

قوله تعالى: مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ .

في الآية المباركة التفات عن الضمير إلى الظاهر، و عن الحضور إلى الغيبة تفخيما لهذه الدرجة و المنقبة و تعظيما لهذه الفضيلة، و لأنّ التكليم إنّما يكون فضيلة عالية و خصلة سامية إذا كان مع عظيم، فاكتساب الفضل و السّموّ - في المقام - بإضافته إلى اللّه عزّ و جلّ .

و مادة (كلم) تأتي بمعنى التأثير المدرك بإحدى الحاستين كالكلام بالسمع، و الجرح بالبصر، فالكلام إظهار المراد، و لا يعتبر في التأثير و الإظهار أن يكون بالآلات الجسمانية، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الأعم مما يمكن إحاطة العقل بها أو ما لا يمكن ذلك، و لكن لو فرض أنّه أحاط بها لحكم عليه بالصدق و الحقيقة، و هذا وجداني فإنّه كم كانت من معان غير معقولة في غابر العصور إلا أنّها صارت معقولة و محسوسة في عصرنا، و سيأتي في البحث الفلسفي ما يتعلق بالكلام الإلهي.

و الآية المباركة مجملة في المقام و تشرحها آية أخرى من أنّه كان مع موسى بن عمران (عليه السلام) قال تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء - 164]، و قال تعالى: قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف - 144]، و قد ورد في السنة الشريفة متواترا تكليم اللّه تعالى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بدون توسط جبرائيل كما في المعراج و غيره.

و قيل: إنّ المراد مطلق الوحي لأنّه تكليم خفي و قد اطلق عليه التكليم في قوله تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى - 51].

و لكن هذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه فإنّ وحي اللّه و إن كان عاما

ص: 185

لجميع الرسل و الأنبياء و لكن المعهود من التكليم غير الوحي العام مضافا إلى أنّه ينافي التبعيض الوارد في الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ .

فيه التفات عن الحضور إلى الغيبة أيضا تعظيما و تفخيما لهذه الفضيلة السامية حيث نسب الرّفع إلى اللّه تعالى كما ذكرنا آنفا.

و رفع الدّرجة من الأمور الإضافية النسبية فيصح أن يكون لرسول رفع درجة من جهة و لآخر رفع درجة من جهة أخرى، و لا ريب في أنّ لسيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) أرفع الدّرجات على سائر المرسلين (عليهم السلام)

لما ورد عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة» و في الدنيا أيضا، يكون العلة الغائية للخليقة مطلقا، و قد ثبت في محلّه أنّ العلة الغائية علة فاعلية بوجودها العلمي و غائيّة بوجودها الخارجي، و مع ذلك قال تعالى مخاطبا له (صلّى اللّه عليه و آله): أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل - 123]،

و في بعض المأثورات المعتبرة: «أللهم صلّ على محمد كما صلّيت على إبراهيم» و يستفاد من مجموع ذلك رفع درجة إبراهيم (عليه السلام) من جهة و إن كان لسيد الأنبياء أرفع الدّرجات من سائر الجهات.

و لا بد من استفادة رفع الدّرجات لكلّ نبيّ من القرآن الكريم و السنة الشريفة لأنّ العقل لا يحيط بذلك، و قد ورد في القرآن الكريم في بعض الأنبياء (عليهم السلام) ما يدل على رفع درجاته من جهة، قال تعالى في إبراهيم: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً [البقرة - 124]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ [الصّافات - 79]، و قال تعالى في إدريس (عليه السلام): وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم - 76]، و قال تعالى في يوسف (عليه السلام): نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يوسف - 76]، و قال تعالى في داود: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء - 163]، و غير ذلك مما خص به بعض الأنبياء، و أما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فقد ورد فيه ما لا يحصى كتابا و سنة قال تعالى: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم - 4]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء - 107]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً [سبأ - 28]، و قال تعالى: وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ [الأحزاب - 40]، و خص كتابه المنزل عليه بأن جعله المعجزة الخالدة المهيمن على جميع الكتب، و أنّ فيه تبيان كلّ شيء، و أنّه محفوظ من التحريف و الزيغ و الباطل، فقال تعالى فيه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء - 88]، إلى غير ذلك من خصائصه (صلّى اللّه عليه و آله) التي رفع بها درجاته على سائر الأنبياء و مما ذكرنا يظهر الوجه في كثير مما قاله المفسرون في المقام.

ص: 186

و لا بد من استفادة رفع الدّرجات لكلّ نبيّ من القرآن الكريم و السنة الشريفة لأنّ العقل لا يحيط بذلك، و قد ورد في القرآن الكريم في بعض الأنبياء (عليهم السلام) ما يدل على رفع درجاته من جهة، قال تعالى في إبراهيم: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً [البقرة - 124]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ [الصّافات - 79]، و قال تعالى في إدريس (عليه السلام): وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم - 76]، و قال تعالى في يوسف (عليه السلام): نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يوسف - 76]، و قال تعالى في داود: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء - 163]، و غير ذلك مما خص به بعض الأنبياء، و أما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فقد ورد فيه ما لا يحصى كتابا و سنة قال تعالى: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم - 4]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء - 107]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً [سبأ - 28]، و قال تعالى: وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ [الأحزاب - 40]، و خص كتابه المنزل عليه بأن جعله المعجزة الخالدة المهيمن على جميع الكتب، و أنّ فيه تبيان كلّ شيء، و أنّه محفوظ من التحريف و الزيغ و الباطل، فقال تعالى فيه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء - 88]، إلى غير ذلك من خصائصه (صلّى اللّه عليه و آله) التي رفع بها درجاته على سائر الأنبياء و مما ذكرنا يظهر الوجه في كثير مما قاله المفسرون في المقام.

قوله تعالى: وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ .

البينات جمع بينة: و هي الدلالات الواضحة و العلامات الظاهرة لكلّ أحد كإحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الطير، و نزول المائدة من السّماء و نحو ذلك من المعجزات و الآيات التي تفرّق بين الحق و غيره.

و مادة (قدس) تأتي بمعنى الطهارة المعنوية في كلّ ما لا ينبغي و لا يليق كالتي في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب - 33]، فهي نزاهة معنوية توجب الارتباط بعالم الغيب.

و لها استعمالات كثيرة في الكتاب و السنة. و حظيرة القدس فسّرت بالشريعة المقدّسة كما فسّرت بالجنة أيضا، و هما واحد في الحقيقة و إن اختلفا مفهوما.

و روح القدس هو جبرئيل كما في بعض الأخبار، و عليه جمع من المفسرين و بعض أهل اللغة. و في بعض الأخبار أنّ روح القدس أعظم من جبرئيل.

و قيل: إنّ روح القدس عبارة عن الروح الطيبة المقدّسة.

ص: 187

و فيه: أنّه خلاف المنساق من هذه الكلمة التي يستفاد منها أنّها علم لفرد خاص.

و التأييد: النصرة و التقوية، و تأييد عيسى بروح القدس غير خلقه من نفخة روح القدس كما هو الظاهر، فإنّ هذه النفخة كالمادة العاقدة في رحم مريم ابنة عمران، و التأييد إنّما هو بعد الخروج من الرّحم.

و قد كرّر سبحانه و تعالى تأييد عيسى (عليه السلام) بروح القدس في القرآن الكريم ثلاث مرات إحداها في آية (87) من هذه السورة و الثانية هنا، و الثالثة في قوله تعالى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ [المائدة - 110]، و لم يذكره تعالى في سائر الأنبياء حتّى في شأن إبراهيم (عليه السلام) الذي هو مؤسس الملّة الحنيفية و صاحبها، و لعلّ الوجه في ذلك أنّه تعالى حيث خلق عيسى من غير أب، و هو خرق لنظام التكوين كرّر تعالى ذلك و صرّح باسمه لتثبيت القلوب و عدم المبادرة إلى جحود الواقع المحجوب، كما كرّر عزّ و جل قصة خلق آدم (عليه السلام) في موارد من القرآن الكريم، فيكون التصريح باسمه (عليه السلام) في المقام مع عدم ذكر غيره من الرسل ردا لما كان يفعله اليهود في تحقيره و ما يعتقده النصارى في ألوهيته.

ثم إنّ التأييد بروح القدس أو غيره من الملائكة المدبرة لهذا العالم بإذن اللّه تعالى لا يلزم أن يكون بنحو الاتحاد أو الحلول، بل يكفي فيه نزول شارقة من شوارق عالم الغيب على من أراد اللّه تعالى تأييده و هذه الإشراقات الغيبية مسخرات بأمر اللّه عزّ و جل و إرادته الكاملة التامة فلا تختص بحال أو زمان بل هي تدور مدار مشيئته عزّ و جل.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ .

فيه التفات من الإضمار إلى الإظهار، لأنّه تعالى في مقام إظهار القدرة الأزلية، و بيان أنّ الإرادة و المشيئة لا يغلبها شيء فهو عزّ و جل المهيمن على جميع الحوادث كلياتها و جزئياتها يحكم ما يريد و يقضي ما يشاء وفق الحكمة

ص: 188

المتعالية فهو الإله الذي لا يعجزه شيء، و لذا أظهر في مقام الإضمار، و عدل إلى الغيبة.

و المشيئة الإلهية تارة تكون حتمية و أخرى اقتضائية، و الأولى هي المراد في قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا ، و الثانية هي المراد في قوله تعالى:

وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا و بذلك يرفع الجبر.

و المعنى: و لو شاء اللّه أن يلجئ عباده على عدم الكفر و العصيان و ترك الاقتتال فهو المهيمن على جميع عباده القادر القاهر الذي لا يعجزه أحد و لكن اقتضت حكمته المتعالية أن لا يلجئهم على ذلك فقد خلقهم و أنعم عليهم بأنواع النعم ظاهرة و باطنة و ميزهم عن سائر خلقه بالعقل و جعلهم أحرارا و أنزل عليهم البيّنات الواضحات و لكنّهم اختلفوا بعد وضوح الحق و بيان الرسل سبل الهداية لهم و إتمام الحجة عليهم فهم باختيارهم نبذوا الاتحاد الذي أراده اللّه تعالى و طرحوا السعادة التي كتبها عزّ و جل لهم.

قوله تعالى: وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ .

أي: أنّ سبب الاختلاف كان من أنفسهم فمنهم من آمن إيمانا صحيحا. و منهم من اتبع هواه و كفر بما جاء به النبيون و هذا الاختلاف إنّما هو لأجل اختلاف الاستعدادات اقتضاء كما هو سنته في خلق الأسباب في هذا العالم.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ .

أي: و لو شاء اللّه لخلقهم على فطرة واحدة و جبلهم على الاتحاد و المحبة و نبذ الاختلاف و الاقتتال، و لكن اللّه يفعل ما يريد حسب الحكمة البالغة التامة.

و يمكن التفرقة بين هذه الجملة و سابقتها بالاختلاف بحسب الحدوث و البقاء، أو بحسب دفع الاختلاف قبل الفطرة بأن يجبرهم على الاتحاد أو بعد جعل الفطرة فيرفع عنهم الاختلاف و يلجئهم على الاتحاد.

ص: 189

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: الآية الشريفة تنص على تفضيل اللّه الرسل بعضهم على بعض، و هو لا يكون على حد الإلجاء و الاضطرار بل ينتهي إلى الاختيار لترتفع الدّرجات و تزداد المثوبات و ليس ذلك من قبيل تفضيل الأحجار الكريمة على سائر الأحجار، فقد شاء اللّه تعالى أن يكون بين رسله تفاضل حاصل من اختيارهم ليكون لهم الجزاء الأوفى و الدّرجات العالية.

إن قلت: إنّه ذكرتم أنّ التفاضل قد يكون بحسب الذوات الشريفة فربما يكون بعض الأنبياء أكثر استعدادا من غيره و هو خارج عن الاختيار،

كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة».

قلت: إنّ ذلك لم يكن على نحو العلية التامة المنحصرة بل هو من مجرد الاقتضاء فقط و إلا لزم فيه مفاسد كثيرة لا يمكن الالتزام بها فيكون المقام مثل قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً

ص: 190

[النساء - 95] و ليس مثل قوله تعالى: وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ [الرعد - 4] الذي يكون غير اختياري.

الثاني: أنّ تفضيل اللّه تعالى بعض الرسل على بعض يتضمّن رفع الدّرجات أيضا و عليه ربما يتوهم أن يكون ذكر الأخير - و هو قوله تعالى:

وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ - مستدركا. و هو مردود بأنّ التفضيل إنّما هو باعتبار بعض الجهات، و رفع الدّرجات إما عام أو مختص بالمقامات الاخروية.

الثالث: يستفاد من نسبة الاختلاف إلى الإنسان و عدم نسبته إلى اللّه تعالى أنّ الاختلاف في الإيمان و الكفر و جميع المعارف الإلهية إنّما يكون من الإنسان و هو يحصل بالبغي و الجحود و الظلم، و يدل على ذلك قوله تعالى:

كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة - 213]، و قد تقدّم في تفسيرها ما يرتبط بالمقام.

الرابع: يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء (عليهم السلام) إنّما بعثوا بالرسالة الإلهية و أيدوا بالبينات الواضحة التي تبين الحق و تدحض الباطل، و الغرض من ذلك هداية الإنسان و إيصاله إلى الكمال اللايق به و لكن ذلك لا يزيل العناد و اللجاج بل هما من غرائز الإنسان التي لا يصلحهما الا القتال، و يدل عليه قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْمِيزانَ لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد - 25]، حيث قرن سبحانه إنزال الحديد مع إنزال الكتاب و الميزان و بهما يفصل بين الحق و الباطل فيكون الحديد كذلك فالجهاد في سبيله تعالى مما لا بد منه في كلّ تشريع إلهيّ لإقامته و إبطال زيغ المبطلين و رفع عناد المعاندين. و لكن لو شاء اللّه لرفع الجهاد في سبيله و ما اقتتلوا و لكنّ اللّه يفعل ما يريده فإنّ الحكمة اقتضت أن يرسل الرسل و يأمر بالجهاد في سبيله، لإقامة دينه و نشر الحق

ص: 191

و يستفيد الإنسان من الرسالة الإلهية و المعارف الربوبية حتّى يصل إلى الكمال المطلوب.

الخامس: ذكر بعض المفسرين إشكالا على تفسير هذه الآية المباركة

بما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بطرق مختلفة: «لا تخيّروا بين الأنبياء فإنّ الناس يصعقون - أي يغشى عليهم - يوم القيامة»،

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تفضلوا بين أنبياء اللّه»

و في بعض الأخبار عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تخيّروني على موسى» أو «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى».

و هو مردود لأنّ النّهي راجع إلى الترجيح من عند أنفسهم لا التفضيل و الترجيح الذي أثبته اللّه تعالى لهم، و قد ذكرنا أنّ التفضيل بما فضّله اللّه تعالى أمر لا بد منه.

و يمكن أن يحمل على أصل النبوة و الرسالة الإلهية كما أمرنا بذلك قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة - 285]، و التفضيل في غير ذلك كما بينه اللّه تعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم.

ص: 192

بحث روائي

في العيون عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي و لا أكرم عليه منّي قال عليّ (عليه السلام): يا رسول اللّه أ فأنت أفضل أم جبرائيل ؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ اللّه تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين و فضلني على جميع النبيين و المرسلين - الحديث -».

أقول: ما ورد في هذا الحديث تشهد له جملة من الأخبار، و يستفاد ذلك من الآيات الشريفة تلويحا و تصريحا، كما يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى. و تؤيده الأدلة العقلية أيضا، و قد تقدم ذلك في التفسير غير مرة.

ص: 193

القوم و صلّينا فعلى م نقاتلهم ؟! فقال عليّ (عليه السلام): على هذه الآية:

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ فنحن الذين من بعدهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فنحن الذين آمنّا و هم الذين كفروا. فقال الرجل: كفر القوم و ربّ الكعبة ثم حمل فقاتل حتّى قتل رحمه اللّه».

أقول: يظهر من انتهاء كلّ هذا الاختلاف و المقاتلة من بعد الرسل إلى اختيار الناس باستعداداتهم و إدراكاتهم المقتضية للاختلاف طبعا الموجب للبغي و الظلم قهرا، كما تقدم في التفسير.

و ما وقع بعد سيد الأنبياء يكون كما وقع بعد سائر الأنبياء (عليهم السلام) و يمكن استناد ذلك إلى اختلاف الاستعدادات كما مرّ، أو إلى الاجتهاد مثلا أو إلى أسرار القضاء و القدر كلّ ذلك على نحو الاقتضاء. و قد مرّ أقسام الكفر في آية (7) من هذه السورة.

و في الاحتجاج عن صفوان بن يحيى قال سأل أبو قرة المحدّث الرضا (عليه السلام) فقال: «أخبرني (جعلني اللّه فداك) عن كلام اللّه لموسى فقال (عليه السلام): اللّه أعلم بأيّ لسان كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنّما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه السلام):

سبحان اللّه عما تقول و معاذ اللّه أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم به متكلّمون و لكنّه سبحانه ليس كمثله شيء و لا كمثله قائل فاعل قال: كيف ذلك ؟ قال (عليه السلام): كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، و لا يلفظ بشق فم و لسان، و لكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النّهي من غير تردد في نفس - الخبر -».

أقول: من هذا الحديث و أمثاله يظهر أنّ الكلام من صفات الفعل لا أن يكون من صفات الذات، كما يأتي في البحث الفلسفي.

ص: 194

في أمالي المفيد عن أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول: «لم يزل اللّه جل اسمه عالما بذاته و لا معلوم و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور، قلت: جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ قال (عليه السلام) الكلام محدث كان اللّه عزّ و جلّ و ليس بمتكلم ثم أحدث الكلام».

أقول: هذا الحديث ينص على ما ذكرناه من أنّ التكلم من صفات الفعل كما سيأتي أيضا.

في نهج البلاغة في خطبة له (عليه السلام): «متكلّم لا بروية مريد لا بهمة».

و فيه أيضا في خطبة له (عليه السلام): «الذي كلّم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة و اللهوات جمع لهات و هي لحمات في سقف أقصى الفم.

في تفسير العسكري: «أنّ روح القدس هو جبرائيل».

و في الكافي عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: «فأما ما ذكر من أمر السابقين فإنّهم أنبياء مرسلون و غير مرسلين جعل فيهم خمسة أرواح: روح القدس، و روح الإيمان، و روح الشهوة، و روح القوة، و روح البدن، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين و غير مرسلين، و بها علموا الأشياء».

و في رواية أخرى: «أنّ روح القدس ملك أعظم من جبرئيل».

أقول: لا ريب في أنّ روح القدس من عالم المجرّدات التي أثبته الفلاسفة بالأدلة الكثيرة العقلية و النقلية. و قد اختلفت تعبيراتهم فيه فبعض عبّر عنه بالعالم المحيط، و آخر بعالم الأملاك و الرّوحانيين، و ثالث بعالم النور. و لا مشاحة في الاصطلاح، إذ لا يمكن حصر موجودات ذلك العالم و لا دليل على انحصارها من عقل أو نقل، بل إرادة اللّه قاهرة غالبة و المحلّ ممكن غير ممتنع فلا وجه للحصر أبدا، فما ورد في السنة المقدّسة في تفسير روح القدس من أنّه جبرائيل أو أنّه ملك أعظم منه، أو روح يؤيد الأنبياء و المرسلين يمكن

ص: 195

إرجاع جميع ذلك إلى شيء واحد لأنّ لجبرائيل الذي هو مدير عالم الإمكان أعوانا و جنودا يمكن أن يكون ما يؤيد الأنبياء و المرسلين من بعض أعوانه.

و ما ورد أنّه أعظم يراد العظمة من بعض الجهات لا من جميع الجهات فترجع جميع الروايات إلى شيء واحد، و يشهد لذلك ما عن بعض قدماء الفلاسفة في شأن جبرائيل أنّه «رباني العقول».

ص: 196

بحث فلسفي
اشارة

ذكرنا أنّ قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ يدل على ثبوت صفة التكليم له تعالى مع بعض الأفراد، و قد ورد ما يدل على وقوعه منه عزّ و جل في القرآن الكريم في موارد أربعة: أحدها المقام، و الثاني في قوله تعالى:

وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء - 164]، و الثالث في قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف - 143]، و الرابع في قوله تعالى:

اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف - 144].

و لقد حظي موسى (عليه السلام) بهذه الفضيلة السامية و الموهبة العظمى في جميع تلك الموارد.

و المستفاد منها أنّها تثبت صفة من الصفات الربوبية و حقيقة من الحقائق الواقعية و هي من الوضوح بمكان بحيث لا يحتاج إلى تأويل أو ارتكاب مجاز.

و البحث في الكلام مذكور في علوم متعدّدة كعلوم اللغة و الآداب و علمي الفلسفة و الكلام الذي أخذ اسمه منه و البحث فيه يقع في أمور:

حقيقة الكلام:

خلق اللّه تعالى الإنسان مدنيّا بالطبع اجتماعيا بالفطرة يحتاج هذا الاجتماع الإنساني إلى التعاون بين الأفراد و الترابط بينهم و قد ولد هذا الترابط

ص: 197

بين المجتمع و الأفراد بعض الأمور التي لا يمكن التخلّي عنها و من أهمّها الكلام و التكلّم بين الأفراد و هو الوسيلة التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان و إذا رجعنا إلى السّير الطبيعي التكاملي في هذا الأمر الاجتماعي نرى أنّ أقدم وسيلة لإبراز ما في الضمير هي الإشارة ثم تطوّرت و قرنت الإشارة بالصّوت للدلالة على المعنى المشار إليه، ثم استقر التفاهم بالأصوات للدلالة على المعاني و نبذت الإشارة و استغني بالصّوت عنها و وضع لكلّ شيء صوتا معيّنا و الكلام هو الأصوات الحلقية التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان و وسيلة للتعبير عمّا في الضّمير وضعا و كان لذكاء الإنسان الأثر الكبير في تنضيد الألفاظ و تنسيقها و وضعها بهذه الكيفية المعهودة و لأجل ذلك تعتبر اللغة أول مظهر من مظاهر الذكاء البشري، و لا يمكن للإنسان الاستغناء عن الكلام و هو نتيجة تفاعل الأفراد المجتمعين للتفاهم فيما بينهم و كلّما اتسعت دائرة تفاهمه صارت عنده ألفاظ تدل على المعاني، و لا تزال تزيد تلك الألفاظ و اللغات تبعا لتقدم الاجتماع و الاحتياج الإنساني.

و لأجل ذلك صار الإنسان يشعر بالحاجة إلى التفاهم عن بعد، فوضع الخط و الكتابة و هي أيضا مرّت بمراحل من الخط بالرسوم ثم الخط بالرموز ثم الخط بالحروف ثم اتسعت دائرة تفاهمه و احتياجه فوضع أنظمة أخرى كما في هذه الأعصار تبعا لكثرة احتياجاته الاجتماعية.

و من ذلك يعرف: أنّ الكلام وليد التعاون الاجتماعي و هو الأصوات الحلقية المؤتلفة الدالة على المعاني بالوضع لأجل التفهيم بين أفراد الإنسان المجتمعين، و لذلك يختص بالإنسان، لأنّه اجتماعيّ كما تقدم و في غيره الذي لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي لا يعهد فيه الكلام الا على نحو المحاكاة التي هي فارغة عن الذكاء الخاص و لا يمكن التفاهم به و قد تقدم في قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة - 31] بعض القول.

و لكن هذا الكلام المبحوث عنه عند الإنسان لا يمكن صدوره عن اللّه تعالى و لا يصلح الانتساب إليه من جميع جوانبه لا من حيث أصله و حقيقته و لا من حيث صدوره و لا من جهة غايته فهو منزّه عن خروج الأصوات الحلقية

ص: 198

المعتمدة على مقاطع النفس المبتنية على الدلالة الوضعية، و منزّه عن احتياجه إلى التفاهم فإنّه تعالى أجلّ ، و أنزه من أن ينسب إليه جميع ذلك فهو الغنيّ المطلق لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ [الشورى - 11]، و سيأتي المراد من كلامه عزّ و جل الذي أثبته لنفسه الأقدس نعم حقيقة كلّ كلام - سواء كان من الخالق أو من المخلوق - أنّه إبراز للحقائق و المعاني، و هذا هو الأصل و البقية فرع عليه، بل يمكن أن نقول إنّ النظام الأحسن الأكمل الذي اتفق العقل و الشرع على حسنه و كماله يبتني على هذا الأصل الأصيل. و لكن هذا الإبراز إما أن يكون بالوحي، أو الإلهام، أو الكلام، أو القول، أو الإشارة، أو الكتابة و الخط، و غير ذلك فإنّ جميعها تشترك في حقيقة واحدة و الاختلاف إنّما هو بالاعتبار.

دلالة الكلام:

ذكرنا أنّ اللغة إنّما هي ألفاظ دالة على المعاني ينتقل الذهن إليها بمجرّد سماعها و قد مرّ الوضع اللغوي بمراحله المتعدّدة، فقد كان استعمال الألفاظ في المعاني المحسوسة أولا ثم استعملت في المعاني الأقرب إلى الحس ثم إلى المعنويات و كانت المرحلة الأخيرة هي التجريد الذي هو أعلى درجات الذكاء و القوى العقلية و من مميزات المرحلة الأولى أنّ الألفاظ كانت معدودة و هي مجموعة من بعض الأفعال و الأسماء.

و قيل: إنّ استعمال الألفاظ الموضوعة للمعاني المحسوسة في غيرها من المعاني المعقولة يكون مجازا حتّى يستقر الاستعمال و يحصل التبادر.

و لكنّه مردود بأنّ الألفاظ موضوعة للحقائق الواقعية غير المقيّدة بعالم دون آخر فالاستعمال يكون حقيقة كما يظهر ذلك من بعض أعاظم العلماء من الفلاسفة و غيرهم فلا مجاز في البين مع هذا الاتساع كاتساع المدنية و الحضارة التي أوجبت التغيير في الوسائل مع بقاء أصل الفائدة و الأثر المطلوب في جميع موارد الاستعمال و التفصيل حرّرناه في (تهذيب الأصول).

الفرق بين الكلام و غيره:

تقدم معنى الكلام الذي هو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع

ص: 199

النّفس الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية و بهذا المعنى يرادف اللغة و هو يختص بالإنسان فقط و لم يرد في القرآن الكريم استعماله في غير مورد الإنسان. و أما قوله تعالى: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النمل - 82]. فالمراد به الإنسان أيضا كما في ورد في السنة المقدّسة، و لو شاء اللّه لأظهر التكلم من يد الإنسان كما في قوله تعالى:

اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ [يس - 65] هذا و قد استعمل لفظ «كلمة» أو «كلمات» في غير مورده مثل القضاء و الخلق، و ذات الإنسان و نفسه مثل قوله تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً [الأنعام - 115]، و قوله تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [هود - 119]، و قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ [النساء - 171]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة و ليس البحث في ذلك.

و قد يطلق و يراد به القول و لكنّه أعم موردا من الأول فإنّ الأخير استعمل في الكتاب الكريم في الإنسان و غيره ففي الإنسان قال تعالى حكاية عن الحواريين: إِذْ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ [المائدة - 113]، و غيره من الآيات المباركة. كما اطلق منه تعالى على الإنسان و غيره قال تعالى: وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ [البقرة - 35]، و في مورد الملائكة قال تعالى: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ [آل عمران - 42]، و قد اطلق عليه جلّ شأنه في قوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص - 71]، و غيره من الآيات الشريفة. و في مورد الشيطان أو الجن قال تعالى: وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ [إبراهيم - 22]، و قال تعالى في قصة سليمان: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ [النمل - 39]، و في مورد غير ذوي العقول قال تعالى: ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت - 11]، و في جميع ما سواه تعالى من الممكنات قال تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم - 35].

و من المعلوم أنّ القول بالمعنى الوضعي الذي هو دائر في الإنسان لا

ص: 200

يمكن إطلاقه على اللّه تعالى و على سائر مخلوقاته غير الإنسان فلا بد أن يكون المراد من استعماله هو إبراز المقصود بعناية خاصة ففي مورد الكلام يكون بألفاظ موضوعة في المخاطبة و المشافهة و في القول بمطلق الإبراز بحيث يفهم المعنى المقصود، و في الوحي و الإلهام بعناية خاصة خفيّة و نحو ذلك فالجامع القريب في الجميع هو إبراز المقصود بعناية خاصّة و يختلف ذلك باختلاف الموارد و الخصوصيات.

كلام اللّه تعالى:

لا ريب في أنّ التكلم من صفات الباري عزّ و جل بنص من القرآن الكريم و السنة الشريفة كما عرفت، و يمكن الاستدلال عليه بالقاعدة المعروفة: «أنّ كلّ ما كان ممكنا في ذاته عزّ و جل و لم يستلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له تعالى» و هذه القاعدة من القواعد الحكمية المتينة التي استدلوا عليها بأدلة كثيرة، و قد أثبتوا أصل وجوب الذات بها قال بعض الفلاسفة:

إذ الوجود كان واجبا فهو *** و مع الإمكان قد استلزمه

و التكلم صفة كمال ممكن في ذاته جلّت عظمته و لم يلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له عزّ و جل حسب تلك القاعدة.

و تكلّمه عزّ و جل غير علمه و سائر صفاته الجمالية، و الجلالية، للقاعدة التي أسست في محله - المشهورة عند الفلاسفة و غيرهم من: «أنّ اختلاف المفهوم كاشف عن اختلاف الذات و الحقيقة الا إذا دل دليل على الاتحاد» مثل العلم فإنّه عين ذاته و متحد معه و إن اختلف مفهومه مع الذات بدليل خارجي و هو مفقود في المقام.

و البحث في كلامه تعالى الذي هو معترك الآراء و إليه ينسب علم الكلام المعروف يقع في ناحيتين:

الأولى: في المراد من كلامه تعالى فإنّ الكلام حادث بالضرورة لأنّه

ص: 201

متدرج الوجود و كلّ متدرج الوجود حادث لا محالة فلو كان المراد من كلامه عزّ و جل هذا يلزم منه أن يكون تبارك و تعالى محلاّ للحوادث و هو باطل بالضرورة و قد أثبتوا استحالته.

الثانية: في قدم كلامه أو حدوثه.

و الحق أن يقال: إنّ الكلام بالمعنى المعهود في الإنسان لا يصح نسبته إليه عزّ و جل، كما عرفت آنفا. إلا أنّ الكلام يشترك مع غيره في أنّه إبراز للحقيقة، فالجامع بين كلّ كلام - سواء كان من الخالق أو المخلوق - هو إبراز المراد و المقصود في اللفظ و الحروف و إن اختلف بالاعتبار. هذا هو حقيقة الكلام و أما خروجه من العضو المخصوص و نحو ذلك فهو خارج عن تلك الحقيقة.

نعم، قيام هذا التكلم فيه تعالى إنّما يكون قياما صدوريا كسائر أفعاله المقدّسة مثل الخلق و الرّزق و نحوهما بخلاف صفاته الذاتية فإنّها عين ذاته جلّت عظمته.

فالكلام من صفاته الفعلية، للقاعدة التي ذكرناها مرارا في الفرق بين الصّفات الذاتية و الصّفات الفعلية من أنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها و بنقيضها - أي الثبوت و السلب - كانت من صفات الفعل، و كلّ صفة لا يمكن سلبها عنه عزّ و جلّ فهي من صفة الذات، و التكلّم مما يمكن سلبه عنه عزّ و جل و إثباته له تعالى فهو من صفات الفعل، قال تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء - 164]، و قال تعالى: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران - 77]، فهو كالرّزق و الهداية و غيرهما من صفات الفعل التي يصح الاتصاف بها و بنقيضها من دون أن يلزم محذور في البين. و فعله حادث فالتكلم حادث فلا يكون قديما، كما أنّ إرادته جلّت عظمته فعله فهي أيضا حادثة. نعم، منشأ كلامه إنّما هو علمه تعالى، فهو بمنشئه في مرتبة الذات و بفعليته و إرادته في مرتبة الصّفات الفعلية الحادثة.

ص: 202

و يمكن إرجاع كلمات القوم إلى ما ذكرناه و إن أبى ظاهر بعضها عن ذلك فإنّهم اختلفوا في ذلك فقال بعضهم بقدم كلامه و قال آخر بأنّه حادث مخلوق. و قال ثالث إنّ التجدد و التبدل إنّما يكون في المتعلّق بالعرض كالعلم.

و لكن مما ذكرناه تعرف المناقشة في جملة مما ذكره الفلاسفة و المتكلّمون في المقام و أطالوا فيه الكلام فيكون أصل النزاع صغرويّا بينهم، و اختلاط بين صفات الفعل و صفات الذات، فمن جعل الكلام من صفات الذات ذهب إلى الكلام النفسي.

الكلام النفسي:

قلنا: إنّ الكلام و القول في الإنسان عبارة عن إبراز المقصود و المراد بواسطة الحروف و الأصوات الحلقيّة، و في اللّه تعالى: إبراز المراد بواسطة الحروف على نحو الإيجاد فإذا سمعها المخاطب ينتقل ذهنه إلى المدلول عليه باللّفظ فيحصل التفهيم و التفهيم، و قد ذكرنا أنّ الكلام يشترك مع كثير من الدّلالات في هذا الغرض كالإشارة و المحاكاة و نحوهما فإنّ من ذلك محاكاة وجود المعلول عن وجود العلّة و دلالته على خصوصياتها، و من ذلك ما يقال من حكاية عالم الإمكان عن علّته الحقيقية، و كونه مظهرا من مظاهر علمه عزّ و جلّ و صفاته العليا المقدسة و أسمائه الحسنى تبارك و تعالى و دالاّ عليه عزّ و جل، فهو تعالى الدال على ذاته بذاته.

و كيف كان فالكلام هو الألفاظ الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية و هذا هو المعنى المعروف فيه الذي ينصرف الذهن إليه عند إطلاقه في العرف و اللغة.

و لكن ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الكلام على قسمين: الكلام اللفظي و هو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع النّفس و الحروف. و الكلام النفسي و هو المعاني الذهنية التي يدل عليها الكلام اللفظي و قالت: إنّ الكلام اللفظي في اللّه تعالى حادث زائد على الذات، و الكلام النفسي فيه عزّ و جل شيء قائم

ص: 203

به قديم بقدمه و استشهدوا بقول الأخطل:

إنّ الكلام لفي الفؤاد و إنّما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

و قالوا: إنّ هذا هو الكلام حقيقة الذي لا يختلف باختلاف العبارات و الألفاظ و لا يتغيّر بتغيرها، و يدل عليه اللفظ و الإشارة و الكتابة. و أنكر سائر الفلاسفة ذلك و أبطلوا الكلام النفسي و اعتبروا المعاني النفسية صورة علمية و ليست من الكلام بشيء، فالكلام عندهم ليس إلا الأصوات و الألفاظ التي تعبّر عن المعاني الذهنية التي هي صور علمية تصورية.

و البحث فيه يقع تارة: في مرحلة الثبوت و التصوير و أخرى: في مرحلة الإثبات و مقام الحجة و البرهان.

أما الأول: - فلا يعقل ثبوتا معنى للكلام النفسي، لأنّهم يقولون في تعريفه: إنّه ليس من العلم و لا الإرادة بل هو شيء في مقابلهما قائم بالنفس حادث في الإنسان قديم في اللّه تعالى.

و فيه: أنّه لا تعقل صفة أخرى في النفس في مقابل العلم و الإرادة حتّى تسمّى بالكلام النفسي و إن أرادوا مما يسمونه بالكلام النفسي في اللّه تعالى علمه الأزلي فلا مشاحة في الاصطلاح و لكن أكابرهم يصرّحون بالاختلاف، فالكلام في اللغة و العرف و العقل يطلق حقيقة على تلك الأصوات الحلقية الدالة على المعاني، كما عرفت. و المعاني في الذهن إنّما هي صور علمية ذهنية و هي غير الكلام النفسي.

قد يقال: إنّ الشيء الواحد قد يختلف باعتبارين فإنّ الصور الذهنية إنّما تكون علما و انكشافا للواقع من هذه الجهة و كلاما من جهة كونها علما مفاضا للغير.

و هو باطل لأنّ الصور العلمية هي نفس العلم و هم يصرحون بأنّ الكلام النفسي غير العلم. مع أنّ القول بالكلام النفسي بمعنى الصور الذهنية في اللّه تعالى يستلزم ثبوت تلك الصور الذهنية له عزّ و جل و تكثرها، و كون علمه حصوليا، و اعتبار كلامه محتملا للصدق و الكذب و غير ذلك، و لا أظن أنّ

ص: 204

عاقلا يلتزم بذلك فإنّ علمه تبارك و تعالى عين ذاته الأقدس، و هو منزّه عن جميع هذه اللوازم الباطلة فإنّ كلامه صدق و عدل و منزّه عن الذهن و التركب.

و أما المقام الثاني - أي إثبات الكلام النفسي - فقد استدلوا بأدلة كثيرة واضحة الفساد لمن أمعن النظر فيها.

منها: أنّ اللفظ كاشف عما يترتب في نفس المتكلّم قبل التلفظ به.

و الجواب عنه: ما ذكرناه آنفا من أنّه تصور مداليل الألفاظ الذي هو العلم. و دلالة الألفاظ عليه تكون دلالة عقلية، كدلالة الأفعال على ما يتصوره الفاعل.

و منها: أنّ إطلاق الكلام على الموجود الذهني صحيح حقيقي لا يحتاج إلى عناية و يدل عليه قوله تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ [الملك - 13].

و يرد عليه: ما تقدم سابقا مع أنّه معارض بما إذا تصور الفعل في النفس فلا بد أن يقال لذلك فعل نفسي و لا يقولون به.

و منها: أنّ إطلاق الكلام على اللّه تعالى إنّما هو باعتبار من قام به الكلام لا من أوجده، و القائم به لا يكون إلا قديما.

و فيه: أنّ إطلاق الكلام عليه عزّ و جل باعتبار القيام به على نحو آخر من أنحاء القيام كما هو مفصّل في علمي الفلسفة و الأصول كقيام الرزق و الخلق بالنسبة إليه عزّ و جل و الا كان الرزق و الخلق قديمين و لا يقولون به.

و استدلوا بأدلة أخرى هي موهونة جدّا لا يخفى على من راجعها في مظانّها.

ص: 205

سورة البقرة الآية 254

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ اَلْكافِرُونَ .......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (254) أمر سبحانه و تعالى في ما تقدم بالإنفاق بأسلوب لطيف فيه التحبب و الترغيب و العناية بالمنفقين و عقب هنا الأمر بالإنفاق للمؤمنين خاصة بأسلوب آخر فيه الترهيب و ذلك لأنّ الآية الأولى كانت بعد الأمر بالقتال في سبيل اللّه تعالى و إخبار الأمم الماضين فالمقام يقتضي الترغيب إلاّ أنّ هذه الآية وردت بعد اختلاف الأمم و اقتتالهم بعد ما جاءتهم البينات فاقتضى الترهيب، أو لاختلاف النفوس فإنّ أكثر الناس لا يفيدهم الترغيب إن لم يكن مقرونا بالترهيب، فأمر سبحانه بالإنفاق قبل أن تنقطع الأسباب و يأتي يوم لا يرجى الا رحمته و لا ينفع الإنسان إلا ما قدمه في هذه الحياة وعدّ سبحانه و تعالى من لم يعمل بأحكامه و أوامره عزّ و جل من الكافرين الظالمين لأنفسهم المستوجبين للعقوبة و الخذلان بسوء اختيارهم و خبث ضمائرهم.

ص: 206

التفسير

254 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ .

الخطاب للمؤمنين باعتبار أنّهم أشرف الأفراد أو لأنّهم المؤهلون لقبول الأحكام الإلهية أو لغير ذلك مما ذكرنا في مثله، و قد تقدم أنّه خطاب مدني نزل بعد هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة و نزول جملة من الأحكام الشرعية.

و الإنفاق معروف و هو يشمل الواجب منه و المندوب، و يستفاد من نسبة الرزق إليهم الحث على الإنفاق فإنّ ما عندهم إنّما هو رزق من اللّه تعالى - فهو إنفاق من مال اللّه الذي رزقهم - و هو الرازق و المنعم عليكم أي: أنفقوا من بعض ما جعلكم مستخلفين فيه.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ .

البيع معروف و هو إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و الشراء عكسه، و قد يطلق أحدهما على الآخر.

أي: أنفقوا من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا يمكن ابتياع شيء للتفدية به و حفظه نفسه.

ص: 207

قوله تعالى: وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ .

الخلّة و الخلال خالص المودة بحيث تخلل في جميع الجسد كتخلل الروح فيه، يقال: قد تخلّلت مسلك الروح منّي. و سمي الخليل خليلا لأجل ذلك.

أي: أنّ يوم القيامة تنقطع فيه الأسباب الظاهرية التي كانت دائرة في الدنيا فلا تنفع الصداقة فإنّ اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ [الزخرف - 67]، و لا تفيد الشفاعة فإنّها لا تكون إلا لمن اتخذ عند اللّه عهدا أو لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28]، و الأمر يومئذ كلّه للّه.

و نظير الآية قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة - 123]، فليس للإنسان إلا ما سعى في هذه الدنيا.

و المراد من الشفاعة المنفية في هذه الآية و نظائرها: شفاعة بعض أهل الدنيا لبعضهم الآخر لأغراضهم الدنيوية، و أما الشفاعة بإذنه جلّت عظمته للعصاة على ما أذن فيه تعالى، فلا ريب في ثبوتها في الآخرة عقلا و شرعا، كما يأتي في البحث الكلامي.

و يمكن أن تحمل الشفاعة المنفية على الصّداقة المتحققة في الدنيا، كما عن بعض المفسرين. و لكنّه بعيد عن سياق الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

أي: التاركون للإنفاق مما رزقهم اللّه تعالى المعرضون عنه هم الظالمون لأنفسهم إذ حرموها السعادة الأبدية، و أوجبوا على أنفسهم الشقاوة الدائمة الخالدة، فقد تركوا ما يؤهلهم لنيل رحمة اللّه و نجاتهم فأي ظلم يتصوّر أشد من هذا.

و الآية تثبت أمرا حقيقيا و هو عالم الآخرة التي تنقطع فيه الأسباب الظاهرية التي كانت تدور في عالم الدنيا فلا يفيد في ذلك العالم الا ما سعى

ص: 208

الإنسان في هذا العالم و تدل على ذلك جملة كثيرة من آيات الذكر الحكيم قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اَللّهُ وَ نَسُوهُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [المجادلة - 6]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ [البقرة - 281]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و كذلك السنة الشريفة.

و يمكن أن يقام الدليل العقلي عليه أيضا فإنّ الإنسان إذا بلغ في السّير التكاملي إلى مقام خلاقية النفس بكلّ ما يشاء و ما يريد لا يرى إلا ذاته - كما أثبته أكابر الفلاسفة - فيكون كمال ذاته و ابتهاجها بذاته من دون احتياج إلى شيء آخر حتّى يمكن تداركه بالبيع أو الخلّة، و كذا إذا وصل في النزول إلى مرتبة لا ينفعه شيء أبدا، فكلّ واحد من الخلودين ينقطع فيهما الأسباب و الحاجات ففي قوس الصعود تنقطع حاجات الدنيا بانفتاح أبواب البركات المعنوية، و في غاية قوس النزول تنقطع الحاجات بالمرة، لعدم إمكان رفع الحاجة و التدارك، بالخلّة، أو الشفاعة التي لم تكن إلا بإذن اللّه تعالى.

و في الآية الشريفة كمال التحريض على اغتنام الفرصة بأيّ وجه أمكن قبل فواتها مثل قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ [المائدة - 48]، و قوله تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ [الحديد - 21].

و قول عليّ (عليه السلام):

«اغتنموا الفرص فإنّها تمر مرّ السحاب».

ص: 209

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول: يدل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا على رجحان الإنفاق عقلا و شرعا و إطلاقه يشمل الواجب و المندوب كما يشمل جميع ما رزقه اللّه تعالى لعبده المؤمن من مال أو جاه أو نفع أو منفعة أو انتفاع، أو الاعتقاد الصحيح و العلم النافع و العمل الصالح بشرط أن يكون لمرضاة اللّه فإنّ ذلك هو المقصود الأصلي من إنفاق ما رزقه اللّه تعالى.

الثاني: تدل الآية الشريفة على أنّ ترك العمل بما أنزله اللّه تعالى و التقصير في الانتفاع بصالح الأعمال مع العلم بالارتحال من هذه الدنيا و عدم الاستقرار في دار الزوال كل ذلك يوجب الحسرة العظمى في دار القرار و هي كافية في العذاب و لا يحتاج إلى عذاب النار، و لذا لم يعيّن سبحانه و تعالى نوعا من العذاب في هذه الآية الشريفة، و إنّما بيّن انقطاع أسباب التوقّي التي كان يتخيل أنّها تنفع في تلك الدار.

الثالث: يمكن أن يراد بالبيع مطلق المبادلة المالية و الانتقال بيعا كان أو هدية أو غيرهما مما يدور هذا العالم عليه، كما أنّه يمكن أن يراد بالخلّة مطلق

ص: 210

المصاحبة الدائرة بين أفراد الإنسان في هذه الدنيا كما في قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ [عبس - 25]، و إنّما أتى بالخلّة لبيان أنّها إذا لم يفد هذا النوع من المصاحبة فغيرها بطريق أولى.

الرابع: تدل الآية الشريفة على أنّ الدنيا دار عمل و اكتساب و الآخرة دار جزاء و ثواب و يمكن أن يكون

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة» مكتسبا من أمثال هذه الآية المباركة.

الخامس: الآية الشريفة ظاهرة في تبدل الصور الدنيوية إلى صور أخرى تناسبها في عالم الآخرة، فإنّ البيع و الخلّة و الشفاعة التي كانت دائرة في هذه الدنيا، فإنّ جميعها تتبدل إلى صور أخرى إما بما ينافيها إن كانت لغير اللّه تعالى، أو بما هو أشرف منها إن كانت للّه تعالى.

و تبدل الصور و انقلابها لا يختص بعالم الآخرة بل هي دائرة في هذه الدنيا - كما أثبته أكابر الفلاسفة (رحمهم اللّه تعالى) - و أنّ القصور و الترتيب في العوالم، إنّما هو بالنسبة إلى المدرك - بالكسر - لا في الواقع و الحقيقة، فإنّ عدم رؤية الأعمش إنّما هو لقصور في بصره لا لقصور في المبصر، و هذا بحث علمي دقيق نتعرّض له في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

السادس: إنّما قال تبارك و تعالى: وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ المستفاد من سياقه الحصر، لأنّ الكفر باللّه العظيم أو باليوم الآخر من أقوى و أغلظ الحجب بين النفس الإنسانية و المعارف المعنوية و الكمالات الحقيقية و لا يرتفع هذا الحجاب القوي الشديد بأيّ رافع و في أيّ عالم من العوالم التي ترد على الإنسان ما لم يرفعه عن نفسه باختياره الإيمان في هذا العالم، فتركه باختياره ظلم لنفسه كذلك.

و يمكن أن يستأنس من هذه الآية المباركة و أمثالها بشارة إلهية و هي أنّ كل ما ورد في القرآن الكريم من الإيعاد على الظلم يراد به ترك الإيمان باللّه تعالى - أي الكفر - باختياره بقرينة ما تواتر

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عن اللّه تعالى: «كلمة لا إله إلا اللّه حصني فمن دخل حصني أمن عذابي» اللهم ثبتنا في هذا الحصن العظيم و اهدنا الصراط المستقيم.

ص: 211

بحث أدبي

قرأ بعض الآية الشريفة لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ بالنصب من غير تنوين و كذا في نظائر المقام كقوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ [إبراهيم - 31]، و قوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ [الطور - 23]، و ذلك حملا للنفي على الاستغراق لجميع الوجوه المتصورة في كلّ صنف و استشهد بقول حسان بن ثابت:

ألا طعان، ألا فرسان عادية *** إلا تجشؤكم حول التنانير

و حينئذ تكون لا و المنفي في موضع رفع بالابتداء، و الخبر (فيه). أو صفة (اليوم).

و المشهور قراءة الآية الشريفة بالرفع و التنوين، لأنّ (لا) بمنزلة (ليس) فيكون المرفوع مبتدأ أو اسم ليس و الخبر (فيه) فيكون الجواب غير عام. و هناك وجوه ثلاثة أخرى في إعراب هذه الجملة مذكورة في الكتب المفصّلة في إعراب جملة (لا حول و لا قوة إلا باللّه).

ص: 212

بحث عرفاني

للحق جلّت عظمته تجليات:

منها: تجلّي ذاته بذاته لذاته، و فيه تجلّي علمه و حكمته و قدرته و جميع الصفات الراجعة إلى الذات الأقدس و يلزم ذلك ابتهاج الذات بالذات و لا يعقل حد لهذا الابتهاج المنبعث عن الجامعية المطلقة للكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال و يقصر عن شرحه المقال.

و منها: تجلّيه تعالى في صفاته الفعلية لما سواه و يلزم ذلك التكثر في المتعلّق لا في الذات لكن من ينظر إلى أنّ التكثرات من حيث إنّها من آثار تجلّيه تعالى يرى وحدة التجلّي من حيث الإضافة إلى الواحد الأحد لا من جهة التكثرات

و قد نسب إلى عليّ (عليه السلام): «ما رأيت شيئا الا و رأيت اللّه قبله و معه» و كذا يمكن ذلك لمن كان منقطعا إليه تعالى بحقيقة معنى الانقطاع فالبيع و الخلّة و الشفاعة لأهل الانقطاع إليه عزّ و جل كمال الانقطاع تكون من مظاهر إذنه و تجلّياته.

و منها: تجلّياته التي تحصل باختيار عباده الصالحين فكلّ فعل من الأفعال الحسنة أضيف إليه عزّ و جل يكون من مظاهر تجلّيه خصوصا الصّلاة الجامعة للشرائط كما مرّ.

ص: 213

و منها: تجلّيه في الآخرة و هو يقصر البيان و يعجز القلم عن تحديده وحده.

و منها: تجلّيه بإفناء ما سواه ثم إيجاد ما أفناه و هو يدل على قهاريته قال تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [غافر - 16]، إلى غير ذلك ممّا مرّ في بعض المباحث السابقة بل تجلّياته تبارك و تعالى غير محدودة كما قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن - 29].

ص: 214

بحث كلامي
اشارة

من الألفاظ الشايعة في القرآن الكريم لفظ (الشفاعة) و مشتقاتها التي ربما تبلغ أكثر من ثلاثين موردا، و المستفاد من مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الشفاعة أنّها من الأمور الثابتة المتحققة بلا ريب و لا إشكال إلا أنّ في بعضها تنسب الشفاعة إلى اللّه تعالى بالأصالة و في بعضها الآخر تنسبها إلى غيره عزّ و جل برضاه و إذنه، فهي لا تنفي الشفاعة من أصلها.

و الشفاعة من الموضوعات التي كثر الاهتمام بها في الإسلام بل في سائر الأديان الإلهية، فقد بحث عنها في غير واحد من العلوم الإسلامية كعلم الكلام، و علوم التفسير و الحديث و الفقه.

و الإلمام بها يقتضي البحث في مفهوم الشفاعة و متعلّقها، و ثبوتها، و مورد جريانها، و شروطها، و زمان تحقّقها، و من تصح منه، و نسبتها إلى سائر المفاهيم الشرعية التي تثبت العفو و المغفرة و غير ذلك.

مفهوم الشفاعة:

مادة (شفع) تأتي بمعنى ضم الشيء مع غيره لغرض يترتب عليه، فالشفاعة هي انضمام المشفوع له مع المستشفع لنيل غرض لا يناله إلا بها.

و هي من الأمور الدائرة بين أفراد الإنسان لتحقيق أغراض خاصة و إنجاح بعض المقاصد كما أنّها من الرّوابط الاجتماعية الوثيقة بين الحاكم و المحكوم عليه.

ص: 215

و إذا تأملنا في الشفاعة الدائرة في الاجتماع الإنساني نلاحظ أنّها تكون من متمّمات الأسباب، فهي جزء المقتضي بالتعبير العلمي لا العلة التامة المنحصرة لأنّها لا تكون إلا فيما إذا كان المشفوع له قابلا في الجملة لنيل الغرض المترتب على الشفاعة فلا مجرى لها في ما لا قابلية له أصلا كما أنّها متوقفة على إذن المشفوع عنده للشفيع، فإذا أراد فرد أن ينال كمالا أو خيرا يليق به - ماديا كان أو معنويا - أو أراد الخلاص من عقاب المخالفة بعد استحقاقه يلجأ إلى الشفاعة، فيضم إلى سببه الناقص الذي عنده من لياقة أو نحوها سببية الشفيع الذي هو بدوره لا بد أن يكون مؤهّلا لقيامه بهذه الوساطة، فالشفاعة من الأسباب المتمّمة في التأثير لا المستقلّة هذه هي الشفاعة الدائرة في المجتمع و إنّها تتقوم بأمور:

الأول: أن يكون المشفوع له مؤهلا و قابلا لنيل الغرض و المراد في الجملة و إن كان ناقصا من جهة فيتمم تلك الجهة بالشفاعة فلا أثر للشفاعة في ما لا قابلية له أصلا كالشفاعة لفرد أمي لا يعرف شيئا أن يحوز منصبا علميّا كبيرا أو الشفاعة للمشرك أن يدخل الجنة.

الثاني: الشفاعة إنّما تكون في الأمور الخارجية عن الذات كالكمالات الاكتسابية التي تكون بالاختيار أو الأمور الموجبة لمخالفة القانون بالاختيار.

الثالث: أنّه لا مجرى للشفاعة في الأمور التكوينية و الأسباب الطبيعية سواء كانت من الخير و الشر أو النفع و الضر إلا بالعناية فيها فلا بد من الرجوع إلى أسبابها الطبيعية و الوسائل المناسبة فإنّ العطش مثلا إنّما يرتفع بالارتواء و الشرب، و الجوع بالأكل، و المرض بالدواء، و الحر بالوسائل المناسبة، و البرد باللبس و غير ذلك من الأمور الطبيعية و لا أثر للشفاعة فيها. نعم في جملة من التكوينيات يكون انضمام شيء إلى شيء آخر موجبا لحصول الغرض المقصود و تسمية ذلك بالشفاعة تكون بالعناية.

الرابع: أنّ الشفيع إنّما يكون جزء متمما آخر منضما لسببية المشفوع له إذا كان بحد نفسه قابلا للقيام بالسببية و مؤهلا لها فيتوسط بين المشفوع له

ص: 216

و المشفوع عنده بما يوجب نيل الكمال أو دفع الشر و العقاب و هو إنّما يتوسل لدى المشفوع عنده بما يؤثر عليه من صفات حميدة فيه عنده كالرّحمة و الكرم و نحوهما أو في المشفوع له كالعبودية و المذلّة و غيرهما.

الخامس: أنّ الشفيع إنّما يرجع إلى المشفوع عنده بما يرتضيه لا بما هو غير ممكن أو لا يرتضيه فإنّ ذلك قبيح لا يمكن أن يكون مورد الشفاعة فلا يرجع عليه في خلع المولوية عن نفسه أو إبطال الحكم و التشريع أو إلغاء المجازاة و نحو ذلك فإنّ هذه الأمور مما تقبح الشفاعة فيها و هو من المضادة و المعارضة لا من الشفاعة و إلى ذلك يشير

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه عزّ و جل فقد ضاد اللّه في أمره».

فالشفاعة عند العرف توسط بين السبب و مسببه فهي لا تخرج عن مطلق قانون السببية لكن لا على نحو المضادة و المعارضة و الغلبة كما في الأسباب الطبيعية و التكوينية.

الشفاعة في الإسلام:

تقدم أنّ الشفاعة قد وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة و السنة الشريفة بما لا يحصى و لم يرد تحديد من الشرع فيها فيستفاد أنّها في الإسلام هي نفس ما عليه في العرف و الاجتماع الإنساني إلا أنّ أثرها الكبير يظهر في يوم القيامة و ليس لها في هذه الدنيا ذلك الأثر الكبير، و لكن نسبة الشفاعة إلى اللّه عزّ و جل تكون على نحوين:

الأول: توسط الأسباب بينه تعالى و بين غيره فإنّه عزّ و جل المبدأ و المنتهى و إليه يرجع الأمر كلّه و هو المالك للخلق على الإطلاق و الرب لهم و له من الصفات العليا الحسنى و القيومية العظمى التي يدبر بها خلقه. و بينه تعالى و بين خلقه المحتاج إليه أسباب عادية و علل وجودية و وسائط كثيرة فإنّه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها فتكون مجاري إعمال قدرته مثل مجاري الطبيعة و التكوين.

و إطلاق الشفاعة على هذا النوع من السببية صحيح و لا مانع منه عقلا، بل يستفاد ذلك من قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس - 3]، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السّموات و الأرض و التدبير لهما، فلا تكون إلا في أمور التكوين و يستفاد من الآية أنّ الشفاعة بهذا المعنى هي من جملة تدبير الخلق و تنظيم النظام الأحسن الربوبي، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255]، فهذه هي الشفاعة التكوينية أي توسيط العلل و الأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب و خالق الأرض و السّماء و بين خلقه المفتقر إليه.

ص: 217

و إطلاق الشفاعة على هذا النوع من السببية صحيح و لا مانع منه عقلا، بل يستفاد ذلك من قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس - 3]، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السّموات و الأرض و التدبير لهما، فلا تكون إلا في أمور التكوين و يستفاد من الآية أنّ الشفاعة بهذا المعنى هي من جملة تدبير الخلق و تنظيم النظام الأحسن الربوبي، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255]، فهذه هي الشفاعة التكوينية أي توسيط العلل و الأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب و خالق الأرض و السّماء و بين خلقه المفتقر إليه.

الثاني: الشفاعة لديه تعالى بمعنى رفع العقاب عن عباده العاصين أو زيادة الثواب لعباده المطيعين، فإنّ اللّه تعالى أرسل الرسل مبشرين و منذرين مبلّغين صادعين بالحق و أنزل معهم الكتاب المشتمل على الأحكام التشريعية الراجعة إلى مصالح العباد و وضع الثواب للمطيعين و العقاب على العاصين و أقام الحجة في العباد و أتمها عليهم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال - 42]، و لكنّه تعالى رأفة بخلقه و رحمة بعباده جعل الشفاعة لنفسه، و هو من شؤون رحمته المطلقة التي وسعت كلّ شيء و هذه هي الشفاعة في الجعل و التشريع.

و بعد كون أصل الشفاعة بيده و تحت استيلائه و قدرته، له تبارك و تعالى أن يجعلها لمن يشاء من خلقه و يريد وفق الحكمة البالغة و العلم الأتم، و تدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه - 109]، و قال تعالى: لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى [النجم - 26]، و إطلاق قوله تعالى: لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28]، يدل على أنّه لا بد في الشفاعة من إذنه في المشفوع له و الشفيع. و قال تعالى:

وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف - 86].

و المستفاد من جميع ذلك: أنّ الشفاعة بجميع جهاتها و خصوصياتها لا بد أن تكون تحت اختياره و إرادته كما تدل على ذلك القاعدة العقلية أيضا

ص: 218

فالشفاعة على نحو ما تقدم مطابقة للعقل و الشرع و العرف، فمن أنكرها بهذا المعنى إنّما ينكر أمرا وجدانيا يعترف به بجنانه و ينكره بلسانه.

ثبوت الشفاعة:

لا ريب و لا إشكال في إمكان الشفاعة فهي ليست من المحالات الأولية، لما هو المتسالم بين الفلاسفة من أصالة الإمكان في كلّ شيء الا إذا دل دليل معتبر على الامتناع، و لم يتخيل أحد في أنّ الشفاعة من الممتنعات الذاتية هذا بالنسبة إلى الإمكان الذاتي.

و أما الإمكان الوقوعي فقد دلت الأدلة العقلية و النقلية على وقوعها في الخارج على ما يأتي من التفصيل، و قد استدل على تحقق الشفاعة بالأدلة الأربعة: الكتاب، و السنة، و الإجماع، و العقل.

الشفاعة في القرآن:

تدل عليها آيات كثيرة منطوقا و مفهوما، نفيا و إثباتا في الدنيا و الآخرة و هي على طوائف:

الاولى: الآيات التي تدل على انحصار الشفاعة في اللّه و اختصاصها به عزّ و جل قال تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر - 44] و قال تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة - 4]. و قال تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ [الأنعام - 70].

الثانية: ما تدل على التعميم و ثبوتها لغيره عزّ و جل بإذنه و رضاه و هي كثيرة منها: قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255].

و منها: قوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28] و منها: قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً [مريم - 87] و منها: قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه - 109]، و منها: قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى النجم - 26].

ص: 219

و منها: قوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28] و منها: قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً [مريم - 87] و منها: قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه - 109]، و منها: قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى النجم - 26].

الثالثة: ما تدل على ثبوت الشفاعة في الدنيا قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً [النساء - 85] فإنّ سياقها يدل على أنّها في الدنيا.

الرابعة: ما تدل على نفي الشفاعة إما مطلقا أو في يوم القيامة أو عن طائفة خاصة قال تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ [طه - 109]، و قال تعالى: أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ [البقرة - 254] و قال تعالى: وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف - 86]، و قال تعالى: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً [مريم - 87] و قال تعالى: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر - 18] و المراد من الظّالمين الكافرين بقرينة قوله تعالى: وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

و المستفاد من مجموعها: أنّ الشفاعة ثابتة للّه تعالى أصالة و هو المالك لها و تكون لغيره تعالى بإذنه و رضاه، و هي لا تكون في يوم القيامة إلا لمن ارتضاه اللّه تعالى و أذن له بالشفاعة و هذا هو الذي تقتضيه القواعد العقلية لانحصار مالكية كلّ شيء فيه تعالى و جميع تلك الآيات المباركة تدل على عدم ثبوتها لغيره عزّ و جل اقتراحا من الناس و من دون مشية اللّه تعالى و ارتضائه، فتحمل الآيات النافية للشفاعة إما على الشفاعة الاقتراحية للناس، أو على وقت دون وقت.

و نسبة الشفاعة إليه عزّ و جل كنسبة سائر الأمور المختصة به عزّ و جل التي يفيضها على غيره: كعلم الغيب، و الرزق، و الحكم، و الملك و غير ذلك مما هو كمال له فإنّه تعالى يثبته لنفسه عزّ و جل و ينفيه عن غيره ثم يثبته له بإذنه و ارتضائه و هذا شايع في القرآن الكريم فإنّ الأمر للّه و هو فعّال لما يريد.

ص: 220

الشفاعة في السنة:

وردت أخبار متواترة بين المسلمين في الشفاعة و أنّها المقام المحمود الذي وعد اللّه به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) يوم القيامة

ففي صحيح مسلم عن أنس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت و إنّ من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد» ذكره جمع غفير من العلماء.

و أخرج البيهقي في الاعتقاد عن جابر بن عبد اللّه عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «أنا قائد المرسلين و لا فخر، و أنا خاتم النبيين و لا فخر، و أنا أول شافع و مشفّع و لا فخر» رواه الدارمي في سننه أيضا عن صالح ابن عطاء.

و أخرج البخاري عن أنس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال:

«إنّ لكلّ نبي دعوة قد دعا بها في أمته و إنّي اختبأت دعوتي شفاعة لامتي».

و روى أبو داود عن أبي بن كعب أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال:

«إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء و خطيبهم و صاحب شفاعتهم من غير فخر».

و روى أبو داود أيضا و الحاكم عن عمر عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

«إنّ الشمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم (عليه السلام) فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى، فيقول كذلك ثم بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتّى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه اللّه مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلّهم».

و روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «يخرج قوم من النار قد احترقوا فيدخلون الجنة فينطلقون إلى نهر يقال له الحياة فيغتسلون فيه فينضرون كما ينضر العود فيمكثون في الجنة حينا، فيقال لهم تشتهون شيئا فيقولون: أن يرفع عنا هذا الاسم قال (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 221

فيرفع عنهم».

و عن سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن شفاعة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يوم القيامة قال (عليه السلام): يلجم الناس يوم القيامة العرق و يرهقهم القلق. فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول: إنّ لي ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه، و يردهم كلّ نبيّ إلى من يلي حتّى ينتهوا إلى عيسى فيقول: عليكم بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله و على جميع الأنبياء) فيعرضون أنفسهم عليه، و يسألونه فيقول: انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنة و يستقبل باب الرحمة، و يخر ساجدا فيمكث ما شاء اللّه، فيقول اللّه عزّ و جل:

ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط و ذلك قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً .

و روى البرقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و نصرت بالرعب، و أحل لي المغنم، و أعطيت جوامع الكلم، و أعطيت الشفاعة».

و عن داود بن سليمان عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا فمن كانت مظلمته فيما بينه و بين اللّه عزّ و جل حكمنا فيها فأجابنا، و من كانت مظلمته فيما بينه و بين الناس استوهبناها فوهبت لنا، و من كان مظلمته فيما بينه و بيننا كنا أحق من عفا و صفح».

و عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال: «من كذب بشفاعة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لم تنله» إلى غير ذلك من الروايات المتواترة بين المسلمين كما يأتي التعرض لقسم آخر منها.

ص: 222

الشفاعة و الإجماع:

و هو من المسلمين بأجمعهم بل تعد من ضروريات الدّين إلا ممن لا يعتنى بمخالفته و تعرّضوا للإجماع في كتبهم الكلامية و الحديثية و التفسيرية بل يمكن ادعاء إجماع الملّيين على ذلك فإنّ الشفاعة مسلّمة في الكتب المقدسة و صرّح علماؤهم بتحققها.

الشفاعة و العقل:

و يمكن تقريره بوجوه:

منها: أنّ اللّه تعالى غني بالذات عن طاعة عباده لا ينتفع منها بشيء أبدا و لا يضرّه عصيان جميعهم و لا ينقص بسبب ذلك منه شيء أبدا و لا ريب في تسلّط الشيطان و النفس الأمارة على الإنسان و إحاطتهما به كما هو محسوس بالوجدان، و حينئذ فالشفاعة كالعفو و الإغماض عن الخطإ و الزلل مع تحقق الشرائط حسن عقلا لا سيّما في عالم تنحصر الأسباب في ذات واحدة و فيه من الأهوال و الشدائد ما لا يحصى، فانحصر رفعها في واحد فقط، فترك العفو و الإغماض عمن يقدر عليهما بمجرد قول: «كُنْ فَيَكُونُ » مع عدم مانع في البين قبيح و هو مستحيل بالنسبة إليه عزّ و جل، فتجب الشفاعة عليه عقلا في النظام الأحسن الربوبي كالرزق الواجب عليه تعالى في عالم الدنيا كلّ بالأسباب المعدة له، و الشفاعة رزق معنوي يكون الناس أحوج إليها بمراتب كثيرة.

و منها: أنّ تنظيم العوالم بالأحسن يجب عقلا على مديرها و مدبرها المنحصر في الحيّ القيوم، و من أهم جهات التنظيم و الترتيب العفو و الإغماض عن العاصي الأثيم بعد وجود الشرائط و ترك ذلك و إهماله موجب لإخلال النظم و هو محال على الحكيم العليم.

و منها: أنّ الشفاعة معلولة لأصل تشريع الأحكام تدور معه أينما دار و حيث إنّ أصل التشريع منحصر باللّه تعالى، فالشفاعة و الثواب و العقاب لا بد أن تنحصر فيه مباشرة أو تسبيبا.

ص: 223

فالكل من نظامه الكياني *** ينشأ من نظامه الرباني

و منها: أنّ ترك الشفاعة مع وجود المقتضي لها و فقد المانع عنها نقص في رحمته التي هي عين ذاته تعالى فيرجع إلى نقص الذات و هو من المحالات الأولية بالنسبة إليه جلّت عظمته.

ثم إنّه يمكن إدخال الشفاعة في مفهوم قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفتح - 14]، و قوله تعالى:

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت - 21]، و قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [الرعد - 39]، و ثبوت الاختيار له تعالى في البقاء كثبوته له عزّ و جل في أصل الحدوث و هو مقتضى تمام ملكه و مالكيته و قهاريته.

و يمكن الاستدلال على تحقق الشفاعة بالقاعدة المسلّمة بين الفلاسفة من أنّ الخير المحض بل الخير بالإضافة مقدّم على الشر و قد قرّرها اللّه جل جلاله بقوله: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 114]، فأنبياء اللّه تعالى - سيّما أشرفهم و سيدهم - و أولياؤه المنقطعون إلى اللّه من كلّ جهة و بتمام معنى الانقطاع من الخير المحض فينعدم بوجوداتهم المقدسة الشر بإذن اللّه تعالى و لا معنى للشفاعة إلا هذا.

الشفاعة و شروطها:

يستفاد من مجموع الأدلة: أنّ للشفاعة أهمية كبرى و منزلة عظمى فهي الأولى من مراتب الكمالات الإنسانية و أوسع باب من أبواب الجنة الإلهية يرغب كلّ فرد إليها، و يرجوها في الدنيا و الآخرة، و لكن لا يمكن أن ينالها كلّ أحد الا إذا توفرت فيه شروط خاصة، لأنّ الشفاعة لا تخلو عن كونها توسط الأسباب و لا يمكن أن تكون مطلقة و الا لزم بطلان قانون السببية و اختلال النظام، و يدل عليه

ما عن حفص المؤذن عن أبي عبد اللّه (عليه السلام):

«و اعلموا أنّه ليس يغني عنكم من اللّه أحد من خلقه لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند اللّه فليطلب

ص: 224

إلى اللّه أن يرضى عنه» و شروطها هي:

الأول: يعتبر في مورد الشفاعة أن يكون الذنب باقيا إلى يوم القيامة فلو سقط بالتوبة و الاستغفار أو التكفير بإتيان الحسنات لقوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 114]، أو الحدود الشرعية فإنّه لا موضوع للشفاعة حينئذ و اعتبار ذلك من الشروط مسامحة لأنّه محقق لأصل موضوعها.

و يدل عليه

ما روي عن الكاظم عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

الثاني: يعتبر فيها إذن اللّه تعالى في مورد الشفاعة و موضوعها و المشفوع له، و الشفيع فليس لكل أحد أن يشفع في كلّ أمر و لكلّ أحد و قد تقدمت الأدلة على ذلك.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قال (عليه السلام): «لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه له - الحديث -» و تقتضيه قاعدة انحصار الأمر فيه تعالى يوم القيامة.

الثالث: أن يكون المشفوع له من المؤمنين المذنبين و يدل عليه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاّ أَصْحابَ اَلْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ وَ كُنّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخائِضِينَ وَ كُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ حَتّى أَتانَا اَلْيَقِينُ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ اَلشّافِعِينَ [المدثر - 38-48].

و يستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ سبب عدم كونهم أهلا للشفاعة لهم.

هو عدم الإيمان و الخوض في الملاهي و زخارف الدنيا و الركون إليها التي تكون صارفة عن الإقبال على اللّه تعالى و الإيمان بيوم الدّين و الجزاء فإذا لم يكن هذا السبب فلا مانع من شمول الشفاعة له إذا كان مذنبا و هو من أصحاب اليمين و هم الذين ارتضى لهم دينهم و أما أعمالهم فقد تكون مرضية و هم المذنبون الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا فأولئك هم المرجون للشفاعة.

فيكون موردها هم المؤمنون بدين الحق الذين عملوا المعاصي و الكبائر

ص: 225

فهم يدخلون النار بسبب أعمالهم ثم يخرجون منها بالشفاعة أو أنّها تمنعهم من دخول النار لأنّهم متفاوتون في نيل الشفاعة و درجاتها، و يشهد لما ذكرنا ما

روي عن الكاظم عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قيل: يا ابن رسول اللّه كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه تعالى يقول: و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و من ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟!! فقال (عليه السلام): ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلاّ ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): كفى بالندم توبة

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): من سرته حسنته و سائته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له الشفاعة و كان ظالما و اللّه تعالى ذكره يقول: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ فقيل له: يا ابن رسول اللّه و كيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه ؟ فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، و من لم يندم عليها كان مصرّا، و المصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم

و قد قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار و الدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام): «ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه» الندم الإجمالي الثابت في مرتبة الإيمان على كلّ ذنب في الجملة لا الندم التفصيلي الفعلي الالتفاتي على كلّ ذنب حتّى يكون موجبا لمحو الذنب كما

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة» و حينئذ ينتفي موضوع الشفاعة كما ذكرنا، و مثل هذا الندم الإجمالي من لوازم الإيمان في الجملة و هو مقتض لثبوت الشفاعة في يوم القيامة فهي تكون بمنزلة الجزء الأخير في العلّة التامة.

و

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «من سرّته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن»

ص: 226

يبيّن مرتبة الاقتضاء فقط كما مرّ لا الفعلية الالتفاتية التفصيلية.

و

قوله (عليه السلام): «فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن» يدل على نفي الندم مطلقا و لو على نحو الاقتضاء فيكون نفي الإيمان بنفي هذا الندم من باب انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، فيصير مثل هذا الشخص متهاونا في التكاليف و منهمكا في المعاصي كما يدل عليه

قوله (عليه السلام) بعد ذلك: «و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب» حيث لا معنى للاعتقاد بالمبدإ و المعاد و التكاليف في الجملة إلا ذلك و كلّ ذلك من اللوازم و الملزومات.

و

قوله (عليه السلام): «و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة» أي: تائبا على نحو الاقتضاء لا التوبة الفعلية من كلّ حيثية وجهة حتّى لا يبقى موضوع للشفاعة كما ذكرنا.

و بعبارة أخرى: الاعتقاد بالتوبة و الندامة على المعصية غير حصول التوبة الفعلية و لذا كان مستحقا للشفاعة في الأول دون الثاني فإنّها تزيل موضوع الشفاعة.

و

قوله (عليه السلام): «و الدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات» يبيّن ما ذكرناه من التفصيل بين الموردين أي الاعتقاد بالتوبة و حصول الندامة الإجمالية و التوبة الفعلية الجامعة للشرائط و الأولى موضوع الشفاعة و تكشف عن الإيمان أيضا بخلاف الثانية فإنّها رافعة لموضوعها.

و الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات من لوازم الاعتقاد بالمبدإ و المعاد كما أثبتناه سابقا.

و الحاصل أنّ مثل هذا الحديث ظاهر في اعتبار هذا الشرط. و في سياق هذا الحديث عدة أحاديث فلا بد في تحقيق الشفاعة للمشفوع له من السببية لها في الجملة، فمن لم يؤمن بشريعة سيد المرسلين لا تناله شفاعته و لا شفاعة أحد ممن له الشفاعة، إذ لا بد أن يكون هو بنفسه موجدا للمقتضي لها و بعد تحقق الموانع - و هي المعاصي و الذنوب - التي تمنع من دخول الجنة

ص: 227

تصل النوبة إلى الشفاعة و يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ [التوبة - 84]، و هذه الآية المباركة تدل على حرمان مثل هذا الشخص الكافر باللّه و رسوله عن الشفاعة لعدم حصول التسبب منه لها.

و بعبارة أخرى: موضوع الشفاعة مركب من أمرين حصول المقتضي على نحو الإجمال من المشفوع له في الدنيا. و تتميم اقتضاء هذا المقتضي من الشفيع في الآخرة كما عرفت أنّه مفهوم الشفاعة.

ما أورد على الشفاعة:

تقدم أنّ الشفاعة ثابتة بل هي حقيقة من الحقائق القرآنية لا يمكن إنكارها. و قد ذكرنا أنّها لا تثبت إلا بشروط خاصة فليست هي مطلقة مرسلة يمكن أن ينالها كلّ أحد فإنّ ذلك خلاف الحكمة المتعالية و قانون الجزاء و الحساب و بطلان للسببية كما تقدم.

و الشفاعة بالمعنى الذي قلناه مما تدل عليه الأدلة الأربعة و لا يسع أحد إنكارها و مع ذلك فقد أورد بعض على الشفاعة مناقشات و إشكالات واهية و إنّما هي نشأت من قلّة التدبر في الآيات الشريفة و ما ورد في الشفاعة من السنة الشريفة و نحن نذكر جملة منها و هي:

الأولى: أنّ الشفاعة ليست إلا الدعاء فقط فما هو معتبر في الدعاء يعتبر فيها و ما أورد عليه يرد عليها أيضا، فليست لها حقيقة أخرى غير الدعاء فيجوز لكلّ أحد طلب الشفاعة.

و الجواب عنها: أنّ كون الشفاعة هي الدعاء مما لا ينكر بل هو اعتراف بحقيقتها لكن الشفاعة هي دعاء الشفيع لدى المشفوع عنده للصفح عن المشفوع له. و كما أنّه لا استقلالية للدعاء بوجه أبدا و إنّما هو طريق محض لقضاء الحاجة و الشفاعة أيضا كذلك، فالجميع يرجع إلى التأثير من اللّه تعالى و لا مشاحة في مجرد الاصطلاح. هذا مضافا إلى أنّ اختلاف مفهوم الشفاعة مع مفهوم الدعاء أوضح من أن يخفى.

ص: 228

مع أنّه لو قلنا بأنّ الشفاعة هي الدعاء فقد دلّ الكتاب و السنة على أنّها مختصة باللّه تعالى و لغيره بالإذن و الارتضاء فليست هي كمطلق الدعاء من هذه الجهة و قد تقدم ما يرتبط بالدعاء في آية (186).

الثانية: أنّ القول بالشفاعة موجب لتجرّي الناس على المعاصي و إغراء لهم على المخالفة و ارتكاب محارم اللّه تعالى و هو ينافي الغرض من بعث الأنبياء و المرسلين و هو سوق الناس إلى العبودية و الطاعة فلا بد من تأويل ما ورد في الشفاعة لئلا توجب إغراء الناس بالفساد.

و هي مردودة أما أولا - فبالنقض بما ورد في شمول المغفرة و التوبة و الرحمة قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [الأعراف - 156]، و قوله تعالى: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [الزمر - 53]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء - 51]، و ما ورد في الاستغفار و غير ذلك من الآيات المباركة و الروايات الدالة على سعة رحمته و غفرانه فهل يتصوّر أحد في أنّها موجبة للتجري و التمرد؟!! فكلّ ما يقال فيها يقال في الشفاعة أيضا.

و أما ثانيا - فبأنّ الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة إنّما تدل عليها بالإهمال و الإجمال فلم يعيّن فيها نوع الجرم الذي تجري فيه الشفاعة و لا المجرم الذي تناله الشفاعة بل كانت مبهمة من هذه الجهة بحيث تجعل الناس بين الخوف و الرجاء، فلا تكون موجبة للتجرّي و التمرد و هذا هو دأب القرآن في جعل الإنسان بين الخوف من ارتكاب المعاصي و التمرد على الأحكام و الرجاء حذرا من القنوط و اليأس من روح اللّه تعالى، بل يمكن أن تكون الشفاعة بهذا النحو من موجبات الانقلاع عن المعصية، و يدل على ما ذكرنا

ما رواه حفص المؤذن عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رسالته لأحبائه: «و اعلموا أنّه ليس يغني عنكم من اللّه أحد من خلقه لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند اللّه فليطلب إلى اللّه أن يرضى عنه» و المستفاد من هذه الرواية أنّ الإنسان لا بد أن يكون مراقبا لنفسه لئلا يقع في

ص: 229

سخط اللّه تعالى فإنّه لا تنفعه شفاعة الشافعين هذا مع أنّا اشترطنا في تحقق الشفاعة وجود أصل الإيمان في الجملة.

الثالثة: أنّ أقصى ما يستفاد من الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة هو إمكانها دون وقوعها بل إنّ في أصل دلالة العقل عليها منعا، و أما النقل فإنّ ما ورد في الكتاب الكريم إما أن يدل على نفي الشفاعة مطلقا مثل قوله تعالى:

لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ [البقرة - 255]، أو يدل على نفي الأثر عنها مثل قوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ اَلشّافِعِينَ [المدثر - 48]، أو ما ورد فيه الاستثناء كقوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 29]، و قوله تعالى: إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس - 3]، و قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 256]، و جميع ذلك يرجع إلى النفي كما في أمثال ذلك مما ورد فيه الاستثناء بالمشية فإنّه يستعمل في القرآن في مقام النفي القطعي و هو كثير قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ [هود - 107]، هذا حال القرآن الكريم. و أما السنة الشريفة فإنّه لا يمكن التعويل عليها أيضا مع أنّها لا تزيد على الكتاب الكريم دلالة.

و الجواب عنها يظهر بعد الإحاطة بما ذكرناه في مفهوم الشفاعة و دلالة الأدلة التي أقيمت على ثبوتها، و ذكرنا أنّ الآيات المباركة النافية لمطلق الشفاعة أنّها تنفيها عند عدم المقتضي أو وجود المانع و لا يقول أحد بالشفاعة حينئذ و أما الشفاعة المطلوبة إنّما هي عند وجود شروطها أو أنّها تنفيها عن غيره تعالى.

و أما الآيات النافية لأثر الشفاعة فإنّما هي تنفيه في مورد خاص و هو خصوص المجرمين المنكرين للجزاء و الدّين فهي في الواقع تثبت الشفاعة في غير المورد المنفي فيه أثر شفاعة الشافعين، فالآية الشريفة على ثبوتها أدل.

و أما الآيات المشتملة على الاستثناء فهي واضحة في أنّها تدل على ثبوت الشفاعة لمن أذن له الرحمن و القول بأنّها تدل على مجرد الاستثناء الدال على النفي القطعي اجتهاد في مقابل النص الصريح و شبهة واهية لا يمكن

ص: 230

الإصغاء إليها، و أما السنة فهي متواترة صريحة في المطلوب و قد تقدم شطر منها.

الرابعة: أنّ الآيات المباركة الدالة على ثبوت الشفاعة إنّما هي آيات متشابهات و ليس للعقل فيها سبيل فلا بد من إرجاع علمها إلى اللّه تعالى كما أمرنا بذلك.

و الجواب عنها: أنّ الآيات الدالة على تحقق الشفاعة ليست من المتشابهات بل هي من المحكمات بعد رد بعضها إلى بعض و العقل يدل عليها بوضوح كما عرفت سابقا.

الخامسة: أنّ الشفاعة في رفع العقاب بعد الاستحقاق إما أن تكون عدلا أو ظلما و على الأول يستلزم كون تشريع أصل الحكم ظلما و هو قبيح بالنسبة إليه تعالى و على الثاني كانت الشفاعة ظلما و هو لا يليق بالنسبة إلى المشفوع عنده و الأنبياء الشافعين.

و هو باطل: لأنّ تشريع الأحكام حق و عدل و ليس غاية تشريع الأحكام أو الغرض منه خصوص الامتثال فقط بل لها حكم و مصالح كثيرة أخرى مثل تكميل العباد و امتحانهم و منها إظهار سعة رحمته بعد المخالفة إلى غير ذلك من الحكم مضافا إلى ما تقدم في مفهوم الشفاعة من أنّها لا تغيّر الحكم بل توجب العفو عن المجرم بعد شمول العقاب له فيكون الحكم و الشفاعة و رفع العقاب كلّها عدلا.

و من ذلك يظهر الجواب عما يقال: من أنّ الشفاعة في رفع العقاب عن المجرمين موجبة للاختلاف في الفعل و استلزام نقض الغرض المنافي للحكمة فإنّ بطلانه واضح لأنّه تحديد للأغراض الواقعية بنظر الإنسان و قدر إدراكه مع أنّ الواقع أعم من ذلك كما ثبت بالبراهين العقلية في الفلسفة. و الشفاعة من الأسباب التي جعلها اللّه تعالى لينال عباده الرحمة و الغفران كما عرفت.

الشفعاء:

الشفاعة ثابتة بالأصالة للّه تعالى و لغيره عزّ و جل بإذنه و رضاه و يستفاد من

ص: 231

الكتاب و السنة أنّ الشافعين في العباد متعددون و كثيرون و نتعرض لجملة منهم.

و الشافع الحقيقي بالذات: هو اللّه تبارك و تعالى، فهو في التكوين بمعنى جعل الأسباب على مقتضى الحكمة و في التشريع العفو و إسقاط العقاب، أو رفع الدرجات كما في جميع أسمائه المباركة الحسنى فإنّه تعالى هو الرزّاق و الرّحيم و الغفور و الودود إلى غير ذلك، و هي لا تنافي وجود الوساطة بل الوسائط في ظهورها للخلق و مظهرية الكلّ لها و هكذا بالنسبة إلى الشفاعة بمعنى الشافعية و الشفيع في حقه عزّ و جل و على ذلك جرت مشيته المقدسة على انتظام النظام الأحسن بأسبابها قلّت أو كثرت، فإنّ مبدأ الكلّ عنه، و مرجع الكلّ إليه، و حقيقة كلّ موجود تنطق بلسان الحال إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة - 156]، و لكن لا نفقه هذا النطق و إن برز ذلك لمن علم الأسرار و ارتفعت عنده الحجب و الأستار، و يدل على ذلك جملة من الأخبار،

ففي جملة من الدعوات المعتبرة «و أستشفع بك إلى نفسك» و «اللهم إنّي أستشفع بك إليك».

و من أسمائه الحسنى: الشافع و الشفيع و قال تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر - 44]، فهو الشفيع المحض في الحقيقة

و في الحديث عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا كان يوم القيامة تجلّى اللّه عزّ و جل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر اللّه له لا يطلع اللّه له ملكا مقربا و لا نبيا مرسلا و يستر عليه و لا يطلع عليه أحد ثم يقول لسيئاته كوني حسنات».

و إذا تأملنا في حقيقة الشفاعة فيه جلّ جلاله فإنّها ترجع إلى رازقيته تعالى، لأنّ الرازقية لا تختص بعالم دون عالم و لا بنوع خاص من الممكنات دون نوع بل هي تعم جميع ما سواه من مخلوقاته سواء المجردات و النفوس و الماديات كلّ بحسبه و حياته كما يصف به نفسه قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الفاطر - 41]، فإنّ هذا الإمساك ليس إمساكا خاصا و من جهة

ص: 232

مخصوصة، بل هو من جميع الجهات بكلّ ما يتصور من معنى الإمكان و الحاجة.

فمعيته القيومية لجميع ما سواه حدوثا و بقاء، و إفناء و تبديلا للصور إلى الأخرى هذا بالنسبة إلى المعية العامة لجميع ما سواه.

و له جلّت عظمته معية أخرى لأكرم خليقته و هو الإنسان الذي قال فيه:

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً [الإسراء - 70]، و هذه المعية هي التي تراد من قوله تعالى: هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد - 4]، فإنّها معية خاصة تشمل عالم انحصار الأسباب إلا فيه و الانقطاع إلا إليه، و هل يعقل للرزق حينئذ معنى أجل و أدق و أفضل من نجاة نفوس محتاجة غاية الاحتياج إليه في شدائد الأهوال و تبدلات الأحوال!! و يمكن إرجاع ذلك إلى الرحمة الواسعة التي شملت ما سواه.

أو إلى الرأفة فإنّ جميع ذلك من أسمائه الحسنى و صفاته العليا و في ذلك يشير

ما ورد عن الصادق (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نشر اللّه تبارك و تعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته».

و الشفيع الثاني هو سيد الأنبياء و المرسلين محمد بن عبد اللّه الذي هو مبدأ للنبوات السماوية في علم اللّه تعالى و العلّة الغائية و لا بد من تقدمها في العلم، فإنّه الشفيع المطلق بعد الباري عزّ و جل و لذا صار شهيدا على الجميع قال تعالى: يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ [النحل - 89]، فالشفاعة تنزل على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و منه إلى غيره لأنّ له المقام المحمود - قال تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء - 76] المفسّر بمقام الشفاعة في عدة من الأخبار و كذلك قوله تعالى: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى - 5]، و قد وردت روايات متواترة من الجمهور و غيرهم في ثبوتها له (صلّى اللّه عليه و آله) بل يمكن أن يعد من ضروريات الدّين

ففي الحديث المعروف:

ص: 233

«ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»

و في تفسير العياشي عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال (عليه السلام): «الشفاعة».

و من الشافعين في العباد: الوسائط التكوينية و الأسباب الطبيعية فإنّها شفعاء عند اللّه تعالى و وسائط بينه عزّ و جل و بين خلقه قال تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255]، فإنّ جعل الشفاعة بإذنه بعد مالكيته لما في السّموات و الأرض يدل على أنّها إنّما تكون في التكوينيات، بل يمكن أن يكون شيء بوجوده التكويني شافعا في هذا العالم قبل قيام الساعة و انسداد باب التوبة و رفع الحجة عن الأرض و ذلك قبل القيامة بأربعين يوما، و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اَللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال - 33]،

و ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لا شيوخ ركع، و بهائم رتع، و أطفال رضع، لصب العذاب عليكم - الحديث -» و ما ورد في الكعبة و القرآن من أنّهما أمانان لأهل الأرض و غير ذلك و يأتي في الموضع المناسب شرح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و منهم: الوسائط التي توجب المغفرة من اللّه عز و جل أو القرب إليه كالتوبة قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر - 54]، و قد تقدم البحث في التوبة في أحد مباحثنا بالتفصيل،

و عن عليّ (عليه السلام):

«لا شفيع أنجح من التوبة».

و منهم الإيمان قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد - 28]، و الآيات في ذلك كثيرة

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أخبار متواترة «كلمة لا إله إلا اللّه حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».

ص: 234

و منهم الأعمال الصالحة سواء كانت من نفس المشفوع له أو من غيره:

أما الأول - فيدل عليه آيات من الذكر الحكيم قال تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة - 9].

و أما الثاني -

فقد ورد في الحديث المتواتر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يلحق بالميت كلّ عمل خير يؤتى له بعد موته من الصّلاة و الصّيام و الحج و الصدقة حتّى إنّه ربما كان في ضيق فيوسع له بذلك»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له بعد موته، أو مصحف يقرأ فيه» و نظير ذلك أخبار كثيرة.

و يمكن القول بأنّ هذه الأخبار بإطلاقها تشمل الشفاعة في عالم البرزخ أيضا سواء في تخفيف العذاب أو رفع الدّرجات في ذلك العالم و لا محذور فيه من عقل أو نقل، و عليه شواهد كثيرة من الأخبار يأتي ذكرها في الموضع المناسب.

و منهم القرآن الكريم قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة - 16]، و في الحديث أنّه يقال لقارئ القرآن: «اقرأ و ارق» أي ارق في الدّرجات.

و منهم الملائكة قال تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [المؤمن - 7]، و قال تعالى:

وَ اَلْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَلا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [الشورى - 5]، و قال تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى [النجم - 26]، و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على ثبوت الشفاعة للملائكة منطوقا و مفهوما.

و منهم سائر الأنبياء و المرسلين فإنّ لهم الشفاعة أيضا و ما ورد في بعض الروايات من أنّ الأنبياء إنّما يرجعون إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 235

في ذلك فيصح أن يقال: إنّ لهم الشفاعة بعد الإذن من سيد الأنبياء و ليس لهم تلك قبل الاستيذان منه كما تقدم في بعض الروايات فإنّ لهم القابلية و الاستعداد لهذه المنزلة الكريمة و المقام العظيم فقد ذكرنا أنّه ليس كلّ أحد ينال هذه الموهبة الإلهية بل لا بد من الاستعداد الذاتي الذي لا يعلمه إلا اللّه تعالى.

نعم، يمكن الحصول على هذا الاستعداد بالإيمان و الأعمال الصالحة و المجاهدات الحقة، و لذلك تختلف مراتب الشفاعة حسب اختلاف الاستعدادات و تشتد مراتبها كما و كيفا باشتداد مراتب المعارف المعنوية التي يحيط بها نفس الشافع، و أصل ذلك كلّه شروق نور أزلي على النفس فيضيء و تستضيء منه النفوس المستعدة فهو الشافع الشفيع، و هو النور المضيء، و بأنواره تجلّت قلوب العارفين و بها حصلت بشارة المخبتين و منها تتلألأ سيماء المؤمنين و الجميع يسرعون حسب مقاماتهم و درجاتهم إلى جنات النعيم فلا أول لهم إلا من اللّه و لا آخر لهم إلا إليه فهم أظهروا حقيقة العبودية فأحاطت بهم العنايات الربوبية، و كشفت عن بصائرهم الحجب فادهشوا بما أدركوا من أنوار رب الأرباب.

ترى المحبّين صرعى في ديارهم *** كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

و من ذلك يظهر أنّ كلّ من سعى بحسب جهده إلى الوصول إلى هذا المقام ينال هذه الموهبة الإلهية و الفيض الرباني سواء في ذلك الأنبياء و الأوصياء و العلماء و المؤمنون كلّ حسب استعداده.

و على ذلك يحمل ما ورد من الاختلاف في شفاعة الأنبياء و رجوعهم إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّه إمامهم و هو أكملهم و له المقام المحمود

ففي الحديث في قوله تعالى: وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قال (عليه السلام): «لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله حتّى يأذن اللّه له إلا رسول اللّه فإنّ اللّه أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة و الشفاعة له ثم من بعد ذلك للأنبياء» و تقدم ما يدل على ذلك.

و منهم بنت خاتم الأنبياء و سيدة النساء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء

ص: 236

(سلام اللّه عليها)

ذكر السيوطي في الدر المنثور و العسكري في المواعظ و المتقي الهندي في كنز العمال عن جابر: «أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) رأى على فاطمة (سلام اللّه عليها) كساء من أوبار الإبل و هي تطحن، فبكى و قال: يا فاطمة اصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا، و نزلت وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى .

و روى محب الدّين الطبري في ذخائر العقبى عن عليّ (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لفاطمة: يا فاطمة تدرين لم سمّيت فاطمة ؟ قال عليّ : يا رسول اللّه لم سميت فاطمة ؟ قال: قد فطمها و ذريتها عن النار يوم القيامة» أخرجه الحافظ الدمشقي أيضا و الروايات بهذا المعنى متواترة بين المسلمين.

و أخرج النسائي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «و إنّما سماها فاطمة لأنّ اللّه عزّ و جل فطمها و محبيها عن النار».

بل إنّ شفاعة سيدة النساء من شفاعة سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)

لما رواه الجمهور و غيرهم بأسانيد متواترة عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «فاطمة بضعة منّي» و ليس المراد من لفظ «البضعة» الجزء الخاص كاليد و العين و القلب بل المراد الجزء السرياني في بدنه الأقدس من حيث تعلق الروح المقدّسة المؤيدة بروح القدس، و يشهد لما قلناه أنّ علمها من علمه (صلّى اللّه عليه و آله) و قد أجمع أولادها المعصومون (عليهم السلام) على أنّ عندهم مصحف فاطمة بل كانوا يفتخرون به و هو من إملاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و خطّ عليّ (عليه السلام) بيده و فيه علم ما كان و ما يكون كما في الروايات و لا يعقل الانفكاك بين البضعة السريانية و الكل.

و منهم الأئمة الهداة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) فإنّ لهم مقام الشفاعة في الآخرة و النصوص في ذلك متواترة بين المسلمين عموما و خصوصا.

و منهم العلماء و الشهداء

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ و جل فيشفّعون: الأنبياء ثم العلماء، ثم الشهداء» و لعلّ الترتيب محمول على ترتب مقامهم عند اللّه عزّ و جل،

و عن

ص: 237

الصادق (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة بعث اللّه العالم و العابد فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ و جل قيل للعابد: انطلق إلى الجنة. و قيل للعالم: قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم».

و منهم المؤمن حتّى السّقط منه

ففي الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «تناكحوا و تناسلوا فإنّي أباهي بكم الأمم و لو بالسقط يجيء محبنطئا على باب الجنة فيقال له: أدخل فيقول: لا حتّى يدخل أبواي - الحديث -».

أقول: المحبنطئ: العظيم البطن يعني امتلأ جوفه غيظا و في الرواية بحث يأتي التعرض له في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير العياشي عن عبيد بن زرارة قال: «سئل أبو عبد اللّه عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال (عليه السلام): نعم، فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) يومئذ قال (عليه السلام): نعم، إنّ للمؤمنين خطايا و ذنوبا و ما من أحد إلا و يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ - الحديث -».

و في تفسير العياشي أيضا عن أبان بن تغلب قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفّع فيهم حتّى يبقى خادمه فيرفع سبابتيه فيقول: يا رب خويدمي كان يقيني الحرّ و البرد فيشفع عنه».

الشفاعة و متعلّقها:

قد عرفت أنّ الشفاعة إما أن تكون تكوينية فهي تتعلّق بكلّ شيء في عالم التكوين و إما أن تكون تشريعية تتعلّق بالثواب و العقاب و هذه على درجات:

فمنها - ما تتعلق بكلّ ما يوجب العقاب حتّى الشرك باللّه تعالى و هي التوبة و الإيمان باللّه و رسوله.

و منها - ما تتعلق ببعض الذنوب و التبعات كالأعمال الصالحة قال تعالى:

إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 114].

ص: 238

و منها: الشفاعة المعروفة في يوم القيامة و هي شفاعة الأنبياء و المرسلين و من تقدم ذكره و هي الشفاعة الكبرى و هي تتعلق بالكبائر مطلقا سواء كان موردها حق اللّه سبحانه و تعالى أو حق الناس أو هما معا و يدل على ذلك

ما رواه سليمان بن داود عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا فمن كانت مظلمته فيما بينه و بين اللّه عزّ و جل حكمنا فيها فأجابنا و من كانت مظلمته فيما بينه و بين الناس استوهبناها فوهبت لنا، و من كانت مظلمته فيما بينه و بيننا كنا أحق من عفا و صفح» هذا و لكن ورد في السنة الشريفة أنّ بعض الذنوب لا تتعلّق به الشفاعة فتكون هذه الأخبار تخصيصا لعمومات الشفاعة و نشير إلى بعضها.

منها: الاستخفاف بالصّلاة

ففي الحديث عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا و اللّه»

و عن أبي بصير أيضا قال:

«دخلت على أم حميدة أعزيها بأبي عبد اللّه (عليه السلام) فبكت و بكيت لبكائها ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجبا فتح عينيه ثم قال: اجمعوا كلّ من بيني و بينه قرابة: قالت: فما تركنا أحدا إلا جمعناه فنظر إليهم ثم قال: إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّا بالصلاة» و الروايات في ذلك متواترة.

و منها: شرب الخمر

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ليس منّي من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا و اللّه، ليس منّي من شرب الخمر لا يرد عليّ الحوض» و الروايات في ذلك كثيرة.

و منها: سوء الخلق

فعن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): أبي اللّه لصاحب الخلق السيّئ بالتوبة قيل:

و كيف ذاك يا رسول اللّه ؟ قال: لأنّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إياكم و سوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة» و غير ذلك من الروايات.

ص: 239

و منها: قتل النفس المحترمة

فعن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما قال (عليه السلام): و لا يوفّق قاتل المؤمن متعمدا للتوبة»

و عن ابن أبي عمير عن سعيد الأزرق عن الصادق (عليه السلام): «في رجل قتل رجلا مؤمنا يقال له: مت أيّ ميتة شئت إن شئت يهوديا و إن شئت نصرانيا و إن شئت مجوسيا» و قد ورد شبه هذا التعبير في التسويف بالحج أيضا.

و منها: المبادرة إلى ارتكاب المعاصي و إتيان المحرّمات اعتمادا على شفاعة سيد الأنبياء لامته فإنّ شمول أدلة الشفاعة لهذه الصورة ممنوع و يستفاد ذلك من خبر حفص المؤذن السالف ذكره.

و لكن مع ذلك كلّه فإنّ الشفاعة أمر غيبيّ لا تنالها الحدود، و اللّه يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء.

زمان الشفاعة:

تقدم ما يتعلّق بالشفاعة بقسميها و الحق عدم اختصاصها بزمان خاص فهي تعم جميع ما يرد على الإنسان من العوالم سواء في الدنيا و الحشر و النشر و مواقف القيامة حتّى يتحقق الاستقرار في دار القرار و قضاء اللّه الحتم بالخلود في الجنة أو النار.

و لكن يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الشفاعة أنّ الشفاعة الكبرى إنّما هي بعد الحشر فهي تختص بالآخرة كما تدل عليه الأدلة النقلية و هي إما أن تتعلّق بالعصاة الذين دخلوا النار فينتفعون بها و يخرجون من النار كما يدل عليه الحديث الوارد في الجهنميين و مرّ ذكره، و إما أن تتعلّق بالعصاة و أصحاب الكبائر قبل دخول النار، فيكون تأثيرها إسقاط العذاب و تقدم ما يدل على ذلك أيضا.

و أما الشفاعة في الدنيا - فإنّ بعض إطلاقات الأدلة الواردة في الشفاعة يدل على ثبوتها فيها و لا محذور فيه من عقل، فإنّه بعد إذنه تعالى عن علم أنّه أهل للشفاعة لا تختص بعالم دون آخر و يدل على وقوعها بعض الآيات

ص: 240

الشريفة قال تعالى: وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف - 135]، و الظاهر من الآية الشريفة أنّهم طلبوا شفاعة موسى (عليه السلام) في رفع العذاب عنهم. هذا بالنسبة إلى الشفاعة التشريعية المتعلّقة بالثواب و العقاب.

و أما الشفاعة التكوينية - فإنّها واقعة في هذه الدنيا و لا يمكن إنكارها، فإنّ الدنيا عالم الأسباب و قد ذكرنا أنّ الإيمان باللّه تعالى و الأعمال الصالحة و غيرهما من الأسباب إنّما هي شفعاء بين العبد و بين اللّه تعالى و يدل عليه قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً [النساء - 85]، و تقدم ما يرتبط بذلك فراجع.

و من ذلك رجوع أهل الإيمان إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أولياء اللّه تعالى الذين لهم قدم راسخ في مراتب الإيمان فإنّ ذلك من الشفاعة عند اللّه تعالى لنيل المقاصد و نجح المطالب و ليس من الشرك كما يدعيه بعض، بل هما موضوعان مختلفان فإنّ إذن اللّه للواسطة ينفي الشرك و يسقطه بالمرة و هو يرجع إلى جعل من ارتضاه اللّه تعالى واسطة لأن يدعو في رفع العذاب كما تقدم في الآية السابقة من طلبهم من موسى أن يدعو في رفع العذاب عنهم و لا يتوهم المؤمن الذي يتوسل بالوليّ أنّ له جهة موضوعية في رفع المخاطر و الأضرار أو في إتيان النفع و إلا فهو من الشرك في مرتبة توحيد الفعل الذي ينافي لا حول و لا قوة إلا باللّه لا في مرتبة المعبودية حتى ينافي لا إله إلا اللّه، و بينهما فرق كبير، كما لا يخفى على الخبير، فطلب الشفاعة ممن أذن له اللّه تعالى في الشفاعة ليس من العبادة له حتّى يشمله قوله تعالى:

ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى [الزمر - 3]، و ليس ذلك بعادم النظير، فإنّ قراءة القرآن في شفاء مرض و التقرب به إلى اللّه تعالى و التّداوي بالأدوية التي خلقها اللّه تعالى لشفاء الآلام و الأسقام و غير ذلك ليس من الشرك و لا يتوهمه أحد في ذلك و كذا في المقام و يأتي تتمة الكلام في الآيات

ص: 241

المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و أما عالم البرزخ الذي يتوسط بين عالم الدنيا و القيامة فإنّ الوجوه المتصوّرة فيه هي: إما أن تكون الشفاعة في عالم البرزخ من نفس الموجودين فيه، أو من الدنيا فيه، أو من الآخرة فيه و لا رابع في البين. و الجميع لا موضوع له، لأنّ مورد الشفاعة الكبرى إنّما هو بعد نصب الموازين يوم القيامة و الحساب و ثبوت استحقاق العقاب فإنّ بدعاء الشفيع يرفع العقاب بإذن اللّه تعالى. نعم، بعض الأعمال الصالحة و الخيرات من الأحياء في الدنيا للأموات توجب التوسعة عليهم إن كانوا في ضيق و الأخبار في ذلك متواترة.

و قد ورد في بعض الروايات: أنّ الدفن في بعض الأمكنة المقدّسة كالدفن في الحرم الإلهي أو ظهر الكوفة يرفع جملة من المضايقات عن الميت و لكن ذلك ليس من الشفاعة المعهودة بل هو تصرّف و حكومة يمنحها اللّه تعالى لهم، و لكن يستفاد من بعض الأدعية المأثورة أنّ التصرفات المعنوية في عالم البرزخ منحصرة باللّه تعالى مثل

ما ورد في الدعاء: «و تولّ أنت نجاتي من مسائلة البرزخ و ادرأ عنّي منكرا و نكيرا و أرعيني مبشّرا و بشيرا» و يأتي في الموضع المناسب الكلام في عالم البرزخ.

الشفاعة في الأديان الإلهية:

لا تختص الشفاعة المعهودة بالإسلام بل هي ثابتة في سائر الأديان الإلهية و إن كان بينها تفاوت يسير في مفهومها و ذلك يرجع إلى السّير التكاملي في المفاهيم الدينية و سائر الأمور كما قرّرناه في أحد مباحثنا السابقة مع أنّنا ذكرنا أنّ الشفاعة ليست وليدة دين خاص بل هي أمر اجتماعي قرّرها الإسلام و الأديان الإلهية و يستفاد ذلك من أسفار التوراة و الإنجيل، ففي سفر أيوب من التوراة الإصحاح 33 فقرة 23 ما يدل على ذلك، و كذلك في الإصحاح 5 فقرة 1 و غير ذلك مما ورد فيه. و أما في الإنجيل فقد وردت هذه العبارة فيه كثيرا: «يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا». أو «يطهرك المسيح من الخطايا» و أنّ الشفاعة سرّ من أسرار الكنيسة.

ص: 242

غاية الشفاعة:

للشفاعة غايات و فوائد متعدّدة نذكر المهمّ منها:

فمنها: توجيه النفوس المستعدة إلى مقام النبوة خصوصا سيد الأنبياء الذي هو الأصل و الأساس للشفاعة.

و منها: أنّها توجه الناس إلى الصّالحين من عباد اللّه الذين أذن اللّه تعالى لهم بالشفاعة.

و منها: ترغيب الناس إلى السّعي في صالح الأعمال و الإخلاص فيها لعلّ اللّه تعالى يرضى عنهم و يجعلهم بأنفسهم من أهل الشفاعة.

و منها: عدم يأس الناس من رحمة اللّه تعالى بعد رجائهم في الشفاعة.

و منها: بقاء الناس في مقام الرجاء و الخوف الذي حث عليه القرآن الكريم و الأنبياء و المرسلون.

هذه هي أهم غايات الشفاعة و هناك فوائد أخرى تظهر للمتتبع في أدلة الشفاعة.

ص: 243

بحث فلسفي

لا ريب في ثبوت السعادة و الشقاوة للإنسان و الأولى عبارة عن الخير للإنسان. و الثانية تقابل ذلك. و للعلماء و الفلاسفة فيهما أقوال و مذاهب.

و محصّل تلك هي: أنّه إذا لوحظ الإنسان بالنسبة إليهما يتصوّر على وجوه:

الأول: أن تكون السعادة ذاتية للسعيد، و الشقاوة ذاتية للشقي بالذاتي الحقيقي المعبّر في محلّه بالذاتي الايساغوجي.

الثاني: أن يكون كلّ واحد منهما ذاتيا له بمعنى كونهما من لوازم الذات، كذاتية الزوجية للأربعة و الفردية للثلاثة المعبّر عنه في محلّه بذاتي باب البرهان.

و هذان الوجهان باطلان في نظام التشريع لأنّ القول بهما ينافي الاختيار الذي يتقوّم به التشريع مطلقا كما دلّت عليه الأدلة العقلية و النقلية.

و لكن استند بعض إلى

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، و شرارهم في الجاهلية شرارهم في الإسلام».

و يرد عليه ما عرفت آنفا من أنّ القول به ينافي القواعد العقلية المتقنة الدالة على ثبوت الاختيار و أنّ التشبيه في الحديث الشريف إنّما هو من بعض

ص: 244

الجهات دون جميعها.

الثالث: أن يكون من مجرد الاقتضاء لا الذاتي، و هذا هو الصحيح الذي يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الطينة و الميثاق، و الشقاوة و السعادة و هو الموافق للقواعد العقلية الدالة على ثبوت الاختيار في استحقاق الثواب و العقاب.

و حينئذ فالشفاعة الكبرى التي ذكرنا أنّها ثابتة لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي هو واسطة الفيض، و سائر الأنبياء و الأوصياء إنّما هي في هذا القسم من السعادة و الشقاوة و لا موضوع لها في الوجهين الأولين لعدم قابلية المحلّ لها، و قد ذكرنا أنّها شرط في ثبوت الشفاعة، و يدل على ذلك ما ورد في الشفاعة مثل

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فإنّ المستفاد منه أنّ موردها الأفعال فلا تكون في مرتبة الذات و الذاتيات فيكون مورد الشفاعة السعادة و الشقاوة على الوجه الثالث فإنّه القابل للتغيير و التبديل بعروض الموانع.

و قد ذكرنا أنّ السعادة و الشقاوة على درجات:

منها: ما يكون الإنسان فيهما بالغا إلى أقصى درجات الكمال.

و منها: ما يكون الإنسان سعيدا ذاتا و شقيا فعلا، و بالعكس.

و منها: ما لا تتم له فعلية السعادة و الشقاوة و لكن لا بد من زوال الهيئات الرديئة و بروز الحقيقة فإما أن ترزق التطهير فتزول الشقاوة العرضية، أو تسلب السعادة العرضية و تظهر شقاوة النفس، أو تكون مرجوة لأمر اللّه تعالى إن لم تكتمل في السعادة و الشقاوة و فارقت الحياة ناقصة مستضعفة فالشفاعة في هذه المراتب و الأقسام إنّما تزيل الهيئات الرديئة الشقية التي لزمت النفوس.

أما النفوس الكاملة في الشقاوة التي أثرت المعاصي و الذنوب في ذاتها و انقلب المقتضي إلى الذاتي فلا موضوع للشفاعة فيها، و هذا من إحدى الأصول التي بنى بعض أكابر الفلاسفة (رحمة اللّه عليه) المعاد الجسماني عليها و قال بعضهم:

ص: 245

قد خمرت طينتنا بالملكة *** و تلك فينا حصلت بالحركة

هذا موجز القول و سيأتي في الموضع المناسب تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

ص: 246

سورة البقرة الآية 255

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَع.......

اشارة

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ (255) الآية الشريفة تقرر أعظم المعارف الإلهية و أهم أصل من أصول الدين الذي إليه يدعو جميع الأنبياء و المرسلين. و أنّ الاعتقاد به يجعل العبد في الصراط المستقيم و يحثه على العمل القويم، يطلبه الإنسان بالفطرة و يترنم باسمه في كلّ حالة ألا و هو اللّه المعبود بالحق الواحد الأحد الذي اجتمع فيه جميع صفات الكمال.

و ما في الآية الشريفة هو الحدّ الفاصل بين الاعتقاد الصحيح و غيره فقد قررت توحيد اللّه تعالى في الذات و المعبودية و الصفات.

و قد وصفته بأصول صفات الكمال و هي الحياة، و القيوميّة، و المالكية، و الربوبية العظمى، و العلم فلا تخفى عليه خافية في السموات و الأرض و لا يحيط بعلمه أحد. و هذه هي أمهات الأسماء الحسنى و إليها يرجع سائرها و قد نزهت عنه جميع ما لا يليق بساحة كبريائه.

فهي تثبت المبدأ و المعاد للتلازم بينهما، فتضمنت الآية الشريفة توحيد

ص: 247

اللّه تعالى و الصفات العليا و الأسماء الحسنى و تنزيهه عما لا يليق به و اتصافه بصفات الجمال و الجلال على نحو يستشعر العبد بعظمته و كبريائه و حكمته و علو قدره و عظم شأنه، فيقف بين يديه خاضعا ذليلا مذعنا بوجوب طاعته و الوقوف عند حدوده و أحكامه، و نبذ ما لا يليق بساحة كبريائه و الإعراض عمّا يسخطه و لا يرضى به، فالمعتقد بها يؤمن بما ورد في القرآن الكريم و ما جاء به سيد المرسلين.

فالآية المباركة بحق أعظم آية في كتاب اللّه المجيد، و إنّها من كنوز العرش، و إنّها تعدل ثلث القرآن.

و من ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبق و ما يأتي من الآيات الشريفة.

ص: 248

التفسير

255 - قوله تعالى: اَللّهُ .

اللّه: علم لواجب الوجود المعبود بالحق إله العالمين جلّ جلاله، و هو أجل لفظ لأعظم معنى فوق ما نتعقله من معنى العظمة و الجلال.

و تقدم في سورة الحمد ما يتعلق به، و قلنا إنّه سواء كان اللفظ من و له بمعنى التحيّر، لتحيّر جميع ما سواه فيه جلّ و علا، و أنّ غاية ما في وسع الجميع إنّما هي الإشارة إليه تعالى بهذا اللفظ العظيم و أمثاله من أسمائه المباركة، و أما الحقيقة فدونها حجب كثيرة.

أو كان من أله بمعنى العبودية، لكونه المعبود بالحق.

أو علم مختص به جلّ جلاله، فإنّ جميع ذلك يستلزم أنّه متصف بجميع صفات الكمال و منزّه عن النقائص و الأوهام

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنّ هذا هو الاسم الأعظم الذي يتأثر منه العالم».

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .

نفي للمعبود مطلقا و حصر فيه جلّ و علا، بل نفي للحقيقة الحقة و إثبات لها فيه تعالى، لأنّ غيره في معرض الزوال و الفناء.

و الإله هو الذات المتصفة بصفات الألوهية، من وجوب الوجود و الحياة

ص: 249

و القدرة و غيرها.

أي: لا ذات تستحق الصفات الإلهيّة إلاّ اللّه تعالى، و الضمير يرجع إلى اسم الجلالة الدال على الذات المقدّسة المتصفة بجميع صفات الجمال و الجلال و قد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [البقرة - 164].

و نزيد هنا: أنّ الوجه في إتيان الضّمير مفردا دون الجمع لما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه تعالى إذا كان في مقام بيان الصفات المقدسة العليا أو في مقام الرحمة و الامتنان على العباد يأتي بالمفرد و إذا كان في مقام بيان القدرة و القهارية و الكبرياء يأتي بضمير الجمع.

و قد كرّرت هذه الجملة المباركة المبتدأة باسم الجلالة و المنتهية بلفظ «هو» في ستة مواضع من القرآن الكريم أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى:

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [آل عمران - 3]، و الثالث قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [النساء - 87]، و الرابع قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [طه - 8]، و الخامس قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ [النمل - 26]، و السادس قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [التغابن - 13]. و عن بعض المتتبعين أنّ لهذه الجملة المباركة آثارا عجيبة حصلت بالتجربة، و يشهد لما ذكره (قدّس سرّه) أنّ هذه الجملة في جميع الموارد التي ذكرت اقترنت بمهام الصّفات الجمالية و الجلالية. و وحدته الحقة الحقيقية سرت إلى الألفاظ التي تطلق عليه عزّ و جل.

قوله تعالى: اَلْحَيُّ .

حصر للحياة فيه تعالى فهي فيه عز و جل حقيقية ذاتية لا أن تكون إضافية، كما ستعرف.

أي: هو الحي فقط و غيره في معرض الزوال و مستمد منه عز و جل، قال تعالى: وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ [طه - 111].

و الحي من الصفات المشبّهة التي تدل على الثبوت و الدوام كالرحيم

ص: 250

و العليم أي: أنّه الحياة الثابتة، و مفهوم الحياة معلوم و ظاهر، و هي التي تبتني عليها جميع الإحساسات و الإدراكات و يلازمها العلم و القدرة و بانتفائها تتعطل جميع قوى الحي و مشاعره و أفعاله و هي على مراتب و أصولها الحياة الإنسانية و الحيوانية و النباتية، و حياة المجردات و قد ذكرها اللّه تعالى في كتابه الكريم في مواضع متعددة قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد - 17]، و قال تعالى: وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتى [الشورى - 9].

و أقسامها ثلاثة: الحياة الدنيا، و الحياة البرزخية، و الحياة الآخرة، و قد وردت في القرآن الكريم قال تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ [غافر - 9]، و سيأتي أنّ المراد من الحياتين الحياة البرزخية و الحياة الآخرة.

و أما الحياة الدنيا - فقد وصفها اللّه تعالى بأوصاف مختلفة كلّها تدل على ذم هذه الحياة و رداءتها و زوالها بخلاف حياة الآخرة التي وصفها اللّه تعالى بأنّها الحياة الكاملة قال تعالى: هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت - 64]، كما وصفها بالأمن و الخلود و الهناء و عدم النقص في كلّ ما يرتبط بها قال تعالى: آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ [الدخان - 56]، و هي أبدية لا غاية لها بحسب الآخر و المنتهى قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ [هود - 108]، و لكنّها محدثة مسبوقة بالعدم فهي الحياة الكاملة على الإطلاق، و لكن مع ذلك هي مسخرة تحت إرادة اللّه تعالى مملوكة له عزّ و جل قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل - 97].

فتكون حياته جلّت عظمته حياة حقيقية كاملة واجبة فيه عزّ و جل بريئة من النقص يستحيل عليها الموت و الفناء قال تعالى: وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان - 58]، و هي متقوّمة بالعلم و القدرة و لها مراتب غير متناهية لانتهائها إلى ما يكون عين ذات اللّه جلّت عظمته و لا مبدأ لأولها و لا منتهى لآخرها، لأنّه أزليّ أبديّ بذاته، و كذلك يكون ما هو عين ذاته أي الحياة

ص: 251

و العلم و القدرة.

و هذه الحياة منحصرة في اللّه تعالى و ليست حياته حياة فردية شخصية بل هي حياة كلية حقيقية هي مبدأ حياة كلّ حيّ من حياة النبات و الحيوان و الإنسان و الروحانيين، و الأرواح الشامخة و العقول المجردة بل و جميع ما سواه حتّى الجمادات فإنّ لها حياة خاصة لا ندركها كما يظهر من قوله تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء - 44]، و قوله تعالى: أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ [فصلت - 21]، فإنّ جميعها مستمدة من تلك الحقيقة الواحدة البسيطة، فتكون حياته عزّ و جل منشأ الأرواح و أصلها و بدوامها تدوم بلا فرق بين الأرواح العلوية و الأرواح السفلية و الجواهر المقدّسة الروحانية، فهي منشأ الخيرات و منبع البركات، و هي الغيث المستغيث و الغياث المستغاث في عالمي الأمر و الخلق اللذين يجمعان جميع الممكنات.

و الحيّ أم الأسماء الحقيقية المحضة كالقدرة و نحوها كما يأتي.

قوله تعالى: اَلْقَيُّومُ .

حصر للقيّومية فيه عزّ و جل فقط قلبت الواو ياء بعد أن كان الأصل قيووما و ادغمتا فصار قيوما للقياس المطرد على ما هو المعروف عند الأدباء، كما أنّ أصل القيام القوام فعل به ما فعل بنظيره.

و القيوم من أسمائه الحسنى و معناه: القائم بالأمر المتعهد بالحفظ و التدبير و المراقبة، و قد أطلق عليه تعالى قبل الإسلام أيضا قال أمية ابن أبي الصلت:

لم تخلق السّماء و النجوم *** و الشمس معها قمر يقوم

قدّره مهيمن قيّوم و الحشر و الجنة و النعيم

إلا لأمر شأنه عظيم

و هو تعالى قائم بأمر خلقه و تدبير شؤونهم عن علم تام و حكمة كاملة، و هو دائم بدوام ذاته لا يعتريه ضعف و لا فتور.

و تستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات العليا الحقيقية ذات

ص: 252

الإضافة كالخلق و الرزق، و الإحياء، و الإماتة، و الرحمة، و الغفران و نحو ذلك مما يتطلبه شؤون خلقه.

فهو من أمهات الأسماء ذات الإضافة، و الفرق بين الأسماء الحقيقية ذات الإضافة و الإضافية المحضة يأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ .

السّنة - بكسر السين - النعاس، و هو الفتور الذي يعتري الإنسان قبل النوم و أصل السنة و سنة حذفت الواو.

و النوم معروف و هما - أي السّنة و النوم - متلازمان غالبا و لكن قد يطرأ النوم من دون أن تغلب السنة.

و قد نفى سبحانه و تعالى عن ذاته الأقدس كلا الأمرين لأنّ القيومية على خلقه تتطلب أن يكون قائما على تدبير خلقه في جميع الحالات و الا كان من الخلف الباطل، فلا مقتضي للنوم فيه جلّ جلاله بوجه من الوجوه، فيكون ترتب هذه الجملة على الحيّ القيوم من ترتب المعلول على العلّة فيستفاد منها أنّ ما لا يكون كذلك تأخذه السنة و النوم.

و من ذلك يعلم: أنّ تقديم السنة على النوم إنّما هو من باب إثبات عدم النوم بالأولوية، و لو قدم النوم لما أفاد هذا المعنى أي: من لا تأخذه مقدمات النوم كيف يعقل أن يأخذه النوم.

و ما قيل: من أنّ هذه الجملة على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة في أمثال المقام فإنّه لا بد أن يكون من الأقوى إلى الأضعف بخلاف مقام الإثبات فإنّ الترتيب فيه يكون من الأضعف إلى الأقوى فإنه يرد عليه مضافا إلى ما تقدم: أنّ الترتيب في كلا المقامين - مقام الإثبات و مقام النفي - إنّما يدور مدار صحة الكلام.

و التعبير ب (الأخذ) لنفي جميع ما يتصور في عروض السنة، و النوم على ذاته الأقدس عزّ و جل.

ص: 253

قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

معلول آخر للواحد للحيّ القيوم فإنّه إذا انحصر الحيّ القيوم في الفرد الواحد يكون كلّ ما سواه له لا بمعنى المالكيّة و الملكية فقط بل إنّ كلّ ما يتصوّر في السّموات و الأرض من جهات الاحتياج و الاستكمال له تعالى و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، لأنّ اللفظ مستعمل في المالكية الحقيقية للذات بجميع لوازمها و ملزوماتها، فالسّموات و الأرض و ما فيهما خاضعة لإرادته و حاضرة لديه و هي قائمة به عزّ و جل، فالقيومية العظمى تستدعي سعة إحاطته و قدرته و ملكه لجميع السّموات و الأرض و هي تدل على تفرّده بالألوهية، و أنّ السلطان المطلق للّه تعالى.

و مما ذكرنا يعرف: أنّ هذه الجملة في موضع التعليل لنفي السّنة و النوم عنه تعالى أيضا يعني: من كان مالكا للسّموات و الأرض و ما فيهما و قيّوما عليها لا يمكن أن تأخذه السّنة و النّوم، و الا استلزم المحال و هو تعطيل شؤون الملك، كما أنّه لو نام ربان السفينة مثلا و غفل عن شؤونها لغرقت السفينة.

قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ .

استفهام إنكاري أي ليس لأحد الشفاعة و التأثير في ملكه و سلطانه إلا بإذنه. لأنّه إذا كان المعبود بالحق منحصرا فيه عزّ و جل و هو الحيّ القيوم لجميع خلقه و له جميع ما سواه ملكا و تدبيرا و إيجادا و إفناء لا يعقل أن يشفع عنده بدون إذنه لأنّه محال بالضرورة.

و الآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى و الملكية الحقيقية فيه عزّ و جل تثبت قانون الأسباب و المسببات أي الشفاعة التكوينية بإذن اللّه تعالى، و قد ذكرنا سابقا أنّ الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهيّ و مستقلّة عن مشية اللّه تعالى، و أما إذا كانت بإذنه عزّ و جل فلا مانع منها فإنّه ما من سبب إلا و يكون تأثيره من اللّه تعالى فهو القيوم المطلق فتصرّفه إنّما يكون منه جلّت عظمته بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله و صفاته العليا و نظير الآية المباركة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [يونس - 3].

ص: 254

و الآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى و الملكية الحقيقية فيه عزّ و جل تثبت قانون الأسباب و المسببات أي الشفاعة التكوينية بإذن اللّه تعالى، و قد ذكرنا سابقا أنّ الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهيّ و مستقلّة عن مشية اللّه تعالى، و أما إذا كانت بإذنه عزّ و جل فلا مانع منها فإنّه ما من سبب إلا و يكون تأثيره من اللّه تعالى فهو القيوم المطلق فتصرّفه إنّما يكون منه جلّت عظمته بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله و صفاته العليا و نظير الآية المباركة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [يونس - 3].

و أما الشفاعة التشريعية فتكون بإذنه عزّ و جل بالأولى، لأنّها من شؤون تشريعاته المقدسة التي يكون التكوين من مقدّمات حصولها و قد تقدم الكلام في الشفاعة فراجع.

قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ .

كناية عن كمال إحاطته بالموجودات وسعة علمه بالمخلوقات. و المراد بما بين أيديهم الحاضر المشهود و بما خلفهم الغائب المستور فيشمل جميع سلسلة الزمان الحاضر و الماضي و المستقبل و هي بمنزلة التعليل لنفي الشفاعة إلا بإذنه.

يعني: أنّ مناط الشفاعة هو العلم الإحاطي بالعباد بما فعلوه و يفعلونه و سائر جهاتهم و خصوصياتهم في سلسلة الزمان من الحاضر و الماضي و المستقبل و مثل هذا العلم منحصر في اللّه جلّت عظمته فلا بد أن تكون أصل الشفاعة و جميع ما يتعلق بها و سائر إضافاتها من حيث الشافع و الشفيع و متعلق الشفاعة بإذنه و اختياره عزّ و جل حدوثا و بقاء في الدنيا و الآخرة فلا كمال و لا استكمال إلا منه تعالى، و لا يقدر أحد على التصرف في ملكه و لا رادّ لقضائه جلت عظمته إلا منه و به تعالى و لهذه الآية الشريفة نظائر في القرآن الكريم قال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء - 28].

قوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ .

تأكيد لسعة علمه و كمال إحاطته و نفي علم ما سواه به تعالى. أي: أنّ أحدا من خلقه لا يقدر أن يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء.

و من هذه الآية الشريفة يستفاد عجز ما سواه عن الإحاطة به تعالى، لأنّ صفاته العليا و أسماءه الحسنى غير متناهية كذاته المقدّسة و ما سواه متناه و عدم

ص: 255

إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية.

فالعلم للّه تعالى وحده و هو يختص به عزّ و جل و ما يوجد عند غيره إنّما هو من علمه و مشيئته و إرادته و هو تعالى محيط بما سواه و قائم على خلقه و لا تتم قيّوميته على خلقه إلا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم و المعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيوية و الاخروية، و لا يختص ذلك بذوي العقول بل لطفه و عنايته شاملتان لجميع مخلوقاته فهي مستفيضة من فيضه العليّ ، و يدل على ذلك جملة من الآيات المباركة قال تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً [النحل - 68]، و هي تحت إرادته و تربيبه العظمى و من مظاهر فيضه و إحسانه و آثار رحمته و امتنانه ذاتا و صفة حدوثا و بقاء فجميع نظامه التكويني و التشريعي ينبعث عن نظامه الرّبوبي، و ما سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عزّ و جل في أصل الحدوث لا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عزّ و جل و هو قائم بإرادته و تدبيره الأتم و حكمته البالغة، و في كلّ آن له تعالى ربوبية خاصة و شأن غير ما في الآن السابق قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرّحمن - 29]، و من كان كذلك يكون جميع ما سواه كرسيّا له، لأنّ أظهر صفات الكرسي كونه مظهرا من مظاهر القدرة و الاقتدار و التدبير و الارادة.

فالآية الشريفة تدل على تمام تدبيره و كمال إحاطته بمخلوقاته و هي عاجزة عن الإحاطة بخالقها و صفاته العليا إلا بقدر ما يفيضه عليها و يرشدها إلى الكمال المطلوب.

قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ .

مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع و المجتمع و منه الكرّاسة، و الكرسي - في العرف -: اسم لما يقعد عليه، و لوحظ فيه المعنى اللغوي أيضا لاجتماع الحال و المحل أو اجتماع الأجزاء فيه، و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص - 34]، و يكنّى به عن الملك.

و المراد به في المقام: اقتداره التام وسعة سلطانه، و هو تشبيه بليغ بين

ص: 256

ما هو المعقول - بل فوق المعقول - بما هو المحسوس، و له نظائر كثيرة في الكتاب الكريم.

و تعقيب تلك الصفات العليا و الأسماء الحسنى بهذه الآية يدل على أنّ المراد هو ثبوت الملك الحقيقي له تعالى و كمال إحاطته و اقتداره و تمام تدبيره به و قيام جميع الممكنات به عزّ و جل فإنّ كرسيه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتسابا اشراقيا. و هو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود فيعم جميع الممكنات.

فكما أنّ في أسماء اللّه المقدسة اسم جامع لجميعها، و يصح انتزاع سائر الأسماء الحسنى منه و هو اسم الجلالة (اللّه) حيث ينتزع منه الرّب، و الرحمن، و الرحيم، و الجميل، و الجليل، و الجواد و غيرها من الأسماء الحسنى، فكذا لكرسيه جلّت عظمته لحاظ إجمالي، و هو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت و ستوجد إلى الأبد، و لعل أجلّ تلك الكراسي كرسيّ العلم الذي به تقوم السّموات و الأرض كما أنّ به تنتظم شؤون خلقه و تدبير ملكه على الحكمة البالغة.

و إنّما شبّه سبحانه و تعالى - ما في ساحته المقدسة التي تجل عن المادة و شؤونها، فإنّه لا كرسيّ و لا جلوس هناك تقريبا إلى الأفهام - بما اعتاد في صفات الملوك و العظماء فشبه عظمته و كبرياءه و سلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته و المدبر لشؤونها و الا فليس ما سواه إلا من مظاهر أسمائه و صفاته. و في المقام كلام طويل على بعض مباني الفلسفة الإلهية أعرضنا عن ذكره و سيأتي في الموضع المناسب بيانه إن شاء اللّه تعالى.

و من ذلك تظهر المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية المباركة، و العجب أنّ بعضهم أقرّ بأنّ كرسيه تعالى كناية عن كمال إحاطته و تدبيره و سلطانه التام يقول بأنّ الكرسي شيء يضبط السموات و الأرض لا يمكن معرفة كنهه و حقيقته. و ليس ذلك إلا من التهافت في الكلام.

قوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما .

الأود: المشقة و الثقل و الجهد، و الضمير يرجع إليه عزّ و جلّ ، أي: لا

ص: 257

يشق عليه حفظ السّموات و الأرض و لا يجهده و يتعبه ذلك. و لا ريب فيه لأنّ الإخراج من العدم إلى الوجود أقوى و أشد من الحفظ بعد الوجود و الثبوت، و بعد أنّ الممكن بعد الحدوث يحتاج إلى العلة، فالعلة المحدثة في كلّ آن تكون معه فلا يتصوّر موضوع للأود و المشقة بالنسبة إليه تعالى، مضافا إلى قيوميته المطلقة التي لا حدّ لها أبدا، فيكون عروض الأود من فرض القيومية المطلقة من الجمع بين المتنافيين فالآية الشريفة تؤكد السعة العلمية و الربوبية العظمى.

قوله تعالى: وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ .

هذه الجملة تدل على حصر جميع الكمالات فيه عزّ و جلّ فلا علوّ و لا عظمة إلا فيه و منه تعالى و قد وردت في عدة مواضع من القرآن الكريم و قرن اسم العلي بالكبير قال تعالى: وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ [سبأ - 23]، و بالحكيم قال تعالى: إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى - 51]، و قال تعالى: لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف - 4]، كما اطلق اسم الأعلى عليه جلّ جلاله قال تعالى: سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى [الأعلى - 1]، و قال تعالى: إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اَلْأَعْلى [الليل - 20]، كما أورد اسم العالي في أسمائه المباركة الحسنى في جملة من الدّعوات المأثورة.

و المعنى: هو العليّ في ذاته و جميع شؤونه و صفاته فهو المتعالي عن الشرك و الأنداد و عن الضعف في وجوده و صفاته، و الفتور في ملكه و أمره العظيم في شأنه و جلاله، و أمره و سلطانه فلا يعجزه كثرة مخلوقاته و هو المنزّه عن الاحتياج إلى غيره في ملكه و سلطانه.

و يمكن أن تكون هذه الجملة حالية أي: كيف يؤوده حفظهما و هو العليّ العظيم بالنسبة إلى ما سواه مطلقا، فلا يعقل عروض التعب و المشقة عليه.

و هذه الآية الشريفة خلاصة ما ورد في المعارف الربوبية تشتمل على الذات المقدّسة و أمهات الأسماء الحسنى و أصول الصفات العليا، و كلّ ما قيل في ذلك مقتبس من هذا النور الإلهي، فهو اللّه لا إله إلا هو المتنزه عن الأشباه

ص: 258

و الأنداد له جميع الصّفات العليا الجمالية و الجلالية.

فهو الحيّ القيوم الذي لا يأخذه ضعف و لا فتور و لا يصيبه كلال و لا ملال في حفظ مخلوقاته و هي محتاجة إليه تعالى متعلّقة بأمره و مشيته و هو متعال عنها عظيم في جميع شؤونه لا يشبهه أحد من خلقه.

و قد اشتملت هذه الآية على كلّ ما يسوق العباد إليه. و هي تملأ القلب مهابة من اللّه جلّ جلاله و تجعل النفس خاشعة ذليلة أمام عظمته و كبريائه و جلاله، و تزيد في معرفة العبد للّه تعالى و تقوده إلى ساحة قدسه و هو يستشعر بالحياء منه و قلبه مليء من عظمته و جلاله قد أعرض عن غيره و قطع أمله عن سائر خلقه و توكل عليه و اعترف بالعجز و القصور لينال ما هو المأمول.

و لأجل اشتمال هذه الآية على تلك المعارف العليا كانت لها آثار خاصة لم تكن في غيرها من الآيات، ذكر في السنة الشريفة بعض منها و سيأتي في البحث الروائي نقلها.

ص: 259

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول: إنّما عبر باسم الجلالة (اللّه) في صدر الآية المباركة لدلالته على الكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال، و لازم ذلك انحصاره في فرد و نفي الشريك عنه ذاتا و صفة و فعلا، لأنّ الشرك مطلقا ينافي فرض الكمال المطلق و هو خلف، و بهذا الدليل القويم يستدل على التوحيد في الذات و الصفات و الأفعال و هو يغنينا عن إطالة الكلام في ذلك، و لأجل ذلك تكرّرت هذه الآية في القرآن الكريم قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [طه - 8]، و قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ [النمل - 26]، و قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [التغابن - 13]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة لا سيّما إذا انضم إليها جملة (الحي و القيوم) لأنّها تتضمن أم الأسماء الجمالية و الجلالية و الأصل في نظامي التكوين و التشريع، و الرابط بين عالم الغيب بالشهادة و عالم الشهادة بعالم الغيب و فيها أهمّ أسرار عالم الملكوت و هي النور الذي يتدفق عن عالم الجبروت يستحيل على الممكنات تحمل معناها فترى العقول

ص: 260

صرعى دون بلوغ مغزاها، قد أدهش الأملاك جلالها فتراهم خاضعين لا يرفعون الرؤوس، و حيّر الأفلاك فلا تزال تتحرّك شوقا إلى الاقتراب و كلّما تقترب ميلا تفر أميالا لشدة أشعة الجلال و عظمة الاحتجاب يحترق كلّ من دنا منها، و ماذا أقول في اسم هو حياة كلّ ذي حياة و قيوم كل ذي ذات - جوهرا كان أو عرضا -.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أنّ حفظ السّموات و الأرض أعظم من إيجادهما فإنّ حفظ الشيء أعظم بكثير من إيجاده لأنّه يتطلّب جهدا أكبر فكم قد رأينا أنّ ملكا وصل إلى الملك و لم يقدر على حفظه و إبقائه فحرم من الاستمتاع به و لكن هذا غير متصوّر بالنسبة إلى اللّه تعالى فإنّه القادر القهار على جميع ما سواه حدوثا و بقاء إيجادا و إفناء، فلا مضادّ له في حكمه و لا ندّ له في ملكه و قد جمع ذلك في قوله عزّ و جلّ : لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ ... وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما .

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ تمام الإحاطة العلمية بالمخلوقات، و أنّ جميع المتدرجات الزمانية بل الدهرية حاضرة لدى علمه عزّ و جل حضورا علميّا إحاطيا و أنّها كذرة فلاة غير محدودة.

و التدرج إنّما هو في مرتبة المعلوم بالعرض لا في مرتبة العلم الإحاطي الغيبي، و أنّ غيب الغيوب حاكم على الشهادة بكلّ معنى الحكومة إيجادا، و تقديرا، و تدبيرا، و إفناء، و تبديلا لصورة إلى أخرى فهو المبدئ و المعيد و المصوّر لكلّ ما شاء و أراد.

كما يشمل قوله تعالى جميع الممكنات التي منها الإنسان من بدء حدوثها إلى آخر فنائها إذ لا معنى لمالكيته تعالى للسّموات و الأرض و علمه بها إلا ذلك فيعلم تعالى جميع ما يتعلق بالإنسان أنواعه و أفراده و جميع صفاته و حالاته و سعادته و شقاوته و أفعاله و أقواله حتّى خطرات القلوب و لمحات العيون.

ص: 261

الرابع: يدل قوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ على أنّه تمتنع الإحاطة بعلم الباري تعالى إلا بمسمّى المشيئة و يستفاد منه أنّ كلّ علم يفاض منه تعالى على الممكن لا بد أن يكون محدودا بالمشية، و لا يمكن للعقول درك خصوصيات المشية و لا الجهات المقتضية للإفاضة، و إن كان يستفاد من قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [البقرة - 282]، أنّ لحقيقة التقوى دخلا كبيرا فيها، فإنّها توجب صفاء القلب و استعداده للاقتباس من الأنوار الغيبية فإذا انعكس شعاع الشمس على المرآة الظاهرية الجسمانيّة كيف يحتمل أن لا تنعكس الأنوار الغيبية الواقعية في المرآة الحقيقية الواقعية.

الخامس: يحتمل أن يكون متعلّق المشيئة الإحاطة، كما يحتمل أن يكون نفس العلم، و يحتمل أن يكونا معا و على أيّ تقدير لا يكون إلا بقدر القابليات و الاستعدادات قال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد - 17]، نعم لو فرض الفناء المطلق فيه جلّت عظمته بحيث تزول الاثنينية فهناك بحث خاص يقصر اللسان عن بيانه و القلم عن تحريره فإنّ جميع جهاته حاليّة لا أن تكون مقالية.

السادس: يستفاد من هذه الآية الشريفة - و ما في سياقها من الآيات - أنّ المعبود بالحق لا بد أن يكون فيه هذه الأمور، الحيّ ، القيوم، لا تأخذه سنة و لا نوم و غيرها، لأنّ هذه كلّها ذاتية له فيمتنع التخلف و تنحصر لا محالة في اللّه جلّت عظمته.

و ما يتوهّم من أنّه يستلزم التركب في الذات الأقدس لا وجه له لأنّ جميع ذلك يرجع إلى سلب الإمكان و النواقص الواقعية و الإدراكية عنه، فتكون الذات بسيطة فوق ما نتعقله من معنى البساطة.

السابع: ظاهر نفي السنة و النوم عنه تعالى نفي حقيقتهما عنه مطلقا فيكون عدم الاختياري منهما عنه جلّت عظمته أيضا بل بالأولى، كما أنّ مقتضى ذلك نفيهما عنه تعالى في الأزل و الأبد لا أن يكون مختصا بوقت دون آخر.

ص: 262

و ظاهر الآية الشريفة أنّ عدمهما مختص به عزّ و جل، أي نفي ذاتهما مطلقا بجميع مراتبهما الممكنة فيهما.

و أما غيره تعالى فإنّه لا دليل من عقل أو نقل على انحصار حقيقة النوم و السّنة فيما يعرضان للحيوان فقط، بل لهما مراتب كثيرة لا يعلمها الا علاّم الغيوب، و من تلك المراتب

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«تنام عيني و لا ينام قلبي» و قد رأينا بعض المشايخ أنّه (رحمه اللّه تعالى) في أثناء بحث التفسير ينام مع أنّه كان مشغولا بالبحث حين النوم بلا خلل منه في البين.

فالقيوم الذي له القيومية الفعلية على ما سواه من كلّ جهة، و الممكن الذي هو زوج تركيبي له ماهية و وجود شيئان لا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

مع أنّ للسّنة و النوم مراتب كثيرة و نفي جميعها منحصر به تعالى كما أثبتناه سابقا.

و أما العقول و بعض الروحانيين و سادات الملائكة، فإنّ نفي بعض المراتب عنهم لا يستلزم نفي الجميع كما هو معلوم.

مع أنّ المقهورية المطلقة لما سواه عزّ و جل من أعظم أنواع النوم لجميع الممكنات. نعم، من كان حياته بحياته و أفنى جميع شؤونه في مرضاته بحيث لا يرى لنفسه ذاتا و لا صفة و لا فعلا و قد وصل إليه كتاب كريم من الحيّ القيوم إلى الحيّ القيوم كما في بعض الروايات فهو خارج عن موضوع ما يكتب و ما يختلج في الأوهام و لكنه مع ذلك كلّه بالنسبة إلى الأبد لا بالنسبة إلى الأزل فارتفع الوفاق و حصل الافتراق.

الثامن: قد أهمل تعالى إفاضة ما يفيضه من العلم و علّقه على مشيته و إذنه تعالى، إذ لا يحتمل البيان غير الإجمال لأنّ إفاضة العلم منه عز و جل على أقسام:

الأول: أن تكون الإفاضة من سلسلة العلل الطولية حتّى تنتهي إلى ذاته

ص: 263

المقدّسة، فيحيط المفاض عليه بتمام خصوصيات عالم الشهادة و الغيب حتّى يصل إلى غيب الغيوب الذي لا يعقل له حدود و لا نهاية فتكون حقائق جميع ما سواه تعالى منطوية في هذا العلم

و في بعض الدّعوات المأثورة عن نبينا الأعظم «اللهم أرنا الأشياء كما هي».

الثاني: أن تكون الإفاضة علم الحقائق العامة البلوى بما لها من الآثار.

الثالث: أن يفيض علم الآثار من حيث لوازمها و ملزوماتها دون أصل الحقائق.

الرابع: إفاضة بعض الآثار إجمالا.

الخامس: أن يتخصص كلّ فرد بخصوصية خاصة. و يمكن أن تصوّر الأقسام أكثر من ذلك و التفصيل لا يسعه المجال في مقام الثبوت، و مقام الإثبات.

ص: 264

بحث أدبي

المعروف بين أهل اللغة و الأدب أنّ (اللام) تأتي للملك المجرد في مقابل سائر المعاني اللازمة للملكية من التدبير، و التنظيم، و الإيجاد و الإفناء و غير ذلك من لوازم الملكية عقلا و عرفا و قد وضع لذلك كله ألفاظ أخرى يستعملونها مع تحقق المعنى، و لا تستعمل مع عدمه مع صحة الانفكاك. و قد حصل ذلك من تصوّر الملكية في الممكنات و انتفاء الملكية الواقعية الحقيقية من جميع الجهات.

و أما فيما هو الحقيقي الواقعي فالملكية و المالكية تشمل جميع ما لها من اللوازم و الآثار التي لا يستلزم منها النقص من إطلاقه عليه تعالى إيجادا و إفناء و تدبيرا و غير ذلك. فإنّ الملك فيه حقيقي لا اعتباري كالدائر بين الإنسان فالمستفاد من قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ أنّ له الملكية الذاتية الحقيقية الشاملة لجميع اللوازم و الملزومات التي لا توجب النقص إما بالدلالة التضمنية أو الالتزامية، كما يقال: فلان رجل عاقل أي:

يحسن تدبيراته و عمله و شؤونه و نحوها و الكلّ منطو في معنى اللفظ الواحد.

و كلّ ما اتسع المعنى ازدادت آثاره و لوازمه و ملزوماته، و لا نحتاج إلى تكثير اللفظ خصوصا فيه جلّت عظمته، و لأجل ذلك قلنا: إنّ لفظ (اللّه) اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية الواقعية المسلوب عنه جميع

ص: 265

النقائص الواقعية و الإدراكية، و تشهد لذلك الأدلة العقلية و السنة الشريفة فيكون إطلاق اللفظ الواحد بمنزلة إطلاق ألفاظ كثيرة و سلب معان متعددة و هذا الإطلاق يكون على نحو الحقيقة دون المجاز.

ص: 266

بحث روائي
اشارة

تقدم أنّ آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم التي تشتمل على جملة من المعارف الإلهية منها التوحيد الخالص و بيان الصفات العليا و يكفي في شرفها أنّ اسم اللّه تعالى تكرر فيها ثمان عشرة مرة بين ظاهر و مضمر بل يمكن القول بأنّها تحتوي على كليات و أصول المعارف الحقة:

أما التوحيد - فيكفي فيه قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .

و أما العدل - فإنّه يكفي فيه قوله تعالى: اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ إذ القيومية المطلقة لا تتم إلا بالعدل و إنّ به قامت السّموات و الأرض.

و أما النبوة - فيرشد إليها قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ .

و النبوة و المعاد متلازمان تلازم المبدإ و المعاد، لفرض أنّ النبي يخبر عن المعاد فهو بوجوده في هذا العالم وجود المعاد كما تدل عليه الآيات المباركة.

و منه يستفاد الولاية أيضا إذ لا نبوة كاملة الا بتعيين الوصاية و الولاية.

و لشرافة ما تضمنته هذه الآية الكريمة صارت من أعظم الآيات و أفضلها و أجمعها فقد ورد في السنة الشريفة ما يدل على فضلها و عظمة أمرها و الاعتناء

ص: 267

بها اعتناء بليغا، و التوصية بقراءتها و حفظها لما فيها من الآثار العجيبة و قد اشتهرت بذلك من حين نزولها و نحن نذكر في هذا البحث جملة مما ورد في فضلها، و ما يتعلق في عددها و ما يتعلّق بالكرسي، و ما ورد في تفسير مفرداتها.

فضل آية الكرسي و شأنها:

روى السيوطي في الدر المنثور عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «آية الكرسي سيدة آي القرآن».

و روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر: «قال: يا رسول اللّه ما أفضل ما أنزل عليك ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي».

و أخرج البخاري في تاريخه و ابن الضريس عن أنس أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «أعطيت آية الكرسي من تحت العرش».

و أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة قال: «قلت: يا رسول اللّه أيّما أنزل عليك أعظم ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي» رواه الخطيب البغدادي أيضا.

و في سنن الدارمي عن أيفع بن عبد اللّه قال: «قال رجل: يا رسول اللّه أيّ آية في كتاب اللّه أعظم ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي: اللّه لا إله إلا اللّه هو الحي القيوم - الحديث -».

و في الكافي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). «لما أمر اللّه هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش و قلن أي ربّ إلى أين تهبطنا إلى أهل الخطايا و الذنوب ؟! فأوحى اللّه عزّ و جل إليهنّ اهبطن و عزّتي و جلالي لا يتلوكنّ أحد من آل محمد و شيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كلّ يوم إلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة أقضي له في كلّ نظرة سبعين حاجة و قبلته على ما كان فيه من المعاصي.

و هي أم الكتاب، و شهد اللّه أنّه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم، و آية الكرسي، و آية الملك».

ص: 268

أقول: يستفاد من أمثال هذه الرواية أنّ للآيات الشريفة حياة حقيقية واقعية و إن كنا لا ندرك ذلك و يدل عليه قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى - 52].

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام):

«إنّ لكلّ شيء ذروة و ذروة القرآن آية الكرسي».

و في أمالي الشيخ باسناده عن أبي أمامة الباهلي: «أنّه سمع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها، قلت: و ما سوادها؟ قال (عليه السلام): جميعها حتّى يقرأ هذه الآية: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ - إلى قوله - وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ قال: فلو تعلمون ما هي - أو قال ما فيها - ما تركتموها على حال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش و لم يؤتها نبيّ كان قبلي قال علي (عليه السلام) فما بتّ ليلة قط منذ سمعتها من رسول اللّه إلاّ قرأتها».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال أبو ذر: «يا رسول اللّه ما أفضل ما أنزل عليك ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي، ما السموات السبع و الأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض بلاقع ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله): و إنّ فضله على العرش كفضل الفلاة على الحلقة».

و سئل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) القرآن أفضل أم التوراة ؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ في القرآن آية هي أفضل من جميع كتب اللّه و هي آية الكرسي».

و عن نبينا الأعظم: «من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة لم يمنعه دخول الجنة إلا الموت و من قرأها حين ينام آمنه اللّه و جاره و أهل الدويرات حوله».

و عن علي (عليه السلام) قال: «سمعت نبيّكم (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 269

يقول - و هو على أعواد المنبر -: من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت و لا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، و من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه اللّه على نفسه و جاره و جار جاره و الأبيات حوله».

أقول: الأخبار في فضلها كثيرة مروية عن الخاصة و الجمهور و قد ورد استحباب قرائتها في مواضع كثيرة منها عند السفر و بعد الصلاة، و بعد الوضوء، و عند المريض، و حال النزاع و سكرات الموت و غير ذلك مما هو كثير راجع الكتب المعدة لذلك.

عدد آية الكرسي:

لا ريب في أنّ كلّ ما ورد فيه ذكر آية الكرسي يراد بها إلى قوله تعالى:

وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ و تقدم في حديث أبي أمامة الباهلي عن عليّ (عليه السلام) التصريح بذلك، و يظهر ذلك أيضا مما ورد في قراءة آية الكرسي و آيتين بعدها، فإنّه ظاهر في خروجها عنها، و هو المنصرف من إطلاق آية الكرسي أي الآية التي يذكر فيها الكرسي هذا إذا لم تقم قرينة على الخلاف، كما في بعض الروايات من زيادة إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ أو زيادة «آيتين بعدها»،

ففي الخبر عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من قرأ أربع آيات من أول البقرة و آية الكرسي و آيتين بعدها و ثلاثا من آخرها لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه الشيطان و لا ينسى القرآن» فحينئذ يؤخذ بها في موردها.

و في تفسير القمي ذكر آية الكرسي إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ - و الحمد لله رب العالمين.

أقول: يمكن أن يكون التحميد إرشادا إلى استحباب ذكر الحمد بعد تمام الآيات، كما ورد في سورة التوحيد من استحباب قول:

«كذلك اللّه ربّي» و في سورة الجحد من استحباب قول:

«ربّي اللّه و ديني الإسلام» بعد تمامها و مثل ذلك كثير في القرآن.

ص: 270

معنى الكرسي:

في الكافي عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فقال: يا فضيل كلّ شيء في الكرسي، السّموات و الأرض، و كلّ شيء في الكرسي».

أقول: أما

قوله (عليه السلام) أولا: «كلّ شيء في الكرسي» فيه إجمال و قد بيّنه بقوله

(عليه السلام): «السّموات و الأرض» و أما

قوله (عليه السلام) ثانيا: «كلّ شيء في الكرسي» فهو عبارة عما في السّموات و الأرض من الجواهر و الأعراض و النفوس و المجردات و الأملاك و الأفلاك.

و المراد به: الإحاطة العلمية بما سواه كلية و جزئية كما فسر بها في رواية أخرى، أو الإحاطة القيومية فإنّه تعالى محيط بجميع ما سواه و قائم عليه بتمام معنى الإحاطة و القيومية.

و في الكافي أيضا عن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ السموات و الأرض و سعن الكرسيّ أو الكرسيّ وسع السّموات و الأرض ؟ فقال (عليه السلام): «إنّ كلّ شيء في الكرسي».

أقول: ظهر معنى الرواية ممّا مرّ في سابقتها. و أما سؤال زرارة فهو سؤال بدا في ذهنه ابتداء قبل التأمل فيه، فأبدى الإمام (عليه السلام) الجواب على حقيقته بما يزيل الوهم.

و في المعاني عن حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ قال (عليه السلام) علمه».

أقول: يصح التعبير عن العلم المحيط بالعرش و الكرسي و يصح هذا التعبير باعتبار الإحاطة و الاستيلاء فيشمل جميع جهات إحاطته تبارك و تعالى مثل كرسيّ الجمال و الجلال و العزّة و القدرة و العظمة فما ذكره الإمام (عليه

ص: 271

السلام) بعض منها تقريبا للأفهام، و لأنّ الإحاطة العلمية جامعة لجميع ذلك.

و في المعاني أيضا عن المفضّل بن عمر قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العرش و الكرسيّ ما هما؟ فقال (عليه السلام): العرش في وجه:

هو جملة الخلق، و الكرسيّ وعاؤه. و في وجه آخر: العرش هو العلم الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه و رسله و حججه. و الكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه و رسله و حججه عليهم السلام».

أقول: المراد من الوعاء ليس الوعاء الجسماني بل الإحاطة الحقيقية.

و أما الوجه فهو بيان مراتب علمه التي هي غير متناهية و سيأتي البحث في علمه عزّ و جل مستقلا إن شاء اللّه تعالى.

و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): «السموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي. و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره».

أقول: تقدم ما يتعلّق

بقوله: «السّموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي» أي: الكرسي بمنزلة الوعاء لها. و أما

قوله (عليه السلام): «العرش هو العلم» فهو صحيح بالنسبة إلى العرش الذي بمعنى العلم و

قوله: «الذي لا يقدر أحد قدره» أي: لا يقدر على فهم حقيقته أحد و لا يمكن الاطلاع على جميع خصوصياته.

في تفسير العياشي عن زرارة في قوله عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ قال (عليه السلام): لا بل الكرسي وسع السّموات و الأرض و العرش، و كلّ شيء خلق اللّه في الكرسي.

قال الأصبغ بن نباتة: «سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فقال (عليه السلام): إنّ السّماء و الأرض و ما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي، و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه».

أقول:

قوله (عليه السلام): «لا بل الكرسي وسع السّموات و الأرض

ص: 272

و العرش» دفع لما يمكن أن يتوهم من أنّ السّموات و الأرض وسعت الكرسيّ كما سأله زرارة نفسه في رواية أخرى.

و المراد بالعرش: سائر مخلوقاته عزّ و جل، أي: العرش الجسماني، و

قوله (عليه السلام): «في جوف الكرسي» عبارة عن سعته للسّماوات و الأرض و ما فيهما كما تقدم في الرواية السابقة.

و أما حمل الأملاك الأربعة الكرسيّ فهو عبارة عن مظاهر قدرة اللّه تعالى لحمل كرسيّ العالم الجسماني فلا تنافي بين هذه الرواية و بين الآيات الدالة على ثبوت الحمل للعرش قال تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ [غافر - 7]، و قال تعالى: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة - 17]، و يأتي شرحها في موضعها و قريب من هذه الرواية ما ورد في الاحتجاج عن الصادق (عليه السلام).

و محصّل الكلام في العرش و الكرسي أنّهما إما معنويان روحانيان أو جسمانيان أي عالم الأجسام و لا بد و أن يميّز بحسب القرائن بين الأقسام الأربعة لئلا يختلط بعضها ببعض، و القرائن موجودة في نفس الأخبار لمن تأمل فيها.

في تفسير القمي عن الأصبغ بن نباته: «أنّ عليّا (عليه السلام) سئل عن قول اللّه عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فقال: السّموات و الأرض و ما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه - الحديث -» و رواه العياشي أيضا.

أقول: تقدم ما يتعلّق به في الرواية السابقة.

في الكافي عن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و بناته و كانت تبيع منهنّ العطر فجاء النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و هي عندهنّ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إذا أتيتنا طابت بيوتنا؟ فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّه قال (صلّى اللّه عليه و آله): فإذا بعت فأحسني و لا

ص: 273

تغشي فإنّه أتقى و أبقى للمال فقالت: يا رسول اللّه ما أتيت بشيء في بيعي و أتيت أن أسألك عن عظمة اللّه عزّ و جل قال (صلّى اللّه عليه و آله): سأحدثك عن بعض ذلك - إلى أن قال (صلّى اللّه عليه و آله): و هذه السبع، و البحر المكفوف، و جبال البرد، و الهواء، عند حجب النور كحلقة في فلاة قي و هذه السبع، و البحر المكفوف و جبال البرد و الهواء، و حجب النور عند الكرسي كحلقة في فلاة في ثم تلا هذه الآية: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ . و هذه السبع و البحر المكفوف، و جبال البرد، و الهواء، و حجب النور، و الكرسي عند العرش كحلقة في فلاة قي و تلا هذه الآية: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى .

أقول: القيّ - بالكسر - هي الأرض القفر الخالية. و حقيقة مثل هذه الأحاديث لا يعرفها إلا من عبر تلك المحالّ المقدسة و هو مختص بسيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، و يمكن أن يراد بالكرسي و العرش الجسماني منهما كما تقدّم و اللّه تبارك و تعالى محيط على الجسم و الجسمانيات و الرّوح و الرّوحانيات.

في التوحيد عن حنان قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال (عليه السلام): إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وضع في القرآن صفة على حدة فقوله تعالى: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ يقول: رب الملك العظيم، و قوله: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى يقول على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع، و منه الأشياء كلّها و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون، و القدر، و الحد، و الأين، و المشية، و صفة الإرادة، و علم الألفاظ، و الحركات و الترك، و علم العدد، و البداء. فهما في العلم بابان مقرونان لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ أي صفته جار الكرسي قال (عليه

ص: 274

السلام): إنّه صار جارها لأنّ علم الكيفوفية فيه، و فيه الظاهر من أبواب البداء، و إنيتها وحد رتقها و فتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما، لأنّه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز».

أقول: أما

قوله (عليه السلام): «إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة» مطابق للواقع و الحقيقة لأنّ كلما عظم الشيء كثرت صفاته و العرش و الكرسي أعظم المخلوقات فتكون لهما صفات كثيرة و قد يجتمعان في بعضها و قد يختلفان. و هذه الفقرة تدل على ما ذكرناه آنفا من انقسامهما إلى قسمين روحاني و جسماني.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «في كل سبب وضع في القرآن» أي:

لكلّ سبب اصطلاح خاص في القرآن.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «و هذا علم الكيفوفة» أي: العلم بالمخلوق من حيث الكيفية لأنّ العرش و الكرسي مخلوقان له تعالى فيجري فيهما الكيفية و سائر الجهات المخلوقة و إن لم تجر الكيفية بالنسبة إلى الباري عزّ و جل

لقولهم (عليهم السلام): «و هو الذي كيّف الكيف فلا كيف له».

و المراد من

قوله (عليه السلام): «ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي» أي: من حيث ملاحظة العرش مع الكرسي فهما شيئان مختلفان لأنّهما بابان من أبواب الغيب، و إن كان يجتمعان في كونهما من الغيب، و هذه صفة كلّ جنس له نوعان مختلفان، و أما كونهما بابين من أبواب الغيب فلفرض احتوائهما على جميع ما سوى اللّه عزّ و جلّ و لا يمكن أن يحيط بذلك غيره تعالى، و الحاوي و المحتوي غيبان محجوبان عن البصائر فضلا عن الأبصار.

و المراد من الظهور في

قوله (عليه السلام): «لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع» النسبي منه أي بالنسبة إلى العرش فيكون العرش بمنزلة الباب الداخل و الكرسي بمنزلة الباب الخارج، و الكرسي مطلع الموجودات الإبداعية التي خلقها اللّه تعالى.

ص: 275

و يمكن أن يراد بباب الغيب أي ما فوقهما لا ما فيهما، و ما فوقهما هو غيب الغيوب الذي هو سرّ محجوب.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «العرش هو الباب الباطن» العرش الرّوحاني العلمي لفرض أنّه (عليه السلام) حدّد المعلومات بالنسبة إليه و منه يكون البداء كما ذكره (عليه السلام) من جملة العلوم، و كذا علم العدد فإنّه من أهمّ العلوم الغيبية و كلّ ذلك منطو في

قوله (عليه السلام): «العرش هو الباب الداخل و الكرسي هو الباب الخارج» فيكون تفصيلا لذلك الإجمال.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «و بمثل صرف العلماء» يعني أنّ علومهم تنتهي إلى هذا الباب الخارج مؤيدا من اللّه تبارك و تعالى.

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي:

في تفسير القمي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى:

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ قال: «ما بين أيديهم فأمور الأنبياء، و ما كان و ما خلفهم ما لم يكن بعد إلا بما شاء أي بما يوحى إليهم».

أقول: هذا تفسير الكلّي ببعض مصاديق العلم و الا فإنّ علمه تعالى عين ذاته فهو إحاطي بجميع ما سواه، و يمكن أن يجعل ذلك أيضا من التعميم فإنّ جميع العلوم لا تخرج عمّا يوحى إلى أنبيائه و عما يكون في الممكنات.

و في تفسير العياشي عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) «قلت: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قال (عليه السلام): نحن أولئك الشافعون» و رواه البرقي في المحاسن أيضا.

أقول: هذا من باب التطبيق.

في معاني الأخبار عن محمد بن سنان عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «سألته هل كان اللّه عزّ و جل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق قال (عليه السلام): نعم قلت: يراها و يسمعها؟ قال (عليه السلام): ما كان محتاجا إلى ذلك لأنّه لم يكن يسألها و لا يطلب منها هو نفسه، و نفسه هو،

ص: 276

قدرته نافذة، فليس يحتاج إلى أن يسمّي نفسه و لكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنّه إذا لم يدع باسمه لم يعرف فأول ما اختار لنفسه العليّ العظيم، لأنّها أعلى الأشياء كلّها. فمعناه اللّه و اسمه العليّ العظيم. و هذا أول أسمائه لأنّه على كلّ شيء قدير».

أقول: المراد من هذا العرفان هو الوجدان بالذات أي يجد نفسه بنفسه و يكون حاضرا لدى نفسه و هذا يجري في غيره تعالى أيضا لأنّ الإنسان يعرف وجود نفسه.

و أما

قوله (عليه السلام): «اختار لنفسه أسماء» لعلمه الأزلي باحتياج خلقه إليه و دعاء عباده له فجعل تلك الأسماء وسيلة لهم.

ص: 277

بحث عرفاني

الحضور عند اللّه جلّت عظمته من طرف الممكنات له مراتب كثيرة يمكن أن يقال بأنّها لا تتناهى ما دام يكون للحاضر لديه جلّ جلاله استعداد لذلك و تدور مراتبه على مراتب التخلق بأخلاق اللّه عزّ و جل و التفاني في مرضاته و أساس ذلك يرجع إلى حبّ اللّه تعالى بحيث يجري في الجوارح جريان الدم في جميع العروق فإنّ القلب منبع الحياة الأبدية و إذا خضع خضعت جميع الجوارح.

و أول من سلك هذا المسلك العظيم و مشى في هذا الطريق الجليل الكريم إنّما هو سيد الأنبياء و إمام المرسلين الذي هو أعظم أبواب رحمة اللّه لجميع العالمين حيث نال بحبّه له تعالى حياة أبدية حقيقية لا يتصوّر حياة أفضل و أشرف منها فتأمل في

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي يطعمني ربّي و يسقيني ربّي» فإنّ المحبوب يسقى مباشرة من حبيبه فهل يتصوّر حياة ألذ و أوفى من هذه الحياة ؟!! ثم تأمل في

قوله (صلّى اللّه عليه و آله):

«ليغان على قلبي فأستغفر اللّه في كلّ يوم سبعين مرة» فإنّ قلبه الشريف أبدا كان مشغولا و مربوطا به جلّت عظمته فإن عرض له عارض من أمور الأمة و الملة و مصالحهما فزع إلى الاستغفار، فجعل المعاشرة مع غيره تعالى - و لو في المباحات الضرورية - حجابا عنه تعالى، فما أشدّ الحب، و ما أفضل الحبيب و ما أجل المحبوب و في مثل هذا الحب و الحضور لا نوم و لا سنة و هو

ص: 278

الذي

قال: «تنام عيني و لا ينام قلبي». و كيف يصلح النوم لواسطة الفيض و غاية الكمال المستفاض خاتم كمالات من سبق و فاتح أبواب المعارف!! و كيف ينام و هو بمحضر محبوبه و شهيده! كلاّ و ربّ الناس إنّ مقام الحبّ أعزّ و أمنع من أن يعرضه النوم و النعاس.

ص: 279

بحث فلسفي
اشارة

الآية الشريفة تضمنت جملة من الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و هي كثيرة. و لا فرق بين الأسماء و الصفات إلا بالاعتبار فإنّ الثانية تحمل على الذات دون الأولى كما أثبتناه في الأصول و قد اصطلحوا على مصادر النعوت (صفات اللّه تعالى) مثل العلم و القدرة و الرّحمة و نحو ذلك و على مشتقاتها (أسماء اللّه تعالى) مثل العالم و القادر و الرّحيم و غيرها.

و عن بعض أنّ هذا الفرق ذاتي لا أن يكون اعتباريا، و كيف كان فإنّ البحث في المقام يقع تارة في أقسام الصفات. و أخرى: في بيان معنى بعض الصفات الواردة في الآية الشريفة.

أقسام صفاته عز و جل:

ذكر الفلاسفة و المتكلمون تقسيمات عديدة لأسماء اللّه الحسنى و صفاته العليا باعتبارات مختلفة نذكر المهمّ منها:

التقسيم الأول: الصّفات الحقيقية المحضة، و الصفات الحقيقية ذات الإضافة، و الصّفات الإضافية المحضة.

و الاولى: عبارة عن الصّفات التي يصح أن تلحظ بذاتها من دون لحاظ أمر آخر مثل الحياة، و الوجوب، و الحقية، فهو تعالى حيّ واجب، حق.

ص: 280

و الثانية: هي الصّفات التي لا بد في تصورها من شيء آخر مثل العلم و القدرة و الرّحمة فإنّها لا يمكن تصويرها إلا مع المعلوم و المقدور و المرحوم.

و الثالثة: هي الصّفات الإضافية المحضة في حدّ نفسها مثل الرازقية و الحكيمية فإنّها إضافة محضة و زائدة على الذات عند الكلّ ، و هذه الأقسام الثلاثة تجري في صفات الإنسان أيضا.

التقسيم الثاني: صفة الذات و صفة الفعل و تقدم سابقا الفرق بين الصّفات الذاتية و الصّفات الفعلية. و قلنا: إنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها و بنقيضها فهي صفة فعل مثل الرزق و الخلق و الإرادة و كلّ صفة لا يمكن سلبها عنه فهي صفة الذات، لأنّها عين الذات فيه عزّ و جل فلا يمكن انفكاكها عنه تعالى و هي كثيرة مثل العلم و القدرة و غيرهما.

و التقسيم الثالث: الصّفات الجمالية (الكمالية) و الصفات الجلالية.

و الأولى عبارة عن الصّفات الثبوتية، و الثانية عبارة عن الصّفات السلبية.

و يمكن إرجاعهما إلى شيء واحد، فإنّ الأولى - أي الصّفات الثبوتية - ترجع إلى وجوب الوجود و التحقق، و الثانية - أي الصفات السلبية - إلى سلب الإمكان عنه تعالى فيسلبه عنه عزّ و جل فتنتفي جميع النواقص الواقعية و الإدراكية.

و المستفاد من السنة الشريفة: أنّ الصّفات الثبوتية له تعالى ترجع إلى معنى عدمي لأنّ ثبوت شيء له تعالى نحو تحديد فنفوا (عليهم السلام) عنه عزّ و جل حتّى هذه المرتبة من التحديد فيكون معنى «السميع و البصير» لا تخفى عليه المسموعات، و لا تخفى عليه المبصرات و معنى «الواحد و القادر» لا شريك له بوجه من الوجوه و لا يعجزه شيء و قد ورد نظيره في القرآن الكريم قال تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً [الفاطر - 44]، فكما لا يمكن درك الذات كذلك لا يمكن درك حقيقة صفاته فإنّها «شيء لا كالأشياء».

التقسيم الرابع: بحسب العظمة و الأعظم و الأعظم الأعظم. و من الأول

ص: 281

جميع أسمائه المقدّسة فإنّها عظيمة.

و أما الثاني: فقد تقدم بعض ما يتعلّق به في المباحث السابقة، و قد ذكر بعضهم: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى (عليه السلام) عن اسم اللّه الأعظم فقال لهم: «أياهيا شراهيا يعني: يا حيّ يا قيوم».

و أما الأخير فهو الذي وضعه على النهار فأضاء و على الليل فأظلم و به قال تعالى: ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصّلت - 11]، و به تلقف عصا موسى ما يأفكون، فقال تعالى: أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الأعراف - 117]، إلى غير ذلك مما شرحته السنة المقدسة و هو من الغيب المكنون.

و منها: تقسيمها بحسب العوالم فتارة: تكون في عالم وجوب الوجود، و أخرى: في المجردات، و ثالثة: في الجواهر المادية، و رابعة: في الأعراض القائمة بالغير.

و بالجملة: فإنّ جميع ما سواه مظاهر أسمائه و صفاته و ربوبيته العظمى و قيوميته المطلقة. و هناك تقسيمات أخرى يقصر منها المقال و لا يعرفها إلا أهل الحال.

و قد اجتمعت جملة من تلك الأقسام في الآية الشريفة فمن الصفات الذاتية: الحياة، و العلم، و العلوّ، و العظمة، و من الصفات الفعلية: الإذن، و من الصفات الحقيقية المحضة: الحياة، و القيومية، و من الصفات الحقيقية ذات الإضافة: الملك، و العلم، و من الصفات الإضافية: عنوان المالكية المستفاد من قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ و من الصفات الكمالية الجمالية جملة منها و من الصفات الجلالية نفي الشريك. و قد اشتملت الآية على الاسم الأعظم فهنيئا لمن التفت إليه.

الحياة و معناها:

الحياة: تستعمل في معان متعددة ذكرها اللّه تعالى في القرآن الكريم.

ص: 282

و يمكن أن يجعل لها جامع قريب فيما سواه أي: منشأ الفعل و الإرادة فيشمل الجميع بل يشمل الحياة النباتية لصدور فعل النمو منها و لها نحو إرادة و إن كنا لا نفهم ذلك.

و أثبت أكابر الفلاسفة أنّ حقيقة الحياة تدور مدار حقيقة الوجود بحسب الأصل و الاشتداد و التضعف و سائر الجهات فيكون أولى الحقائق بالوجود أولاها بالحياة، و أشدّها و أعظمها بالنسبة إليه يكون كذلك بالنسبة إلى الحياة، و كما أنّ الوجود يدرك مفهومه إجمالا و لا يمكن درك حقيقته، كذلك الحياة، فهما ككفتي الميزان في جملة من الجهات.

مفهومها من أبده الأشياء *** و كنهها في غاية الخفاء

و كما لا مطمع للممكن في درك الذات الأقدس الرّبوبي كذلك لا مطمع له في درك حياته جلّت عظمته و هي عين ذاته فلا بد و أن تعرف الحياة فيه تعالى بمعنى عدمي أي: عدم الموت، إذ لا يمكن الإحاطة بحقيقتها فيه تبارك و تعالى، لفرض أنّها عين ذاته الأقدس، فيلزمه جميع الكمالات الحاصلة من الحيّ فتكون بمنزلة الوجود.

فما كان وجوده و حياته منشأ كلّ شيء و حياته، فيكون قيوم كلّ شيء لا محالة، فتنحصر القيومية المطلقة فيه جلّت عظمته قيومية حقيقية واقعية إحاطية، و ما كان كذلك لا يعقل أن تأخذه سنة أو نوم. فهذه الآية الكريمة مترتبة، فكلّ سابق بمنزلة العلّة للاحقه كما تقدم فالحياة المطلقة الذاتية - على ما ذكرناه - علّة للقيومية كذلك، و القيومية المطلقة الذاتية علّة تامة لعدم تحقق السّنة و النوم و الغفلة و الفتور، و الجميع علّة تامة لسعة إحاطته و قدرته لجميع السّموات و الأرض و ما فيهما.

و الكلّ معلول إرادته التامة حدوثا و بقاء ذاتا و صفة، و مثل ذلك منحصر في الفرد و هو اللّه تعالى فهو العلي العظيم المنزه عن الند و الشرك لا يجانسه أحد من مخلوقاته.

ص: 283

النوم و معناه:

النوم: وجدانيّ لكلّ حيوان كالأكل و الشرب، و توليد المثل و نحو ذلك من الوجدانيات و هو ضروري بالنسبة إلى الحيوان تتوقف عليه حياته كسائر الأمور الضرورية التي يتوقف عليها بقاؤه و حياته.

و محصّل ما ذكره الفلاسفة في حقيقة النوم أنّه يرجع إلى عزل الروح نفسها عن الشؤون و التدبيرات الخارجية للبدن و حصرها في البدن لمصلحة في ذلك العزل و الحصر و إنّما هي تفعل ذلك بإرادة من الحيّ القيوم فهو تعالى يقبض الأرواح و يبسطها، فالنوم حاصل منه عزّ و جل لكن جعل ذلك بالأسباب الطبيعية الظاهرية التي جرت عادته على تطبيقها في جميع خلقه من ذروة العرش الأعلى إلى تراب الأرض الأدنى.

و لا فرق بين النوم و الموت من هذه الجهة قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام - 60]، و قال تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر - 42]،

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كما تنامون تموتون و كما تستيقظون تحيون» فكلّ منهما مفارقة تدبير الرّوح من البدن، فإن طالت مدة ذلك يكون موتا و الا كان نوما.

و لما كان الرّوح خلقا آخر و هو من أمر الرّبّ قال تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء - 85]، فلا بد أن تكون تحت استيلائه و سلطنته من كلّ جهة و لا معنى للقهارية المطلقة عليها الا ذلك. نعم للأسباب الظاهرية دخل بنحو الاقتضاء كما في جميع المخلوقات هذا إجمال ما لا بد من تفصيله و يأتي في محلّه.

و أما النوم الذي أطلقوا عليه (النوم المغناطيسي) فإن كان ناتجا من التسلط على الروح من حيث هي مع قطع النظر عن سائر الجهات فهذا غير

ص: 284

ممكن لأنّ الرّوح من عالم الأمر و لا يتسلّط عليها الا من ارتبط بعالم الأمر، و الناس بمعزل عن ذلك إلا من اصطفاه اللّه تعالى و ارتضاه.

و إن كان في الجسم من حيث ارتباطه بالروح فله وجه، و لكن كلية ذلك مشكلة أيضا لغير أولياء اللّه تعالى و أحبّائه الذين بذلوا جميع شؤونهم للّه تعالى فسلّطهم على ما شاءوا و أرادوا فمشوا بحق اليقين في عالم عين اليقين و أدركوا بأبصارهم ما لا يدركه الناس ببصائرهم. نعم ما يدعونه من الوقوع إنّما يكون في الأرواح الجزئية الدنيئة هذا ما يتعلّق بالنوم بالنسبة إلى الحيوان.

و أما النوم في غيره فهو يختلف باختلاف متعلّقه فيكون تارة سباتا و أخرى: فتورا و ثالثة: غفلة و نحو ذلك مما لا يخلو عنها مخلوق من مخلوقات اللّه تعالى.

و لكن جميع ذلك منفيّ عنه تعالى و هو منزّه عن السّنة و النوم و غيرهما مما يوجب الفتور و الغفلة و قد ذكرنا أنّ عروض النوم و السّنة عليه مستحيل بنفسه لأنّه من عوارض الجسم و الجسمانيات، و يلزم المحال أيضا لأنّه يستلزم الغفلة و هي تنافي القيومية المطلقة و الإحاطة الواقعية الحقيقية.

ص: 285

سورة البقرة الآية 256-257

لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْو.......

اشارة

لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى لاَ اِنْفِصامَ لَها وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) قرر سبحانه و تعالى في الآية السابقة كليات اصول الدّين و هي توحيد اللّه تعالى و تنزيهه عن الشرك و الأنداد و النقائص و الأوهام و أثبت تعالى لنفسه الأقدس أمهات الصفات العليا و الأسماء الحسنى. كما دلّت الآية على المعاد أيضا للتلازم بين المبدإ و المعاد.

يبيّن عزّ و جلّ في هاتين الآيتين أصلا آخر من أصول الدّين و هو النبوة بعد الإشارة إليها في الآية السابقة و قرّر تعالى أنّ الدّين الذي نزل به على خاتم الأنبياء قد حوى من المعارف الإلهية و التشريعات الربوبية التي هي من الوضوح بمكان مما لا يدع مجالا إلى الشك و الريبة و يهدي إلى الفطرة السليمة و العقل المستقيم فمن آمن بما أنزل اللّه تعالى فقد خرج من ظلمات المادة و المعاصي إلى النور الإلهي و دخل في ولاية اللّه تعالى و فاز بسعادة الدّارين و من أعرض و كفر به أطفأ نور الفطرة بالكفر و الطغيان و صار من أولياء الشيطان فنال الشقاوة و الخسران.

ص: 286

و ميّز سبحانه في هاتين الآيتين بين تشريع الدّين فاعتبر أنّ معالمه واضحة و أعلامه جلية عالية فلا إكراه عليه و لا إجبار على الدخول فيه و بين بقائه فاعتبر فيه الاستمساك بالعروة الوثقى التي تجعل الدّين غضا طريا يؤمن عليه من تلبيس المنافقين و زيغ المعاندين و دسائس الكافرين و لا يمكن الانفكاك بين الأمرين و الا استلزم الخلف فإنّ تشريع الدّين من دون الضمان على بقائه و استمراريته لا سيّما إذا كان خاتم الأديان الإلهية كان لغوا و لأجل ذلك كانت النبوة و الولاية متلازمتين. و من ذلك يعلم الوجه في بعض الأخبار التي تدل على جعل هاتين الآيتين من متممات الآية السابقة لأنّ بهما تتم أصول الدّين جميعها.

ص: 287

التفسير

256 - قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ .

مادة (كره) تدل على زوال الرضا و طيب النفس أو الرغبة فيسقط الفعل لذلك عن الأثر المطلوب منه، و عن نبينا الأعظم فيما تواتر عنه: «رفع ما اكرهوا عليه» أي رفع الأثر عن الفعل المكره عليه و لها استعمالات كثيرة في القرآن، و مراتب متفاوتة في الوجدان و تختلف باختلاف الجهات قال تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة - 216].

و الدّين هو الاعتقاد الصحيح المستتبع للعمل و الرابط بين العباد و خالقهم و بين بعضهم مع بعض. أي: لا إجبار في الدّين.

و الآية تنفي الدّين الذي فيه الإكراه - سواء كان حكما وضعيا تكوينيا أي لا دين فيه الإكراه و الإجبار على الدخول فيه أو حكما تشريعيا أي النّهي عن الدخول في الدّين كرها و هما متلازمان في المقام.

و الدليل على أنّه لا إكراه في الدّين أمور:

أحدها: أنّ الدّين مطابق للفطرة، و حكمة العقول، و هما من أهم أسباب الاستكمال في الإنسان و هو بفطرته يسبق إلى الكمال فلا يحتاج إلى الإكراه و الإلجاء، بل إنّ ما ينتفي عنه طيب النفس و الرضاء العام يصح سلب

ص: 288

الكمال عنه خصوصا في بعض مراتب الإكراه.

الثاني: أنّ الإكراه على الدّين ينافي الجزاء مطلقا فإنّ الأثر إنّما يترتب على الفعل الاختياري بلا فرق بين الوضعيات و التكليفيات.

الثالث: الإكراه إنّما يكون مورده الأفعال و الحركات الخارجية أما الأمور القلبية فلا مجرى للإكراه فيها و الدّين من الأمور القلبية فلا يجري فيه الإكراه و الإلجاء لأنّ الإكراه فيها لا يستتبع العلم و التصديق و هما من نتائج الحجة و البرهان دون الإكراه و الإلزام.

و الآية المباركة تبيّن حقيقة من الحقائق القرآنية التي تدل على نفي الإكراه في الدّين كلّه و بها تكون حجة على من زعم بأنّ الدّين لم يقم إلا بالسيف و القتال مع أعداء الدّين حتّى يدخلوا في الدّين فيرفع الفتنة من الأرض قال تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة - 193].

و مما ذكرنا يظهر بوضوح فساد زعمهم فإنّ القتال الذي أمر به الإسلام، و الجهاد الذي حث عليه القرآن ليس لأجل إكراه الناس على الدخول في الدّين و بسط النفوذ، و إنّما هو لأجل الدفاع عن النفس و إحياء الحق و إرجاع الناس إلى الفطرة بعد الجحود و إنكار الوجدان.

و بعبارة أخرى يكون القتال لدفع المزاحم و إزالة العقاب في سبيل نشر الدّين و ليس ذلك في أصل الجعل و التشريع، إذ ليس للإيمان الحاصل من الإكراه أيّ أثر كما عرفت.

مع أنّ الدّين مطابق للفطرة السليمة و لا مجرى للإكراه فيها فإنّ من قبله و دخل فيه كان مستقيما على الفطرة و من أنكره خرج عن فطرته قال تعالى:

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة - 57]، و الدّين كسائر الأمور الفطرية التي من ينكرها كان جاحدا لهويته و إرادته، و السبب في الإنكار هو البعد عن منبع النور و انغماره في دار الغرور.

و إنّما الشواغل الحسية *** قد حجبت نفوسنا النورية

ص: 289

و يدل على ذلك قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فالمرجع هو حكم العقل و الفطرة قبل إرسال الرسل و بعدهم و معهم. هذا أولا.

و ثانيا: إنّ الإكراه لو كان بحق فهو حسن بل واجب في النظام الأحسن و له نظائر كثيرة في تنظيم النظام مثل البيع في موارد الاحتكار و إجبار المحتكر على البيع بثمن المثل، و الإكراه في الدّين إكراه بحق مطلقا فإنّ تركه قبيح و أي قبح أشد من ترك الإنسان من أن يسعى في الشقاوة الأبدية، فيكون الإكراه لأجل إزالة الشقاوة في الطرف المكره كالإكراه للتصالح بين الأطراف المتنازعين.

و الآية تنفي الإكراه بغير الحق، كما كان معمولا بين الطواغيت و الجبابرة و ما كان معهودا في بعض الأديان.

و ثالثا: إنّ التاريخ يكذب هذا الافتراء، لأنّ الإسلام في ابتداء دعوته كان مستخفيا و المشركون قد أعلنوا العداء له و كانوا يفتنون المسلمين بأنواع الأذى و نهاية التعذيب حتّى اضطر الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه إلى الهجرة عن مهبط الوحي.

و يمكن أن تكون الآية الشريفة إرشادا بتعليم المؤمنين إلى ما يقع عليهم من الإكراه على الكفر من الكافرين. يعني: إن اكرهتم على الكفر فأضمروا الحق في قلوبكم و اجهروا لهم بجوار حكم ما يريدون فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل - 106].

قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ .

الآية الشريفة في مقام التعليل لنفي الإكراه في الدّين. و الرشد - بضم الراء و الشين أو بضم الرّاء فقط - يأتي بمعنى الصّلاح و إصابة الصواب خلاف الغي، و يستعمل بمعنى الهداية أيضا. و هو من المفاهيم المشككة التي لها مراتب متفاوتة جدّا و قد استعمل في القرآن كثيرا قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء - 51]، أي: آتينا ما يوجب صلاحه و يهديه إلى الحق و الصواب و قال تعالى - حكاية عن أصحاب الكهف -: وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف - 10]، و قال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء - 6]، أي: صلاحهم في استعمال الأموال و قال تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف - 66]، فإنّ الرشد الذي آتاه خليله إبراهيم مرتبة منها و الرشد الذي يحصل لليتيم أيضا مرتبة أخرى. و بينهما بون عظيم.

ص: 290

الآية الشريفة في مقام التعليل لنفي الإكراه في الدّين. و الرشد - بضم الراء و الشين أو بضم الرّاء فقط - يأتي بمعنى الصّلاح و إصابة الصواب خلاف الغي، و يستعمل بمعنى الهداية أيضا. و هو من المفاهيم المشككة التي لها مراتب متفاوتة جدّا و قد استعمل في القرآن كثيرا قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء - 51]، أي: آتينا ما يوجب صلاحه و يهديه إلى الحق و الصواب و قال تعالى - حكاية عن أصحاب الكهف -: وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف - 10]، و قال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء - 6]، أي: صلاحهم في استعمال الأموال و قال تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف - 66]، فإنّ الرشد الذي آتاه خليله إبراهيم مرتبة منها و الرشد الذي يحصل لليتيم أيضا مرتبة أخرى. و بينهما بون عظيم.

و الغي: خلاف الرشد، و يستعمل في الضّلال أيضا، و له مراتب شدة و ضعفا.

و المعنى: لا إكراه في الدّين لأنّه قد تبيّن طرق الصّلاح، و وضح سبيل الحق، و تميّز بينه و بين سبيل الباطل.

و سياق الآية المباركة المشتملة على التعليل يدل على أنّها من المحكمات التي لم ينسخ شيء منها، فلا وجه لما عن بعض المفسّرين من أنّ الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة - 193]، لما ذكرناه آنفا من أنّ القتال لأجل إزالة الباطل لا إثبات الحق و الطريق الواضح.

قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ .

الطاغوت: من الطغيان، و اللفظ من صيغ المبالغة يوصف به الواحد و الجمع و يستوي فيه التذكير و التأنيث، و مادة (طغى) تأتي بمعنى التجاوز عن الحد في الطغيان، و قد ذكر هذا اللفظ ثمان مرات في القرآن الكريم تارة واحدا قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء - 60]، و أخرى: في مقام الجمع قال تعالى: أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ و ثالثة: مؤنثا يعود إليه الضمير المؤنث الظاهر في الجماعة قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر - 17]، و رابعة أشير إليه بهؤلاء قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء - 51]، و هو في جميع استعمالاته مبغوض لدى الرحمن و ذوي الفطرة السليمة من أفراد الإنسان.

ص: 291

و يطلق على كلّ من كان سببا للطغيان و الضّلال مثل الأصنام، و الشيطان و رؤساء الشرك و العناد، و تعرف المصاديق من القرائن الحافة بموارد الاستعمال، ففي المقام يراد به كلّ ضلال و ما يكون سببا للخروج عن الحق و الصراط المستقيم سواء كان صنما أو إنسانا أو شيطانا أو العصبية و الأهواء الباطلة، فله وجود نوعي شامل لجميع الأفراد و المصاديق.

أي: فمن يكفر و يعرض عمّا كان سببا للطغيان، و يتبرّا من دعاة الشرك و الضّلال، و يؤمن باللّه وحده لا شريك له. و يأتي جواب الشرط.

قوله تعالى: فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى .

الاستمساك: شدة التمسك و إحكامه. و العروة: هي مقبض الإناء و نحوه. و يطلق على التعلّق بشيء و لو بالحبل المتين.

و الوثقى: تأنيث الأوثق، أي: الثابت و المحكم المأمون قطعه، و جمع الوثقى الوثق كالفضلى و الفضل.

و في الآية الشريفة تشبيه بليغ و استعارة لطيفة و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس تقريبا إلى الأذهان المستأنسة بالأجسام كما هو دأب القرآن، و لبيان أنّ الإيمان باللّه تعالى و الكفر بالطاغوت يوجبان السعادة الحقيقية و استقرار نفس المؤمن و عدم تأثير الأوهام و الشبهات فيها.

و المعنى عام يشمل جميع العرى الجسمانية و المعنوية و الروحانية الداعية إلى الحق و الرشاد، و لا عروة أوثق من هدي الرحمن و معارف القرآن، و لا كمال أكمل و أجل مما يفيضه اللّه تعالى على عباده.

و المراد بها في المقام: الإيمان باللّه الذي لا يعتريه ريب و تردد و لا يعقل أن تعتريه الشبهات و الوهن في الحجج، لاتصال هذه العروة بالملك القدّوس و مدبر الأرواح و النفوس العليم الحكيم المهيمن على الجميع، و خلوصها عن شوائب الماديات و ظلمات المادة.

فلنفس هذه العروة الوثقى حياة معنوية أجل و أشرف من الحياة

ص: 292

الظاهرية، و لها مظاهر مختلفة في جميع العوالم و هي الصّراط المستقيم و سواء السبيل، و الحياة الأبدية في عالم الآخرة.

و إن شئت قلت: إنّها حياة عالم الغيب ظهرت في عالم الشهادة ليتمسك بها عباد الرحمن و يفوزوا بمراتب الجنان، و هي الحبل الإلهي النوراني المتين ممدود من عالم النور إلى الظلمات ليستنقذ الناس من الهلكات و يلجم به الشيطان قبل أن يلجم الشيطان عباد الرحمن، و جميع ذلك يشير إلى الحقيقة التي لا يمكن أن تدرك إلا بالعمل بها و حينئذ يشعر المتمسك بها بالتجلّي الإلهي على قلبه، و يعترف بأن لا كمال فوق ذلك.

و القضية فطرية وجدانية فإنّ الإنسان لو خلّي و طبعه و زالت عن نفسه الحجب الظلمانية لاختار الكمال الحقيقي الدائمي الذي لا انفصام فيه على الكمال الزائل الفاني.

قوله تعالى: لاَ اِنْفِصامَ لَها .

مادة (فصم) تدل على الانقطاع و الانقلاع

و في الحديث: «فينفصم عنه الوحي و إنّ جبينه ليتفصّد عرقا» أي: ينقطع عنه الوحي. و الجملة في موضع الحال التي تؤكد مضمون الآية المتقدمة.

أي: إنّ الاستمساك بالعروة الوثقى التي هي الإيمان باللّه و الكفر بالطاغوت من أقوى العرى التي يؤمن عليها من الانقطاع و تتبعد عن حيرة الشك و وهن الحجة و لا يمكن أن يتصوّر فيها ذلك لإضافتها إلى اللّه عزّ و جل الحيّ القيوم و هي النور الذي يتجلّى للأنام و يرتفع به الظلام، و ما فيه الظلام يقبل الانفصام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

جملة تفيد الترغيب و الترهيب أي: و اللّه سميع للأقوال عليم بالنيات و الأعمال، و إنّما أتى عزّ و جل بهذين الاسمين، لكون الإيمان و الكفر مما يتعلق باللسان و الجنان.

ص: 293

257 - قوله تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ .

خطاب فيه منتهى العطف و الحنان و فيه البشارة بأنّه تعالى وليّ أهل الإيمان و هذا من أجلّ المقامات و أشرفها لهم، و وعد منه عزّ و جل لهم بإخراجهم من الظّلمات إلى النور.

و هذه الولاية ولاية الرعاية و الصّلاح و العطف و الحنان أي: إنّ اللّه تعالى المدبر للمؤمنين يقوم بتدبيرهم بما هو الأصلح لهم، و هي غير الولاية التكوينية التي له تعالى على جميع ما سواه، و هي مضافا إلى كونها إراءة الطريق إيصال إلى المطلوب أيضا، و أيّ مطلوب أجلى و أعلى من الوصول إلى عالم النور الذي مبدؤه و منتهاه هو اللّه عزّ و جل.

و قد أضاف جلّت عظمته تلك الولاية إلى ذاته الأقدس و هذه الإضافة تشريفية من أكمل أنحاء الحقائق.

و إنّما أتى بالظلمات بلفظ الجمع لكثرة مناشئ الظلمة و الجهل و الغواية و تباينها بحيث لا يمكن جمعها تحت جامع واحد إلا جامع اعتباري لا حقيقة له.

و أما النور فإنّه حقيقة واحدة، و المراد به في المقام: نور الهداية و الطاعة و الإيمان و لا وجه للتعدد فيه، لأنّه من واحد و في واحد و لغرض واحد و التعدد لو كان فهو فرضي اعتباري لا أن يكون حقيقيا و موضوعه يدور على استكمال الأبدي المطلق. و هذا النور المعنوي يعم الدنيا و الآخرة.

و الكلام محمول على حقيقته دون المجاز و لكن لنفس الحقيقة مراتب كثيرة شدة و ضعفا و جوهرا و عرضا و كمالا و نقصا، فلا وجه لحمله على المجاز كما عن بعض المفسرين، كما لا وجه لحمله على الحقيقة التي هي محجوبة عن البصائر و الأبصار و هي عالم الغيب، لأنّ اللفظ ظاهر في الحقيقة غير المحدودة بعالم دون عالم آخر. نعم، لها مظاهر و مراتب كما مرّ، ففي الآية الشريفة يراد من النور: الإيمان و الهداية و من الظلمات: الضّلال و الغواية.

ص: 294

و إنّما خص المؤمنين بالذكر لأنّهم استحقوا بالإيمان هذه المنزلة العظيمة و المقام السامي، فهم لم يعاندوا الحق و لم يطفؤا نور الفطرة بالكفر ففازوا بعطف اللّه عزّ و جلّ عليهم و رأفته بهم و تولي أمرهم.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ .

المراد من النور: نور العقل و الفطرة، و من الظلمات: ظلمات الغواية و الضّلال.

و هذا النور هو منشأ السعادة على نحو الاقتضاء فهو نور إجماليّ يقبل الزيادة و النقصان تبعا للعقائد الحسنة و المعارف الحقة و الأعمال الصالحة، و العقل، و الفطرة و الشرع أمور متحدة في الواقع و الحقيقة و مختلفة بالاعتبار، و كلّ واحد منها يدعو إلى الآخر.

و الآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية التي لا تحتاج إلى إقامة الحجة و البرهان و يكفي فيها المشاهدة و الوجدان.

أي: إنّ الذين كفروا باللّه العظيم و اتبعوا الطاغوت فإنّهم خرجوا من ولايته تبارك و تعالى عليهم و لا مدبر لأمرهم و لا مسيطر على نفوسهم إلا الطاغوت الذي يكون شأنه إخراج الإنسان من النور الفطري إلى ظلمات الجهل و الغواية و سوقهم إلى الشقاوة و الحرمان و حيرة الضلالة، فهم قد حرموا أنفسهم باتباعهم الطاغوت.

قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

الجملة من قبيل القضايا الطبيعية التي يؤتى بها لبيان ترتيب الأثر على المؤثر كقول

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «حفت النار بالشهوات»

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «من حفر لأخيه بئرا وقع فيه» أو كقول: «من شرب سمّا هلك».

أي: إنّ الآخرة ليس فيها إلا جزاء الأعمال الصادرة في الدنيا و أولئك

ص: 295

الكافرون الذين اختاروا الكفر حرموا أنفسهم السعادة و أطفؤوا النور الإلهيّ في نفوسهم فهم أصحاب النار هم فيها خالدون لخلود نياتهم على ذلك كما يأتي مفصلا.

ص: 296

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: يمكن الاستدلال بقوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ على رد من يقول بالجبر لأنّه إذا لم يكن إكراه في الدّين فلا يكون فيه الجبر بالأولى، لأنّ الإكراه هو حمل الغير على اختيار فعل مع عدم الرضا و طيب النفس، و الجبر هو عدم أصل الاختيار كحركة يد المرتعش، و نحو ذلك من الأمثلة التي يذكرونها و منها ما ذكره أهل الجبر: «قال الحائط للوتد لم تشقني ؟ قال: سل عمّن يدقني» و قد تعرّضنا له في أحد مباحثنا السابقة فراجع.

الثاني: يمكن أن يكون قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ من نفي الحكم بعنوان نفي الموضوع تأكيدا و تثبيتا، و له نظائر كثيرة في السنة الشريفة مثل

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يتم بعد احتلام و لا رضاع بعد فطام»

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» فتكون جميع الموضوعات التي يتحقق فيها الإكراه عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما لا يترتب عليها الأثر المطلوب شرعا لأجل الإكراه.

و ربما يحتمل أن يكون

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع

ص: 297

عن امتي الخطأ، و النسيان، و ما أكرهوا عليه، و اضطروا إليه» مقتبسا من هذه الآية الشريفة و أمثالها من الآيات الواردة في الخطإ و النسيان و كيف كان فهي تبيّن حقيقة من الحقائق القرآنية التي ابتنى عليها الإسلام كما تقدم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ أنّ كلّ ما ورد في الشرع المبين إنّما هو إرشاد إلى حكم الفطرة و العقل كحسن الإحسان و قبح الظلم اللذين هما من المستقلات العقلية التي يحكم به كلّ ذي فطرة سليمة فما ورد في الشرع في سياق ذلك يكون إرشادا إليه و تصحيحا للثواب و العقاب، و تنطوي في ذاك جملة كثيرة من الأحكام، فهذه القاعدة كقاعدة شكر المنعم من أمهات القواعد العقلية المقرّرة في جميع الشرائع الإلهية تبتني عليها جملة من أبواب العلوم الإسلامية و تدل القاعدة المزبورة على أنّ جعل القانون بالجبر و الإكراه ظلم و هو قبيح بالنسبة إليه جلّت عظمته و لكن لا بد من بيان طرق الخير و طرق الشر أولا ثم جعل القانون للمكلّف المختار، و الأمر الأول يتكفّله العقل و الفطرة، و هما مع الإنسان حدوثا و بقاء و الأمر الثاني تتكفّله الشرايع الإلهية.

و لعلّ أحد أسرار ابتلاء آدم (عليه السلام) بالمعصية إثبات التمييز بين الطريقين إتماما للحجة على الناس و تحذيرا لهم عن المخالفة و متابعة الوسواس الخناس، و الا فأيّ مناسبة بين سجود الملائكة أجمعين و عصيان ربّ العالمين، فهو إعلان للعصيان لمصالح كثيرة لا أن يكون قد صدر من آدم (عليه السلام) معصية حتّى صغيرة فيكون من قبيل إنامة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عن صلاة الغداة لتوسيع الأمر على أمته رأفة منه عزّ و جلّ على عباده.

الرابع: ذكرنا أنّ المراد بالعروة الوثقى هي جميع كمالات الإنسان مطلقا و هي تارة تكون عرضا قائما بالغير كالاعتقادات الحقة الحاصلة لأهل الإيمان و القرآن الكريم بهذا الوجود الخارجي الواقع بين الدفتين.

و أخرى: يكون جوهرا قائما بالذات كسيد المرسلين (صلّى اللّه عليه و آله) و من يتبعه في العلم و العمل الدين وردوا بحر المادة و خرجوا منه و لم

ص: 298

تمسهم نداوة منه فضلا عن أن يذوقوه فرجعوا إلى اللّه تعالى كما بدؤا منه و لم يخطر في جوانحهم إلا اللّه عز و جل و لم يصدر من حركات جوارحهم شيء إلا للّه جلت عظمته أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ [الأنعام - 90]، و هم العروة الوثقى الإلهية، و الحبل الممدود بين السّماء و الأرض و بهم يصرف العذاب عن أهل الأرض.

و ثالثة: لا تكون عرضا و لا جوهرا بل هي الصراط المستقيم الذي ينتهي إلى اللّه عزّ و جل فتكون من صفات فعله الأقدس إلا إذا رجعت إلى العلم و الحكمة فتكون حينئذ من صفات الذات، و يمكن أن تجعل من الصفات البرزخية بين الذات و الفعل.

و ليس للقسم الأخير وجود واحد فرديّ بل له في كلّ من عوالمه تجلّ خاص لأهله بمظاهر ذلك العالم و يشهد لذلك قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر - 41] إلا أنّ بعض الموجودات يتمسك بها بالطبع، و البعض الآخر بالتسخير، و ثالث بالاختيار، و إن جعلناها من صغريات النظام الأحسن كان الأمر أظهر و أبين.

الخامس: قوله تعالى: لاَ اِنْفِصامَ لَها قيد توضيحي لا أن يكون احترازيا، ذكر لكثرة الاهتمام بالعروة الوثقى و للتأكيد على التمسك بها.

السادس: إنّما قدم الكفر على الإيمان في قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ لبيان أنّ التحلية بالفضائل لا بد أن تسبقها التخلية عن الرذائل فالاولى مترتبة على الثانية فلا يكون استمساك بالعروة الوثقى الا بترك ما سوى العروة و الأخذ بها فقط، فيكون الكفر هو الترك و الإيمان هو الأخذ.

السابع: إنّما ذكر سبحانه «السميع العليم» في آخر الآيات المباركة للإعلام بأنّ كلّ ما يقال في شأن العروة الوثقى الإلهية هو مسموع له تعالى، و كل ما يخطر بالبال بالنسبة إليها يكون معلوما لديه عزّ و جل فلا بد من التحفظ عن القول فيها الا بالحق، و تمسك القلوب في الخطرات و الجوارح عن

ص: 299

الحركات الا في الحق و بالحق، و هذه هي حقيقة العروة الوثقى العملية التي أمرنا باتباعها، فالآية الشريفة ترشد الناس إلى التمسك بالعروة الوثقى في أقوالهم و أفعالهم.

و الآية التالية تشرح بعض جهات العروة الوثقى كما هو واضح و هو الإخراج من الظلمات إلى النور.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أنّ النار هي الدار التي تليق بأهل الظلمات التي خلت نفوسهم عن النور الذي يسوقهم إلى الحق و الرضوان، فما ورد في هذه الآية يبين تناسب الجزاء مع العمل الذي هو من الحقائق القرآنية.

التاسع: إنّما أتى سبحانه و تعالى بلفظ المضارع في قوله تعالى:

يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ للدلالة على الثبوت و الاستمرار حالا بعد حال فهدايته سبحانه مستمرة بالنسبة إلى المؤمنين.

ص: 300

بحث روائي

في الكافي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى قال (عليه السلام): «هي الإيمان باللّه وحده لا شريك له».

أقول: مثله ما رواه العياشي عن الباقر و الصادق (عليهما السلام).

في المعاني عن عبد اللّه بن عباس قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

«من أحبّ أن يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية أخي و وصيّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فإنّه لا يهلك من أحبّه و تولاه و لا ينجو من أبغضه و عاداه».

أقول: الروايات من الجمهور في ذلك كثيرة مذكورة في كتب الكلام و الحديث و التفسير و غيرها، و في بعضها عليّ و ذريته (عليهم السلام) و لا ريب في أنّ عليّا (عليه السلام) يدعو إلى كتاب اللّه عزّ و جل و العمل به و هو قرينه

كما في الحديث المتواتر بين المسلمين عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

و في الخصال عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: «المؤمن يتقلّب في خمسة من النور، مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه

ص: 301

نور، و كلامه نور، و منظره يوم القيامة إلى النور».

أقول: إذا كان المؤمن معتقدا بدين اللّه تعالى ملتزما في أعماله بأن يعمل على طبق ما شاء اللّه و أراد عزّ و جل يصير جميع ذلك من الأنوار المعنوية لفرض أنّ في قلبه إيمانا و هو نور معنويّ و حركات جوارحه مطابقة للإيمان و هي أيضا من الأنوار المعنوية فيكون مآله إلى النور و سيأتي شرح ذلك أيضا.

و في أسباب النزول للواحدي عن مجاهد قال: «كان ناس مسترضعين في اليهود - قريظة و النضير - فلما أمر النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) بإجلاء بني النضير قال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم لنذهبنّ معهم و لنديننّ بدينهم فمنعهم أهلهم و أرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ ».

و في الدر المنثور أخرج أبو داود و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و ابن مندة في غرائب شعبه و البيهقي في سننه و غيرهم عن ابن عباس قال: «كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل اللّه تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ .

أقول: وردت روايات اخرى في شأن نزول الآية الشريفة مذكورة في كتب القوم، و كلّ ذلك من باب التطبيق و لا بأس به.

ص: 302

بحث عرفاني

قد أثبت العلماء أنّ نسبة المعارف المعنوية إلى الأرواح كنسبة الأغذية الجسمانية إلى البدن و الجسم، فإنّ الجسم يصلح بصلاح الغذاء و ينمو به و يفسد بفساده و تختلف درجات الغذاء فيهما، كما أنّ له مراتب كثيرة جدّا بحسب اختلاف الأجسام بل اختلاف الحالات في بدن واحد فضلا عن أبدان مختلفة، فكما أنّ من طبيعة الجسم التغذّي بما يصلحه و الا اضمحل و زال و كذلك الروح فإنّه لا بد له من الانتفاع بما يناسبه و الا لبطل استعداده و تعرض للهلاك.

و الإكراه في التغذّي الجسماني يستلزم خلاف المطلوب بل يوجب تنفر الطبع عن الغذاء و انزجار النفس عنه و يؤثر ذلك على الروح أيضا لأنّ بينهما جذبا و كذا لا وجه للإكراه بالنسبة إلى الروح و ما يرتبط به بل هو أشدّ تأثرا من الجسم لأنّه جوهر لطيف أكثر تحسّسا منه، و لكن كلّ ميسر لما خلق له.

و لكلام الحق تعالى جذبات و للقرآن كذلك، و للموعظة الصادرة عن أهلها جذبات بمراتبها المختلفة التي لا حدّ لها، و مع تحقق تلك الجذبة كيف يتصور الإكراه، و يعلم سرّ ذلك في قوله تعالى: فَيُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ابراهيم - 4] و قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة - 213] فلو لم تكن في المعشوق جذبة فإنّه لا يكون لجهد العاشق أثر و إن بلغ ما بلغ في العناء و المشقة.

ص: 303

و الحاصل: إنّه لا إكراه في الاستكمالات المعنوية مطلقا و الآية الشريفة لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ تشير إلى أمر فطريّ عقلي و يرشد إليه قول عليّ (عليه السلام): «و أرسل الرسل ليذكّرهم منسيّ الفطرة و تثير لهم دفائن العقول» فيكون إرسال الرسل من النظام الأحسن كإخراج المعادن من الأرض.

و أما الإكراه على بعض العلوم و الحرف و الصنايع الدائرة في هذا العالم فإنّ ذلك لا يؤثر الأثر المطلوب فإنّ شوب تلك العلوم و المعارف بالماديات أخرجتها عن المعارف المعنوية، فأين المعارف الربوبية التي تبقى في النفس إلى الأبد و تنفعه في عالم البرزخ و الحشر و النشر و الجنة و أين الصنايع الظاهرية المادية في أدقّ معانيها التي لا تبقى بعد انفصال الروح عن الجسم، و لو عبّر عنها بأنّها جسمانية الحدوث و جسمانية البقاء لكان حسنا.

يضاف إلى ذلك أنّ الأسباب الظاهرية المجبر عليها شيء و كمال النفس على فرض كونه كمالا شيء آخر بينهما بون بعيد كما هو معلوم.

ص: 304

سورة البقرة الآية 258-259

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَ.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اَللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اَللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ اُنْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259) الآيتان و التي تليهما تبيّن توحيد اللّه تبارك و تعالى و قدرته و عنايته لعباده المؤمنين، فإنّه عزّ و جل بعد أن أثبت لنفسه التوحيد و مهام الصّفات العليا مثل القيومية المطلقة و الربوبية العظمى و الولاية على أهل الإيمان و وعدهم بإخراجهم من الظّلمات إلى النور ضرب في هذه الآيات أمثلة لبيان ولايته على المؤمنين و هدايته لهم و بيّن أنّ هناك هداية تحصل بالحجة و البرهان كالتي مع إبراهيم (عليه السلام) في قصته مع من آتاه اللّه الملك. و هداية بالمشاهدة و العيان كالتي حصلت مع ذلك المؤمن الكريم الذي مرّ على قرية مملوءة من العظام البالية المبعثرة فأخذه العجب من إمكان إحيائها فأماته اللّه مائة عام ثم بعثه ليرى بنفسه كيفية خلقها و نشوزها.

و لهذا كانت هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة و اللاحقة في كونها من مظاهر توحيده عز و جل و ولايته و قدرته و إثبات المعاد.

ص: 305

التفسير

258 - قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ .

تقدم الكلام في جملة أَ لَمْ تَرَ في آية (243) و ذكرنا أنّها تستعمل في مقام التعجب و يستفاد ذلك من بنائه اللفظي أو المعنوي.

و المحاجة: هي الجدال أي تبادل الحجة مع الخصم و مادة (حجج) تأتي بمعنى القصد، و المحاجة لقصد الغلبة على الخصم. و تطلق الحجة على ما يقصد به إثبات شيء.

و المحاجة بين الحق و الباطل قديمة حدثت بحدوث أصل الخليقة، فإنّ أول ما خلق اللّه تعالى العقل - و هو خلق نوراني - و خلق في مقابله الجهل - و هو خلق ظلماني - و جعل لكلّ واحد منهما جنودا مجندة في الكمية لكنّها مختلفة في الكيفية، فكلّ ما طلع نور حق في البين يهدي إلى الرشاد يخرج سحاب ظلماني يرعد و يبرق و يغوي العباد، و هذه سنة اللّه في عباده و لن تجد لسنة اللّه تبديلا، و لا تزال كذلك حتّى يفترق الفريقان فريق في الجنة و فريق في السعير فيلحق كلّ واحد منهما بما هو مثله و نظيره و يحظى بما يلائمه فيرتفع النزاع و ينتهي الصراع.

و في الآية الشريفة الذي مع الحق هو إبراهيم (عليه السلام) و من يمثل جانب الباطل نمرود بن كنعان الملك المعروف المعاصر لإبراهيم (عليه

ص: 306

السلام) و شبه الجملة في قوله تعالى: فِي رَبِّهِ متعلّق بحاجّ و الضمير فيه يرجع إلى إبراهيم (عليه السلام).

و المعنى: ألم ينته إلى علمك أو هل رأيت غرور الذي حاج إبراهيم (عليه السلام) في أمر ربّه.

و وجه الصراع بينهما: أنّ نمرود ادعى الربوبية لنفسه. لفضل راه فيه كما تفضل على سائر الآلهة و الأرباب بل جعل نفسه ربّ الأرباب و موّه الأمر على ذلك المجتمع الوثني الذي كان يعبد الأصنام.

و أما إبراهيم (عليه السلام) فقد كان يذعن بالالوهية المطلقة للّه تعالى و الربوبية العظمى له عزّ و جل لم يشارك في سلطانه أحدا من مخلوقاته و احتج على الخصم: بأنّ ربّه الذي يحيي و يميت، و أراد بهما الحياة و الموت المشهودين المعروفين الحياة التي هي أصل كلّ إحساس و شعور و الموت الذي هو الفناء لذلك، فلما عارض نمرود إبراهيم بالمغالطة و التلبيس بأنّه يحيي و يميت حين قتل أحد المسجونين و أطلق الآخر و نجح هذا التلبيس على الحاضرين فصدّقوه جهلا منهم أو عنادا، و رفع هذا التلبيس إبراهيم (عليه السلام) بمحاجة أخرى واضحة جلية يذعن بها الجميع أنّها من صنع اللّه تعالى و لذلك بهت الذي كفر و لم يسع لإبراهيم (عليه السلام) يبين وجه المخالفة لعلمه بأنّ ذلك المجتمع لا يقبله منه و لا يصدّقه أحد.

هذه هي المحاجة بين إبراهيم (عليه السلام) الذي يذعن بالالوهية المطلقة للّه تعالى و نمرود الذي يعتقد بتعدد الأرباب و الالوهية لنفسه.

قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ .

المراد بالملك: تلك الإضافة الظاهرية بالنسبة إلى ما في الدنيا تتسع و تتضيق حسب ما يشاء اللّه تعالى و يريد و تكون هذه الإضافة معرضا لحدوث الإضافات الكثيرة تفنى و تزول، و يكون المتلبّس بها في جهد أكيد شديد في جلب مقتضياتها و رفع موانعها، و في الحقيقية إنّه ليس إلا متاع الغرور. هذه حال الملك الظاهري.

ص: 307

أما الملك الذي آتاه اللّه تعالى إبراهيم (عليه السلام) فهو مالكية حقايق الأمور و تسلطه على الممكنات بحيث يقلب الجوهر إلى آخر و يبدل الصورة إلى اخرى بإذن اللّه تعالى و هو باق ببقاء اللّه عزّ و جل و لا مناسبة بين الملكين الا نسبة العدم إلى الوجود.

و من العجيب أن يكون الثاني مبتلى بالأول دائما كابتلاء إبراهيم (عليه السلام) بنمرود، و موسى (عليه السلام) بفرعون، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله) بالطواغيت من أهل عصره و ليس ذلك الا لأجل كمال الأول و خسّة الثاني.

و جملة أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ في موضع التعليل يصح أن تكون تعليلا للمحاجّة يعني إنّما حاج نمرود إبراهيم لأنّه رأى نفسه ملكا فأورثه الكبر و الإعجاب فحمله على الغرور، و دفعه على المحاجة. و لم يعرف أنّ الذي أعطاه الملك يقدر على أن ينزعه عنه.

و يحتمل أن تكون الجملة في مقام بيان كفران نمرود للنعمة التي أنعم اللّه تعالى عليه في الدنيا، فهو بدل أن يؤمن باللّه تعالى و يشكره عليها ادعى الربوبية لنفسه و خاصم نبيّ اللّه عزّ و جل فيها، و مثل ذلك كثير في المحاورات قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر *** و حسن فعل كما يجزي سنمّار

و يصح إرجاع الضمير في قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ إلى إبراهيم (عليه السلام) فيكون المراد بالملك الملك المعنوي لا الملك الظاهري الإضافي، و يدل عليه قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء - 53]، و بهذا الملك أي النبوة التامة خاصم إبراهيم (عليه السلام) نمرود الملك الظاهري و حاجّه و أبهته لا أن يكون قد نازعه في ملكه الظاهري فإنّ مقام النبوة أعظم و أكبر من هذا الملك قطعا.

ص: 308

قوله تعالى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ .

إنّما قال إبراهيم (عليه السلام) رَبِّيَ لاعتراف الجميع بأنّ ربّ إبراهيم هو اللّه تعالى.

و المراد بالحياة و الموت: ما هو المدرك بالحس و الوجدان النوعيان الشاملان لجميع ما هو متصف بالحياة من النبات و الحيوان و الإنسان.

أي: قال إبراهيم (عليه السلام) في مقام المحاجّة مع نمرود إنّ ربّي من يقدر على الإحياء و الإماتة بل على إيجاد العالم و إفنائه فإنّ إعطاء الروح و أخذه إنّما يكون تحت استيلائه و في قبضته، و لكن نمرود فهم من ذلك الإحياء و الإماتة الشخصيتين للإنسان فادعى لنفسه ذلك أيضا، فأمر بإحضار شخصين من السجن فقتل أحدهما و أطلق الآخر - كما ورد في بعض الروايات - فقال أنا احيي و أميت. و لم يعلم أنّ ذلك ليس من الإحياء و الإماتة فإنّ الإطلاق من السجن و القتل بمعزل عن الاستيلاء على الروح - مطلقا - الذي هو منحصر في اللّه تعالى أو من يأذن اللّه عزّ و جل له بالتسلط عليه.

و إنّما خص إبراهيم (عليه السلام) في حجته الإحياء و الإماتة دون غيرهما من صنع اللّه تعالى، لأنّهما يختصان به تعالى و ليس لغيره عزّ و جل منهما صنع و هما مشهودان للجميع واضحان جليان و مع ذلك لم ينفع الاحتجاج بهما عليهم و ذلك لقصور تفكرهم و تعقلهم و لا يرجى أكثر من ذلك ممن أسر نفسه في المادة و أوقع نفسه في سجن الماديات لا يرقى فكره عن محيط نفسه و لا يعرف أنّه في أين و من أين و إلى أين، و مثل ذلك يجري في كلّ قوم بلغ الانحطاط الفكري فيهم إلى هذا المستوى و إن تقدّم في الماديات الرقيّ الحضاري و لا نرى هذا الانحطاط المعنوي في مجتمعنا المعاصر و المدنية الحاضرة أيضا الا لبعدهم عن المعارف المعنوية و انهماكهم في الماديات.

قوله تعالى: أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ .

أي: أنا الربّ الذي يحيي و يميت، و قد قصر ذلك على نفسه - و لم

ص: 309

يقل: و أنا احيي و أميت أيضا - اعتقادا لنفسه الربوبية فادعى لنفسه ما وصف به إبراهيم (عليه السلام) ربه، و صرف الكلام عن وجهه إما عنادا و لجاجا و مكابرة أو أنّه بلغ في الانحطاط الفكري إلى المستوى الذي لا يميّز بين الحياة الحقيقية و الموت كذلك و بين الإحياء و الإماتة بالمعنى الذي أراده كما ذكرنا آنفا.

قوله تعالى: قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اَللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ اَلْمَغْرِبِ .

مقتضى السياق أنّ إبراهيم (عليه السلام) لما أيس من هدايته و سد باب المصادرة، كما فعل نمرود في الحجة الأولى و إثبات الربوبية لنفسه ذكر (عليه السلام): أنّك إذا تعتقد الربوبية و تصنع كما يصنع ربّي اللّه الذي له الالوهية و الربوبية العظمى على ما سواه فإنّه تعالى يأتي بالشمس من المشرق فتصرّف أنت فيه فائت بالشمس من المغرب.

و إنّما عدل (عليه السلام) عن الرّب إلى اسم الجلالة هنا لأنّ الربوبية قد صارت واضحة بإقامة الحجة عليها في المرة الاولى فالتفت الخليل (عليه السلام) إلى أنّه تعالى معبود الكلّ كما أنّه ربّ الكل.

و لعلّ ذكر إبراهيم (عليه السلام) الشمس لأنّها كانت من أعظم المعبودات عندهم فأراد (عليه السلام) أنّ هذا النيّر العظيم الذي تقدّسونه و تحترمونه احترام الآلهة مسخر تحت إرادة اللّه تعالى. و مما ذكرنا يظهر الوجه في تفريع هذه الحجة على الحجة الاولى.

قوله تعالى: فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ .

البهت: هو انقطاع الحجة و عدم القدرة على إقامتها فينقطع اللجاج و المحاجة لا محالة أي: فسكت نمرود الكافر باللّه تعالى متحيّرا مدهوشا لا يقدر على الرد.

و لم يصرّح سبحانه باسمه تحقيرا، و يمكن أن يراد به كلّ من كفر سواء كان نمرود أو من حضر في مجلسه.

ص: 310

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ .

أي: إنّ اللّه تعالى لا يهدي و لا يوفق من أعرض عن الحق بعد وضوح الحجة فيتركهم إلى أنفسهم فهم ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم و اتخذوا سواء الجحيم بدلا عن الصّراط المستقيم.

و من ذكر الوصف اَلظّالِمِينَ يستفاد أنّ العلة في عدم الهداية هو الظلم، و هذا مما يؤكده القرآن الكريم في موارد كثيرة لأنّه أقوى و أغلظ حجاب بين النفس الإنسانية و المعارف الربوبية كما تقدم بيانه.

259 - قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها .

مادة (خوى) تأتي بمعنى الخلاء و السقوط، و ترك ما بين الشيئين خاليا، يقال: خوى بطنه عن الطعام أي خلا بطنه، و خوى النجم أي سقط،

و في الحديث «كان عليّ (عليه السلام) إذا سجد يتخوّى كما يتخوّى البعير الضامر» أي يتجافى جميع أجزاء بدنه في السجود يعني لا يلصق أجزاء بدنه بعضها ببعض و لا بالأرض الا المساجد السبعة.

و العرش: كلّ مرتفع أظلّ الإنسان من سقف أو بيت، أو كرم، و التعريش جعل الخشب تحت الكرم، بل كلّ بناء عرش، و عريش مكة أبنيتها و العرش - بالضم - عرق في أصل العنق.

و هذه الجملة أي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قد ذكرت في مواضع من القرآن الكريم، و الكلّ تكون كناية عن الخلو من الأهل.

و أما لفظ. خاوِيَةٌ في قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة - 7] فهي بمعنى ساقطة.

و الجملة تحتمل معنيين: الأول - سقوط السقوف و انهدام الحيطان عليها.

و الثاني - سقوط السقوف و بقاء الحيطان، و من يستظلّ بالحيطان دون السقوف و كلّ منهما صحيح و واقع في الخارج و مشاهد في الدور الخربة و القرى المندرسة.

ص: 311

و مادة (قري) تأتي بمعنى التجمع، و سميت القرية قرية لتجمع الناس فيها و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردا و تثنية و جمعا قال تعالى:

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96]، و قال تعالى:

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف - 31].

و «أو» حرف عطف و قد ذكر المفسرون وجوها في عطف هذه الآية و لكن الصحيح أنّها معطوفة على المعنى فإنّه لما بيّن سبحانه أنّ الاستمساك بالعروة الوثقى موجب لهداية الإنسان و الخروج من الظلمات إلى النور عقب عزّ و جلّ ذلك بجملة من الأمثلة التي تبيّن طرق الهداية و استشهد ببعض قصص الأنبياء مع أممهم للإرشاد إلى أنّهم هم العروة الوثقى التي لا بد من التمسك بهم.

و قد تفنّن عزّ و جل في بيان القصص فذكر الاولى لبيان الاحتجاج على المعاد، لمكان التلازم بين المبدإ و المعاد ثبوتا و إثباتا كما تقدم، و أكد المعاد بذكر كيفية الحشر و النشر، كما ورد في قصة إبراهيم (عليه السلام) مع الطيور الأربعة، لكثرة أهميّة المعاد و استبعاد الناس بأنّ عين البدن المحسوس في دار الغرور كيف يعاد في دار النشور، مع تراكم الاستحالات الواردة عليه فكم من بدن صار ترابا ثم صار بدنا لإنسان آخر:

ربّ لحد قد صار لحدا مرارا *** ضاحك من تزاحم الأضداد

و دفين على بقايا دفين من عهود الآباء و الأجداد

صاح هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهد عاد

و ذلك كلّه من كمال قهاريته تعالى و علمه التام المتعلق بذرات الموجودات و جزئياتها حدوثا و بقاء، فالتمييز لدى العلم الأزلي ثابت و إن تبادلت عليها الاستحالات الكثيرة في الدنيا و الآخرة و ما يحدث في كلّ منهما الصادر عن نظام العلم الأزلي المتعلّق بالموجودات تعلّقا خارجا عن تعقل الإنسان لقصور العقول عن دركه.

ص: 312

و إنّما ذكر سبحانه إبراهيم في الآية السابقة و أبهم اسم الذي مر على القرية و اسمها و القوم الذين كانوا يسكنون فيها تعظيما لإبراهيم (عليه السلام) و تشريفا له فإنّ للّه عزّ و جل مع إبراهيم عنايات خاصة و له مع اللّه حالات.

و لأنّ الغرض هو بيان كيفية الهداية و الموعظة و لا يحتاج إلى ذكر الأسماء بعد استيفاء الغرض من ضرب المثل، أو لأنّ الإحياء بعد الإماتة من الأمور المستبعدة عند الناس و المستعظمة عندهم فاقتضى الحال أن يكون الكلام بلحن الاستهانة و الاستصغار، و هذا من ضروب الفصاحة و البلاغة في أنّه يؤتى بلحن الاستهانة في الموارد التي لا تخلو عن الاستعظام و الاستبعاد.

و قد اختلف المفسرون في اسم القرية فقيل: إنّها بيت المقدس لما خربها بختنصّر البابلي، و قيل: إنّها المؤتفكة، و قيل: غير ذلك، كما أنّهم اختلفوا في اسم الذي مرّ على القرية

فقيل: إنّه عزير و هو المروي عن ابن عباس بعدّة طرق و المنسوب إلى عليّ (عليه السلام). و قيل: إنّه أرميا

و قيل:

إنّه عزير، و هو المروي عن الصادق (عليه السلام) و قال به جمع من المفسرين. و قيل غير ذلك. و قال الزمخشري في الكشاف «إنّه رجل كافر» و هو مردود من جهات كما ستعرف، و قال شيخنا البلاغي: «و قد كفانا ابن المنير في حاشيته مؤنة الرد لما استند إليه الكشاف في دعواه».

قوله تعالى: قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها .

أنّى: أداة استفهام تأتي للبحث عن الحال و المكان و تتضمن معنى (كيف).

و المعنى: كيف يحيي اللّه تعالى هذه القرية و أهلها بعد موتها، و سياق الكلام يدل على أنّ المشار إليه في (هذه) إنّما هي الأجساد البالية و العظام الرميمة و خراب القرية.

و إنّما قال ذلك استعظاما للإحياء لا استبعادا منه لقدرة اللّه تعالى و يدل عليه قوله تعالى في آخر الآية المباركة: أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

و مثل هذا الكلام يصدر عن كلّ من ينظر في الأمور نظر تفحص و تمعن و يقف

ص: 313

فيها وقوف معتبر، و قد ضرب اللّه تعالى المثل في نفسه فأماته ثم أحياه كما حكى عزّ و جل.

قوله تعالى: فَأَماتَهُ اَللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ .

مادة (عوم) تأتي بمعنى السباحة يقال: عامت السفينة في البحر و سمي العام عاما، لأنّ القطعات الزمانية - كالأيام و الليالي - كأنّها تسبح في الزمان، و الفرق بينه و بين السنة أنّ الأول يطلق غالبا على ما فيه الخصب و الرخاء و الثانية تطلق على ما فيه الشدة و الجدب و في حديث حليمة السعدية: «خرجنا نلتمس الرضعاء بمكة في سنة سنهاء» أي لا نبات بها و لا مطر.

و مادة (بعث) تأتي بمعنى إثارة الشيء، و هي تختلف باختلاف المتعلّق، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و البعث تارة يكون بمعنى إيجاد الشيء بعد العدم المحض و هو مختص باللّه تعالى. و اخرى: بمعنى إحياء الموتى، و هو أيضا مختص به عزّ و جل، لأنّ الأرواح إيجادا و إفناء، تحت سلطة اللّه تعالى و قد يهب عزّ و جل ذلك لمن يشاء من خلقه، كما سلّط عزرائيل على قبض الأرواح، و عيسى على إحياء بعض الأموات و بعثه.

و المراد من الموت: هو المعنى الحقيقي منه أي: توفاه بإزهاق الرّوح من الجسد.

و المعنى: أماته و توفاه مائة عام ثم بعثه برد الرّوح إليه.

و لكن ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد بالإماتة هو فقد الحس و الحركة دون مفارقة الروح البدن أي السبات ثم أعاده إلى ما كان عليه أولا مثل رقود أصحاب الكهف ثلاثمائة و تسع سنين، و قال: إنّ السبات في هذه المدة أمر غير مألوف و خارق للعادة و برجوع الحس و الحركة بعد السبات يتحقق الاحتجاج على إمكان الحياة بعد الموت و لو في سنين عديدة.

و ما ذكره مخالف لظاهر الآية الشريفة صدرا و ذيلا، مع أنّه لا استحالة

ص: 314

في الإحياء بعد الموت في هذه الدنيا حتّى يتكلّف بالتصرف في معنى الآية المباركة. و قياس هذه القصة على قصة أصحاب الكهف أمر غير معقول حتّى عند القائلين بالقياس فإنّ دلالة الألفاظ لا يمكن أن تكون مورد القياس.

قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ .

اللبث و المكث بمعنى واحد أي: قال اللّه تعالى بعد بعثه و إحيائه بعد الموت: كم لبثت في موتك هذا؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم. و الترديد باعتبار اختلاف وقت الموت و وقت الإحياء فظنّ تخلل الليلة بينهما. أو هو كناية عن عدم الإحساس بالمدة الطويلة.

قوله تعالى: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ .

أي: قال اللّه تعالى له: ما لبثت ذلك المقدار بل لبثت مائة عام.

و الغرض من السؤال إظهار عجزه و بيان المشية الإلهية التي تعلّقت بجعله مورد القدرة على إحياء الموتى.

و السؤال و الجواب يدل على أدب القرآن المشتمل على مخاطبة اللّه تعالى مع خلقه و هي تدل على كمال العناية و الرأفة، و فيها تظهر العبودية مع المعبود الحقيقي على نحو ما يشاء المعبود، و هي اللذة التي لا منتهى لها شدة و عدة و مدة.

قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ .

أي: لم يتغيّر بتغير السنين و مرّ الأزمان. يعني لم يتغيّر الطعام و الشراب في مائة سنة مع كونهما في معرض التغيير و الاستحالة في عدة أيام.

و إنّما أمر بالنظر لاستبانة طول المدة و دفع ما يخطر بالبال من قصرها.

قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلى حِمارِكَ .

بأن صار رميما تفرّقت عظامه و تقطعت أوصاله و بادت أجزاؤه كيف يحييه اللّه تعالى صحيحا سويا يصلح للركوب عليه. و في تكرار الأمر بالنظر إيماء بانتقال الكلام إلى برهان آخر لتثبيت طول المدة.

ص: 315

قوله تعالى: وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ .

أي: إنّ ما جعلناه فيك من الموت و الإحياء كلّ ذلك ليستدلّوا بها على ثبوت المعاد.

و يستفاد من سياق الكلام - أي عطف الغاية - أنّ الغاية من هذا الفعل لم تكن منحصرة في إظهار الآية لهذا الشخص فقط و إزالة التعجب عنه الذي أظهره في إحياء الموتى بل الغاية أيضا هي جعله علامة للناس يستدلّون بها على ثبوت المعاد و إظهار القدرة الأزلية الحاكمة على كلّ شيء فإنّ الذي يقدر على إحياء الموتى في هذه المدة لقادر على إحيائها بعد مدة أطول منها فلا تختص قدرته بزمان دون آخر.

قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً .

النشز: البروز و الظهور، و الإذاعة، و الارتفاع و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو الظهور و إنّما الاختلاف في المتعلّق.

أي: انظر إلى العظام كيف ترتفع و يجتمع بعضها مع بعض بالتركيب ثم نكسوها لحما لتصبح خلقا جديدا سويا.

و الأمر بالنظر هنا لاستبانة ما قد يتوهم من استحالة عود الأجزاء إلى الصورة الأصلية بعد التغيّرات و التحوّلات الكثيرة و لذلك كان مورد النظر خاصا له من هذه الجهة و عاما من جهة أنّ إحياء الموتى و البعث يكون كذلك.

و الظاهر أنّ المراد من العظام هي: عظام الموتى المجاورين له و عظام الحمار، و لا ينافي ذلك جعله آية للناس و لم يجعل إحياء موتى أهل القرية آية، فإنّ الظاهر أنّ اللّه تعالى جعله محور إثبات ذكر هذه الحكاية بلا فرق بين عظام موتى أهل القرية أو عظام خصوص الراكب و المركوب.

قوله تعالى: فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

اعتراف منه بالعلم الثابت في نفسه قبل قوله: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها و إنّما قال ذلك استعظاما في نفسه و قد جعله اللّه آية للناس لإثبات

ص: 316

المعاد و إظهار القدرة التامة.

و يمكن أن يكون المراد بالعلم هنا الوصول من مرتبة حق اليقين إلى عين اليقين.

ص: 317

بحوث المقام

بحث أدبي

ذكر الأدباء أنّ من المبهمات الموصولات لعدم تبيّن معناها إلا بالصلة و هذه هي جهة بنائها لكن الإبهام فيها مختلف شدّة و ضعفا فإنّ بعضها متوغلة في الإبهام مثل (من) و (ما) و (ذي) و بعضها دون ذلك مثل (الذي) و (التي) و نحوهما.

و إنّما ذكر تعالى (الذي) في قوله تعالى: رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ للدلالة على المعهود و معروفية صلته بخلاف (من) الموصولة فإنّها تدل على الإبهام.

كما أنّ في إتيان المضارع «يحيي و يميت» دلالة على استمرار الإحياء له تعالى و تجدده و بيان أنّ هذا شأنه دائما.

و (أنا) أي الاسم الضمير في قوله تعالى: قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ هو ضمير المتكلّم وحده و الألف الأخيرة تحذف في الأصل، و هو مبنيّ على الفتح فرقا بينه و بين (أن) التي هي حرف ناصب للفعل و الألف الأخيرة إنّما هي لبيان الحركة في الوقف فإن توسطت الكلام سقطت.

ص: 318

و الكاف في قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي قيل: إنّها بمعنى مثل جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد، فهي في موضع نصب معطوفة. و قيل: إنّها زائدة.

و لكنّه مردود لما أثبتناه من عدم الزيادة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها جملة حالية، و على عروشها إما خبر بعد خبر أو متعلق بخاوية و ذلك للاختلاف في معناه.

و مائة في قوله تعالى: مِائَةَ عامٍ منصوبة على الظرفية.

و (كم) في قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ يسأل بها عن مقدار الزمان و هي في موضع نصب على أنّها ظرف زمان.

و قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ أصله يتسننن بثلاث نونات أبدلت الثالثة ألفا لتكرار الأمثال ثم حذفت الألف للجزم فصار يتسنّن وجيء بالهاء لبيان حركة النون في الوقف.

و قرئ «ننشرها» أي نحييها، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس - 22]. و قرئ «ننشرها» بفتح النون و ضم الشين مأخوذ من النشر بعد الطّي.

و لكن القراءة المشهورة ما سبق نُنْشِزُها و تقدم وجهه.

ص: 319

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: إنّما ذكر اللّه تعالى قصّة خليله بعد آية الكرسي للإشارة إلى أنّ مثل الخليل هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها و بواسطة مثله يخرج الذين آمنوا من الظلّمات إلى النور، و أنّ نمرود و أمثاله من الطواغيت هم الذين يخرجون الناس من النور إلى الظلمات.

الثاني: يستفاد من الآيات الشريفة أدب المحاجة مع الخصم و هي و إن كانت مذمومة و لعلّه لذلك نسب المحاجة إلى نمرود تجليلا لمقام الخليل عن نسبة المرجوح إليه، و لكن إذا اشتملت على إحقاق الحق و إبطال الباطل فلا ريب في رجحانها بل قد تجب، و محاجة الأنبياء (عليهم السلام) و من يتلو تلوهم من هذا القبيل.

و قد بيّن اللّه سبحانه في هذه الآيات كيفية المحاجة مع الظالمين أيضا و ذلك بالاحتجاج عليهم بظواهر دار الكون و الفساد و عالم التغيّر و التبدل لقصور عقولهم عن الوصول إلى ما وراء ذلك، و يستفاد ذلك من آيات كثيرة أيضا مثل قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية - 17]، فمن كان مأنوسا بركوب البعير و سوق الحمير لا بد له أن يستدل على الخالق بما هو المأنوس لديه، و لكن يقول عزّ و جل لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [فصلت - 53].

ص: 320

و قد بيّن اللّه سبحانه في هذه الآيات كيفية المحاجة مع الظالمين أيضا و ذلك بالاحتجاج عليهم بظواهر دار الكون و الفساد و عالم التغيّر و التبدل لقصور عقولهم عن الوصول إلى ما وراء ذلك، و يستفاد ذلك من آيات كثيرة أيضا مثل قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية - 17]، فمن كان مأنوسا بركوب البعير و سوق الحمير لا بد له أن يستدل على الخالق بما هو المأنوس لديه، و لكن يقول عزّ و جل لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [فصلت - 53].

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أنّ هذه المحاجة وقعت بعد أن رباه اللّه تعالى و أوصله إلى مقام حق اليقين و عين اليقين فكانت بعد اصطفائه (عليه السلام) لمقام الخلة و بعد كسر الأصنام و إراءته ملكوت السّموات و الأرض و كان في بهت هذا الجبار بمثل هذا القول المختصر المختار سرّ ملكوتيّ إلهيّ و شروق نور غيبيّ إلى قلب أصفى من اللّجين و أحب الأنبياء من قرة عين.

و لعلّ الوجه أيضا في اختصاص الرب بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى و الصّفات العليا أنّ المحاجة إنّما كانت في تدبير العالم و تربيته فكان نمرود يدعي ذلك لنفسه و إبراهيم (عليه السلام) يثبته للّه تعالى و ينفيه عن غيره، و لذلك استشهد ببعض الحوادث مثل إحياء الموتى و شروق الشمس.

الرابع: إنّما خص الشمس بالذكر لأجل أنّها كانت من جملة المعبودات عندهم كما يظهر من قصته (عليه السلام) مع قومه في الرجوع إلى القمر و الشمس، و لبعد هذه الحجة عن التمويه و المغالطة كما فعل نمرود في الحجة الأولى، و لأنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يعلم أنّ نمرود لا يسعه إنكار هذه الحجة و الادعاء بأنّ ذلك من شأن الطبيعة العمياء و أن يقول بأنّ من يدعي الربوبية لنفسه لقادر على أن يتصرّف في الطبيعة فبهت في أول وهلة.

الخامس: يظهر من قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ اَلْمَغْرِبِ أنّه ليس من المحالات الذاتية و الا لما طلبه إبراهيم (عليه السلام) لإمكان أن يدعي الخصم أنّه من المحال الذاتي و يدل عليه أيضا ما ورد في السنة المقدّسة في علائم ظهور رجل من ذرية خليل الرّحمن الذي يلف لواء ختم الوصاية و ينشر لواء القسط و الهداية أنّ الشمس تطلع من مغربها.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ أنّ سبب طغيانه و دعواه أن رأى لنفسه الملك و السلطة و النفوذ الذي أنعمه اللّه عليه و الا فليس له من دونه شأن يذكر، و لذا لم يذكر اللّه تعالى اسمه تحقيرا له. هذا إذا رجع

ص: 321

الضمير في آتاهُ إلى نمرود.

و أما إذا رجع الضمير في آتاهُ إلى إبراهيم (عليه السلام) فيكون السبب في المحاجة و الطغيان أن رأى ما وهبه اللّه تعالى لإبراهيم من الملك و الحكمة.

السابع: يدل قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنّ العلة في عدم الهداية هي الظلم، فإنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.

و يصح أن يكون قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يعني: أنّ من جحد الحق بعد ظهوره لديه و وضوحه عنده و صيرورته مبهوتا لا يكون قابلا للهداية و له نظائر كثيرة في القرآن الكريم فيكون مثل قول القائل: «ليس للظلمة ضياء و نور».

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أنّ المار على هذه القرية قد أبدى إعجابه عن كمال قدرته جلّت عظمته و نهاية اقتداره فيكون اعترافا بالحيرة و عدم الإحاطة بالخصوصيات و الجهات إلا للّه تعالى فقط كما في قوله تعالى: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرّعد - 5]، و تعجب الأنبياء و أولياء اللّه تعالى من هذا القسم و ليس هو من التعجب الإنكاري الشايع بين الناس، و يدل على ما ذكرناه في ذيل الآية الشريفة: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

التاسع: إنّما أبهم سبحانه و تعالى اسم القرية و اسم النبيّ الذي مرّ عليها بل و زمان القصّة لأنّ المراد إظهار القدرة التامة و أنّها غير مختصة بوقت دون آخر أو بمكان دون آخر و الأسلوب البلاغي يقتضي عدم ذكر جهات القصة غير الدخيلة بالمقام استعظاما له و استضعافا لغيره.

و ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد بالقرية أهل القرية كقوله تعالى:

وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها [يوسف - 82]، و لكنه مردود بما ذكرناه.

العاشر: يحتمل أن يكون قوله تعالى: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بيانا لقصر المدة التي لبث فيها بعد أن رأى الآيات أو إشارة إلى عظم الآيات التي

ص: 322

رآها من اللّه تعالى فتكون المدة الطويلة بالنسبة إليها قصيرة كما في قوله تعالى في أحوال المحشر: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعادِّينَ [المؤمنون - 113].

الحادي عشر: أنّ الوجه في تكرار كلمة فَانْظُرْ في الآية الشريفة: أنّ في كلّ واحد من الموارد الثلاثة غرضا خاصا و برهانا معينا لا يكون في غيره، فالأول لبيان دفع ما يتوهم من قصر المدة لما شاهده من عدم تغيّر الحال فأمره بالنظر إلى الطعام و الشراب. و الثاني لبيان طول المدة و استبانتها فأمره بالنظر إلى الحمار، و الثالث لبيان كيفية البعث و النشور فأمره بالنظر إلى نشر العظام و بعثها.

الثاني عشر: يدل قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها على كمال قدرته على الموجودات و أنّ قدرته على إيجاد الروح تستلزم قدرته على جميع ما دون ذلك كما يظهر من قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [المؤمنون - 14]، فيكون السّير التكاملي منطويا تحت الغاية و هي مقهورة تحت إرادته الكاملة فيكون الكلّ له و منه و إليه لانطواء المشروط على الشرائط و الكلّ على الأجزاء.

و الآية تدل على وقوع الاستحالات و التبدلات على العظام فإنّه يظهر منها أنّ الجمع كان بعد الاندراس، و التجدد بعد الانعدام و الانطماس.

الثالث عشر: يصح أن يكون المراد من العظام في قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ جنس العظام الشامل لعظام الموتى و عظام الحمار و عظام نفسه فيكون تعلّق الرّوح ببدنه متدرجا و ليس ذلك من قدرة اللّه جلّت عظمته ببعيد.

كما كان عدم تغيّر الطعام و الشراب من قدرته تعالى فليس ذلك من المحال الذاتي حتّى تقتضي حكمته تعالى أن لا تتعلّق به قدرته عزّ و جل.

الرابع عشر: أنّ هذه الآية المباركة و التي بعدها تصوير خارجي لحقيقة المعاد التي صعب على الأفهام قبولها و أتعبت الأمم أنبياءها في الإذعان بها

ص: 323

و ستأتي آيات أخرى دالة على المعاد الجسماني إن شاء اللّه تعالى.

الخامس عشر: تدل هذه الآية الشريفة و أمثالها على صحة الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت و يدل عليه ما يدل على صحة المعاد و قد ورد في السنة المقدّسة ما يدل على صحة الرجعة أيضا.

و يصح الاستدلال بدليل عقلي واضح و هو أنّ أصل وجود هذا النحو من الحياة - أي الرجعة في العالم - خير محض و تعطيل الخير المحض قبيح و هو محال على اللّه تعالى لكن الأمور مرهونة بأوقاتها و أنّ العالم لم يبلغ بعد إلى مرتبة الكمال المطلوب حتّى يليق بهذه العناية الخاصة من ذي الجلال.

السادس عشر: يصح أن يستدل بهذه الآية المباركة الدالة على تجدد القرية و بعث أهلها على صحة القاعدة العقلية التي أذعن بها الكلّ من أنّ «حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد» فجرى ذلك بالنسبة إلى كلّ قرية في هذه الدنيا و كذا بالنسبة إلى الآخرة.

السابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ استمرار علمه من أول الأمر بقدرة اللّه تعالى، و لكن تأكد علمه بما شاهده من الحوادث.

ص: 324

بحث روائي

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «خالف إبراهيم قومه و عاب آلهتهم حتّى ادخل على نمرود فخاصمهم - الحديث».

و في الدر المنثور في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أخرج الطيالسي و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال:

«الذي حاج إبراهيم في ربه و هو نمرود بن كنعان».

أقول: اتفقت الروايات على أنّ الذي حاج إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان و هو و إن كان علما شخصيا لأول جبار ادعى الربوبية و لكن يصح لحاظه وصفا نوعيا لكلّ من تجبّر على اللّه سبحانه و تعالى بادعاء الربوبية.

و في المجمع: «اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل: عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار كما عن مقاتل. و قيل: بعد إلقائه في النار و جعلها بردا و سلاما عن الصادق (عليه السلام).

أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك و ذكرنا أنّ ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّ المحاجة كانت بعد تشرف الخليل بمقام الخلة و كسر الأصنام و إراءته ملكوت السموات و الأرض فتكون بعد إلقائه في النار و الشواهد العقلية تؤيد ذلك.

في تفسير القمي عن هارون بن خارجة عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: «فخرج أرميا على حماره و معه تين قد تزوده و شيء من عصير

ص: 325

فنظر إلى سباع الطير و سباع البحر و سباع الجو تأكل تلك الجيف ففكر في نفسه ساعة ثم قال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها و قد أكلتهم السباع ؟ فأماته اللّه مكانه، و هو قول اللّه تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اَللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه - الحديث -».

أقول: و روى قريبا منه العياشي و غيره.

و في تفسير العياشي «أنّ ابن الكوا قال لعليّ (عليه السلام): يا أمير المؤمنين ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا؟ قال (عليه السلام): نعم أولئك ولد عزير حيث مرّ على قرية خربة و قد جاء من ضيعة له، تحته حمار و معه شنة فيها تين و كوز فيه عصير فمرّ على قرية خربة فقال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها؟! فأماته اللّه مائة عام فتوالد ولده و تناسلوا ثم بعث اللّه إليه فأحياه في المولد الذي أماته فأولئك ولده أكبر من أبيهم».

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنّ عزيرا خرج من أهله و امرأته حامل و له خمسون سنة فأماته اللّه مائة سنة ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين و له ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه فذلك من آيات اللّه».

قال الطبرسي في المجمع: «الذي مرّ على قرية هو عزير و هو المروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) - إلى أن قال - و قيل: هو أرميا و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

و قال: و روى سعد بن عبد اللّه القمي في بصائر الدّرجات عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنّ الآية في عزير و عزره».

أقول: و عن ابن عباس أنّه عزير و لكن لا جدوى في تعيين النبي الذي مر على القرية أنّه عزير أو أرميا و لعلّ إهماله تبارك و تعالى ذكره لأنّ المقصود تحقق أصل الموضوع ليستدل به على كلية المعاد، كما لا جدوى في تعيين القرية هل أنّها إيليا (بيت المقدس) أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت على ما تقدم.

ص: 326

سورة البقرة الآية 260

ص: 327

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى .

عطف على الجملة المتقدمة باعتبار تضمنها معنى التذكير و الإنذار فيكون مفاد الجملتين واحدا من حيث إنّهما مشتملتان على آية لا بد من بيانها و تذكيرها للناس.

و كيف تستعمل في السؤال عن حالات الشيء لغة و عرفا.

و تختلف هذه الجملة عن السابقة في أنّ السابقة كان السؤال فيها عن أصل المعاد، و قد بيّن سبحانه و تعالى ذلك بإراءة نموذج للنشر و البعث، و قد أهمل سبحانه اسم القرية و اسم النبي الذي مرّ عليها لاستيفاء الغرض بدونهما، و أما المقام فهو لإثبات كيفية المعاد بعد مسلمية أصله و قد بينها بشهود الحقيقة و إراءة خصوصياتها و قد ذكر اسم إبراهيم (عليه السلام) تشريفا فإنّ للّه تعالى معه عنايات و له مع اللّه تعالى حالات.

و قد تحمل الأواه الحليم و المؤمن الخليل من المصاعب و المتاعب في سبيل اللّه تعالى و إثبات وحدانيته و إبطال دعوى ربوبية أول من ادعى الربوبية ما لم يتحمله غيره من الأنبياء (عليهم السلام) حتّى كليم اللّه في إزالة ربوبية فرعون إلا نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّه ما اوذي نبي بمثل ما أوذي به.

ص: 328

و بالمقارنة بين السؤالين في الجملتين يظهر الفرق بينهما فإنّ في سؤال إبراهيم (عليه السلام) من الأدب و الثناء و الإقرار بأصل المعاد و طلب الزيادة في العلم و المعرفة ما لا يخفى و لذا كان في هذا السؤال شؤون و مخاطبة بين الخليلين بخلاف السؤال السابق.

كما يستفاد الفرق بين النبيّ الذي مرّ على القرية و إبراهيم من ذيل الآية الشريفة، فإنّ في الأول قال: أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . و لكن في الثاني قال اللّه تعالى لإبراهيم: وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي يفعل الأتم الأصلح، فالأول اعتراف بأصل قدرة اللّه تعالى و في الثاني يعلمه اللّه عزّ و جل بأنّ الذات الأقدس قويّ و فاعل للأصلح فوق ما نتعقله من معنى القوة و الأصلحية، فالخليل يربي خليله بأمتن أسرار الخلّة و أدق لطائف الارتباط و الصّلة و هو تفاني جميع شؤونه في مرضاة العزيز الحكيم.

و الظاهر أنّ هذا السؤال كان قبل إراءة اللّه تعالى لخليله ملكوت السموات و الأرض فإنّها غاية الكمال الممكن، فتكون هذه القضية من مبادئ تلك الإراءة التفصيلية الإحاطية، فتكون إراءة إجمالية لتحقق الإراءة الكلية، فلا بد و أن يحمل قوله: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي على بعض المعاني كما سيأتي. مع أنّ إراءة الملكوت سفر من الحق إلى الحق بالحق، و أما القضية فهي تشرح السفر من الخلق إلى الحق و بينهما بون بعيد فيكون المراد بقوله:

أَرِنِي الوصول إلى حق اليقين بعد طيّ مراحل أصل العلم و علم اليقين.

و كيف كان فهو سؤال استعطاف و فيه لطف و عناية و مثله بين الخليلين كثير لا يفهمه إلا من كان من أهله.

و بدأ السؤال بكلمة: رَبِّ لأنّ فيه اعترافا بالعبودية، و لبيان تمام العناية بعبده و تربيته العظمى له و فيه كمال الثناء عليه جلّ و علا، و لأنّ الدعاء المبدو بهذا الاسم الشريف أقرب إلى الاستجابة، و يستفاد منه أدب الدعاء أيضا، و لأجل ذلك و غيره غلب هذا الاسم الشريف في دعوات إبراهيم (عليه السلام) و قد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلّق بكلمة الرب فراجع.

ص: 329

قوله تعالى: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ .

أي قال اللّه عزّ و جل أو لم تؤمن بي و بقدرتي على الإحياء؟ و الاستفهام تقريري لإظهار مقارنة السؤال مع عدم الإيمان و لم يكن استفهاما عن حكمة السؤال و وجهه حتّى يكون فيه الردع و العتاب، و الوجه في ذلك دخول همزة الاستفهام على الواو الدال على الجمع و لو قيل: ألم تؤمن لدل الكلام على أنّ السؤال نشأ عن عدم الإيمان و دل على الردع و العتاب.

و إنّما حذف متعلّق الإيمان للدلالة على أنّ الإيمان بالمبدإ يلازم الإيمان بالمعاد فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر. و خصوص المورد - و هو الإحياء - لا يوجب تخصيص العموم أو تقييد الإطلاق كما هو معروف بين الأدباء.

قوله تعالى: قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .

بلى كلمة تستعمل في مقام النفي، فينقلب بها النفي إلى الإثبات و الاطمينان و الطمأنينة سكون النفس بعد الانزعاج. و اطمأنّ و تطامن متقاربان لفظا و معنى.

أي: قال إبراهيم: بلى إنّي مؤمن بذلك و لكنّ المشاهدة و العيان يؤثران في استقرار النفس و رسوخ العلم في القلب و يزداد بهما اليقين و الوقوف على سرّ الإحياء و هذا ما لا يمكن دركه إلا بالمشاهدة و الرؤية.

و إنّما حذف المتعلّق أيضا لأنّ قلب الخليل مضطرب دائما خصوصا إذا كان أحد الخليلين متناهيا و الآخر غير متناه،

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أللهم زدني فيك تحيّرا» و عن أكابر الفلاسفة: إنّ الاعتراف بالقصور عن درك الذات إدراك.

و أما

ما نسب إلى عليّ (عليه السلام): «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» أي: ما ازددت يقينا أنّي على الحق و على الصراط المستقيم لا أن يكون مراده بالنسبة إلى درك الذات الأقدس الربوبي كما تشهد به جملة من كلماته الشريفة، مع أنّ مراتب الاطمينان باللّه تعالى و اليقين به عزّ و جل كثيرة غير محدودة.

ص: 330

قوله تعالى: قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ .

صرهنّ - بضم الصاد و سكون الراء - و قرئ بكسر الصاد. و مادة (صرر) تأتي بمعنى الشد و الضم و القطع، و هذه الثلاثة متقاربة و متلازمة و يصح أن يجعل الجامع الضم، و قد يستلزم القطع الضم كما إذا قطعت أجزاء الحيوان فيضم بعضها إلى بعض و تجعل في موضع واحد، و سميت الصرّة صرّة لجمع الدراهم فيها.

و المعنى: خذ أربعة من الطير فضمّهنّ إليك بأن تجمعها في مكان للمؤانسة و المؤالفة، و أن يستشرقن بشوارق النفس القدسية و تستعد للموهبة الإلهية و هي الإيجاد بعد الإفناء و السعي في الإتيان بدعاء أبي الأنبياء.

و على هذا يكون الجار متعلقا بصرهنّ من دون محذور و لا نحتاج إلى تضمين الكلام. و قيل: إنّ الجار متعلّق ب (خذ) و لكنّه بعيد و مخالف لفصيح الكلام.

و من هذه الجملة يستفاد أنّ الغرض المقصود من السؤال هو مشاهدة كيفية إحياء الأموات المدلول عليها بقوله: تُحْيِ اَلْمَوْتى فإنّ الكلمة الأولى تدل على كيفية إحياء اللّه الأموات و الثانية تدل على أنّ إحياء الجمع الكثير من الأموات بعد تلاشي أجزائها و استحالتها و تبدلها إلى صورة أخرى، فإنّ إحياء هذا الجمع أمر يستبعده الذهن بادئ الأمر، و لأجل ذلك كان الجواب مشتملا على قيود خاصة دخيلة في استيفاء الغرض المقصود، فلو كان السؤال عن مجرد إظهار القدرة الأزلية لكان الجواب يتم بإحياء ميت أو أموات كما في القصة الأولى و لا يحتاج إلى هذا التطويل في الجواب و تكثير القيود. و من وجوب المطابقة بين السؤال و الجواب يستفاد أنّ السؤال إنّما كان عن كيفية الإحياء و مشاهدته من حيث إنّه فعل اللّه تعالى لا مجرد ترتيب الأجزاء المادية و إحيائها لا سيّما في إحياء الأموات.

و القيود التي أخذها عزّ و جل في الجواب هي: أن تكون مورد الإحياء طيورا، و أن تكون أربعة، و أن تكون إحياء الأموات، و أن يجعلها مأنوسة به،

ص: 331

و أن يقتلها و يقطّعها و يمزج أجزاءها، و أن يفرّق الأجزاء على الجبال المتباعدة، و أن يدعوهنّ باجتماعهنّ عنده. و أن يكون كلّ ذلك بيد إبراهيم (عليه السلام) و بمباشرة من نفس السائل، فهذه القيود كلّها دخيلة في الغرض و منها يستفاد عظم السؤال و السائل.

و من ذلك يعلم المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في المقام كما سيأتي في البحث الدّلالي ما يرتبط به.

و لعل ذكر الطيور بالخصوص و اختيارها لأنّ فيها دقائق من صنع اللّه جلّ جلاله لا تكون في سائر الحيوانات، فتكون الإعادة نظير قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة - 4].

أو لكون الطير أقرب إلى الإنسان فيصح أن يكون مثالا للحشر الأكبر و نفخة الإحياء، و في الطير خصال حسنة حثنا الشرع الأقدس بتعلّمها منهنّ

فعن عليّ (عليه السلام): «لو توكلتم على اللّه تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و ترجع بطانا».

أو لأنّ الطير أخف و أسهل انتقالا و يكون قتله و تقطيعه و جعله أجزاء متفرقة في زمان أقل من غيره.

و لا ريب في أنّ الطيور الأربعة من أنواع مختلفة لأنّ ذلك أتم و أكمل في إظهار قدرة اللّه تعالى و أدل على صنعه عزّ و جل.

قوله تعالى: ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً .

أي: اذبحهنّ و صيرهنّ أجزاء و امزج تلك الأجزاء لئلا تتميز ثم فرق تلك الأجزاء و اجعل على كلّ جبل جزءا.

و هذه الآية تدل دلالة واضحة في المحاورات العرفية على سبق الذبح و التقطيع و الخلط، فلا وجه لما عن بعض المفسرين من إنكار الدلالة.

و الوجه في العطف ب (ثم) الدال على التعقيب مع التراخي لأنّ هذه العملية إنّما تكون بعد إمالة الطيور و تأنيسها و معرفة خصوصياتها و طباعها ثم

ص: 332

ذبحها و تقطيعها و خلطها كلّ ذلك يحتاج إلى مدة.

و إنّما أمر سبحانه بالجعل على الجبل دون سائر المواضع إما لكونه أبين في إظهار القدرة، أو لكونه أظهر في الفصل بين الأجزاء، أو لكونه مثالا لبعث الموتى من مشارق الأرض و مغاربها بإذن اللّه تعالى، أو لأنّ الطيور إنّما توكر في الأماكن المرتفعة دون غيرها.

و الآية الشريفة مطلقة لا يستفاد منها أنّ الجبال كانت في منطقة واحدة، بل يمكن أن تكون بينها مسافات بعيدة بأن كان بعضها في بابل و بعضها في الشام و بعضها في بيت المقدس و آخر في الحجاز لأنّ ذلك أبين في إظهار قدرة اللّه تعالى.

كما لا يستفاد من الآية الشريفة أنّ هذه القضية كانت في زمان واحد بل يمكن أن تكون في أزمنة متعدّدة.

قوله تعالى: ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً .

السعي في المقام: سرعة السير في الطيران. و نسب إلى الخليل أنّ المراد به سعي إبراهيم (عليه السلام) لا الطير و لا وجه له.

و المعنى: ثم نادهنّ بأسمائهنّ تأتيك الطيور بكامل هيئتها و خصوصياتها مسرعات، و يمكن أن يكون الدعاء بلسان الطير فإنّه (عليه السلام) ممن علم منطق الطير لأنّه تعالى أراه ملكوت السّماوات و الأرض.

و قد اكتفى سبحانه و تعالى بذكر الوعد عن الوقوع لأنّ اللّه لا يخلف الميعاد، و لما هو المعلوم من قدرة اللّه تبارك و تعالى.

و إنّما ذكر سبحانه اُدْعُهُنَّ دون الصياح و النداء، لأنّ الدعاء هو التكلم مع الغير مع ذكر اسمه، و يستعمل في القريب أيضا و هو مع تقارب الجبال واضح، و أما التباعد فيمكن أن يكون قد نقل الهواء صوت الخليل (عليه السلام) كما ينقل الأصوات من مشارق الأرض إلى مغاربها عبر الأثير بواسطة المذياع و التلغراف و نحوهما.

ص: 333

و يمكن أن يكون الدعاء هو التسخيري التكويني منه كما في قوله تعالى: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج - 27]، و قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت - 11].

و يحتمل أن يكون هذا الدعاء بمنزلة نفخة الإحياء بإذن اللّه تعالى كما في نفخة إسرافيل التي بها تحيا الأموات و يبعثون كأنّهم جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّاعِ يَقُولُ اَلْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر - 8]، فتكون هذه القضية الحشر الأصغر يستدل به على الحشر الأكبر.

و كيف كان فإنّ بدعوة إبراهيم (عليه السلام) تعلّق الروح بالجسد فأتت الطيور مسرعات و بذلك شاهد (عليه السلام) كيفية تعلق الروح بالجسد و البعث و النشور.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و ليتأكد علمك أنّ اللّه عزيز لا يغلبه شيء و لا يعجزه أمر، حكيم في أفعاله لا يفعل إلا بمقتضى الحكمة.

و إنّما خص عزّ و جل هذين الاسمين بالذكر لبيان كمال قدرته و عدم عجزه حتّى إعادة الموتى و لو كانوا كثيرين لا يحصيهم الا اللّه تعالى، و أنّه يفعل ذلك وفق الحكمة المتعالية فمن الحكمة أنّه جعل لكلّ أمر طريقا لائقا به، و أنّه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها.

ص: 334

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول. أنّها تدل على إعادة حياة الإنسان و الحيوان و غيرهما، و المعاد في الشرايع السّماوية و المعارف الربوبية عدل المبدإ و نظيره فلا أثر لمبدإ بلا معاد، و لا وجود لمعاد بلا مبدإ فهما متلازمان في قانون النظام الأحسن المبني عليه نظم العالم و خلق بني آدم، و هو من مظاهر قدرته عزّ و جلّ و قهاريته، و ليس هو من المحالات الذاتية في فطرة العقول حتّى لا تتعلّق قدرة اللّه تعالى به.

و إنّما استبعد ذلك، لحصول شبهات في الخواطر و هو أعم من الامتناع الواقعي، و قد اختلط في الأذهان بين الاستبعاد الاعتقادي و الامتناع الواقعي، و جعل الأول كالثاني مغالطة.

و بالجملة: إنّ مصير التكوين طبعا إلى المعاد كما يكون مصير الشجرة إلى الثمرة إلا أنّ بعضها حلوة و بعضها مرّة، فهو من طريق الوصول إلى الغاية لا بد أن يتحقق في النظام الأحسن، إذ لا يمكن تصوّر نظام بدون غاية كما لا

ص: 335

يمكن تعقّل تكوين بلا مبدأ و هو مما لا بد منه في جملة الأصناف و الأنواع فضلا عن النوع الأتم الذي هو الإنسان.

و الموت إنّما هو قطع ارتباط بين الروح و الجسد فيقع كلّ واحد منهما في المسير الذي لا يعلم حدوده و خصوصياته و سائر جهاته إلا اللّه تعالى المهيمن على الجميع، و يستحيل أن يحيط المحدود بما هو غير محدود فردا و صنفا و نوعا و إن شرقت شارقة من عالم الغيب على قلب من يختاره اللّه تعالى لذلك، فهو محدود تكوينا بقدر استعداده و ليس الكتاب التكويني إلا مثل الكتاب التدويني الذي أنزله اللّه تعالى على قلب حبيبه (صلّى اللّه عليه و آله) و قال عزّ و جل فيه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء - 88]، فكذلك الكتاب التكويني الذي أهم أوراقه بل جميعها المعاد و إنّما جعلت الدنيا مقدمة لشرح نظمه و صحائفه، فكلّ من العالمين متلازمان تلازم الحاكي و المحكي فهو أصل الحقيقة التي يتفرّع عنها المجاز الذي هو الدنيا - بكلّ معنى المجازية - فهي مجاز باعتبار كونها معبرا، و مجاز أي لا حقيقة لها.

و مجاز أي لا بد من إيجاد وجه تناسب بينها و بين الآخرة كما هو واضح لذوي الفطرة المستقيمة و الأذهان السليمة، و لو نزّل الناس الدنيا من الآخرة منزلة اللفظ من المعنى لنالوا الحظ الأوفى و الدرجة الأرقى، و من نزّلها منزلة القشر من اللب فقد حاز الدّرجات العليا.

و من ذلك كلّه يعلم أنّ إنكار المعاد ليس إلا كإنكار الشمس التي هي وراء السحاب. و سيأتي في مستقبل الكلام تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الثاني: يستفاد من ظاهر الآية الكريمة أنّ طلب إبراهيم (عليه السلام) كان لمشاهدة كيفية إحياء اللّه تعالى الموتى الذي هو من فعله عزّ و جل بجميع خصوصياته التي منها قبول الأجزاء المادية لإفاضة الحياة و يدل على ذلك أمور:

منها: السؤال عن الرؤية و المشاهدة و هي لا تتحقق بمجرد الاستدلال

ص: 336

و بيان الحجة فقط كما هو واضح فإنّ الظاهر من قوله أَرِنِي إرادة الوصول إلى حق اليقين بعد طيّ مراحل أصل العلم و علم اليقين.

و منها: إتيان الفعل المضارع تُحْيِ بضم التاء من الإحياء دون غيره الدال على كيفية تأثيره عزّ و جل و إظهار فعله تعالى.

و منها: ذيل الآية الكريمة وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الدال على وجدان الذات المقدسة بكلّ ما تتطلبه مخلوقاته و ما تستحقه الأشياء فلو كان السؤال لمجرد معرفة تأثر الأجزاء و حياتها لكان في إظهار القدرة و بيانها كفاية في المطلوب كما في الآية السابقة.

و منها: أنّه تعالى أراد بيان أنّ إبراهيم (عليه السلام) مظهر حقيقة المعاد كما أنّه مظهر مبادئ التشريع في القوانين السّماوية للعباد أيضا للتلازم بين مبدئية التشريع و بيان المعاد.

و منها: بيان قيود خاصة و شروط معينة في الجواب الدالة على كونها مرتبطة بالسؤال و دخيلة في المعنى المقصود كما ذكرنا في التفسير و الظاهر أيضا أنّ إبراهيم (عليه السلام) فعل ما أمره اللّه تعالى و كان ذلك مقدمة لإراءته ملكوت السّماوات و الأرض و وصل إبراهيم بذلك إلى مرتبة حق اليقين.

و لكن ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد من الآية الشريفة مجرد التمثيل الظاهري و الغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة و لا دلالة في الكلام على أنّ إبراهيم (عليه السلام) فعل ما أمر به، و ليس كلّ أمر يقصد به الامتثال فإنّ من الخبر ما يأتي بصورة الأمر لا سيّما إذا أريد به مزيد بيان و ذكر وجوها لتأييد ما ذكره.

منها: أنّ معنى «صرهنّ » أملهنّ و هو المناسب لتعدي الفعل ب (إلى)، و لو كان المراد ب «صرهنّ » قطعهنّ لما كان وجه لقوله إِلَيْكَ كما أنّه المناسب للتراخي في قوله تعالى: ثُمَّ اِجْعَلْ بخلاف ما ذكره المفسرون، و أما الذبح و التقطيع فليس في الآية المباركة ما يدل عليهما.

و منها: أنّ الضمائر في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ و مِنْهُنَّ و ثُمَّ اُدْعُهُنَّ راجعة إلى الطيور و ليست إلى الأجزاء فلو كان المراد تقطيعها و تفريق الأجزاء على الجبال يلزم منه التفرقة بين الضمائر فيعود بعضها و هو «صرهن» و «منهن» إلى الطيور و بعضها الآخر إلى الأجزاء و هو خلاف الظاهر.

ص: 337

و منها: أنّ الضمائر في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ و مِنْهُنَّ و ثُمَّ اُدْعُهُنَّ راجعة إلى الطيور و ليست إلى الأجزاء فلو كان المراد تقطيعها و تفريق الأجزاء على الجبال يلزم منه التفرقة بين الضمائر فيعود بعضها و هو «صرهن» و «منهن» إلى الطيور و بعضها الآخر إلى الأجزاء و هو خلاف الظاهر.

و منها: أنّ إراءة كيفية الخلقة إما أن تكون بمعنى مشاهدة كيفية قبول الأجزاء للحياة و تغيّر صورها إلى الصورة الأولى الحيّة فهي لا تحصل بما ذكره مشهور المفسرين من الذبح و تقطيع الأجزاء و تفريقها على الجبال إذ كيف يتصور مشاهدة ما يعرض على الذات من الحركات و التغيّرات و الحال هذه.

و إما أن تكون بمعنى الإحاطة بكنه كلمة «كن» التي هي الإرادة الإلهية فظاهر القرآن و إجماع المسلمين على عدم الإحاطة بها و صفات اللّه تعالى منزّهة عن الكيفية.

و منها: أنّ المناسب كما ذكره المشهور أن يختم الكلام باسم القدير دون الاسمين الشريفين العزيز الحكيم.

و لكن فساد ما ذكره واضح بعد التأمل في الآية الشريفة و ما ذكرناه في تفسيرها فإنّ ذلك لا يناسب سياقها و لا المحاورات الصحيحة و قد ذكرنا في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ ما بوضح المعنى و التعدي ب (إلى) لمكان التضمين و بيان شدة الإيناس و الاستيناس بالطيور.

و أما الضمائر فهي راجعة إلى الطيور و هذا العنوان موجود في جميع التقلبات و الاستحالات الواردة عليهنّ كما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

و أما معرفة فعل اللّه تعالى فلا مانع من ذلك عقلا و نقلا إذا أضيفت إلى الممكن و الكيفية المنفية إنّما هي المضافة إلى الذات الأقدس فإنّه تعالى لا كيف له و الأولى هي المراد بملكوت السموات و الأرض التي رآها ابراهيم (عليه السلام) بإرادة من اللّه تعالى.

و أما أنّ المناسب أن يختم الكلام باسم القدير فقد عرفت أنّ الأمر ليس كذلك بل الختم بالاسمين الشريفين فيه الدلالة على ما ذكرناه بخلاف الختم باسم القدير، مع انطواء الاسمين الشريفين على القدير و شيء زائد عليه كما

ص: 338

هو معلوم.

الثالث: يدل قوله تعالى: كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى على أنّ لكثرة الأموات دخلا في السؤال فإنّ إحياء الأجساد الميتة التي تغيّرت صورها و استحالت أجزاؤها و فني الارتباط بينها له الأهمية الكبرى و فيه تمام القدرة و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى حكاية عن فرعون: قالَ فَما بالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى [طه - 52]، حيث خص العلم بذلك في اللّه عزّ و جل فكان الجواب بما يفي المطلوب كما عرفت.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ كمال اللطف و العناية، و الخلة بين الخليلين، و هو يدل على عتاب الخليل لخليله أيضا في مقام الخلة، و لا يعقل لذة فوق ذلك، و لا يصل أحد إلى هذه المرتبة إلا بعد فناء الاثنينية و انتفاء المغايرة من البين غاية الانتفاء.

الخامس: إنّما حذف المتعلّق في قوله تعالى: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ليشمل جميع ما يمكن تصوره في طمأنينة القلب التي منها الثبات عند الخطرات، و منها التحمل لنزول الإفاضات و البركات، و منها الاستقامة لدى التجليات، و منها الرجوع إلى الخلق لافاضة المعارف و الخيرات و غير ذلك مما لا يحيط به الا مثل الخليل، و لعل آخرها ما أشار إليه عزّ و جل بقوله: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر - 28].

و بالجملة: فكما أنّ القلب منشأ الحياة الحيوانية، كذلك يكون محور جميع الواردات الغيبية و المعارف الربوبية و له شأن عظيم.

السادس: يمكن أن تكون الأربعة في قوله تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ فردية، و يحتمل أن تكون الأربعة نوعية أي: خذ من أربعة أنواع أصنافا و أفرادا و يحتمل أن تكون إشارة إلى الطبائع الأربعة و هي الشهوة، و الغضب، و الكبر، و الحرص و كلّ واحدة منها تشير إلى طبيعة خاصة.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً أنّ للأنس مع أولياء اللّه تعالى ثم دعاؤهم دخلا في حياة الموتى و هو

ص: 339

يدل على أنّ القلوب الميتة إذا آنست مع الأنبياء العظام و من يتلو تلوهم من أولياء اللّه تعالى تحيا حياة حقيقية طيبة، و لعل ذلك أهم الأسرار في هذه الآية الشريفة فالمأنوسون مع خليل الرحمن مأنوسون مع الرحيم الحنان إذ لا واسطة في مقام الخلة.

الثامن: أنّ في قوله تعالى: يَأْتِينَكَ سَعْياً إشارة إلى أنّ التسخير التكويني الذي يكون بين المخلوق و الخالق موجود بالنسبة إلى الخليل أيضا و هو إنّما يكون فوق الزمان، و الوارد في الآية الشريفة إنّما هو بلحاظ حال المخاطبين و حدود فهمهم و الا فمقام الخلّة أجلّ من أن يحيط به الزمان.

و يستفاد منه أيضا، أنّ الموجودات تسعى إلى امتثال أوامر وسائط الفيض الأقدس الإلهي، فإنّ الجميع تسبّح بحمد ربّها و مسخرة تحت أمره.

و من ذلك يظهر الفرق بين إحياء خليل الرّحمن (عليه السلام) و إحياء عيسى (عليه السلام) فإنّه لم يرد لفظ بِإِذْنِي في مخاطبة اللّه تعالى مع خليله تجليلا لمقام الخلّة و هو مقام صرف الفناء و الوحدة فلا وجه لحظور جهة الاثنينية و إن كان في الواقع هو بإذنه بخلاف مقام عيسى (عليه السلام) فإنّه ورد فيه لفظ بِإِذْنِي كثيرا و للكلام تتمة تأتي إن شاء اللّه تعالى.

التاسع: دعاء إبراهيم (عليه السلام) للطيور إلى البروز إلى عالم الحياة بعد الممات في الواقع إنّما هو دعاء الرّب الجليل صدر على لسان عبده الخليل كما في قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، فيكون خليل اللّه تعالى و حبيبه محمد (صلّى اللّه عليه و آله) من مظاهر تجلّي اللّه جلّت عظمته قولا و عملا في النشأة الإنسانية، و أقوى الروابط بين العباد و ربّ البرية، و أهم الأسباب في عالم الكون و الفساد، و لكن هناك فرق بين التجليين يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى ذكره.

العاشر: يدل قوله تعالى: ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً على تجرد النفس و بقائها بعد فناء الجسم و تلاشي أجزائه و تبدّد أوصاله و قد تقدم في أحد المباحث السابقة الاستدلال على تجرد النفس فراجع.

ص: 340

الحادي عشر: يدل قوله تعالى: وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ على أنّ إبراهيم (عليه السلام) إنّما كان سؤاله و طلبه لأجل معرفة حقيقة هذين الاسمين الشريفين و بالجواب ظهر تجلّيه تعالى له و جعله مظهرا من مظاهر العزة و الحكمة.

ص: 341

بحث روائي

في المعاني عن المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال:

«استجاب اللّه عزّ و جل دعوة إبراهيم (عليه السلام) حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى و هذه آية متشابهة و معناها أنّه سأل عن الكيفية، و الكيفية من فعل اللّه عزّ و جل متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب و لا عرض في توحيده نقص فقال اللّه عزّ و جلّ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى هذا شرط عام من آمن به، متى سئل واحد منهم: «أو لم تؤمن» وجب أن يقول: «بلى» كما قال إبراهيم (عليه السلام) و لما قال اللّه عزّ و جل لجميع أرواح بني آدم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى كان أول من قال بلى محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فصار بسبقه إلى (بلى) سيد الأولين و الآخرين و أفضل النبيين و المرسلين، فمن لم يجب عن هذه المسألة بجواب إبراهيم فقد رغب عن ملّته قال اللّه عزّ و جل:

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ثم اصطفاه اللّه عزّ و جل في الدنيا».

أقول: الكيفية لها قسمان قسم يضاف إلى اللّه تعالى من باب الوصف بحال ذاته المقدّسة، و هذا باطل بلا ريب و لا إشكال للأدلّة العقلية و للنصوص الكثيرة الدالة على نفي الكيفية عنه عزّ و جل

قال (عليه السلام) «هو الذي كيّف الكيف و لا كيف له».

و قسم يضاف إلى المخلوق و لا إشكال فيه لكونه معرضا لذلك، و ما

ص: 342

أثبته (عليه السلام) إنّما هو من القسم الثاني دون الأول.

و لعلّ المراد من التشابه تشابه الآية المباركة من حيث احتمال ورود الشك على قلب إبراهيم (عليه السلام) و هو باطل. و بقية الحديث ظاهر بأدنى تأمل.

و في المحاسن عن صفوان بن يحيى عن الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ : أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أ كان في قلبه شك ؟ قال (عليه السلام): «لا، كان على يقين و لكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه».

أقول: روي قريب منه في الكافي و تفسير العياشي و بناء على هذا الحديث يكون الاستفهام بالنسبة إلى عين اليقين لا بالنسبة إلى أصل العلم و حق اليقين.

في تفسير القمي عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «أنّ إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البرّ و سباع البحر ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا، فتعجب إبراهيم فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى ؟ فقال اللّه تعالى أو لم تؤمن ؟ قال بلى و لكن ليطمئنّ قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا و اعلم أنّ اللّه عزيز حكيم. فأخذ إبراهيم (عليه السلام) الطاووس و الديك و الحمام و الغراب فقال اللّه عزّ و جلّ : فصرهنّ إليك أي قطعهنّ ثم اخلط لحمهنّ ، و فرقهنّ على عشرة جبال، ثم خذ مناقيرهنّ و ادعهنّ يأتينك سعيا ففعل إبراهيم ذلك و فرقهنّ على عشرة جبال ثم دعاهنّ فقال: أجبنني بإذن اللّه فكانت تجتمع و تتألف لحم كلّ واحد و عظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم (عليه السلام) فعند ذلك قال إبراهيم: إنّ اللّه عزيز حكيم».

أقول: صدر الحديث يبيّن الشبهة التي تعرض في جميع الأذهان و هي مشهورة ب (شبهة الآكل و المأكول) و لعلّ ألهم خليل الرحمن (عليه السلام) أن يستفهم جواب هذه الشبهة عن اللّه تعالى، و يرى الجواب عيانا ليبينه للناس و هذه عادة جميع الأنبياء في مقام الاحتجاج على الخلق.

ص: 343

و أما أفراد الطيور فقد اختلف في ذلك و سيأتي عن قريب.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «أنّ اللّه تعالى أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) إنّي متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم (عليه السلام) أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال: أو لم تؤمن ؟ قال: بلى و لكن ليطمئنّ قلبي على الخلّة قال:

فخذ أربعة من الطّير فصرهنّ إليك ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا ثم ادعهنّ يأتينك سعيا و اعلم أنّ اللّه عزيز حكيم. فأخذ إبراهيم (عليه السلام) نسرا و بطا و طاووسا و ديكا فقطعهنّ و خلطهنّ ثم جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله و كانت عشرة منهنّ جزءا - الحديث -».

أقول: هذا جواب حسن ذكره (عليه السلام) عما يخطر بالبال من الإشكال على قوله: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و لكن ذلك لا ينافي ما ذكرناه في معنى الاطمينان و هو الوصول إلى عين اليقين إذ لا فرق في الوصول إليه بين أن يكون بمقام الخلّة أو بمقامات أخرى.

و في العلل و العياشي و المجمع عن الصادق (عليه السلام): «أنّ الطيور كانت: الديك، و الحمامة، و الطاووس، و الغراب» و في رواية أخرى بدل الغراب «الهدهد»، و في ثالثة بدل الغراب «الوزة» و بدل الحمامة «الوزة».

أقول: الروايات في أسماء الطيور مختلفة، و لا إشكال فيها بناء على ما قلناه من أنّ المراد بالأربعة أربعة أنواع من الطيور، و في كلّ نوع أصناف مختلفة و أهمية المعاد و عظمته إنّما تظهر في ذلك و هو أبين لقدرة اللّه تعالى على الفصل و المعاد بعد تحقق الضم و الاتحاد.

و كذلك لا إشكال في هذا الاختلاف في أسماء الطيور لو أريد من الأربعة الطبايع الأربعة المختلفة كما مر.

ص: 344

بحث عرفاني

الآية الشريفة تدل على كمال الخلّة بين الرب الجليل و إبراهيم الخليل فإنّه قد ارتفع بينهما الستر و الحجاب و أزيل الغطاء و النقاب و انتفت المغايرة من البين. و ذلك لأنّ العبودية ظهرت بجميع آثارها على إبراهيم (عليه السلام) و قد وقعت جميع أفعال جوارحه في مرضاة اللّه تعالى و استولت العبودية المحضة على خطرات قلبه، و فدّى جميع شؤونه في حبّ اللّه عزّ و جلّ و محى تمام ما يتوهم فيه البعد و الافتراق، فشرقت على قلبه الأنوار القدسية فاتخذه اللّه خليلا و جعل الحبيب من نسله فصار الخليل يفتخر بالحبيب و الحبيب يفتخر بالخليل لما بينهما من الجامع القريب من شروق النور الأزلي على قلبهما و الوصول إلى مقام الوصال و الينبوع الذي لا يعقل فيه النفاد و بمدبر حكيم لا يتصور فيه التغيّر و الفساد فكان أن نال رتبة البقاء: «فإنّ آخر الفناء في اللّه تعالى أول البقاء به» و صدر منه العجائب و الغرائب لأنّه مستمد من مدد الغيب الذي لا حدّ له، فيكون إحياء الموتى على يديه أيسر شيء عليه بل تكون مقاليد الجنة و النار مطروحة لديه و مثله يطفي النيران و تناديه جهنم

«جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» هذا بعض مقامه فإنّ اللفظ قاصر عن بيان التمام.

و يمكن أن يستأنس من الآية الشريفة: أنّه لا بد للإنسان أن يزيل عنه الخصال المذمومة و يميتهنّ في نفسه حتّى يتمكن من إحياء الموتى لأنّ في كلّ

ص: 345

طير من تلك الطيور الأربعة خصلة مذمومة من العجب و الحرص و الكبر و الشهوة و نحوها.

و هي تدل على أنّ المؤانسة مع أولياء اللّه تعالى توجب الاعتدال في النفوس فيكون قوله تعالى: ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ كناية عن العلوّ المعنوي الحاصل بمجرد هذه الإضافة و تصير الأشياء مسخرة تحت أمره.

و بالجملة: إنّ كلّ ما يقال في المكالمة بين الخليلين لا يمكن أن يجعل لها تحديد بأيّ وجه من الوجوه.

و قال بعض المفسرين: إنّ مورد الإحياء خصوص قلب إبراهيم (عليه السلام) لأنّه وجد في قلبه محبة ولده فنزل قلبه منزلة الموتى فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى . و لكنّه مردود، لأنّه لا يساعده دليل من العقل و النقل بل هو مخالف لمقام إبراهيم الخليل إن لم يكن سوء أدب بالنسبة إليه.

نعم، حبّ ولده يرجع إلى حبّ اللّه تعالى كما هو شأن الأنبياء و المخلصين و ذلك لا يوجب إماتة القلب.

ص: 346

سورة البقرة الآية 261-274

مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ ي.......

اشارة

مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (264) وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ اَلْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ

ص: 347

فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (269) وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الآيات الشريفة تبيّن ما يتعلّق بالإنفاق من فضله، و موضوعه، و مورده، و الغرض منه، و كيفيته، و بعض شروطه و آدابه، و هي أجمع آيات وردت في هذا الموضوع.

و قد حث اللّه تعالى الناس على الإنفاق في سبيل اللّه بضرب الأمثال و التحريض على الإخلاص فيه فضرب أولا المثل لزيادته و نموه و بيّن أنّه جلّت عظمته يضاعفه إلى سبعمائة أو أزيد كما في مثال السنبلة.

ثم نهى سبحانه و تعالى عن الإنفاق للرياء أو الإنفاق لغرض الأذية و المنّ فذكر أنّه لا ثمرة فيه و لا يوجب الزيادة و ضرب لذلك مثل الصفوان الذي عليه تراب فإذا أصابه المطر أزاله، كذلك الإنفاق إذا عقبه المنّ و الأذى فإنّهما يوجبان زوال الأثر منه و يحبطان عظيم أجره.

كما ضرب مثلا ثالثا لمن ينفق أمواله في سبيل مرضاة اللّه تعالى و اعتبره كالجنة التي تكون فوق مرتفع يصيبها المطر فإنّها تنمو و تزداد بهجة و سرورا.

ثم حث على الإنفاق في سبيل اللّه مرّة أخرى و ضرب لذلك مثلا يصوّر فيه الإنسان في غاية الحاجة و الإعواز.

ص: 348

و بيّن عزّ و جلّ أنّ الإنفاق يجب أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه.

كما أمرنا بالابتعاد عن البخل فإنّه من وساوس الشيطان.

و ذكر أنّ مورد الإنفاق هو الفقراء المحصرون في سبيل اللّه تعالى و أنّ لهذا الإنفاق أجرا عظيما عنده تبارك و تعالى.

كما ذكر أنّ كلّ إنفاق و نذر إنّما يكون في علم اللّه تعالى فلا يضره الستر و الإخفاء و إنكار المنفق عليه و في ذلك تسلية للمنفقين مما يصيبهم في هذا الأمر من مثبطات توهن عزائمهم.

و بيّن أنّ زمان الإنفاق لا فرق فيه بين أن يكون في الليل و النهار سرّا أو علانية، و أرشدنا إلى أنّ الإنفاق في السرّ هو الخير للإنسان.

فالآيات الشريفة بمجموعها ترشد إلى أهم موضوع اجتماعي فيه الخير للفرد و المجتمع و يكون فيه التزكية للنفوس و اعتبر عزّ و جلّ أنّ ذلك من الحكمة التي هي الكمال الذي يهبه اللّه تعالى لمن يشاء من خلقه.

و ما ورد في الآية الشريفة هو الحد الفاصل بين ما يقال في هذا الأمر الاجتماعي المهم و بين غيره، و ظاهر الآيات المباركة أنّها نزلت دفعة واحدة فإنّ الغرض منها بيان ما يرتبط بالإنفاق كما عرفت.

و عقب الآيات السابقة التي كانت في إحياء الموتى بهذه الآيات للدلالة على أنّ للإحياء نحوا آخر يتضمن الحياة الاجتماعية و الفردية و حياة النوع.

ص: 349

التفسير

261 - قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

المثل: تبين أحد الشيئين بالآخر لما بينهما من المشابهة و المناسبة،

و في الحديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل» أي الأشبه بهم من حيث الشرف و علو المرتبة أو المنزلة.

و أصل الكلمة من المثول: و هو القيام،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار» أي يقومون له.

و الأمثال قديمة و معروفة عند العرب، و كلمات الفصحاء و الفلسفة العلمية و العملية مشحونة بالأمثال، و لها من الفوائد و الآثار الكبيرة في تنشيط الذهن و توضيح المراد و تأكيد المطلوب، و الترغيب، و التحريض، و الإنذار، و التخويف و التذكير ما هو معلوم في المحاورات، و قد كثر ضرب الأمثال في القرآن الكريم قال تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر - 21]، و قال تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ [الروم - 58].

و سبيل اللّه: كلّ ما فيه رضاء الرّحمن و أوجب كمال الإنسان و التباعد عن

ص: 350

الشيطان، و سبل اللّه كثيرة و متعددة و لا تنحصر في جهة خاصة و أمر خاص، و هو يجتمع مع كلّ أمر ما لم يكن نهي شرعي في البين فهو الكمال الفعلي الدائمي القابل للنمو و التعالي و فيه يقول عزّ و جلّ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ و هو روح العمل و السرّ في بقائه و دوامه بل هو شعاع من عالم الغيب على القلوب المنزّهة عن الشك و الريب، و هو الجذبة الروحانية التي تحيط بالعبد إذا تحققت الشرائط التي منها الوقوف عند الشريعة المقدّسة و العكوف على حدودها و العمل بأحكامها و هو الذي إذا حصل جعل العمل مباركا و إذا فقد كان العمل فاسدا و السّعي ضلالا و التجارة خاسرة خسرانا مبينا.

و المعنى: إنّ المثل الذي يضرب لمن ينفق في سبيل اللّه في جزائهم المضاعف يكون كما ذكره تعالى.

قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ .

الحبة - بالفتح - واحدة الحب اسم جنس لكلّ ما يقتاته الإنسان و الطّير و غيرهما من الحنطة و الشعير و نحوهما من المطعومات و بزور الرياحين قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى [الأنعام - 95].

و الحبة - بكسر الحاء - بذور البقول مما لا يكون قوتا و في الحديث:

«فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» و هو ما يحمله من الغثاء و الطين.

و السنابل جمع سنبلة على وزن فنعلة: و هي ما علا الزرع من الحب أي: مثل الذي ينفق في سبيل اللّه في الجزاء المضاعف الكبير كمثل تلك الحبة التي زرعت في أرض خصبة فأنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة و قد أسند الفعل (أنبتت) إلى بعض الأسباب.

و الممثل به من الأمور المتحققة في الخارج و إن كان قليلا و ليس هو فرضا موهوما كما يدعيه بعض المفسرين.

و إنّما أتى سبحانه و تعالى بجمع الكثرة في «سبع سنابل» مع أنّ القاعدة تقتضي الإتيان بجمع القلّة في التمييز. كما في قوله تعالى: وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ [يوسف - 43]، لبيان إثبات الكثرة في كلّ ما يمكن أن يتوهم في

ص: 351

المقام فأتى بالعدد ثم بالجمع ثم بالكثرة ثم بالضعف.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ .

أي: و اللّه يزيد زيادة كثيرة لا حدّ لها لمن يشاء من خلقه كما في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة - 245].

و المضاعفة أعم من أن تكون في الكمية أو الكيفية أو هما معا مثل ما أنفقه المنفق أو من غير مثله، و تختلف اختلافا كثيرا بحسب الأفراد و الخصوصيات.

و ذكر بعض المفسرين أنّ هذه المضاعفة محدودة بسبعمائة. و هو مردود لأنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة و تحديد في جوده و كرمه، و إنّما يضاعف بحسب درجات الإخلاص في العمل و الإقبال على الخير فإنّه الجواد الذي لا نهاية لجوده، و الغني المطلق الذي لا ينقصه البذل و العطاء كما قال تعالى:

لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد - 10]، و قد يضاعف الجزاء بغير حساب قال تبارك و تعالى: وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [البقرة - 212].

و يصح أن يراد بالعدد - أي السبعمائة - أنّه مقتضى لطف اللّه تعالى و عنايته على نحو الاقتضاء لو لم تكن موانع تمنع عن البركات و توجب النقص و الحرمان.

و لم يبيّن سبحانه و تعالى صفة من يضاعف له في هذه الآية الشريفة و إنّما ذكرها على الإجمال في آية أخرى، قال عزّ و جلّ : وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [الأعراف - 96]، مع أنّ ذلك من أسرار القضاء و القدر التي لا يحيط بها غيره، كما أنّه لم يقيّد عزّ و جلّ الجزاء بالدنيا أو الآخرة فهو يشملهما، و هذا هو مقتضى سعة رحمته وجوده أيضا، فإنّه يقبل اليسير و يعفو عن الكثير.

ص: 352

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

الواسع بالنسبة إليه تعالى يراد به عدم الحد لقدرته، و علمه، و رحمته، وجوده، و غيرها من الصّفات العليا.

أي: إنّ اللّه تعالى واسع في رحمته وجوده و جزائه لا يحده شيء و لا يغلبه أمر، عليم بالأعمال و النيات و من يستحق الجزاء الأوفى.

262 - قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

تقدم الكلام في ذلك، و مقتضى الإطلاق شمول الإنفاق لكل أعمال الخير، فلا يختص بخصوص مورد معيّن، و سبيل اللّه عام يشمل كل سبل الخير الموصلة إلى مرضاته كما عرفت، فتتصف جميع الأفعال المباحة إذا أضيفت إليه تعالى بكونها من سبيل اللّه تعالى لأنّ سبيله كرحمته لا حدّ لكلّ واحد منهما بلا فرق بين أن تكون مع العوض أو بدونه فالاتجار بالمال إذا كان بقصد أن يعود به على نفسه أو أهله و أراد به وجه اللّه تعالى فهو من سبيل اللّه، و كذا التزويج إذا كان بقصد رضاء اللّه فهو من سبيله عزّ و جل، فهو يجتمع مع كلّ شيء إذا لم يكن منهيّا عنه شرعا،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «و لتكن لك في كلّ شيء نية» أي نية القربة للّه تعالى.

و الإنفاق في سبيل اللّه و ابتغاء مرضاته هو السبب التام في نموّ العمل و زيادة الأجر و الثواب فلو لم يكن الإنفاق في سبيل اللّه و لم يقصد به وجه اللّه و كان لغرض خاص و لو كان نبيلا فإنّما يكون شخصيّا عائدا إلى شخص المنفق و لم يتعدّاه و ربما يستلزم آثارا جانبية تؤثر على المنفق و المنفق عليه أو المجتمع فيكون وبالا عليه.

و المال كلّ ما تميل إليه النفس، فيشمل إنفاق الأعيان و المنافع بل الانتفاعات.

قوله تعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً .

الإتباع: اللحوق و الإلحاق. و المنّ ، و المنّة: بمعنى النعمة الثقيلة

ص: 353

العظيمة و عظم النعمة و ثقلها تارة: تكونان بحسب الذات و أخرى بالقول كأن يقول لمن أعطاه ألم أعطك أو تثقيل النعمة و تعظيمها و إكبارها و ثالثة: بالفعل كأن يتطاول المعطي على من أعطاه.

و الأولى: إذا كانت النعمة ممن اتصف بالجود و العظمة و الكبرياء حسن و هي من صفات اللّه تعالى و من أسمائه الحسنى المقدّسة «المنان» و قد وردت مشتقات هذه المادة في القرآن الكريم في موارد كثيرة، و لعلّ من أعذبها و أعظمها قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ [القصص - 5]، و قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران - 164].

و الثانية و الثالثة: مذمومتان و هما من مساوئ الأخلاق، و في الدعوات المأثورة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) الاستعاذة باللّه العظيم من المنّ على الغير،

ففي الصحيفة الملكوتية السجادية «و أجر للناس عليّ الخير و لا تمحقه بالمن».

و الأصل في معناه: القطع كأنّ المعطي بالمنّ يقطع الصلة بينه و بين عمله و يمحقه.

و الأذى: كلّ ما يصيب الإنسان من ضرر و مكروه سواء كان جسمانيا أو معنويا، و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و المعنى: الذين ينفقون أموالهم و يبذلونها يقصدون بذلك وجه اللّه و يطلبون مرضاته و لا يلحقون إنفاقهم المنّ على من أحسنوا و لا يتبعونه الأذى بهم لهم عند ربّهم الأجر الجزيل.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة: أنّ شرط ترتب الثواب أمور ثلاثة: قصد وجه اللّه تعالى، و كونه في سبيله عزّ و جلّ ، و ترك المنّ و الأذى.

و إنّما كرر «لا» في الآية المباركة لبيان أنّ كلّ واحد من الأمرين منهيّ

ص: 354

عنه و يوجب الإحباط و عدم استحقاق الأجر الجزيل، و يدل عليه قوله تعالى:

لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى [البقرة - 264].

و إنّما عبّر عزّ و جلّ ب «ثم» للدلالة على أنّ الإنفاق الذي غلب فيه مرضاة اللّه تعالى إذا تعقبه المنّ أو الأذى أوجب حبطه فكيف إذا كان الإنفاق متصفا بأحدهما أو كليهما حين صدوره فإنّه لا يكون في سبيل اللّه، و لا يدخل المنفق فيمن أنفق أمواله في سبيل اللّه و لم يسلك في زمرة السالكين في مرضاة اللّه تعالى و لا يعتد به و بإنفاقه.

و الآية الشريفة ترشدنا إلى خلق كريم من مكارم الأخلاق التي أمرنا بالاتصاف بها، و في هذه الخصلة الحميدة تجتمع مصلحة النوع و مصلحة الفرد، و بمراعاته يتحقق التآلف بين أفراد الناس الغني و الفقير على حدّ سواء و هو يكشف عن حسن نية المنفق و عطفه و رأفته على الغبر و لم يطلب من إنفاقه سوى رضاء اللّه تعالى فلا يتفاضل الغنيّ على الفقير، بل يكون قبول الفقير لما أنفق عليه موجبا لدخول السرور على المنفق لأنّه أوجب دخوله في رضوان اللّه تعالى، و يشكر الفقير الغنيّ لأنّه الواسطة في فيض اللّه تعالى، و كذا كلّ إعانة تصدر من كلّ معين إلى المحتاج المستعين، فهو خلق كريم من ذوي النفوس القدسية و الهمم الرفيعة الأبية.

قوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

الخوف: توقع الضرر و هو قابل للشدة و الضعف و غالبه يرجع إلى الاعتقاد، و هو قد يحصل عن مباد حقيقية كالخوف من عقاب اللّه تعالى و عظمته و قهاريته، و قد يكون عن مباد ظنية خيالية.

و الحزن - بسكون الوسط، أو بفتحتين - غمّ يحصل للنفس، و هو أيضا قابل للشدة و الضعف و له مباد واقعية و ظنية.

و الآية تبيّن أنّ الجزاء المضاعف للمتقين محفوظ عند اللّه تعالى، فيفيد الترغيب على الإنفاق، و يكون أهنأ للنفوس، و إنّما أضافهم إلى ربّهم تشريفا

ص: 355

لهم و إعلاء لشأنهم و تعظيما لعملهم.

و المعنى: الذين يبذلون أموالهم في سبيل اللّه و يبتغون مرضاته و لا يتبعون إنفاقهم بالمنّ و لا بالأذى فإنّ لهم أجرهم الكبير محفوظا عند ربّهم و لا يصيبه الفناء و الزّوال و لا يصيبهم خوف عن أهوال القيامة و لا حزن عما يكون في المحشر.

و الآية الشريفة تبيّن حكما فطريا و هو أنّ الارتباط مع من لا نهاية لعظمته في الجمال و الجلال يوجب استكمال من يرتبط به فإنّ المضاف ربما يكتسب الشرف، و هذه الإضافة هي إضافة الإنفاق في سبيل اللّه تعالى الحاضر لدى المنفق و لا ريب في أنّ العبد يصل بها إلى أعلى درجات يمكن أن يصل إليه الممكن إن خلصت الإضافة عن المادة و اشتدت بالنسبة إلى اللّه تعالى.

263 - قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً .

المعروف اسم لكلّ ما يعترف العقل أو الشرع بحسنه فعلا كان أو قولا بخلاف المنكر، و المراد به في المقام الرد الجميل المستحسن.

و مادة (غفر) تأتي بمعنى الصّون عن الدنس، و بمعنى العفو عن العذاب، و المغفرة و الغفران مصدران أي: إنّ الرد الجميل بالقول و المجاملة مع السائل و الفقير بما لا يوجب كسر قلبه إذا لم يقترن سؤاله بما يسيء الأدب مع المسؤول عنه، و العفو و الإغماض عما يقترن بالسؤال أو الحال بما هو خلاف الواقع أو الإلحاح في السؤال بما لا ينبغي الإلحاح فيه لغير اللّه جلّ جلاله، أو الحلف بالمقدّسات الدينية في شيء يسير من الدنيا الدنية أو الإساءة في السؤال أو زمانه أو مكانه، أو الإزعاج و نحو ذلك مما يكبر على النفوس، فإنّ الرد كذلك من غير عطاء خير عند اللّه تعالى من صدقة يتبعها أذى.

و من مقابلة الأذية للقول المعروف و المغفرة يعرف أنّها سوء المقال أو سوء المقابلة.

ص: 356

و الآية الشريفة باختصارها تبيّن جملة من مكارم الأخلاق الاجتماعية و ترشد الإنسان إلى ما هو الخير له في أفعاله و أقواله دون ما يعتقده خيرا مهما عظم في عينه و هو في الواقع ليس بخير، و تبيّن قبح المنة على الخلق و التأكيد على الابتعاد عن هذه الرذيلة فإنّ آثار السيئات و مفاسد الأخلاق تبقى و لا تفنى حتّى تظهر في هذه الدنيا، و تنقلب من العرض إلى الجوهر في العقبى، و في بعض الأحاديث إنّها تظهر في النسل و لو بعد سبعين بطنا، و كذا آثار الحسنات، و ذلك من مكنون علم اللّه جلّ جلاله الذي لا يحيط به غيره، فكم من ذرية سادت بفعل الآباء و كم منها ذلت بطغيان الآباء و لا معنى للربوبية العظمى إلا هذا، و يرشد إلى ذلك القاعدة المعروفة «كما تدين تدان» التي قرّرتها الشريعة.

و بالجملة إنّ هذه الآية ترشدنا إلى أهم الأحكام الاجتماعية التي لوحظ فيها المصلحة الفردية و المصلحة العامة فإنّ قول المعروف و المغفرة من الآداب العامة التي تبتهج بها النفوس و تميل إليها القلوب و تحث على العمل و تبعث العزيمة على البذل و توجب نمو الإنفاق و الزيادة، و هذا معنى الخيرية فيهما دون الأذى فإنّه من موانع القبول و من مثبطات العمل و موهنات العزائم تجلب البغضاء بين الأفراد.

و قد وردت في القول المعروف الذي يرد به السائل و المغفرة عن إسائته روايات كثيرة منها ما

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار و لين إما ببذل يسير، أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس و لا جان ينظرون كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللّه تعالى» و يدل على صحة ما ورد في هذه الآية الشريفة قصص و حكايات تكفي واحدة منها للعبرة و الاعتبار لمن كان من ذوي البصيرة و الرشاد و نعم ما قيل:

لا تهيننّ الفقير علّك أن *** تركع يوما و الدهر قد رفعه

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ .

الغني و الحليم من الأسماء الحسنى للّه جلّ جلاله، و كلّ منهما من

ص: 357

أسماء الذات الحقيقية.

و الأول: عام بالنسبة إلى جميع جهات الكمال فلا يختص بشيء و يمكن إرجاعه إلى نفي الإمكان

و في بعض الدعوات المأثورة «يا من يستغني من كلّ شيء و لا يغني عنه شيء» فهو تعالى غنيّ ملكا و علما و قدرة و حكمة و تدبيرا إلى غير ذلك من صفات الجلال و الجمال.

و أصل الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغصب و يطلق على غير اللّه تعالى قال جلّت عظمته: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة - 114].

و إذا اطلق عليه تعالى يراد عدم التعجيل في عقوبة العصاة، لأنّه لا يستخفّه شيء من عصيان العباد و لا يستفزّه الغضب عليهم.

و في تعقيب الآية الشريفة بهذين الاسمين الشريفين للدلالة على أنّه غنيّ بالذات - و ما سواه يرجع إليه و لا يعظم عليه ما أنعم على عباده - فلا يطلب صدقة يتبعها أذىّ لعباد اللّه أو أنّ جزاء الصدقة يرجع إليهم فإنّه مع غناه يستقرض من عباده الصدقة لأجل مصالحهم و تطهير نفوسهم يغني من يشاء من عباده فهو الجواد و لا يبخل عن شيء حليم لا يعجل في عقوبة المسيء إليه، ففيها دلالة على لزوم التخلق بأخلاقه سبحانه و تعالى في إعطاء الصدقة.

و في الآية الشريفة تسلية للفقراء عما يكابدون من الفقر، و إرشاد للأغنياء إلى نبذ الانتقام و التحلّي بالعفو و المغفرة.

264 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى .

أي: لا تحبطوا صدقاتكم بالمنّ و الأذى فإنّ رذيلة المنّ و الأذى و مفسدتهما تذهبان فضيلة الإنفاق و تهدمان الغاية الشريفة منه.

و في الآية التأكيد على الابتعاد عن هاتين الرذيلتين، و المبالغة في التنفير عنهما و الحث على تركهما.

ص: 358

قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ .

أي: إنّ المتصدق الذي يتبع صدقته بالمنّ و الأذى كالمرائي الذي تكون أعماله باطلة.

و الرثاء و الرياء و المراءاة بمعنى واحد و هو العمل لأجل إراءة الغير مباهيا به فيكون عمل المرائي و عمل ذي المنّ و الأذى مشتركين في عدم القبول و عدم الصحة، و إنّما الفرق بينهما أنّ عمل المانّ و المؤذي يقع صحيحا ثم يعرض عليه البطلان بخلاف عمل المرائي فإنّه باطل من حينه.

قوله تعالى: وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

أي: إنّ المرائي إنّما يعمل لأجل أن يراه الناس و لا يعمل ابتغاء مرضاة اللّه و رجاء ثوابه و الخشية من عقابه.

و يستفاد من هذه الآية المباركة: أنّ الرياء في العمل يستلزم عدم الإيمان بالذي يدعو إلى العمل لليوم الآخر الذي يتجلّى فيه جزاء الأعمال، و من حيث عدم كون المرائي مؤمنا لم يعلّق النهي في الآية على الرياء كما علّق النهي على المنّ و الأذى باعتبار كون الخطاب للمؤمنين و المرائي غير مؤمن

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا اللّه في الرياء فإنّه الشرك باللّه، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر حبط عملك و بطل أجرك فلا خلاص لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً .

المثل مضروب للمرائي الذي ينفق ماله رئاء الناس. و الصفوان (و الصّفا): الحجر الأملس و جمعه صفيّ و قيل: إنّه جمع واحده صفوانة كسعدان و سعدانة، و مرجان و مرجانة.

و الوابل: المطر الشديد، و الصّلد: الحجر الذي لا ينبت فيه شيء لصلابته.

ص: 359

و المعنى: إنّ مثل المرائي في إنفاقه المنافق في عمله مثل ذلك الحجر الصلب الذي عليه التراب فإذا أصابه المطر الغزير أزال عنه ذلك التراب و جعله أملس ليس عليه شيء، فتكون حقيقة المرائي كالحجر الصّلد الذي لا ينفعه كلّ ما هو سبب للحياة من المطر و التراب كذلك المرائي لا تنفعه الأعمال الصالحة و الطاعات التي يتقرّب بها إلى اللّه تعالى و تجلب السعادة له فيكون بفعله قد سلب الاستعداد عن نفسه، و الا فإنّ الإنفاق في سبيل اللّه من الأسباب التي تجلب السعادة في الدارين و لكنّه رائى في فعله فسلب القابلية عن فعله.

و حقيقة هذا المثل إنّما هي شرح ما تكون عليه الدنيا و الآخرة فإنّ الأولى هي دار كون و فساد، و تبدّل و انقضاء و انصرام، و برق خاطف يبرق ثم يذهب، لذتها حليف الألم، و فرحها أليف الحزن و السقم، بخلاف الثانية فإنّها دائمة بدوام الحيّ القيوم نعيمها لا يفنى و بركاتها لا تتناهى، و الإنسان مخيّر بينهما فإن اختار الدنيا فبئس الحليف و إن اختار الآخرة فنعم القرار و نعم المعين، و لو دل مخلوق مخلوقا آخر على مثل ما أرشدنا اللّه جلّ جلاله من كشف الحقائق و بيان الدقائق لاستحق التعظيم و التجليل، فكيف بما إذا أرشدنا اللّه تعالى إليه العالم بحقائق الأشياء و الخالق للسّموات و الأرض و ما فيهما.

قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا .

الضمير في لا يقدرون راجع إلى من ينفق ماله رئاء الناس، لأنّه في معنى الجمع و الجملة بيان لوجه الشّبه بين المشبّه و المشبّه به أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم لا في الدنيا و لا في الآخرة فلا يقدرون على شيء من أعيان أموالهم التي أنفقوها و لا على شيء من الأجر و الثواب فقد أبطلوا أعمالهم بالرياء فذهبت الأعيان و بقيت الحسرات.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ .

الآية الشريفة في موضع التعليل: أي: إنّ المرائي كافر، و اللّه لا يهدي

ص: 360

القوم الكافرين.

و من الآية المباركة يستفاد أنّ شرط قبول العمل هو الإخلاص فيه للّه تعالى. و أنّ الرياء من الموبقات التي تهدم الأعمال و تجلب الشقاء و تزيل الآثار.

265 - قوله تعالى: وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ .

الإنفاق: العطاء. و ابتغاء منصوب على المصدر، و تثبيتا عطف عليه، و الجار و المجرور مفعول لتثبيت.

و قيل: إنّ «من» نشوية، و أنفسهم في معنى الفاعل و (ما) في معنى المفعول مقدّر و تثبيتا منصوب على التمييز و هناك وجوه أخرى في إعراب هذه الجملة مذكورة في محالّها.

و مرضاة مصدر من رضى يرضى، و ابتغاء مرضاة اللّه أي: طلب ما فيه رضاء اللّه تعالى، و إنّ رضاه ثوابه و سخطه عقابه،

و في الدعاء المأثور: «أللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك، و بمعافاتك من عقوبتك، و أعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» و الرضاء و السخط من صفات الفعل لا من صفات الذات إلا إذا رجعا إلى علمه.

و تثبيتا من أنفسهم أي: بقوة اليقين و اطمينان القلب بأنّهم يجدون ضعف ما أنفقوا و يمكنون أنفسهم من طاعة اللّه تعالى.

و المعنى: إنّ الذين يبذلون أموالهم يطلبون بذلك مرضاة اللّه تعالى بجدّ و اهتمام من دون تقصير منهم فيه و يحصل ذلك بعزيمة ثابتة في أنفسهم من دون أن يعترضهم و هن و لا يتخلّل غير مرضاته تعالى في البين بوجه من الوجوه لا منّا و لا أذى و لا رياء و نحو ذلك من الخطرات القلبية و الحركات الخارجية التي تنافي الخلوص. و إنّ غاية مراتب الخلوص و الإخلاص هي أن لا يكون شيء سوى مرضاة اللّه، لأنّ مرضاته غير محدودة بحدّ خاص إلا بالأمر العدمي أي عدم إذنه فيه.

ص: 361

قوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ .

الجنة: البستان الكثير الشجر، لأنّها تجنّه أي: تستره، و الربوة - مثلّث الفاء -: المحلّ المرتفع، و الطلّ : صغار المطر، و الأكل - بالضم - جمع أكلة: ما يؤكل من الشيء.

و إنّما شبّه سبحانه و تعالى بالجنة التي فوق الأرض المرتفعة لأنّها أزكى ثمارا و أعظم نماء و أنقى هواء و أبهج منظرا و أبعد عمّا يضر بالأشجار من المياه العفنة و فساد المستنقعات، فإذا أصاب هذه الجنة المطر الغزير كانت أسرع نموّا، و أحسن تنمية و أكثر ثمرا مثلا ما تكون في سائر الجنان و أجودها، و كذا لو أصابها مطر ضعيف فإنّ الأثر فيها كذلك لكرم منبتها وجودة مغرسها، و حسن موقعها.

و الغرض من المثل بيان أنّ الأثر يترتب على الإنفاق في مرضاة اللّه تعالى من دون أن يتخلّف كمثل الجنة التي فوق الأرض المرتفعة إذا أصابها المطر فإنّه يجنى ثمارها بأحسن وجه كذلك الإنفاق في مرضاة اللّه تعالى فإنّ آثاره حسنة لاتصاله باللّه تعالى فتشمل عنايته له و قبوله عزّ و جل له بأحسن قبول و خيره دائم و بره أبدي لا يزول و إن كان مختلفا باختلاف مراتب الخلوص و الإخلاص، و لكن أصل الإنفاق محبوب لديه لكونه في مرضاة اللّه تعالى و خلوصه عما يشينه و يفسده.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

أي: و اللّه يعلم نيات عباده و مراتب إنفاقهم بصير بأفعالهم فهو يجازي كلّ فرد حسب مراتب الخلوص و الإخلاص لا يشتبه عليه أمرهم، و فيه تأكيد على اختلاف مراتب الثواب تبعا لاختلاف مراتب النيات، و تحذير للمنفقين من الرياء و النوايا الباطلة فإنّ اللّه بها عليم.

و في هذه الآية الشريفة كمال الاهتمام بأمر الإنفاق و شدة العطف بالمنفقين، تبتهج إليها النفوس، و تشعر بالطمأنينة و الراحة حين الإنفاق

ص: 362

الصحيح الذي ينبغي اتباعه في هذا الأمر العظيم الذي قلّما يخلو من شوائب المادة و الأوهام الفاسدة.

266 - قوله تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ اَلْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ .

هذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لمن ينفق ثم يتبعه بما يفسده و يحبطه.

و الآية الشريفة تمثل حقيقة الأعمال و النيات بكلمات يتلألأ منها النور كأشعة الشمس في ظلماء الديجور تبتهج لها القلوب الواعية و تلتذ منها الآذان السامعة ترشد الإنسان إلى الحقيقة و الواقع و تهديه إلى ما هو الأرشد و الأصلح، و تبيّن تأثير الأفاعيل المفسدة و النيات الباطلة في النفوس و الأعمال، و تحثه على التفكر و التمييز بين النافع و الضار.

و الود: المحبة، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا، و الودود من أسماء اللّه الحسنى، فإنّه الغفور الودود، و يصح إضافته إلى اللّه تعالى و إلى خلقه.

و الاستفهام لإنكار وقوع ود الإنسان لما ذكر في الآية الشريفة و كيف يود ذلك ؟!!.

و النخيل جمع نخل أو اسم جمع يذكر و يؤنث و هو شجر التمر و الأعناب جمع عنب و هو ثمر الكرم، و إنّما خصّهما بالذكر لجمال منظرهما و كثرة نفعهما و «من» تكون بيانية، تبيّن أنّ الغالب في الجنة هو النّخل و الكرم و فيها أيضا من كلّ الثمرات.

و قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ كناية عن وفور المياه و كثرة الأشجار و التفاف أغصانها بحيث تكون الجنة ذات بهجة و سرور دائمة السقي و النضارة و الأثمار.

و الكبر هو الشيخوخة، و الذرية الأولاد، و الضعفاء جمع الضعيف و الإعصار ريح شديدة تنبعث من الأرض نحو السّماء عموديا تسمّيه العامة (الزوبعة).

ص: 363

و المثل يبيّن شدة الاحتياج و غاية الانقطاع، و منتهى الأمل و الرجاء فإنّ الإنسان إذا كبر و شاخ احتاج إلى غيره في رفع نوائبه و قضاء حوائجه و ليس له غير تلك الجنة التي قد عقد عليها آماله و يرتجى منها كلّ شيء و له من الذرية الضعفاء الذين لا يقدرون على العمل و لا يستطيعون الكسب و القيام بأيّ شأن من الشؤون فهم عالة عليه ففي مثل هذه الحالة يأتي على جنته الإعصار فيحرقها و يبدد آماله و ينقطع رجاؤه فلا يقدر هو و ذريته على شيء.

و قد جمع سبحانه في هذه الآية الشريفة جميع ما يوجب الانقطاع و الحاجة، و انعدام المعين و الناصر، و الأمل الكبير، فلو كان صاحب الجنّة شابا أو شيخا وحيدا ليس له ذرية أو كان معه ذرية أقوياء يمكنهم القيام بشؤونهم لما أفاد ذلك تلك الصورة التي تحصل من الآية الشريفة.

و وجه التمثيل أنّ الذي ينفق أمواله يعقد عليه آماله في الحصول على ما يترتب عليه من الآثار في الدنيا و الآخرة فإذا عقّب إنفاقه المنّ أو الأذى أو سائر ما يوجب حبطه فإنّها تحرقه و يذهب هدرا لا يجني منه شيئا مع شدة احتياجه إلى ثمراته.

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ .

أي: كذلك يرشدنا اللّه تعالى إلى كشف الحقائق و بيان الدقائق.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ .

رجى منهم التفكر في حالهم لأنّ الإنسان قرين الشهوات و الأوهام لا تدع فيه مجالا للتفكر و الرجوع إلى الرشد فلا بد من تثبيت النفس و العزيمة عند العمل و الإخلاص للّه تعالى.

و هذه الآية المباركة تبيّن حقيقة ما عليه الدنيا و الآخرة فإنّ الأولى تكون زائلة فانية يعتريها الفساد و التبدل و الانقضاء و الانصراف فهي كبرق خاطف أليف الهم و الغم بخلاف الثانية فإنّها دار أنس و مقام لا يفنى نعيمها و لا تنعدم

ص: 364

بركاتها و لا بد من التأمل و التفكر فيما يؤول إليه الإنسان و التبصر في الأمور، و الاعتبار من الدنيا و ما فيها ليفوز بالسعادة في الدارين.

267 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ .

الآية المباركة تبيّن نوع المال المنفق به و أوصافه فاعتبر سبحانه أن يكون من الطيبات التي يرغب إليها الناس و تستلذها النفس لا أن يكون من الخبيث الذي يتنفر منه الطبع و يستكرهه الإنسان، و هذا و إن كان وصفا للمال في المقام و لكنّ الآية تربط ذلك بالجانب الأخلاقي فتجعله من مكارم الأخلاق، و هذا هو دأب القرآن الكريم إذا أراد التأكيد على أمر و الاهتمام به و تهذيب النفس و ترويضها على التحلّي بمكارم الأخلاق، فإنّ الإنفاق من الطيّب أمر مرغوب فيه عند العقل و العقلاء و الآية الشريفة ترشد إلى هذا الأمر العقلي، و يجهد كلّ فرد في تحصيل الطيبات و الاحتفاظ بها و اللّه تعالى أمرنا بالإنفاق من هذه الطيبات دفعا لرذيلة الشح الكامن في النفس الإنسانية و الاجتناب عن اللؤم و الخساسة و هو الكمال الذي يطلبه الإنسان في جهده و عمله.

و من هنا يظهر الجانب الأخلاقي في هذا الحكم الإلهي.

و الطيّب معروف و هو يعرف تارة: بالمعنى الثبوتي أي ما تستلذه النفس و الحواس، و أخرى: بالمعنى العدمي أي ما ليست فيه منقصة أو غير الرديء، و له مراتب كثيرة تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، كما أنّ له استعمالات متعدّدة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و يستعمل في الجواهر و الأعراض و الذوات، و لكن لم أجد - في ما تفحصت عاجلا - إطلاق لفظ الطيّب على اللّه جلّ جلاله، و لعلّ الوجه في ذلك استعماله في الجسمانيات، و هو تعالى منزه عنها.

و ما كسبتم أي: ما حصل لكم من الأموال بسبب التجارة و غيرها و ما أخرجه اللّه تعالى من الأرض من النبات و المعادن و نحوهما.

قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ .

التيمم: هو القصد إلى الشيء و عمده و لم يستعمل لفظ التيمم في

ص: 365

القرآن الكريم إلا في ثلاثة موارد أحدها المقام، و الآخران في الطهور بالصّعيد قال تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة - 6].

و مادة خبث تأتي بمعنى الرديء المنفور، و الخبيث مقابل الطيّب و هو يعم الجواهر و الأعراض و الذوات قال تعالى: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم - 26]، فيستعمل في الاعتقاد أيضا قال تعالى: ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران - 179]، و في الدعوات المأثورة «أعوذ باللّه من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» فالمادتان في الخبيث و الطيّب متقابلتان في جميع المراحل و الصور و العوالم، و في أية نشأة وجدتا، و يرجع ذلك إما إلى اختلاف الذوات أو إلى تقدير العزيز العليم، لكن على نحو الاقتضاء لا العلية التامة كما ذكرنا مرارا.

و المعنى: لا تقصدوا الرديء المنفور مما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض فتخصّوه بالإنفاق و تعرضوا عن الطيّب.

قوله تعالى: وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ .

الواو للحال، و الجملة حال عن فاعل تنفقون، و العامل فيه الفعل، و أن في موضع النصب.

و الآية المباركة ترجع الموضوع إلى وجدان المنفقين لتوضيح الأمر و رفع المغالطة في مصاديق الخبيث و لتثبيت الحكم و التحريض على ترك ذلك و التوبيخ لمن يفعله.

و مادة (غمض) تأتي بمعنى وضع أحد الجفنين على الآخر، و تستعمل في التغافل و التساهل أيضا

و في الحديث: «أصبت مالا و أغمضت في مطالبه» أي: تساهلت في حلاله و حرامه - كما هو عادة أهل هذا الزمان - و لم تستعمل هذه المادة في القرآن العظيم الا في هذه الموارد.

ص: 366

و المعنى: إنّكم لا تأخذون الخبيث و لا ترضون به لأنفسكم الا أن تتغافلوا عن خبثه و تتساهلوا في رداءته و هذا ليس من الأخلاق الكريمة و الإنسان بإعطائه لا يتصف بالجود و السخاء كما أنّه ليس كمالا أن يأخذ الشيء الرديء فإنّه ليس من المعروف المحبب.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ .

أي: و اللّه غنيّ منزه عن النقائص محمود على أفعاله و آلائه فلا ينبغي أن تتقربوا إليه بالخبيث.

و في الآية المباركة تحذير عن أن يدنس ما يراد به وجه اللّه جلّ جلاله بالمعايب الظاهرية و النقائص الواقعية. و يقصد به ما يتنزل عن مقام الأحدية المطلقة، فكما أنّ الذات المقدّسة و أفعاله المباركة منزهتان عن شائبة النقص و الشرك لا بد أن يكون ما يقصد به وجهه الأقدس كذلك أيضا، فينبغي مراقبة النفس و الأفعال حينئذ.

268 - قوله تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ .

الفقر: الحاجة و لكنّه يستعمل على أقسام.

الأول - الحاجة الضرورية الفعلية، و هي عامة لجميع الموجودات الممكنة لأنّ كلّ ممكن محتاج و كلّ محتاج ممكن قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ [فاطر - 15]، و قال تعالى في وصف الأنبياء: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ [الأنبياء - 8].

الثاني: عدم المقتنيات و هو المراد بقوله تعالى: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ [التوبة - 60]، و غيره من الآيات.

الثالث: فقر النفس الذي أشار إليه

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله: «كاد الفقر أن يكون كفرا» و هو في مقابل غناء النفس الذي هو من أجلّ الصّفات و أكملها.

الرابع: الفقر إلى اللّه تعالى و هو أرفع المقامات و أعلى الدّرجات فعن

ص: 367

سيد الأنبياء في كلمته المباركة التي جمعت فيها أبواب من المعارف

«اللهم اغنني بالافتقار إليك و لا تفقرني بالاستغناء عنك و يعجبني فقري إليك و لم يكن ليعجبني لو لا محبتك الفقر».

و الفقر الذي يعد به الشيطان: هو فقر النفس فيكون الفقر في الدنيا و للدنيا و هو من أقبح الذمائم و مصدر كلّ فحشاء و سوء.

و الفحشاء صفة كالسوداء و الحمراء، و الفحش و الفواحش و الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال و الأقوال، و لم يرد لفظ الفحش في القرآن الكريم، و لعلّه لأجل عظمة قبح هذه المادة لم يبق لها مفردا بذاته بل الفرد الواحد يشتمل على أنحاء من القبح من إيذائه الغير و بذاءة اللسان و قباحة الألفاظ و البيان فيشتمل كلّ فحش على فواحش لا محالة.

و الآية الشريفة تبيّن أهمّ المثبطات للإنفاق في سبيل اللّه تعالى و أكبر الموانع في وجه الخلوص و الإخلاص فيه، و تقيم الحجة على ما ذكر في الآية السابقة فإنّ اختيار الخبيث للإنفاق من تسويلات الشيطان و وساوسه و هو بإغوائه يحرم الإنسان من الفضل العظيم الذي يكون في إنفاق الطيبات.

كما أنّها ترشد الناس إلى حقيقة من الحقائق القرآنية و هي أنّ كلّ ما يوهن عزيمة الإنسان من الأوهام و التخيلات و الوساوس النفسانية يرجع إلى إغواء الشيطان سواء كان بواسطة أو بغيرها، و هي التي تؤكد رذيلة الشح الكامن في كلّ نفس و تورث البخل و الإمساك فتؤدي إلى انتهاك أوامر اللّه تعالى و مخالفتها، و ترجع أخيرا إلى نبذ ما أراده اللّه تعالى من المصالح في هذا الأمر الخطير المهم بالنسبة إلى الفرد و المجتمع فتختل سعادتهما المرجوة التي كتبها اللّه سبحانه لهما و تفشو الرذائل و الفحشاء، و لذا أكد سبحانه أنّ الشيطان الذي يغوي الإنسان بإلقاء خوف الفقر في نفسه و إظهار البخل و الإمساك و الحرص في الإنسان و هي من سفاسف الأخلاق التي تؤدي إلى ارتكاب الفحشاء التي يأمر بها الشيطان و الإغواء الذي يطلبه للإنسان، و هذا هو الضّلال المقابل للحق الذي أمر به اللّه سبحانه و تعالى فإنّه لا ثالث بينهما، و لذا عقب سبحانه ذلك بقوله: وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً لبيان أنّ هذا هو الحق الصالح و ترشدنا إلى ما هو الخير

ص: 368

للإنسان دون ما يريده الشيطان.

و الشيطان - سواء كانت نونه أصلية أو زائدة من شاط - معروف في جميع الملل و الأديان و هو اسم لذلك المخلوق الناري الذي هو مثال لكلّ شرّ و رذيلة مهلكة و المعاصي الموبقة، و يطلق على كلّ غاو من الجن و الإنس و الحيوان، و له وجود جمعي و انبساطي مضل للإنسان كما نطق به الكتاب العزيز في مواضع كثيرة منه قال تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً [الإسراء - 53]، و لكن بالعقل و جنوده يمكن إرغامه و التغلب عليه فهو و جنوده يضادان الشيطان و ينافيانه في جميع الشؤون و الحالات و هو في المنطقة السّفلى، و العقل و جنوده في المنطقة العليا و بينهما الخصام الشديد و النزاع الأكيد في جميع الأطوار و الحالات حتّى يفرّق اللّه تعالى بينهما بالموت، فإنّ الشيطان مرجوم في غير هذا العالم و ليس له سلطان فيه، و لذا كانت الدنيا سجن المؤمن و دار البلية و لا سجن أعظم و لا بلية أشد من الابتلاء بهذا الخبيث و سيأتي في الموضوع المناسب الكلام في الشيطان مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً .

الوعد من الإنشاء لا من الإخبار فلا يتصف بالصدق و الكذب بل يتصف بالوفاء به و عدمه و هو المراد بصدق الوعد و كذبه. و يستعمل في الخير و الشر و لكن الإيعاد يستعمل في الشرّ فقط.

و مادة (غفر) بمعنى صون اللباس عن الدنس و الوسخ قالوا: غفّر ثوبك في الوعاء و اصبغ ثوبك فإنّه أغفر للوسخ. و غفران اللّه و مغفرته للعبد هو صونه عن العذاب.

و الفضل الزيادة عن الاقتصاد، و يختلف في المدح و الذم باختلاف متعلّقه ففضل العلم و الحلم ممدوح، و فضل الغضب مذموم، و ما كان من اللّه تعالى فلا حدّ له.

و في ذكر وعد اللّه بالمغفرة و الفضل مقابل وعد الشيطان بالفقر و الفحشاء إرشاد إلى اختيار الإنسان ما هو الأصلح له.

ص: 369

و المعنى: إنّ اللّه تعالى يعد الإنسان الذي اختار الطيّب من أمواله لينفقها في سبيل اللّه المغفرة و غفران الذنوب و زيادة في الثواب و الدّرجات و منه يستفاد أنّ الإنفاق لا يخلو عن العوض.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه واسع غير محدود بحد الإمكان مطلقا، عليم بجميع الأمور محيط بحقائق الأشياء و دقائقها فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فهو واسع يعطي عباده ما وعدهم به عليم لا يجهل أمورهم.

و الواسع من أسمائه المباركة الحسنى و هو كثير الاستعمال في القرآن الكريم موصوفا في مواضع بالعلم و في اخرى بالحكمة، و لم أجده فيه و في الدعوات المعتبرة مطلقا من غير وصف. نعم، ورد في الأسماء الحسنى «يا واسع» و لا بد من تقييده بما في القرآن و يمكن أن يجعل ذلك ردا لمن يقول بوحدة الوجود و الموجود.

إن قيل: إنّ السعة العلمية تستلزم السعة الذاتية أيضا لأنّ علمه تعالى عين ذاته.

يقال: أصل ذلك مبنيّ على وحدة الوجود و الموجود مطلقا، و الاشتراك الحقيقي مع التشكيك. و أما مع البينونة أي بينونة صفة لا بينونة عزلة فلا موضوع لهذه الإشكالات أصلا.

و سياق الآية الشريفة في المقام يدل على أنّ المراد سعة الفضل و المغفرة لكن على ما يقتضيه العلم و الحكمة لا مطلقا، فإنّه لا يليق به عزّ و جل، و قد شرح ذلك كلّه الأئمة الهداة (عليهم السلام) دفعا لهذه الشبهات.

269 - قوله تعالى: يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ .

الإيتاء: الإعطاء. و الحكمة وزان فعلة و مادة (حكم) تدل على المنع الخاص و هو الحاصل عن الإحكام و الإتقان. و الحكمة هي التي تمنع صاحبها عن القبائح و الرذائل اعتقادا و قولا و عملا على نحو تكون محكمة في النفس لا

ص: 370

يصيبها ضعف و لا فتور غالبة على قوى النفس و الإرادة توجهها نحو الخير و السعادة

و في الحديث: «ما من آدمي إلا و في رأسه حكمة إذا همّ بسيئة فإن شاء اللّه أن يقدعه بها قدعه» أي تمنع من هي في رأسه من السيئة بنحو الاقتضاء كما تمنع الحكمة الدابة.

و يوصف بها اللّه تعالى، فإنّ من أسمائه الحسنى (الحكم) و (الحكيم) و قد ورد في أكثر من تسعين موردا في القرآن الكريم مقرونا إما بالعزيز و العليم أو الخبير أو العليّ و لعلّ ذلك لملازمة حقيقتها فيه تعالى لتلك الصّفات فجيء بها تبيينا و إيضاحا، كما يوصف بها الإنسان قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ [لقمان - 12].

و إذا تتبعنا الموارد التي ذكر فيها الحكمة في القرآن الكريم نرى أنّها تذكر تارة مقرونة مع الكتاب قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ [البقرة - 129]. و اخرى بعد ورود جملة من الأحكام الشرعية التي نزلت لتهذيب الإنسان و سوقه إلى الكمال و السعادة كما في سورة الإسراء قال تعالى بعد سرد جملة كثيرة من التكاليف الإلهية و الأحكام الفطرية: ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ [الإسراء - 39].

و يستفاد من ذلك: أنّ الحكمة هي تلك المطالب الحقة التي ترتسم في النفس و توجب التوفيق بين الاعتقاد و العمل و السوق إلى الكمال المنشود للإنسان، فتشمل جميع الحقائق الفطرية و الأحكام الشرعية و المعارف الحقة التي تتعلّق بالمبدإ و المعاد، و تشرح الحقائق المتعلقة بالنظام الأحسن من حيث ارتباطه بسعادة الإنسان و التي لا تقبل الكذب و البطلان، فتكون للحكمة مظاهر كثيرة متفاوتة فتارة تتجلّى في القرآن الكريم الذي هو مصدر كلّ ما يكون في العالم من أنواع الحكمة المتعالية و هي من أشعة هذا النور العظيم و شوارق ذلك النيّر المعظم، تأخر زمان وجودها أو تقدم لأنّ القرآن من اللوح المحفوظ، و هو محيط بهذا العالم، كما أنّ الكتب الإلهية من مظاهر هذا التجلّي الأعظم.

ص: 371

و من مظاهرها أيضا الدّين و معرفته و التفقه فيه فإنّ الدّين هو القانون المتكفل لجميع مطالب الإنسان من حين نشأته إلى ما بعد مماته

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه آتاني من الحكمة مثل القرآن و ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة الا كان خرابا ألا فتعلّموا و تفقهوا و لا تموتوا جهالا».

و من أجلّ أفراد الحكمة و أعظمها شأنا معرفة اللّه الواحد الأحد المتفرد الصمد. فهي بحسب المبدإ هو الجهد الأكيد في التصدّي لمرضاة اللّه الحكيم، و بحسب الغاية لذة روحانية مفاضة من الغيب العليم، و يلزم الإحاطة بحقائق الأشياء على قدر طاقة الإنسان و لأجل هذا تطلق الحكمة على تلك المعلومات الحقة الصادقة و يسمّى العارف بها حكيما إلهيّا أو متألها.

و بالجملة: هي الخير الكثير كما وصفها به عزّ و جل،

و في الحديث:

«إنّ في الجنة دارا - و وصفها ثم قال - لا ينزلها الا نبي أو صدّيق أو شهيد أو محكّم في نفسه».

و من الحكمة ما تكون فطرية إفاضية من عالم الغيب، و منها: ما تكون اكتسابية تكتسب بالمجاهدات و الرياضات الشرعية، و منها ما هو مركب منهما.

و من الحكماء من اجتمع جميع أنواع الحكمة فيه و هم رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه بكلّ معنى الصدق و الوفاء، فشرح اللّه صدورهم بكلّ معنى الانشراح، تشتاق إليهم الجنان العاليات و هذه هي إحدى مراتب الحكمة و قس عليها سواها.

و لكن للحكمة مرتبة خاصة محجوبة عن البصائر و الأفكار لا تليق الا لمن يقدر على تحمل الأسرار، و يشهد لما قلناه شواهد من العقل و الآثار و الأخبار، كما أنّها ليست منحصرة بالبحث و النظر و الفكر فقد تحصل للنفوس المستعدة من إفاضات الباري

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا رأيتم المؤمن سكوتا فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله):

«اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه».

ص: 372

و لكنّ الأصل في إفاضة جميع أفراد الحكمة و العرفان و مراتبها هو الإخلاص للّه جلّ جلاله

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من أخلص للّه أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه و أنطق بها لسانه» و عن جمع من أكابر علماء النفس دعوى التجربة في ذلك، فتكون حقيقة الحكمة ارتباطا خاصا مع عالم الغيب و أما غيرها فهو فنّ و صناعة و هما شيء و الحكمة الواقعية شيء آخر.

نعم، الحكمة تارة تكون علمية و اخرى عملية و لا نهاية لمراتبهما اما الثانية فغايتها الرضوان و لقاء اللّه تعالى و لا نهاية لكلّ واحد منهما و أما الأولى فإنّ غايتها الاستلهام من الغيب و هو غير محدود، و التحديد إنّما يكون من الممكن المستفيض لا في المبدإ المفيض.

و قال بعض الأعاظم من الحكماء المتألهين: «إنّ غاية ما للإنسان من الكمال هو الاتصال بالعقل الفعال المسيطر على الملك و الملكوت تسيطر الروح على الجسد». و هذا صحيح إذا كان المراد بذلك روح القرآن و الشريعة الأحمدية المنبعثة عن الحقيقة المطلقة الأحدية لأنّ الإحاطة بالواقعيات صعبة جدّا إن لم تكن ممتنعة مهما بلغت فطنة العقول في الحدة و الذكاء و الدقة لا سيّما بالنسبة إلى المعارف و أسرار القضاء و القدر التي لا يمكن أن يحيط بها غير علاّم الغيوب، و قد ورد النّهي عن الخوض في جملة منها و أنّه لا يزيد الخوض فيها إلا تحيّرا، فلا مناص للحكيم الا الوقوف على ظواهر الكتاب و السنة المقدّسة و هي تحتوي على معادن العلم و الحكمة و المعارف و ما يكفي لتكميل النفوس الناقصة و إيصالها إلى أوج الكمال و المعرفة و هي الحكمة الحقة التي تفيد لجميع النشآت قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [الأنعام - 28]، أي الكتاب المشروح بالسنة أو السنة الشارحة للكتاب، و قال تعالى:

وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام - 59]، و هو مصدر كلّ علم و معرفة هذا بالنسبة إلى الحكمة العلمية.

و أما الحكمة العملية فلا بد و أن تكون مطابقة للشريعة المقدسة الختمية و إلا كانت لغوا محضا.

ص: 373

ثم إنّه غلب استعمال الحكمة على الفلسفة المتوارثة عن اليونان و قد اصطلح على قدماء الفلاسفة بالحكماء و قسموهم إلى الإشراقيين و المشّائيين و الرّواقيين كما أنّهم قسموا الحكمة الاصطلاحية (الفلسفة) إلى علمية و عملية و الثانية عبارة عن علم الفقه و الأخلاق و قسموا الفقه إلى العبادات و المعاملات (أي العقود و الإيقاعات) و الأحكام و السياسات و أنّ بمعرفتها و العمل بها يصل الإنسان إلى مقام الإنسانية و الخروج عن حدود الحيوانية البهيمية و بذلك تتم المدينة الفاضلة التي خلق الإنسان لأجل ورودها و الاستكمال فيها.

و قسّمت الحكمة العلمية إلى قسمين: الإلهيات و الطبيعيات، و لكلّ واحد منهما فصول و أبواب، و قد جعل كلّ فصل من فصول الطبيعيات في العصر الحديث علما مستقلا برأسه.

كما أنّ من فصول الفلسفة الإلهية البحث عن كلام اللّه تعالى من حيث قدمه و حدوثه و كثر النقض و الإبرام فيه حتّى جعل ذلك علما مستقلا له أبواب كثيرة و فصول طويلة.

و لكن كلّ من نظر في الحكمة الاصطلاحية يرى أنّها كغبار على اللجين و لو فرض فيها شيء صحيح فهو مستلهم من الوحي المبين أو السنة المقدسة و غيره ليس الا من الأوهام و التخيلات و المغالطات و كلّ واحد منها حجاب عن الوصول إلى الواقع و لذلك كثر الخلاف و قلّ الوصول إلى المراد، و قد ذكرنا أنّ الحكمة بمعزل عن البطلان و التكذيب و منزّهة عن جميع ذلك، و إذا كانت الحكمة ما ذكروه فليست هي الا العلم بالمصطلحات فقط فهي كعلم اللغة مثلا و هي صنعة و فنّ لا تزيد على سائر الصنايع و الفنون بل ربما يكون بعضها أفضل منها كما هو المحسوس.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً .

يؤت مبني للمفعول مجزوم بأداة الشرط، و الحكمة مفعول ثان و إنّما أبهم تعالى الفاعل مع أنّه معلوم مما تقدم و هو اللّه تعالى لبيان أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالحكمة و الخير الكثير مقرونان فمن تلبس بها فقد

ص: 374

حظي بالخير الكثير فلا يحتاج الانتساب إلى الفاعل في توصيفها به.

و توصيف الخير بالكثير لبيان أنّ الحكمة من جميع جهاتها خير كثير كما عرفت آنفا فيكون القيد توضيحيا و من مقومات ذاتها و يشهد لذلك

ما نسب إلى عليّ (عليه السلام): «علّمني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب»

و عن ابنه الصادق (عليه السلام): «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا».

و يستفاد من الآية الشريفة: أهمية الحكمة و عظيم منزلتها و شرافتها من وجوه:

الأول: ذكرها في سياق فضل اللّه تعالى و هو واسع عليم.

الثاني: تعليق إتيانها على من يشاء و هم خلّص عباده فيفهم من ذلك أن ليس لكلّ أحد الوصول إليها الا بعناية منه عزّ و جل.

الثالث: توصيفها بالخير الكثير.

الرابع: الحصر المستفاد من قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ فإنّه يدل على أنّهم المتيقنون من مورد المشيئة لإفاضة الحكمة.

الخامس: ذكرها في القرآن الكريم مقرونا بالتجليل و التعظيم فتكون هذه الموهبة الربانية نصيب من أفنى جميع شؤونه الإمكانية في مرضاة ربه و صار قلبه متيّما بحبه و ولها في عظمته و لم يكن له بقاء الا منه تعالى و به عزّ و جل. و حينئذ تصير ذاته و نفسه حكمة جوهرية و أعماله حكمة عملية، و أفكاره حكمة علمية، و هم الذين ثبت الحق في ضمائرهم، و ازهق الباطل عن سرائرهم، و انقشعت عن بصائرهم سحائب الارتياب و عن قلوبهم أغشية المرية و الحجاب، ففازوا بالمحل الأعلى، و حازوا القدح المعلّى، و نظروا إلى جميع ما سوى اللّه تعالى بالنظرة الاولى، و حيث إنّ لهذا المقام مراتب كثيرة من الظهور، و كلّما كثرت مظاهر الشيء كثرت أسماؤه فقد تكون الحكمة القرآن الذي يعمل به و قد تكون السنة المقدسة و العمل بها، و العلم بحقايق الموجودات مع الالتفات إليها من حيث المبدأ و المنتهى.

ص: 375

و من ذلك يعلم أنّ مجرد العلم بلا عمل ليس من الحكمة في شيء كما عرفت.

قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

اللب: هو العقل الخالص أي: إنّ الحكمة لا ينالها الا من كان متذكرا و المتذكر لا يكون الا من كان ذا لب خالص عن شوائب الأوهام و الماديات.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ أجلّ مقامات العقل مقام تذكره عزّ و جل فينبعث منه العمل بما يرتضيه. و للتذكر مراتب و درجات و بحسبها تختلف درجات اللب فإنّ بعضها هو العقل و الإدراك و الشعور و الفكر.

270 - قوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ .

(ما) موصولة تتضمن معنى الشرط و العائد ضمير محذوف يفسره مِنْ نَفَقَةٍ . و الآية عامة تشمل جميع أنحاء الإنفاق سواء كان قليلا أم كثيرا في الطاعة أم في المعصية، كان مع الإخلاص أم مع الرياء واجبا كان أو مندوبا.

قوله تعالى: أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ .

النذر: التزام بعمل للّه تعالى على نحو مخصوص و لا ينعقد النذر المشروع الا أن يقول: «للّه عليّ » و هو إما مطلق أو مشروط، من فعل أو ترك، و الفعل يشمل جميع الأفعال الراجحة، كما أنّ الترك يشمل جميع التروك الراجحة.

و بعبارة اخرى: يشترط أن يكون المنذور طاعة للّه تعالى سواء كان فعلا أو تركا.

و لا يختص النذر بالإسلام بل واقع في بقية الأديان و المذاهب قال تعالى حكاية عن مريم ابنة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم - 26]، و قال تعالى حكاية عن امرأة عمران: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ [آل عمران - 35]، و هذا أيضا عام يشمل جميع أنحاء النذر.

ص: 376

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ .

جواب للشرط و الجملة خبر للموصول و الرابط الضمير في «يعلمه» و دخل عليها الفاء لأنّها وقعت جزاء للشرط، أي: إنّ اللّه يعلم أعمالكم و نياتكم فيثيب على الطاعة و يعاقب على المعصية، و يجازي على ما يستحق من الجزاء و لا يخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماء.

و الآية مشتملة على الحث على الطاعة و الزجر عن المعصية و المخالفة ففيها وعد و وعيد و أكد الوعيد بقوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ .

و إنّما عبّر عزّ و جل بقوله: فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ دون سائر التعبيرات لأنّه إخبار عما هو حاصل بالضرورة و كائن لا محالة لأنّ علمه تعالى الأزليّ بجميع ما سواه كلية و جزئية يمتنع أن يزول، و أما غيره من القبول و الثواب فهما مترتبان على امور اخرى ربما لا تتحقق، فليس كلّ معلوم له تعالى مقبولا لديه.

قوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ .

أي: إنّ الظّالمين في إنفاقهم و نذرهم بأن لا يكون في مرضاة اللّه تعالى ليس لهم أنصار ينصرونهم و لا معين لهم يستعان به سواء في الدنيا أو في الآخرة، فإنّ المال إنّما يقي الإنسان و يفتدى به عنه إذا كان صرفه و إنفاقه في سبيل اللّه تعالى و في مرضاته و الا كان هدرا و على المنفق حسرة، و أما الشفعاء فإنّما تنصر الإنسان إذا كان مرضيا عند اللّه تعالى و المنفق في غير مرضاة اللّه تعالى لم يكن كذلك و الآية المباركة نظير قوله تعالى: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر - 18].

كما أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الإخلال في الإنفاق أو تركه من الظلم الذي لا يقبل التكفير لأنّه في حقوق الناس و هو لا يقبل التوبة و التكفير الا برد الحق إلى أهله.

و من ذلك يستفاد الوجه في إتيان الأنصار بصيغة الجمع، فإنّ جميع أفراد الأنصار منفية عن الظالم في حقوق الناس ما لم يرد الحق إلى صاحبه.

ص: 377

271 - قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ .

مادة (ب د ا) تأتي بمعنى ظهور الشيء ظهورا بينا، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا [الزمر - 48]، و قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اَللّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر - 47]، و منها البدو في مقابل الحضر قال تعالى: وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ [يوسف - 100]، و هو في مقابل الإخفاء، قال تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام - 28] و منه:

باسم الإله و به بدينا *** و لو عبدنا غيره شقينا

و حبذا ربّا وحب دينا

و الإبداء و الإخفاء من الأمور النسبية الإضافية و يصح اجتماعهما في شيء واحد من جهتين.

و الصدقات جمع الصّدقة و هي في الأصل: كلّ ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، و هي أعمّ من الواجبة و المندوبة، و ربما تطلق على كلّ معروف يترتب عليه الخير و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كلّ معروف صدقة» فتعم المال و الأقوال و الأفعال الحسنة.

و حيث إنّ الصّدقة - أي: المال الذي ينفق في سبيل اللّه تعالى - خير محض لا بد أن تصرف فيما أذن فيه اللّه جل جلاله، و قد أذن عزّ و جل في موارد ثمانية قال تعالى: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة - 60] و هذه الموارد الثمانية تختلف إبداء و إظهارا فإنّ الصرف على الفقراء لا يكون فيه إبداء غالبا لا سيّما إذا كان الفقير من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، و أما الصّرف في سبيل اللّه فيلازمه غالبا الإظهار و الإعلان.

ص: 378

و المستفاد من الكتاب الكريم و السنة المقدّسة أنّ الصّدقات مطلقا إنّما شرّعت لأجل الصرف على الفقراء، فهم الأصل في تشريعها، و تقتضيه القاعدة العقلية و هي (تقديم الأهم على المهم).

و الصّدقات مطلقا - واجبة كانت أو مندوبة - متقوّمة بقصد القربة فإذا لم يرد بها وجه اللّه تعالى فهي باطلة لا ثمرة لها و لا تبرئ الذمة لو كانت من الواجبة و قد عرفت سابقا أنّ الإضافة إليه عزّ و جل في كلّ عمل هي بمنزلة روح ذلك العمل و لا أثر لجسد إذا فقد منه الروح.

و نعمّا هي أي نعم شيء هي، و هو ثناء على إبداء الصدقة، و قد اختلف في قراءتها فالمشهور قراءتها بكسر النون و العين، و قرأ بعضهم بكسر النون و سكون العين «فنعما». و قرأ ثالث بفتح النون و كسر العين (فنعمّا).

و ما في (نعمّا) في موضع نصب، و قيل «هي» تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر فالفاعل هو الإبداء ثم حذف و أقيم ضمير الصدقات مكانه و لكنّه لا يخلو عن تكلّف بل الفاعل نفس الصدقة أي: الصّدقة نعم الشيء في ذاتها فيكون الإبداء و الإخفاء من عوارضها التي لا تغيّر وجه الحسن في نفس الذات ما لم يطرأ عليها ما يبطلها.

و كيف كان ففي الآية الشريفة ثناء على إبداء الصّدقات و أنّ الإبداء لها لا يذهب آثارها إذا كانت لوجه اللّه تعالى ما لم يعرض عليها ما يبطلها كالرياء و المنّ و الأذى لأنّ صدقة العلن أكثر نتاجا و أبعد أثرا.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .

لأنّ الإخفاء أقرب إلى الإخلاص و أبعد من الرياء و فيه حفظ عزة الفقير و إكرام له و تقدم سابقا أنّ الإسلام إنّما يراعي في جميع التكاليف جانب الخلوص و الإخلاص فكلّما كان الشيء أقرب إلى الإخلاص كان أهمّ و أعظم و أظهر و لذا كانت صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن مطلقا و خيرا منها

و في الحديث: «إنّ صدقة السرّ تطفي غضب الرب» و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

ص: 379

و إنّما قدم تعالى الإبداء على الإخفاء لأنّه الغالب في صدقات الناس و الموافق لطبائعهم و الإخفاء إنّما هو حظ الخواص بل أخصهم و لذا كان الترغيب عليه أكثر.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ ما ذكرنا آنفا من أنّ الأصل في تشريع الصّدقات الفقراء، و إنّما ذكرهم في خصوص الإخفاء لأنّ فيه حفظ كرامتهم خصوصا حرمة المتعفف و من ذلك يعرف أنّ كلمة «خير» أفعل التفضيل و قيل: إنّها اسم و ليست بمعنى التفضيل فيتساوى حينئذ الإبداء و الإخفاء، و يصح الاختلاف باختلاف الخصوصيات.

قوله تعالى: وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ .

أي: إنّ الإخفاء في الصدقات سبب لأن يمحو اللّه تعالى بعض ذنوبهم. و يمكن أن يجعل ترتب تكفير السيئات بالنسبة إلى كلّ واحد من الإبداء و الإخفاء فإنّ الصدقة بنفسها من موجبات التكفير.

و إنّما ذكر «من» التبعيضية لأنّ الصدقة لا تكفّر جميع الذنوب بل بعضها لا تكفر الا برد الحق إلى صاحبه كما عرفت.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .

أي: و اللّه خبير بأعمال العباد و نياتهم لا يخفى عليه شيء لفرض أنّ جميع ما سواه تحت إحاطته و قيوميته و ربوبيته العظمى لا يعزب عن علمه شيء في الأرض و لا في السّماء و كيف يغيب عنه شيء و هو الشاهد الحاضر.

272 - قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ .

التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول تسلية لقلبه الشريف عما كان يشاهده من بعضهم في أمر الإنفاق و الصّدقات فأبلغه عزّ و جل بأنّه ليس عليك إيصالهم إلى الحق المطلوب و لم تكن أنت مسئولا عن ذلك فهو الذي يهدي من يشاء في أصل التوفيق و إنّما عليك البلاغ فلا تحزن على ما يصدر عنهم و لا يضيق صدرك بأفعالهم و هو الحريص على هداهم.

ص: 380

و المراد بالهداية: هي الخاصة المنبعثة عن الفطرة التي فطر الناس عليها الموصلة للحق قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النّور - 40]، أو المراد درجات الهداية و مراتبها كما قال عزّ و جل:

وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد - 17]، و قال تعالى: وَ يَزِيدُ اَللّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً [مريم - 76].

و يمكن أن يكون سياق هذه الآيات بعد رد بعضها إلى بعض سياق قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، و إذا لاحظنا هذه الآية الشريفة مع قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ تصير النتيجة ليس عليك هداهم على نحو الإكراه، و يكفي الإبلاغ و الإنذار، و قد حصل كلّ منهما، فتشمل الآية جميع موارد الهداية و متعلّقاتها من الإنفاق و غيره و لا دليل على التخصيص، فيكون المعنى ليس عليك هداهم أي: إيصالهم إلى المطلوب لأنّ النبوة و الرسالة إنّما هي الإبلاغ و البشارة و الإنذار و لكنّ اللّه يهدي إلى المطلوب من يشاء بالتوفيقات الخاصة و العنايات المخصوصة بنحو الاقتضاء لمن يرى فيه الصلاحية فيوصله إلى المطلوب و هذه قضية عقلية تشهد على صحتها التجربة أيضا و يؤيدها النقل.

ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين و أرشدهم إلى الإنفاق الصحيح و بيّن لهم الوجه في الإنفاق ب:

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ .

التفات إلى خطاب الناس أو المؤمنين ليبيّن الباعث في الإنفاق و هو أمر فطري يبينه القرآن الكريم حثّا عليه و لذا كان الكلام خاليا عن أيّ من فنونه كالتبشير و الإنذار و نحوهما.

و الخير في المقام: ما كان من الطيب أو ما قصد به وجه اللّه تعالى.

أي: ما تنفقوا من خير فنفعه يعود إليكم و اللّه تعالى منزه عن الانتفاع بما تنفقون، و يمكن إقامة الدّليل العقلي على ذلك فإنّ نفع الإنفاق إما أن يرجع إلى اللّه تعالى أو إلى غير المنفق أو إلى نفس المنفق، و الأول مستحيل، لأنّ

ص: 381

اللّه هو الغنيّ المطلق، و الثاني ظلم و هو قبيح بالنسبة إليه تعالى، فيتعيّن الثالث مع تحقق الشرائط و فقد الموانع فالقضية من قبيل القضايا التي قياساتها معها.

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ .

بيان لعلة رجوع نفع الخير إلى نفس المنفق إذا كان لوجه اللّه تعالى فإذا كانت الغاية هي وجه اللّه تعالى دون غيره ففيه النفع العظيم و يعود إلى المنفق و إلا كان وبالا و حسرة.

و الجملة خبر بمعنى النهي، أي: لا تنفقوا الا لوجهه عزّ و جل أو حال عن ضمير الخطاب و عامل متعلّق الظرف أي: إنّ النفع يعود إلى أنفسكم في حال ابتغاء وجه اللّه به.

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ .

تثبيت للمدعى ببيان أوفى. و لفظ يُوَفَّ ظاهر في تأكد الوفاء، و أنّ الأمر من الحقايق التي لا تقبل الشك و الوهم، فهو تعالى يفي بما وعد به من الثواب في الدنيا و الآخرة، كما و كيفا و من سائر الجهات.

و إنّما أبهم الفاعل في قوله تعالى: يُوَفَّ لبيان أنّ الغرض من الانتفاع يعود إلى الفاعلين للإنفاق و ليس هناك فاعل غيرهم.

و ذكر بعض المفسرين أنّ هذه الجملة يُوَفَّ إِلَيْكُمْ مختصة بالآخرة فإنّ مثوبة الإنفاق توفى إليكم في الآخرة.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ .

أي: لا تظلمون في شيء من أمر الإنفاق لا في أصله و لا في نقصان الجزاء و لا في تأخيره عن محلّ الحاجة، و لا سائر خصوصياته فما تريدون و تطمئنون إليه من الربح و الزيادة و اصل إليكم و لا ينقص منه شيء.

273 - قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

مادة (حصر) تأتي بمعنى الضيق و المنع بلا فرق بين مناشئهما بحسب

ص: 382

أصل اللغة و قد تقدم في قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ [البقرة - 196]، بعض الكلام فيه فراجع.

و الآية المباركة تبيّن مصرف الإنفاق و الصدقات فإنّه تعالى بعد ما حث على الإنفاق بأبلغ أسلوب، و أتم وجه ثم بيّن ما يوجب و هن العزائم و أمرنا بالابتعاد عنه ثم ذكر ما يوجب الخلوص و الإخلاص فيه، ذكر في المقام مصرف الإنفاق و هم: الفقراء الذين منعوا عن شؤونهم الدنيوية في سبيل اللّه تعالى. و أطلق عزّ و جل الكلام لأنّ أسباب المنع في سبيل اللّه تعالى كثيرة منها ما هو عادي و منها ما هو عقلي و منها ما هو شرعي مثل المرض أو الاشتغال بأمر أهمّ ديني لا يسعه الاشتغال بالكسب أو كثرة العيلة و نحو ذلك مما هو في سبيل اللّه تعالى، كما يشمل منع كلّ مانع مباشريا كان أو تسبيبا و لو على نحو الاقتضاء.

و من ذلك يعرف أنّ الجار و المجرور متعلّق بالنفقة و الإنفاق المقدّر المذكور في الآيات السابقة مكرّرا.

و يستفاد من الآية الشريفة: ما ذكرناه آنفا من أنّ الأصل في تشريع الإنفاق هو الفقر و إن كان سبيل اللّه أعم من ذلك، فيكون ذكر الفقراء من باب بيان أحد المصارف، و قد وصفهم سبحانه و تعالى بأوصاف جليلة و عظيمة تدل على نبلهم و شدة ما قاسوه في سبيل اللّه تعالى، و هي ست:

الأولى - الفقر كما قال تعالى: لِلْفُقَراءِ .

الثانية - الحصر في سبيل اللّه تعالى.

قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ .

هذه هي الصفة الثالثة فيهم أي: عاجزون عن الكسب و التجارة و نحوهما.

قوله تعالى: يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ .

هذه هي الصفة الرابعة. و مادة (حسب) تدل على الحكم على أحد

ص: 383

النقيضين بدوا و ترتيب الأثر عليه بلا تفكر في الطرف الآخر لا في الحال و لا في المآل. و هذه صفة رذيلة بخلاف الظنّ الذي هو ملاحظة الطرفين و الحكم بالراجح منهما، و قد يطلق الحسبان على الظن و بالعكس.

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى:

الم أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت - 2]، و قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ [آل عمران - 142].

و التعفف: التلبس بالعفّة و هي حالة تحصل للنفس تمنعها عن غلبة الشهوة و هي من الصفات الممدوحة و من مكارم الأخلاق، بل من علامات العقل

و في الحديث: «أفضل العباد العفاف» و لها مراتب كثيرة أعلاها:

استيلاء العقل على جميع القوى الشهوانية بحيث تأتمر النفس بأوامره و تنزجر عن نهيه و هي أعلى مراتب الإيمان لأنّ

«العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان». و «من» في قوله تعالى: مِنَ اَلتَّعَفُّفِ لابتداء الغاية أو لبيان الجنس.

و المعنى: يتخيل الجاهل بأحوالهم أنّهم أغنياء لكثرة ملازمتهم للعفّة و ترك سؤال الناس و إظهار حوائجهم إليهم.

و يستفاد من قوله تعالى: مِنَ اَلتَّعَفُّفِ الدال على كثرة ملازمتهم لهذه الصفة المبالغ فيها أنّهم غير متظاهرين بالفقر و لا يظهر عليهم أثر الحاجة و المسكنة الا ما خرج عن القدرة و ما لا سبيل لهم إلى ستره.

قوله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ .

هذه هي الصفة الخامسة و السيماء و السماء: العلامة أي: يعرفون بالعلامات الظاهرة الدالة على أحوالهم نظير

قول عليّ (عليه السلام) في وصف المتقين: «يخال مرضى و ما بالقوم من مرض» فكأنّ السيماء تكفي في تعريف حالهم و أنّهم في شدة الحاجة و الخصاصة.

ص: 384

و من توجيه الخطاب إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) دون الجميع فيه حفظ لشؤونهم و صون لجاههم لأنّهم أرادوا حفظ أنفسهم بالتعفف، و لا يستفاد من الآية الشريفة أنّ معرفة حالهم منحصرة بالسيماء فقط. بل لها طرق اخرى كما هو معلوم.

قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً .

هذه هي الصفة السادسة. و الإلحاف كالإلحاح لفظا و معنى، و أصله من اللحاف و هو ما يغطّي الإنسان و يحيط به، و كثرة السؤال مذمومة الا من اللّه تعالى فإنّه عزّ و جل يحب الإلحاح إليه في الدعاء.

أي: مع شدّة حاجتهم و تمادي الفقر بهم لا يسألون الناس سؤال الإلحاح.

و الجملة تحتمل معنيين:

الأول: أنّهم لا يسألون الناس إلا ما دعت الحاجة و الضرورة إليه أي:

نفي الإلحاف دون أصل السؤال.

و الثاني: أنّها كناية عن نفي السؤال أبدا لأنّ كثرة تعففهم أوجب الانقطاع عن الناس و عدم السؤال منهم أبدا، فيكون صرف السؤال و لو مرة واحدة منهم إلحافا كما في قوله تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت - 46]، فإنّ صرف انتساب الظلم إليه منشئ لصدق الظلاّمية بالنسبة إليه جلّ جلاله و ذلك كثير في الاستعمالات الفصيحة و الأساليب البلاغية فيستعظم الفعل لأجل أهمية الفاعل و عظمته و في الآيات المباركة و السنة الشريفة شواهد لما قلناه.

و الصحيح أنّ النفوس تختلف في ذلك فإنّ من انقطع إلى اللّه تعالى و لازم العفة بحيث ظهرت على جميع جوارحه و أفعاله و أقواله لا يسأل الناس أبدا لأنّه ينافي الانقطاع إليه عزّ و جلّ فضلا عن الإلحاف في السؤال الا إذا أذن الشارع فيه حفظا للنظام و لا ينافي ذلك فضل التعفف فيهم فإنّ السؤال قد يكون واجبا و قد يكون مندوبا.

ص: 385

و بهذه الصفة تنهي الآية الشريفة أوصاف الفقراء الذين تصرف الصدقات فيهم و هي أوصاف ممدوحة كلّ واحدة منها كافية لتهذيب النفس و توجب تخفيف ما يقاسونه من الفقر و الخصاصة و إذا اجتمعت هذه الأوصاف في فرد فهو القدر المتيقن من مصارف النفقات و الصدقات و لا يكفي ثبوت أصل الفقر في الإنفاق عليهم و أخذ الصّدقات و قد فصّلنا ذلك في الفقه من كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه تعالى عليم بما تنفقون من الخير يوفّيكم جزاءه.

و في الآية الشريفة وعد بالجزاء و المضاعفة، و ترغيب إلى الخير و تحذير عن سوء النية فإنّ اللّه عليم بنواياكم و حكمته البالغة و قضاؤه المبرم و قدره المحتوم على طبق علمه، فهذه الآية الشريفة على اختصارها متضمنة لجملة من القضايا المحكمة المشروحة في الكتاب الكريم و السنة المقدّسة.

274 - قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً .

أعظم آية تحث على الإنفاق و تبشّر المنفقين بعظيم الأجر و الثواب و خطاب إلهي للمنفقين بالأمن و الأمان.

و في الآية الشريفة بيان عموم الأوقات و الأحوال، و يمكن أن يكون ذكر الليل و النهار و السر و العلانية كناية عن الاستمرار على الإنفاق بحيث يصير طبيعة ثانية لهم.

و إنّما قدم سبحانه و تعالى الليل و السرّ على النهار و العلانية لبيان فضل صدقة السرّ لأنّ العمل فيهما أخلص للّه تعالى فيكون أقرب للقبول و إن كان الجمع بين الأربعة فيه للدلالة على أنّ لكلّ واحد منهما موضعا معينا.

و السرّ خلاف العلانية و هما من الأمور الإضافية و يلحظان بالنسبة إلى المخلوق و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فإنّ الجميع عنده علن لا تخفى عليه

ص: 386

خافية، بل السّرائر ظاهرة عند ذوي البصائر من عباده

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه».

و الآية الشريفة تدل على اهتمام المنفقين بالبذل و العطاء ليشمل جميع الأوقات و الأحوال ليستوفوا عظيم الأجر و الثواب و توغلهم في كسب مرضاة اللّه تعالى و نصب أنفسهم في إرادة وجهه عزّ و جل و تزكية نفوسهم، و هم القليلون بين أفراد الناس، و لذا وردت روايات كثيرة بل متواترة بين المسلمين أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) و سيأتي في البحث الروائي نقل جملة منها.

قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ .

وعد حسن من الباري عزّ و جل بأجر عظيم لهم و كرّمهم بإضافتهم إلى نفسه، و الآية الشريفة تشعر بالرأفة و التلطف معهم.

و الأجر و الاجرة: ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال تعالى: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيا [العنكبوت - 27]، و قال تعالى: لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ [يوسف - 57]، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و لا تقال الا في النفع دون الضّرر بخلاف الجزاء فإنّه يستعمل فيهما معا قال تعالى:

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً [الدّهر - 12]، و قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ [الكهف - 106].

و جملة عِنْدَ رَبِّهِمْ جملة تشريفية و هي تدل على عدم تناهي الأجر من جميع الجهات الفاضلة كما يأتي.

قوله تعالى: وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

أي: لا خوف عليهم ممّا هو الواقع و لا هم يحزنون من المتوقع و نفي جنس الخوف و الحزن يشمل جميع الأحوال و الأزمان من الدنيا و البرزخ و النشر و الحشر إلى عالم الخلود في الجنة الذي هو عالم الكمال و نشأته و ظهور الحق بالحق.

ص: 387

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الكريمة على أمور:

الأول: يستفاد من الآيات الشريفة أهمية الإنفاق في الإسلام، فقد ورد ذكره في مواضع كثيرة من القرآن تبيّن جميع ما يتعلّق بشؤونه و جهاته من المنفق، و المنفق عليه، و المال المنفق، و زمان الإنفاق، و حالاته، و الإخلاص فيه، و ما يشوبه من الأوهام و التخيلات و كلّ ما يستلزم بطلانه و إذهاب أثره، و هذه الآيات هي أجمع ما ورد في هذا الأمر، و قد شرحت السنة الشريفة ما يتعلّق به شرحا وافيا قلّما يوجد في غيرها، و قد وعد سبحانه و تعالى في هذه الآيات عظيم الأجر و الثواب للمنفقين، و كرّمهم أن نسبهم إلى نفسه، فقال تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، و بشرهم بإذهاب الخوف و الحزن عنهم و هو غاية ما يطلبه الإنسان الضعيف الذي تحيط به المكاره و الآفات و ما يرد عليه من الأهوال في العوالم المختلفة و لذا نرى أنّ مثل هذه البشارة لا تكون إلا في أمور مخصوصة.

و عقب سبحانه و تعالى الآيات المتقدمة التي بيّن عزّ و جل فيها إحياء الموتى و كيفية الحشر و النشر بهذه الآيات، لأنّها تتضمن نحوا آخر من الحياة،

ص: 388

و هي الحياة الحاصلة من الإضافة إلى الحيّ القيوم و الملك القديم الديموم تلك الإضافة الإشراقية أو الإضافة التشريفية، فإنّ الإضافة إلى القيّوم المطلق تجذب المضاف من المادة إلى الحق، و تهيؤه للسفر من الحق إلى الحق، و يشتد ذلك و يضعف باشتداد تلك الإضافة و ضعفها. و ربما يكون أسرع من طرفة عين و ربما يبطئ كثيرا لموانع في البين، و هي كلّ الأشياء فما ذا وجد من فقدها و ماذا فقد من وجدها.

الثاني: إنّما أطلق عزّ و جلّ «سبيل اللّه» ليشمل كلّ سبيل موصل إليه تعالى بلا اختصاص له بمورد خاص أو مخصوص، و ينطبق على كل ما لم يكن منهيا عنه شرعا و يوجب كمال الإنسان بالكمالات المستفادة من الكتاب و السنة، و يشترط في كونه سبيل اللّه إحراز رضاء الرب و الإنفاق في سبيل اللّه إنّما يكون له صفة الديمومة و البقاء لإضافته إلى اللّه تعالى الأزلي الأبدي، و في غير هذه الصورة يكون الإنفاق هباء منثورا.

الثالث: إنّما أضاف سبحانه الأموال إلى الناس في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مع أنّ المال في الواقع و الحقيقة له عزّ و جل لأنّه المنعم عليهم، لتقرير الملكية الدائرة بين الناس، و لإثبات التجارة الرابحة فينفقون أموالهم للّه تعالى و هو عزّ و جل يعوّضهم بأجزل ثواب و أعظم أجر فيكون إعلانا للاسترباح عن سلطان لا حدّ لسلطانه و ملكه، و بشارة للبذل و العطاء عن جواد لا نهاية لجوده و كرمه.

الرابع: إطلاق قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ يشمل الدنيا و الآخرة في الكم و الكيف أو هما معا، كما أنّه تعالى لم يقيّد ما ضربه من مثل السنبلة في الدنيا و الآخرة فهو شامل لهما.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أنّ الإنفاق في سبيل اللّه الجامع للشرائط و الفاقد للموانع يستلزم النماء و الأجر و الثواب، بل تدل الآيات الشريفة على أنّ كلّ ما يصدر من العبد في مرضاته عزّ و جل - قولا كان أو عملا أو مالا - في الدنيا لا بد أن يظهر في

ص: 389

عالم الآخرة لكن في صور ذلك العالم لما بين العالمين من الاتحاد، و يدل على هذه القاعدة القرآنية قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [البقرة - 110]، و تتفرع على هذه القاعدة قاعدة أخرى لها أهمية عظيمة في أبواب المعاد و هي إمكان تبدل الجواهر إلى الأعراض و بالعكس، و هذا مما يمكن صدوره من الطبيعة المسخرة تحت قدرة اللّه جلّت عظمته فضلا عن إبداعه جلّ شأنه و ربما تشاهد النفوس القدسية ذلك كمال الآخرة في الدنيا.

السادس: إنّما أطلق سبحانه و تعالى المنّ و الأذى في قوله تعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً و لم يحدّهما بحدّ معيّن لاختلافهما باختلاف الأشخاص و العادات و الأعصار و الأمصار و الحالات، و الإطلاق يشمل القول و الفعل و الكتابة و الإشارة، و كلّ واحد من عنواني المنة و الأذى يوجب حبط ثواب الإنفاق و بطلانه، و سيأتي الكلام في الحبط في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

السابع: يستفاد من عظيم الأجر الذي وعد به عزّ و جل على الإنفاق الذي لم يلحقه المنّ و الأذى أنّهما من أقبح الرذائل يحبطان الإنفاق و يذهبان أثره، فكلّ ما يترتب على الإنفاق من المحاسن و الآثار الحسنة الفردية و الاجتماعية و النفسية يذهبه المنّ و الأذى، بل كلّ واحد منهما يؤثر في النفس و الفرد و المجتمع آثارا سيئة يكفي الواحد منها في هدم السعادة المرجوّة، و لذا ورد في الشرع الحنيف الحث على الابتعاد عنهما، بل ذكر علماء الأخلاق أنّ أثر المنة و الأذى يسري إلى النسل و الأعقاب، فيوجب ذلك حرمانهم عن جملة من الخيرات، كما أنّ أثر المعاشرة معهم بالمعروف توجب توفيقهم للخيرات و الاستباق إليها.

و ترك المنّ و الأذى هو من فروع الإحساس بالمسؤولية بالوظيفة التي كلّف الإنسان بها، فإنّ الإنفاق الذي هو فعل الإنسان لا بد له فيه أن يحسّ بمسؤوليته من الجهات المعتبرة شرعا و عقلا، من عدم المنة و عدم الأذية، و الإخفاء، و أن يستقلّه و إن كان كثيرا، و أن لا ينظر إلى عوضه الدنيوي فإنّ له

ص: 390

عند اللّه الأجر العظيم فأساس تحسين كلّ حسنة هو الإحساس بالمسؤولية، كما أنّ أساس ارتكاب كلّ سيئة هو الغفلة عنها. أو الاستقامة التي أمر اللّه تعالى نبيه و أصحابه بها في قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ [هود - 112]، و هي العدالة التي هي عبارة عن مخالفة الهوى و صون النفس و إطاعة أمر المولى و هو ما يسميه جمع بالعرفان.

فالمنّ و الأذى من أرذل الصفات و أخسها و أقبح الأخلاق و أدونها يضرّان بالشخص و المجتمع بل الأذى من أظهر صفات السباع و الحيوانات الكاسرة و هما من المفاهيم الإضافية المختلفة باختلاف الحالات و الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة.

كما أنّهما من الأمور القصدية و قد يكونا من الأمور الانطباقية القهرية أيضا.

الثامن: يدل قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ على خلق كريم من مكارم الأخلاق، و هو الرد الجميل أو العفو و الإغماض عن السائل إذا لم يجد ما يبذله له، بل يستفاد من الآية الشريفة أنّ الرد كذلك أولى من الصدقة التي يتبعها أذى فإنّ مفسدة الأذى تذهب بمصلحة الصدقة فيكون فعلا شنيعا بخلاف الرد الجميل قولا كان أو غيره.

التاسع: تدل الآية الشريفة: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى على حبط المنّ و الأذى للصدقة و هذا هو مورد خاص خرج بالدليل و أما في غير ذلك فلم يقم دليل على إحباط كلّ معصية أو الكبيرة لما يسبقها من الطاعات ما عدا الشرك و سيأتي القول في الحبط في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

العاشر: يدل قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ على أنّ المرائي لا يؤمن بما يدعو اللّه تعالى إليه في أمر الإنفاق و ما يعد عليه من الأجر الجزيل، و بعبارة أخرى إنّ كفره كان جهتيا أي الكفر في أمر الإنفاق و ثوابه فلو كان مؤمنا لقصد اللّه تعالى و اختار جزيل

ص: 391

الثواب و لم يقصد رئاء الناس فلم يكن كفره باللّه و اليوم الآخر رأسا و بالكلية و الا لكان المناسب أن يقول: «و لم يؤمن باللّه و اليوم الآخر».

و كيف كان فالمستفاد من الآية الشريفة: أنّ الرياء في عمل من لوازم عدم الإيمان باللّه و اليوم الآخر بالنسبة إليه.

الحادي عشر: يدل قوله تعالى: اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ بعد ذكر الإنفاق رياء و الإنفاق الذي يتبعه المنّ و الأذى على أنّ المراد من مرضاة اللّه هو عدم كون الإنفاق من أحدهما و هو الإنفاق لوجه اللّه الخالص من كلّ ما يوجب الفساد و البطلان ثم البقاء على ذلك في النفس بحيث لا يعترضه ما يبطله و يفسده، فأحد القيدين يتكفّل حدوث النية الخالصة، و الثاني يتكفل البقاء و الاستمرار على تلك النية و هو قوله تعالى:

وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ . و هذا يدل على أنّ في النفس حالات كثيرة تمنعها عن التفكر و التبصر فأمر سبحانه بالتثبت و التفكير.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ حالتان إحداهما حالة الاستغناء و الطمأنينة و الراحة، و الثانية حالة الإعواز و الاضطراب و شدة الحاجة.

فالأولى تتمثل في الإنفاق في وجه اللّه تعالى الخالص من كل ما يوجب فساده و زوال أثره.

و الثانية تتمثل في الإنفاق مع المن و الأذى، و قد ذكرنا في التفسير ما يتعلق بهذه الحالة فراجع.

الثالث عشر: يدل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ على أنّ ما يتقرب به إلى اللّه تعالى و ما يرجى منه ارتفاع الدرجات لديه لا بد أن يكون منزّها عن الشرك و النقص، و أن يكون نقيّا من كلّ دنس، فالتصدق من المال الحرام أو المشتبه لا يكون إلا وبالا على صاحبه، و كذا سائر الأعمال التي يؤتى بها لوجهه الكريم، مع أنّ جميع ما يصدر من العبد يدخر عوضه له أضعافا كثيرة، فبذل الخبيث و الرّدي خلاف العدل و الإنصاف

ص: 392

هذا إذا كان مشتملا على الطيّب و الخبيث. و أما لو كان جميعه من الخبيث فلا بأس بالإخراج منه لأنّ المنساق ما إذا كان المال مشتملا على الخبيث و غيره و قصد خصوص الأول لدناءة النفس.

الرابع عشر: يدل قوله تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ على أنّ سبب البخل و الإمساك عن بذل الطيّب خوف الفقر الذي يوجب التثاقل، و الاستمرار عليه يستلزم ظهور ملكة البخل فيؤدي إلى تعطيل أوامر اللّه تعالى و الاستهانة بها، و هو الكفر باللّه العظيم، و قد أرشدنا اللّه تعالى إلى بطلان ذلك و أنّ الشيطان هو الذي يعد الإنسان الفقر و هو من وساوسه و حبائله التي توهن عزيمة الإنسان و الشيطان لا يعد إلا الباطل و الضلال، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً .

و قد ذكر سبحانه الوعدين أحدهما وعد الشيطان و الآخر وعد اللّه ليفكر الإنسان فيهما و يعتبر منهما و يختار ما هو الأصلح له بعد بيان طرق الصلاح و الهداية و طرق الفساد و الغواية. و هذه الآية الشريفة من الآيات التي تدل على اختيار الإنسان في أفعاله.

الخامس عشر: يدل قوله تعالى: يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً على أهمية الحكمة و عظم منزلتها فإنّها من مواهبه التي يمنحها لمن يشاء من خلقه و هي من الخير الكثير.

و إنّما ذكر سبحانه هذه بعد بيان حال الإنفاق و ما يستلزمه في حياة الإنسان الشخصية و الاجتماعية، للإرشاد إلى أنّ ما ذكر هو من الحكمة التي لا بد من مراعاتها و التعهد بحفظها و العمل بما أنزل اللّه تعالى ليمكن الوصول إلى السعادة الأبدية و الكمال المنشود.

السادس عشر: يستفاد من ذيل الآية الشريفة: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أنّ كلّ ما يقال في الحكمة هو دون وصفها و أنّه لا يمكن الوصول إلى كنهها و لا بد من وصفها بما وصفه اللّه تعالى من الخير الكثير، و هو لا يختص بالأعراض و لا بالجواهر المجرّدة من الممكنات بل تجل في حد الواجب

ص: 393

بالذات فإنّه جلّت عظمته حكيم، و الحكمة عين ذاته الأقدس. فللحكمة مظاهر مختلفة و متفاوتة و أتم مظاهرها القرآن الكريم و حملته العاملون به، فهي الخير الكثير سواء في ذاتها أو في غايتها أو في ظهورها و تجليّاتها فهي بجميع شؤونها خير كثير و لا يمكن لأحد الاستغناء عن الخير فضلا عن الكثير منه.

السابع عشر: يدل قوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أنّ ترك الإنفاق على الفقراء و المحتاجين مع احتياجهم إليه أو اشتمال الإنفاق على ما لا يرتضيه اللّه تعالى ظلم كبير غير مرضيّ له تعالى، و لا يقبل التكفير و الشفاعة الا برد الحق إلى أهله، و نفي النصرة عن الظالمين لا يختص بالدنيا أو الآخرة بل يشمل جميع أنحاء النصرة و الإعانة.

الثامن عشر: يدل قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ على أنّ كلّ واحد من الإظهار و الإخفاء صحيح و لا بأس به، لأنّ في كلّ واحد منهما آثارا حسنة و قد مدح اللّه عزّ و جلّ المنفقين بكلّ واحد منهما إلا أنّ الإخفاء إلى الإخلاص أقرب، و كلّما كان كذلك كان أقرب إلى القبول و لذا كانت صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن.

التاسع عشر: يستفاد من قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ شدة ما قاساه الرّسول (صلّى اللّه عليه و آله) في أمر الإنفاق من أمته حتى وصل الأمر إلى التهديد و الإيعاد و الخشونة في هذا الأمر المهم، و لذا كان في الكلام ما يطيب به خاطره (صلّى اللّه عليه و آله) و يخفّف عن شدة الصدمة عليه، و الجملة متعرضة لبيان شدة اهتمام الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بهداية أمته و هو الرسول الأمين الرؤوف.

العشرون: يدل قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ على حقيقة من الحقائق القرآنية و هي أنّ نفع الإنفاق ليس أمرا وهميا بل هو أمر حقيقي واقعي يوفيه اللّه تعالى في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما يختلف حسب اختلاف درجات الإنفاق في الاختلاف و سائر الشؤون، و لذا طوى ذكر الفاعل لبيان هذه الجهة.

ص: 394

الحادي و العشرون: إطلاق قوله تعالى: أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ يشمل جميع مراتب الإحصار و لعلّ من أهمها حصر النفس للتفقه في الدّين و العمل بما جاء به سيد المرسلين فإنّه السيما الذي في قوله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ و يدل أيضا على كفاية السيما في إحراز الفقر و عدم الاحتياج إلى شيء آخر ما لم يعلم الخلاف خصوصا في أهل العفاف و الكفاف.

الثاني و العشرون: يستفاد من الآية الشريفة لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا أنّ الأصل في مصرف الصّدقات الفقراء كما عليه الفقهاء خصوصا هذا القسم منهم و هذا يدل على كثرة عناية اللّه تعالى بمن أحصر في سبيله.

الثالث و العشرون: يستفاد من قوله تعالى: أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ شدة المجاهدة النفسانية فإنّ العفة شيء و التعفّف شيء آخر و الثاني أشد لكثرة الملازمة حتى صار خلقا للعفيف.

الرابع و العشرون: يستفاد من قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً كثرة الملازمة للإنفاق حتّى صار ذلك خلقا لهم و قد وعدهم عظيم الأجر، و قد ختم سبحانه و تعالى الكلام بما وعد به أولا و فيه من براعة الأسلوب و الحث على الإنفاق ما لا يخفى.

ص: 395

بحث روائي

في المحاسن عن عمر بن يزيد قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف اللّه تعالى عمله لكلّ حسنة سبعمائة و ذلك قول اللّه: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب اللّه فقلت له: و ما الإحسان ؟ قال (عليه السلام): إذا صلّيت فأحسن ركوعك و سجودك، و إذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك، و إذا حججت فتوقّ ما يحرم عليك في حجك و عمرتك. قال (عليه السلام): و كلّ عمل تعمله للّه فليكن نقيّا من الدّنس».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) «إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف اللّه له عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف و ذلك قول اللّه تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ .

أقول: دوران مراتب القبول مدار كمال العمل معلوم عقلا و شرعا و يكفي في ذلك قوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ و النصوص في ذلك متواترة و الأدلة العقلية شاهدة على ذلك.

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أخرج ابن ماجة عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، و أبي الدرداء، و أبي هريرة، و أبي أمامة الباهلي، و عبد اللّه بن عمر، و جابر بن عبد اللّه و عمران بن حصين كلّهم يحدّث عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «من أرسل بنفقة في سبيل

ص: 396

اللّه و أقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم. و من غزا بنفسه في سبيل اللّه و أنفق في وجهه ذلك فله بكلّ درهم سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه الآية:

وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ .

أقول: يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أنّ منشأ التضاعف لا بد و أن يرجع إلى نفس العامل من الكمالات الموجودة فيه و الإخلاص الحاصل له و غير ذلك.

و في الدر المنثور أيضا أخرج عبد الرزاق عن أيوب قال: «أشرف على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل اللّه فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) أو ليس في سبيل اللّه إلا من قتل ؟ ثم قال: من خرج في الأرض يطلب حلالا يكفّ به والديه فهو في سبيل اللّه، و من خرج يطلب حلالا يكفّ به أهله فهو في سبيل اللّه، و من خرج يطلب حلالا يكفّ به نفسه فهو في سبيل اللّه، و من خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان».

أقول: ثبت إجماع المسلمين على أنّ المراد من سبيل اللّه مطلق سبل الخير و وجوه البرّ و لعلّهم أخذوا ذلك عن مثل هذه الرواية الشريفة.

و في المجمع في قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ الآية عامة في النفقة في جميع ذلك أي في الجهاد و غيره من أبواب البر، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)».

أقول: يجري فيه ما ذكرنا في سابقه و الروايات في ما ذكره كثيرة.

في تفسير القمي في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ عن الصادق (عليه السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته، ثم ضرب اللّه فيه مثلا فقال:

ص: 397

كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ .

و قال (عليه السلام): من أكثر امتنانه و أذاه لمن يتصدّق عليه بطلت صدقته، كما يبطل التراب الذي يكون على الصّفوان، و الصّفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في مفازة فيجيء المطر فيغسل التراب منها و يذهب به فضرب اللّه تعالى هذا المثل لمن اصطنع معروفا ثم أتبعه بالمنّ و الأذى.

و قال الصادق (عليه السلام): «ما من شيء أحبّ إليّ من رجل سلفت منّي إليه يد أتبعتها أختها. و أحسنت بها له، لأنّي رأيت منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل، ثم ضرب مثل المؤمنين الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه و تثبيتا من أنفسهم عن المنّ و الأذى قال: وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

قال: مثلهم كمثل جنّة أي: بستان في موضع مرتفع، أصابها وابل أي:

مطر فآتت أكلها ضعفين، أي: يتضاعف ثمرها كما يتضاعف أجر من أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه و الطّلّ ما يقع باللّيل على الشجر و النبات

و قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): و اللّه يضاعف لمن يشاء لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه قال:

فمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه ثم امتنّ على من تصدّق عليه كان كما قال اللّه تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ اَلْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ قال (عليه السلام): الإعصار الرياح فمن امتنّ على من تصدّق عليه كان كمن له جنة كثيرة الثمار و هو شيخ ضعيف و له أولاد ضعفاء فيجيء ريح أو نار فتحرق ماله كلّه.

أقول: لفظ «أسدى» بمعنى أعطى و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه».

و لفظ معروف يشمل المال و العمل و القول، و ذيل الرواية يرشد إلى أهمّ الأمور الاجتماعية إذ كلّ معروف لا بد و أن يتدارك عند المجتمع الإنساني

ص: 398

و حينئذ يبقى المعروف دائميّا و مستمرّا و لا يضمحل أبدا، كما هو ذيل الحديث.

ثم إنّ الروايات في تدارك النّعم و الهدايا بمثلها أو بأحسن منها كثيرة، و الظاهر موافقة ذلك للفطرة، لأنّ المنع من المنعم عليه يوجب سلب النعمة بين الناس و إدبارها و إنّ التدارك يوجب الترغيب في استمرار النعمة و الهدية فإنّ الناس أبناء ما يحسنون.

و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر و الحاكم في صحيحه: «أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) سأل البراء بن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على أمك ؟ - و كان موسعا على أهله - فقال يا رسول اللّه ما أحسنها؟! قال: فإنّ نفقتك على أهلك و ولدك و خادمك صدقة فلا تتبع ذلك منّا و لا أذى».

أقول: يشهد لذلك جملة أخرى من الروايات و منها يستفاد أنّ المنّ و الأذى في الإنفاقات الواجبة يوجب زوال ثوابها بل قد يوجب بطلانها رأسا.

و في تفسير المجمع عن الصادق (عليه السلام) عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل اللّه صدقته».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال:

«من الذهب و الفضة، و مما أخرجنا لكم من الأرض قال: يعني من الحب و التمر و كلّ شيء عليه زكاة».

أقول: يستفاد من هذه الرواية وجه التعميم للنفقات الواجبة و المندوبة أما الأولى فمثل الزكاة المتعلّقة بما هو واجب، و أما الثانية فما تعلّق بما هو مندوب كما فصّل في الفقه.

ص: 399

في الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيء قوم بألوان من التمر، و هو أردأ التمر يؤدونه عن زكاتهم، تمر يقال له: الجعرور و المعافارة قليلة اللحاء عظيمة النوى، و كان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيّد فقال رسول اللّه: لا تخرصوا هاتين النخلتين و لا يجيئوا منها بشيء، و في ذلك نزل: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ و الإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين».

أقول: ما ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) موافق للوجدان الإنساني من أنّ الإنفاق إلى المحبوب و إيصال شيء له لا بدّ أن يكون من شيء محبوب و مرغوب.

و في رواية أخرى عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى:

أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ فقال: «كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى اللّه تبارك و تعالى إلا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا».

أقول: هذا صحيح فإنّ الطيب يشمل عدم خبث المادة و عدم الحرمة فلو أنفق أحد من أطيب ما عنده و لكن كان ذلك حراما أو مشتبها يصير الإنفاق من الخبيث.

و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي في صحيحه، و ابن ماجة، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه و الحاكم في صحيحه، و البيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: «نزلت فينا معشر الأنصار كنّا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته و قلّته و كان الرجل يأتي بالقنو و القنوين فيعلّقه في المسجد، و كان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر و التمر فيأكل، و كان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص و الحشف، و بالقنو قد انكسر فيعلّقه فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ . قال: لو أنّ أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه الا عن إغماض و حياء قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده».

ص: 400

و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي في صحيحه، و ابن ماجة، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه و الحاكم في صحيحه، و البيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: «نزلت فينا معشر الأنصار كنّا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته و قلّته و كان الرجل يأتي بالقنو و القنوين فيعلّقه في المسجد، و كان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر و التمر فيأكل، و كان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص و الحشف، و بالقنو قد انكسر فيعلّقه فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ . قال: لو أنّ أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه الا عن إغماض و حياء قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده».

أقول: القنوة: العذق بما فيه الرطب، و الشيص التمر الضعيف الذي لم يشتد نواه أو لم يكن له نواة أصلا، و الحشف الفاسد من التمر قال الشاعر:

كأنّ قلوب الطّير رطبا و يابسا *** لدى و كره العنّاب و الحشف البالي

و في تفسير العياشي عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قوله تعالى: وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ قال: كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجيء قوم بألوان من التمر هو من أردإ التمر يؤدونه عن زكواتهم تمر يقال له: الجعرور و المعافارة قليلة اللحاء عظيمة النّوا. فكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لا تخرصوا هاتين و لا تجيئوا بشيء، و في ذلك أنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ و الإغماض: أن يأخذ هاتين التمرتين من التمر. و قال: لا يصل إلى اللّه صدقة من كسب حرام».

أقول: لأنّ الحرمة أخبث من كلّ شيء عند اللّه تعالى كما تدل الآيات المباركة و الروايات بل قد يوجب الضمان لصاحبه فهو وزر في وزر.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ قال (عليه السلام): «إنّ الشيطان يقول لا تنفقوا فإنّكم تفتقرون و اللّه يعدكم مغفرة منه و فضلا، أي: يغفر لكم إن أنفقتم للّه و فضلا. قال:

يخلف عليكم».

أقول: ما ورد في الرواية إنّما هو من باب الغالب و الا فقد يكون عدم الإنفاق لأجل جهات خارجية أخرى يرغبها الشيطان.

و في معاني الأخبار عن أبي عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)

ص: 401

«إنّي ربما حزنت فلا أعرف في أهل، و لا مال و لا ولد، و ربما فرحت في أهل و لا مال و لا ولد. فقال (عليه السلام): إنّه ليس من أحد إلا و معه ملك و شيطان، فإذا كان فرحة كان من دنو الملك منه، و إذا كان حزنة كان من دنو الشيطان منه، و ذلك قول اللّه تبارك و تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

أقول: حيث إنّ روح الإنسان ذو جنبتين جنبة مؤيدة بالعقل و الروحانيين، و أخرى قريبة من المادة و يكون بهما تنظيم نظام النشأتين فقربه إلى الملك يكون من الجنبة الأولى، و قربه إلى الشيطان يكون من الثانية.

و في الدر المنثور عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إنّ للشيطان لمة يا ابن آدم، و للملك لمة. فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشّرّ و تكذيب بالحق، و أما لمة الملك فإيعاد بالخير و تصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من اللّه فليحمد اللّه، و من وجد الاخرى فليتعوذ باللّه من الشيطان، ثم قرأ: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ .

أقول: اللمة: الخطوة و القرب و الهمة، و باقي الحديث ظاهر معلوم.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فقال (عليه السلام): «طاعة اللّه و معرفة الإمام».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الحكمة المعرفة».

و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «الحكمة المعرفة و التفقه في الدّين».

أقول: كل ذلك من التفسير بالمصداق، و تقدم ما يتعلّق بذلك.

و عن الصادق (عليه السلام): «الحكمة ضياء المعرفة، و ميراث التقوى، و ثمرة الصدق، و لو قلت ما أنعم اللّه على عباده بنعمة أعظم و أنعم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت: قال اللّه عزّ و جل: يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

ص: 402

و في الخصال عن الصادق (عليه السلام): «رأس الحكمة مخافة اللّه».

و في الكافي قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ما قسم اللّه للعباد شيئا أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، و إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، و لا بعث اللّه نبيّا و لا رسولا حتّى يستكمل العقل و يكون عقله أفضل من جميع عقول أمته و ما يضمر النبيّ في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين و ما أدى العبد فرائض اللّه حتّى عقل عنه و لا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، و العقلاء هم أولوا الألباب، قال اللّه تبارك و تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

و في الدر المنثور عن ابن عباس، و ابن جبير، و أسماء بنت أبي بكر و غيرهم بعدّة طرق: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام، و إنّ المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل اللّه تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فأجاز ذلك».

أقول: لو صح الحديث لكان المراد بنفي الهداية الإيصال إلى المطلوب من كلّ جهة كما تقدم.

و في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال (عليه السلام):

«ليس تلك الزكاة، و لكنّ الرجل يتصدق لنفسه، و الزكاة علانية ليس بسر».

أقول: فصّلنا ذلك في الفقه و قلنا: إنّ الواجبات إتيانها علانية أفضل من إتيانها سرّا بخلاف المندوبات، كما يأتي ما يدل على ذلك من الأخبار.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، و ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه و لو أنّ رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنا جميلا».

و عن الباقر (عليه السلام) في قوله عزّ و جل: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ قال (عليه السلام): «هي الزكاة المفروضة قلت: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ قال: يعني النافلة إنّهم كانوا يستحبّون إظهار الفرائض و كتمان النوافل».

ص: 403

أقول: لعلّ وجه ذلك أنّ إتيان الواجب علانية بعيد عن شبهة العجب و الرياء لفرض أنّه واجب على جميع المسلمين.

و في المجمع في قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ - الآية - قال أبو جعفر (عليه السلام): «نزلت الآية في أصحاب الصفة، قال:

و كذلك رواه الكلبي عن ابن عباس، و هم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، و لا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، و قالوا:

نخرج في كلّ سرية يبعثها رسول اللّه فحث اللّه الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل و عنده فضل أتاهم به إذا أمسى».

أقول: هذه الرواية من باب ذكر أحد المصاديق في أصحاب الصفة في مسجد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في تفسير العياشي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ اللّه يبغض الملحف».

أقول: الإلحاف في السؤال: الإلحاح فيه، و هو مبغوض إذا كان على غير اللّه تعالى، و أما الإلحاح على اللّه جلّ شأنه فهو محبوب له

ففي الحديث:

«إنّ اللّه يحب الإلحاح في الدعاء».

و في العيون عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ - الآية - إنّها نزلت في عليّ (عليه السلام).

و في الإختصاص مسندا عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) و ذلك كان عنده أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم سرّا و بدرهم علانية».

و روى الشيخ في التبيان. و العياشي في تفسيره مثله. و في المجمع:

و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهم السلام).

و روى الزمخشري في الكشاف مسندا، و الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس: «أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام)».

ص: 404

و رواه جمع غفير منهم الخوارزمي في المناقب، و الحافظ أبو نعيم، و الثعلبي في تفسيره، و الحمويني في فرائده، و ابن المغازلي

وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق، و عبد بن حميد، و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، و الطبراني، و ابن عساكر من طريق عبد اللّه بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس: «أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما، و بالنّهار درهما، و سرّا درهما و علانية درهما».

و في مناقب ابن شهر آشوب، و تفسير البرهان روى ذلك عن ابن عباس، و السدي، و مجاهد، و الكلبي، و ابن صالح، و الثعلبي، و الطوسي، و الواقدي، و الطبرسي، و الماوردي، و القشيري، و الثمالي، و النقاش، و الفتال، و علي بن حرب الطائي، و عبد اللّه ابن الحسيني في تفاسيرهم.

أقول: الروايات الدالة في أنّ الآية الشريفة نزلت في عليّ (عليه السلام) متواترة بين المسلمين كما تقدم بعضها.

و روى الواحدي و السيوطي في الدر المنثور عن الطبراني و ابن أبي حاتم «أنّ الآية نزلت في أصحاب الخيل الذين يعلفونها في سبيل اللّه».

أقول: على فرض صحة الرواية لا بأس بكونه من أحد المصاديق و يكون علي (عليه السلام) رأس النزول و منشأه و البقية من باب التطبيق.

و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن سعيد بن المسيب «أنّها نزلت فى عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف إذ أنفقا في جيش العسرة».

أقول: يمكن أن يقال: بأن يكون للنزول منشأ انبساطي يكون بعض أفراده هو المنشأ الأول و ينبسط على جميع ما يصلح لذلك فما هو مورد النزول، و وجهه في المرتبة الأولى إنّما هو عليّ (عليه السلام) فينطبق على غيره بحسب المراتب و الشأن إذا لا منافاة بين هذه الأخبار إذا لوحظ النزول بوجه انبساطي كلّي و كان منشأه عليّا (عليه السلام).

و في بعض التفاسير: «أنّ الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين الف دينار عشرة بالليل، و عشرة بالنهار، و عشرة بالسرّ، و عشرة بالعلانية».

أقول: تقدم ما يرتبط بذلك.

ص: 405

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الفقهية التالية:

الأول: أنّ الإنفاق و الصدقات مطلقا واجبة كانت أو مندوبة متقوّمة بقصد القربة فما لم تضف إلى اللّه تعالى تكون باطلة، و لا تبرأ الذمة لو كانت من الصدقات الواجبة و تجب الإعادة، و قد ذكرنا أنّ الإضافة إليه عزّ و جل في كلّ عمل بمنزلة روح ذلك العمل.

الثاني: إطلاق الآيات الشريفة الواردة في الإنفاق المالي في سبيل اللّه يشمل الإنفاق الواجب - كالزكاة، و الخمس، و الكفارات المالية و النفقات الواجبة، و الإنفاق المندوب كأصل الوقف و السكنى و العمرى و الوصايا و الهدية و الهبة و غيرها.

و يشترط في قبول جميع ذلك قصد سبيل اللّه تعالى و الإخلاص فيها و على قدر الإخلاص يتحقق مقدار الثواب و ما أعدّه اللّه تعالى من عظيم الأجر و عدم إبطالها بالمنّ و الأذى.

و الإنفاق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة التكليفية فهو إما مباح أو واجب أو مندوب أو مكروه أو حرام و الأخير لا وجه له إلا العصيان و استحقاق العقاب، و البقية إن قصد بها وجه اللّه و سبيله ففيها الثواب و عظيم الأجر و إن خلت عن ذلك و خلت عن الرياء و ما يفسدها يصح أن يترتب الثواب أيضا،

ص: 406

و يترتب الثواب على الإنفاق المكروه بعد ما كان أصل الذات محبوبا و هو ليس بعادم النظير مثل الصلاة في الأمكنة المكروهة و الأزمنة المكروهة.

الثالث: إطلاق قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اَللّهِ يشمل القصد التفصيلي و هو معلوم لكلّ أحد و القصد الإجمالي الارتكازي كما إذا قصد الشخص أنّ كلّ ما يفعله من الأفعال المباحة في زمان معيّن يكون للّه تعالى ثم فعل فعلا غافلا عن هذا القصد لكن كان بحيث لو التفت إليه لكان بانيا على قصده فهذا أيضا من قصد سبيل اللّه.

و يكفي قصد سبيل اللّه عن النائب و الوكيل في تحقق الثواب ما لم يتحقق المنّ و الأذى فإنّهما يهدمان العمل و يبطلانه بل قد يحرم الإنفاق حينئذ لاشتماله على إيذاء الغير و هتكه.

و لا فرق في المنّ و الأذى بين ما إذا كان بعد الإنفاق بلا فصل أو معه، كان بعنوان المنّ و الأذى أو لم يكن و لكن انطبق العنوان عليه.

الرابع: إيذاء المؤمن و المنة عليه يجتمع فيه حق اللّه تعالى و حق الناس، لكثرة ما ورد في السنة الشريفة من عناية اللّه تعالى بشأن المؤمن فلا يكفي فيه مجرّد الاستغفار و التوبة ما لم يجلب رضاه.

الخامس: إطلاق قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى يشمل ما إذا حصلا من صاحب المال أو من وسيطه كالوكيل و النائب عنه، لأنّ المستفاد من مجموع الآية الشريفة أنّ ذاتهما مبغوضتان و من رذائل الصفات و خبائث الأخلاق مطلقا فالنّهي يشمل الجميع. و لكن لو قصد الموكل القربة و مرضاة اللّه تعالى و تنزه عن المنة و الأذية، و قصد الوكيل المنة و الأذية أثم الوكيل من دون أن يمحق ثواب أصل العمل.

السادس: تجب الإعادة في الصّدقات الواجبة لو كانت بعنوان المنّ و الأذى و لا تجزي لقوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى و النّهي في العبادة يوجب الفساد كما ثبت في محلّه راجع كتابنا (تهذيب الأصول).

السابع: يستفاد من قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ

ص: 407

مبغوضية الرياء و استلزامه بطلان العمل و يكون المرائي آثما سواء تعلق الرياء بجميع العمل أم بجزء من أجزائه أم بشرط من شروطه هذا إذا كان العمل عباديا، و أما إذا لم يكن المورد عبادة و لم يعتبر في تحققه قصد القربة فإنّه لا يوجب البطلان و لكنّه يوجب الحرمان عن الثواب.

و هو من رذائل الأخلاق و من الصفات الخبيثة جدّا ينافي الاستكمالات مطلقا و إنّه يرجع إلى إراءة غير الواقع بصورة الواقع، و يجتمع فيه أنواع من الأخلاق الذميمة، و الصفات الرذيلة، كالغش و المكر و الخديعة و غير ذلك و لعل تعدد أسمائه في السنة المقدسة كما تقدم لأجل تعدد مصاديقه، فهو من المقبحات الذاتية سواء كان بين الخلق بعضهم مع بعض أو بين الخلق و الخالق فإنّ قبحه أعظم و أشنع، و قد كنّي في علم الأخلاق ب (ام الخبائث) كما كنّي الخمر بذلك.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أنّ الحق نوعيّ لا أن يكون شخصيّا فليس للفقير أن يأخذ الخبيث و لا تبرأ ذمة المالك بذلك، و إطلاق الآية الشريفة يشمل الصّدقات الواجبة و الصّدقات المندوبة.

التاسع: إطلاق قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ - الآية يشمل المباشرة و التسبيب كما يشمل جميع أنحاء الإبداء و الإخفاء سواء كان في جميع الصّدقات أو في البعض، و تقدم أنّ الإبداء في الصّدقات الواجبة و الإخفاء في غيرها.

ص: 408

بحث عرفاني

العبودية الحقيقية للّه تعالى جوهرة كنهها الربوبية، و التفاني في مرضاة الخير المطلق خير مطلق، و يصير العبد بذلك محبوبا لدى الجميع من دون أن يكون في البين واسطة و شفيع، بل يصير العبد بها محبوب الممكنات و تشرق عليه الشوارق من ربّ البريات.

ألم تر أنّ البدر يشرق ضوؤه *** بصفو غدير و هو في أفق السما

فإنّ استغراق العبد في العبودية المحضة تلذذ من الجمال المطلق الأتم و استشعار بالكمال الأرفع الأهم فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، و في مثل هذه المرتبة تتحد الحقيقة و الفعل و الفاعل و حينئذ يقصر القلم عن البيان و يكل اللسان عن الكلام.

و حيث لا يجد المدّعون لعبودية اللّه تعالى هذا المقام في أنفسهم و يعترفون بعدم وجدانهم له فلا بد أن يعترفوا بعدم وجدانهم لمقام العبودية المحضة، فإنّ عدم المعلول يكشف عن عدم العلّة و كيف يصل أحد إلى هذا المقام و هو منغمر في الشهوات و أليف الغفلات.

و إنّما يعبد العابدون أهواءهم النفسانية التي أفنوا جميع حيثياتهم و شؤونهم فيها أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الفرقان - 43].

و العبودية الحقيقية هي التي تظهر آثارها على العبد فلا يصدر منه معصية

ص: 409

و لا يخطر في باله غير رضاء الرب و فيها

قال عليّ (عليه السلام) «اعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك و احذره أن يراك حيث نهاك».

و إنّها إذا استولت على القلب فلا يشغله شاغل من الشواغل المادية الدنيوية و لا يمنعه مانع من الإنفاق في سبيل اللّه تعالى فإنّ الخلق كلّهم عيال اللّه عزّ و جل.

و العبودية الحقيقية إضافة بين المعبود و العابد و هي دواء لجملة من الأمراض النفسانية الروحانية و فيها سرّ الخلوص و الإخلاص.

و العبد يبذل المال اليسير و الإنفاق في سبيل اللّه يرتبط بذلك مع عالم لا نهاية لعظمته و لا حدّ لجهة من جهاته فيتضاعف بنفس الإضافة التشريعية أضعافا مضاعفة لا في الدنيا فحسب بل في كلّ عالم يظهر فقر الإنسان الذاتي من كلّ جهة، و لو أردنا بيان الأدلة السمعية و الشواهد العقلية لطال المقام.

فالإنفاق إما لأجل حبّه من حيث هو كمال للإنسان كان الإنسان جوادا بنفسه أو لأجل رضاء اللّه تعالى أو لأجل حب المنفق عليه حبا يرجع إليه عزّ و جل فجميع ذلك يرجع إلى نفس العبد المنفق و يكون كمالا له و يستكمل به استكمالا حقيقيا تتبعه السعادة الأبدية و هي غاية خلق الخليقة و تلزم ذلك السعادة الدنيوية و الكمال الدنيوي الزائل فلا استكمال الا بالإضافة إلى الحيّ القيوم و كلّ من أهمل ذلك أهمل غاية خلقه و سعى في تعطيلها و تضييعها.

و الإضافة إلى اللّه تعالى لا بد أن تكون عن طريق الوحي المبين المنزل على سيد المرسلين، كما أنّ أصل العمل المضاف إليه يجب أن يكون كذلك و إليه تدعو جميع الآيات و السنة المقدسة و الأدلة العقلية.

و بذل المحبوب في مرضاة المحبوب من طرق إثبات خلوص المحبة و صفاء المودة، و يتضاعف ذلك حسب تضاعف عظمة المبذول له و أهميّة الوصول إلى قربه و رضوانه، و نفس هذه الإضافة توجب للباذل درجة رفيعة مع قطع النظر عن سائر الجهات و لذلك أجمل سبحانه و تعالى قوله: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ و قوله تعالى: تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [البقرة - 110]، فالعين

ص: 410

موجودة عنده سبحانه و تعالى و لا يعقل فناؤها لكن مع إضافات لا تتناهى و كلّ ما ورد فيه من التحديد فإنّما هو بحسب موجودات هذا العالم لا بحسب الواقع الذي يطلق عليه (عند اللّه) أو (عند الربّ ) و لا معنى للربوبية العظمى إلا تربية ما يصل إليه بما يليق به.

و أما الملكية، و المالكية، و الاختصاص فإنّها إذا لوحظت بحسب هذا العالم فهي قابلة للتغيّر و التبدل و لكن الإضافة الواقعية و هي سبيل اللّه و الحق المطلوب له باقية لا تزول بل تنمو و تزداد بالعناوين الخارجية و لا يحدها الزمان و المكان و لا غير ذلك من ملابسات الفعل.

و لذلك فكلّ إنفاق يصدر عن غير ذلك و لا يقصد به الحق المتعال يكون من ترجيح المرجوح على الراجح الذي هو قبيح عقلا و لا نصيب للفاعل منه في الآخرة فقد ذهب المال و بقي الحسرات.

ص: 411

بحث علمي
اشارة

الإنفاق من أعظم ما يهتم به الإسلام و هو من إحدى ركائزه و أصوله و قرين أهم العبادات و عدله في معظم آيات القرآن و قد ذكر في مواضع مختلفة من القرآن الكريم مؤكدا عليه بأساليب مختلفة مرشدا الناس إلى ما يتضمنه من المصالح و الحكم و تتجلّى أهمية هذا الأمر أنّه يمسّ الاجتماع الإنساني و يرفع كثيرا من مشاكله و آلامه و حاجاته، و يؤلف بين أفراده و يوقع التضامن بينهم ليكونوا كالبنيان المرصوص أمام عاديات الدّهر و نوازله و هذا ما اهتم به الإسلام فإنّ سعادة الفرد بسعادة النوع و الاجتماع، و هما في نظره على حدّ سواء، فلا سعادة لأحدهما بدون سعادة الآخر.

و الإنفاق بنفسه أمر فطري فإنّ مدّ يد المساعدة إلى بني النوع من غرائز الإنسان و لا يسع لأحد إنكاره و لكن هذا الأمر الفطري إن أهمل و ترك و لم يقترن بداع عقليّ أو شرعيّ خارجيّ لزال و أصابه الفناء أو قلّ داعويته كسائر الغرائز فلا يمكن الاستفادة منه، و لذا نرى أنّ بعض المذاهب الاقتصادية تذهب إلى إنكار الصّدقات و تشدد النكير عليها و تعتبرها من موجبات التخلف و الانهيار الاقتصادي و الخلقي للمجتمعات بينما نرى أنّ بعض المجتمعات لا تنكر الإنفاق و الصّدقات و لكن تعتبر الفقير عالة على المجتمع يجب التخلص منه.

و أما سائر المذاهب الاقتصادية فإنّ الأهم عندهم هو إزالة الفقر

ص: 412

و التفاوت بين الأفراد من المجتمع و وضعت نظريات متفاوتة في محو هذه الظاهرة أو الحدّ منها، و قد أيدت بعض السلطات الزمنية بعض هذه النظريات و حاولت تطبيقها على الحياة، و لكن جميعها لم تصل إلى الحل المنشود بل تراجع كثير منها أمام المشاكل و ما جلبتها من الشقاء و الفساد و هو ما نراه اليوم في كثير من المجتمعات.

و لكن نظر الإسلام في الإنفاق يختلف عن جميع ما وضعه الإنسان في هذا المجال حتّى اليوم، فهو ينظر إلى الإنفاق من جوانب ثلاثة متكاملة لا يصح النظر إلى جانب و الإغماض عن بقيّة الجوانب فهي وحدة متكاملة باجتماعها يصل الإنسان إلى المطلوب و الا استلزم خلافه و حرم من الغرض الذي يترتب على الإنفاق و هي:

الجانب الاقتصادي:

الإسلام إنّما يريد من الإنفاق و الصدقات رفع الحوائج و إيجاد التكافل الاجتماعي. و تحقيق حياة نوعية متقاربة الأفراد متشابهة الأبعاض و ذلك برفع معيشة الفقراء الذين أعوزهم المال في رفع الحوائج و تقريبهم إلى الطبقة العالية أهل الغنى و الثروة و كبح جماح الأغنياء و عدم تمركز الثروة فيهم و في أيّ طبقة من طبقات المجتمع قال تعالى: ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الحشر - 7]، و حرّم الإسراف و التبذير بالزينة بغير المعروف.

و به ترتفع الحوائج، و يقل التفاوت الا ما كتبه اللّه تعالى بحسب الاستعداد و بذلك تنتظم شؤون الحياة و تترتب ترتيبا صحيحا يتضمن سعادة الإنسان و في ذلك يتحد أفراد المجتمع أمام الحوادث و عوادي الدهر فتحيى فيهم ناموس الوحدة و التعاون و يرتفع التباغض و التنافر بين الأفراد، و قد أثبتت لنا هذه الحقيقة السيرة النبوية الشريفة على صاحبها آلاف التحية و الثناء ففي مدة زعامته (صلّى اللّه عليه و آله) للأمة سعى في إيجاد الوحدة الاجتماعية

ص: 413

المتكافلة و تحقيق الأهداف التي رسمها الإسلام في حياة الإنسان مما جعل هذه البرهة من الزمان نورا يسطو على جبين الدّهر و منارا يقتدى به لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب - 21].

الجانب التربوي:

و الإسلام ينظر في الإنفاق و الصّدقات إلى تربية الإنسان تربية واقعية حقيقية تقوم على التعاطف و التراحم بين الأفراد و التكافل بينهم و نبذ التفرقة و التنافر فأوجب الصّلة بين الأفراد و فتح أبواب الصّدقات و الإنفاق و حرّم الأذية و المنّ و البخل قال تعالى: وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [التغابن - 16]، و أكد على تحريم الرياء و النفاق فإنّهما يهدمان كلّ مروة في الإنسان و يزيلان أثر كلّ تربية و يجلبان كلّ فساد و قد عرفت كيف ضرب اللّه تعالى الأمثال لذلك في الآيات المتقدمة مما لا يدع مجالا للشك.

الجانب الأخلاقي:

فقد لاحظ الإسلام في الإنفاق كونه أمرا أخلاقيا يرشد إلى التخلق بأخلاق الكرام و التحلي بصفة الجود و السخاء و التزين بالملكات الفاضلة و الأخلاق الكريمة، و أنّه من الحكمة التي يؤتيها من يشاء من خلقه، و هذا ما أكدت عليه الآيات السابقة، ففي الإنفاق يجتمع كثير من مكارم الأخلاق. و به يمكن الإنسان ترويض نفسه و إرغامها على نبذ كثير من مساوي الأخلاق و التحلّي بمكارمها.

هذا موجز ما أردنا ذكره في الإنفاق في نظر الإسلام، و هذه هي حقيقة من الحقائق القرآنية التي عليها في معظم الآيات المباركة و السنة الشريفة و إنّ العمل بها يجلب السعادة في العاجل و الآجل و الإعراض عنها يوجب الحرمان و الشقاء و شيوع الفساد و الفحشاء، و هذا ما نراه اليوم في حياة الإنسان و قد صوّر لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض تلك الجوانب الخطيرة في هذه الحياة التعسة إذ

يقول (عليه السلام): «و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير

ص: 414

فيه إلا إدبارا و الشرّ فيه إلا إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلا طمعا فهذا أوان قويت عدته و عمّت مكيدته، و أمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟! أو غنيا بدّل نعمة اللّه كفرا؟! أو بخيلا اتخذ البخل بحق اللّه وفرا؟! أو متمرّدا كأنّ باذنه عن سمع المواعظ و قرأ». و ليس للمسلمين مناص الا الأخذ بمجامع الإسلام و العمل بما جاء به القرآن فإنّ بذلك ترتفع جميع المشكلات و يقهرون به أعداءهم و يتسلطون على من سواهم تسلّطا واقعيا غير قابل للنقض و الإبرام، و هذا هو أدب الإسلام الذي أدّب المسلمين حيث

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما آمن بي من بات شبعانا و جاره جائع»،

و قال أيضا: «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه» إلى غير ذلك مما هو كثير.

ص: 415

سورة البقرة الآية 275-281

اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَ.......

اشارة

اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) تتضمن الآيات الشريفة بعض أحكام الربا الذي كان شايعا في الجاهلية يتعاطاه اليهود و المشركون و قد شدّد اللّه سبحانه و تعالى في الربا بما لم يكن مثله في سائر الكبائر من الذنوب فهدّد بما يفزع الضمائر و يزلزل القلوب، فأكد الحرمة فيه و شدّد النكير على المرابين و الوعيد لمن استحل الربا و أصرّ على فعله.

و اعتبر القرآن الربا من أعظم أنواع الطغيان و أشد أنحاء العصيان و من

ص: 416

يرتكبه يكون محاربا للّه و رسوله. و هو يوجب شيوع الفساد و هدم النظام و فيه من الآثار السيئة المشومة التي تؤثر في الفرد و الاجتماع و فيه ضياع حق النوع.

و سياق الآيات الشريفة يدل على أنّها نزلت لتأكيد الحرمة السابقة التي لم يكن المسلمون يراعونها فهي لم تشرع حكما جديدا في الربا بل كان التشريع في الآية التي نزلت قبل هذه الآيات و هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران - 130]، و قبل هذه الآية نزلت آية أخرى تبيّن اتجاه الإسلام في هذا الأمر الخطير، فكانت كالتوطئة للتشريع الجديد قال تعالى: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ [الروم - 39]، و من ذلك يعلم أنّ الربا كان مبغوضا عند هذا الدّين الحنيف من حين حدوثه.

و يستفاد من المقابلة بين الربا في هذه الآيات السبع و الصّدقات التي تقدمت و الإنفاق الذي ذكر في الآيات السابقة عظم ما يترتب على الربا من الآثار السيئة كما يترتب على الإنفاق من الآثار الحسنة فإنّه نزول عن المال كلّه بلا عوض و لا رد تقرّبا إلى اللّه تعالى بخلاف الربا الذي هو استرداد للمال مع الزيادة، فكلّ ما فيه المصلحة يقابله كلّ ما في الربا من المفسدة، فهو يقابله في جميع الآثار و الفضائل و الرذائل و في كلّ العوالم.

و من ذلك يستفاد وجه الارتباط بين هذه الآيات و الآيات السابقة فإنّ فيها تحريضا على الإنفاق و توزيع الثروة بالعدل و الإنصاف و في هذه الآيات إزالة تمركز الثروة و إعدام الابتزاز و هدم التمايز إلا بالتقوى التي أمرنا اللّه تعالى بها في هذه الآيات مكرّرا.

ص: 417

التفسير

275 - قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ .

الأكل معروف و المراد به هنا: أخذ الربا و انتزاعه من مالكه و هو المدين.

و مادة (ربو) تأتي بمعنى الزيادة و الارتفاع و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم

و في الحديث: «من أجبى فقد أربى»

و في حديث الصدقة:

«إنّها تربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل».

و فيه «الفردوس ربوة الجنة» أي: أرفعها،

و منه أيضا: «فلا و اللّه ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها» يعني الطعام الذي دعا فيه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالبركة.

و شرعا: زيادة خاصة في القرض أو في بيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة كما فصّلناه في (باب الرّبا) من (مهذب الأحكام).

و مادة خبط تأتي بمعنى المشي على غير استواء، يقال لمن يتصرف و لا يهتدي: يتخبط خبط عشواء،

و في الدعاء «اللهم إنّي أعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان». و قال زهير:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب *** تمته و من تخطي يعمّر و يهرم

ص: 418

و يتخبطه مثل يتملكه و يتعبده أي: تتابع الخبط عليه بسبب مس الشيطان له، فتتابع سقوطه بحيث فقد رشده لا يميّز بين الخير و الشر و النافع و الضار.

و القيام خلاف القعود و المراد به في المقام: هو النهوض بأمور المعاش قال تعالى: لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد - 25].

و معنى قوله تعالى: كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ أي:

لا يقوم في امور المعاش و الحياة بالوجه الصحيح و النّهج القويم و ذلك لأنّ الإنسان بل سائر الحيوان قد أودع اللّه تعالى فيه قوة يميّز بها الخير من الشر و النافع من الضار و بها ينظم شؤون حياته باتساق و انتظام و بها يهتدي الإنسان في أفعاله و اعتقاداته و ينتفع من حياته بالوجه الحسن و ما كتبه اللّه تعالى فيها، فإذا اختلّت هذه القوة الدرّاكة المميّزة اختلت أفعاله و حركاته و أحكامه فلا يرشد إلى الصحيح منها و النافع كالمصروع الذي فقد فيه التمييز. فلا يقوم في معيشته بالوجه الصحيح النافع.

و فعل المرابي في أخذه الربا من الأفعال التي ليس فيها الخير و النفع و هو خلاف ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة و العقل في الأفعال فإنّه اختلاس و ابتزاز لأموال الناس من غير عوض فيكون في طرف زيادة و نقصان في الطرف الآخر.

و يمكن أن يكون مس الشيطان موجبا لاختلال نظمه و خبط في أموره في جميع النشآت، ففي هذا العالم يغلب عليه الوهم و الخيال و يبتعد عن الفطرة المستقيمة و القوة العاقلة فيرى كالمصروع، و في موقف الحشر يراه جميع الناس كذلك لأنّه عالم ظهور الحقائق و السرائر للجميع فيحشر المرابي كالمصروع و هذا من خواصهم و علاماتهم، فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في هذا العالم عند أهل الحقائق و البصائر و في عالم الآخرة عند كشف السّرائر. فلا يكون ما في هذا العالم الذي نحن فيه الا مادة واحدة تتبادل عليها الصّور و الأعراض، بل لا معنى لدار الكون و الفساد الا ذلك و كلّ ما في الإنسان من الصّفات الحسنة أو القبيحة الذميمة ستبدو و تظهر في الدنيا أو في الآخرة.

ص: 419

و عليه فلا يختص خبط الشيطان بخصوص الربا بل هو عام يشمل جميع المعاصي و الآثام و لعلّ في ذكر كلمة التشبيه في الآية المباركة إشارة إلى ذلك. نعم، للخبط مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا حسب مراتب المعاصي و المداومة عليها.

و خواص المعاصي و آثارها لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من علّمه عزّ و جل من أوليائه

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ على كلّ عاص من معصيته علامة تليق به فيعرف بها صاحبها و على كلّ مطيع من طاعته أمارة تليق به فيعرف بها صاحبها و ذلك معنى قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن - 39]. و قد ورد في القرآن الكريم و السنة الشريفة بعض تلك الآثار قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى [طه - 126]، و قال تعالى: وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه - 102]،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يبعث الشهيد يوم القيامة و أوداجه تشخب دما»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) في شهداء بدر: «زملوهم بدمائهم و ثيابهم فإنّهم يبعثون فيها يوم القيامة» و يمكن إقامة الأدلة العقلية على ذلك و يأتي في الموضع المناسب بيانها إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان فليس المراد من خبط الإنسان من مسّ الشيطان هو المعنى الظاهري الجسماني فقط أي: من مسه الشيطان فأصابه الخبل و الجنون فتكون حركاته على غير انتظام و اتساق بل المراد الأعم من ذلك و ما ذكرناه آنفا من عدم استقامة أفعال الإنسان و أحكامه و عدم تطابقها مع العقل و الفطرة المستقيمة فيشمل جميع وساوس الشيطان و مكائده و حيله و مصائده، فيكون استيلاء غير القوة العاقلة على أعمال الإنسان من أقوى جهات تخبطه بالمس.

و بالجملة: انعزال الإنسان عن العقل و الشرع يكون من مسّ الشيطان و إن كان في ظاهر الأمر صحيحا و في كمال الرخاء و السعة و لكنّه في الواقع قرين الفساد و أليف الشرور و الآلام و هذا ما نراه في عالمنا المعاصر، فإنّ

ص: 420

باستيلاء الربا و أكل المرابي له من دون أن يكون رادع يردعه قد جلب الشقاء و الدمار و استولى الفساد على أهل الأرض و يأتي في البحث العلمي تتمة الكلام.

و من ذلك يظهر أنّ الآية الشريفة لا تختص بحال المرابي في يوم القيامة و أنّ آكلي الربا يقومون كالصريع الذي تخبّطه الشيطان من المس و قد نقل في ذلك أحاديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بل يكون ذلك من مصاديق حال المرابي في يوم القيامة و أنّه أثر من آثار هذه المعصية الكبيرة كما عرفت آنفا فيكون للقيام معنى عاما يشمل القيام في الدنيا و هو النهوض بالأمر و القيام من القبر كما في الحديث.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا .

أي: إنّ أكلهم للربا و استحلالهم له أو إنّ الدليل على كونهم خابطين خرجوا عن جادة الصواب أنّهم قالوا في قياس باطل: إنّما البيع مثل الربا و لم يقولوا إنّما الربا مثل البيع الذي هو أقرب إلى الذهن فقد أمكن الخبط في نفوسهم و ظهر الاختلال على أفكارهم و أقوالهم فكان المعروف و المنكر لديهم سيان و قد شبهوا الربا الذي هو خلاف الفطرة المستقيمة بالبيع الذي هو المعروف بين العقلاء و هما نوعان متباينان، و لكن الخبط الذي استقر في نفوسهم جعلوا المأمور به كالمنهيّ عنه و هو قياس مع الفارق و هذا مثال لما ذكرناه سابقا من أنّ المراد من التخبط هو الخروج عن الفطرة و العقل سواء كان قوله تعالى مقول قولهم أو حكاية عن حالهم بالقول، فإنّه يدل على الخبط في كلامهم و عدم استقامة أفكارهم.

و قال بعض المفسرين إنّ المراد بقولهم إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا المبالغة في التشبيه كما في قول الشاعر:

و مهمه مغبرة أرجاؤه *** كأنّ لون أرضه سماؤه

و لكن فساد ما ذكره يظهر مما تقدم فإنّ التشبيه إنّما حصل من التخبط الحاصل لهم من مس الشيطان و الاختلال الناشئ في أفكارهم و قد ظهر

ص: 421

بطلان هذا القياس الذي هو خلاف المعروف في باب الأقيسة أيضا.

و مما ذكرنا يظهر الوجه فيما ذكره بعض آخر: من أنّ التشبيه بين البيع و الربا إنّما هو لأجل أنّهما مشتركان في الكسب و الفائدة و لكن في الربا واضح معلوم و في غيره موهوم.

قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا .

جملة مستأنفة أو حالية تدل على رد مزاعمهم الفاسدة. و البيع معلوم عند العرف و قد أحلّه اللّه لأنّ فيه الحكم و المصالح التي يستفيد منها النوع، و به ينتظم الاجتماع لشدة الحاجة إليه، و فيه تحفظ مالية الأموال و يستفيد المالك ما يقابل ملكه و تتحقق به رغباته فهو قائم بالعدل، فتكون حلية البيع موافقة للفطرة المستقيمة و سنة الاجتماع.

و إنّما حرم الربا لأنّه مبنيّ على الإجحاف و الظلم و الابتزاز و سد باب المعروف و كلّ واحد من ذلك يكفي في اعتبار الربا مخالفا للفطرة و الاستقامة في الحياة، فتكون الأحكام الإلهية مبتنية على الحكم و المصالح التي تجلب السعادة للإنسان في الدارين و يدل على ذلك القرآن الكريم و السنة الشريفة بل العقل أيضا و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

و الآية الشريفة غير مسوقة لتشريع حكم ابتدائي في البيع أو الربا بل سياقها يدل على الإخبار عن حكم سابق فيها كما عرفت سابقا، و لبيان خبط أفكارهم فإنّ الأمر لو كان كما يقولون لما اختلف حكم البيع و الربا، فيلزم إمّا بطلان حكمة الحكيم و هو محال أو بطلان زعمهم و هو معلوم و توطئة لما يأتي من الأحكام.

قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ .

الآية الشريفة تفتح أعظم أبواب رحمة اللّه جلّ جلاله و أوسعها و هو باب التوبة، و مفادها بيان حكم كلّي في كلّ معصية و هو أنّ الحكم إذا كان مشروعا و خالفه المكلّف بعمده و اختياره يوجب العصيان و استحقاق العقاب، فتجب

ص: 422

عليه التوبة. و أما إذا لم يكن الحكم مشروعا فلا موضوع للمخالفة و العصيان و لا مورد للتوبة لفرض عدم الحكم و انطباق مفادها على الربا يكون من انطباق الكلّي على المصاديق.

و الموعظة و الوعظ: الخبر المقرون بالتخويف، و عن الخليل: التذكير بما يرقّ له القلب. و المراد به هنا: بلوغ الحكم الذي شرّعه اللّه تعالى.

و الانتهاء: الانزجار و ترك الفعل المنهيّ عنه، قال تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ [البقرة - 193].

و السلف: المتقدم، و له ما سلف، أوله ما قد سلف. أي: يعفى عمّا صدر عنه سابقا فلا شيء عليه.

و المعنى: فمن بلغه نهي و زجر عن اللّه تعالى في الربا و انزجر و ترك الربا فله ما ارتكب منه في زمن الجاهلية فلا عقاب عليه في الدنيا و الآخرة و لا ضمان، كما ذكرنا في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).

و إطلاق قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ يشمل زمان تشريع الحكم و بعده فيعم كلّ جاهل بالحرمة ثم حصل له العلم بها و لو بعد نشر الإسلام و ظهوره.

و لكن الظاهر المنساق منه هو التوبة و سقوط العذاب عنه و أما حلية ما أخذه فيما سلف و جواز التصرف فيه بعد التوبة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة الا باستعانة السنة كما تعرضنا لبعضها في باب الربا، فالمعنى المستفاد من الآية المباركة سقوط أصل المعصية و منها الربا و أما التخلص من التبعات كالقضاء و الضمان و غيرهما فيحتاج إلى دليل خاص و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى: وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ .

أي: أنّ شأنه بالنسبة إلى التوبة و العذاب الاخروي و الضمان في الدنيا موكول إلى مشية اللّه تعالى فإن شاء قبل منه التوبة و إن شاء لم يقبلها و إن شاء وضع عليه بعض الأحكام و إن شاء عفا عنه فهو العالم بالحقائق و صدق النيات

ص: 423

يحكم بعدله فيه.

إن قيل: لا وجه لمشية العذاب قبل قيام الحجة.

يقال: الناس قبل قيام الحجة الظاهرية عليهم بإبلاغ الأحكام على قسمين:

الأول: القاصر غير الملتفت مطلقا حتّى بالنسبة إلى احتمال الضرر الاخروي.

الثاني: من احتمل الضرر الاخروي و هذا الاحتمال منجز في حكم العقل و له منشئية استحقاق العقاب بعد تمامية الحجة الظاهرية مع أنّ الربا مما يوجب اختلال النظام فيصير من القبائح العقلية.

قوله تعالى: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

أي: و من عاد إلى تعاطي الربا بعد تمام الحجة عليه مستحلاّ له يكون من الكافرين بما أنزله اللّه تعالى و هم من أصحاب النار هم فيها خالدون مع عدم التوبة الماحقة للذنب.

و يستفاد ما ذكرناه من المقابلة بين العود و بين الانتهاء الوارد في الجملة السابقة الذي هو بمعنى التسليم و البناء على عدم المخالفة فإنّها تدل على أنّ العود هو الرجوع إلى الذنب الذي لا ينتهي عنه بعد تمامية الحجة عليه، فيكون مصرّا عليه و هو في الواقع مستحل له و إن لم يظهره في كلامه الا إذا محقه بالتوبة هذا إذا كان المراد من العود ما ذكرناه.

و أما إذا كان المراد به مطلق الإتيان ثانيا مع عدم الاستحلال فيكون المراد بالخلود غير التأبيد بل بمعنى الركون كما

في حديث عليّ (عليه السلام) يذم الدنيا: «لمن دان لها و آثرها و أخلد إليها» أي: ركن إليها.

276 - قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ .

مادة (محق) تأتي بمعنى نقصان الشيء حالا بعد حال حتّى يفنى و محاق الشهر نقصانه، و هو مدة ثلاث ليال من آخر الشهر لخفاء نور القمر و نقصانه

ص: 424

فيها، و قد يطلق المحق على ذهاب أصل الشيء و فنائه كما

في الحديث «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة» و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم الا في موردين أحدهما المقام و الثاني في قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ [آل عمران - 141].

و الارباء التنمية و الزيادة،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ صدقة أحدكم تقع في يد اللّه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه - أي المهر - أو فصيله حتّى يجيء يوم القيامة، و إنّ اللقمة لعلى قدر أحد».

و المعنى: يذهب اللّه تعالى الربا و يفنيه و يمحو البركة فيه و ينمي الصّدقات و يزيدها على خلاف ما يتوهمه الناس فإنّهم يأخذون الربا طلبا لزيادة المال و اللّه يمحقه، و لا يتصدقون خوفا من نقصان المال و اللّه يزيده و ينميه، و لا يختص نقصان الربا و زيادة الصدقات في الدنيا و الآخرة بل هما عامان فيهما.

و الآية الشريفة ترشد إلى بعض المصالح و الحكم التي من أجلها حرّم اللّه تعالى الربا و أحلّ البيع و أباح الصّدقات و رغّب إليها فيكون المحق من الآثار اللازمة للربا كما أنّ الإرباء من الآثار اللازمة للصّدقات، و ذلك لأنّ الصّدقات و الربا أمران اجتماعيان يخصان الطبقة الفقيرة و المحتاجة من المجتمع، و هم الكثرة الكاثرة يؤثر فيها كل ما يزيد في عنائها، و يستفزها كلّ ما يمسّ مشاعرها، فتهب لنيل حقوقها و الدفاع عن حياتها و إن استلزم الفناء و الفساد، و أما إذا أحسن إليها هدأت و قابلتها بالإحسان و أثرت الأثر الجميل فيها و شاع الصلح و الوئام و تبتعد عمّا يثير الفساد و الإفساد و تكون كنفس واحدة تنتشر فيها الرحمة و المحبة و التعاون، و تعيش حياة سعيدة آمنة مطمئنة و يكون كلّ ذلك سببا لزيادة المال و إنمائه أضعافا مضاعفة، كما وعد اللّه تعالى في الدنيا و الأجر الجزيل في العقبى، و لذا حث سبحانه على الإنفاق و الصّدقات و أكد على إشاعتهما و إفشائهما.

و أما إذا أسيء إلى هذه الطبقة بما يزيد في عنائها و مشقتها و عجزها قابلوها بالنكاية و الانتقام غافلين عما يترتب من الآثار المهلكة التي توجب

ص: 425

الفساد و الدمار فتشيع العداوة و البغضاء، و يذهب الأمن و الأمان و يستولي على النفوس الانتقام فتزداد الأمراض و الآفات، فيتغيّر خلق اللّه فلا يسلم فرد أو مال من أن تصيبه آفة أو هلاك، و هذا هو معنى قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ و قد شهد التاريخ كثيرا من ذلك و تكفي واحدة من تلك العبر للاعتبار، و هو من ملاحم القرآن الكريم الذي صدع به و نبه المسلمين إليه.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل المحق و الإرباء بالنسبة إلى الآثار الدنيوية و الآثار الاخروية فلا تختص بعالم دون عالم فإنّ اللّه تعالى محيط بجميع العوالم.

كما أنّه لا يختص بمحق ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات كما يقول به بعض المفسرين بل يعم ذلك و الآثار الدنيوية كما عرفت.

و قال بعض المفسرين: إنّ المراد بقوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا أنّ ما يطلبه المرابي من الربا بزيادة المال إنّما هو لأجل اللذة و البسطة في الجاه و المكانة و العيش الهنيء و لكن يصل إلى عكس هذه النتيجة من الهموم و الأحزان و الحب الشديد للمال و الوله بجمعه، و مقت الناس له، و المبارزة مع من يريد صرفه عن ذلك فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بما يريد من ماله فيكون كمن محق ماله و هلك.

و ما ذكره صحيح، و لكن ذلك أثر خاص فردي، و القرآن إنّما يبحث عن هذه المسألة بما أنّها من موجبات هلاك النوع و ما يفسد صلاح الاجتماع، فهو يبيّن حكما عاما يؤثر في سعادة الإنسان نوعه و فروعه، و هذا هو شأن القرآن الكريم في أحكامه و تكاليفه فيرشد إلى موجبات سعادة الفرد بما أنّه من ضمن الاجتماع كما يسعى إلى سعادة الاجتماع بما أنّه متكوّن من الأفراد فلا هو يتكلّم عن الفرد و لا هو يسكت عنه، و هذا هو دأب هذا الكتاب العزيز.

ثم إنّه يصح نسبة المحق إلى البركة و إلى أصل المال، و كذا إرباء

ص: 426

الصّدقات و تنميتها، فإنّ اللّه تعالى قادر على جميع ذلك، و يستفاد ما ذكرناه من مفهوم قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96]، و في السنة المقدّسة من ذلك الشيء الكثير.

و التنمية و البركة و المحق مما يدركه الناس و محسوسة لكلّ فرد فإنّ المسألة اجتماعية أكثر من كونها فردية و عمر الاجتماع يفترق عن عمر الفرد مع أنّ آثار المعاصي و إن كانت خفية على الناس و لكنّها ظاهرة لذوي البصائر و من انكشفت لديهم السرائر، يضاف إلى ذلك أنّ من أمعن النظر في الاجتماع الإنساني المعاصر يرى أنّ الآثار اللازمة للربا التي نبه إليها القرآن الكريم قد ظهرت فقد تجمعت الثروة التي جعلها اللّه تعالى للنوع و تراكمت في جانب و حل الفقر و الحرمان في جانب آخر و شاع الفحشاء و المنكر و ظهر الانفصال و الافتراق بين الطائفتين الموسرين و المعسرين، و هذا ما ينذر بالخطر إن لم يتداركه عقلاء البشر و لكن أنّى يكون مع استيلاء الفساد و هيمنته على النفوس.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ .

الكفّار فعال من الكفر، أي: المقيم عليه المتمادي فيه. و الأثيم المبالغة في الإثم، أي: المنهمك في ارتكاب الآثام.

يعني: أنّ المتعاطي للربا و التارك للصّدقات قد كفر بما أنعم اللّه عليه من نعمة المال الحلال، و نعمة الأحكام الإلهية التي نزلت لسعادته فإنّ ترك الواجب و فعل الحرام كفران للنعمة و المداومة عليه قد يوجب الكفر، و كفره بالإعراض عن الفطرة المستقيمة في المعاملات، و كفره بإبطال عباداته و معاملاته بأخذه الربا، و كفره بالابتعاد عن مكارم الأخلاق و مزاولة سفاسفها، كالحرص و الطمع، فلأجل كفران هذه النّعم الكثيرة التي أنعمها عليه، فقد استقر في نفسه ارتكاب الآثام فهو كفّار أثيم و اللّه تعالى لا يحبه. و يستفاد من الآية الشريفة التعليل لمحق الربا و تحريمه.

277 - قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

ص: 427

277 - قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

يعني: إنّ الذين صدّقوا باللّه جلّ شأنه و رسوله و ما انزل عليه و عملوا الأعمال الصالحة التي تهذب نفوسهم و تهديهم إلى سبيل الرشاد و أقاموا الصلاة التي تذكرهم باللّه تعالى و تزيد في مراقبتهم لربهم و آتوا الزكاة التي تطهّر نفوسهم من رذائل الأخلاق و تحلّيها بفضائلها أولئك لهم أجرهم الذي لا يعلم مقداره و خصوصياته الا اللّه تعالى محفوظ عنده يرعاه و يزيده و يضاعفه أضعافا مضاعفة و لا خوف عليهم من المتوقع و لا هم يحزنون على ما وقع فهم آمنون في جميع ما يرد عليهم من العوالم.

و إنّما خص سبحانه و تعالى الصلاة و الزكاة بالذكر مع أنّهما بعض الأعمال الصالحة تعظيما لشأنهما فإنّهما من أعظم العبادات البدنية و المالية و النفسية.

و في الآية المباركة بشارة للمحسنين المتصدّقين، و تعريض بآكلي الربا، و مضمونها حكم عام ينطبق على المورد انطباق الكلّي على الفرد كما أنّه قضية عقلية مقدم الآية علّة لمؤخرها، و بينهما الملازمة العقلية و الشرعية.

و تخلل هذه الآية المباركة بين الآيات الواردة في شأن الربا للإشارة إلى أنّ التكاليف الإلهية كلّها واحدة في استكمال النفس، فالمناط كلّه إقامتها و إتيانها بالشروط المقرّرة، و أنّ ترك المحرمات و منها الربا من أهمّ شرائط القبول.

278 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

خطاب آخر فيه التأكيد الأكيد على ترك الربا، و وصف المخاطبين بالإيمان، لأنّه الداعي إلى التصديق باللّه و رسوله و الالتزام بتنفيذ التكاليف الإلهية، و أنّ المؤمنين بشرف إيمانهم تشرّفوا بالمخاطبة فكانت لهم قابلية الخطاب و بذلك تتم الحجة على الناس، مع أنّ العقل بعد التأمل و التفكر

ص: 428

كاف في الداعوية إلى إتيان الطّاعات و ترك المعاصي، فتكون الخطابات الشرعية الإلهية إرشادا إلى الأحكام العقلية، و منشئا لصحة العقوبة على المخالفة و المثوبة على الطاعة.

ثم أمرهم بالتقوى لأنّ بها تتم حقيقة الإيمان فلا يكفي مجرد الالتزام و التصديق القلبي إن لم يقترن بالعمل، و لعظم المعصية حدوثا و بقاء.

و عقب سبحانه و تعالى ذلك بالأمر بترك ما بقي من الربا. و منه يستفاد أنّه كان في عهد نزول الآية المباركة من يتعاطى الربا و له بقايا عند الناس، و لذا قيد الكلام بأنّ ثبوت الإيمان و تماميته و حقيقته تقتضي ترك الربا حتّى ما بقي منه. ففيه التأكيد على ما تقدم، و إيماء إلى أنّ ترك الربا من لوازم الإيمان.

279 - قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ .

الإذن كالعلم و زنا و معنى و لتضمنه معنى اليقين عدّي بالباء، و قرئ آذنوا (بالمد) من الإيذان بمعنى الإعلام أي: ليعلم بعضكم البعض بالمحاربة.

و الحرب مع اللّه و رسوله: هي الخروج عن طاعتهما و مخالفتهما، و يشتد عظم المحاربة حسب عظم المعصية، و لعل التنكير في الحرب لأجل ذلك.

و المعنى: و إن لم تتركوا الربا و تصرّوا على فعله فاعلموا أنّكم محاربون للّه و رسوله. و الحرب من اللّه تعالى غضبه و انتقامه و إذلال المحارب له، و تهييج ناموس الفطرة العامة عليه. كما أنّ الحرب من الرسول هي الإيذان بقتال الكافرين و إعلان العداوة مع المحاربين للّه و إرغامهم إلى الطاعة.

و إنّما ذكر سبحانه و تعالى الرسول تعظيما لشأنه، و لإثبات رسالته و سفارته الكبرى، و لبيان وحدة أصل الدعوة و أنّه لا فرق فيها بين كونها من اللّه أو من الرسول و التفرقة اعتبارية لأنّه الأصل في تبليغ الأحكام الإلهية، و لأنّ كون الحرب مع الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) أقرب إلى حصول الخوف في أنفسهم لترك الربا لأنّهم رأوا منه (صلّى اللّه عليه و آله) القتل و الإهلاك و الإفناء

ص: 429

فربما يكون سفير الملك أهيب عند بعض القاصرين من الملك نفسه.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ .

أي: و إن تبتم عن أخذ الربا و رجعتم عن الإصرار على فعله، فلكم رؤوس الأموال التي دفعتموها إلى الغرماء كاملة بلا زيادة عليها و لا نقيصة فلا تظلمون بأخذ الزيادة و لا تظلمون بالنقص من رؤوس الأموال، و هذا هو قانون العدل و الإنصاف، فلا يبقى موضوع للحرب و الاعتساف، و في الآية المباركة التأكيد على ترك الربا الذي لم يقبض.

و يستفاد من الآية الشريفة: ثبوت المطالبة لصاحب الدّين على الغريم و أنّ الأخير لا يجوز له تأخير الدّين و إن امتنع كان ظالما.

280 - قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ .

العسر خلاف اليسر، و هما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف الأفراد و الجهات و الخصوصيات.

و النّظرة: التأخير و الإمهال و الآية تدل على الوجوب.

و الميسرة: مصدر بمعنى اليسر. أي: و إن كان الغريم ذا عسرة و لم يجد ما يفي به دينه فيؤخر من له الحق مطالبة حقه و يمهل الغريم إلى زمان اليسار ليتمكن من أداء الدّين و لا إثم على الغريم في التأخير مع تحقق العسر.

و الآية الشريفة لا تحدّد العسر و اليسار، و لكن السنة الشريفة فسّرت العسرة بما إذا لم يجد ما يوفي به دينه غير ما استثني له في الشريعة كالخادم و البيت و الدابة و نحوهما مما هو مفصّل في كتب الفقه.

كما فسرت الميسرة فيها بما: إذا وجد ما يوفي دينه، و منه وصول خبره إلى الإمام فيفي عنه من سهم الغارمين. كما فصّلناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

و من سياق الآية الشريفة يستفاد: أنّه كانت عادة جاهلية في إعسار

ص: 430

المديون فنزلت الآية الكريمة تحدّد ذلك و تبيّن الحكم الشرعي فيه، و مضمونها من القواعد الشرعية الامتنانية في كثير من أبواب المعاملات و الديون.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ .

أي: و إن تصدق من له الحق و أبرأ المديون عن الدّين كلاّ أو بعضا فهو خير له لتضاعف الثواب و الأجر، و فيه الحث على الصدقة.

و الآية مطلقة لا يختص حكمها بمن ذكر في الجملة السابقة.

و عن بعض: أنّ المراد بالتصدق الإمهال و الإنظار لما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة».

و لكنّه بعيد، لأنّ الإنظار واجب، كما تقدم في الآية السابقة، و سياق هذه الآية يدل على التصدق بالإبراء، و الحديث أجنبي عن المقام.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

أي: إن كنتم تعلمون ما هو الخير لكم و ما في الصّدقة من الخير العظيم و الفوائد الجليلة فإنّ فيها التعاطف و التراحم و الصلة بين الأفراد، و فيه من الترغيب و التأكيد على الصدقة ما لا يخفى. و فيه إيماء إلى أنّ ما ذكر في الآية هو العلم الذي يهدي الإنسان إلى الخير و الرشد و السعادة.

281 - قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ .

أعظم آية لمن التفت إليها من أفراد الإنسان تأخذ بمجامع القلوب و تحرّض الناس نحو الغرض المطلوب، تهيج القلوب بزواجر المعنى، و تقرع الأسماع بجواهر اللفظ، تتضمّن من العظة البالغة ما تكفي في الزجر إلى العمل بما جاء به سيد المرسلين، و تهوّن على المكلّف جميع الصعاب رجاء أن يلقى اللّه تعالى بأفضل حال.

و هي آخر آية نزلت من القرآن الكريم و لم ؟؟؟؟؟؟؟؟ بعدها ثم

ص: 431

مسرورا حتّى وصل إلى رحمة ربه و صار فيها مغمورا، و مضمونها عام.

و لعل تذييل آيات الرّبا بها لأجل إعداد النفوس لتقوى اللّه، و تحريضها على الورع عن محارمه، و الانتهاء عن انتهاك حرماته و التحرّج عن التعرض إلى حقوق الناس.

و لا بد أن تفعل هذه الآية بالامة نظير ما فعلت بالرسول الكريم، بل بالأولى لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) عصم عن الخطإ و العصيان و هم مبتلون بهما.

و مادة (رجع) تأتي بمعنى العود إلى ما كان منه، و هي متضمنة لقوله.

إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة - 156]، كما في قوله تعالى: إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود - 4]. و الرجوع هنا هو المعاد.

أي: اتقوا ذلك اليوم و أهواله الذي ترجعون فيه إلى اللّه، و فيه تمثيل الغائب المفقود بمثل الحاضر المشهود. يعني: لا بد أن يكون ذلك اليوم حاضرا في البال و ظاهرا في الحال فلا يشغل الإنسان شيء من الشواغل الدنيوية حتّى يصير ذلك من الملكات الراسخة في النفس فيسعد كلّ شخص بأعماله و ينتظم النظام.

قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ .

الوفاء و التوفية و الإيفاء: بمعنى الإتمام، و توفية الأعمال باعتبار توفية الجزاء.

و الكسب: العمل، و هو عام يشمل ما ورد فيه ثواب و جزاء خاص في الشرع أولا، لأنّ ما يصدر عن العبد إما أن يكون له ثواب أو فيه عقاب أو لا شيء فيه، و في الأول سروره، و في الثاني مساءته، و في الأخير حسرته.

و المعنى: ثم تجازى كلّ نفس ما عملت من خير أو شر جزاء وافيا و يصح أن يكون (ثم) لمطلق الترتب، كما في ترتب النتيجة على المقدمات، لأنّ يوم الرجوع إلى اللّه يوم أخذ نتائج مقدمات حصلت في الدنيا، و هي

ص: 432

حاضرة لديه تعالى و ذلك اليوم هو يوم ظهور عمل العاملين و شهودهم له.

قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ .

الضمير يرجع إلى الناس المدلول عليه جملة «كلّ نفس» أي: و هم لا ينقصون من جزائهم شيئا و فيه تأكيد على وفاء الجزاء كما تدل عليه آيات كثيرة، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة - 8]، و قال تعالى: وَ نَضَعُ اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء - 47].

و يستفاد من هذه الآية المباركة أمور:

الأول: الإشارة إلى قاعدة دفع الضرر المحتمل إذا كان الضرر أخرويا فيستقل العقل بوجوب دفعه بالأدلة الأربعة و هو يتحقق بطاعة اللّه تعالى و الانزجار عن معاصيه.

الثاني: أنّها تدل على قاعدة احترام العمل التي هي من القواعد النظامية فلا بد من الجزاء و العوض على كلّ عمل و أنّ تركه قبيح و هو محال بالنسبة إليه جلّ جلاله.

الثالث: أنّ هذه الآية الشريفة أصل الآيات الواردة في إيجاد الداعي إلى الطاعة و الانتهاء عن المعصية و تذكر الإنسان بفعل المعروف و ترك المنكر و هما مما يقوم به النظام الأحسن في هذا العالم.

ص: 433

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا مبتدأ و قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ خبره.

و المشهور بين الأدباء: أنّ الربا من ذوات الواو لأنّ تثنيته ربوان و قال الكوفيون: يكتب بالياء و تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله و هو القاعدة في ذوات الثلاثة إذا انكسر الأول أو انضم نحو ضحى و إن انفتح الأول كتبوه بالألف و ثنّوه بالواو نحو صفا.

و قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا و لا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتّى يخطئوا في التثنية.

و قال محمد بن يزيد: كتبت الربا في المصحف بالواو فرقا بينه و بين الزنا و كان الربا أولى منه بالواو لأنّه من ربا يربو.

التخبط من التفعل أي: من كثر خبطه بسبب مس الشيطان و استولى عليه ذلك.

ص: 434

قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا يحتمل فيه وجهان:

الأول: أن تكون جملة حالية يعني: و الحال أنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا فيكون ردا لقولهم في القياس الفاسد.

الثاني: أن تكون جملة مستأنفة لأنّ الجملة الفعلية المصدّرة بالماضي يجب تصديرها ب (قد) إذا كانت حالا.

و الألف و اللام في البيع و الربا للعهد أي: المعهودان عند الناس و المتعارف بينهم.

قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ سقطت علامة التأنيث من جاءه لأنّ تأنيث الموعظة غير حقيقي و هو بمعنى الوعظ.

و كان في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ تامة بمعنى وجد. و ارتفع (ذو) بها.

و التعبير عن المصدر بالفعل في قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا لكونه أظهر في الإقدام على فعل الصّدقة و اختيارها و يوجب الرغبة إلى التصدق بالدّين على المعسر.

و يوما في قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً منصوب على المفعول لا على الظرفية، و جملة تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ نعت له.

ص: 435

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور:

الأول: يستفاد من هذه الآيات التشديد في أمر الرّبا و التأكيد على تركه و لم يشدد سبحانه في المعاصي الكبيرة بما شدد في الربا لما فيه من سوء التأثير في الفرد و الأمة، و ما فيه من طمس الفطرة و محو نورها و ما يجلب من الشقاء على أفراد الإنسان و انعدام الفضائل بينهم.

الثاني: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ الإنسان يخرج عن الحالة الطبيعية بفعل المعاصي و الموبقات و الجرائم و ذلك لأنّ الإنسان في حالته الطبيعية يكون على استقامة و توازن في أفكاره و أعماله ذو نظام صحيح في أقواله و أفعاله، فإذا أصيب بحالة مرضية كالجنون خرج عن ذلك التوازن و النظام، و كذا إذا فعل المعصية و أصرّ عليها و استولت على قلبه خرج عن تلك الاستقامة في الأفعال و انطمس نور الفطرة في نفسه، و هذه الحالة يعبّر عنها في علم النفس الحديث بتعبيرات مختلفة كالشذوذ، أو الانفصام و الصرع و نحو ذلك تبعا لاختلاف درجات اختلال التوازن الفكري عنده و هي من أشدّ حالات الإنسان و ما نزلت الكتب الإلهية و لم ترسل الرسل و الأنبياء الا لمعالجة هذه الحالات التي يعبّر عنها القرآن الكريم بتعبيرات مختلفة منها قوله تعالى: كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ و أمثالها من الآيات الشريفة التي ترشد

ص: 436

الإنسان إلى حقائق واقعية يجب دراستها و معالجتها و ليست هي أمورا وهمية كما يدعيها بعض المفسرين. و قد تقدم في التفسير ما يرتبط بذلك و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.

الثالث: يدل قوله تعالى: كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ بعض الحوادث في الإنسان تستند إلى امور خارجة عن إدراكه كالملك مثلا، ففي مورد الآية الشريفة يستند الجنون و الصرع إلى مس الشيطان و فعله و بما أنّه من الجن و فرد من أفراده فيكون للجن ضرب في بعض الأمراض التي تصيب الإنسان و يدل على ذلك بعض الآيات الشريفة قال تعالى حكاية عن أيوب (عليه السلام): نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [ص - 41]، و المراد من النصب و العذاب هو المرض بقرينة قوله تعالى: رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ [الأنبياء - 83].

و المرض تارة: يكون له أسباب طبيعية و تكوينية معروفة و اخرى أسباب غير مدركة للحس كالشيطان و الجن و نحو ذلك من الأسباب فلا يمكن إنكار ذلك بمجرد عدم إمكان إدراك السبب كما يدعيه الماديون، و قد ذكرنا مرارا أنّ الأسباب جميعها ترجع إلى اللّه تعالى فهو مسبب الأسباب و إن جرت عادته عزّ و جل على أن لا يجري الأمور الا بأسبابها و إنكار هذا الأمر ممن ينكر وراء الطبيعة ليس ببعيد. و لكن لا ينقضي العجب من بعض المفسرين الذي ينكر هذا التشبيه في الآية الشريفة و يعتبره من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة و لا ضير في ذلك فإنّه تشبيه خال عن الحكم و قال:

بأنّ استناد الجنون إلى الشيطان و تسليطه على الإنسان يخالف عدله عز و جل.

و لكن بعد الإحاطة بما ذكرناه يظهر فساد ما ذكره فإنّ اللّه تعالى أجل من أن يذكر الباطل في كلامه من دون أن يظهر بطلانه و يبيّن فساده.

و اعتبار كونه مخالفا لعدله عزّ و جل مردود فإنّ حكمته اقتضت أن يمتحن عباده بأمثال ذلك و يجري في الامتحان بالأسباب الطبيعية كالأمراض و الجنون بسبب طبيعي فما يقوله فيه يجري في المقام أيضا.

الرابع: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ للمعاصي آثارا لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من يعلّمه و ما ورد في الآية الشريفة أثر من تلك الآثار و هي لا تختص بجهة خاصة من الإنسان فتشمل الروح و الجسد و سائر أموره و هذا ما تبينه آيات اخرى أيضا و العلم بها لا يحصل الا بالوحي فلا يمكن تحصيلها بالتجربة.

ص: 437

الرابع: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ للمعاصي آثارا لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من يعلّمه و ما ورد في الآية الشريفة أثر من تلك الآثار و هي لا تختص بجهة خاصة من الإنسان فتشمل الروح و الجسد و سائر أموره و هذا ما تبينه آيات اخرى أيضا و العلم بها لا يحصل الا بالوحي فلا يمكن تحصيلها بالتجربة.

الخامس: يدل قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا على ظهور التخبط على الأقوال بعد ثبوته في الأفكار لشدة انغمارهم في المعصية و إصرارهم على ارتكاب الكبيرة فإنّ للتخبط درجات متفاوتة حسب مراتب المعصية و المداومة عليها.

السادس: يدل قوله تعالى: أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا على ارتباط الأحكام بالمصالح و المفاسد و هي معلولة لها و لا فرق بين كونها مصالح و مفاسد عامة أو خاصة فلا يتحقق تشريع حكم جزافا من دون مصلحة أو مفسدة و قد ذكر علماء الفقه و الأخلاق و غيرهما علل الأحكام و مصالحها و مفاسدها في مواضع متعددة بل قد ألّفوا فيها كتبا خاصة و لكن علمها منحصر باللّه تعالى و ما ألهمه إلى أوليائه و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) بعض منها.

السابع: استدل المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و لكن عرفت أنّ الآية الشريفة و إن كانت مطلقة في خلود مرتكب الكبيرة إلا أنّ سياقها يدل على أنّ الخلود في النار كان بسبب ارتكاب الكبيرة و الإصرار عليها، و الاستهزاء بالأحكام الإلهية و هو يدل على كفره بما أنزله اللّه تعالى و مثله يخلد في النار إن لم يتب.

الثامن: يدل قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ على أنّ المحق من لوازم الرّبا كما أنّ الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفكان عنهما، و المحق لا يختص بخصوص زوال المال بل يشمل حدوث النقمة و زوال البركة و إيجاد آفات و بلايا تعجز دونها النفوس و تذهب المال هدرا فتكون

ص: 438

الأموال الحاصلة من الربا كأن لم تكن فإنّ للّه تعالى جنودا من أنواع البلايا و المحن.

كما أنّ محاربة اللّه مع المرابين لا تختص بخصوص المقاتلة و إزهاق النفوس بل تشمل الجميع، و كذا إرباء الصّدقات لا يختص بزيادة الأموال بل تشمل البركة و كلّ ما فيه الخير و النفع، فالصدقة ربا في الواقع و إن لم يصطلح عليها الربا و إنّ الربا ممحوق لا محالة و إن سمي ربا في الظاهر.

التاسع: يدل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على ثبوت أصل الملكية و تقريرها بين الناس و إمضاء جميع المعاملات و التكسب بالأموال ما لم يكن منهيّا عنه شرعا فإنّ المال إنّما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات.

كما أنّ قوله تعالى: لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ يدل على أنّ الرّبا ظلم يجب الابتعاد عنه بفطرة العقول.

العاشر: يدل قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ على إيجاد المراقبة في النفس و على الأعمال التي هي أساس الإيمان و أصل التقوى فإنّ الإنسان لا يبلغ العبودية الحقيقية الا بالمعية الانقيادية للّه تعالى و الانقطاع عما سواه و بها تتم الإنسانية الكاملة التي هي السعادة الأبدية و هي التي يدعو إليها اللّه تعالى و جميع الأنبياء و العقل المجرد عن شوائب الأوهام، فالآية الشريفة بمضمونها الرفيع و اسلوبها الجذاب تدعو إلى الكمال المطلق و حقيقة العبودية و هي المراقبة و الانقياد و بهما تتحقق التقوى التي ينادي بها القرآن الكريم.

الحادي عشر: يدل قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ على العدل الإلهي الذي أثبتوه بالأدلة الأربعة.

الثاني عشر: لم يبدأ اللّه تعالى الخطاب في قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ بمثل يا أيّها الذين آمنوا، أو يا أيّها الناس لأنّ الخطاب فيه إنّما هو لبيان انقلاب العوالم و الترتب الواقعي بين العلل و المعلولات و كلّ

ص: 439

ذلك من قبيل القضايا الطبيعية التي لا بد من وقوعها في السير التكاملي الذي هو أساس النظام الأحسن كقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ [إبراهيم - 48]، و قوله تعالى: يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان - 33]، و نحو ذلك من الآيات الشريفة.

و إنّما قدم سبحانه و تعالى التقوى لأنّها الركيزة الاولى و الركن الركين في هذا المسير الاستكمالي بل هي المركب الهنيء و الباقي ليس الا موانع و عوائق عن الوصول إلى هذا الغرض، فالغاية لخلق هذا العالم ليس الا استكمال العقل و هو لا يحصل الا بالتقوى فهي العلة الغائية و الفاعلية و الصورية و المادية و قلّما يتفق مثل ذلك في شيء آخر.

ص: 440

بحث فقهي

تدل الآيات الشريفة على الأحكام الفقهية التالية:

الأول: تدل الآيات الكريمة على حرمة الربا و أنّه من الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار و من الموبقات التي تقضي على الفرد و النوع و يدل على ذلك السنة الشريفة و إجماع المسلمين و دليل العقل أيضا بل لا اختصاص لحرمة الربا بالشريعة المقدّسة الإسلامية فهو محرّم في جميع الشرايع الإلهية فهو من الأمور العامة النظامية المحرّمة و يدل على كونه محرّما عند اليهود قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء - 161].

الثاني: الربا مما اجتمع فيه حق اللّه و حق الناس فهو محرّم من جهتين و تشتد حرمته عند شدة حاجة المأخوذ منه فلا تنفع فيه التوبة فقط بل لا بد من رد ما أخذه المرابي إلى المأخوذ منه و يجري عليه جميع أحكام الغصب من بطلان الصلاة فيه و حرمة التصرف فيه و بطلان أداء الحقوق الواجبة أو المندوبة منه و وجوب رده إلى صاحبه و تدل على ذلك الأدلة الأربعة كما فصّلناها في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) و منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتّى تؤديه».

الثالث: الربا إما قرضي أو معاملي:

و الأول: دفع المال قرضا بشرط الزيادة على المقترض حين الأداء.

ص: 441

و الثاني: بيع أحد المثلين بمثله مع الزيادة في أحدهما إذا كان من المكيل أو الموزون كبيع كيلو حنطة بكيلو و ربع منها. و لكلّ واحد من القسمين أحكام خاصة مفصّلة في كتب الفقه، و لا أثر لرضاء الطرفين في حلية الربا بعد نهي الشارع عنه و إلغاء هذا الرضا كما في المعاوضات المحرّمة فيكون وجوده كالعدم.

الرابع: ظاهر قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ سقوط الضمان بالنسبة إلى ما مضى إذا أتلفه كما يظهر ذلك من السنة الشريفة أيضا و أما شموله لعدم وجوب الرد فيما أخذه و لم يتصرّف فيه فمشكل فلا بد حينئذ من الرجوع إلى السنة.

الخامس: إطلاق قوله تعالى: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا يشمل كل زيادة ربوية سواء كانت عينا أم منفعه أو انتفاعا أو حقا. و منها رباء النسيئة الذي كان متعارفا في الجاهلية و هو أن يدفع المال لمقترضه إلى مدة على أن يأخذ كلّ شهر قدرا معينا ثم عند حلول الدّين و تعذر الأداء يزيد المديون في الحق و يزيد الدائن على الأجل.

السادس: يدل قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ على رفع حكم الربا فيما إذا لم تبلغه الحجة الظاهرية كما قد رفع حرمته في جملة من الموارد منها ربا الأب مع ابنه، و ربا السيد مع عبده، و ربا الزوج مع زوجته و قد فصل ذلك في الفقه.

السابع: يدل قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ على وجوب رد الدّين إلى صاحبه عند المطالبة و حرمة الطلب عند ثبوت عسر المديون و يجب إنظاره، و تدل على ذلك جملة من الروايات منها

ما ورد عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) في رسالته التي كتبها إلى أصحابه: «إيّاكم و إعسار أحد من إخوانكم المسلمين و أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله فإنّ أبانا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقول: ليس للمسلم أن يعسر مسلما، و من أنظر مسلما أظلّه اللّه يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ الا ظلّه».

ص: 442

و لو استدان أحد و لم ينو أداء الدّين لا يجوز له التصرف في المال المقترض

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من استدان و لم ينو الأداء فهو كاللص السارق» هذا في عدم قصد الأداء فضلا عن قصد عدم الأداء.

و الظاهر من قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ امتداد وقت الإنظار إلى حصول اليسار و تدل عليه جملة من الأخبار، كما أنّ إطلاقه يشمل كلّ دين بلا اختصاص له بدين الربا فهو من القواعد الامتنانية في أبواب الديون و المعاملات.

الثامن: إطلاق قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ شموله لكلّ أنواع الصّدقة حتّى احتساب الدّين من الزكاة أو الحقوق الاخرى الواجبة بل يشمل إبراءه كلاّ أو بعضا، و يستفاد منه أنّ الصّدقة أفضل من الإنظار و إن كان الأخير واجبا و لا ضير في ذلك بعد استفادته من الأدلة.

التاسع: يدل قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا على بطلان التمثيل الظاهري (القياس) لأنّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد التي لا يعلمهما الا اللّه تعالى.

العاشر: إنّ إطلاق قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ يشمل التوبة بعد العلم بالحرمة كما يشمل الجهل بالتحريم و بعبارة اخرى يشمل الربا في الجاهلية قبل تشريع الحكم و الربا في الإسلام بعد التوبة.

الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على توسعة الأمر في المعاملات الربوية في الجملة فهو ظاهر في بطلان الزيادة في الربا أما بطلان أصل المعاملة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة بل ظاهرها الصحة، و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا الدال على صحة المعاملة و وجوب رد الفضل الذي أخذه زائدا على رأس ماله. هذا إذا لم يقم دليل معتبر على الخلاف و قد فصّلنا القول في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 443

الثاني عشر: إطلاق قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا يشمل الربا القرضي و الربا المعاملي لفرض صدق الربا على كلّ منهما و يدل عليه أيضا تفريق الآية بين الربا و البيع. و سياق قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ظاهر في الربا القرضي.

ص: 444

بحث روائي
اشارة

تقدم أنّ الربا من الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار في الكتاب العزيز و هو من الموبقات التي تجلب الفساد و الشقاء و قد ذكر سبحانه في الكتاب العزيز بعض الآثار المترتبة على الربا، و شرحت السنة الشريفة هذا الموضوع شرحا وافيا و نحن نتعرض في هذا البحث إلى بعض الروايات التي وردت في حرمة الربا، و بعض ما ورد في موضوع الربا، و الآثار التي وردت في الأخبار، كما ننقل الروايات التي وردت في تفسير مفردات الآية المباركة:

حرمة الربا في السنة:

في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«درهم ربا عند اللّه أشد من سبعين زنية كلّها بذات محرم».

أقول: و في بعض الروايات ثلاثين. و الحصر ليس حقيقيا بل إضافي يختلف باختلاف مراتب اضطرار المديون و تشديدات أكل الربا.

و التشبيه إنّما هو باعتبار تشديد نفس الحرمة فإنّ حرمة الزنا تختلف باختلاف المزني بها و مكان الزنا و زمانه و سائر جهاته لا أن يكون تنزيلا للربا منزلة الزنا من كلّ حيثية وجهة حتى يلزم إجراء الحد و نحو ذلك.

و لعل جهة أشدية الربا من الزنا أنّ فيه المفسدة الشخصية و النوعية

ص: 445

بخلاف الزنا الذي فيه مفسدة شخصية. نعم لو انتشر الزنا في المجتمع كان فيه مفسدة نوعية أيضا.

و في الفقيه عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في وصية لعليّ (عليه السلام) قال: «يا عليّ الربا سبعون جزء فأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت اللّه الحرام، يا عليّ درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه الحرام».

أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك و المراد من سبعين جزء أنّ الربا مركب من سبعين معصية و مفسدة.

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام): «أخبث المكاسب كسب الربا».

أقول: لأنّ فيه خباثة شخصية و يوجب خباثة النوع باعتبار جريان أيدي المتبادلين على المال الذي وقع فيه الربا و يرشد إلى ذلك

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد الا أكل الربا و من لم يأكل الربا أصابه غباره».

و في التهذيب عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال:

«لعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) الرباء، و آكله و بايعه، و مشتريه، و كاتبه، و شاهديه».

أقول:

ورد في رواية أخرى «لعن رسول اللّه خمسة» و يمكن أن يكون الحصر إضافيا نظير الخمر التي لعن رسول اللّه جملة فيها.

و في الكافي عن ابن بكير قال: «بلغ أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا - و يسميه اللبأ - فقال: لئن أمكنني اللّه لأضربنّ عنقه».

أقول: يمكن أن يكون قتله لأجل استحلاله للربا و جرأته على اللّه تعالى و هتكه لحرماته و تدل عليه الرواية الآتية.

و في الفقيه و العيون عن الرضا (عليه السلام): «هي كبيرة بعد البيان،

ص: 446

و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر».

أقول: المراد من قوله (عليه السلام) بعد البيان أي تمامية الحجة عليه فلا ينحصر الأمر في خصوص الربا بل تكون جميع المحرمات كذلك أيضا.

و في كنز العمال عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما ظهر في قوم الربا و الزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب اللّه».

أقول: يشهد لذلك الدليل و البرهان و الوجدان.

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «الربا ثلاثة و سبعون بابا و الشرك مثل ذلك».

و عن الصادق (عليه السلام): «الربا سبعون بابا أهونها عند اللّه كالذي ينكح أمه».

أقول: تقدم ما يتعلّق بهما.

موضوع الربا:

في تفسير القمي عن جعفر بن غياث عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الرباء رباءان: أحدهما ربا حلال، و الآخر ربا حرام فأما الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده و يعوّضه بأكثر مما أخذه بلا شرط بينهما، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له، و ليس له عند اللّه ثواب فيما أقرضه و هو قوله عزّ و جل: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ و أما الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضا، و يشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة و المستفاد من مجموعها أنّ شرط الزيادة محرّم و لكن نفس دفع الزيادة بلا شرط لا يكون محرّما بل يكون راجحا.

و في التهذيب عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أقرضت الدراهم ثم جاءك بخير منها فلا بأس إن لم يكن بينكما شرط».

أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك.

ص: 447

و في الكافي: «عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عددا قضانيها مائة درهم و زنا قال (عليه السلام): لا بأس ما لم يشترط. و قال جاء الربا من قبل الشروط، إنّما تفسده الشروط».

أقول: المراد من الشرط هو شرط الزيادة في العقد.

و في الكافي أيضا عن عبيد بن زرارة قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن».

أقول: هذه الرواية تبيّن الرباء المعاملي لا الرباء القرضي.

و في التهذيب عن عمر بن يزيد قال: «يا عمر قد أحل اللّه البيع و حرّم الربا، بع و اربح و لا تربه قلت و ما الربا؟ قال (عليه السلام): درهم بدراهم مثلين بمثل و حنطة بحنطة مثلين بمثل».

أقول: هذا أيضا في الربا المعاملي دون القرضي.

و في التهذيب أيضا عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «ما كان من طعام مختلف، أو متاع، أو شيء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد، فأما نظرة فلا يصلح».

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): «يدا بيد» النقد و هذا في الرباء المعاملي و لا يتحقق الربا فيه لفرض اختلاف العوضين و المراد من النظرة النسيئة.

و في الكافي عن سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المختلف مثلان بمثل يدا بيد لا بأس».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و في التهذيب عن منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) قال:

«سألته عن البيضة بالبيضتين قال (عليه السلام): لا بأس به. و الثوب بالثوبين

ص: 448

قال (عليه السلام): لا بأس به. و الفرس بالفرسين فقال (عليه السلام): لا بأس به. ثم قال: كلّ شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد، فإذا كان لا يكال و لا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد».

أقول: لفرض اعتبار اتحاد العوضين في الرباء المعاملي فإذا اختلفا فلا ربا مع اعتبار كون العوضين من المكيل و الموزون و البيض و الثوب ليس منهما.

آثار الربا:

في الكافي عن سماعة قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «إنّي قد رأيت اللّه تعالى قد ذكر الربا في غير آية و كرّره. قال (عليه السلام) أو تدري لم ذاك ؟ قلت: لا. قال (عليه السلام): لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».

أقول: إذا فرض اقتصار الناس على الزيادة الربوية فقط تمحق جميع المعاملات و تذهب الخيرات و البركات و يختل النظام.

و في الفقيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنّما حرم اللّه عز و جل الربا لئلا يذهب المعروف».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ عن الصادق (عليه السلام) قال:

«قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا، يقولون ربنا متى تقوم الساعة».

ص: 449

أقول: ما في الرواية حقيقة حال المرابي كشفها اللّه تعالى لرسوله ليلة المعراج.

و في التهذيب عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إنّي سمعت اللّه يقول: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ ، و قد أرى من يأكل الربا يربو ماله ؟! فقال (عليه السلام): أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدّين، و إن تاب منه ذهب ماله و افتقر».

أقول: هذا من الآثار الوضعية للربا تظهر و لو بعد التوبة و مثل ذلك في المعاصي قليل جدا.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «و علة تحريم الربا لما نهى اللّه عزّ و جل عنه و لما فيه من فساد الأموال لأنّ الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما و ثمن الآخر باطلا فبيع الربا و شراؤه و كس على كلّ حال على المشتري و على البائع فحرم اللّه عزّ و جل على العباد الربا لعلة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من إفساده حتّى يؤنس منه رشد، فلهذه العلة حرّم اللّه عزّ و جل الربا و بيع الدرهم بالدرهمين يدا بيد و علة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرّم و هي كبيرة بعد البيان و تحريم اللّه عز و جل لها لم يكن إلا استخفافا منه بالمحرّم الحرام و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر، و علة تحريم الربا بالبينة لعلة ذهاب المعروف، و تلف الأموال، و رغبة الناس في الربح، و تركهم القرض، و القرض صنائع المعروف و لما في ذلك من الفساد و الظلم و فناء الأموال».

أقول: المراد من الوكس: النقص.

و في عقاب الأعمال عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «من أكل الربا ملأ اللّه بطنه من نار جهنّم بقدر ما أكل و إن اكتسب منه مالا لا يقبل اللّه منه شيئا من عمله و لم يزل في لعنة اللّه و الملائكة ما كان عنده منه قيراط واحد».

ص: 450

أقول: القيراط أصله قرّاط و هو نصف عشر الدينار و قوله (صلّى اللّه عليه و آله) بكلا جزئيه مطابق للقاعدة العقلية و هي ترتب المسبب على السبب.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبطه الشيطان».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «إنّما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا».

أقول: الرفد بمعنى الصلة و العطية و قد مرّ سابقا ما يتعلق بهذه الرواية.

و فيه أيضا عن عليّ (عليه السلام): «إذا أراد اللّه تعالى بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا».

أقول: الهلاك أعم من الهلاك المعنوي و الظاهري.

ما ورد في تفسير مفردات الآية:

في الدر المنثور عن أنس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ .

أقول: ما ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) هو عادة نوع المصروعين في الدنيا.

و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ قال (عليه السلام): «الموعظة التوبة».

أقول: هذا تفسير بالمعنى الأخص.

و في التهذيب عن محمد بن مسلم قال: «دخل رجل على أبي عبد اللّه (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّى كثر ماله، ثم أنّه سأل الفقهاء فقالوا: ليس يقبل منك شيء حتّى ترده إلى أصحابه فجاء إلى أبي

ص: 451

جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته فقال أبو جعفر (عليه السلام): مخرجك من كتاب اللّه عزّ و جلّ : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ قال (عليه السلام) و الموعظة التوبة».

أقول: يستفاد من هذه الرواية العموم كما ذكرنا ذلك في كتاب البيع - فصل الربا من (مهذب الأحكام).

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة و قال (عليه السلام): لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا و قد عرف أنّ في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال، كان حلالا طيّبا فليأكله و إن عرف منه شيئا أنّه ربا فليأخذ رأس ماله و ليردّ الزيادة».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في اختصاص الحرمة بخصوص الزيادة فلا شمول لها لجميع المال.

و في التهذيب عن الصادق (عليه السلام): «سئل عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنّه حلال فقال (عليه السلام): لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بمنزلة الذي قال اللّه عزّ و جلّ : لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ».

أقول: ظاهرها اختصاص الحكم بصورة العلم لا صورة الجهل به.

و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) قال اللّه تعالى: «أنا خالق كلّ شيء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإنّي أقبضها بيدي حتّى أنّ الرجل و المرأة يتصدّق بشق التمرة فأربيها كما يربي الرجل منكم فصيله و فلوه حتّى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «عن الرجل يكون عليه الدّين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول أنقذني فقال: لا

ص: 452

أرى به بأسا لأنّه لم يزد على رأس ماله و قال اللّه تعالى: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ».

أقول: لم يتحقق في الفرض موضوع الربا لأنّه مشروط بالزيادة و هو منتف.

و في تفسير القمي: «لما أنزل اللّه تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا - الآية - فقام خالد بن الوليد إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: يا رسول اللّه ربا أبي في ثقيف و قد أوصاني بأخذه عند موته فأنزل اللّه تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا ».

أقول: حيث إنّ المال انتقل إلى الورثة فهم مأمورون بعدم أخذ الزيادة وردها إلى صاحبها الذي كان معلوما و إنّ الوصية بالمحرّم غير نافذة.

و في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف، و بني المغيرة من بني مخزوم، و كان بنو المغيرة يربون لثقيف فلما أظهر اللّه تعالى رسوله على مكة وضع يومئذ الربا كلّه، فأتى بنو عمرو بن عمير، و بنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد و هو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا؟ وضع عن الناس غيرنا. فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أنّ لنا ربانا. فكتب عتاب في ذلك إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية».

أقول: يمكن تعدد الواقعة بين خالد و بين من ذكر في هذه الرواية.

و في المجمع قريب منه و زاد: «فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، و أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، و كلّ دم في الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل».

و في الدر المنثور: أخرج أبو داود، و الترمذي في صحيحه، و النسائي، و ابن أبي حاتم، و البيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: «أنّه شهد حجة

ص: 453

الوداع مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «صعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المنبر ذات يوم فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على أنبيائه ثم قال: أيّها الناس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا كان له على اللّه في كلّ يوم صدقة بمثل ماله حتّى يستوفيه، ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون» إنّه معسر فتصدّقوا عليه بما لكم فهو خير لكم».

أقول: لا بأس بأن يكون الإنظار صدقة و إن كان واجبا، كما أنّ دفع المال يكون صدقة و إن كان واجبا كالزكاة.

و في تفسير العياشي عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها اللّه عزّ و جل لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر لا بد من أن ينظر، و قد أخذ مال هذا الرجل و أنفق على عياله، و ليس له غلة ينتظر إدراكها و لا دين ينتظر محلّه و لا مال غائب ينتظر قدومه ؟ قال (عليه السلام): ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة اللّه، فإن كان أنفقه في معصية اللّه فلا شيء له على الإمام. قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه و هو لا يعلم فيم أنفقه في طاعة اللّه أو في معصيته ؟ قال (عليه السلام): يسعى له في ماله فيرده و هو صاغر».

أقول: يحمل

قوله (عليه السلام) «و هو لا يعلم فيم أنفقه» على ما قبل ظهور بذل المال في الحرام فحينئذ يجب عليه السعي بعد الظهور و هو صاغر، فالأقسام أربعة:

الأول: العلم بصرف المال في الطاعة، فعلى الإمام أن يؤدي دينه.

الثاني: الشك - في الصرف في الحرام - مستمرا و يحمل فعل المديون على الصحة فعلى الإمام أيضا أن يؤدي دينه.

ص: 454

الثالث: العلم بالصرف في المعصية لا بد له أن يسعى و يؤدي دينه بنفسه.

الرابع: عدم العلم بذلك حين دفع المال إلى المديون و بعد مدة علم أنّه صرف المال في الحرام، فحينئذ يسعى و هو صاغر و يستفاد جميع هذه الأقسام من الروايات المتقدمة.

و في المجمع في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ :

«اختلف في حدّ الإعسار فروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد».

أقول: حد الإعسار أمر إضافي يختلف باختلاف المديونين و عيالاتهم و الأزمنة و الأمكنة و مقدار قدرتهم على تحصيل المال فلا بد من الرجوع إلى الحاكم الشرعي، و هو يرجع إلى أهل الخبرة.

و في الدر المنثور عن ابن عباس، و السّدي، و عطية العوفي، و أبي صالح، و سعيد بن جبير: «أنّ آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ .

أقول: إنّ ذلك يناسب مع كثرة اهتمام القرآن بالتقوى حدوثا و بقاء بدوا و ختما.

ص: 455

بحث قرآني

خلق اللّه تعالى الإنسان و أودع فيه قوة يميّز بها الخير عن الشر، و النافع عن الضار، و ألهمه بعض الأمور التي بها ينظّم شؤون حياته الفردية و الاجتماعية و يسعى إلى الكمال المعدّ له، و بهما ترفّع على سائر الموجودات في هذا العالم و كان له هذا المقام السامي، كما أنّ بهما استقامت خطواته و انتظمت أفكاره، و بهما يكافح في عيشه في هذه الحياة المليئة بالمتاعب و المشاكل، و لو لا هذه الموهبة الربانية لكان للإنسان شأن آخر، و هو خلاف الحكمة في خلق الإنسان الذي قد أبدع اللّه تعالى في صنعه، و خلق له الأرض و ما عليها ليعمّرها و يتزوّد منها إلى العوالم التي ترد عليه.

و بحكم هذين الأمرين - أي العقل و الفطرة - تحكمت قواعد و أصول على جميع خطوات الإنسان و خصوصياته، و نظمتها تنظيما حسنا، و هي كثيرة يبحث عنها في علوم متعددة.

و لكن تلك القواعد العقلية و الأمور الفطرية قد تعرّضت لانحرافات و شكوك و شبهات بمرور الزمن مما أوجب طمس كثير منها و تعرض الإنسان لاختلافات و مشاكل عجز عن حلّها و متاعب و هموم أثقلت كاهله فأرسل اللّه تعالى رحمة بعباده الرسل و الأنبياء ليثيروا لهم دفائن العقول و يذكروهم منسيّ الفطرة، و يهدوهم إلى سواء السبيل و يرشدوهم إلى الحقّ القويم ليفوزوا بالسعادة الأبدية و يسعدوا في حياتهم.

ص: 456

و قد أنزل معهم الكتاب و الحكمة التي تحتوي على المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية التي تبتني على حكم و مصالح نوعية تجلب السعادة و الخير للإنسان و يصل بها إلى الكمال المطلق، و قد تكفلت لجميع جوانب الإنسان الفردية و النوعية و لم يهمل أمرا من الأمور الجزئية، و جعل العمل بها من أجزاء الإيمان الصحيح و الوصول إلى السعادة في الدارين. و أما إذا أهملها و خالف حل في البلاء و الشقاء و سلب السعادة عن نفسه.

و من الموضوعات التي اعتنى بها الشرع القويم الربا و قد حرّمه اللّه تعالى و شدّد النكير عليه و جعل آكله محاربا للّه تعالى و لرسوله العظيم، و بيّن سبحانه و تعالى في ضمن الآيات المتقدمة أمرين هامين لا بد من البحث حولهما و إمعان النظر فيهما لأنّهما يتكفلان جميع الآثار المترتبة على هذه الكبيرة الموبقة.

الأمر الأول: قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ . و الآية الشريفة تضع الحد الفاصل في كلّ ما يقال في هذا الأمر الخطير، و ترشدنا إلى حقيقة من الحقائق القرآنية التي تبيّن الوضع الإنسانيّ عند انتشار ظاهرة الربا في المجتمع، و هي من ملاحم القرآن العظيم، و تحدد سلوك الإنسان و أفعاله و أفكاره، و تبيّن أنّ الربا يمنع الإنسان من القيام بالوظيفة التي قرّرها العقل و الفطرة، و يخرجه عن حالته الطبيعية المستقيمة الرشيدة، فلا يكون فكره صحيحا منتجا و لا فعله متضمنا للخير و النفع و شبّه سبحانه و تعالى حال الإنسان المتعاطي للربا بحال المصروع الذي خرج عن الاستقامة و الاستواء في أفكاره و أقواله و أفعاله، و هو تشبيه واقعي حقيقي. فهو قد سلب عن نفسه تلك الحالة الهنيئة المطمئنة الآمنة القويمة، و صار قرين المشاكل و الآلام و الانهيار الفكري، و ترشد الآية الكريمة إلى معنى أبعد من ذلك و هو أنّ الإنسان مع الربا لا يكون فكره قويما و مستقيما فلا تفيده النظريات و القوانين التي يجعلها لحلّ مشاكله و لجلب السعادة إليه، فهي لا تكون منتجة، بل هي مجرد أوهام تسكن إليها النفس برهة من الزمن لتخفّف عنها ما تكابده و لكنّها تعود بأشد مما كانت أولا بعد ما

ص: 457

يرى عدم جدواها، و هذا هو الجانب المهم الذي يرشد إليه القرآن الكريم، و يؤكد ذلك إتيان ضمير الجمع في قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ يعني أنّ المجتمع الذي حلّ فيه الربا لا يمكنه النهوض بالأمر و التأثير في رفع المشكلات فضلا عن الأفراد، و قد اتضح صدق ما أفاده القرآن، فنرى في عالمنا المعاصر بعد انتشار الربا عقم النظريات و القوانين التي وضعت في رفع المشكلات، و لا يشك أحد من الباحثين أنّ عالمنا المعاصر مع ما فيه من وسائل الراحة و التمتع من الحياة لكنّه من أشد الأوقات بعدا عن الحقيقة و الواقع و العيش الهنيء.

الأمر الثاني: قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ . و الآية ترشدنا إلى أنّ الربا يلازمه أثر آخر مهم في حياة الإنسان و هو سلب الكمال عن الأشياء و ذلك لأنّ لكلّ شيء طرفي كمال و نقص، و الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال، فهذا المال بجميع أصنافه من النقود و الأمتعة و نحوهما قد استخدمه الإنسان لرفع حوائجه المادية و يستعين به في أموره الأخروية فهو محور المعاملات و عليه تدور المعاوضات، و وضع قواعد و قوانين تحدّد التعامل به، و جعل الكمال فيه هو رفع الحوائج بالعدل و الإنصاف و إشباع الرغبات على الوجه الأحسن، و اعتبر التعدّي عن القواعد المضروبة و القوانين المقرّرة ظلما و عدوانا.

و القرآن الكريم يبيّن أنّ اللّه تعالى يمحق بسبب الربا جميع الآثار المحبوبة لديه عزّ و جل المترتبة على المال من البركات، و إقامة المعروف و سدّ جوعة الفقراء إلى غير ذلك مما هو كثير، و هذا هو المراد بالمحق الإلهي فيما يشاء.

و أما تكدس الأموال في هذا العالم من الربا فلا يكون محقا بالنظر الأوّلي بالنسبة إلى المرابي و غيره، و إن كان بالنظر الحقيقي الواقعي هو محق أيضا، كما قال تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا [التوبة - 55].

و بالجملة: إنّ اللّه تبارك و تعالى يمحق بالربا الإنسانية الكاملة فردا و نوعا

ص: 458

فيؤثر في النفس الإنسانية فيحل الفقر و الحرمان في المجتمع و يجعل الفقير يحس بالذل و الهوان مما يجعله مترقبا الفرص للانتقام ممن سلب ماله و نيل حقوقه فتكون النفوس في رعب دائم و خوف مستمر و بالتالي فهو محق للأخلاق الفاضلة، و إيقاع الإنسان في سفاسف الأمور و ذمائم الأخلاق، فيغلب الحرص و الطمع. و محق لأبواب المعروف و الخيرات. هذا كلّه بالنسبة إلى الآثار الدنيوية.

و أما الآثار الأخروية: فإنّ لها شأنا آخر فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في عالم الآخرة بما يناسب تلك المعصية، و يمكن أن تكون الآيات الشريفة الواردة في الربا ناظرة إلى جميع العوالم فهي تبيّن حقيقة الربا من حيث هي مع قطع النظر عن العوالم و النشئات.

ص: 459

سورة البقرة الآية 282-283

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ .......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) ذكر تعالى في هاتين الآيتين ما يقرب من عشرين حكما تتعلّق بأصول المعاملات و المعاوضات كالبيع و الدّين و الرهن و نحوها، و هي قواعد نظامية ثابتة في فطرة العقلاء قرّرها سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) بوحي من السماء.

ص: 460

و بمراعاتها يحفظ المال عن الضياع، و يرفع التنازع و الاختلاف بين أفراد الإنسان، و يصل كلّ ذي حق إلى حقه، و العمل بها يوصل الناس إلى أغراضهم و يحافظون على مالية أموالهم.

و قد أكد سبحانه و تعالى على كثرة الاعتناء و الاهتمام بحقوق الناس و بيّن عزّ و جل أنّ العمل طريق التقوى بل هي و العمل الصحيح متلازمان و أنّ التقوى من موجبات رحمة اللّه تعالى بالعبد، و أنّها بمنزلة روح العمل. و قد ذكر سبحانه في الآيات المتقدمة الإنفاق و الصّدقات، و قد وعد الوعد الجميل للمنفقين ثم بيّن حرمة الربا في آيات تنذر بالخطر و توعد الآكل للربا بالعذاب الشديد، و في هاتين الآيتين يبيّن اللّه عزّ و جل أصول المعاملات. ففي الأولى بذل و عطاء، و في الثانية تحذير عن الابتزار و سلب الأموال من دون عوض و الظلم. و في الثالثة بيان لكيفية حفظ الأموال و نقلها من حال إلى حال.

و من ذلك يعرف نظام الإسلام بالنسبة إلى الأموال فهو من جانب يرغب إلى الإنفاق و البذل و الإعطاء و يذم حفظ المال و جمعه و ينهى عن الركون إلى الدنيا و زبرجها. و من جانب آخر يحفظ الأموال عن الضياع و يحرم الابتزاز، فكان الحد الوسط بين الإفراط في حب المال و جمعه و التفريط في بذله و عطائه.

و نحن نذكر في التفسير مجموعة الأحكام الشرعية التي تضمنتها الآيتان المباركتان على نحو الإيجاز و التفصيل مذكور في الكتب الفقهية.

ص: 461

التفسير

282 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .

الدّين - بفتح الأول -: اشتغال الذمة بما يتعلّق بالغير مالا كان أو حقا، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، و الدّين - بالكسر -: الطاعة و الجزاء، و يستعمل في الشريعة و الملة، و يمكن فرض الجامع القريب بين اللفظين، كما لا يخفى، فيكون اللفظان من المشترك المعنوي دون اللفظي.

و التداين: التعامل بمعاملة فيها دين، سواء كانت المعاملة بيعا أو قرضا أو نحو ذلك.

و إنّما أتى بصيغة التفاعل لتقوم الدّين باثنين: الدافع و الآخذ، مع أنّه ترغيب إلى المجاراة يعني: أنّه كما احتجت إلى الدّين و دفع إليك غيرك فلتكن أنت أيضا كذلك.

و يمكن أن يكون المراد بالتداين مداينة بعضهم بعضا فيكون قوله تعالى: بِدَيْنٍ تأكيدا.

و الكتابة: الفرض و الثبوت، قال تعالى: وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

ص: 462

[التوبة - 121]، و الكتاب في الأصل مصدر يطلق على المكتوب.

و الأجل: المدة المضروبة للشيء تقديرا من اللّه تعالى كأجل حياة الإنسان، قال تعالى: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر - 4]، و يطلق على الجعل المقرّر في المعاملات و الديون. و هو من المفاهيم القابلة للتشكيك قلّة و كثرة.

و الأجل المسمّى: هو الأجل المضروب المعلوم للطرفين قال تعالى:

وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ [البقرة - 235].

و يستفاد من الآية الشريفة: حكمان:

الأول: أنّه لا بد أن يكون أمد الدّين معيّنا لا جهالة فيه بذكر الأجل المعيّن.

و الثاني: الأمر بكتابة الدّين و الأجل دفعا للضرر و حفظا للحقوق، لأنّ ذا الأجل يكون معرضا للنزاع و الأوهام. و الأمر للإرشاد إلى ما ذكر من الحكمة فلا يستفاد منه الوجوب، و يدل عليه قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ و إجماع الأصحاب و عمل المتشرعة. و إطلاق الآية الشريفة يشمل المباشرة للكتابة و التوكيل فيها.

قوله تعالى: وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ .

بيان لكيفية الكتابة، و شروطها، و من يتولاها. فبيّن سبحانه أنّه يشترط في الكاتب أمران: الأول: العدالة. الثاني: العلم بالأحكام كما يأتي.

و العدل بمعنى الاستقامة و الاستواء في الدّين للدّين، و احترزنا بالقيد الأخير بما إذا كانت الاستقامة في الدّين لا للدّين، فإنّها حينئذ نفاق و ليست بعدل، بل قد يكون شركا و كفرا، كما في المرائي الذي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء منها: يا مشرك، يا كافر.

و المعنى: و ليكن الكاتب بين المتعاملين بالدّين عادلا سويا بالنسبة إلى المتعاملين، و حقيقة المعاملة، و الأجل، و الشروط و نحو ذلك، و لا غرض له

ص: 463

إلا بيان الحق.

و الأمر للإرشاد كما ذكرنا و هو أعم من أن يكون الكاتب أحد المتعاملين أو غيرهما.

و إنّما ذكر سبحانه بَيْنَكُمْ لأنّ الغالب أنّ الكاتب من غير المتعاملين لندرة الكتابة في عصر النزول.

و إنّما قدم صفة العدالة على غيرها لأنّ بالعدل تقوم السّماوات و الأرض و لأنّ غيرها مع فقدها لا ثمرة فيه.

قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ .

هذا هو الأمر الثاني أي: العلم بالأحكام و شؤون المعاملة، و ما يعتبر فيها لتخلو الكتابة عن الوهم و التقصير، لأنّها حجة معتبرة، و هي سند بينهما لحفظ حقوقهما.

و ما علّمه اللّه أعم من أن يكون بواسطة أنبيائه، و رسله، أو ما أرشد العقل إليه، و النّهي فيها للتنزيه و الكراهة.

و يستفاد من الآية الشريفة: التشديد في تثبيت الدّين و أنّ صنعة الكتابة من الواجبات الكفائية التي يتقوّم نظام العالم بها.

و قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ يدل على النّهي عن رد الدّعوة إلى أمر من الأمور التي تكون فيها مصلحة النوع، و استحباب تلبيتها.

قوله تعالى: فَلْيَكْتُبْ .

أي: فليكتب للناس شكرا لما أنعم اللّه تعالى عليه، و مراعاة لحقوق الناس، أو هو تأكيد في تثبيت الدّين، و سياق الجملة يفيد أنّ الأمر للندب لا الوجوب.

قوله تعالى: وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ .

و الإملاء يأتي بمعنى الإظهار و البيان على المستفيد، و الإملال: الكتابة،

ص: 464

و يمكن أن يرجع اللفظان إلى جامع قريب، و هو الإثبات فإن كان على شخص فهو إملاء و إن كان في مكتوب فهو إملال.

أي: و ليظهر المدين و يلق ما عليه من الدّين و خصوصياته على الكاتب ليكتب ما يذكره فيكون حجة بينهما.

قوله تعالى: وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً .

البخس: هو النقص على سبيل الظلم، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود - 85]، و قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الأعراف - 85].

أي: و ليتّق - الذي عليه الحق و هو الذي يملي - اللّه ربه في إملائه و يلقيه كاملا، و لا ينقص من الحق شيئا.

و إنّما أمر سبحانه بالتقوى للترهيب، فإنّ اللّه عليم بالأمور و قادر عليه و بيده عقابه، و نهى عن البخس و الظلم لأنّ الإنسان مجبول على دفع الضرر و الطمع في جلب النفع إليه.

و الأمر للاستحباب، و هو و إن كان متوجها لمن عليه الحق لأنّه عارف به و بسائر خصوصياته فيكون إملاؤه حجة للدائن يرجع إلى المكتوب عند المجادلة و المماراة. و لكن يجوز لغيره الإملاء، أو يكتب الكاتب نفسه ما يعرفه من الحق و شؤونه بعد إلقائه على المديون و اعترافه به.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ .

السفيه: هو الذي ليست له حالة باعثة على حفظ ماله و الاعتناء بحاله و لا يتحفظ عن المغابنة، و لا يبالي بالانخداع، و هي قد تكون لكثرة الانقلاع عن دار الغرور و الاقتراب إلى عالم النور و السرور، فهي حالة ممدوحة، و فيها ورد قول بعض الأكابر: «نرجو شفاعة من لا تقبل شهادته». و قد تكون لغير

ص: 465

ذلك و هي حالة مذمومة، و قد ورد لها أحكام خاصة في الكتاب و السنة.

و المراد بالضعيف أي: الضعيف في عقله و هو المجنون و الصغير و الأبله و الخرف.

و المراد بمن لا يستطيع أن يملّ هو من لم يقدر على الإملاء، أو بيان الخصوصيات التي جرت عليها المعاملة كالأخرس و نحوه.

و الولي من يتولى الأمر و يديره و هو إما تكوينيّ - كولاية اللّه تعالى على ما سواه، و ولاية الأب على أولاده القاصرين، أو شرعي، أو عرفي، و عموم الآية الشريفة يشمل الأقسام الأخيرة مترتبة فيملي بالعدل بلا زيادة و نقيصة، و يبيّن جميع الخصوصيات المطلوبة.

و إنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ لرفع الإبهام في رجوع الضمير إلى الكاتب المذكور سابقا.

كما أنّ ذكر الضمير في قوله تعالى: أَنْ يُمِلَّ هُوَ لبيان أنّ الأخير يخالف المتقدمين فإنّه يشترك مع وليه بخلاف الفردين المتقدمين فإنّ الوليّ فيهما مستقل في الولاية.

قوله تعالى: وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ .

الاستشهاد: طلب الشهادة و الشهيد صفة دالة على الثبوت، و الشاهد من الشهود و الحضور، لأنّ المشهود به لا بد أن يكون حاضرا لدى الشاهد،

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مشيرا إلى الشمس: «على مثلها فاشهد أودع»،

و بسط الصادق (عليه السلام) كفه و نظر إليها فقال: «على مثل هذا فاشهد»، و سمي الشهيد به لحضور رحمة اللّه و حضور ملائكة الرحمة لديه.

و إنّما أمر سبحانه بالشهادة على الأموال و الحقوق و الديون للاستيثاق و لدفع الخصومة و النزاع.

و يستفاد من الآية الشريفة: اشتراط الذكورة فلا تقبل شهادة النساء الا على ما يأتي من التفصيل، و الرجولة فلا تقبل شهادة الصبيان، و الإسلام فلا

ص: 466

تقبل شهادة الكفار، و يدل على كلّ ذلك قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ .

و أما اشتراط الوثاقة فيدل عليه قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ .

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ .

أي: و إن لم يتمكن أحد من إتيان الشاهدين الرجلين فليستشهد، رجلين و امرأتين، و يشترط في هذه الثلاثة ما يشترط في الشاهدين الرجلين، لمكان البدلية. ممن يرضاهم النوع في شهادتهم و يعتمد الناس على شهادتهم بأن يكون الشهداء من أهل الصّلاح و العدالة.

قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى .

الضلال هنا: بمعنى التيه و الخطأ، و الآية الشريفة تبيّن حكمة جعل شهادة امرأتين مكان رجل واحد. أي: لئلا تضل إحداهما فتذكر الأخرى بعد التشاور و التحاور بينهما لبعد النساء عن أمور المعاملة و قلة ضبطهنّ لها من نوع الرجال.

و إنّما وضع سبحانه الظاهر في موضع المضمر في قوله تعالى:

إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى لاختلاف معنى اللفظ في الموضعين فإنّ المراد من الثانية إحداهما بعد ضلال الاخرى، و المراد من الأولى ضلال إحداهما لا على التعيين.

قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا .

الإباء: الامتناع. أي: لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا إلى تحمل الشهادة، و يحتمل أن يكون النهي عن الامتناع عن أداء الشهادة بعد تحملها، و يمكن حمل الآية المباركة على المعنيين التحمل و الأداء بعد وجود الجامع القريب بينهما.

و النهي للتنزيه كما في سائر أوامر و نواهي هذه الآية الكريمة، و لدلالة

ص: 467

السنة الشريفة عليه، الا أن يدل دليل على الحرمة.

قوله تعالى: وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ .

السأم: الملالة، قال تعالى: لا يَسْأَمُ اَلْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ اَلْخَيْرِ [فصلت - 49]، و الآية تؤكد على التثبت في الديون و حقوق الناس، و عدم التهاون فيها فإنّها مظنة النزاع و الضياع.

و المعنى: و لا تملّوا عن كتابة الدّين صغيرا كان أو كبيرا ذاكرين أجله و شؤونه. و إنّما قدم الصغير للاهتمام به أي: لا تكون القلة مانعة عن الكتابة.

قوله تعالى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا .

بيان للحكمة في الأحكام المتقدمة و قد ذكر سبحانه ثلاثة منها، و مادة قسط تأتي بمعنى العدل، و قد وردت هذه المادة في القرآن كثيرا، قال تعالى:

قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران - 18]، و قال تعالى: وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ [الحجرات - 9]، و يأتي القسط بمعنى الجور أيضا، قال تعالى:

وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن - 15]، فهو من الأضداد. و لو جعلنا القسط بمعنى مطلق الميل لم يكن من الأضداد، و لا من المشترك اللفظي، و حينئذ فإن كان إلى الحق فهو العدل و الإنصاف، و إن كان إلى الباطل فهو الجور و الاعتساف.

و المعنى: أنّ ما تقدم من الأحكام في الكتابة و الإشهاد و غيرهما أعدل طريق للتقوى و هو المحبوب عند اللّه تعالى، و أحفظ للشهادة و أعون على إقامتها على وجهها الصحيح، و أقرب إلى نفي الشك و الريب فإنّها تدفع ارتياب بعضكم من بعض. و هذه الأمور مطلوبة للناس مرغوب فيها.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة: أنّ جميع تلك الأحكام إنّما تكون لأجل هذه الغايات الحميدة، فتكون الأوامر و النواهي فيها للإرشاد لا للوجوب و الإلزام.

ص: 468

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها .

أي: إلا أن تكون المعاملة و التجارة نقدا ليس فيها دين و تتناقلون العوضين فيها بينكم فيأخذ كلّ واحد عوض ماله من الآخر، ففي هذه الحالة لا بأس في ترك الكتابة فيها.

قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ .

أي: و استشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، و الأمر إرشادي للتأكيد على شدة الحيطة في الأموال.

قوله تعالى: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ .

يضار هو المضارة بين اثنين، و أصله يضارر بفتح الراء الأولى إن كان الفعل مبنيا للمفعول، و بكسر الراء إن كان غيره.

و كيف كان فالآية الشريفة تنهى عن الضرر و المضارة بين الطرفين سواء كان أحد الطرفين الكاتب أو الشاهد، و الآخر المتعاملين.

أي: لا يوقع الكاتب المتعاملين في الضرر بالتحريف في الكتابة و لا يوقع الشاهد الضرر على المتعاملين بشهادة الزور.

أو يكون المعنى: النهي عن الكتابة الضررية و الشهادة كذلك فليس على الكاتب و الشاهد إلا أداء الوظيفة بلا ضرر، فلا يدخل الضرر على الكاتب و الشاهد بسبب الكتابة و الشهادة.

و إن تفعلوا المضارة و توقعوا الأطراف في الضرر فإنّ ذلك خروج عن الطاعة، و هو كائن بكم و متحقّق فيكم ما لم تتوبوا و ترفعوا الضرر و الحيف عمن وقع الضرر عليه.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ .

امتنان منه عزّ و جل بتعليم الأحكام الشرعية و المعارف الإلهية إذا تحققت

ص: 469

التقوى. و وعد منه تعالى بتعليم من اتقاه، و الآية الشريفة قضية عقلية فإنّ النفس الناطقة الإنسانية ليست من الماديات المحضة، كما هو ثابت بالوجدان و البرهان. و لها نحو تجرد فكلّ ما يفاض عليها لا بد أن يكون من عالم الغيب و أعظم أبواب عالم الغيب إنّما هو باب التقوى و هي الارتباط الخاص مع ذلك العالم، و لم يبلغ الأنبياء و الأوصياء و الصالحون إلى ما بلغوا من العلوم و المعارف الإلهيّة إلا بالتقوى، و تحمّل المصاعب و المتاعب في جنب اللّه تعالى، و الحرمان عن جملة من الشهوات و المستلذات، و ليست التقوى سببا تاما في إفاضة العلم بل لا بد من تسبيب سائر الأسباب، و لكن التقوى بمنزلة الروح لها.

و لعلّ إلى ذلك يشير تخلّل واو العطف و تكرار اسم الجلالة وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ .

و التقوى تصفي القلب من الكدورات المادية، فيستعد لإفاضة النور عليه.

و عن جمع من الإشراقيين أنّ العلم إنّما يكون بتصفية النفس و تطهير القلب عن كلّ دنس و ريب،

و قد ورد في الحديث: «ليس العلم بكثرة التعليم و التعلم و إنّما هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء»

و فيه أيضا: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لا يعلم» و في ذلك أحاديث كثيرة، و التجربة أكبر شاهد عليه.

و في الآية المباركة الموعظة الحسنة و التحريض إلى التقوى و العمل بما أنزله اللّه من الأحكام فإنّه طريق إلى العلم الصحيح النافع.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه عليم بحالكم و ما هو الأصلح لكم في الدنيا و الآخرة فاتقوه ليرشدكم إليه.

و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما تقدم، و قد وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّه المطلوب و هو اللّه العالم بكلّ شيء.

ص: 470

283 - قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ .

بيان للأعذار المانعة من الكتابة فيكون استثناء من الأحكام السابقة و يستفاد منه أهمية الاستيثاق على الأموال عن الضياع.

و مادة (رهن) تأتي بمعنى الدوام و الاحتباس و منه احتباس العين وثيقة على الدّين، و لم تستعمل في القرآن الكريم إلا في موارد ثلاثة أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: كُلُّ اِمْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور - 21]، و قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر - 38]، و هي كثيرة الاستعمال في غيره

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم» يعني إنّه لا خلاص للنفس و أنّها محبوسة لا يمكن فكها إلا بالعمل الصالح، كما أنّه لا خلاص للمال المرهون الا بأداء الدّين و قال الشاعر:

إن يقتلوني فرهن ذمتي لهم *** بذات و دقين لا يعفو لها أثر

و الرهن: مصدر رهنت الشيء و أرهنته و ربما يطلق على المال المرهون و هو كثير كما في الآية الشريفة.

و القبض: هو الاستيلاء على الشيء و هو من الأمور الإضافية تختلف باختلاف الجهات و الخصوصيات و القابض من أسمائه المباركة أي: إنّ جميع ما سواه تحت إرادته الكاملة جلت عظمته قال تعالى: وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ اَلسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر - 67].

و المعنى: و إن كنتم مسافرين و لم تجدوا كاتبا يكتب الدّين بالكيفية المطلوبة و أردتم الاستيثاق على دينكم فاستوثقوا برهن تقبضونه و قوله تعالى:

فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي: أنّ التوثيق رهان مقبوضة كما كان في الكتابة و الشهادة.

ص: 471

و المستفاد من الآية الشريفة: أنّ السفر عذر من الأعذار المانعة من الكتابة و الإشهاد فلا يكون شرطا لصحة الرهن، و إنّما ذكره تعالى بالخصوص، لأنّه الغالب في الأعذار لقلة الكتابة و الكاتب في الأعصار القديمة لا سيما في السفر. كما أنّ عدم الكاتب و الإشهاد ليس شرطا لصحة الرّهن فهو مشروع و صحيح مع تحققهما و ثبوتهما فإنّ الاستيثاق مرغوب إليه و حسن و لا يختص بحال دون أخرى.

ثم إنّه وقع الكلام في أنّ القبض شرط في صحة الرهن أو في لزومه أو لا يشترط فيه القبض و الظاهر من الآية المباركة هو الأول و يدل عليه بعض الروايات و قد ذكرنا تفصيل الكلام في كتاب الرهن من (مهذب الأحكام).

و الرهن لا يخرج بالرهانة عن ملك الراهن بل هو باق على ملكه و للمرتهن استيفاء حقه منه عند حلول الأجل و عدم وفاء الراهن للدّين فتكون منافع العين المرهونة للراهن دون المرتهن و لا يجوز لكلّ من الراهن و المرتهن التصرف في العين المرهونة الا بإذن الآخر

كما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الراهن و المرتهن ممنوعان من التصرف» و التفصيل موكول إلى الفقه.

قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ .

أي: و إن اعتمد بعضكم على بعض و كان من عليه الحق أمينا عند الدائن و لم يطلب منه وثيقة فإنّه يجب أن يؤدي المدين دينه كاملا و لا يجحده و لا يغيّر منه شيئا، و يستفاد من قوله تعالى: أَمانَتَهُ عموم الحكم لكلّ أمانة و منها الدّين فتشمل الوديعة و القرض و نحوهما، فيكون المورد من تطبيق الكبرى على أحد المصاديق نظرا لعموم العلّة.

قوله تعالى: وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ .

أي: و ليتق المدين اللّه ربّه في أمر حقوق الناس و يتنزه عن مخالفة أحكامه فلا يخوننّ في الأمانة و لا يجحدها بعد فقدان الوثيقة بينهما فإنّ اللّه تعالى به عليم و هو مالك أمره في الدنيا و الآخرة.

ص: 472

قوله تعالى: وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ .

«آثم» خبر إنّ «و قلبه» فاعل، أو «آثم» مبتدأ و «قلبه» فاعل سد مسد الخبر و الجملة خبر (إنّ ).

و كيف كان ففي قوله عزّ و جل من الفصاحة و البلاغة ما لا يخفى و هو من بديع البيان يكشف عن الضمير الإنساني بعد ارتكابه الآثام و الموبقات، فإنّ القلب بمنزلة القوة المدبرة للإنسان و هو مبدأ الشعور و التعقل ترجع إليه أحاسيسه و منه تصدر إرادته و حركاته، إذ ليس المراد من القلب اللحم الصنوبري الموجود في كلّ متنفس. و يصلح الجسد بصلاح القلب كما يفسد بفساده فإذا كان خاليا عن ظلمات الآثام و مصفّى من كدورات المادة كان الإنسان صالحا مراقبا لنفسه متبعا لأوامر اللّه تعالى و منتهيا بنواهيه متزنا في أفعاله و أقواله، و أما إذا كان فاسدا فلا يرجى منه الخير و قد طبع عليه و حينئذ لا يشعر بالحسن و القبح فيكون أصل الشر و مبعثا على الفساد فلا تصدر أفعاله عن فكر و روية صالحة تنفعه في الدنيا و الآخرة.

و من ذلك يعلم الوجه في نسبة الإثم إلى القلب فإنّ فساد المبدإ و الأصل موجب لفساد غيره، و يستفاد منه تغليظ الإثم أيضا و إنّما قال تعالى:

«آثم» دون الفعل للدلالة على أنّ الإثم متمكن في القلب و دائم بدوام الإثم و كتمان الشهادة من الكباير، و قبحه العقلي ثابت عند كلّ أحد فإنّ في كتمان الشهادة وقوع الظلم و الضرر على الناس و تضييع لحقوقهم و هدر لكرامتهم، و الجملة فيه خيانة على مصلحة النوع.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه عليم بنواياكم و أعمالكم يجازيكم عليها فلا بد من مراقبة النفس و الأعمال.

ص: 473

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: تدل الآية المباركة على أهميّة حقوق الناس و وجوب مراعاتها و التحفظ عليها، و قد ذكر سبحانه و تعالى أمورا ثلاثة على تثبيتها: الكتابة، و الشهادة، و الرهن، و لعلّ تأخير الرهن و تقييده بالسفر للإشارة إلى أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يرتهن من أخيه المؤمن فإنّ شرف الإيمان و عزّه يحملانه على الوفاء بالعهد و أداء حق الناس.

الثاني: قد ذكر سبحانه في الآية المباركة قواعد نظامية لا تختص بعصر دون آخر و لا ملّة دون أخرى فهي صالحة في جميع الأعصار و الشعوب تحفظ بها الأموال عن الضياع، و يسلم الإنسان عن التشاجر و التنازع و يرتضيها العقل السليم و يوافق عليها الطبع المستقيم و قد نبّه إليها القرآن الكريم قبل أن يصل الإنسان إلى المدنية الحاضرة و يقنن قوانين لتنظيم المعاملات و حفظ الأموال و تحسين النظام الاجتماعي الاقتصادي.

الثالث: أمر سبحانه و تعالى فيما تقدم من الآيات المباركة - مضافا إلى ما ورد فيها من لزوم التحفظ على أموال الناس - تنزيه النفس فيما بينها و بين اللّه تعالى عن الخيانة في الأمانة و هي التقوى التي حرّض القرآن عليها بأساليب مختلفة. و هي الأصل في جميع التشريعات السماوية كما أنّها روح

ص: 474

العمل و قوام الدّين و الأصل في كلّ تشريع.

الرابع: يحتمل في قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وجهان:

أحدهما: أن يكون المراد الشهادة المتعارفة كما مر في قوله تعالى بالنسبة إلى الدّين: وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ .

الثاني: شهود العوضين و ملاحظة الجهات التي تختلف باختلافها الأغراض العقلائية فتكون الآية في مقام نفي الغرر و الجهالة، و يكون مفادها مطابق للحكم الفطري، و يستفاد الوجوب الشرطي و الحكم الوضعي أي بطلان البيع مع الغرر و الجهالة و يكون

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«نهي النبي عن الغرر» مقتبسا من هذه الآية الكريمة.

و يبعد الاحتمال الأول أولا: أنّه لا بد من حملها على مطلق الرجحان لظهور الإجماع و السيرة العملية بين المسلمين من حيث نزول الآية الشريفة على عدم الوجوب.

و ثانيا: استنكار المتشرعة الإشهاد عند ابتياع شيء لو كان يسيرا الا أن تحمل الآية المباركة على الأشياء الخطيرة و هو يحتاج إلى دليل.

و ثالثا: أنّه لو كان المراد بها ذلك لكان ينبغي أن يأتي بلفظ الاستشهاد كما في صدر الآية المباركة.

الخامس: يمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ صحة إنشاء عقد البيع من المشتري بلفظ البيع أيضا كما هو المشهور بين أهل اللغة من أنّ هيئة التفاعل متقومة بالطرفين خصوصا في الاعتباريات التي أخف مؤنة من غيرها ما لم يرد ردع من الشارع.

كما أنّه يمكن أن يستفاد منه صحة إنشاء عقد البيع بلفظ (تبايعنا) من أحد الطرفين بعد رضائهما و تحقق سائر الشرائط و بذلك يسقط جملة كثيرة مما أطنب فيه الفقهاء في المقام، فيكون هذا اللفظ قائما مقام الإيجاب و القبول الذي أطيل فيه الكلام.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أنّه لا بد

ص: 475

من علم اليقين بالعمل و سائر خصوصياته و الاستيلاء على الجزاء ثوابا و عقابا و هذا هو الذي تطابقت عليه الكتب السّماوية، و العقل يحكم به حكما بتيا لا ارتياب فيه.

و يستفاد من الآية الشريفة: أحكام فقهية مذكورة في كتب الفقه و قد ذكرنا ما يمكن استفادته منها في ضمن التفسير و في (مهذب الأحكام) جملة أخرى منها.

ص: 476

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قال: «روي في الخبر أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكما، و في هذه الآية خمسة عشر حكما و هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ ثلاثة أحكام فَلْيَكْتُبْ أربعة أحكام وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ خمسة أحكام، و هو إقراره إذا أملاه وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً و لا يخونه ستة أحكام فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ يعني ولي المال سبعة أحكام. وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ثمانية أحكام. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى - إلى قوله تعالى - وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا عشرة أحكام: وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ أحد عشر حكما. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ - إلى قوله تعالى - فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها اثنا عشر حكما. وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ثلاثة عشر حكما. وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ أربعة عشر حكما. وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خمسة عشر حكما.

و في التهذيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ قال: «ذلك في الدّين إذا لم يكن رجلان، فرجل و امرأتان، و رجل

ص: 477

واحد و يمين المدعي إذا لم تكن امرأتان قضى بذلك رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أمير المؤمنين (عليه السلام) بعده عندكم».

أقول: الحديث يدل على ثبوت أمر آخر في إثبات الأموال و هو رجل و يمين المدعي فيكون بمنزلة الشرح للآية الشريفة.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا قال (عليه السلام): «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى الشهادة أن يقول: لا أشهد لكم».

أقول: ورد في مضمون ذلك روايات أخرى كثيرة.

و في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ قال: «قبل الشهادة».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «لا رهن إلا مقبوضا» و في تفسير العياشي مثله عن أبي جعفر (عليه السلام).

أقول: ذكرنا أنّ ظاهر الآية يدل على أنّ القبض شرط لصحة الرهن و لكن يمكن أن يقال: إنّه طريق لتحقق الاستيثاق و لو حصل بلا قبض يكفي ذلك كما في المصارف المتداولة في هذه الأعصار و بذلك يمكن أن يجمع بين كلمات الأعلام في الفقه فمن اعتبر القبض فإنّما هو لأجل حصول الاستيثاق و من لم يعتبره أي بعد حصوله.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله عز و جل: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال: «بعد الشهادة».

أقول: أي بعد التخمل.

و في الفقيه عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال: «كافر قلبه».

أقول: هذا محمول على بعض مراتب الكفر.

ص: 478

سورة البقرة الآية 284

لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُ.......

اشارة

لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284) الآية الشريفة تثبت ملكية اللّه تعالى لجميع ما سواه و هيمنته على خلقه و تدبيره لهم و علمه بالجزئيات فلا يخفى عليه شيء من أمور الناس حتّى خطرات القلوب و ما تخفيه النفوس و قد أثبت لنفسه محاسبة العباد و الجزاء على الأعمال فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء لقدرته على كلّ شيء و هو دليل على وحدانيته و انحصار الأمر فيه عزّ و جل. و في تعقيب آية الدّين بهذه الآية الشريفة إرشاد إلى أنّ مخالفة اللّه تعالى أمر عظيم تترتب عليها آثار خاصة في الدنيا و الآخر.

ص: 479

التفسير

284 - قوله تعالى: لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

إثبات لملكيته تعالى لمخلوقاته ملكية حقيقية إيجادا و إبقاء و إفناء و تربيبا و مثل هذه الملكية مختصة به لا يمكن أن توجد لغيره كما ثبت بالبراهين العقلية المفصلة في علم الفلسفة الإلهية و هو تمهيد لقوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ و بمنزلة العلة الفاعلية و الغائية له فيصير مجموع الآية المباركة من القضايا العقلية التي ذكرت فيها العلتان المزبورتان و هي من أمتن القضايا و أشرفها كما هو ثابت في علم الميزان.

و لعل في تخلل كلمة العطف وَ إِنْ تُبْدُوا إشارة إلى أنّ المعطوف من متممات المعطوف عليه فتكون المحاسبة على مضمرات القلوب و ما يبدو، و جزاؤه بالغفران أو العقاب من صغريات إحاطته القيومية على ما سواه فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فيكون تمام الآية بجميع أجزائها من أدلة سعة إحاطته.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ .

البداء و الإبداء: بمعنى الظهور و الإظهار، و هو خلاف الخفاء و الإخفاء، و كلّ منهما مورد علمه تعالى، و كلّ ما كان مورد علمه في عباده من جوانحهم

ص: 480

و جوارحهم يكون ؟؟؟ حسابه، و هذا شأن جعل القانون لمن أحاط بجميع جهات قانونه و استولى عليها استيلاء تاما، و لكن لا بد من الموازنة بين الاستيلاء على الخفايا و التعذيب عليها بحسب القوانين العقلية.

و المراد من قوله تعالى: ما فِي أَنْفُسِكُمْ تلك الأمور الكائنة في النفس التي تصدر الأعمال عنها و تكون أساسا لها فتشمل الملكات و الأحوال و الصّفات التي لها قرار في النفس - كالحب و البغض و الحسد و الحقد و نحو ذلك - فإنّها هي التي تكون قابلة للإظهار في الحركات الخارجية، فيكون ما في النفوس على أقسام:

الأول: مجرد الخطور و الفكرة من غير عزم ثابت عليه و إيجاد مقدمة من مقدماته و المستفاد من مجموع الأدلة السمعية أنّ مثل هذه الأمور إن كانت من الخيرات و الحسنات يثاب عليها و يشتد ثوابها بحسب أهمية الفعل.

و الغرض من ذلك هو تحريض الناس على إضمار الخيرات و الحسنات و الابتعاد عن السيئات و الآثام و لا عقاب على المضمر إن كان من السيئات ما لم يبرز في عمل خارجي.

الثاني: الخطور مع العزم عليه.

الثالث: ما إذا حصل بعض المقدمات على المضمر. و يظهر حكم هذين القسمين من القسم الأول بالفحوى.

الرابع: ما إذا حصل العمل الخارجي فيترتب عليه الثواب و ينبسط على جميع المقدمات حتّى الخطرات القلبية، و لا بأس بأن يجتمع في شيء واحد ثوابات كثيرة من جهات متعددة فإنّ اللّه ذو الفضل العظيم هذا إذا كان المضمر من الخيرات و الحسنات و الفضائل.

و أما إذا كان من غيرها فقد ذكرنا أنّه لا عقاب ما لم يظهر في عمل خارجي إلا إذا كان الشخص من المقرّبين و أولياء اللّه تعالى المتفانين في حبه فإنّ خطرات قلوبهم مما يحاسب عليه و في المأثور: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين».

ص: 481

و إن كان من العزم على الإثم و العصيان من دون فعل المعصية خارجا فلا ريب في أنّه نحو من التجري و الطغيان و لكن لا يترتب عليه العقاب فإنّ مقتضى الآيات الكثيرة و السنة المقدسة أنّ العقاب يترتب على الأعمال الخارجية دون المنويات القلبية.

و منه يظهر حكم ما إذا فعل بعض المقدمات غير المحرمة و لم يفعل أصل الحرام المقصود و أما إذا فعله فيستحق العقاب حينئذ على فعل الحرام لا أن يكون العقاب انبساطيا بالنسبة إلى المقدمات كما في الثواب لبناء عادته عزّ و جل على التخفيف قد سبقت رحمته غضبه هذا السبق ليس زمانيا فقط.

و محاسبة ما في النفوس بالمعنى المتقدم مما تدل عليه النصوص الكثيرة كتابا و سنة قال تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة - 225]، و قال تعالى: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً [الإسراء - 36]، و غير ذلك من الآيات الشريفة.

و لكن المحاسبة من اللّه جلت عظمته أعم من أن يكون في البين ؟؟؟ منه عزّ و جلّ على ما في النفوس سواء في الدنيا أو في الآخرة أو لا يكون فيهما معا، لأنّ في نفس الاستيلاء على المحاسبة و الإخبار عنها آثار خاصة هذا محصل ما يستفاد من مجموع الآيات الكريمة في مضمرات النفوس و الجزاء عليها و ما ورد في السنة الشريفة.

و لكن للمفسرين في تعيين المراد من ذلك أقوالا:

فقد ذهب جمع: إلى ثبوت المحاسبة و الجزاء على كلّ ما يرد القلب و ما يضمره الإنسان في النفس فيكون من التكليف بما لا يطاق و حينئذ تكون الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها المذكور في الآية التالية.

و فساده واضح فإنّ اللّه تعالى لم يشرع دينا فيه ما لا يطاق و هو قبيح عقلا و يستحيل عليه عزّ و جل، و الآية غير ناظرة إلى التكليف بما لا يطاق و لا

ص: 482

عموم لها حتّى يشمله.

و ذهب آخر: إلى أنّ الآية مختصة بكتمان الشهادة فهي مرتبطة بما سبقها من الآيات. و هذا أيضا مردود بالإطلاق و عدم اختصاصها به كما هو الظاهر المعلوم.

و ذهب ثالث: إلى أنّها مخصوصة بالكفار. و يرد عليه: ما ورد على سابقيه.

و قال رابع: بأنّ المراد بالإخفاء العمل. و لكنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة.

قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ .

تفريع على ما تقدم فإنّ المغفرة و العذاب يتوقفان على المحاسبة و العلم و مشية اللّه تعالى لغفران من يشاء و تعذيب من يريد عدل محض لأنّها منبعثة عن العلم الأتم الأكمل و الحكمة البالغة الكاملة

و عن عليّ (عليه السلام) في بعض حالاته الانقطاعية مع ربه: «اللهم لا تفعل بي ما أنا أهله فإنّك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذّبني و لم تظلمني أصبحت أتقي عدلك و لا أخاف جورك فيا من هو عدل لا يجور ارحمني، اللهم افعل بي ما أنت أهله فإنّك إن تفعل بي ما أنت أهله ترحمني و إن تعذّبني فأنت غنيّ عن عذابي و أنا محتاج إلى رحمتك فيا من أنا محتاج إلى رحمته ارحمني».

و إثبات المغفرة لما في النفوس يدل على أنّ لها شأنية العذاب باعتبار ثبوتها و قرارها في النفس بحيث تصدر الأعمال عنها، فتكون الجملة قرينة لما ذكرناه آنفا من التفصيل في المضمرات.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

بيان العلة للمحاسبة و المشية في الغفران و التعذيب، و القدرة من صفات ذاته المقدسة كعلمه و حكمته، كما أنّ مالكيته تعالى لما سواه كذلك، فيكون ما ذكر في الآية الشريفة معلّل بصدرها و ذيلها، و في الآية من الإنذار و التخويف ما لا يخفى.

ص: 483

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة ما يلي:

الأول: تثبت الآية الشريفة من الصفات للّه تعالى صفة المالكية، و القدرة، و العلم، و الربوبية العظمى، و الحكمة البالغة، و محاسبة اللّه تعالى لعباده، و هي من مهام صفاته العليا الذاتية، و هي تستلزم القيومية.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ علم اللّه تعالى بالجزئيات، و يمكن استفادة ذلك من سياق جملة من الآيات القرآنية و السنة الشريفة، و عليه إجماع الأنبياء و المرسلين، بل يمكن إقامة الدليل العقلي عليه أيضا.

و من نفى علمه تعالى عن الجزئيات تمسكا بأنّه يستدعي الآلات و هو نقص بالنسبة إليه عزّ و جل فقد أخطأ و ما ذكره مغالطة فاسدة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في علمه عزّ و جل إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: تدل الآية الشريفة على أنّ المحاسبة من اللّه تعالى أعم من الجزاء و المحاسبة منه عزّ و جل تستدعي علمه بالجزئيات و الكليات و بجميع

ص: 484

شؤون العباد، و تستلزم قدرته على جميع ما سواه فتكون في الإخبار بها آثار خاصة، منها إراءة أعمال العباد الظاهرية و الباطنية و سؤاله عزّ و جل منهم عن السبب في فعلها.

الرابع: يستفاد من هذه الآية و ما في سياقها لزوم مراقبة الإنسان لنفسه، و هي من أجل مقامات النفس و لها مراتب كثيرة و بعض تلك المراتب مبدأ السير و السلوك، و بعضها الآخر غاية لها. كما لا يخفى على أهله، و المراقبة عن الحركات مبدأ، و المراقبة عن الخطرات غاية.

ص: 485

بحث روائي

في تفسير العياشي، و المجمع و التبيان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ ... أنّ المراد ما يتناوله الأمر و النهي من الاعتقادات و الإرادات و غير ذلك مما هو مستور عنا.

أقول: هذه قرينة على أنّه ليس المراد من مورد المحاسبة مطلق ما يخطر بالبال و ما تضمره النفوس ما لم تكن مستقرة في النفس و إرادة فعلية لحصول المراد خارجا، و حينئذ فلا تختص المحاسبة بخصوص الجزاء على الأعمال الخارجية.

و في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ . قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأتوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) جثوا على الركب فقالوا: يا رسول اللّه كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، و الصيام، و الجهاد، و الصدقة، و قد أنزل اللّه هذه الآية و لا نطيقها. فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم:

سمعنا و عصينا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل اللّه في أثرها: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ ... الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه تعالى، فأنزل: لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها... إلى آخرها.

ص: 486

سمعنا و عصينا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل اللّه في أثرها: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ ... الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه تعالى، فأنزل: لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها... إلى آخرها.

أقول: رواه جمع غفير عن أبي هريرة، و روي أيضا قريب منه عن ابن عباس. كما روي النسخ أيضا عن ابن مسعود و عائشة.

و روي أيضا عن ابن عباس أنّها نزلت في الشهادة و إقامتها و كتمانها.

فتكون الآية غير منسوخة.

و روي عن ابن عباس و عائشة: أنّ المراد بالآية تلك الأعمال التي لم يطلع عليها الحفظة.

و روي عن الربيع بن أنس: أنّ المراد بالمحاسبة ما يخبر اللّه العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.

و روي عن عائشة: أنّ المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم و الحزن إذا هم بالمعصية و لم يفعلها.

و روي عن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ . فذلك سرائرك و علانيتك يحاسبكم به اللّه فإنّها لم تنسخ، و لكن اللّه إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم و يغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، و هو قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ يقول: يخبركم. و أما أهل الشك و الريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، و هو قوله: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .

و روي عن ابن عباس تفسيرها بوسوسة النفس، أو حديث النفس و بناء على جميع هذه الروايات تكون الآية محكمة و غير منسوخة.

أقول: الروايات في النسخ و عدمه متعارضة، مع أنّ رواية النسخ قاصرة السند و على فرض اعتبارها معارضة بالمثل، و مخالفة لظاهر الكتاب، و في مثل ذلك لا بد أن يرجع إلى أصالة عدم النسخ عقلا و شرعا كما هو ثابت في

ص: 487

محلّه. مع أنّ العقل يحكم بأنّه لا موضوع للنسخ فيما لا يعقل التكليف به، و هو الخطرات القلبية الخارجة عن الاختيار.

و أما الروايات التي وردت في تفسير الآية الكريمة مما لا يدل على نسخها إن رجعت إلى ما ذكرناه فلا بأس بها و الا فلا بد من طرحها.

ص: 488

بحث عرفاني

خلق اللّه تعالى الإنسان كالمرآة للحقائق الواقعية و المعارف المعنوية بل هو كالمرآة لصفات جلاله و جماله.

الحق في كثرة الأعيان إذ ظهرا *** و وجهه الأحديّ الذات ما كثرا

لكن كما شاهد الأعيان شاء يرى وجه الحقيقة في مرآة إنسان

هذا إذا كان الإنسان منقطعا إلى اللّه تعالى و منقادا له من كلّ جهة و أما غيره فلا يليق به هذا المقام بل قد يكون كالأنعام.

فإذا كان للإنسان الاستعداد لأن يحكي حقائق الممكنات مما مضى و ما هو موجود و ما هو آت فيجب أن يعتني بنفسه و يرعاها نهاية الرعاية و لا يسقطها عن الاعتبار و الا تلحقها المهانة و الصغار لأنّها السبب الموصل إلى كلّ مطلوب، و الرابط بين أهل الأرض و الغيب المحجوب فأيّ مكرمة للّه على خلقه أعظم من هذه المكرمة و أي موهبة له تعالى في عوالمه أفضل من هذه الموهبة و من فعل ما يوجب درن هذه المرآة فقد جنى على نفسه و أضاع ما أعدّ له من النعم الباقيات قال تعالى: فَما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة - 70].

ص: 489

سورة البقرة الآية 285-286

آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَ.......

اشارة

آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اُعْفُ عَنّا وَ اِغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (286) الآيتان الشريفتان من جلائل آيات القرآن الكريم تشتملان على مضامين عالية جمعت فيهما مجامع الكمال و السعادة، و فيهما أدب العبودية و نهاية الخضوع و التذلل للّه تعالى في أسلوب بليغ جذاب، و فيهما خلاصة ما تضمنته هذه السورة الشريفة التي كان الغرض المتحصل منها: الإيمان باللّه تعالى، و العبودية له عزّ و جل، و الإيمان برسله و ما أنزل عليهم، و الطاعة له عزّ و جل بالايتمار بأوامره، و الانتهاء عن نواهيه، و الاتقاء عما يوجب سخطه و عذابه و الإقرار بالبعث و النشور، و فيها قصص أهل الكتاب للعبرة منها و اللجوء إليه سبحانه و تعالى عما أصابهم بسبب تمردهم و طغيانهم.

و من بديع أسلوب هذه السورة أنّها بدأت بالهداية للمتقين و ختمت باللجوء إلى اللّه تعالى لطلب الهداية و الغفران و الإذعان بالطاعة الذي هو أمل

ص: 490

المتقين، فيكون أول السورة كالعلة الفاعلية و آخرها كالعلة الصورية أو المادية للأول و هما كالعلة الغائية لنظام التشريعات السماوية نزلتا على من هو علة غائية لنظام الخليقة و التكوين، و قد ختمتا بطلب النصرة على القوم الكافرين و هي غاية دعوة الأنبياء و المرسلين و المؤمنين باللّه تعالى و مضمونهما من القضايا العقلية التي تحكم بها الفطرة.

و في الآيتين فضائل و آثار مهمة نبهت إليها السنة الشريفة و لعظم منزلتهما عند اللّه تعالى كانتا في كنز تحت العرش.

ص: 491

التفسير

285 - قوله تعالى: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ .

إخبار عن تصديق الرسول و المؤمنين بما أنزل إليهم من ربّهم. و إنّما أفرد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) للإرشاد إلى أهمية الإيمان باللّه تعالى و أنّ الرسالة طريق إليه و لبيان أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) أول المؤمنين كما في الآية الشريفة التي حكى اللّه عنه: إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ [الأنعام - 163]، و كذا قوله تعالى: وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ [الزمر - 12]، و الاعتناء بإيمانه و تشريفا له (صلّى اللّه عليه و آله) كما هو دأب القرآن الكريم في تشريفه فيذكره و يذكر معه المؤمنين و هو كثير في القرآن قال تعالى:

فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [الفتح - 26].

و المؤمنون إما عطف على الرسول و ما بعده جملة مستأنفة، أو أنّ آمَنَ اَلرَّسُولُ جملة و المؤمنون جملة أخرى مستأنفة.

و الخطاب إنّما هو بين أعظم الموجودات كلّها و بين أشرف مخاطب في الممكنات في محل هو أعلى مقامات القرب إليه تعالى الذي لا يصل إليه ملك مقرّب و لا نبي مرسل، و الحالة هي حالة الجذبة الأحدية المطلقة لمقام الأحمدية المنقطعة إليها فاستشرقت من الشوارق المعنوية من المبدإ الحنان

ص: 492

بما لا يمكن تحديده بقلم و لا بيان.

و المراد بما أنزل إليه: جميع ما أوحي إليه من المعارف و الأحكام و السنن، و جوامع كلماته المباركة.

قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ .

حكاية عن حال كلّ من الرسول و المؤمنين على وجه الانفراد لأنّ الإيمان مطلوب من كلّ فرد فرد فهو قائم بالفرد حقيقة بخلاف غيره فإنّه يشمل الجميع أيضا و لذا حكى عنهم على سبيل الجمع كما في قوله تعالى:

فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

و تفصيل بعد إجمال اهتماما بالإيمان و تعظيما لشأنه فإنّ الإيمان بالقرآن الذي أنزل على الرسول يدعوان إلى التصديق باللّه تعالى و بالكتب و الرسل و الملائكة و القرآن حاو على جميع ذلك إجمالا و تفصيلا. و لا بد من الإيمان به على ما يليق و بالكيفية التي قرّرها.

و التصديق بالملائكة باعتبارهم سفراء اللّه تعالى إلى الأنبياء و الرسل و حملة الوحي و أنّهم عباد مكرمون لا يعصون اللّه في ما أمرهم به و يفعلون ما يؤمرون.

و الإيمان بالكتب الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى لهداية البشر و سعادتهم و ما تضمنته من المعارف و الأحكام.

و الترتيب طبيعي في سلسلة النزول و لكن في سلسلة الصعود يكون الإيمان بالأنبياء و الرسل أولا ثم بالكتب ثم بالملائكة. و أما الإيمان باللّه تعالى فهو محيط بجميع ذلك صعودا و نزولا.

قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ .

حكاية عن مقولهم من دون ذكر القول كما في قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لأنّ الإيمان استولى على قلوبهم و ملئت بحبّ اللّه تعالى

ص: 493

و رسله بلا تمييز بينهم، فهذا حال المؤمنين في إيمانهم سواء أظهروا ذلك في القول أم لا.

و في الآية الشريفة رد على أهل الكتاب و غيرهم الذين يفرقون في الإيمان برسل اللّه تعالى تعصبا أو لأجل أغراض فاسدة، كما حكى عنهم اللّه تعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم.

و الآية المباركة ترشدنا إلى قضية عقلية و هي أنّ التفرقة بين الرسل غير معقولة لأنّ الرسالة إنّما تكون عن واحد و في واحد، و التبدل الزماني و تفاوت الاستعدادات خارجان عمّا تتقوم به الرسالة و قد ذكرنا في قوله تعالى:

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة - 253]، ما يرتبط بالمقام.

قوله تعالى: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا .

حكاية عن قولهم مع ذكر القول من دون ذكره في الحكاية السابقة مع أنّهما في كلام واحد. و هو من بديع الأسلوب و فيه إظهار لخضوع القائلين و خشوعهم.

و هو إخبار عن الطاعة و الانقياد فإنّ السمع يكنّى به عن القبول و الإذعان، و الإطاعة عن الانقياد، و هذا هو حقيقة الإيمان سواء كان هذا القول شرحا للإيمان باللّه تعالى، يعني: سمعنا قول اللّه و أطعنا تكاليفه، أو يكون شرحا للإيمان بالرسل، يعني: سمعنا قول الرسول و أطعنا أوامره و نواهيه، و يكون متعلقا بغفرانك. يعني: سمعنا و أطعنا موجبات غفرانك و هي الايتمار بالأوامر و الانتهاء عن النواهي فإنّ جميع ذلك صحيح و يرجع إلى شيء واحد و هو بيان حقيقة الإيمان و هما يستعملان فيما هو المقدور و ما يقبل الفهم، و غيرهما ليس بداخل تحت التكليف فيكون الكلام تمهيدا لما سيأتي من نفي التكليف بما لا يطاق.

و السمع و الطاعة من مقوّمات العبودية للّه تعالى بحيث تبعث السمع على العمل و الطاعة على المحاسبة و هما من حقوق اللّه تعالى على العبد و الالتزام بهما من العبد يكون قضاء لحقه عزّ و جل عليه و وفاء لعهده مع الرب تعالى.

ص: 494

قوله تعالى: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ .

الغفران مصدر كالكفران، و هو بمعنى الستر منصوب بفعل مقدر من لفظه أو غيره أي: اغفر غفرانك أو نسأل غفرانك.

و من المقابلة بين السمع و الطاعة و بين الغفران يستفاد أنّ الأولين حقا للّه تعالى على العبد، و الثاني حق العبد على اللّه تعالى.

و إنّما حذف المتعلّق ليشمل جميع مراتب إحسانه تعالى، و تفاؤلا من المؤمنين بأنّ الخير المحض لا يصدر منه الا الخير المحض، و أنّ أصل الإيمان الذي هو أرفع المقامات و أفضل الحسنات يذهب السيئات فالمؤمن في الدنيا رهين نعمته و في الآخرة غريق رحمته.

و قد ذكروا الرب لما فيه التلطف و بيان الاحتجاج على رحمته تعالى أي: إنّنا مربوبون لا نملك من أمرنا شيئا و أنت الربّ الذي يرجع إليه العبد فاغفر لنا.

و ختموا الدعاء بالمصير إليه اعترافا منهم بالفقر و النقصان و هو المرجع في الدنيا و الآخرة و قد طلبوا منه الغفران و الستر عما يقع منهم في طريق الاستكمال و المصير إليه عزّ و جل.

286 - قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ .

الوسع: الطاقة، و وسع الإنسان أي ما تسعه قدرته و ما تتحمله طاقته و هو يشمل جميع مراتب التكاليف و أبدالها فهو ذو مراتب بحسب متعلقه.

و الكلام يحتمل أن يكون من اللّه تعالى إرشادا إلى تقديسه في كماله و لطفه بعباده، و تعاليا عن القبح في التكليف بغير المقدور و امتنانا على العباد.

كما يحتمل أن يكون من الرسول و المؤمنين إظهارا لعدله و رأفته بهم.

و الجملة كالنتيجة لما تقدم في الآية السابقة كما عرفت آنفا، و توطئة لما ذكر في الجملة الآتية.

ص: 495

و المعنى: إنّ اللّه لا يكلف عباده بما لا يطيقون و لا يحملهم على ما لا يقدرون فللإنسان جزاء ما يكسبه من الخير حسب وسعه و طاقته و عليها وزر ما اكتسبت نفسه من الشر يوفي جزاء كلّ منهما و لا يظلمهم فيه.

و إنّما نسب الاكتساب إلى النفس توبيخا و احتجاجا عليه فإنّه قد تحمّل في الشر من المشقة و التكلف و هو يدل على أنّ في النفس عند الشر صراع بين العقل و الشرع من ناحية و النفس الأمارة من جهة أخرى فقد تحمل المشقة و إن كانت النفس إليه أحب و أعمل لأنّه من مشتهياتها بخلاف الخير فإنّها مجبولة عليه و لا يحتاج إلى المشقة و الاعتدال.

و الآية الشريفة تدل على اختيار الإنسان في أفعاله و الرد على من يقول بالجبر، و ما ورد فيها من القضايا العقلية التي تحكم بها الفطرة السليمة قرّرها الرب الرؤوف على لسان نبيه العظيم بدلا عن لسان الأمة فسأل ربه فأرشدهم اللّه تعالى إلى ما يحفظهم و يقيهم و ما هو الأصلح لهم.

قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا .

مادة (نسي) تأتي بمعنى الترك و التأخير و الإهمال، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم و السنة الشريفة، و لعل أعظمها على القلوب قوله تعالى:

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر - 19]، و قوله تعالى: وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية - 34].

و النسيان في أمثال هذه الموارد بمعنى الترك.

و في الحديث: «صلة الرحم مثراة للمال و منسأة للأجل» و هي بمعنى التأخير.

و السهو و النسيان و الخطأ و الغفلة لها جامع قريب و هو سقوط الالتفات و التوجه التفصيلي في النفس عن المعنى فعلا. و الاختلاف إنّما هو بلحاظ أصل المعنى في الذاكرة أو الحافظة أو أصل المخ على تفصيل مذكور في محله.

و طلب نفي المؤاخذة على النسيان و الخطأ باعتبار ما جبل الإنسان عليه من الضعف و الفتور و هما قد يقعان بسبب التساهل و التقصير في التحفظ على

ص: 496

مقدمات التكليف فطلبوا من الرب الرحيم أن لا يؤاخذهم على ذلك كما كان على العكس بالنسبة إلى الذين من قبلهم و طلبوا منه الهداية و التوفيق و الرشاد لئلا يقعوا فيما يوجب النسيان و الخطأ لما عرفوا من أنفسهم الضعف.

و إنّما قدم النسيان لكثرة ابتلاء الإنسان به حتّى قيل: إنّ اشتقاق اسمه منه.

و إنّما أدخل الرسول نفسه في زمرة المؤمنين و طلب نفي المؤاخذة على النسيان و الخطأ باعتبار أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) من حيث ذاته معرّض لذلك و إن كان باعتبار حضوره لدى اللّه تعالى و اعتصامه به في جميع حالاته معصوما منزها عن ذلك كلّه.

قوله تعالى: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا .

الإصر: الضيق و الحبس، و المشقة، و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم الا في ثلاثة مواضع، أحدها المقام. و الثاني قوله تعالى: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف - 157]، و الثالث قوله تعالى: وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران - 81]، أي العهد الضيق الشديد. و المراد به التكاليف الشاقة، كما أنّ المراد من اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أهل الكتاب.

و الإصر الذي حمل على غيرنا لم يكن بجعل أولي، بل كان بسبب تمردهم و لجاجهم و أعمالهم الفاسدة، قال تعالى: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ اَلْحَوايا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّا لَصادِقُونَ [الأنعام - 146]. و قد حكى اللّه عزّ و جل في كتابه الكريم كثيرا منها، و تقدمت قصة ذبح البقرة في هذه السورة، و يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف - 157]، حيث نسب الإصر إلى أنفسهم لأنّهم السبب في تحمّله، و في هذه الآية نسب التحمل إلى اللّه

ص: 497

تعالى باعتبار مجرد المنشئية، و ليس هو من التكليف المنفي عنه عزّ و جل عقلا، لأنّه مما اختاره الإنسان بسوء اختياره، و يدل على ذلك قوله تعالى:

ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج - 78]، فإنّه يدل على نفي الحرج في كلّ دين سماوي سواء كان ملة إبراهيم (عليه السلام) أو شريعة موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام) التي هي تابعة لملة إبراهيم (عليه السلام).

إن قيل: إنّ التكليف يلازم المشقة و الثقل، لأنّه من الكلفة و هي المشقة.

يقال: إنّ كون التكليف ملازم للمشقة أعم من كونه فوق الطاقة و ما لا تسعه قدرة الإنسان أو ضيّقا حرجيا بحيث يحتمل المشقة الشديدة مع أنّ التكليف بالأحكام أمر يجوّزه العقل و لا مانع فيه فإنّ إهمال الإنسان من كلّ جهة قبيح و هو ممتنع على اللّه تعالى، بل إنّ إهماله إهمال للنظام الكياني كلّه.

و بملاحظة قبح التكليف بما لا يطاق يكون التكليف الممدوح هو الذي لا يكون فيه العسر و الحرج، و هو من الواجبات المستقلة العقلية النظامية.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع التكاليف الشاقة حتّى التكاليف الامتحانية التي ابتليت بها الأمم السابقة، و التكاليف التي يضعها الإنسان على نفسه على سبيل التخيل و الوسواس التي هي خلاف الأدلة الشرعية الواصلة إلينا

ففي الحديث «الدّين يسر و لا تعسّروا» و قد اعتبرها الإمام الصادق (عليه السلام) من إطاعة الشيطان حيث

قال: «و أي عقل له و هو يطيع الشيطان» أعاذ اللّه تعالى عباده منه فيكون معنى الآية الشريفة: ربنا ألهمنا الرشاد و التوفيق لترك ما يوجب جميع ذلك.

و في الآية كمال الامتنان على أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و البشارة لهم.

ص: 498

قوله تعالى: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ .

الكلام في هذه الآية الشريفة كالكلام في سابقتها، فإنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلا و هو محال على اللّه تعالى، بل المراد نفي و إبعاد ما يوجب الوقوع في المشقة و التعب الشديد، كالابتلاء و الامتحان و جزاء الأعمال السيئة في الدنيا و الآخرة. أي: لا توقعنا فيما يوجب هذه الأمور بسوء اختيارنا.

و في تكرار لفظ الرب في هذه الموارد رجاء بعث صفة الرحمة من الرب، و إظهار العبودية في المربوب، و قد ذكرنا في سورة الفاتحة أنّ في هذا الاسم الشريف خصوصية لم تكن في غيره عند الدعاء، و لذا كان الأنبياء و الصالحون يذكرونه في حالاتهم الانقطاعية مع اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اُعْفُ عَنّا وَ اِغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا .

العفو: إذهاب أثر الشيء، و المراد به محو آثار المعاصي و الذنوب.

و المغفرة: الستر، أي الصفح عن الذنوب و إسقاط حق العقوبة و العذاب. و الرحمة تشمل الجميع.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة أدب الدعاء، فإنّ الذنوب و الآثام تجلب آثارا خاصة، و توجب العقوبة و العذاب، فطلبوا محو الآثار أولا و إسقاط حق العقوبة ثانيا، و الرحمة في جميع الأحوال من التوفيق و السداد.

و يختلف طلب المغفرة في هذه الآية عنه في صدرها، فإنّ في هذه إنّما يكون عن الذنوب و النقص الحاصل من جهة الخطاء و النسيان و ارتكاب ما يوجب الوقوع في المشقة و الإصر. و أما الغفران في قوله تعالى: غُفْرانَكَ رَبَّنا إنّما هو مطلق يشمل جميع الحالات و الأمور.

و يحتمل أن تكون هذه الجملات الثلاث مقابلة لتلك الدعوات، فالعفو يكون عما يصدر من الإنسان نسيانا أو خطأ، لكثرة وقوع المكلّف في المخالفة بسبب التقصير في التكليف و مقدماته. و الغفران للذنوب و الصفح عن العقوبة بالنسبة إلى ما يوجب الإصر، و الرحمة بالنسبة إلى ما لا طاقة لنا به.

ص: 499

قوله تعالى: أَنْتَ مَوْلانا .

جملة مستأنفة، أي: أنت وليّ أمرنا و ملجؤنا في جميع أمورنا، و في ذكره بالخصوص لإظهار العجز و العبودية له تعالى، و جلب رأفته و عطفه على من لا ملجأ له الا إليه.

قوله تعالى: فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

دعاء لطلب النصرة على القوم الكافرين الذين يقفون في سبيل نشر الدعوة الإلهية و دين الحق.

و النصرة على الكافرين مطلقة تشمل النصرة المعنوية بحسب المعارف و الأحكام، و الآداب، و مكارم الأخلاق. و النصرة الظاهرية التي تتوقف على إقامة الدّين، و العمل بالشريعة، و نبذ الفرقة و الاختلاف. و هي غاية دعوة الأنبياء و المرسلين، فإنّ بها يتحقق ثبات الدّين و استمراره و إقامته.

و الآية المباركة بصدرها و ذيلها تتضمن الدعاء بالتوفيق و السداد لتحمل الدّين بعد حدوثه، و بقائه و إقامته، و لا أثر لأحدهما بدون الآخر، و لذا كان هذا الدعاء بعد السمع و الطاعة لأصل الدّين و تحمله بالوجه الصحيح، ثم نشره لإعلان الحق.

و إنّما كان هذا الدعاء على سبيل الجمع باعتبار أنّ الاتحاد هو الموجب للنصرة، و فيه من التحريض على الاتفاق و الاجتماع، و نبذ الفرقة و الاختلاف ما لا يخفى.

ص: 500

بحوث المقام

بحث روائي

وردت روايات متعددة تدل على فضل الآيتين المتقدمتين و عظيم منزلتهما عند اللّه تعالى، و يشهد له مضمونهما الرفيع الذي اجتمع فيه مجامع الكمال و السعادة و يحكم بها العقل و الفطرة السليمة، و قد منّ اللّه تعالى فيهما على عباده برفع ما لا يطيقون و ما لا تسعه قدرتهم، و التكاليف الشاقة، و نحن نذكر جملة من الروايات الدالة على فضلهما و ما ورد في تفسيرهما.

في تفسير القمي عن هشام عن الصادق (عليه السلام): «إنّ هذه الآية مشافهة اللّه تعالى لنبيه ليلة أسري به إلى السّماء، قال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): لما انتهيت إلى محل سدرة المنتهى، فإذا الورقة منها تظل أمة من الأمم، فكنت من ربّي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى اللّه عزّ و جلّ ، فناداني ربّي تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه. فقلت أنا مجيبا عنّي و عن أمتي: و المؤمنون كلّ آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرّق بين أحد من رسله. و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فقال اللّه: لا يكلّف اللّه نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت. فقلت: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. و قال اللّه: لا أؤاخذك. فقلت: ربنا و لا تحمّل

ص: 501

علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا. فقال اللّه لا أحملك. فقلت: ربنا و لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنّا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. فقال اللّه: قد أعطيتك ذلك لك و لأمتك. فقال الصادق (عليه السلام): ما وفد إلى اللّه تعالى أحد أكرم من رسول اللّه حيث سأل لامته هذه الخصال».

أقول: هذه الرواية تؤيد أنّ «المؤمنون» جملة مستأنفة، و هو أحد الوجهين اللذين تقدم ذكرهما.

و في الدر المنثور عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه سبحانه قال عند كلّ فصل من هذا الدعاء فعلت و استجبت»

و فيه أيضا عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».

و عن ابن المنكدر رفعه إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «في آخر سورة البقرة آيات إنّهنّ قرآن، و إنّهنّ دعاء، و إنّهنّ يرضين الرحمن».

و في الدر المنثور و غيره أنّهما من كنز تحت العرش.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): وضع عن امتي تسع خصال الخطأ، و النسيان و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد».

و في الكافي أيضا عن عمرو بن مروان قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): رفع عن امتي أربع خصال: خطأها، و نسيانها، و ما أكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ذلك قول اللّه عزّ و جل: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، و لا تحمّل علينا إصرا كما حمّلته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به. و قوله إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان».

أقول: المراد من الرفع هو رفع الآثار الشرعية كالعقاب.

ص: 502

و في تفسير العياشي عن أحدهما (عليهما السلام) في آخر البقرة لما دعوا أجيبوا، لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها . قال (عليه السلام): ما افترض اللّه عليها. لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت - الحديث».

أقول: هذا الحديث يشهد لما قلناه من المراد من الرفع الدفع لا الرفع الحقيقي إذ لم يثبت شيء حتّى يرفع، كما أنّ المراد به رفع حقيقة النسيان و نحوه فإنّه موجود حقيقة، و قد فصلنا القول في هذا الحديث في كتابنا (تهذيب الأصول).

و في التوحيد عن الصادق (عليه السلام): «ما أمر العباد إلا بدون سعتهم، فكلّ شيء أمر الناس بأخذه فهم متسعون له، و ما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم، و لكن الناس لا خير فيهم».

ص: 503

بحث فلسفي

القوانين السماوية يشترط فيها أمور لا بد أن تجتمع فيها و الا كانت لغوا و اللّه تعالى منزه عن اللغوية بدليل العقل و النقل كما فصل في محله.

الأول: كمال المقنن بالعلم الأكمل و الحكمة البالغة و الإحاطة بالكليات و الجزئيات و قد أقام الفلاسفة الأدلة لإثبات كلّ واحد منها، و العلم الأكمل عين ذاته و الحكمة البالغة، و القيمومية المطلقة من أبرز مظاهر حياته التي هي عين ذاته، فيصير كلّ ذلك عين الذات المقدسة.

الثاني: علمه و إحاطته بجميع الموجودات جزئياتها و كلياتها.

الثالث: ملاحظة خصوصيات المجعول له من جميع الجهات و الإضافات. و مع الخلل يكون من التكليف بالمحال كالتكليف بما لا يطاق و ما فيه العسر و الحرج فإنّهما منافيان لحكمته و هو محال بالنسبة إلى الرؤوف الرحيم الحكيم العليم فما ورد في الآية المباركة و غيرها من الأدلة الشرعية إنّما هو التنبيه إلى الفطرة و إرشاد إليها.

ص: 504

بحث عرفاني

الآيتان المباركتان تدلان على مخاطبة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) مع الرب جلّت عظمته و حقيقة هذه المخاطبة من الأمور التي لا يمكن تعريفها و تحديدها فإنّه مهما أمكن تعريف شيء من الأشياء أو الإشارة إليه بحدّ أو رسم لا يمكن ذلك فيما هو خارج عن المشاعر الإمكانية و إن شئت فعبّر عنه بعلم الحال أو علم الحضور أو نحو ذلك مما يصح أن يشار به إلى هذا النحو من الوجدان فلا بأس به.

و كيف يعرّف ما هو خارج عن الأين و الكيف و نحو ذلك من الألفاظ المعرّفة للأشياء؟!.

و كيف يعقل أن يعرّف حالة ملاقاة الحبيب غير المتناهي في أي جهة من الجهات لحبيبه المتفاني فيه من جميع جهاته حتّى وصل من الخلق إلى الحق بكلّ معنى الحقانية و أراد أن يرجع منه إلى الخلق لتكميل الحق و الحقيقة ؟!.

و التعبير بالسفر و الملاقاة و الرجوع من باب قصور التعبير و الا فلا معنى للحبيب و حبيبه المتفاني فيه هذه التعبيرات مطلقا.

و كيف تحدّ حالة هي حالة مكالمة الحبيب لحبيبه مشافهة و كلمات هي عين ما وقع بها التخاطب في قمة ذروة الممكنات بأسرها؟! أم كيف يوصف فضاء تشرف بهذه الكلمات و الملاقاة ؟!

ص: 505

و كيف توصف كلمات هي أساس النظم و الانتظام ؟! فلو لم يكن لسيد الأنبياء إلا حدوث هذه الحالة لكفاه فخرا على جميع الأنبياء فإنّه إن أرى اللّه لخليله ملكوت السموات و الأرض فقد أرى لحبيبه هيمنة خلاّقية السموات و الأرض فحق أن تكون الآيتان المباركتان من كنوز تحت العرش كما في الحديث بل العرش ينطوي في هذه المكالمة و الحالة:

هذه من علاه إحدى المعالي *** و على هذه فقس ما سواها

كما أنّه يحق لنفس هذه الكلمات كلّ مرتبة عالية يقال لها فإنّه ليس شيء في الممكنات أعلى و أغلى من الإيمان باللّه تبارك و تعالى و كذا بالنسبة الى التكليف فإنّه كمال إنسانية الإنسان الذي هو أفضل الموجودات و قد يصل إلى أعلى الدرجات.

و الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 506

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.