مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

المدخل

نحمدك اللهم على ما فضلتنا به من الاستضاءة بأنوار كتابك و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و سيد رسلك و آله و أصحابه السابقين إلى امتثال أمرك

ص: 4

تتمة سورة البقرة

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّال.......

اشارة

وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ (124) شرع سبحانه و تعالى في بيان بعض أحوال إبراهيم (عليه السلام) تمهيدا لبيان بناء البيت و تشريع القبلة للمسلمين، و أهمية البناء و عظمته تنبئان عن عظمة الباني و أهميته؛ و لذا خصه اللّه تعالى - و بعض ذريته - بالإمامة الكبرى، كما أنّ في تأخير ذكره عن أهل الكتاب ترغيبا لهم بالإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أنه ليس من حق اليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه السلام) أن يعرضوا عن الأساس الذي بني عليه الإسلام، بل أساس النبوة العظمى و الإمامة الكبرى، فهو (عليه السلام) محور الكمالات الإنسانية، فلا عذر في الإعراض عن تعاليمه.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ . مادة «بلي» تأتي بمعنى الخلق الذي هو ظهور لحمته و سداه، و بروز واقعه و حقيقته للناس و لصاحب الثوب، و استعملت في الامتحان و الاختبار من هذه الجهة، لأنهما يظهران حقيقة الشيء و واقعه.

و المراد بهذا الظهور هو الظهور للنفس و لمن يجهل الحقائق، لا بالنسبة إلى اللّه الذي هو علاّم الغيوب، و المطلع على كل سر محجوب.

ص: 5

و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى:

وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ اَلسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف، الآية:

168]، و قال تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 35] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و يصح استعمال هذه المادة في الخير و النعمة لتظهر كيفية الشكر عليهما. و في الشر و النقمة ليعلم كيفية الصبر عليهما.

و إبراهيم كلمة سريانية تفيد معنى الأب الرحيم على ما قيل، و يشهد له التأمل في أحوال هذا الرجل العظيم من حبه للضيوف و المساكين و كثرة مداراته مع المعاندين، و رأفته بأطفال المؤمنين في عالم البرزخ كما في النصوص الى غير ذلك من الصفات الحسنة مما تأتي الإشارة إليها.

و قد تكرر اسمه الشريف في الكتب السماوية، ففي القرآن المجيد في ما يقرب من سبعين موردا. و هو الذي دعا إلى عبادة الإله الواحد الأحد القيوم خالق السموات و الأرض، فلقي ما لاقاه من قومه المشركين، و كان من انقطاعه إلى رب العالمين، ما أوجب تحير الملائكة فيه أجمعين، و كان من بذل نفسه للرحمن و ماله للضيفان و ولده للقربان أن اتخذه اللّه تعالى خليلا لنفسه، و أراه ملكوت السموات و الأرض و جعل النبوة و الحكمة و الملك العظيم في ذريته، و فدى ولده بذبح عظيم.

و هو أول من رفع قواعد البيت الحرام بعد الطوفان و أول من أتى بشرائع الإسلام، و أول من قاتل في سبيل اللّه تعالى و أول من اتخذ الرايات في الدعوة إلى رب السموات، فحقيق له أن يكون خليلا للّه تعالى، و حق للّه سبحانه و تعالى أن يتخذه خليلا.

و إنّما قدّم على الفاعل في الآية الشريفة اهتماما به، و لاتصال الفاعل بضمير المفعول الموجب لتقديم الأخير عليه.

و إنما بدأ سبحانه و تعالى في ذكر قصة إبراهيم (عليه السلام) بذكر الابتلاء و الامتحان، إعلاما لخلقه بأنّ الأنبياء و الأوصياء إنما وصلوا إلى

ص: 6

مراتبهم العالية بالاختبار و الامتحان، و أن إبراهيم (عليه السلام) قد خرج عن هذا الابتلاء و الامتحان بأحسن وجه، و بأن فضله و كماله بإتمام ما كلفه اللّه سبحانه و تعالى به.

قوله تعالى: بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ . الكلمات جمع كلمة. تظلق على الأثر الحاصل غالبا للسمع أو البصر. فمن الأول عامة الكلمات الشايعة المستعملة. و من الثاني الجرح المحسوس بالبصر، فالألفاظ المسموعة كلمات و المعاني التي تحتها كلمات أيضا، لمكان الاتحاد بينهما في الجملة من هذه الجهة. كما أن المعاني كلمات اللّه تعالى من حيث دلالتها عليه سبحانه و مظهريتها له تعالى، سواء وجدت بالوحي، أم الإلهام، أم القذف في القلوب و غير ذلك من وجوه المعرفة و الاتصال مما لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

كما تطلق الكلمات على الذوات قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 39].

و المراد بكلمة اللّه تعالى أو كلماته حيث تطلق في الكتاب و السنة ما أنشئ عن ذاته المقدسة، سواء أ كان جوهرا بحسب مراتبه أم عرضا و إنما أطلق لفظ الكلمة عليه من باب ضيق التعبير، و إلاّ فإن منشآته عزّ و جل تكفي فيها الإرادة و الأمر التكويني، كما قال تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82].

و ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) في بعض الأدعية المأثورة: «مضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة». و أن أمره التكويني عبارة عن إرادته تعالى، كما أن إرادته فعله.

و المراد بالكلمات في المقام الأعم من المظاهر الأخلاقية النفسانية أو التكليفية، أو الذوات الخارجية الذي هم مظاهر الحقيقة الإنسانية كالأنبياء و الأوصياء الذين هم من نسل إبراهيم (عليه السلام).

فلا بد أن تكون الكلمات هي ما تقع في طريق الاستكمال الإنساني لأنه المقصد الأسنى من خلق الإنسان، و من اتخاذ إبراهيم خليلا، و موسى كليما، و محمدا مرسلا إلى العالمين. و قد شرحت السنة المقدسة تلك الكلمات، و يأتي التعرض لها في البحث الروائي.

ص: 7

و مادة (ت م م) تستعمل في انتهاء الشيء بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر خارج عنه، و هو ضد النقص. و قد استعملت في القرآن كثيرا، قال تعالى: وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قال تعالى: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة، الآية: 150] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و إتمام الصّلاة إتيانها بحيث لا نقص فيها و لا قصر؛

و في الحديث «اللهم رب هذه الدعوة التامة» أي لا نقص فيها في ربط العبد بمعبوده، و لو كان نقص في البين فإنه من نفس العبد.

و المراد به في المقام أي: أكملهنّ كما هو حقها و وفّاها كمال الوفاء بلا نقص فيها و لا خلل.

قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً . الجعل من الألفاظ العامة؛ و هو أعم من الفعل و الصنع و نحوهما.

و يستعمل في موارد شتى منها: الخلق و التكوين، و التشريع، و الحق، و الباطل و غير ذلك، فمن الأول قوله تعالى: وَ جَعَلَ اَلظُّلُماتِ وَ اَلنُّورَ [سورة الأنعام، الآية: 1]، و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً [سورة يونس، الآية: 5] و قوله تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ [سورة النحل، الآية: 78]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة.

و من الثاني قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ [سورة البقرة، الآية: 143]، و قوله تعالى: وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [سورة يونس، الآية: 87]، و غيرهما من الآيات المباركة.

و من الثالث: قوله تعالى: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف، الآية: 100]، و جميع ما مر من الآيات المباركة و نظائرها.

و من الأخير قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ [سورة الرعد، الآية:

33]، و قوله تعالى: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ اَلْبَناتِ [سورة النحل، الآية: 57]، إلى

ص: 8

غير ذلك من الآيات المباركة.

و المراد به في المقام الجعل التشريعي، نظير قوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً [سورة ص، الآية: 26]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ [سورة الأنبياء، الآية: 73]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية:

35].

و الجعل التكويني ما ليس لاختيار الغير دخل فيه بخلاف التشريعي فإنه في مورد اختيار الغير، و يصح كل منهما بالنسبة إلى اللّه تعالى و بالنسبة إلى الإنسان، فالفعل الاختياري الصادر منه كالقيام و القعود مثلا جعل تكويني، و أمره الغير بشيء و نهيه عنه جعل تشريعي.

و الإمام كل ما يقتدي به النّاس سواء أ كان كتابا سماويا، قال تعالى: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً [سورة هود، الآية: 17]، و قال تعالى: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [سورة يس، الآية: 12]. أم رجلا إلهيا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: 35].

و يستعمل في كل من الحق و الباطل، قال تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [سورة الفرقان، الآية: 74].

و الإمامة في عرف المليين هي الزعامة الإلهية و الرئاسة الربانية على النّاس، و الإمام هو الزعيم و المقتدى في أمور الدين و الدنيا، فهو القوة المجرية لأحكام اللّه تعالى و تدبيراته في خلقه من حيث التشريع فتكون رئاسته من الحق و بالحق.

و إذا لوحظت مطلقا من غير شرط فهي تجامع النبوة و الرسالة، و إذا لوحظت (بشرط لا) فهي تختص بغيرهما فإنّ مجرد إنزال التشريعات السماوية على من يختاره اللّه تعالى يكون نبوة، و امره تعالى ذلك النبي أن يرسل و يبلغ

ص: 9

ما أنزل عليه إلى النّاس يكون رسالة. كما أنّ أمر اللّه تعالى ذلك الرسول بإخراجها في النّاس و إقامته فيهم يكون إمامة، و بين الجميع تصادق في الجملة و الحقيقة واحدة و لكن لها مراتب مختلفة.

و يصح انفكاك الأول عن الأخيرين كما في جمع كثير من الأنبياء (عليهم السلام) مثل لوط، و يونس، و هود و غيرهم. كما يصح انفكاك الأخير عن الأولين، كخلفاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و يصح اجتماع الجميع كما في إبراهيم و موسى و عيسى و خاتم النبيين (صلّى اللّه عليهم). فلا ملزم أن يكون كل نبي أو رسول إماما كما لا ملزم أن يكون كل إمام نبيا أو رسولا. و لها فروع منها القضاوة التي هي الحكم بين النّاس بالحق بإذن من إمام الأصل (عليه السلام)، كما فصل في الفقه.

فالإمامة هي السلطة الفعلية الإلهية على تنظيم أمور الرعية بما يريده رب البرية، و لا ريب في أنها أعلى مقامات الإنسانية لكونه أمين اللّه تعالى في خلقه و أمين الخلق بينهم و بين اللّه تعالى؛ فلا بد أن يكون أعلم النّاس بأحكام اللّه تعالى، و أتقاهم في دينه، و أعقلهم و أسوسهم في ترتيب أمور العباد و تنظيم البلاد بما يفاض عليه من اللّه تعالى، كما في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و إبراهيم (عليه السلام)، أو من الشريعة التي يتدين بها، كما في الأئمة الهداة المعصومين (عليهم السلام).

ثم إنه ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالإمامة في المقام النبوة لأن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من يقتدي به النّاس و يؤتم به فليست الإمامة شيئا زائدا على النبوة و الرسالة الإلهية.

و لكن التأمل في الآية المباركة و سائر الآيات الشريفة النازلة في سياقها يرشد إلى أنها غير الرسالة، و أن الإمامة كانت بعد الرسالة.

أما أولا: فلأن ظاهر قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ أن الابتلاء و الامتحان كان بعد وجدان ابراهيم (عليه السلام) لمرتبة النبوة و خروجه عن الامتحانات الإلهية و إتمامه لهنّ، و يدل على ذلك قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً إذ الظاهر أنّ الجعل تعلق بأمر جديد و كان بعد خروجه عن

ص: 10

الامتحان و الابتلاء، و إلاّ لا معنى لأن يتعلق الجعل بأمر كان حاصلا له.

و ثانيا: ظاهر قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً يدل على كون الجعل في المستقبل، و صرفه إلى معنى (جعلت) في الماضي خلاف الظاهر و يحتاج إلى دليل، و قد ذكر علماء الأدب أن اسم الفاعل إنما يعمل إذا كان بمعنى المستقبل.

و بالجملة أنّ توهم كون المراد بالإمامة هي النبوة خلاف الظاهر المنساق من الآيات المباركة الواردة في القصة. و قد وردت روايات مستفيضة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) تدل على أن إمامة إبراهيم (عليه السلام) كانت بعد النبوة يأتي التعرض لها في البحث الروائي.

و المستفاد من جميع ما تقدم أن النسبة بين النبوة و الإمامة هي العموم من وجه، فليس كل نبي إماما كما أنه ليس كل إمام نبيا، و مورد الاجتماع إبراهيم (عليه السلام)، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي . مادة (ذرأ) تأتي بمعنى الفرق و التفرق، و أبدلت الهمزة ياء، سواء كان أصلها من ذرأ بمعنى الخلق، أم ذرر من لفظ الذر، أم من ذري أو ذرو بمعنى الإلقاء و التفريق؛ يقال: ذريت الحب، أو ذروته. و هي بمعنى النسل سمي ذرية، للاختلاف في الخصوصيات و الهيئة، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم كثيرا لا سيما في قضايا إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالى حكاية عنه (عليه السلام): رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة، الآية: 128]، و قال تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم، الآية: 37].

و الظاهر من سياق الآية المباركة أنّ إبراهيم (عليه السلام) كما بشر بالإمامة العظمى بعد الابتلاء العظيم من ربه دعا اللّه تعالى أن يجعل هذه الموهبة العظيمة في ذريته أيضا إما جزاء لابتلائه، أو رغبة منه فاستجاب تعالى ذلك له بقوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 54].

ص: 11

و إنما طلب الإمامة لبعض ذريته كما تقتضيه (من) التبعيضية و لم يطلبها لجميعهم، لأنه كان يعلم بحسب العادة أن ذريته مختلفون في الصلاح لعدمه، و قد طلبها للصالحين من ذريته، و طلب هذا المقام الخطير لغير الأهل لا يليق بمقام إبراهيم، بل هو خلاف أدب الدعاء و لم يكن جديرا بالإجابة.

أو لأنّ اللّه تعالى أعلمه أسماء الأئمة (عليهم السلام) من ذريته في ضمن الكلمات، كما تدل عليه الأخبار. و سيأتي نقلها في البحث الروائي، فحينئذ لم يكن يطلب الزيادة على ما أخبره تعالى، فيكون دعاؤه مزيدا للاستبشار و البهجة، أو الشكر.

قوله تعالى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ . يستفاد من هذه المحاورة كمال الخلة و المحبة بينه تعالى و بين عبده إبراهيم (عليه السلام) و كيف لا يكون كذلك، و هو خليل الرحمن.

و النيل نظير الإدراك و اللحوق. و المراد بالعهد الإمامة.

و إنما عبر به لبيان كمال أهمية مرتبة الإمامة، و أنّ جعلها مختص باللّه تعالى دون غيره، كما يأتي في تفسير قوله تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة القصص، الآية: 68].

و الظلم هو التجاوز عن الحد المقرر شرعا، و له مراتب متفاوتة، و لهذه المادة استعمالات كثيرة يمكن حصرها في أنواع ثلاثة:

الأول: ظلم الإنسان لنفسه.

الثاني: ظلمه بينه و بين اللّه تعالى الثالث: ظلمه لغيره. و العقل مستقل بقبح الجميع و قررته الكتب السماوية، و القرآن الكريم، و المراد به في المقام جميع ذلك.

ثم إنّ هذه الجملة تدل على عدم إمكان اجتماع عهد اللّه تعالى مع الظلم، بل فيها إشارة إلى غاية بعد الظلم عن اللّه تعالى، و الظالم ليس بأهل

ص: 12

لأن يقتدى به فكيف يليق لأن يعهد إليه منصب إمامة الناس و تعهد الرعية، و إرشادهم إلى الصلاح، و كف الظلم عنهم. فاجتماعهما في شخص من قبيل اجتماع النقيضين، و التنافي بين الإمامة و بين صرف وجود الظلم واضح. و لا يعدو عن كونه أمرا فطريا و حكما عقليا يجري عليه عامة النّاس في شؤونهم الدنيوية، فمنصب الإمامة كالنبوة من هذه الجهة في أنهما لا تعهدان إلى الظالم، و أن الظلم ينافي العصمة التي دلت الأدلة العقلية على اعتبارها فيها.

و ظاهر الآية المباركة أن صرف وجود الظلم يكون مانعا، و أن التلبس به يخرجه عن القابلية لهذا المنصب بسبب النقص الحاصل فيه، و الناس بالنسبة إلى الظلم و عدمه على أربعة أقسام:

الأول: من اتصف بالطاعة و الارتباط مع اللّه تعالى من أول عمره إلى آخر ارتحاله.

الثاني: من اتصف بالظلم و المخالفة كذلك.

الثالث: من يكون مثل الأول في أول عمره، و مثل الثاني في آخر عمره.

الرابع: من يكون مثل الثاني في أول عمره، و مثل الأول في آخر عمره.

و لا يليق بمنصب الغيب المكنون، و السر المصون و الإمامة العظمى إلاّ الأول، و إنّ إطلاق الآية الشريفة ينفي بقية الأقسام. كما أن إطلاقها يشمل جميع أقسام الظلم سواء كان شركا أو غيره. و ما ورد في بعض الأخبار أنه عبادة الصنم إنما هو من التطبيق على بعض المصاديق.

و مما تقدم يعلم أنه لا حاجة إلى إدخال المقام في مسألة المشتق المعنونة في الكتب الأدبية و الأصولية و أطيل القول فيها من أنه لو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ و ما انقضى عنه المبدأ، فلا يليق بالإمامة من ظلم ثم تاب، و أما إذا كان حقيقة في خصوص المتلبس فقط فلا يصح الاستدلال بالآية المباركة بالنسبة إلى من تاب و آمن.

فإنه لا ربط للآية المباركة بمسألة المشتق، و إنّ سياق الآية الشريفة كما

ص: 13

ذكرنا يدل على أن صرف وجود الظلم ينافي جعل هذا المنصب الخطير؛ لأن الإمام أمين اللّه تعالى على خلقه، و منشأ الاتصال بينه و بين عباده، و الظلم موجب لسقوطه عن هذا المنصب، سواء كان سابقا عليه أم مقارنا أم لا حقا.

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآية المباركة أمور:

الأول: إنّ فصل قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً عن الجملة السابقة، و من إضافته إليه تعالى يرشد إلى شرف الإمامة و أنّها فضل من اللّه تعالى و لطف إلهي، و هي لا تنال بالكسب.

الثاني: يستفاد من سياق الآية المباركة أن الإمامة كانت بعد النبوة، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما طلب الإمامة لذريته بعد أن صار له أولاد يرجو أن يكون لهم ذرية، و أما قبل ذلك فقد كان نبيا. و «جاعل» بمعنى أجعلك في المستقبل لا بمعنى جعلت في الماضي كما لا يخفى.

الثالث: أن قوله تعالى: لِلنّاسِ إشارة إلى الامتنان عليهم و أن الإمامة هبة و لطف إلهي و من أكبر مصالحهم.

الرابع: يستفاد أدب الدعاء من سؤال إبراهيم (عليه السلام) فإنه كان عالما و متوجها إلى أن في ذريته من لم يكن أهلا للإمامة فلم يطلبها لجميع ذريته و إلاّ لا يناسب مقامه (عليه السلام).

الخامس: في الآية المباركة تنبيه إلى أن المانع عن الإمامة منحصر في الظلم و أن فيه تنفير ذرية إبراهيم (عليه السلام) من الظلم و تبغيضه إليهم ليجتنبوا عنه.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ شرف الإمامة و فضيلتها العظمى و عظيم مقامها، فإنها عهد من اللّه تعالى بما فيها من القيام بمصلحة النّاس و التعهد بهم و سياسة الأمة.

ص: 14

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «قد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا و ليس بإمام حتّى قال اللّه تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ . من عبد صنما، أو وثنا لا يكون إماما». و مثله ما رواه الشيخ المفيد لكن بزيادة «أو مثالا».

أقول: يأتي إن شاء اللّه تعالى أن إمامته (عليه السلام) إنما جعلت له في أواخر عمره و بعد رسالته و اصطفائه تعالى له كما في قوله سبحانه و تعالى:

وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130].

و أما عدم لياقة من عبد الصنم، أو الوثن، أو المثال للإمامة فهو قريب من الفطريات، لأن صرف وجود الإشراك به تعالى يسقطه عن هذا المقام الرفيع.

إن قيل:

روى الفريقان عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «الإسلام يجبّ ما قبله» فكيف لا يليق بالإمامة بعد الإسلام. (يقال): الجب عما قبل الإسلام، و قبول الإسلام و التوبة شيء و وصول النفس إلى مقام الإمامة العظمى شيء آخر، ينبو عنه الطبع حتّى مع توبته كما هو المشاهد بالوجدان.

و ما ذكر في الحديث إنما هو من باب المثال لكل ظلم كما هو الظاهر من إطلاق الآية الشريفة، و ليس المقام من باب الإطلاق و التقييد، لإباء الإطلاق - في مقام إفاضة هذا المنصب العظيم الإلهي الأبدي المستلزم لتشريع القوانين الإلهية - عن التقييد بهذه الثلاثة.

في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إن اللّه عزّ و جل اتّخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا. و إن اللّه تعالى اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا. و إن اللّه اتخذه رسولا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ . قال (عليه السلام):

لا يكون السفيه إمام التقي». و قد روي بطريق آخر أيضا.

ص: 15

أقول: جمع أبو عبد اللّه (عليه السلام) في هذه الكلمة الوجيزة أصول ما جمعه الفلاسفة في الفلسفة الإلهية العملية، و ما جمعه العرفاء بعد نهاية جهدهم في شرح مقامات الإنسانية، و هو

قوله (عليه السلام): «إن اللّه تعالى اتخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا».

و المراد به - مضافا إلى العبودية التكوينية التي هي من لوازم جميع المخلوقات - العبودية العملية أيضا لا خصوص الأولى فقط، فإنها لا تختص بإبراهيم (عليه السلام) بل تشمل الكل. و العبودية العملية مفتاح السعادة البشرية و مبدأ جميع الكمالات المعنوية التي تفاض عليه، بل هي الحياة الأبدية من حيث البقاء فيصير العبد بذلك ظلّ الحي القيوم بقاء و إن لم يكن كذلك حدوثا، لفرض المسبوقية بالعدم، فالنبوة و الرسالة. و الخلّة، و الإمامة متشعبة عن هذا المقام الشريف.

و ما ذكره علماء الكلام في الإمامة من الشروط السبعة - أي: العصمة الإلهية، و الجعل من اللّه تعالى، و عدم حجب أعمال العباد عنه، و علمه بجميع ما يحتاج النّاس إليه، و استحالة وجود أفضل منه، و كونه مؤيدا من اللّه تعالى، و عدم خلو الأرض عنه - متشعبة من ذلك. و تشهّد المسلمين في صلواتهم كل يوم و ليلة:

«و أشهد أن محمدا عبده و رسوله» إشارة إلى هذا المقام الأجل الأكمل الذي هو رمز السعادة الأبدية بين الأمة و بين الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و بينهما و بين اللّه تعالى، لأن العبودية المطلقة للّه تعالى بالنسبة إلى القائد و المقتدى (بالفتح) من أبرز المفاخر للتابع و المقتدي (بالكسر) و كذلك من تلبس بالإمامة من ذرية خليل الرحمن المتفانين بجميع شؤونهم في العبودية المحضة للحي القيوم فإنهم المرآة الأكمل لرؤية الخلق خالقهم على نحو ما بينت الكتب السماوية في صفات جماله و جلاله و أفعاله و تفصيل البحث بأكثر من ذلك يطلب من الكتب الموضوعة له.

و أما قوله (عليه السلام): «لا يكون السفيه إمام التقي» السفه: عدم كمال العقل في الدين أو الدنيا أو هما معا. و من جعل الإمام (عليه السلام) هنا السفيه في مقابل التقي يستفاد أن كل من ترك التقوى و لم يتصف بها يكون

ص: 16

سفيها و إن لم يكن سفيها بالمعنى المصطلح في الفقه، و قد أطلق لفظ السفه في كثير من الأخبار على كل من أحب الدنيا من حيث هي، و هو كذلك لأن حب الدنيا بأية مرتبة من المحبة و أية مرتبة من الدنيا رأس كل خطيئة، كما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

ثم إنّ ما ذكره (عليه السلام) قضية طبيعية يعرفها كل أحد بعد ما يرجع إلى فطرته الأولية، فمن ستر عنه الواقع و تلبس بالظلم أو السفاهة لا يصير سببا لإراءة طريق الحق للغير فضلا عن أن يكون موجبا للوصول إليه.

و الإمامة التي هي الغاية للنبوة و الرسالة لا يعقل أن يهملها اللّه تعالى في الخلق و إن إهمالها نقصان في حكمته جل شأنه، فكما يجب عليه لطفا بعث الأنبياء و الرسل، يجب عليه كذلك جعل الإمامة أيضا و إلاّ لاختلت حكمة بعث الأنبياء و الرسل. و سيأتي التفصيل في محله إن شاء اللّه تعالى.

العياشي عن صفوان الجمال في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال (عليه السلام): «أتمهنّ بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و علي (عليه السلام) و الأئمة من ولد علي (عليهم السلام)».

أقول: صفوان بن يحيى من أجلاء أصحاب الكاظم (عليه السلام) و هو ثقة عين فكل ما يروي فهو عن الإمام (عليه السلام).

و الرواية تدل على أن الإمامة تتم في ذرية إبراهيم (عليه السلام) إلى الحجة (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف). كما يأتي في الحديث اللاحق.

القمي في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قال (عليه السلام): «هو ما ابتلاه به مما رآه في نومه من ذبح ولده فأتمها إبراهيم (عليه السلام) و عزم عليها و سلم، فلما عزم قال تبارك و تعالى ثوابا لما صدق و سلّم و عمل بما أمره اللّه: إني جاعلك للنّاس إماما فقال إبراهيم: و من ذريتي. قال جلّ جلاله: لا ينال عهدي الظالمين أي لا يكون بعهدي إمام ظالم، ثم أنزل عليه الحنفية و هي الطهارة و هي عشرة أشياء خمسة في الرأس و خمسة في البدن - الحديث».

ص: 17

أقول: مثل هذه الروايات و جملة من الآيات المباركة ظاهرة في أنّ اللّه تعالى لا يدع أجر عمل عامل في الدنيا و الآخرة، كما أنّ الظاهر أنّ تفسير الكلمات في هذه الروايات بما ذكر بالعشرة المذكورة إنما هو من باب المثال لكل تكليف إلهي بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام).

و عن الشيخ في الأمالي عن ابن مسعود قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) «أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام) قلنا: يا رسول اللّه و كيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى اللّه عزّ و جل إلى إبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً فاستخف إبراهيم الفرح. فقال: يا رب و من ذريتي أئمة مثلي - إلى أن قال (صلّى اللّه عليه و آله) - فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي علي لم يسجد أحد منّا لصنم قط فاتخذني اللّه نبيا و عليا وصيا». و مثله ما رواه ابن المغازلي في كتاب المناقب.

أقول: تقدم شرحه في الأحاديث السابقة فيكون ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم السجدة للصنم، مثالا لعدم صدور أي ظلم منه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في الدر المنثور عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ قال (صلّى اللّه عليه و آله): «لا طاعة إلاّ في المعروف».

أقول: المراد بالمعروف هو إطاعة اللّه تعالى فتصير كل معصية من غير المعروف و هي مسقطة لهذه المرتبة العظيمة، كما بينه في

حديث آخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

بحث أدبي:

و متعلق «إذ» في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ و غيرها من الآيات المباركة يصح أن يكون فعلا مقدرا مثل (أذكر) أو يكون فعلا مستفادا من نفس الآية المباركة، ففي المقام يصح أن يكون متعلقه (أذكر) فيدل سياق الآية المباركة على أن قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً تفسير

ص: 18

للكلمات، و الفاعل في أتمهنّ هو اللّه تعالى، و يرشد إلى ذلك بعض الروايات.

و يصح أن يكون المتعلق قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ فتكون الكلمات شيئا آخر.

ثم إنّ متعلق «للناس» يصح أن يكون (إماما) و قدم للاهتمام به و للتصريح بعموم الإمامة للناس و ارتباطها بمصالحهم العامة و الخاصة.

و قوله تعالى: «إماما» مفعول ل «جاعلك» و هو لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، كما لا يخفى.

بحث كلامي:

تقدم أنّ الإمامة هي السلطة الإلهية لتقويم العباد و تنظيم أمورهم الدينية و الدنيوية بما يريده اللّه تعالى، فتكون الإمامة من قسم الهداية الموصلة إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق و إلاّ لزم الخلف. و الآيات الكثيرة المشتملة على هذا العنوان تشير إلى ذلك، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: 24] فذكر الصبر و الثبات يشعر بما تحملوا - في إيصال الخلق إلى المطلوب - من المتاعب و البلايا، و كذا قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، 73] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

إن قيل: لو كانت حقيقة الإمامة هي الإيصال إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق فقد نرى خلافه في الخارج من عدم وصول عامة النّاس الى المطلوب الحقيقي مع تماديهم في غيهم و ضلالهم.

يقال: إنّ الإيصال الى المطلوب بنحو الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة و إلاّ لبطل الجزاء، فمهما تخلل الإختيار في البين يكون الإيصال بنحو الاقتضاء، كما هو معلوم. و سيأتي التفصيل في المباحث الآتية.

ثم إنّ الإنسان لا بد له من إمام يقتدي به في أفعاله و أعماله و يدبر له

ص: 19

أموره الدينية و الدنيوية و لم يختلف أحد في ذلك و إنما الخلاف في أمور أخرى ذكرها العلماء في مبحث الإمامة في الكتب الكلامية و الحديثية، و غيرهما حتّى ألّفوا فيها كتبا و رسائل مستقلة. و المتأمل في المجموع يعترف أن جملة كثيرة منها أقرب إلى الأغراض الجزئية من المباحث العلمية.

و بعد التدبر في مجموع الآيات المباركة و الروايات يظهر أن الإمامة - كالنبوة - فتارة: يبحث فيها عن الإمامة العامة الشاملة لإمامة إبراهيم و موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام). و أخرى: عن الإمامة الخاصة.

أما الأولى فهي كالنبوة العامة فإنها و إن كانت من جهات التشريع لكن لها دخل في نظام التكوين أيضا، فإن تكميل النفوس الناقصة بالمعارف الحقة الواقعية من أهم جهات التكوين، و لا يتم ذلك إلاّ بإرسال الرسل و بعث الأنبياء و إنزال التشريعات الإلهية، و جعل التشريع بلا وجود قوة مجرية لغو، و هو قبيح بالنسبة إليه عزّ و جل.

فالإمامة هي القوة المجرية لجهات التشريع السماوي فيجب لطفا عليه تعالى جعل الإمام و هذه القاعدة تجري في الإمامة الخاصة أيضا و لا يكفي في القوة المجرية مجرد العقل و العقلاء فإنه لا بد فيهما من التقرير بالحجة الظاهرة و مع غلبة النفس الأمّارة و الأهوية الشيطانية كيف يصلح أن يكون العقل و العقلاء قوة مجرية لوحي السماء.

و لا يخفى أن ذلك من حكمة نصب الإمام لا أن يكون من العلة التامة و إلاّ فإن الإمامة شيء و اقتضاء الظروف و الحالات و سائر الجهات لكونه قوة مجرية لوحي السماء شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر.

يضاف إلى ذلك أن التشريع الذي يقتضي سعادة الإنسان و المتكفل لجميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا و الآخرة لا بد أن يستند إلى اللّه تعالى رب السموات و الأرض، أو عقل من ملكوته الأعلى و إلاّ فلا يكون التشريع جامعا أو نظاما إنسانيّا لكثرة ما نراه من اختلاف آراء الناس بالفطرة، و قد قال تعالى: وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ [سورة الأنبياء، الآية: 71] فإذا كان حدوث التشريع من قبل اللّه تعالى على

ص: 20

السنة الأنبياء الحافظين للشريعة و العالمين بها فالبقاء لا بد أن يكون بالإمامة، لانقطاع النبوة في خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله).

و مما ذكرنا يظهر أنّ هذا الجعل تكويني تشريعي فتكوينه يكون دخيلا في تشريعه، و أنّ تشريعه له دخل في تكوينه. و أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما كالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و إلاّ استلزم الخلف، و يدل عليه ظاهر الآية المباركة: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ فما ذكره العلماء في منصبي الإمامة و النبوة من أنهما منصبان مجعولان من اللّه تعالى، و أنه ليس في البشر من يفوقهما في علم التشريع، و أنهما مرتبطان بعالم الغيب كل ذلك صحيح و مطابق للقواعد العقلية، كما عرفت و يأتي التفصيل في محله.

وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ ط.......

اشارة

وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ (125) وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ اَلنّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (126) شرع تبارك و تعالى في تعداد نعمه التي منها جعل البيت مثابة و أمنا و عهده إلى نبيه إبراهيم (عليه السلام) و ابنه إسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين و العاكفين و الركع السجود. و في الآية المباركة توبيخ لليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه السلام) و تحريض لهم بأنه لا بد أن يكونوا أول المؤمنين به، و فيها توطئة لتشريع القبلة.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ . تقدم في الآية السابقة متعلق «إذ».

و مادة (بيت) تأتي بمعنى البيتوتة ليلا، و سمي البيت بيتا لأنه يبيت فيه الإنسان ثم اتسعت و أطلقت على الأعم منه و من كل مجمع و سمي بيت الشعر بيتا، لأنه مجمع الحروف و الكلمات، كما سمي البيت العتيق بيتا لأنه مجمع

ص: 21

الأملاك و الإنسان، و قد غلب استعمال الكلمة على المسجد الحرام بحيث إذا أطلقت يفهم منها ذلك، كما في إطلاق المدينة على مدينة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و قيل: إنّ المراد من البيت في المقام الكعبة المشرفة، و لا بأس به إما من باب إطلاق الكل على الجزء، أو من باب أن الكعبة توجب فضيلة البيت الحرام.

و لإبراهيم (عليه السلام) مع بيت اللّه حالات و مقامات، و للّه تعالى معهما ألطاف و عنايات و لا بد أن يكونا كذلك لأن كلا منهما من مظاهر رحمته.

قوله تعالى: مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً . الثوب بمعنى الرجوع أي مرجع الأنام يقصدونه للعبادة و تطهير نفوسهم عن الذنوب و الآثام،

و في الحديث: «من وقف بهذه الجبال غفر اللّه له من بر النّاس و فاجرهم. قيل: من برهم و فاجرهم؟ قال (عليه السلام): من برهم و فاجرهم».

و يمكن أن يكون المراد من اللفظ مطلق المرجعية أعم من الثواب و من الرجوع في المعارف و تكميل النفوس، فإن البيت الحرام كان مبدأ ظهور دعوة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و مهبط الوحي و التنزيل فصار مرجعا للحلال، و الحرام، كما صار قبلة للأنام، فيكون قبلة لأهل المعنى و اليقين، كما هو قبلة للمصلين.

و في اختيار لفظ المثابة إشارة إلى أنه مضافا إلى كونه مقصدا يقصده المؤمنون في عبادتهم أنهم يشتاقون إلى الرجوع اليه متكررا و هذا من أسرار هذا البيت و آية من آياته تعالى فيه.

و من لطيف المقارنة أنه جلّ شأنه قارن بين جعل الإمامة لإبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) و جعل البيت مثابة للناس. فهما قرينان في الجعل الأزلي و التشريعي.

ص: 22

كما أنّ من آيات هذا البيت أن جعله اللّه تعالى أمنا يأمن ما حل فيه من النبات و الحيوان و الإنسان فلا يقطع حشيشه و لا يصاد صيده و لا يخاف آمنه، و بهذا كان معروفا حتّى في الجاهلية مع شدة معاداتهم و حبهم للانتقام و سفك الدماء، قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ يَكْفُرُونَ [سورة العنكبوت، الآية:

67].

و في الحديث: «كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على النّاس أجمعين»،

و قد ورد في الظبي إذا دخل الحرم «لا يؤخذ و لا يمس». كما ورد في من جنى و دخل الحرم أنه لا يقتل بل يضيق عليه في المأكل و المشرب، و البحث فقهي.

و سيأتي تفصيل معنى الأمن عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

و لعل في ذكر هاتين الفضيلتين للبيت - الأمن و المثابة - إشارة إلى صلاحية كونه قبلة النّاس و أولويته من غيره.

قوله تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى . عطف على الجملة السابقة. و أما قراءة «اتخذوا» - بالفتح - فلبيان أن مقام إبراهيم (عليه السلام) كان مصلّى حتّى قبل الإسلام، و قراءته بالكسر لا تفيد ذلك.

ففيها: إنّ الخطاب صادر بالنسبة إلى جعل المقام مصلّى من أول ما جعل المقام سواء كان في الجاهلية أو في الإسلام كما في قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً ، و قوله تعالى: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ [سورة البقرة، الآية: 125]. فإنّ جميع ذلك في مقام بيان صفات و خصوصيات هذا البيت العظيم.

و الأخذ يتضمن هنا معنى الجعل، كما في قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، و قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 51].

ص: 23

و في التعبير بالاتخاذ عناية خاصة و دلالة ظاهرة في المبالغة في اختيار الصّلاة في المقام إما لأجل كثرة أهمية الصّلاة فيه، أو لأجل توفر الأسرار المعنوية و الفيوضات الإلهية فيه، أو لأجل إرشادهم إلى أن ضيق المقام ظاهرا لا يمنعهم عن اتخاذه مصلّى، و سيأتي في البحث الفقهي تفصيل ذلك.

و مقام: اسم مكان من القيام، و المراد به مقام إبراهيم (عليه السلام) الحجر المعروف الذي عليه أثر قدميه (عليه السلام)؛ و فيه قال أبو طالب:

و موطئ إبراهيم في الصخر وطأة *** على قدميه حافيا غير ناعل

و قال أبو جعفر (عليه السلام): «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم، و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».

و كان مقام إبراهيم حجرا يقوم عليه لبناء الكعبة المقدسة و كان يرتفع بارتفاع البناء و ينزل بعد ذلك، لأنه كان من الجنّة، و كل ما في الجنّة له نحو حياة، و سيأتي في الموضع المناسب الكلام فيه.

و هذا المقام هو الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدمي إبراهيم (عليه السلام) و غسلتهما عليه حين مجيئه من السفر لزيارة أهله في واد غير ذي زرع.

و هذا هو المقام الذي قام عليه إبراهيم فأذن في النّاس بالحج. و كان ملاصقا بالبيت ثم أبعد إلى مكانه المعروف الآن، و سيأتي تتمة الكلام في البحث التاريخي.

و المراد بالاتخاذ مصلّى الابتعاد عن المطاف لتوسعته للطائفين، و يأتي في البحث الفقهي تفصيل ذلك.

و المراد من المصلّى جعل المقام محلاّ للصلاة على ما تدل عليه الروايات و استقرت عليه سيرة المسلمين، فيكون المراد من اتخاذ الصّلاة في المقام هو الصّلاة في محل قيامه (عليه السلام) أو خلفه في مسجد الحرام لا نفس الصّخرة التي فيها أثر قدميه (عليه السلام) فإنه لا يمكن أن يتخذ

ص: 24

مصلّى.

و ما قيل: من أن المراد من المقام هو الحرم أو المشاعر العظام فإنها حصلت من تشريعاته الخاصة، و أن المراد من الصّلاة الدعاء. فهو و إن كان صحيحا ثبوتا، و لكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.

و لعل من أحد الأسرار في ذلك الترغيب في إتيان الصّلاة في مقام إبراهيم (عليه السلام) تخليدا لاسم باني البيت و المشاعر العظام جريا على عادة النّاس في تخليد أسماء عظمائهم في المباني التاريخية، كما ضبطه التاريخ و خليل اللّه تعالى أحق منهم، فهو وسام خاص جعله اللّه تعالى له.

قوله تعالى: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ . العهد يأتي بمعنى التثبت المشدد مع عناية خاصة و هي ظهور احترام المعهود اليه بالوفاء بما عهد اليه، و ظهور كون الموضوع مما يعتنى به كثيرا، و تقدم بعض ما يتعلق به في آية - 40 من هذه السورة أيضا. و في معاهدة اللّه تعالى مع إبراهيم و إسماعيل باعتنائهما بالبيت كما حكاه تعالى.

و في إضافة البيت إلى نفسه المقدسة ثم التفضل بقبول العبادة الواقعة فيه إيماء إلى كثرة عنايته تعالى بالبيت و بالعبادة الواقعة فيه.

و التطهير هو التنزيه عن كل ما ينافي حرمة البيت. و من حذف المتعلق يستفاد التعميم فيشمل جميع أنحاء الرجس و الخبائث المعنوية - كالشرك، و الكفر، و الإلحاد - أو الحسية الظاهرية - كالنجاسات، و القذارات و غيرهما - أو الحكمية - كالجنابة و الحيض، و حدوث النفاس -.

كما أنّ المراد من التطهير الأعم من المباشرة و التسبيب، و يشهد لذلك توجيه مثل هذا الخطاب إلى إبراهيم (عليه السلام) فقط في آية أخرى قال تعالى: وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ [سورة الحج، الآية: 26]، و لا فرق في الواقع، لأن اللّه تعالى هو الجاعل الحقيقي للبيت، و إبراهيم (عليه السلام) خادمه، و إسماعيل (عليه السلام) من القوة العاملة للخادم فالجميع يرجع اليه

ص: 25

عزّ و جل.

قوله تعالى: لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ . و المراد بالطائفين القاصدين للبيت الحرام لأجل الطواف حوله، و العكوف هو الإقبال عليه و ملازمته على سبيل التعظيم، و العاكفين الذين حبسوا أنفسهم للعبادة في بيت من بيوته جل شأنه.

و الرّكّع السجود جمع الراكع و الساجد، و كل فعل مصدره على فعول جاز في جمعه ذلك. و هما كناية عن الصّلاة، لأنهما أبرز أفعالها.

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً . مادة (ب ل د) تأتي بمعنى القطعة المحدودة المعينة. من الأرض سواء كانت عامرة أو لم تكن، قال تعالى: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ اَلنُّشُورُ [سورة الفاطر، الآية: 9]، و غالب ما يستعمل في العرف إنما هو في الأولى. و استعملت في الحرم الأقدس الربوبي بأنحاء الاستعمالات، قال تعالى: رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [سورة البقرة، الآية: 126]؛ و قال تعالى: رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً [سورة ابراهيم، الآية: 35].

و الفرق في التنكير و التعريف أن الأول إنما صدر منه (عليه السلام) حين كان المحل واديا غير ذي زرع، فدعا (عليه السلام) بأصل حدوث البلد في الجملة. و الثاني إنما صدر منه بعد صيرورة المحل معرضا للبلدية.

كما أن قوله تعالى: وَ هذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ [سورة، التين، الآية: 3]، و قوله تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَها [سورة النمل، الآية: 91] إنما نزل بعد استقرار البلدية و توجه النّاس إليها من كل جانب فاختلاف التعبيرات إنما يكون باختلاف الحالات و الخصوصيات.

و مادة (أمن) تأتي بمعنى الطمأنينة، و زوال الخوف، و سكون النفس، و قد استعملت جملة من مشتقاتها بالنسبة إلى الحرم الأقدس الإلهي، قال تعالى: أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [سورة العنكبوت، الآية: 67]؛

ص: 26

و قال تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً [سورة البقرة، الآية:

125]، و قال تعالى: وَ هذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ [سورة التين، الآية: 3].

و المراد منها

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله يوم فتح مكة: «إن اللّه حرّم مكة يوم خلق السموات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، و لا تحل لأحد بعدي، و لا تحل لي إلاّ ساعة من النهار» و أمثال ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على أصل الحرمة و الاحترام التي كانت قبل الخلق، و دعاء إبراهيم (عليه السلام) إنما كان تأكيدا لما سبق و ترغيبا للنّاس، لا أن تكون دعوة مستأنفة.

و الأمن المستعمل في القرآن إما أخروي، أو دنيوي، أو هما معا. و الأول كقوله تعالى: اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [سورة الحجر، الآية: 46] و قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [سورة الدخان، الآية: 15]. و للثاني موارد كثيرة منها الآيات المباركة الواردة في المقام.

و المراد بالأمن إما للإرشاد إلى أن المحل محل لا ينبغي أن يقع الظلم فيه مطلقا، فيكون تنبيها للعقل و العقلاء إلى عظمة المحل، كما ورد في تعظيم القرآن، و الوالدين، و المؤمن، فتترتب على المخالفة المفسدة لا محالة.

أو أنه أمر تكليفي فعلي لجعل المحل أمنا مما حذر ارتكابه في غيره و كل منهما صحيح و لا منافاة بينهما. كما أنّه يصح أن يكون الأمن فيه من القسم الأخير، أي أمن الدنيا و الآخرة.

و في الآية المباركة امتنان عظيم على أهل الحرم و رواده، من جعل البلد آمنا في نفسه و مأمنا لأهله و غيرهم.

قوله تعالى: وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ . مادة (رزق) تستعمل في العطية الجارية، مطلقا، مادية كانت أو معنوية، كالعلوم و المعارف.

و من أسمائه تعالى رازق، و رزّاق، و خير الرازقين، لعلمه جل شأنه

ص: 27

و حكمته البالغة بجميع خصوصيات الرزق و المرزوق، فربّ منع منه عزّ و جل يكون رزقا بالنسبة إلى الطرف كما

ورد في جملة من الأحاديث: «هو الجواد إن أعطى، و هو الجواد إن منع»، و لعلنا نتعرض للتفصيل عند قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 216].

و للمتكلمين كلام طويل في أن الرزق يشمل الحرام أم لا؟ و الظاهر سقوط أصله لأنّ الرزق من الأمور الإضافية، فإذا أضيف إلى اللّه تعالى فلا معنى لحرمته، و إذا أضيف إلى العبد فهو تابع لاختياره، فتارة يختار الحلال، و أخرى يختار الحرام، و سيأتي التفصيل في محله إن شاء اللّه تعالى.

و أهل البلد سكانه الأعم من المتولدين فيه أو المجاورين، و هو أعم من الآل؛ لاختصاص الثاني بالإضافة إلى الأشراف مع لحاظ خصوصية خاصة، بخلاف الأول فيضاف إلى الأشراف و غيرهم؛ و الزمان، و المكان و غيرهما،

و في الحديث قيل لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «إن النّاس يقولون المسلمون كلهم آل النبي (صلّى اللّه عليه و آله). فقال (عليه السلام): كذبوا و صدقوا فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: كذبوا في إن الآل كلهم آله و صدقوا في أنهم إذا قاموا بشرائط شريعته يكونوا آله»، و تقدم في آية 49 من هذه السورة الجامع بينهما.

و الثمرات جمع ثمرة، و هي اسم يستعمل فيما يطعم مما يخرج من الأشجار، و قد وردت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [سورة الأنعام، الآية: 141]، و قال تعالى: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 32]، و قال تعالى: وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة محمد، الآية: 15]، ثم اتسع استعمالها في مطلق النفع، فقالوا: ثمرة العلم العمل الصالح، و ثمرة العمل الصالح الجنّة، كما اتسع الاستعمال فاستعملت في مطلق النتيجة، و لو كانت علمية.

ص: 28

و ارتزاق أهل هذا البلد من الثمرات من أسرار البيت العظيم، و هو ظاهر معروف، و قد ورد بيانه في آية أخرى، فقال تعالى: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا [سورة القصص، الآية:

57]. و يصح في المقام إرادة الأعم فلأهل الظاهر ثمرات الأشجار و لأهل المعنى المعنويات كل بحسب استعداده.

إن قيل: دعاء إبراهيم (عليه السلام) لا يختص بأم القرى، لأن جميع البلاد التي تزدحم فيها الرواد و القوافل من أنحاء العالم تكون كذلك - خصوصا في هذه الأعصار - و كذا قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة القصص، الآية: 57]، و كذا قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة، الآية: 126] فإنه من سبر الطبيعة مطلقا.

يقال: استجابة دعاء إبراهيم (عليه السلام) في مكة و أهله من بدء وروده إلى الحرم؛ و ذلك لا ينافي صيرورة محال أخرى موارد رزق اللّه تعالى لمصالح لا يعلمها إلاّ اللّه عزّ و جل، مع أن دعاءه (عليه السلام) كان دائميا بدوام الدنيا و عمرها بخلاف غيرها، فإنه في معرض الزوال و التبدل، و سيأتي التفصيل في الآيات المباركة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ . ذكر تعالى اسم الجلالة و لم يأت بضمير الخطاب، مع أن المقام مقام المخاطبة تعظيما و تجليلا و قد عمّم إبراهيم (عليه السلام) دعاءه لرزق أهل هذا البلد لبيان أن الرزق العام الربوبي لا يختص بالمؤمنين و إنما خصهم تعظيما لشأن المؤمنين، فكأنهم المقصودون المستقلون لرزق الثمرات فجمع (عليه السلام) بين غاية رزق الثمرات و ما يدور عليه النظام في ارتزاق الجميع. و تقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة، و إنما خصه بالمبدأ و المعاد، لأن الإيمان باليوم الآخر مستلزم للإيمان بالأنبياء (عليهم السلام).

قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ اَلنّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ . بعد ما استجاب اللّه تعالى - بعظيم لطفه و واسع رحمته - دعاء إبراهيم (عليه السلام) و خص الأرزاق المعنوية بالمؤمنين و عمم رزق الدنيا

ص: 29

للمؤمن و الكافر أدرج سبحانه و تعالى كلامه بين كلمات ابراهيم (عليه السلام) عناية به و تلطفا منه و إيماء إلى أن كلام الخليل من كلام الرب الجليل مع أن طول الآية المباركة أحسن موقع ذكر كلامه تعالى.

و المعنى: إن من كفر و أصر على كفره يتمتع من الدنيا أمدا قليلا ثم يساق إلى عذاب النّار و بئس المرجع و المأوى، و ان متاع الدنيا و إن بلغ ما بلغ فإنه زائل و قليل في مقابل عذاب الآخرة و قد وقعت هذه الجملة في القرآن الكريم في موردين كلاهما مقرونان بالتشديد و التهويل أحدهما في المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان، الآية: 24] و هذا الاضطرار إنما حصل باختيارهم العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة.

و يستفاد من هذا التعبير أن لأعمال البشر نتائج و آثارا تترب عليها قهرا ترتب المسببات على أسبابها فتكون الأعمال كسبية و الآثار ضرورية. و لكن لا ينافي كونها اختيارية باختيار أسبابها نظير ما لو ألقى الإنسان نفسه في مهلكة فإن آثارها تلزمه لا محالة، أو كما قال الطبيب للمريض إن أكلت الغذاء المعين تبتلى بمرض كذا و العلاج بكذا فأكل و اضطر إلى علاجه، فيصح أن يقال إن العلاج حصل باختياره.

و إنما نسب الاضطرار إلى نفسه تعالى لأنه مبدأ الكل و اليه مرجعهم، لا سيما في عالم الآخرة التي هي عالم ظهور الملكات و الأعمال بالعيان بعد ما كانت في الدنيا بالدليل و البرهان.

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة أمور:

الأول: إنّ العهد في الآية الشريفة و إن كان بمعنى الإيجاب و الإلزام التكليفي لكن يمكن أن يستفاد منه الجهة الوضعية أيضا، و هي من خصائص

ص: 30

الإمامة و الولاية و بعبارة أخرى: إن جهة تولية البيت لا تكون إلاّ لأهل البيت الذين بهم تمّ بناؤه فهم أحق بسدانته من غيرهم.

الثاني: يستفاد من سياق التعبير في قوله تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى أنّ هذه الصّلاة غير صلاة الفريضة و هي من متممات تشريع الحج فتنحصر في صلاة الطواف و إلاّ لكان الأنسب أن يقول جل شأنه «و صلّوا في مقام إبراهيم» مثلا.

الثالث: إنما وصف تعالى المتاع بالقليل لأن متاع الدنيا و إن بلغ ما بلغ في الكم و الكيف يكون قليلا بالنسبة إلى الآخرة و لا يكون ذلك كرامة بالنسبة إلى الكافر. إذ أيّ كرامة في متاع قليل يكون بعده الخلود في النّار؟!

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً قال (عليه السلام): «من دخل الحرم من النّاس مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه عزّ و جل و من دخله من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتّى يخرج من الحرم».

أقول: في سياق ذلك نصوص كثيرة شرحها الفقهاء في أحكام الحرم.

في التهذيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ليس لأحد أن يصلي ركعتي طواف الفريضة إلاّ خلف المقام، لقول اللّه تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى إن صليتهما في غيره فعليك إعادة الصّلاة».

أقول: النصوص في ذلك مستفيضة بل متواترة تعرضنا لها في أحكام صلاة الطواف، و ألفاظ النصوص مختلفة ففي بعضها «خلف المقام». و في الآخر «عند المقام» و في ثالث «إئت المقام» و في رابع «في المقام» و مرجع الكل واحد. و المراد به هو المحل المخصوص و قد تعرضنا لتفصيله في أحكام الطواف من الحج من (مهذب الأحكام).

العياشي عن أبي الصباح الكناني قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام إبراهيم في الطواف في

ص: 31

الحج و العمرة. فقال (عليه السلام): إن كان بالبلد صلّى ركعتين عند مقام إبراهيم، فإن اللّه تعالى يقول: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى و إن كان ارتحل و سار فلا آمره أن يرجع.

أقول: تعرضنا لذلك في أحكام صلاة الطواف في الفقه.

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ قال: «يعني نحياه عن المشركين و قال (عليه السلام) لما بنى إبراهيم البيت و حج النّاس شكت الكعبة إلى اللّه تعالى ما تلقى من أيدي المشركين و أنفاسهم فأوحى اللّه تعالى إليها قري كعبة، فإني أبعث في آخر الزمان قوما يتنظفون بقضبان الشجر و يتخللون».

أقول: هذا محمول على بعض مراتب التطهير، و المراد من الآية عام يشمل الجميع أي الطهارة الظاهرية و المعنوية عن دنس الشرك و الكفر.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ قال: «ينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلاّ و هو طاهر قد غسل عرقه، و الأذى و تطهر».

أقول: تقدم وجهه.

الطبرسي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ قال (عليه السلام): «هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى النّاس ليثوبوا إليهم».

أقول: هذا من باب التطبيق على أفضل الأفراد لا التخصيص.

بحث تاريخي:

المقام آية من آيات هذا البيت العظيم، و قد عرفت أنّه و الركن و حجر بني إسرائيل من أحجار الجنّة، و روي عن ابن عباس أنّه قال: «ليس في الأرض من الجنّة إلاّ الركن الأسود و المقام فإنهما جوهرتان من جوهر الجنّة و لو لا ما مسهما من أهل الشرك ذو عاهة إلاّ شفاه اللّه تعالى».

و إن إبراهيم (عليه السلام) قام عليه فأثّرت فيه قدماه. كما ورد في الأثر الصحيح عن

ص: 32

الصادق (عليه السلام).

و إنه صخرة وضعتها زوجة إسماعيل تحت رجلي إبراهيم لما غسلت رأسه فأثرت فيها قدماه، كما روي عن الصادق (عليه السلام) و ابن عباس.

و كيف كان فهو حجر معروف بأنه مقام إبراهيم (عليه السلام) من قبل البعثة كما هو الشأن بالنسبة إلى بقية المشاعر العظام. و قد روي عن نوفل بن معاوية الديلي قال: «رأيت المقام في عهد عبد المطلب و هو مثل المهاة». و المهاة الخرزة البيضاء، و عن أبي سعيد الخدري قال: «كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم - الحديث -» فلا ريب في أن الحجر المعروف الآن هو نفس مقام إبراهيم المذكور في القرآن الكريم الذي أمرنا باتخاذه مصلّى فقداسة المقام و كونه من المشاعر العظام غير قابلة للتشكيك كسائر المشاعر المباركة. و حد المقام ذراع واحد مساحته أربع عشرة إصبعا في أربع عشرة، و القدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع و دخولهما منحرفتان و بين القدمين في الحجر إصبعان. و كان البعد بينه و بين الركن تسعة و عشرين قدما و تسع أصابع و من الركن الشامي إلى المقام ثمان و عشرين ذراعا و تسع عشرة أصبعا.

نعم وقع الكلام في موضعه

فقد روي عن الباقر (عليه السلام) «كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عند جدار البيت فلم يزل هناك حتّى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم فلما فتح النبي (صلّى اللّه عليه و آله) مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم (عليه السلام) إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل النّاس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال بعض أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع (سير) فهو عندي فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان». و روى الأزرقي: «أمر عمر بن الخطاب عبد اللّه ابن السايب العابدي - و عمر نازل بمكة في دار ابن سباع - بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم قال فحوله ثم صلّى المغرب و كان عمر قد اشتكى رأسه، قال: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلّى ورائي فلما قضى صلاته قال عمر: أحسنت فكنت أول من صلّى خلف المقام حين حول إلى

ص: 33

موضعه». فإن المستفاد منه أن موضعه كان غير موضعه الآن. و في رواية محمد بن مسلم و خبر إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه السلام) ما يدل على أن محل المقام على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) غير محله في أيام الأئمة (عليهم السلام) و عصرهم.

و بإزاء ذلك ما رواه الأزرقي و غيره عن المطلب بن أبي وداعة ان سيل أم نهشل في أيام عمر احتمل المقام من محله فسأل عمر عن محله فزعم المطّلب أن عنده مقياس محله فوضع في محله الآن. و هذه الرواية لا تقاوم تلك الروايات الكثيرة الدالة على أنه كان ملاصقا للكعبة من جهات.

بحث فقهي:

قد وردت أخبار كثيرة ربما تبلغ اثني عشر خبرا في أن صلاة الطواف لا بد أن تكون خلف المقام بحسب موضعه الآن و تحمل الروايات المطلقة أو المشتملة على لفظ «عند المقام» أو «إرجع إلى المقام» أو «ائت المقام» على الجهة و مقدار السعة، و لعل وجوب تقديم المقام بحسب موضعه الثاني لأجل احترامه عن استدباره حفظا للوحدة و النظام، و تعرضنا للبحث في أحكام صلاة الطواف من كتاب الحج مفصلا و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اِج.......

اشارة

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (129) يذكّر سبحانه و تعالى النّاس في هذه الآيات المباركة بأن الذي بنى هذا البيت الشريف - الذي يعود لهم بالنفع العظيم - هو إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) أبوا هذه الأمة و أن الرسول الذي ظهر فيهم إنما هو من دعائه و أن ملته هي ملة أبيهم إبراهيم فلا عذر لهم في الكفر و الإعراض عن ملة أبيهم مع ما هم عليه من التفاخر بالآباء و يستفاد من الآيات عظمة البناء و الباني.

ص: 34

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ . مادة (رفع) تستعمل فيما يشتمل على العلو نقيض الخفض، و تختلف باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا، كما تختلف موارد استعمالاتها بين الجواهر و الأعراض و الصفات و الشؤون و الاعتباريات قال تعالى: وَ اَلسَّماءَ رَفَعَها [سورة الرحمن، الآية: 57]، و قال تعالى: وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الإنشراح، الآية: 4]، و قال جلّ شأنه: وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10] و قال تعالى: رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ [سورة غافر، الآية: 15] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و القواعد جمع القاعدة و هي تأتي بمعنى الثبوت و الاستقرار في مقابل الحركة، و سمي أساس البيت و البناء قاعدة لثباته و استقراره قال تعالى: فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ [سورة النحل، الآية: 26] و سميت القاعدة العلمية قاعدة لثباتها و تفرع مسائل عليها. و رفع القواعد هو البناء عليها.

و يحتمل أن يراد بالبيت و القواعد و الرفع المذكور في الآية المباركة المعنى الأعم من رفع البيت الجسماني و قواعده و رفع بيت النبوة و التشريعات السماوية فإن أساسها من إبراهيم (عليه السلام).

و في الآية المباركة تلميح إلى أن رفع البيت و بناءه كان من إبراهيم (عليه السلام) لنسبة الرفع إليه وحده و أنّ إسماعيل كان يساعده و يعمل له.

قوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ تقدم معنى الرب في قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الحمد، الآية: 2] و قد ذكرنا هناك أنّ في هذا الاسم المبارك مزية لا توجد في غيره من الأسماء المقدسة، و لذا لا يكون دعاء في القرآن - خصوصا دعوات هذا النبي العظيم - إلاّ و هو مبدوّ بهذا الاسم: و القبول من المفاهيم المبينة عند العرف، و له مراتب و هو (عليه السلام) يطلب جميعها حتّى جنّة اللقاء التي هي أرفع المقامات المعنوية.

و السمع إذا استعمل في الإنسان فهو إدراك خاص بقوة خاصة في مقابل

ص: 35

البصر و سائر التقوى الظاهرة. و إذا استعمل في اللّه تعالى كان معناه انه لا يخفى عليه المسموعات، و يرجع إلى علمه الأزلي بجميع ما سواه. و قد وردت مادة السمع في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، كما ورد السميع العليم بالنسبة إليه عزّ و جل كثيرا جدا قال تعالى: وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ [سورة المائدة، الآية: 76]. و تستعمل فيه عزّ و جل أيضا بمعنى الجزاء و ترتب الأثر مثل «سمع اللّه لمن حمده».

و في ذكر العليم إشارة إلى أنه تعالى يعلم بتحقق شرائط استجابة الدعاء التي من أهمها الخلوص و الإخلاص و الانقطاع اليه عز و جل. و قد استجاب اللّه تعالى دعواته (عليه السلام). و يستفاد من الآية المباركة أن محل البيت كان موجودا قبل بناء إبراهيم (عليه السلام) و هو رفع قواعده و شيّد بنيانه و تدل عليه الروايات الآتية في البحث الروائي.

كما أن في دعائه (عليه السلام) بالقبول إشارة إلى أن الإنسان مهما سعى و بذل أقصى وسعه في تحصيل العمل لا بد له أن يتضرع اليه سبحانه و يبتهل إليه بالقبول و أن يعترف بالقصور. و في حذف المتعلق تحقير للعمل و النفس في مقابل العظيم المتعال جل شأنه و هذا من أدب خليل الرحمن مع اللّه عزّ و جل في دعواته. و في لفظ «تقبل» إشارة إلى كثرة توجهه (عليه السلام) الى جنّة اللقاء و مقام الرضاء كما طلبه في دعائه الآخر قال: رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ [سورة ابراهيم، الآية: 39] فإن مقامه (عليه السلام) أرفع من أن يطلب قبولا يوجب الحور و القصور فقط.

قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ . مادة (سلم) تشتمل على معنى السلامة، و لها مراتب كثيرة جدا بين العيوب الظاهرية و المعنوية - الدنيوية و الأخروية - و القلبية، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و الإسلام هو الدخول في السلم - بكسر السين - و قد اختص بالإذعان، بإلهيته تعالى و رسالة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و شريعته و قرآنه المساوق للإيمان.

و للإسلام درجات أعلاها ما كان عليه إبراهيم (عليه السلام) و أدناها ما

ص: 36

عليه عامة المسلمين يحفظون بها دماءهم و أموالهم مع ما عليه بعضهم من الفسق و الشقاء. و قد جمع جملة من مراتبها نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

في الحديث المعروف «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه» فالإسلام الحقيقي مظهر [بضم الميم] اللّه في الأرض و المسلم الواقعي مظهره (بالفتح) بين عباده.

و معنى الآية المباركة ربنا و اجعلنا مخلصين لك في الإعتقاد و العمل و ثبتنا على الإسلام بتوفيقك و هدايتك. و سؤال الإسلام لنفسه و خواص ذريته إنما هو للثبات على مثل هذه المرتبة في الإسلام.

قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ . الذرية اسم جمع يطلق على نسل الإنسان و على غيره قال تعالى في الشيطان: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [سورة الكهف، الآية: 50] و الأمة الجماعة و الطائفة، سواء أ كانت من ذوي العقول أم من غيرهم مما يجمعهم شيء واحد قال تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 38] و هي من الأمور الإضافية القابلة للقلة و الكثرة، و قد يكون كل نوع أمة بل قد يكون كل صنف كذلك و قد يطلق اللفظ على الواحد باعتبار كونه مجمع الخيرات و منشأ البركات قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 120] و تقدم في قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي [الآية: 134] الوجه في أنه (عليه السلام) لم يسأل الإسلام لجميع الذرية.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ إسلام هذه الأمة إنما هو من بركات دعائه (عليه السلام) و في غالب دعواته انه يسأل لنفسه و لامته و ذريته.

قوله تعالى: وَ أَرِنا مَناسِكَنا . النسك العبادة و الناسك العابد و المنسك هو الموضع المعد للعبادة، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [سورة الحج، الآية: 67] و لكن اختص اللفظ في العرف الخاص بأفعال الحج قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 200] و يستعمل في خصوص الهدي أيضا قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة، الآية، 196] و النسك هو الهدي و قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية:

ص: 37

قوله تعالى: وَ أَرِنا مَناسِكَنا . النسك العبادة و الناسك العابد و المنسك هو الموضع المعد للعبادة، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [سورة الحج، الآية: 67] و لكن اختص اللفظ في العرف الخاص بأفعال الحج قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 200] و يستعمل في خصوص الهدي أيضا قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة، الآية، 196] و النسك هو الهدي و قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية:

162]

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ما رواه الفريقان بطرق متواترة: «خذوا عني مناسككم».

و المراد بالرؤية هنا الرؤية الحقيقية أي المعرفة و الإراءة لا مجرد الرؤية البصرية و التعليم القولي، و تدل على ذلك روايات كثيرة دالة على أن جبرائيل كان معه (عليه السلام) في جميع أعماله و أطواره كما كان مع نبيّنا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في حجة الوداع.

قوله تعالى: وَ تُبْ عَلَيْنا . التوبة تأتي بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى اللّه تعالى عن مخالفته، أو عن مجرد الالتفات إلى غيره و لو كان مباحا و توبة الأنبياء (عليهم السلام) من الأخير فيكون قبولها من اللّه تعالى بالنسبة إليهم بمعنى ارتقاء الدرجة لا إسقاط العقاب، و تسمى هذه توبة أخص الخواص في اصطلاح علم الأخلاق. مع أنّ لنفس استعمال التوبة نحو موضوعية خاصة فإنها لتذليل العبد و استصغار الأعمال بالنسبة إليه تعالى، مع أنه يمكن أن تكون توبة الأنبياء عن ما يصدر من تابعيهم من المعاصي، فإن من كان إمام قوم و سيدهم له أن يتوب إلى اللّه تعالى من ذنوب تابعيه.

و المعنى: وفقنا للإنابة و الرجوع إليك عما يشغلنا عنك.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ . التواب هو كثير التوبة أو لأجل أنه جل شأنه يوفق العبد للتوبة ثم يقبلها منه ثم يضاعف درجاته بها يعني: إنك وحدك توفق العباد للتوبة و تقبلها منهم و الرحيم بهم، و تقدم معنى الرحيم في بسملة سورة الفاتحة.

قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ . مادة (ب ع ث) تأتي بمعنى إثارة الشيء و توجيهه و تختلف باختلاف المتعلق فتارة: تكون أمرا عرضيا خارجيا، يقال بعثته في أمر قال تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 31] و هذا عام يشمل الخالق و الخلق و بعث اللّه الأنبياء و الرسل إلى النّاس من هذا القبيل، قال تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 213] و مثل هذا الاستعمال في

ص: 38

القرآن كثير. و أخرى: يكون بمعنى الإخراج - و الإثارة - من العدم إلى الوجود و هذا يختص باللّه جل شأنه قال تعالى: قُلْ هُوَ اَلْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً [سورة الأنعام، الآية: 65]. و ثالثة: يكون بالإحياء بعد الموت و هو يختص به جلت عظمته أيضا قال تعالى: وَ اَلْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ [سورة الأنعام، الآية: 36] و من أسمائه المقدسة «يا باعث» و قد يفيض هذا المقام إلى بعض أوليائه كعيسى (عليه السلام). و المراد بهذا الرسول هو محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لما يستفاد من ضمير «فيهم» فإن الدعاء وقع في مكة و هو منحصر فيه (صلّى اللّه عليه و آله) فإبراهيم (عليه السلام) رسول اللّه إلى ذرية هذا النبي العظيم و به ابتدأت الدعوة إلى الحق و اختتمت في نسله المبارك إلى يوم القيامة،

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنا دعوة أبي إبراهيم». و إنما دعا أن يكون الرسول منهم لا من غيرهم ليكونوا أعزّ به و لأنّه أقرب لإجابة دعوته».

قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ . أي يقرأ عليهم، و في لفظ التلاوة خصوصية ليست في مطلق القراءة فإنها القراءة التي يتبعها الفهم و التدبر، و المراد بالآيات القرآن الكريم.

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ . الكتاب هو القرآن. و مادة (ح ك م) تدل على الثبات و الإتقان و الاستحكام ما لم تكن افتعاليا ادعائيا و للحكمة مصاديق مختلفة و كل ما قيل فيها إنما هو دون شأنها و قد جعلها سبحانه و تعالى مدار كمال عباده و ترقياتهم المعنوية و سيأتي شرح معنى الحكمة في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و المراد بها في المقام هو أسرار الشريعة و أحكام الدين.

قوله تعالى: وَ يُزَكِّيهِمْ . مادة (ز ك ي) تأتي بمعنى النمو و يختلف ذلك باختلاف الموارد فقد يكون في المال؛ أو في النفس يعني: نموها في المعنويات و الكمالات و الأخلاق الفاضلة و العلوم و المعارف الحقة. و تأتي بمعنى الطهارة لكونها من موجبات النمو و البركة. و تنسب تارة إلى العبد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى [سورة الأعلى، الآية: 14]، و أخرى: إلى اللّه

ص: 39

تعالى لأنه المؤثر و الفاعل الحقيقي قال تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 49] و ثالثة: إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كما في الآية المباركة و رابعة: إلى العبادة لكونها بمنزلة الآلة - كما في نفس الزكاة - قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة، الآية: 103].

و تزكية الإنسان نفسه على قسمين:

أحدهما: أن تكون بالعمل و الإنصاف بالأوصاف المحمودة، و لا ريب في حسنها عقلا و شرعا و إليها تشير الكتب السماوية و القرآن العظيم.

و ثانيهما: أن تكون بالقول المجرد و هو مذموم عقلا و شرعا قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النجم، الآية: 32] و المعروف في الفلسفة العملية أنّ الذي لا يحسن - و إن كان حقا - هو مدح الإنسان نفسه.

و المراد بها في المقام هو المعنى العام و هو تنمية عقولهم و أبدانهم و أموالهم و جميع شؤونهم ببركات تعاليمه القيمة و تطهيرهم من الأدناس و رذائل الأخلاق.

و المعنى: و أرسل إليهم رسولا يعلمهم القرآن و أحكام الدين و يطهر نفوسهم من أنواع المعاصي و ذمائم الأخلاق و يزيّنها بالأعمال الحسنة و الأخلاق الفاضلة و الآية على إجمالها تشتمل على الفلسفة العملية و العلمية و الاجتماعية.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ . ختم للدعاء بالثناء عليه تبارك و تعالى و هذا من أدب الدعاء، و قد ذكر من أسمائه المقدسة ما يناسب سؤاله، فوصفه بالعزيز الذي لا مرد لأمره و الحكيم فيما يفعل و لا معقب لحكمه.

و العزيز من أسمائه المقدسة و هو المنيع الذي لا يقهر و لا يغالب

و في الحديث: «المؤمن أعزّ من الجبل» أي أصلب منه. و قد ورد في القرآن كثيرا و غالب ما ورد فيه مضافا إلى اسم آخر من أسمائه المباركة. و العزيز المطلق

ص: 40

ينحصر فيه عزّ و جل عقلا و نقلا كما يأتي عند قوله تعالى: إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة يونس، الآية: 65] إن شاء اللّه تعالى. هذا في العزة الحقيقة، و الظاهرية منها في الدنيا. و قد تحصل لبعض ادعاء لكن ليس كل ادعاء حقيقة بعد قوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من طلب العزة بغير اللّه ذل». و هذا الدعاء إنما كان بعد الفراغ من بناء البيت، إذ لا يمكن تعمير هذا البيت العظيم إلاّ ببقاء الحركة الدينية و استمرار المبادئ الإنسانية الكاملة،

و في الحديث: «إنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة إن الكعبة يستقل منها بالمعاول و لا يستقل من إيمان المؤمن شيئا» و لذا طلب منه إرسال الرسول ليشيد أركان العبادة.

بحوث المقام

بحث دلالي:

يظهر من الآيات المباركة أمور:

الأول: يستفاد من دعاء إبراهيم (عليه السلام) رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ان هذا الإسلام غير الإسلام الذي نحن عليه لأن هذا الدعاء وقع بعد طي المراحل الأولية من الإسلام مثل كسر الأصنام و الإحتجاج على بطلان عبادة الشمس و القمر، و الطعن على عبادة دون اللّه تعالى. فهو عبارة عن العبودية المحضة و تسليم الأمر اليه تعالى التي لخصها بعضهم

بقوله: «العبودية جوهرة كنهها الربوبية» و الأحاديث و شواهد العقل في عظمة هذه المرتبة من الإسلام و العبودية كثيرة جدا. و بناء عليه يكون ما طلبه (عليه السلام) لذريته إنما هم خواص ذريته، كطلبه للإمامة لبعض الذرية، كما عرفت.

الثاني: أنّ الإسلام الحقيقي و تسليم الأمر إليه تعالى في مقام العبودية المحضة يلازم الاصطفاء في الدنيا و الصلاح في الآخرة فهما متلازمان في المبدأ و المنتهى، و في المراتب شدة و ضعفا، كمالا و نقصا.

الثالث: أنّ في تأخير ذكر إسماعيل (عليه السلام) عن المفعول به في

ص: 41

قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ إشارة إلى أن الباني هو إبراهيم (عليه السلام) و إسماعيل تبع له فهو كالعامل لديه، كما عرفت سابقا.

بحث روائي:

في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إنّ اللّه تعالى أمر إبراهيم ببناء الكعبة و أن يرفع قواعدها و يري النّاس مناسكهم فبنى إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) البيت كل يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود. قال أبو جعفر (عليه السلام): فنادى أبو قبيس إنّ لك عندي وديعة فأعطاه الحجر فوضعه موضعه».

أقول: إنّ نداء أبي قبيس لإبراهيم (عليه السلام) ليس من قبيل النداءات الظاهرية المسموعة بكل سمع بل هو من سنخ الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلاّ المرتبطون بعالم الغيب و ذلك لا ينافي الروايات الكثيرة الدالة على أن الحجر نزل من الجنّة، إذ من الممكن أنه قد وضع في جبل أبي قبيس بعد الخروج من الجنّة.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: الحجر الأسود استودعه إبراهيم، و مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل. قال أبو جعفر (عليه السلام): إن اللّه استودع إبراهيم الحجر الأبيض و كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».

أقول: لا تنافي بين كون الحجر مستودعا عند إبراهيم (عليه السلام) و مستودعا في جبل أبي قبيس كما في الحديث السابق، لإمكان تعدد محال الاستيداع حسب أهمية الوديعة و المصالح المقتضية لذلك.

و في بعض الأخبار إنّ اللّه تعالى أنزل قواعد البيت من الجنّة.

أقول: يمكن أن يراد من الجنّة جنة الآخرة، و كانت الأحجار فيها من عالمها فلما نزلت إلى الدنيا تمثلت تلك القواعد بصورة الأحجار لأجل تبدل عالمها بعالم الماديات، كما في تصور جبرئيل بصورة الإنسان - كدحية الكلبي - و كما في قوله تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام، الآية: 9]، و سيأتي في الخبر الآتي ما يدل على ما قلناه.

ص: 42

أقول: يمكن أن يراد من الجنّة جنة الآخرة، و كانت الأحجار فيها من عالمها فلما نزلت إلى الدنيا تمثلت تلك القواعد بصورة الأحجار لأجل تبدل عالمها بعالم الماديات، كما في تصور جبرئيل بصورة الإنسان - كدحية الكلبي - و كما في قوله تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام، الآية: 9]، و سيأتي في الخبر الآتي ما يدل على ما قلناه.

و قد ثبت في الفلسفة أن تنزل كل شيء من عالمه إلى ما دونه لو تصور بصورة ما كانت بصورة ما نزل إليه لا بصورته التي يكون عليها في الواقع.

إن قيل: إنّ جنّة الآخرة لم تخلق بعد فما معنى هذه الأخبار من أنها نزلت من الجنّة. يقال: المراد بعدم خلق جنة الآخرة اى خلق نتائج أعمال العباد و أما خلق ذات المكان و سائر خصوصياته فهو مسلّم، كما تدل عليه ظواهر الآيات المباركة و السنة المقدسة. و بذلك يمكن أن يجمع بين الآراء فمن يذهب إلى أنها غير مخلوقة أراد جنة نتائج الأعمال، و ما يستفاد من الأدلة أنها مخلوقة أي بحسب الذات، و سيأتي الكلام فيه مفصلا في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير القمي عن هشام عن الصادق (عليه السلام) في حديث نزول هاجر و إسماعيل على أرض مكة قال (عليه السلام): «فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر اللّه تعالى إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت فقال: يا رب في أي بقعة؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنزلها اللّه تعالى على آدم قائمة حتّى كان أيام الطوفان أيام نوح (عليه السلام) فلما غرقت الدنيا إلاّ موضع البيت فسميت البيت العتيق، لأنه أعتق من الغرق، فلما أمر اللّه عزّ و جل إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت و لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث اللّه جبرئيل فخط له موضع البيت فأنزل اللّه عليه القواعد من الجنّة و كان الحجر الذي أنزله اللّه على آدم أشد بياضا من الثلج فلما لمسته أيدي الكفار اسود، فبنى إبراهيم البيت، و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم (عليه السلام) و وضعه في موضعه الذي هو فيه و جعل له بابين بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب، و الباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشجر و الإذخر و علّقت هاجر على بابه كساء كان معها و كانوا يكنّون تحته. فلما بناه و فرغ منه حج إبراهيم (عليه السلام) و إسماعيل

ص: 43

و نزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان من ذي الحجة فقال يا إبراهيم: قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم (عليه السلام) فقال إبراهيم (عليه السلام) لما فرغ من بناء البيت: رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ . قال (عليه السلام): من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى النّاس لينتابوا إليهم و يعدوا إليهم».

أقول: وردت روايات أخرى قريبة من ذلك من الفريقين، و يدل على تفسير الثمرات بثمرات القلوب قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة ابراهيم، الآية: 37]. كما تقدم الوجه في كون القواعد من الجنّة في الحديث السابق.

في تفسير القمي في قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ - الآية - قال: يعني ولد إسماعيل فلذلك

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنا دعوة أبي إبراهيم».

و في تفسير العياشي عن الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«قلت له: أخبرني عن أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) من هم؟ قال: أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) بنو هاشم خاصة. قلت: فما الحجة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال (عليه السلام): قول اللّه تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ .

فلما أجاب اللّه إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذريتهما أمة مسلمة و بعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ردف ابراهيم دعوته الأولى بدعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم و لا يتبعوا غيرهم، فقال: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذا دلالة على أنّه لا تكون الأئمة و الامة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية ابراهيم، لقوله تعالى: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ .

ص: 44

فلما أجاب اللّه إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذريتهما أمة مسلمة و بعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ردف ابراهيم دعوته الأولى بدعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم و لا يتبعوا غيرهم، فقال: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذا دلالة على أنّه لا تكون الأئمة و الامة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية ابراهيم، لقوله تعالى: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ .

أقول: ما ذكره (عليه السلام) استدلال حسن على أن ذرية ابراهيم و الأمة المسلمة سوى من يسمى بالإسلام و أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لأن هذه الآية و ما في سياقها تخص الذرية و الأمة المسلمة بخصوص من اجتباه اللّه تعالى و عطف عليهم إبراهيم بتلك الدعوات الخاصة لنفسه و ذريته، فتخرج البقية عن مورد الاجتباء تخصصا إذ لا مناسبة بين ما طلبه إبراهيم (عليه السلام) و ما يرى في بعض المسلمين. و بالجملة هو القليل الذي يمدحه اللّه تعالى كثيرا و غيره داخل في الكثير الذي وقع مورد الذم في القرآن كذلك.

و في الوافي نقلا عن الكافي عن ابن بكير قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) لأي علة وضع اللّه الحجر في الركن الذي هو فيه و لم يوضع في غيره؟ و لأي علة أخرج من الجنّة؟ و لأي علة وضع ميثاق العباد و العهد فيه و لم يوضع في غيره؟ و كيف السبب في ذلك؟ تخبرني جعلني اللّه فداك؟ فإن تفكيري فيه لعجب. قال (عليه السلام) سألت و أعضلت في المسألة و استقصيت فافهم الجواب و فرّغ قلبك و اصغ بسمعك أخبرك إن شاء اللّه تعالى: إنّ اللّه تبارك و تعالى وضع الحجر الأسود و هي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق، و ذلك أنّه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ اللّه عليهم الميثاق في ذلك المكان، و في ذلك المكان ترا أى لهم - إلى أن قال -:

و أما القبلة و الالتماس فلعلة العهد تجديدا لذلك العهد و الميثاق و تجديد البيعة، و ليؤدوا اليه العهد الذي أخذ اللّه عزّ و جل عليهم في الميثاق فيأتوه في كل سنة و يؤدوا اليه ذلك العهد و الأمانة اللذين أخذ عليهم، ألا ترى انك تقول «أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة - إلى أن قال - يشهد لمن وافاه و جدد العهد و الميثاق عنده لحفظ العهد و الميثاق و أداء الأمانة، و يشهد

ص: 45

على كل من جحده و أنكره و نسي الميثاق بالكفر و الإنكار.

فأما علة ما أخرجه اللّه من الجنّة؟ فهل تدري ما كان الحجر؟ قلت: لا قال (عليه السلام): كان ملكا عظيما من عظماء الملائكة عند اللّه فلما أخذ اللّه من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به و أقر ذلك الملك فاتخذه اللّه تعالى أمينا على جميع خلقه و ألقمه الميثاق و أودعه عنده و استعبد الخلق ان يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق و العهد الذي أخذ اللّه عليهم ثم جعله اللّه مع آدم في الجنّة يذكّره الميثاق و يجدد عنده الإقرار في كل سنة فلما عصى آدم و خرج من الجنّة أنساه اللّه العهد و الميثاق و جعله تائها حيران فلما تاب على آدم حول ذلك الملك في صورة درة بيضاء فرماه من الجنة إلى آدم بأرض الهند فلما نظر إليه آنس اليه و هو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة فأنطقه اللّه عز و جل، فقال له: يا آدم أ تعرفني؟! قال: لا. قال أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربك ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم في الجنّة فقال لآدم: أين العهد و الميثاق؟ فوثب إليه آدم و ذكر الميثاق و بكى و خضع له و قبّله و جدد الإقرار بالعهد و الميثاق ثم حوله عزّ و جل إلى جوهر الحجر درة بيضاء صافية - إلى أن قال - ثم إن اللّه عز و جل لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان - الحديث -».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام): «فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق» - كما يستفاد من السنة الشريفة، و سيأتي في الآيات المناسبة - أنّ ميثاق العباد لربهم كان في ذلك المكان و صار ذلك المكان مشرّفا و مباركا لأنه موضع أخذ الميثاق من الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه الصالحين على التوحيد و يأتي في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية:

172] و ساير الآيات المباركة المناسبة بعض الكلام.

و أما

قوله (عليه السلام): «يشهد لمن وافاه و جدد العهد و الميثاق - الحديث -» هذه الشهادة من قبيل شهادة ما ورد في قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

ص: 46

[سورة النور، الآية: 24] فهي منوطة بالحياة و الإدراكات المعنوية الموجودة في الأشياء بالنسبة إلى اللّه تبارك و تعالى و ما يرتبط به جلّ شأنه و أما

قوله (عليه السلام): «فلما أخذ اللّه من الملائكة الميثاق كان من أول من آمن به» يظهر منه أن الميثاق كما أخذ من بني آدم أخذ من الملائكة أيضا فأصل الميثاق واحد و إن كان المورد تارة بالنسبة إلى الملائكة و أخرى بالنسبة إلى بني آدم، كما يظهر من مثل هذا الحديث أن أخذ الميثاق من الملائكة كان مقدما على أخذ الميثاق من ذرية آدم و يشهد له الاعتبار أيضا. كما يظهر منه اتحاد من التقم الميثاق في مقام البقاء و إن كانا مختلفين في مرحلة أصل الحدوث فزاد ذلك في فضل الركن، و لأجل ذلك عبر عنه ب «يمين اللّه في الأرض» كما في بعض الروايات.

و أما

قوله (عليه السلام): «أنساه اللّه العهد و الميثاق» فالمراد عدم الالتفات الفعلي لا ترك العهد و الميثاق بالمرة و ذلك لمصالح كما تقدم في قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها [سورة البقرة، الآية: 36].

إن قيل: انه يمكن أن يكون المراد من العهد و الميثاق أيضا عالم الدنيا و تعميرها من حيث العبور منها إلى الآخرة فلا يتحقق وجه للإنساء حينئذ. يقال: هذه النظر الآلية التبعية إلى الدنيا حصلت من الإنساء فتكون لنفس معصية آدم و نسيانه دخل في الجملة في تكوين الدنيا بنحو الاقتضاء إجمالا لا على نحو العلية التامة.

و أما

قوله (عليه السلام): «حوّل ذلك الملك في صورة درة بيضاء» فالمراد منه ظهور حقيقة عالم في صورة عالم آخر - كما تقدم - لا أن يكون من التناسخ الباطل، فذات الحقيقة باقية و هذا صحيح و واقع بالأدلة العقلية و السمعية فما

في بعض الأخبار من «ان الحجر الأسود يمين اللّه في ارضه يصافح بها عباده» تنزيل للأمر الغيبي بالأمر الحسي باعتبار أصله الذي كان من الملائكة و استلم ميثاق العباد.

و أما

قوله (عليه السلام): «فرماه من الجنّة إلى آدم و هو بأرض الهند» تقدم موضع هبوط آدم من الجنة إلى الأرض سابقا، و المراد من الرمي هو

ص: 47

تسليم اللّه الحجر إلى آدم. و فيه إشارة إلى أن التسليم وقع مباشرة منه جل شأنه من دون واسطة في البين، و فيه من اظهار كمال الأهمية ما لا يخفى.

و الأرض كلها كانت أرض خليفة اللّه تعالى و كان يتجول فيها بقدرته تعالى - بما فيها الهند - و قد فصل المحدثون ذلك في السنة الشريفة.

و أما

قوله (عليه السلام): «فلما نظر إليه آنس اليه» المراد به الأنس المعنوي الذي يدركه أهل المعنى كما في قوله تعالى: آنَسَ مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ ناراً [سورة القصص، الآية: 29].

و أما

قوله (عليه السلام): «و هو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة» فإن العلم بالحقائق الواقعية و ملكوت الأشياء بما هي عليها يختص به تبارك و تعالى أو من علّمه اللّه عزّ و جل؛ و لم تقتض المصلحة ان يعلم آدم حقيقة تلك الجوهرة حين رماها اليه.

و أما

قوله (عليه السلام): «فأنطقه اللّه عزّ و جل فقال له يا آدم أ تعرفني؟» فذلك ممكن عقلا و واقع في الخارج أيضا بقدرة اللّه تعالى كتسبيح الحصى في كف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و من هذا الحديث الشريف يظهر سر دعاء الحجيج عند استلام الحجر الأسود بقولهم: «أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة» فكان لهذا الحجر الشريف مظاهر و شؤون و في جميعها مبارك و مقدس و سيظهر له بعد ذلك بما هو أحسن و أولى في عالم آخر.

و أما

قوله (عليه السلام) «إن اللّه عزّ و جل لما بنى الكعبة وضع الحجر في المكان» فإنه يستظهر منه أن أول بناء الكعبة المقدسة كان من اللّه تعالى بواسطة الملائكة. و يمكن أن يحمل على بناء ابراهيم (عليه السلام) فيكون نظير قولهم بنى الأمير المدينة.

و المتحصل انه يظهر من هذا الحديث و أمثاله من الأحاديث المعتبرة عظمة هذا البيت و أهمية الحجر الشريف بما لا يدع مجالا للشك و الريب، فليس هو من الأحجار التي لا تضر و لا تنفع، و إنما اكتسب شرفا بالمجاورة كما

ص: 48

يراه بعض المفسرين، بل له كمال الزلفة و القداسة و له المنزلة العظمى، كما له المظاهر المختلفة حسب تعدد العوالم.

بحث علمي:

تقدم في البحث الروائي بعض الأحاديث الواردة في بناء البيت و فضل الحجر الأسود، و مضامين تلك الأحاديث متواترة بين الفريقين فلا وجه للمناقشة في أسانيد بعضها. نعم قد يكون بعض الروايات ضعيفة سندا، و لكن ذلك لا يوجب رفع اليد عن بقية الروايات و رميها بالضعف و الخرافات كما هو واضح. و مع ذلك فقد ناقش بعض المفسرين و الكتّاب المحدثين في تلك الأحاديث فقال في عرض كلامه لتفسير الآية الشريفة: و هذه الروايات فاسدة في تناقضها و تعارضها، و فاسدة في عدم صحة أسانيدها، و فاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن بل كل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوّهوا عليهم دينهم و ينفروا أهل الكتاب منه.

و لا يخفى أنّ ما ذكره باطل من وجوه:

الأول: إنّه قد شهدت الأدلة العقلية و السمعية على أنّ للّه تعالى في عالم الشهادة مظاهر من عالم الغيب إتماما للحجة و لمصالح لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى و بعض خواص أوليائه، و من تلك المظاهر مقام إبراهيم (عليه السلام) و الحجر الأسود و غيرهما مما أشرنا إليه سابقا و ما ستعرفه بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى، و قد ثبت في الفلسفة ببراهين كثيرة إمكان ظهور شيء واحد في مظاهر مختلفة حسب العالم الذي يظهر فيه و لا ينافي ذلك واقعه الذي هو عليه، فيمكن أن يكون شيء واحد من الروحانيات في عالم و هو في نفس الوقت من الماديات في عالم آخر - جوهرا كان أو عرضا - كما في الحجر الأسود فإنه إذا استلم كان بحسب الظاهر شيئا ماديا و لكنه في الواقع يمين اللّه - بالمعنى الذي تقدم - يصافح بها عباده كما في الحديث، و حينئذ لا وجه لحصر حقيقته في ما ندركه بالماديات فقط بزعم أن العقول لا يمكن لها درك ما وراء عالم المادة فإن ذلك إما قصور أو تضييع و تعطيل للعقل عن مسيره

ص: 49

الذي جعله اللّه تعالى له، فإنه لم يحده بحد إلاّ ما ورد في الشرع من النهي عن التعمق فيه. و من ذلك يعلم أن جعل مضامين تلك الأخبار من الأقاصيص التي بثها زنادقة اليهود، من الجهل بالحقائق و الواقعيات.

الثاني: إنّ رمي الروايات بالضعف إنما هو سبيل العاجز و أسهل شيء في الأحاديث عند من لا يحيط بواقعها و حقائقها و قصر النظر على الظاهر فقط، و تعطيل للعقل عن الاستكمال، فإن نظر أهل المعرفة في العلوم إنما هو إلى الحقائق الكلية المختلفة مظاهرها حسب تعدد العوالم دون الأفراد الجزئية، و الفضل في الأولى دون الأخيرة كما هو المعلوم للخبير.

الثالث: إنّه يعلم مما ذكرناه عدم تحقق التناقض و التعارض في الروايات فإنّ ذلك إنّما يحصل من قصر النظر على نشأة دون أخرى و أما حقيقة الشيء المختلفة باختلاف النشآت حسب ظهورها في ذلك فلا وجه لعده من التناقض، فما في بعض الروايات من كون الحجر ملكا و في بعض آخر أنه درة بيضاء إنما يكون بحسب تعدد الظهور و من شرط تحقق التناقض و التضاد وحدة الموضوع و هي مفقودة في المقام، و لا وجه لتوهم التعارض مع القرآن.

الرابع: إنّ ما اعترف به من أنّ هذه الأمور مما شرفها اللّه تعالى كما شرف أنبياءه فهو حق لا ريب فيه، لأنّ جميع تلك الأمور لا بد أن تنتهي جهة شرافتها اليه تعالى و ذلك لا ينافي جريان الأسباب التي قدرها اللّه تعالى لشرافتها.

بحث فلسفي عملي:

العبادات التي شرعت في الإسلام إنما هي مبنية على مصالح كثيرة قد لا يحيط بها الإنسان إلاّ إذا بينها اللّه تعالى على لسان نبيه (صلّى اللّه عليه و آله). و المستفاد من الآية المباركة و الأخبار الكثيرة بعض تلك المصالح، فإنها تدل على أن تلك العبادات من مظاهر عبودية العبد بالنسبة إلى معبوده، و أنّها تجليات المعبود في قلوب المتعبدين بحسب مراتب قربهم اليه جلّ شأنه، و أنها منازل للسير الاستكمالي في الإنسان الذي لا يتحقق إلاّ

ص: 50

بواسطة الأنبياء و المرسلين بتشريعاتهم و أنّ منها مثالا لمجاهدات المخلصين من أنبيائه (عليهم السلام) و صورا لمنازل العبودية التي بها بلغوا إلى مدارج استكمالهم، ففي الحج مثلا يتجلى ما ذكرناه بوضوح فإنه عنوان مشير إلى منازل عبودية شرعها إبراهيم الخليل (عليه السلام) و أفعال الحج مثال لجهاده في مرضات اللّه تعالى و لذا شرع في الإسلام لأنه مشتمل على أعظم أنحاء العبادات و شموليته لجميع الجوانب - روحا و بدنا و مالا - فيكون انقطاعا اليه جلت عظمته بجميع أنحاء الانقطاعات كما فعله إبراهيم (عليه السلام) فهو لم يلاحظ في بناء هذا البيت الجانب المادي منه بل بنى بيت العبودية الحقيقية التي هي غاية كمال الإنسان و أكمله سيد المرسلين نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فصاروا جميعا من حجاب هذا البيت العظيم و سدنته، و للمقام تتميم يأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بحث تاريخي:

كانت للكعبة المقدسة أهمية و احترام عند العرب قبل الإسلام من حين بنائها بل قد يستفاد من بعض التواريخ أنها كانت محترمة و معظمة حتّى عند الأمم من غير العرب أيضا كالهنود و الفرس و الصابئة و اليهود و النصارى و غيرهم.

أما الهنود فكانوا يعتقدون أن روح أحد عظمائهم [سيفا] قد حلت في الحجر الأسود حين زار بلاد الحجاز. و كان الفرس يعظمونها زاعمين أن روح هرمز قد حلت فيها. و أما الصابئة - و هم عبّاد الكواكب - فإنهم يعدونها من إحدى البيوت السبعة المعظمة لديهم. و كانت اليهود تحترم الكعبة و يعبدون اللّه تعالى فيها على دين إبراهيم (عليه السلام) و كان لهم فيها تمثال إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) و غيرهما من عظمائهم. كما كانت الكعبة معظمة و مقدسة عند النصارى أيضا و كانت فيها صورة العذراء و المسيح و كان للعرب فيها أصنام ربما تقرب إلى 360 صنما.

و لكن ذهاب هذه الأمم إلى أصل قداسة البيت و عظمته مما لا ينكره أحد. و أما ما ذهبوا اليه من حلول روح سيفا أو هرمز أو التقديس لها لأجل

ص: 51

صورتي العذراء و المسيح أو غير ذلك إن كان من جهة قصور عقولهم في تطبيق القداسة و العظمة على ما زعموه فلا شك أنه من باب الجهل المركب في تطبيق الواقع على مزاعمهم، و إن كان مرادهم بذلك الموضوعية الخاصة فالآيات المباركة و السنة الشريفة و ضرورة الدين المقدس تنكر جميع ذلك بل العقل لا يقبل ذلك أيضا كما ستعرف في الآيات المباركة المناسبة إن شاء اللّه تعالى

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ.......

اشارة

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (131) وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى جملة من مجاهدات ابراهيم (عليه السلام) و ما عهد اليه من بناء البيت و جعله معبدا و أنه كان يدعو إلى توحيد اللّه تعالى و العمل الصالح و إخلاص العمل له فصارت ملته مطابقة للفطرة التي يحكم بها العقل، عقّب سبحانه و تعالى كالنتيجة لما سلف أنه إذا كانت ملته كذلك فليس للعاقل أن يرغب عن ملته إلاّ إذا كان سفيها معرضا عن حكم العقل و الفطرة، ثم ذكر سبحانه و تعالى أنّ ابراهيم (عليه السلام) قد وصى بها بنيه و جعلها كلمة باقية عندهم فكانوا يعبدون الإله الواحد إله إبراهيم و إسماعيل و إسحاق. فالمناط كله على تسليم الأمر اليه تعالى لا على مجرد التسمية.

التفسير

قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ . الرغبة تأتي بمعنى الميل و الإقبال، فإذا عديت ب (إلى أو في) تفيد معنى الحرص على الشيء، و إذا استعملت مع كلمة (عن) كانت بمعنى الكراهة و الإدبار فهي من

ص: 52

هذه الجهة من الأضداد. و من للاستفهام الإنكاري أي: لا يرغب عن ملة إبراهيم الداعية إلى التوحيد و الأخلاق و الحنيفية إلاّ السفيه.

قوله تعالى: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ . تقدم معنى السفه في آية 13 من هذه السورة؛ و قلنا أنّ السفه و السفاهة بمعنى ضعف العقل و خفته، سواء أ كان في الأمور الدنيوية أم الأخروية أم هما معا. و عن بعض الأدباء و المفسرين أنّ السفه إن استعمل متعديا - كما في المقام - و قولهم سفه رأيه يكون بالكسر، و إن استعمل لازما يكون بالضم، لأنه من أفعال السجايا فلا يتعدى.

و المعنى: انه لا يرغب عن ملة إبراهيم (عليه السلام) إلاّ من أهان نفسه و احتقرها و أهلكها، فإن ملة ابراهيم (عليه السلام) تدعو إلى أحكام الفطرة الواضحة لدى العقول.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل الفسق العملي في المسلمين أيضا.

إن قيل: على هذا يعم السفه جميع الناس (يقال) لا بأس به، إذ المراد بهذا السفه هو السفه الأخروي دون الدنيوي، و قد أطلق سبحانه السفه على من اعترض على الدين و على من عيّر المؤمنين، فقال تعالى: سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها [سورة البقرة، الآية: 142] و قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهاءُ [سورة البقرة، الآية: 13] فالسفه تارة: يكون في الأمور الدنيوية و هو المراد بقوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [سورة النساء، الآية: 5] و له أحكام كثيرة مذكورة في فقه المسلمين. و أخرى: يكون في أمور الدين و الآخرة و له آثار كثيرة مذكورة في أحاديث الفريقين و ثالثة: يكون فيهما معا و سيأتي في البحث الآتي تفصيل الكلام.

قوله تعالى: وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا . مادة (ص ف ي) تأتي بمعنى الخلوص عن كل شوب و نقص و تأتي بمعنى الإختيار لأنه لا يقع من اللّه تعالى إلاّ بذلك أي: و لقد اخترنا ابراهيم (عليه السلام) - بعد اختباره و خلوصه عن كل دنس و رذيلة - للرسالة و الأمانة و الهداية في الدنيا و جعل

ص: 53

الملك العظيم له و لبعض ذريته.

قوله تعالى: وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ . الصالح من حكم له بالصلاح و لا يكون كذلك إلاّ إذا كان جامعا للكمالات المعنوية و حقيقة العبودية التي هي جامعة للكمالات الإنسانية فمن كان كذلك في الدنيا يلزم أن يكون في الآخرة من الصالحين، فالحكمان من المتلازمين.

و إنما خص تعالى الصلاح بالآخرة مع أنه معدود في الدنيا من الصالحين لأنه يظهر فيها صلاح الصالحين فيرى النّاس بأعينهم ما كانوا يسمعونه، في الدنيا، أو لأن صلاح الآخرة ملازم لصلاح الدنيا تلازم المعلول للعلة، أو لأن صلاح أنبياء اللّه تعالى لا سيما هذا النبي العظيم الذي تعرفه جميع الملل و الأديان في الدنيا معلوم لكل أحد، و قد أراد سبحانه أن يبين صلاحه في الآخرة أيضا. و هذه الآية المباركة دليل قطعي على أن إنكار من يرغب عن ملة إبراهيم ليس إلاّ ممن جنى على نفسه بالهلاك فإن ملة تكون لصاحبها هذه المنزلة عند اللّه تعالى لا تكون إلاّ خيرا محضا في الدنيا و الآخرة فلا يرغب عنها احد إلاّ من كان سفيها.

و في الآية الشريفة وعد لإبراهيم (عليه السلام) بصلاح حاله في الآخرة و بشارة له بذلك.

ثم إنّ للصلاح و العمل الصالح شأن كبير في القرآن و السنة بل و حكم العقل و المجتمع الإنساني. و لم يرد في الكتاب الكريم في تعريفهما شيء، و لعل وضوحهما عند النّاس أغنى عن التعريف فإن مادة (ص ل ح) محبوب كل ذي شعور خصوصا إذا كان في مورد الصلاح الأبدي. و المذكور إنما هو الآثار المترتبة على العمل الصالح، مثل إنه تعالى يرفعه، قال جلّ شأنه: وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10] و إنه يتولى الصالحين، قال تعالى: وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصّالِحِينَ [سورة الأعراف، الآية:

ص: 54

196]. و إنه يرزق من عمل صالحا بغير حساب، قال تعالى: وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة غافر، الآية: 40]. و أن الصالح في مصاف الأنبياء الصديقين و الشهداء قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ [سورة النساء، الآية:

69] و تلك الآثار المذكورة في الآيات المباركة إنما تترتب إذا كان الصلاح منبعثا عن الذات بحيث تكون الذات مقتضية له. و ذلك في ما إذا ارتسم من مواظبة الأعمال الصالحة بحيث حدثت ملكة في النفس من ارتكاب تلك الأعمال، لأن بين النفس و الأعمال نحو تلازم في الجملة ربما تؤثر النفس في الأعمال على نحو الاقتضاء. كما انه ربما تؤثر في النفس كذلك - كما ثبت في الفلسفة العملية - فاللّه تعالى لا يدعو إلاّ إلى العمل الصالح و كذلك يكون شأن رسله و أنبيائه (عليهم السلام) فإنهم لا يدعون إلاّ إليه قولا و عملا فهم الصالحون في الدنيا و الآخرة.

و بالعمل الصالح يدرك مراتب الجنان كما أن به تخمد لهب النيران و يرتقي الإنسان إلى ذروة محبة الرحمن؛ قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا [سورة مريم، الآية: 96] و لو أردنا أن نعدد ما ورد في الكتاب في فضل العمل الصالح و فضائل الصالحين و الصالحات لطال البحث و صار كتابا مستقلا، و لعلنا نذكر بعض ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها في مستقبل الكلام.

قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ . الظرف متعلق بالاصطفاء و الجملة لبيان العلة لحصول الاصطفاء و الصلاح. و المراد بالقول هنا تلك الدعوة الحاصلة من الإشراقات المعنوية و الإفاضات على قلب ابراهيم (عليه السلام) حسب مقتضيات الأحوال و الخصوصيات و التي تنبئ عن كمال الخلة الواقعية بينهما، و ليس المراد به القول الظاهري الواقع في زمان خاص حتّى يبحث عن وقته كما عن جمع من المفسرين لأن المراد بالقول ما هو المبرز للمراد الواقعي، و لا ريب في أن تلك الإشراقات أقوى و اظهر فيه من مجرد القول؛ و يمكن أن يكون المراد به القول الظاهري كما في جميع أقواله بالنسبة إلى أنبيائه (عليهم السلام).

ص: 55

قوله تعالى: قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ . تقدم معنى، الإسلام، كما تقدم تفسير لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ في سورة الحمد، و يستفاد من قوله لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ أنّ إسلامه معه في جميع العوالم التي يمر عليها. و في الالتفات في الآية الشريفة من التكلم إلى الغيبة ثم من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى كمال الموافقة بين الخليلين، فتارة يتكلم مع خليله بالحضور شوقا إلى اللقاء، و يلتفت إلى الغيبة خوفا من المحو و الفناء. و في ابتهالات المعصومين (عليهم السلام) و تضرعاتهم مع الرب من ذلك شيء كثير.

قوله تعالى: وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ . مادة (و ص ي) تأتي بمعنى الوصل و العهد، لأن الموصي يعهد بشيء في ما بعد موته، و يوصل تصرفاته و أعماله في زمان حياته ببعد وفاته أيضا، و الضمير في «بها» يرجع إلى الملة المشتملة على الإسلام، و كلمة الإخلاص أيضا المذكورة في قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ و هي الكلمة الباقية التي جعلها في عقبه كما قال تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [سورة الزخرف، الآية: 28]. و يعقوب عطف على إبراهيم أي: و وصى بها يعقوب أيضا. و في ذلك إشارة إلى كثرة اهتمام إبراهيم و حفيده يعقوب بحقوق اللّه تعالى و حرماته حتّى أنهما أوصيا بذلك، بل يدل على أهمية الموصى به و الاعتناء به، و أنه كالوديعة في أيديهم يجب أن تحفظ في أعقابهم، و هذا هو شأن جميع أنبياء اللّه و أوليائه في حفظ ودايع اللّه و أسراره، و وصية لقمان مذكورة في القرآن، و وصية علي (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) معروفة في كتب الأحاديث.

قوله تعالى: يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ . هذا مقول قول كل منهما لا خصوص قول يعقوب كما يظهر من بعض التفاسير، فإنهما قالا لبنيهما في مقام التوصية و التحريض إلى اتباع الملة الحنيفية. و المراد من الدين هو دين الحنيفية و الإسلام الذي اختاره اللّه لهم خالصا عن كل عيب و دنس.

و المراد من البنين هم الأولاد الأعم من الذكور و الإناث.

قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . كناية عن اتباعه

ص: 56

حق الإتباع، و عدم المفارقة عنه في وقت من الأوقات فيغتنم الشيطان ذلك فيردهم عن الملة الحنيفية و دين الإسلام فيموتوا غير مسلمين. و في الكلام إيجاز بليغ.

قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ . أم تأتي للاضراب، و انتقال الكلام إلى الاستفهام الذي هو بمعنى الجحود و الإنكار جيء به كذلك، لأنه أبلغ في الإلزام و الإحتجاج. و الشهداء جمع شهيد و هو بمعنى الحضور. و الخطاب لأهل الكتاب إنكارا عليهم حيث زعموا أن إبراهيم و يعقوب (عليهما السلام) كانا على ملتهم كما حكى سبحانه عنهم، قال تعالى أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 140] و قد أبطل اللّه تعالى حجتهم بأنه إن كان بدعوى حضورهم عند موت يعقوب و وصيته فهذه يبطلها الحس و الوجدان، و إن كان لأجل وصوله إليهم من التوراة و الإنجيل فما أنزلت التوراة و الإنجيل إلاّ من بعده، فاليهودية و النصرانية حدثتا من بعده بقرون. و إن كان لأجل أمر آخر، فهو مردود عليهم. و لا يتطرق احتمال أن يدع إبراهيم (عليه السلام) الملة الحنيفية و يوصي باليهودية و النصرانية.

قوله تعالى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي . أي سألهم ليقروا على أنفسهم بالتوحيد الخالص بعد نبذ معبودات أهل الشرك و الضلال. و إنّما أتى بلفظ (ما) تعميما للمعبودات من ذوي العقول و غيرهم.

قوله تعالى: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ . تقدم معنى العبادة في سورة الحمد، و الإله يأتي بمعنى التحير،

و قد قال علي (عليه السلام) فيه «كلّ دون صفاته تحبير الصفات، و ضل هناك تصاريف اللغات» و تصاريف اللغات أي تحسينها و تزيينها، و فيه إسقاط لكل ما يقال في حقيقة صفاته عزّ و جلّ فضلا عما يتوهم في حقيقة ذاته تعالى و تقدس.

و المراد بالإله هنا هو المعبود بقرينة صدر الآية المباركة و ذيلها.

ص: 57

و إنّما أدرج إسماعيل في آباء يعقوب للتغليب إذ العم بمنزلة الأب،

و في الحديث: «عم الرجل صنو أبيه». و إنما ذكر الآباء اسقاطا لزعم من يزعم أنهم على ملة غير الملة الحنيفية، و إعلاما بأنهم كانوا يدعون إليها كما يعتقدونها.

قوله تعالى: إِلهاً واحِداً . أي: لم نشرك به. و قد اختلفوا في لفظ الإله - كما اختلفوا في صفاته جلّ شأنه و أسمائه، و تحيروا في حقيقة ذاته تعالى - فمن قائل: انه من اله أي تحير، لما مر من

قول علي (عليه السلام):

«كلّ دون صفاته تحبير الصفات و ضل هناك تصاريف اللغات».

و في الحديث:

«تفكروا في آلاء اللّه و لا تفكروا في اللّه». و من قائل إنّ أصله من و له فأبدل الواو ألفا، و ذلك لكون كل مخلوق والها نحوه إما بالتسخير فقط كالجماد و الحيوان، أو بالتسخير و الإرادة معا كبعض النّاس. و عن بعض الفلاسفة «أنّ الإله محبوب كل شيء». و عن بعض العرفاء «أن الإله مجذوب كل شيء»، و استشهد الفريقان بقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44]. و من قائل إنه من لاه يلوه لولاها أي: احتجب عن الأبصار و العقول.

و الكل صحيح، لأن ذاتا لا تدرك حقيقته، و هو متصف بجميع صفات الجمال و الجلال تصح الإشارة اليه بأي جهة من جهات كماله الا إذا نهى الشارع عنها. و على أي تقدير يكون جمع إله و تثنيته اعتقاديا بالنسبة إلى المشركين لا واقعيا، لأن ما انحصر في الفرد و استحال وجود فرد ثان له كيف يصح جمعه؟ إلاّ بالجمع الاعتقادي الادعائي لا الواقعي.

و اما الواحد فقد استعمل في القرآن غالبا فيه تعالى بالحصر و التأكيد قال تعالى: أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سورة ابراهيم، الآية: 52]، و قال تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة الأنبياء، الآية: 108]، و قال تعالى: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ [سورة ص، الآية: 65]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سورة النحل، الآية: 51] و هذا هو

ص: 58

مورد دعوة الأنبياء (عليهم السلام) جميعا، لأنهم يدعون إلى المعبود الواحد حين كان لكل قبيلة بل لكل طائفة منها معبود خاص و ينكرون وحدة اللّه جلت عظمته و يتعجبون منها قال تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ [سورة ص، الآية: 5] بل لم يستعمل لفظ «واحد» في القرآن إلاّ مضافا اليه عزّ و جلّ.

و في الآية المباركة إيجاز بعد اطناب و التقييد بالوحدة لدفع توهم تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون.

قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . أي: نحن له منقادون و مستسلمون لإرادته. و هذا تثبيت للمطلب بنحو الجزم و العلم، و بيان لكون العبادة لا تكون إلاّ على طريق الإسلام.

قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ . مادة (ا م م) تأتي بمعنى القصد، و تختلف استعمالاتها باختلاف المتعلق، فتستعمل تارة في الجملة كما في المقام. و اخرى:

في الفرد الذي يكون كالجماعة في العقل و الكمال و القدرة كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 120]. و ثالثة: في الملة و الدين. و رابعة: في «حين» إلى غير ذلك من الاستعمالات التي تعرف بالقرائن.

و «خلت» بمعنى مضت كما في قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 137] و هو في الأصل الانفراد، فكأن ما مضى قد انفرد عن الحاضر،

و في الحديث: «إن اللّه خلو من خلقه و خلقه خلو منه».

و الكسب العمل الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر، و لذا لا يطلق معناه على اللّه لاستحالته بالنسبة إليه تعالى. و يستعمل بالنسبة إلى كل من أعمال الجوارح و القلوب قال تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة، الآية: 225]، و قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [سورة الروم، الآية: 41]. و قد استعملت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم.

ص: 59

و المعنى: إنّ إبراهيم و إسماعيل و يعقوب و بنيه جماعة مضت و ذهبت لها أعمالها التي تجزى بها و لكم أعمالكم التي تجزون بها فلا يسئل أحد الا عن كسبه و عمله، لأن التكليف و استكمال النفس فردي كما أن الجزاء عليه أيضا كذلك هذا بالنسبة إلى ذات العمل المتقوم بذات العامل فقط. و أما بالنسبة إلى سائر الجهات فالأنبياء يسئلون عن الإبلاغ و إتمام الحجة على أممهم، كما أن النّاس يسئلون عن الاقتداء بأنبيائهم و أئمتهم و التخلق بأخلاقهم كما يسئلون عن الحقوق الاجتماعية الدائرة بينهم،

ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «إن المؤمن يدع من حق أخيه شيئا فيسأل عنه يوم القيامة» فالآية المباركة أصلا و عكسا من القواعد العقلية المقررة في الشرايع الإلهية في التكاليف الفردية حيث أنها قائمة بالأفراد و لا تتعداهم الى غيرهم، بل تحميل فرد تكليف آخر من الظلم القبيح؛ قال تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة الأنعام، الآية: 164].

و ذكر هذه الآية بعد الآيات السابقة بمنزلة النتيجة لها و بيان أن المناط كله على العمل دون غيره. كما عقّب سبحانه و تعالى الإيمان في جملة كثيرة من الآيات الشريفة بالعمل الصالح، فلا يكفي في كمال النفس الاعتماد على صلاح الآباء و منزلتهم عند اللّه تعالى، بل لا بد أن يكون الإنسان صالحا في نفسه.

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات المباركة أمور:

الأول: إطلاق الآية الشريفة في صلاح إبراهيم (عليه السلام) يدل على انه صالح من كل جهة فهو صالح في نفسه و صالح لغيره، فيكون المصداق الحقيقي

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من أصلح ما بينه و بين اللّه تعالى أصلح اللّه ما بينه و بين الناس» الثاني: في قوله تعالى: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ إشارة إلى أن إسلام

ص: 60

إبراهيم (عليه السلام) كان بعد أن رأى من آيات ربه، و أنّ إسلامه كان عن حجة و معرفة بأنّ للعالم خالقا له الربوبية العظمى و التدبير الأتم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ان الأثر من الإسلام و سائر الصفات الحسنة إنما يترتب على الموت متصفا بهما لا على صرف وجودهما و إن كان في خاتمة العمر على غيرهما، و تدل على ذلك روايات كثيرة، منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كما تموتون تبعثون، و كما تبعثون تحشرون». كما ان في الدعوات الكثيرة المشتملة على طلب حسن العاقبة عند الموت من اللّه تعالى دلالة على ذلك.

الرابع: في قوله تعالى: إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إشارة إلى أنّ دين اللّه تعالى واحد في كل الأعصار و على لسان كل نبي، و انه عبادة الإله الواحد، و الاستسلام لأمره جلت عظمته، كما قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]. و الوصية به جارية و مستمرة في الأنبياء و الأوصياء إلى الأبد، و سنبين في الآيات المباركة المناسبة تلازم المبدأ و المعاد ثبوتا و إثباتا إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: إنّ في تكرار لفظ الإسلام في الآيات الشريفة السابقة دلالة على أنّ المراد به حقيقته دون مجرد الاسم فقط، للتأكيد المستفاد منه.

بحث روائي:

في الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي، و لا ينسبه أحد بعدي إلاّ بمثل ذلك: إنّ الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو العمل، و العمل هو الأداء. إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه و لكن أتاه من ربه فأخذه. إنّ المؤمن يرى يقينه في عمله و الكافر يرى إنكاره في عمله، فو الذي نفسي بيده فاعرفوا أمرهم فاعتبروا إنكار الكافرين و المنافقين بأعمالهم الخبيثة».

أقول: المراد بالإسلام في المقسم هو الإسلام بالمعنى الأخص أي الإيمان بقرينة ذيل الحديث، و هو الذي أشار إليه

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 61

فيما رواه الفريقان: «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه».

و المراد من التسليم من كل جهة قلبا و لسانا و عملا، كما صرح (عليه السلام) في ذيل الحديث. و المراد بالأداء هو خلوص العمل و وصوله الى اللّه تعالى، و هو إشارة إلى أن كل ذلك أمانة من اللّه تعالى لا بد و ان تؤدى و تصل اليه عزّ و جلّ، و مقتبس من قوله تعالى: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً [سورة الأحزاب، الآية: 72] و قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [سورة النساء، الآية: 58]، و أغلى تلك الأمانات و أجلها هو الإيمان فلا بد أن يرد اليه تعالى كما شرعه من دون ان يخان فيه قلبا أو لسانا أو عملا، و في المقام تفاصيل تأتي في الآيات التالية.

و فيه عن البرقي عن علي (عليه السلام) قال: «الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين».

أقول: هذا بيان لبعض مراتب الإسلام بقرينة الحديث الآتي.

و فيه أيضا عن سماعة عن الصادق (عليه السلام): «الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و التصديق برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس. و الإيمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام».

أقول: هذا هو أدنى مراتب الإسلام الظاهري الذي عليه عامة المسلمين.

و في الكافي عن القاسم الصيرفي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«الإسلام يحقن به الدم و تؤدى به الأمانة و يستحل به الفروج و الثواب على الإيمان».

أقول: قوله (عليه السلام) أولا: بيان لأدنى مرتبة الإسلام و قوله أخيرا بيان لبعض مراتبه العالية.

و في المجمع عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «قال اللّه تعالى أعددت

ص: 62

لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر».

أقول: ما أعده اللّه تعالى لعباده الصالحين له مراتب كثيرة بل غير متناهية، و ما ورد في الحديث من بعض مراتبه.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ عن الباقر (عليه السلام): «إنها جرت في القائم».

أقول: المراد من القائم النوعي منه أي القائم بالعدل فيشمل كل إمام مفترض الطاعة، فان من شأنه إيصاء ما وصى به إبراهيم (عليه السلام) بنيه إلى من بعده، لتتصل الوصية و الحجة إلى يوم القيامة، كما تقدم.

بحث علمي:

في كل شيء مراتب متفاوتة سواء كان ذلك الشيء من الأعراض أم من الاعتباريات أم من الجواهر بعد ما أثبت أكابر الفلاسفة بالأدلة العقلية و النقلية الحركة الجوهرية فتثبت المراتب في الجواهر، كما دلت عليه الشواهد العقلية.

و عليه يكون للإسلام مراتب، و المرتبة العليا منها هي المؤثرة في السير التكاملي الإنساني في ما يرد عليه من العوالم، و هذه المرتبة هي مراد اللّه تعالى و مورد دعاء الأنبياء (عليهم السلام) و دعوتهم. نعم حيث أن استعدادات النفوس مختلفة جدا فلا بد من ملاحظتها في مقام التشريع عقلا و نقلا، و لأجل مصالح كثيرة اكتفت الشرايع السماوية بأدنى مرتبته و هي الإسلام القولي الظاهري، حفظا للنظام، و جمعا لشمل الأنام، فمقام التوسعة على الأمة شيء و مقام بيان الحقيقة و الدعاء للتوفيق لها شيء آخر، و تقدم انه يمكن أن يراد بالإسلام المعنى الأعم الشامل لجميع مراتبه، فيكون للمخلصين مرتبته العليا و لغيرهم سائر المراتب، فيصير الانطباق بحسب المراتب قهريا، كما هو الشأن في جميع الحقائق التشكيكية ان ذكرت بنحو الإطلاق:

ص: 63

بحث فلسفي:

قد ذكر الفلاسفة و المتكلمون للوحدة أقساما كثيرة، و هي: إما حقة حقيقية بحال الذات و هي مختصة باللّه الواحد القهار جل جلاله أو بالغير و هو إما في الجنس، كوحدة الفرس و الإنسان مثلا في الحيوانية، أو في النوع كوحدة الأفراد و الأشخاص في النوعية، مثل زيد و عمرو، أو عرضية من الأعراض على أقسامها التسعة كوحدة الخطوط في الكمية، أو وحدة الألوان في الكيفية، أو وحدة الأخوان في الإضافة إلى غير ذلك من الأقسام. هذا في الوحدة الذاتية المفهومية.

و لهم قسم آخر من الوحدة و هي الوحدة الوجودية من حيث الذات أو وحدة حقيقة الوجود و الموجود و تمتاز هذه الوحدة عن غيرها بأنها عبارة عن السعة الوجودية، و هي تارة في نفس الوجود من حيث هو مع بقاء الإضافات، و يعبر عنه بوحدة الوجود، و أنها مبنية على اشتراك حقيقة الوجود بين الواجب و الممكن بجميع اقسامه من الجوهر و العرض مطلقا.

و أخرى: في نفس الوجود أيضا كما تقدم لكن بإسقاط جميع الإضافات و الخصوصيات و عبروا عنه ب (وحدة الوجود و الموجود) و لهم في المقام أقسام أخرى قد فصلت في الكتب الفلسفية، و لعلنا نتعرض لها مع شرحها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

بحث أدبي:

قد يذكر اللغويون للفظ معنى يكون لذلك المعنى لوازم متعددة ثم يذكرون كل واحد من تلك اللوازم في معاني اللفظ فيجعلونه من المشترك اللفظي، و هذا شايع عندهم كما قدمناه.

و في المقام أصل السفه مرض عقلي يعبر عنه بضعف العقل و خفته و من لوازمه الهلاك و الفساد و تحقير النفس و زوال النظم، و قد جعلوا كل ذلك من معاني السفه. و هذا لا وجه له بل ينبغي أن يكون من لوازم أصل المعنى؛ كما يقتضيه التحليل العقلي، و لو بني على عدّ لازم المعنى معنى، مستقلا، لانعدم متحد اللفظ و المعنى من اللغات مطلقا. و لعل هذا من أحد

ص: 64

منا شيء تكثير المعاني للألفاظ في اللغة.

ثم إنّهم اختلفوا في إعراب «نفسه» الوارد في الآية المباركة، فقيل: إنه منصوب على أنه مفعول «سفه». و قيل: انه منصوب على التمييز، و أشكل عليه بأن التمييز لا بد أن يكون نكرة. و في الآية معرفة - لا ان يكون نكرة - لإضافته إلى الضمير.

و يدفع الإشكال: بأنّ لفظ «نفسه» في المقام بمنزلة ذات نفسه أو نفسه ذاته، و هذا لا يخرجه عن التنكير إلى التعريف، كما لا يخفى.

و قد فرّق الأدباء بين الواحد و الأحد بوجوه:

منها أنّ الواحد أعم موردا من الأحد، لأن الواحد يطلق على من يعقل و غيره، بخلاف الأحد، فانه يختص بمن يعقل.

و منها: أنّ الواحد يدخل في العدد إيجادا و إفناء، بخلاف الأحد.

و منها: أنّ الواحد هو المتفرد بالذات، و الأحد هو المتفرد من سائر الجهات،

و عن علي (عليه السلام) في وصفه تعالى: (واحد لا بعدد) أي: لا يعقل أن يكون عددا يعد اثنين و ثلاثة و هكذا كما في كل واحد عددي.

و أما قول علي بن الحسين (عليه السلام): «لك يا إلهي وحدانية العدد» فمعناه المبدئية لكل شيء.

يعني: كما أن الواحد مبدأ إيجاد الأعداد و مفنيها يكون اللّه تعالى مبدأ إيجاد الممكنات و مفنيها، و لعلنا نتعرض لذلك في الآيات المباركة المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أ.......

اشارة

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّهُ

ص: 65

وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اَللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اَللّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللّهِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في ما سلف من الآيات المباركة حقيقة ملة إبراهيم (عليه السلام) و أنّها التوحيد الخالص و الاستسلام للّه تعالى، و بيّن أنها دين اللّه تعالى الواحد على لسان الأنبياء و إن اختص كل واحد منهم ببعض الأحكام بحسب المصالح.

بيّن سبحانه في هذه الآيات أنّ أهل الكتاب قصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين عن غيره و جهلوا الحقيقة المشتركة بين الأديان، فادعى كل واحد أن دينه الحق و غيره على الباطل، و أن أنبياء اللّه تعالى على دينهم، فأبطل سبحانه و تعالى مزاعمهم و حكم بأن الإيمان باللّه جلّ شأنه، و ما أنزله تعالى و الاستسلام لأمره هي الحقيقة المطلوبة لدى الأنبياء من دون فرق بين أحد منهم، و أنّ ذلك هو دين الفطرة التي أودعها في الإنسان و لا دخل لأحد فيها، فمن كان محاجا في ذلك فهو في شقاق.

ثم أقام الحجة على ذلك بأنه تعالى هو الرب و المدبر للجميع، و أنه لا علم لهم بأن الأنبياء السابقين على دينهم كيف و قد بشروا بنبوة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و هم قد كتموه.

و ختم الكلام بأن كل واحد له جزاء عمله فلا يسئل عما يفعله غيره. فعلى كل فرد أن يجتني ثمار أعماله.

التفسير

قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا . الضمير في قالوا يرجع إلى أهل الكتاب، و (أو) للتنويع، و الجملة لبيان عقيدتهم.

ص: 66

أي: قالت اليهود إنّ دينهم على الحق و أنّ الهداية محصورة في اليهودية، و كذلك ادعت النصارى، بل إنّ ذلك معتقد كل ذي دين أنّ دينهم خير الأديان، و أنّ كتابهم أبدي لا يقبل التغيير و التبديل، و طرق الهداية منحصرة في دينه، و مقتضى ذلك أن يدعو كل واحد من الفريقين النّاس إلى دينه، و هذا النوع من المنهج من الفطريات لكل من يعتقد بشيء و يرى صحته، و هو من الجهل المركب وداء ابتلي به جميع الأمم حتّى بعض فرق المسلمين الذي يعتقد صحة مذهبه أو عقيدته و بطلان غيرهما، و قد أبطل سبحانه مدعاهم بدليل إلزامي لهم، فقال مخاطبا لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله) إتماما للحجة و البيان، و تلقينا للبرهان، و تثبيتا لشريعته و نبوته، بل إظهارا للوحدة بين أصل الوحي و قول الموحى اليه في الحجية، و توطئة لأمر المسلمين بهذا المقال.

قوله تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً . مادة (حنف) تأتي بمعنى الميل أي: الميل من الضلالة إلى الهداية و من الباطل إلى الحق فصارت تطلق على الموحد التابع لدين الحق، و هي بخلاف (جنف) فانه الميل من الحق إلى الباطل.

و قد استعملت هذه المادة بالنسبة إلى ملة إبراهيم في القرآن الكريم كثيرا، قال تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة آل عمران، الآية: 95] و قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة الأنعام، الآية: 161] و قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [سورة النحل، الآية: 120]. و تطلق على أصل الملة و الدين أيضا، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [سورة الروم، الآية: 30]. و في الحديث: «أحب الأديان إلى اللّه تعالى الحنيفية السمحة».

و الوجه في إطلاق الحنيفية على إبراهيم و ملته دون غيره من الأنبياء السابقين أنّ إبراهيم كان في قوم مشركين، عبدة الأوثان و قد جاهد (عليه السلام) في دعوتهم الى التوحيد و نبذ الأوثان و عبادتها و ابتلى من قومه بما ابتلى حتّى اختاره اللّه تعالى لأقصى درجات الخلة و الإمامة و منحه الملة التي

ص: 67

كانت بمنزلة المادة لجميع الأديان الإلهية الكبرى - اليهودية و النصرانية و الإسلام - مع أنه (عليه السلام) يعتبر مؤسس حركة التوحيد في العالم، و به ابتدأت الشرايع الإلهية. و أما شرايع من قبله من الأنبياء فلم تكن لها تلك الأهمية التي جعلها اللّه لملة إبراهيم، و لذلك كانت ملته الملة الحنيفية الجامعة للمعارف الإلهية و الكاملة في التوحيد و نفي الشرك. و الارتقاء في معارج الكمال، و قد أنزلها تبارك و تعالى حسب المصالح و مقتضيات الظروف حتّى انتهى الأمر إلى الإسلام الدين الجامع لجميع الكمالات و المشتمل على أقصى المعارف الإلهية.

و من ذلك يعرف أن اختلاف المفسرين في معنى الحنيف و بيان المأخذ لا وجه له، بل هو اختلاف مصداقي. و الجامع هو الصحة و التمامية و السهولة و عدم الضيق و الحرج.

و إنما ذكر سبحانه إبراهيم (عليه السلام) و أمرهم باتباع ملته لأنه لا ينازع أحد من أهل الكتاب في أنه كان مهتديا، بل يعتبر إمام المهتدين، فإذا كان ادعاء كل واحد منهم صحيحا لكان إبراهيم (عليه السلام) غير مهتد، و هم لا يقبلونه.

و من ذلك يستفاد أن الهداية منحصرة في اتباع ملة إبراهيم (عليه السلام)، و أن موسى و عيسى (عليهما السلام) أيضا كانا متبعين لملته لأنها الدين الحنيف القائم على الصراط المستقيم، و المبني على التوحيد و الإخلاص و نفي الشرك، و الحق أحق أن يتبع.

قوله تعالى: وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ . أي لم يكن إبراهيم من المشركين باللّه تعالى. و فيه إشارة إلى اختلاط اليهودية و النصرانية المخترعتين لنوع من الشرك و التناقض على ما يأتي تفصيله.

قوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ . الأسباط جمع سبط و هو بمعنى الانبساط في سهولة، و سمي ولد الولد سبطا لانبساطه و تفرعه من الجد. و منه

ص: 68

سمى الحسن و الحسين (عليهما السلام) سبطي الرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و الأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل. و كانوا اثنى عشر سبطا كل سبط ينتهي إلى ولد من ولد يعقوب، كل واحد منهم أمة و جماعة من النّاس، قال تعالى: وَ قَطَّعْناهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [سورة الأعراف، الآية: 160] و لذلك لم يستعمل في القرآن إلاّ جمعا. و سموا بذلك أيضا في التوراة و غيرها.

و النزول مساوق للإيتاء في الجملة، لأنه يشمل الجواهر و الأعراض و التشريعات قال تعالى: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ [سورة الحديد، الآية: 25] و قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى [سورة الأعراف، الآية: 26]. و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجرات، الآية: 21]. و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ [سورة المائدة، الآية: 44] إلى غير ذلك من موارد استعمالات هذه المادة في القرآن الكريم التي هي كثيرة جدا بهيئات مختلفة. فأصل المادتين - الإيتاء و الإنزال - متحدتان في جامع قريب هو الإيصال و الوصول، إلاّ أنه لوحظ في النزول الانحطاط من العلو في الجملة بخلاف الإيتاء، لكنه إذا أضيف الممكن إلى الواجب بالذات و المخلوق إلى الخالق الغني بالذات ينطبق عليه الانحطاط من العلو - لوحظ ذلك أو لم يلحظ -، فكل إيتاء منه عزّ و جلّ إنزال دون العكس.

و لعل الوجه في التعبير بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) و من تبعه بالإنزال للإعلان بأنه مؤسس الحركة الدينية و الملة الحنفية فلا بد من إفاضة ذلك من عالم الغيب.

ثم إنه قد يستدل على أنّ الأسباط كانوا أنبياء بالآية المباركة، و بقوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى [سورة النساء، الآية: 163].

ص: 69

و فيه: أن الآية المباركة أعم من حدوث الوحي و إبقائه و مناط النبوة هو الأول دون الثاني، فيكون من حفظ الوحي غير من أنزل الوحي عليه ابتداء، كما ستعرف قريبا.

و في بعض الأحاديث: «إن اللّه تعالى جعل النبوة في ولد بنيامين و نزعها من ولد يوسف» و عن أبي جعفر (عليه السلام) نفي كون الأسباط أنبياء؛ و لكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلاّ سعداء.

و من ذلك يظهر الوجه في

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» أي في جهة حفظ الدين و الوحي المبين فان العلماء أمناء اللّه تعالى في أرضه ما لم يميلوا إلى الدنيا.

و هذه الآية المباركة دعوة عقلية إلى نبذ الاختلاف و العصبية و الأهواء، و هي تدعو الناس إلى الوحدة و الاتحاد بين جميع أفراد البشر في المبدأ و التشريع و المعاد، و الترغيب إلى الإيمان بأصل الدين الذي لا خلاف فيه بين جميع أنبياء اللّه تعالى. فكما أن البشر متحدون في أصل التكوين الإلهي كذلك لا بد و ان يكون بينهم اتحاد في نظام التشريع الربوبي. و الاختلاف إنما ينشأ من المصالح الزمنية، و ما يقتضيه السير التكاملي في الإنسان، كما أنه يختلف حفّاظ الوحي باختلاف العصور و القرون.

و المراد بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا القرآن و جميع المعارف و التشريعات الإلهية التي أتى بها نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و باعتبار النزول عليه و على سائر الأنبياء صدق النزول علينا أيضا.

كما أن المراد بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ الصحف التي أنزلت عليه و ملته الحنفية المقدسة التي أمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) باتباعها.

و إنّ المراد بما أنزل على إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط ذلك أيضا، لأنهم الحفظة للملة الحنيفية علما و عملا و بيانا، و إلاّ لم يعهد نزول كتاب عليهم كما أن علماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) كذلك، كما

ص: 70

عرفت.

قوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ . مادة (ا ت ي) تأتي بمعنى المجيء، بسهولة، و تستعمل في الأعيان و الأعراض، و الخير و الشر. و الكل مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]، و قال تعالى: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [سورة التوبة، الآية: 70]، و قال تعالى:

وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 47] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و ما اوتي موسى و عيسى عبارة عن التوراة و الإنجيل و ما حباهما اللّه تعالى من كرامة الوحي و سائر المعجزات الباهرات. و إنما خصهما بالذكر لكثرة الاهتمام بهما، و لأن المقام مقام المحاجة مع اليهود و النصارى و الإحتجاج عليهما. و إلاّ فهما كسائر أنبياء اللّه تعالى يدعوان إلى التوحيد و الإسلام، و لذا أكد سبحانه و تعالى بعد ذلك ب:

قوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ . فلم يكن ذلك خاصا بموسى و عيسى، فيكون تعميما بعد التخصيص، و إيضاحا للسبيل، و إتماما للحجة. و الإشارة إلى أن أنبياء اللّه تعالى متحدون في الدعوة إلى الحق، و هو أيضا أعم من المعارف التشريعية و المعجزات التي خص اللّه تعالى بها كل نبي.

قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . أي: قولوا لا نفرق بين أحد من الرسل و الأنبياء و نحن للّه تعالى مسلمون.

قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا . (الباء) في (بمثل) بمعنى التشبيه فقط، و لفظة «مثل» تفيد معنى الآلية التي ينظر بها جيء به إتماما للحجة، و قطعا للخصومة، و هذا شايع و متعارف عند الناس فليست الكلمة زائدة بل بمعنى التوسعة في المثلية في جميع القرون اللاحقة.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ . التولي هو الإعراض

ص: 71

و مادة (ش ق ق) تأتي بمعنى الثقب و الخرم، و يلزمهما الفصل و التجزئة. و هي تستعمل في القرآن كثيرا، قال تعالى: ثُمَّ شَقَقْنَا اَلْأَرْضَ شَقًّا [سورة عبس، الآية: 26]، و قال تعالى: وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [سورة الحج، الآية: 35]، و قال تعالى: بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ [سورة ص، الآية: 2].

و للشقاق مراتب كثيرة بالنسبة إلى الأصول و الفروع و الأخلاق، و الشقاق بالنسبة إلى اللّه و رسله بمعنى الكفر و الضلالة؛ فالكافر في شق و المؤمن في شق، و المصلي في شق و تارك الصلاة في شق آخر، و العادل في شق و الفاسق في شق آخر و هكذا. فكل شيء و غيره يمكن أن يكونا من شقين و لو كانا من صنف واحد في الجملة.

و في أحاديث آخر الزمان: «لا بد من فتنة يسقط فيها الحاذق الذي يشق الشعرة شعرتين». أي بحذاقته و فكره.

قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّهُ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ . كفى يأتي بمعنى سدّ الخلة و بلوغ المراد في الأمر، قال تعالى: وَ كَفَى اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ [سورة الأحزاب، الآية: 25]، و قال تعالى: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ [سورة الحجر، الآية: 95] و غير ذلك من الاستعمالات القرآنية التي يأتي التعرض لها. فهو السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم و ما في ضمائرهم و ما يقدّره على عباده و ما ينفذه فيهم، فهو الكافي من كل شيء و لا يكفي منه شيء.

و الآية الشريفة من البرهان العقلي الذي قرره القرآن الكريم، بأن يقال: الإيمان بالأنبياء و الرسل سبب للهداية فكل من كان على إيمانهم فهو مهتد، فاليهود و النصارى إن كانوا على إيمانهم فهم مهتدون، ثم نقول إنهم ليسوا على إيمان الأنبياء و الرسل و كل من كان كذلك فهو في شقاق مع اللّه و رسله، فاليهود و النصارى في شقاق مع اللّه و رسله و كذا كل من يكون مثلهما في المخالفة الاعتقادية أو العملية مع اللّه و رسله، هذا بالنسبة إلى أصل ثبوت الموضوع. و أما الأثر المترتب عليه فهو أنّ اللّه تعالى يكفي أنبياءه و رسله و المؤمنين بهم من كيد أهل الشقاق و نفاقهم، كما يقتضيه نظام التكوين و التشريع.

ص: 72

و في الآية المباركة تسلية للمؤمنين بالنصر و وعد لهم بالكفاية و لن يخلف اللّه وعده، و قد ظهر صدقه مرارا. و سيظهر كذلك في ما بعد إلى آخر الزمان. كما أن هذه الآية المباركة من أدلة نبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و رسالته.

قوله تعالى: صِبْغَةَ اَللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ صِبْغَةً . الصبغة اسم للكيفية الحاصلة من صبغ الشيء. فكما أنّ للأجسام ألوانا تظهر للبصر، كذلك للنفوس و الأرواح، ما هو بمنزلة اللون يظهر لأهل البصائر و البصيرة من بياض و سواد، و صفاء و كدر، و نور و ظلمة، و طهارة و خباثة.

و تضاف إلى اللّه تعالى تارة: إذا حصل من الإيمان باللّه و ما أنزله على رسله و الاستسلام لأمره. و إظهار العبودية له عزّ و جلّ و هذا بياض معنوي، بل لمعان أنوار في النفس بحيث يكون نورا في ذاته و منورا لغيره، و لها مراتب كثيرة و درجات متفاوتة. و أخرى: تضاف إلى غيره تعالى، و هي الظلمة و الكدورة التي تحجب عن مبدأ النور.

فيكون المراد بالصبغة هو العقل الذي يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان الذي تجتمع فيه الشرايع الإلهية على ما يأتي من التفصيل المعبر عنها بالفطرة السليمة، و ما سوى ذلك ليس من صبغة اللّه تعالى؛ فصبغة اللّه تعالى هي الطهارة عن كل دنس روحي و معنوي، و لا يمكن أن تجتمع مع الشرك و الكفر و النفاق و الرذائل النفسانية فلا تتأثر بالتقاليد و الأهواء و العصبية، و إنما هي من صنع اللّه تعالى التي تبقى و تدوم، و هي المؤثرة في الإنسان في جميع العوالم التي ترد عليه. و هي التي تميز من كان على الصبغة الإلهية التي يظهر أثرها الكريم من التوحيد و الأخلاق الفاضلة و الأعمال الشريفة من غيرها الذي يكون على الصبغة البشرية التي هي في اضطراب و تعدد و تفرق.

فما يفعله النصارى من تعميد أولادهم لا ينفع لدنياهم - مع ما هم عليه من الكفر - إلاّ إذا كان ما قرره الإنجيل مصدقا بالقرآن فحينئذ ينفعهم التعميد لأنه من دين اللّه.

و بالجملة: صبغة اللّه ترجع إلى ارتباط العبد مع اللّه تعالى بنحو ما يشاء

ص: 73

اللّه تعالى و يريده لا بما يشاؤه العبد و يريده، كما يدل عليه صدر الآية المباركة و ذيلها، فان قوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ . و قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ بيان للصبغة و العلة لتحققها، و الإيمان و العبودية إنما يتحققان بما يشاء اللّه المعبود بالحق لا بما يشاؤه العابد.

و من ذلك يظهر أن تفسير الصبغة بالإسلام، أو ملة إبراهيم، أو دين اللّه كل ذلك صحيح و ينبئ عن شيء واحد. و هو: التوجه إلى اللّه تعالى و الانقطاع عن غيره؛ كما سيأتي في البحث الروائي.

ثم إن هذه الصبغة تنسب إلى اللّه تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل، كما تنسب إلى العبد نسبة الشيء إلى قابله، و كل منهما على نحو الاقتضاء لا العلية التامة.

و من ذلك يظهر أحسنية هذه الصبغة من حيث الذات و المورد و الفاعل، فأصل اللون هو التوحيد و الإيمان و مكارم الأخلاق، و مورده المؤمن، و فاعله هو اللّه عزّ و جلّ، و غايته السعادة و الخلود في الجنان. و من آثارها العبودية التي كنهها الربوبية، فلا يتصور في العالم شيء أفضل و أحسن من هذه الصبغة، و فيها قال تعالى: فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30].

قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ . أي: لا نشرك في العبادة و الألوهية غيره تعالى. و هو في موضع الحال، و بيان العلة لأحسنية الصبغة. كما أن نصب «صبغة اللّه» بالفعل المقدر، أي: اتبعوا، أو بدل من ملة إبراهيم، و إن كان الأخير هو الأوفق، كما عرفت.

ثم إن كمالات النفس الإنسانية على أقسام ثلاثة:

الأول: ما تكون للدنيا و من الدنيا و فيها أيضا و لا تتجاوز عنها و هذا هو الكثير الذي ابتلي عامة النّاس به و لا ربط له بصبغة اللّه تعالى أبدا. نعم هو مورد قضاء اللّه و قدره.

ص: 74

الثاني: ما تكون للدنيا و الآخرة معا بحيث يجعل الدنيا وسيلة و ذريعة للوصول إلى الكمال الأخروي.

الثالث: ما تكون للآخرة فقط بحيث لا نظر إلى الدنيا إلاّ على نحو الآلية و المرآتية،

كما قال علي (عليه السلام): «صحبوا الدنيا أبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى». و القسمان الأخيران من صبغة اللّه؛ و لكل منهما درجات متفاوتة و مراتب كثيرة.

قوله تعالى: قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اَللّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ . المحاجة:

المجادلة، و مادة (ح ج ج): تأتي بمعنى القصد و الطلب و منه «حج البيت»، و حيث أن كل واحد من المتخاصمين و المتنازعين يطلب الغلبة على الآخر و يقصد جذبه أطلقت عليه المحاجة.

و تستعمل في كل من الحق و الباطل؛ قال تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [سورة الأنعام، الآية: 83]. و قال تعالى: وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اَللّهِ [سورة الأنعام، الآية: 80]. و العلوم الاستدلالية مشحونة من الإحتجاجات المتضادة المتناقضة مع العلم بكذب أحد الطرفين، و العلماء وضعوا علما مستقلا مفصلا لبيان الحجة الصحيحة مادة و صورة و التمييز بينها و بين أنحاء المغالطة.

و المعنى: أ تجادلوننا في اللّه و تدعون أنكم أحباء اللّه و أبناؤه و الموحدون له و ان دينكم الحق، و أن النبوة فيكم مع أنّ رحمته وسعت كل شيء و كل عبيده و لا تختص رحمته بقوم دون آخرين، و جميع تلك المقترحات باطلة، و أن اللّه يختار ما يشاء و ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة القصص، الآية: 68]، و كيف يخصكم برحمته دون غيركم؟ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ، و الجميع عباده، و رحمته واسعة؛ و هو الرب و الكل مربوبون له.

قوله تعالى: وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ . مادة خلص؛ تأتي بمعنى ذات الشيء و خاصته و زوال كل ما يشوبه و ينافيه، و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى:

ص: 75

إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّارِ [سورة ص، الآية: 46]، و قال تعالى فَاعْبُدِ اَللّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ [سورة الزمر، الآية: 2]، و قال تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر، الآية: 40]، و قال جل شأنه: أَلا لِلّهِ اَلدِّينُ اَلْخالِصُ [سورة الزمر، الآية: 3] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و كل ما قيل في حقيقة الإخلاص يكون دون حده و رتبته،

و قد قال علي (عليه السلام): «بالإخلاص يكون الخلاص، و طوبى لمن أخلص للّه العبادة و الدعاء». و هو من الأمور الإضافية فيضاف إلى أصل التوحيد تارة بدرجاته، و في مقابله الشرك بمراتبه. و إلى العبادة أخرى، و في مقابلها الرياء بمراتبه. و إلى سائر الأعمال ثالثة، و في مقابلها كثير من مفاسد الأخلاق، و الجامع بين الجميع الإخلاص في الدين.

و العلماء و العرفاء ذكروا للخلوص و الإخلاص معاني متعددة، فعن الفقهاء ان معناه إتيان العمل للّه تعالى، بأن يكون الداعي على إتيانه هو اللّه تعالى؛ و قد فصلنا القول فيه في الفقه. و عن بعض العرفاء: إن الإخلاص؛ سر من أسرار اللّه تعالى يستودعه قلب من يحب من عباده. و عن آخر: إنه لا يحب أن يحمد على شيء من عمله. و قد ينسب هذان القولان إلى الحديث أيضا.

و الحق إنه من الحقائق التي لها مراتب كثيرة جدا، فأولى مرتبته أن يكون الداعي على إتيان العمل هو اللّه تعالى، و أقصى مراتبه ما تنتهي إلى حبه تعالى و في هذه المرتبة أيضا درجات غير محدودة حتّى ينتهي إلى ما أثبتوه من الفناء في اللّه الذي هو عين البقاء باللّه تعالى. و بالجملة أصل الحقيقة وجدانية عملية، لا ان تكون قولية بيانية؛ فكم من حقائق تقصر الألفاظ عن بيانها و إن كثرت و العبارات عن شرحها و إن تعددت.

و المعنى إنّ التفاضل يأتي من ناحية الأعمال فكل امرئ رهين عمله إن خيرا فخير و إن شرا فشر، و المدار على الإخلاص، و فيها تعريض لهم بعدم الإخلاص لهم.

ص: 76

و الآية من الآيات التي تبين كيفية رد من يخاصم الإسلام سواء أ كان من أهل الكتاب أم من غيرهم، و نظير الآية المباركة بوجه أبسط من المقام قوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ [سورة الشورى، الآية: 15] و هذه الآية شارحة لجميع الآيات الواردة في هذا السياق.

و المستفاد منها أن منشأ النزاع و التخاصم مع دين الإسلام إما أن يرجع إلى المبدأ، أو إلى المعاد أو إلى أحقية دين الإسلام، أو إلى جهات أخرى دنيوية. و جميع ذلك غير مقبول بالنسبة إلى الإسلام.

أما الأول: فإذا كان المعادي من لا يعترف بالمبدأ فلا بد له من الرجوع إلى الأدلة العقلية و البراهين الساطعة التي يثبت بها المبدأ؛ و قد أشار إليه سبحانه و تعالى بقوله: اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ .

و أما الثاني: فلأنّ إثبات الجزاء للأعمال يستلزم الاعتراف بالمعاد، لأن العمل لا يعقل بدونه بعد الإعتقاد بالمبدإ فهما متلازمان ثبوتا و إثباتا، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و هو من قبيل ذكر اللازم و إرادة الملزوم.

و أما الثالث: و هو أحقية الإسلام - و يندفع بالآيات البينات و المعجزات الباهرات، و إليه يشير قوله تعالى: وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ .

و أما الرابع: و هو الأغراض الدنيوية كالتي يدعيها اليهود و النصارى فإخلاص دين الإسلام للّه عزّ و جل ينفي ذلك كله، إذ لا معنى للدين الخالص الا ما كان له تعالى، فكل ما سواه باطل خصوصا ما يتعلق بمعبوديته و عبادته.

قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى . بيّن تعالى حجة أخرى لإبطال دعواهم بأحسن بيان و أتم حجة أي: أ تقولون إن إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده كانوا هودا أو نصارى، و أن اليهودية أو النصرانية هما المرضيتان عند اللّه و لا

ص: 77

ينجو أحد إلاّ بهما و أن ما عداهما كفر و ضلال؟!!: كيف و قد كان إبراهيم (عليه السلام) و أبناءه و أحفاده على الملة الحنفية المرضية - التي بدأت بخليل الرحمن و ختمت بسيد المرسلين - الداعية إلى أصول المعارف الإلهية في المبدأ و المعاد. و الأحكام الشرعية، و البداهة و البرهان تدلان على كذبهم، و أن اليهودية و النصرانية إنما حدثنا بعد إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده بقرون، و هذا ادعاء باطل، قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة آل عمران، الآية: 65]. إلاّ إذا ادعوا أنهم كانوا شهداء حين حضر هؤلاء الأنبياء الموت فأوصوا لأعقابهم بالتهود و التنصر، و هذا كسابقه باطل، و لذا رد عليهم سبحانه.

و في قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ توبيخ و تعيير لهم بابطال جميع محتملات كلامهم ثم إظهار ما هو الحق.

و «أم» متصلة و معادلة لما قبلها أي: إن كانت المحاجة في اللّه تبارك و تعالى فأنتم و المسلمون تعترفون بأنه تعالى رب الكل. و إن كانت في أن إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده كانوا هودا أو نصارى، فهو خلاف الوجدان و البرهان، لأن التوراة و الإنجيل نزلا بعد إبراهيم بقرون. و أن اللّه هو الجاعل للنبوة لإبراهيم و أولاده و أنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم.

قوله تعالى: قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ . أي: أنتم أعلم بالواقع مع ادعائكم الباطل أم اللّه الذي أخبر بأن إبراهيم كان حنيفا و أنه ارتضى لكم ملته؟! أو أن أولاده رضوا بعبادة اللّه إلها واحدا. كما عرفت، و أنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم. و لا ريب في أنهم يعترفون بالثاني فيكون ادعاؤهم باطلا.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللّهِ . كتم بمعنى ستر، و كتم الشهادة أي سترها. و هو و شهادة الزور من المعاصي

ص: 78

الكبيرة. و المراد من الشهادة في المقام شهادة التحمل، كما هو الظاهر، فيكون التوبيخ و التعيير حقيقيا لأجل كتمان الواقع و إيقاع النفس في الكبيرة الموبقة و الهلاك الأبدي، و مثل هذا كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ [سورة الأنعام، الآية: 21]، و قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللّهِ [سورة الزمر، الآية: 32] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و المراد بالمشهود عليه إما رسالة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و قد أخبر اللّه تعالى اليهود بأنه يقيم لهم نبيا من إخوتهم و يجعل كلامه في فيه، كما أخبر المسيح برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، و قد كتموا هذه الشهادة تعصبا و إنكارا للحق. أو الشهادة بأن إبراهيم (عليه السلام) كان على دين الحق و الإسلام و الملة الحنيفية و لم يكن يهوديا و لا نصرانيا، و قد كتموا الشهادتين ظلما.

و من المحتمل أن يكون المراد شهادة الأداء أي من أظلم من اللّه لو كان قد كتم الشهادة على أن إبراهيم (عليه السلام) كان يهوديا أو نصرانيا، و قد بيّن خلافها، فيكون الشرط تقديريا، و يصح مثل هذا التعبير في المحاورات حتّى مع امتناع المتعلق، كما في جملة كثيرة من القضايا الشرطية و ما في سياقها.

و يكون المراد من مثل هذا التعبير هو إيهام الطرف بأن كتمان الشهادة من الظلم القبيح، و فيه من المفسدة العظيمة و لا سيما إذا كانت الشهادة في المعارف الإلهية و الأمور الدينية فيكون أظلم، و لذا أوعد عليه تبارك و تعالى.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . تقدم معنى الغفلة في آية (75) من هذه السورة. و قد ذكرت هذه الكلمة في القرآن العظيم كثيرا، قال تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [سورة النمل، الآية: 93]، و قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [سورة آل عمران، الآية: 99] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. و بعد فرض إحاطته تعالى بما سواه إحاطة ربوبية قيومية تستحيل الغفلة بالنسبة إليه جل شأنه، لأنه من الجمع بين

ص: 79

النقيضين، فالغفلة منه ممتنعة و تقع من عباده بالنسبة إليه تعالى، و لها مراتب كثيرة جدا. هذا و لكن ليس من القبيح عقلا و لا شرعا غفلته تعالى عن سيئات عباده، و هي في الحقيقة ترجع إلى تغافله تبارك و تعالى عنها.

قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ . تقدم معناها و إنما كررت تأكيدا لسوء أخلاقهم، و بيانا لعدم اقتداء الخلف بالسلف الصالح، فكانت إحدى الآيتين بالنسبة إلى أصل الحدوث لطائفة، و هم الأنبياء و الرسل، و الأخرى كانت ناظرة إلى البقاء بالنسبة إلى طائفة أخرى، أي: أنهم يسألون عن أعمالهم مع هذا الدين الجديد و معاملتهم مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و الآية المباركة تشير إلى إنكار رذيلة الاستكبار عن قبول الحق و الإصرار على الباطل، و الافتخار بالدعاوى التي لا واقع لها، و التعلل زورا بمن مضى. و في تكرارها تأكيد أيضا إلى ارتباط السعادة بالعمل الصالح الذي أكد القرآن الكريم عليه، فكل يجزى بعمله، و لكن ذلك لا ينافي ثبوت أصل الشفاعة كما لا دل عليها، فان انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا و الآخرة مما لا ريب فيه عقلا و شرعا فالمقام كالآيات الشريفة الدالة على عدم تملك نفس عن نفس شيئا؛ قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ [سورة الإنفطار، الآية: 19] التي لا تنفي الشفاعة، و سيأتي الكلام في الشفاعة مفصلا إن شاء اللّه تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي:

مما تتضمنه الآيات السابقة كيفية المحاورة و المجادلة مع الخصم و محاجته، فقد أقام سبحانه و تعالى أربع حجج على بطلان ما ادعاه أهل الكتاب بأسلوب يقبله الطبع السليم متدرجا من ما هو المتسالم عند الخصم، ثم إلزامه بنتيجة مدعاه، ثم تلقينه بما أراده سبحانه. و للقرآن الكريم منهج رفيع في احتجاجاته و مراعاة الأدب الكامل في هذه الجهة؛ و ملاحظة مدركات الخصم كمية و كيفية، ثم الترقي من الداني بأسلوب رصين، قال

ص: 80

تعالى: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل، الآية: 125]. و قد شرحت السنة المقدسة تلك الجهات قولا و عملا و وضع أهل الفلسفة العملية في ذلك كتبا و رسائل نافعة من المسلمين و غيرهم.

و من تأكيد القرآن الكريم على مراعاة تلك الجهات يستفاد أنه لا بد للعلماء و أهل النظر من رعاية ما ورد في الكتاب و السنّة، و ما وضع في الفلسفة العملية في منهج التعليم و التربية ليكون ذلك داعيا إلى إقبال النّاس على العلم، و أثبت في تكميل النفوس؛ و أشد ربطا لقلوب المتعلمين بالمعلمين و المربين.

بحث روائي:

في تفسير العياشي في قوله تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً قال الصادق (عليه السلام): «إن الحنيفية هي الإسلام».

أقول: لأنه تبارك و تعالى أمر نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) باتباع ملة إبراهيم، فأصل الحنيفية جامع بين ملة إبراهيم (عليه السلام) و دين محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و لو فرض اختلاف فهو جزئي بحسب اختلاف الظروف.

و فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «ما أبقت الحنيفية شيئا حتّى أن منها قص الشارب و قلم الأظفار و الختان».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في أن جميع المعارف الإلهية و الأحكام التشريعية العملية داخلة في الحنيفية حتّى الجزئيات التي ندب إليها الشرع بالنسبة إلى التزيين و التطهير، كما في الحديث الآتي، فيكون قد ذكر الأدنى ليعرف أنّ شمول الحنيفية للأعلى بالفحوى.

و في تفسير القمي قال: «أنزل اللّه تعالى على إبراهيم (عليه السلام) الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة أشياء، خمسة في الرأس، و خمسة في البدن. فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، و إعفاء اللحى، و طمّ الشعر، و السواك، و الخلال. و أما التي في البدن: فحلق الشعر من البدن، و الختان،

ص: 81

و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء، و هي الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم ينسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة».

أقول: قد ورد ذلك في عدة روايات عن العامة و الخاصة، و لكل ذلك آداب و شروط مذكورة في كتب أحاديث الفريقين و فقههم و طمّ الشعر جزّه، أو قصه في مقابل الحلق،

و منه الحديث: «ثلاثة من اعتادهنّ لم يدعهنّ: طمّ الشعر، و تشمير الثوب، و نكاح الإماء». و تقدم ما يتعلق به في الرواية السابقة.

و في أسباب النزول في قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا . قال ابن عباس: «نزلت في رؤوس يهود المدينة كعب بن الأشرف، و مالك بن الصيف، و أبي ياسر بن أخطب. و في نصارى أهل نجران، و ذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين اللّه تعالى من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى (عليه السلام) أفضل الأنبياء، و كتابنا التوراة أفضل الكتب، و ديننا أفضل الأديان؛ و كفرت بعيسى (عليه السلام) و الإنجيل، و محمد و القرآن. و قالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب، و ديننا أفضل الأديان. و كفرت بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و القرآن، و قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين:

كونوا على ديننا، فلا دين إلاّ ذلك و دعوهم إلى دينهم».

أقول: هذه شيمة كل من كان على الجهل المركب، و اعتقد بحسر شيء مع عدم التوجه إلى غيره.

و في تفسير العياشي عن حنان بن سدير عن الباقر (عليه السلام) في الأسباط قال (عليه السلام): «إنهم كانوا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلاّ سعداء تابوا و تذكروا ما صنعوا».

أقول: و مثله ورد في عدة روايات، و الحديث نص في كونهم أولاد الأنبياء لا منهم، كما يدل على أن ما صدر منهم ليس منقصة لهم بعد تحقق التوبة منهم.

ص: 82

و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه سبحانه: صِبْغَةَ اَللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ صِبْغَةً . قال (عليه السلام): «الصبغة هي الإسلام».

أقول: ورد ذلك في عدة روايات، و تقدم ما يدل على ذلك.

و في الكافي و تفسير العياشي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: صِبْغَةَ اَللّهِ . قال (عليه السلام): «صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق».

أقول: هذا من باب التطبيق بالنسبة إلى بعض مراتب الصبغة، فان لها مراتب كثيرة، كمراتب الإيمان و الإسلام، و ذلك لا ينافي عموم الآية المباركة بالنسبة إلى جميع أهل التوحيد.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا قال (عليه السلام): «إنما عنى بذلك عليا و فاطمة و الحسن و الحسين و جرت بعدهم في الأئمة (عليهم السلام)».

أقول: رواه العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في مجمع البيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). و هذا من باب التطبيق على بعض خواص أهل الإيمان فلا ينافي تعميمه بالنسبة إلى الجميع.

و في الفقيه في وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: «و فرض على اللسان الإقرار و التعبير عن القلب بما عقده عليه، فقال عزّ و جل: قولوا آمنا باللّه و ما أنزل إلينا».

أقول: الحديث في مقام بيان لزوم الموافقة بين مقام الإثبات و مرحلة الثبوت، فإن الأول يعرف باللسان و البيان، و الثاني بالاعتقاد و عقد القلب.

بحث فلسفي:

قد شاع بين الفلاسفة و المتكلمين أن الذاتي غير قابل للتغيير و التبديل و يعتبرون ذلك من القواعد المسلّمة بينهم. و كلامهم هذا يشمل كلا قسمي الذاتي أي: ما هو داخل في الذات، كالجنس و الفصل. و ما هو خارج عنه

ص: 83

و لازم للذات - المصطلح بذاتي باب البرهان - أي لازم الماهية، كالزوجية للأربعة. و تكرر في كلمات ابن سينا «أنه ما جعل اللّه تعالى المشمش مشمشا بل أوجده». و الأصل في هذه القاعدة يرجع إلى عدم إمكان الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها و لوازمها، و أطالوا القول في ذلك بإيراد شواهد و مؤيدات.

و الحق أن يقال: إن ذلك و إن كان صحيحا في الجملة بالنسبة إلى الجعل و القدرة الإمكانية لأنها هي التي تقع مورد الإدراك الإنساني و الفهم البشري.

و أما أنّها كذلك حتّى بالنسبة إلى القدرة الأزلية التي غاية ما يمكن دركها للعقول إنما هي نفي العجز عنه تعالى - كما في الحديث - فهو تعالى قادر أي: لا يعجزه شيء، و لا يصح قياس ما هناك على ما نتعقل إلاّ أن يكون تحديدا في قدرته على ما نتعقله، و هو مناف لعموم قدرته و قيموميته تعالى من كل حيثية وجهة،

و في الحديث: «هو الذي أين الأين؛ و كيف الكيف».

و في حديث آخر: «إن اللّه تعالى مجسّم الأجسام و موجدها».

إن قلت: بعد ما ثبت استحالة الجعل التأليفي، فكلما ورد من مثل هذه الأحاديث لا بد من حملها و تأويلها. فإن قدرته لا تتعلق بالمحال، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.

قلت: الاستحالة إن كانت من البديهيات الأولية، فلا بد من الحمل أو التأويل، كما ورد في حديث جعل الدنيا في البيضة. و إن كانت من النظريات القابلة للبحث و الجدل، فقدرة اللّه تعالى تكون فوق ذلك كله.

و بناء على ذلك يمكن أن تدخل صبغة اللّه تعالى و فطرته، و السعادة و الشقاوة تحت قدرته؛ بل هي ليست من الذاتيات الأولية، و لا من لوازم الذات حتّى تقع مورد النقاش، و إنما هي أعراض خارجة عن الذات لها دخل في الذات على نحو الاقتضاء، لا العلية التامة المنحصرة، و إلاّ لطرأ البطلان على جملة كثيرة من مسائل المبدأ، و المعاد، كما سنبينها في المباحث المستقبلة إن شاء اللّه تعالى. و في بعض كلمات الأقدمين من فلاسفة اليونان أن القيوم المطلق: «مذوت الذوات».

ص: 84

و يمكن الجمع بين شتات الكلمات أن القاعدة التي أسسوها من عدم إمكان الجعل التأليفي بين الذات و ذاتياته. أي في مورد الجعل الاستقلالي، و أما الجعل التبعي فلا محذور فيه من عقل، بل قد وافقه النقل، و للمقام تفصيل يطلب من محله.

سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِ.......

اشارة

سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (144) وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (145) هذه الآيات المباركة و التي تتلوها وردت في تشريع أهم جهات وحدة المسلمين و هي وحدة قبلتهم، و من كثرة أهمية ذلك أكّد سبحانه و تعالى عليها بتعبيرات مختلفة هي بمنزلة البرهان و الدليل على ثبوتها، و بيان جهات إثباتها، و هي من حيث كونها محاجة مع أهل الكتاب ترتبط بالآيات التي قبلها بعبارات متسقة، و نظم بليغ.

التفسير

قوله تعالى: سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ . السفه: هو الخفة و الضعف و الرداءة، سواء أ كان في الجسم، أم في النفس؛ يقال: ثوب سفيه، أي خفيف النسج و رديئه، و شخص سفيه أي ضعيف العقل. و سواء أ كانت السفاهة في الرأي أم في الأخلاق، أم كانت في الدين أم الدنيا أم

ص: 85

فيهما معا، يقال: سفه حلمه و رأيه و نفسه. و المراد بهم هم الذين خفّت حلومهم و أعرضوا عن الفكر و النظر، فاعترضوا على الدين من دون علم بحقائق الأمور، و هم المنكرون على تغيير القبلة من المنافقين و اليهود و المشركين.

قوله تعالى: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها . التولي:

الصرف، و العدول عن الشيء. و هو من الصفات ذات الإضافة التي تختلف باختلاف المتعلق، فإن قيل: تولى عنه يكون بمعنى الإدبار. و إن قيل: تولى إليه يكون بمعنى الإقبال.

و المعنى: انه سيقول السفهاء الذين ضعفت عقولهم و اعترضوا على تحويل القبلة ماذا جرى للمسلمين ان يصرفوا عن قبلتهم التي كانوا عليها - و هي بيت المقدس - التي كانت قبلة الأنبياء باعتقادهم؟!.

و المقام - أي تقديم الإخبار على الاعتراض - من العتاب قبل الجناية، و هو من المحسنات البديعية، و له فوائد كثيرة: منها توطين النفس، و تقليل التأثير، لأن المفاجأة بالمكروه أشد إيلاما من غيرها.

و منها: الإعداد للجواب عن المعترض و مقابلته بالاحتجاج و تلقين الحجة، فيكون أقطع. و منها: بيان أن المعترض متصف بالسفاهة ذاتا من دون أن يكون للاعتراض دخل في ثبوتها. و منها: أن الوقوع بعد الإخبار معجزة له (صلّى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ . هذا هو الدليل لتحويل القبلة و تبديلها، فإن من بيده أزمة أمور التكوين و التشريع و له الحكمة البالغة في جميع الأشياء، و إنّ الجهات بجميعها له تعالى، فلا تحويه جهة خاصة. و إنّ استقبال إحدى الجهات من الأمور التعبدية يجريه بحسب الحكمة و المصلحة، فليس اعتراضهم على تحويل القبلة إلاّ من السفه.

و لا بد أن يكون سبب اعتراضهم هذا أحد أمور كلها باطلة، فإما أن يكون قد زعموا أنّ اللّه تعالى تحويه جهة خاصة، و هي بيت المقدس بحسب زعمهم، أو أن بعض الجهات تستحق الاستقبال لما فيها من الآثار دون

ص: 86

غيرها، أو للعصبية التي عندهم و إعلام النّاس بأن قبلتهم أحقّ أن تتبع من غيرها. و هذه الأمور كلها سببها الجهل بالحكمة الإلهية، و اتباع الهوى.

قوله تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . هذه الآية تعليل للتغيير و التحويل من ان المحول اليه هو الصراط المستقيم و من مورد مشيته الأزلية في هدايته و تقدم في سورة الحمد تفسير كل من الهداية و الصراط المستقيم، فراجع.

قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً . لفظ (كذلك) إشارة إلى ما مضى من جعل هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم، و هو قرينة لتعيين معنى الوسطية في الجملة، كما يأتي، و الجعل: الإيجاد، و الخلق، و التقدير، و قد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يربو على مائة و خمسين موردا، مجردا تارة، كقوله تعالى: جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ [سورة المائدة، الآية: 97]، و مضافا إلى ضمير الخطاب، أو الغيبة أو غيرهما أخرى؛ كقوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [سورة المائدة، الآية: 48]، و قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [سورة الفرقان، الآية: 45]، و في الجميع يدل على عظمة الجاعل و جلاله و كبريائه. و الجعل في المقام تشريفي تعظيمي، كما يقتضيه كل جعل يتعلق بالشاهد الأمين.

و الأمة الجماعة، و هي من الألفاظ الإضافية تقع على الكثير و القليل و الأقل، و سياق الآية المباركة بقرينة سائر الآيات الشريفة يدل على أن المراد بها في المقام هو الأخير، كما ستعرف.

و الوسط معروف، فإن أضيف الى ما هو متصل - كالأجسام - أو ما هو منفصل - كالأعداد - يكون معيارا لتعيين الطرفين، و إن أضيف إلى المعنويات يكون معيارا لتمييز مرتبتي الإفراط و التفريط، و عليه تبتنى الفلسفة الأخلاقية.

و تفسيره بخيار الشيء، أو الصلاح و العدل، و الاستقامة و الإستواء لا بأس به، فإن هذه الألفاظ و إن كانت لها مفاهيم متعددة لكنها مظاهر لشيء واحد في الواقع، و في النفس الإنساني. و ذلك لأن الوسط هو المتوسط بين جانبي

ص: 87

الإفراط و التفريط المذمومين؛ و من جوامع كلمات

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خير الأمور أوساطها». و لأجل ذلك فسر الوسط في الأخبار بالعدل، و من المعلوم أن العدالة - التي هي من أهم كمالات النفس - هي المرتبة الوسطى بين مرتبتي الإفراط و التفريط من الملكات النفسانية.

و إذا كان معنى الوسط هو الخيار و العدل و نحو ذلك، فهل تكون جميع الأمة، كذلك، أو أنّ المراد منها بعض الأمة فقط؟ ذهب جمع من المفسرين إلى الأول، و قال إن المراد بالأمة هم المسلمون جميعا، فإن الإسلام قد جمع اللّه فيه بين حق الروح، و حق الجسد، فهي روحانية جسمانية، فليس المسلمون من أرباب الغلو في الدين المفرّطين، و لا من أرباب التعطيل المفرطين.

و لكن الحق أن يقال: إنّ الخطاب موجه إلى البعض فقط، و لا يمكن شموله لجميع المسلمين، و ذلك لعدة أمور:

الأول: إنه من المعلوم أن اللّه تعالى قد ذم أكثر الأمة في آيات كثيرة تارة: بأنهم لا يعقلون؛ و أخرى: بأنهم لا يعلمون، و ثالثة: بأنهم لا يشكرون، و رابعة: بأنهم لا يؤمنون، و خامسة: بأن أكثرهم الفاسقون، أو أكثرهم يجهلون، أو أن أكثرهم، للحق كارهون. و من كان هذه حاله كيف يمكن أن يتصف بالخيار و العدل و كونهم شهداء على النّاس.

الثاني: إنّ المراد بالشهادة في الآية الشريفة ليست الشهادة الجسمانية - تحملا و أداء - بل الشهادة الحضورية المعنوية على أعمال الجوارح و الجوانح إحاطة حضورية من اللّه تعالى في مقام التحمل في الدنيا، و في مقام الأداء في الآخرة، و يستلزم ذلك إحاطة الشاهد إحاطة معنوية من قبل اللّه تعالى، و لا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة كل أحد مع ما هم عليه، فمثل هذه الشهادة تختص بالأقل من أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). فالشهادة مما تختلف باختلاف العوالم، و إنّ الشهادة على الأمور الظاهرية الدنيوية شيء، و هي بالنسبة إلى النشأة الأخرى شيء آخر.

الثالث: إنه يستفاد من لفظ الوسط - بأي معنى لوحظ - اختصاص الأمة

ص: 88

بالبعض دون الجميع.

الرابع: إنّ سوق الآية المباركة في سياق قصة إبراهيم (عليه السلام)، و اختصاص قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة، الآية: 128] بالبعض، ثم جعل الشهادة في سياق شهادة الرسول كل ذلك يدل على أن المراد بالأمة قسم خاص منها.

الخامس: إنّ شهادة الفرد في الدنيا تحتاج إلى قيود و شروط في الشريعة، و إلاّ فلا تقبل شهادة كل فرد، فإذا كانت هذه حال الشهادة على الفرد، فكيف تكون الشهادة على النوع في النشأة الآخرة فهل تقبل بلا قيد و شرط؟!!.

السادس: لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا بعرض أعمال الناس على الشاهد من قبل اللّه تعالى، و إلاّ فلا يمكن أن يتحقق التحمل فلا يترتب الأداء في النشأة الآخرة. و من يعرض عليهم أعمال النّاس عدة مخصوصة، كما ورد في نصوص كثيرة. و بالجملة: أنه لا بد للشاهد على نوع البشر يوم الحشر الأكبر من اطلاعه على صحة أعمال الخلق و فسادها، و التمييز بين جيدها و رديئها، و ذلك لا يكون إلا في طائفة مخصوصة.

إن قيل: إنّ قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ [سورة الحديد، الآية:

19] يعم جميع الأمة بلا اختصاص له بطائفة، فليكن المقام نظير هذه الآية المباركة أيضا.

يقال: إنه لا ربط للمقام بالآية الشريفة المتقدمة، فإن المقام في الشهادة على النّاس، و الآية المتقدمة في مقام بيان أن للمؤمن مرتبة الشهادة عند اللّه تعالى، و هما مختلفان، و قد ورد في جملة من الأخبار: «أنّ المؤمن شهيد و لو مات في فراشه».

و من ذلك كله يعرف أن الآية المباركة لا تشمل جميع الأمة. و ما ذكره بعض المفسرين لا شاهد له لا من عقل و لا نقل، بل هو معترف في ضمن

ص: 89

كلامه بأن المراد بالوسط من كان متبعا لشريعة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و انه هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط فاقتصر على الأمة التي تكون متبعة للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و إلاّ فليس كل أحد انتحل الإسلام دخل في الآية الشريفة.

و أما إذا كان مراده من تعبيره شرح دين الإسلام من حيث أنه حائز للمرتبة الوسطى بين الجسمانية المحضة و الروحانية الصرفة مع قطع النظر عن المتدين به، فلا ريب في كونه حقا و لكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.

و ربما يتوهم أن مقتضى إطلاق الآية المباركة و كونها وردت في مقام الامتنان هو التعميم لجميع الأمة. و لكنه باطل، فإن المراد بالوسط هو الحقيقي منه، كما في نظائره من الصفات - كالإيمان، و الخير، و الصلاح، و العدل، و الصدق و نحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم - دون مجرد الإطلاقي الظاهري، و ذلك لا يتحقق إلاّ في المسلم الحقيقي المتصف بحقيقة الإسلام حتّى يكون مفخر الأنام و شاهدا يوم الحساب، و لا امتنان في جعل من لا يعرف من الإسلام إلاّ اسمه، و من الدين إلاّ رسمه، و لا يعلم من القرآن حتّى درسه شهيدا بين الأمم، و لا أظن أحدا يرتضي ذلك.

ثم إنّ جعل اللّه تعالى الأمة وسطا يتصور على أقسام:

الأول: أن يكون من مجرد الجعل التكويني الذي لا اختيار للعبد فيه، كسائر مجعولاته التكوينية، قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ [سورة الاسراء، الآية: 12]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [سورة الأنبياء، الآية: 32] إلى غير ذلك من الآيات المباركة مما هو كثير في القرآن.

الثاني: الجعل الاجتماعي الانتظامي المشوب باختيار العبد في الجملة كقوله تعالى: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا [سورة الحجرات، الآية:

13] و قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: 66].

ص: 90

الثالث: الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه بينه و بين اللّه تعالى، و هذا القسم كثير في القرآن الكريم أيضا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: 24].

و الجعل في المقام من هذا القسم، حيث أن أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) هم الوسط في جميع المعارف و الكمالات النفسية، و دينهم هو الحد الفاصل بين الروحانية البحتة و المادية الصرفة و لأجل ذلك صاروا شهداء على النّاس جعلا تفضليا، و لكنه يستلزم الجعل التشريعي الإلهي في المعارف و الأحكام و سائر الكمالات النفسية، إلاّ أن ذلك لا يستلزم كون جميع الأمة شهداء، و توجيه الخطاب إلى النوع و ارادة الصنف شايع في المحاورات العرفية لأغراض و مصالح، و القرآن ورد على هذا الطريق المحاوري المقبول، كما في قوله تعالى: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 173] و غيره مما يكون فيه الظهور الاستعمالي العموم، و المراد الحقيقي هو الشخصي الخارجي، كما أن عكسه أيضا صحيح و وارد في القرآن الكريم. قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ [سورة الطلاق، الآية: 1] و ليس ذلك من المجاز في شيء، كما أثبتناه في الأصول، بل هو من شؤون البلاغة و الفصاحة لإفادة فوائد مختلفة.

قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً . إنما جيء بلفظ «على» لبيان الإحاطة و الاستيلاء لجميع أعمال المشهود عليهم جليّاتها و خفياتها، فهو (صلّى اللّه عليه و آله) الحجة الإلهية بالنسبة إلى عباده، لأنه الفرد الأكمل في الكمالات الإنسانية و المعارف الإلهية. و تشمل الآية المباركة جميع أنحاء شهاداته (صلّى اللّه عليه و آله) كشهادته بالإبلاغ و إتمام الحجة، و شهادته لبعضهم بالإطاعة و على الآخرين بالمخالفة، و شهادته على أمته بالاستقامة و الانحراف، فهو الشاهد على جميع أمته في عالم الجمع.

و ذكر شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة من قبيل ذكر العلة بعد ذكر المعلول، يعني تكونوا شهداء على الناس، لأن الرسول شهيد عليكم بأنّكم

ص: 91

تتصفون - علما و عملا - بما علمكم الرسول (صلّى اللّه عليه و آله). و قد شرح سبحانه هذه الآية شرحا وافيا في آية اخرى قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ [سورة الحج، الآية: 78]. فجعل المناط في الشهادة على الناس و شهادة الرسول عليهم المجاهدة في اللّه حق جهاده، فيصير بعد رد شارحها إلى مشروحها، و مفصلها إلى مجملها هو أن الشهادة على الناس إنما تكون بالمجاهدة في اللّه و الاعتصام به جلت عظمته و كل من كان كذلك فقد اجتباه تعالى، و لا يكون ذلك إلاّ في عدة مخصوصة، و هي مورد دعوة إبراهيم خليل الرحمن و وصاية الأنبياء من بعده، و أهم مقاصد خاتم الأنبياء في تشريع شريعته.

و من ذلك يعلم أنّ مقام مثل هذا الشاهد الذي يحتمل شهادة اعمال الخلائق في الدنيا و أداءها كاملة في العقبى من أجلّ المقامات و ارفعها، إذ لا بد أن يتصف بصفات عالية و يرتقي إلى درجات الكمال حتّى يصل الى هذا المقام، و يتسم بوسام العلم، كما قال تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً [سورة الكهف، الآية: 65] و لا يليق بذلك الا الأخص من الخواص، كما عرفت.

و الخطاب لجميع الأمة تشريفي بمقتضى السير الاستكمالي في البشر حيث يقتضي أن تكون أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أشرف الأمم و أرفعها، و نفس هذا السير التكاملي يقتضي أن يكون في هذه الأمة صنف خاص، و طائفة مخصوصة هي أشرفها و أعظمها؛ فيكون المراد من ذكر الكل هو البعض و هو شايع في المحاورات، و قد تقدم في قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة البقرة، الآية: 122] أنّ التفضيل باعتبار خصوص أنبيائهم لا جميعهم.

ص: 92

و بذلك يظهر الجواب عما يتوهم من أنّ الوسطية لا تختص بامة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، بل قد تتحقق في جميع الأمم الماضين، بل مقتضى قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ [سورة الواقعة، الآية: 13] أنها فيهم أكثر، فلا تكون الشهادة منحصرة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أو في بعضهم. فان السير التكاملي يقتضي أن يكون خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) أشرفهم، و قد برهن بالبراهين الكثيرة أن مقامه مقام جمع الجمع، جامع لجميع مقامات الأنبياء مع الزيادة عليها التي لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى، فهو بدء الخلق و غاية التكوين.

كما أن شرف و رفعة كل أمة بنبيها فتكون أمته (صلّى اللّه عليه و آله) أشرف الأمم، و شريعته أكمل الشرايع الإلهية و أتمها، فيصير العاملون بها شهداء الخلق، للارتباط بين الغاية و ذيها تكوينا، و الواسطة في الإفاضة و ذويها طبعا، فلا يبقى مجال بعد ذلك لغيرهم الذين هم دونهم في الدرجة.

و في الحديث انه قال (صلّى اللّه عليه و آله): «إن لواء الحمد بيدي و آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة».

و ربما يتوهم أيضا أنه لا فائدة في هذه الشهادة، لأنّها إما في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا. أما الشهادة في الدنيا فليس لها أثر؛ و أما في الآخرة فلا فائدة فيها بعد كون اليوم يوم ظهور الحقائق و بروزها يوم تبلى السرائر، و الإشهاد إنما هو لإبراز المخفيات لا ما هو ظاهر للعيان.

الجواب إنّه يقال: إنّ الإشهاد فيهما معا، أما الإشهاد في الدنيا فلأجل بيان أن له العمل. و أما في الآخرة فلابطال ما يعتذر به العبد، و بذلك تتم الحجة عليه، فالشهادة متحققة في المعاد حتّى يقع الخلود في الجنّة أو في النار، فإن كل قضية كثرت اهميتها كان الإحتجاج عليها أشد و لا قضية مطلقا في عالم الوجود أهم من الخلود فانه من أهم قضايا المبدأ و المعاد، و أهم ما يتعلق بأصل العبودية و الربوبية العظمى فلا بد من إتمام الحجة لتمييز الأخيار من الأشرار، و أهل الجنّة من أهل النار، و بذلك تتم الحجة في الدارين لئلا يكون للنّاس على اللّه حجة.

ص: 93

و من ذلك يعلم أنّ الشهادة ليست قولية فقط، بل يحتمل أن تكون تكوينية أيضا؛ و المراد من الأخيرة هي: أن أمة الإسلام بالمعنى المتقدم هي بنفسها تكوينا تكون بارزة بحقائقها و معارفها و أحكامها و تشهد على جميع الأمم و الأديان، كما تشهد الجوهرة النفيسة بين جملة الأحجار أن ليس للأخيرة شأن مقابلها، أو شهادة المؤمن الكامل الإيمان و المعرفة بنفسه على سائر الأفراد بأن ليس لهم شأن، و انه على الصراط المستقيم، و أن ما سواه على غير الصراط فيكون ما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية.

ثم إنه يستفاد من الآيات الشريفة و الروايات الكثيرة أنّ الشهداء على الخلائق في يوم المعاد لا تنحصر بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أمته، فإن اللّه تبارك و تعالى أحد الشهداء على بريته، قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 231]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ [سورة آل عمران، الآية: 5]، و قال تعالى: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة يونس، الآية: 61]. و لا معنى لقدرته التامة، و حكمته البالغة، و قيمومته المطلقة إلاّ ذلك.

و من الشهداء الملائكة، قال تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق، الآية: 18].

كما أنّ منهم جوارح كل فرد من أفراد الإنسان، قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية:

24].

و منهم الأنبياء، قال تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ [سورة النحل، الآية: 89].

و من الشهداء القرآن، و الزمان، و المكان و غير ذلك مما يأتي شرح ذلك كله في مباحث الحشر و النشر.

ص: 94

و الإشكال على شهادة هؤلاء الشهداء، بأنها بدون فائدة بعد قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة آل عمران، الآية: 30]، و قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8]. و بعد العيان لا وجه للشاهد و البيان، مع أن جميع الممكنات بجميع أطوارها و شؤونها، و تمام جهاتها و جزئياتها تحت قدرته المطلقة و قيمومته المهيمنة عليها فلا وجه للإشهاد و الشهود. فاسد، يظهر الجواب عنه مما تقدم من أن ذلك كله لرفع الجحد، و إتمام الحجة حسب اختلاف الاستعدادات في النفوس.

قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ . القبلة من المقابلة، و مفهومها قائم أولا بمن يستقبل غيره، فهي الحالة التي يكون عليها المقابل - كالجلسة التي هي حالة الجلوس - ثم شاع استعمالها في نفس الجهة التي يستقبلها النّاس في الصلاة. و لم ترد هذه الكلمة في القرآن إلاّ في آيات تشريع القبلة و تحويلها، و في قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [سورة يونس، الآية: 87].

و مادة (ع ق ب) تشتمل على معنى التأخر في الجملة، و منه إطلاقها على مؤخر الرجل - إذا كان بفتح الأول و كسر الثاني و سكون الأخير - و على الأولاد و الأحفاد لتأخرهم بالنسبة إلى الآباء ممن تقدمهم، قال تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [سورة الزخرف، الآية: 28] و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، و الجميع كناية عن الإدبار و الإعراض. و أما

ما ورد في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ويل للأعقاب من النار» فهو كناية عن عدم التحرز و التنزه عما كان يصيب مؤخر الرجل من رشاش البول و غيره مما يضر بالطهارة المشروطة بها الصّلاة و بيان ذلك مذكور في كتب الفقه.

و الآية لبيان بعض الحكمة في جعل القبلة التي كان عليها الرسول قبل

ص: 95

تحويلها إلى غيرها، و ذلك للتمييز بين متابعي الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و الثابت على إيمانه عن مخالفيه و من لاثبات له على الإيمان فارتد على أعقابه، لأن تحويل القبلة إنما كان سببا لظهور طوائف: قوم هداهم اللّه تعالى فآمنوا بالرسول و ثبتوا على إيمانهم، و قوم ارتدوا على أعقابهم، و قوم نافقوا في ذلك. و قد أشار سبحانه و تعالى إلى هذه الطوائف الثلاثة في هذه الآيات المباركة فأراد تعالى أن يميز بين تلك الطوائف و يتميز كل فريق عن صاحبه.

و مثل هذا التعبير- في قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ في المقام أو «ليعلم» في غيره- في القرآن كثير، كما في قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [سورة الكهف، الآية: 12]، و قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ [سورة محمد، الآية: 31]، و قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة، الآية: 94]، و قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 166]، و قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [سورة الحديد، الآية: 25] إلى غير ذلك. و من المعلوم أن علمه أزلي قديم و عين ذاته، و لا يتصور فيه التغيير و التجدد و الوجه في هذه التعبيرات أحد أمور:

الأول: إنّ مقارنة علمه تعالى لوجود المعلوم أثر كبير في الزجر و التوبيخ، أو البشارة عند الإنسان.

الثاني: أن يكون المراد بالعلم هو علم الوقوع و الظهور، و أن القضية الحادثة مطابقة لعلمه الأزلي و يترتب عليه الجزاء من الثواب و العقاب.

الثالث: إنّ التعبير بلفظ المستقبل إنما يكون لدفع شبهة الجبر و بيان أن العلم الأزلي ليس علة تامة لحصول المعلوم خارجا، و لا يعتذر العبد بأنه لا يقدر على ترك الفعل، لأنه يلزم الانقلاب في علمه.

الرابع: إنّه لبيان فائدة الإعلام إلى الإنسان بأنّ اللّه تعالى عالم بالأشياء.

الخامس: الجري على عادة العظماء حيث ينسبون حالات أتباعهم

ص: 96

منزلة شؤون أنفسهم، و نسبة فعل الأتباع إلى النفس باب من أبواب البلاغة تترتب عليه فوائد و حكم كثيرة.

السادس: إتمام حجة الإختيار على المخاطبين، و جميع هذه الوجوه صحيحة يمكن الاعتماد عليها في مثل هذا النهج من التعبير، كما في قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ الوارد في أكثر من عشرين موضعا في القرآن الكريم.

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ . كبيرة أي عظيمة و ثقيلة. و قد وردت مادة (كبر) في القرآن بهيئات مختلفة، و الكبير و الصغير من الأمور الإضافية يتصف بهما جميع الجواهر و الأعراض، بل الاعتباريات أيضا، كما هو معلوم. و يطلق الكبير على اللّه تعالى قال سبحانه: عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعالِ [سورة الرعد، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ [سورة الحج، الآية: 62].

و الضمير في «كانت» يرجع إلى القبلة من جهة تحويلها أي: انه عظم أمر القبلة في تحويلها على أهل الكتاب و المنافقين و غيرهم ممن لم يثبت على الإيمان إلاّ أن الذين هداهم اللّه تعالى إلى دينه و هم الذين صدقوا الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و آمنوا به بحقيقة التصديق و الإيمان لم يفرقوا بين القبلة الأولى المحول عنها و القبلة الثانية المحول إليها، و أنهم يعلمون أن ذلك من أمر اللّه تعالى العالم بالمصالح و الحكم، و المبين لعبده ما لم يكن يعلم، فاستسلموا لأمره و أطاعوا رسوله. و في الآية إشارة إلى الطائفتين من الطوائف الثلاثة المتقدمة و هم المنافقون و المؤمنون.

قوله تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ . الضياع الهلاك و الفساد، و الآية المباركة في مقام الجواب عما ارتكز في النفوس عن شأن الأعمال التي تقع على طبق الحجة السابقة إذا تبدلت إلى حجة اخرى؛ فكان الجواب أنها صحيحة و مقبولة لدى اللّه تعالى و يجزي عليها بالجزاء الأوفى.

و في الآية بشارة للمؤمنين و إيماء إلى أن أعمالهم إنما كان مبعثها هو الإيمان باللّه تعالى و التسليم لأمره.

ص: 97

و القول بأنّ المراد من الإيمان - في المقام - هو الصلاة، كما قال به جمع من المفسرين و ورد به الحديث إنما هو من بيان أحد المصاديق و إلاّ فإن سياق هذه الآية يدل على أن المراد به هو معناه المعهود. و قد ورد مفاد هذه الآية في عدة آيات أخرى، قال تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 30].

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ . الرأفة أخص من الرحمة من جهتين: من كونها أشد من الرحمة، و من أنها لا تكاد تقع في الكراهة بخلاف الرحمة. و هما من أسماء اللّه الحسنى و غالب ما تستعمل الكلمة في الدعوات مع الرحيم. و قد وردت في القرآن الكريم كثيرا إما مقرونة باللام - كما في المقام - و اما غير مقرونة به، كقوله تعالى: وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207] و هذه الآية في مقام بيان العلة للحكم السابق أي: لا يضيع، إيمانكم لأنه رؤوف رحيم. و إنما ذكر سبحانه الرأفة لتعميمها بالنسبة إلى العاصي و المطيع.

و قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ . مادة راى لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة. و في مضارعها تحذف الهمزة مطلقا، كما في المقام. وسعة استعمال الكلمة تعم الدنيا و الآخرة بل الرؤيا و حتى الحيوانات. و تستعمل بالنسبة إلى اللّه جل شأنه، قال تعالى:

وَ سَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ [سورة التوبة، الآية: 94].

و المعنى الجامع: هو الإدراك بما له من المراتب الكثيرة، فيشمل علم اللّه تعالى و إدراكات المجردات و إدراكات القوى الحاسة الظاهرية و الباطنية، و الوهم، و الخيال، و التفكير و الوجدان، و العلم و الظن كل ذلك بحسب مراتبها.

و التقلب التحول من حال إلى حال، أو التردد المرة بعد المرة، و سمي القلب قلبا لتحوله و تصرفه من حال إلى حال، و المراد به في المقام تحويل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) وجهه المبارك في السماء من جهة إلى أخرى تطلعا للوحي و انتظارا لأوامر اللّه تعالى.

ص: 98

و يستفاد من الآية الكريمة أنه (صلّى اللّه عليه و آله) كان ينتظر تحويل القبلة و كان اللّه تعالى يعلم بأنه (صلّى اللّه عليه و آله) يرغب في قبلة جديدة.

قوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها . أي سنأمرك باستقبال القبلة التي ترضاها، و لذا قرنه تعالى بالأمر، و قال عزّ و جل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ . و لا تختص التولية بتشريع الحكم، بل المراد الأعم منه و من تحقق التولية خارجا بواسطة أخذ جبرائيل (عليه السلام) بيد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و توليه إلى المسجد الحرام.

و الآية الكريمة لا تدل على أن القبلة الأولى لم تكن مرضية للّه تعالى و لا لرسوله (صلّى اللّه عليه و آله) بأي وجه من الدلالات؛ فإن إثبات الرضا في استقبال الكعبة لا ينافي ثبوت الرضا في استقبال البيت المقدس ما دام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يستقبله لمصلحة كما جميع التكاليف المنسوخة و المتبدلة لمصالح مختلفة، بل يمكن أن يستفاد من ظاهر الآية أن القبلة الحقيقة هي الكعبة المقدسة التي هي مورد محبته (صلّى اللّه عليه و آله): لأنها أقدم القبلتين و قبلة إبراهيم (عليه السلام) و مجمع العرب و ملاذهم و أهم ما يفتخرون به فكان ذلك مورد خطور قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و محبته و ان لم يظهره على لسانه تأدبا مع ربه، بل كان يردد وجهه الى آفاق السماء منتظرا لما هو المعلوم من إرادة اللّه تعالى و عليه يكون التوجه إلى القبلة الأولى من قبيل التكاليف الامتحانية و الصّلاة إليها قبل التحويل - على فرض عدم تصادف الكعبة في البين - من الصلاة الاضطرارية التي تصلى الى غير القبلة لمصالح كثيرة، منها المماشاة مع اليهود الذين هم ألدّ الخصام، و جلب قلوبهم.

قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ . الشطر يطلق على القسم المنفصل من الشيء، أي النصف، و الجزء

و منه الحديث: «السواك شطر الوضوء»،

و قوله (عليه السلام): «من أعان على مؤمن و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه».

و المراد به هنا النحو و الجهة. و لم تستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم

ص: 99

إلاّ في تشريع القبلة إلى المسجد الحرام. و إنما ذكر المسجد الحرام، لتوسعة الأمر، و أن الاستقبال اليه طريق إلى استقبال الكعبة المقدسة، و إلاّ فإن القبلة هي الكعبة، لنصوص متواترة بين الفريقين كما يأتي في البحث الفقهي.

قوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ . تعميم للمستقبلين في جميع أنحاء العالم بأن يولوا وجوههم نحو المسجد الحرام، و تعميم أيضا لجميع الجهات خلافا للنصارى حيث يستقبلون جهة المشرق فقط.

قوله تعالى: وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ .

الحق يأتي لمعان متعددة، منها الإيجاد، و الحكمة التامة و مطابقة الواقع، و غير ذلك. و قد ورد في القرآن العظيم بالنسبة الى جميع المعارف من المبدأ و المعاد، و صفات الباري عزّ و جل و أفعاله و تشريعاته المقدسة.

و عن جمع من أعاظم الفلاسفة أن الحق يقال للمطابق للمخبر عنه و للموجود الحاصل بالفعل، و الموجود الذي لا سبيل للبطلان اليه أبدا فهو تعالى حق من حيث ذاته و صفاته و أفعاله و جميع شؤونه، و قد خصص بعض أكابرهم في شرح هذه المادة صفحات من كتابه الكريم و كلها تنطبق على المعارف الربوبية.

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعمأة مورد، فسبحان الذي يكون هو أصل الحق و منبعه و مرجعه. و لا حق غيره و ما سواه باطل.

و قد عد الحق من أسماء اللّه الحسنى، و ينبعث شعاعه إلى جميع تشريعاته المقدسة. و لا يخلو الحق عن الحقيقة بخلاف الباطل،

ففي الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «على كل حق حقيقة و على كل صواب نور».

ص: 100

و المعنى: إنّ أهل الكتاب بعد التفاتهم إلى كتبهم المنزلة عليهم من التوراة و الإنجيل ليعلمون أن كون الكعبة قبلة هو الحق من ربهم أو ليعلمون أنها قبلة إبراهيم (عليه السلام) المتفق بينهم أن ملته هي الحنيفية التي أمروا باتباعها.

و ما ذكره جمع من المفسرين من إرجاع الضمير في قوله جلّ شأنه: أَنَّهُ اَلْحَقُّ إلى دين الإسلام صحيح أيضا، لأنه من باب بيان الكبرى، و ما ذكرناه بيان لإحدى الصغريات.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ . الغفلة: تستعمل في عدم التحفظ على الشيء و الاهتمام به، و مثل هذا المعنى محال بالنسبة إلى العالم الحكيم المدبر على نحو الحكمة التامة البالغة، لأن الحضور الفعلي الإحاطي من جميع الجهات مع الغفلة عنه خلف عقلا.

و يتصف بها الإنسان و تكون من أرذل صفاته التي تجعله في عرض الحيوان، قال تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]. و يتصف الزمان و المكان بها، كما ورد في الأسواق، و سيأتي عند قوله تعالى: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [سورة القصص، الآية: 15] بعض أزمنة الغفلة.

و المعنى: أنه لا يعقل الغفلة عن كليات الأمور و جزئياتها بالنسبة إليه تعالى. و في الآية المباركة تهديد بالنسبة إلى مرتكب السيئات، و يصح أن يراد بعدم الغفلة عدم الغفلة العملية، أي: يجزي على الحسنات بالجنّة كما يجزي على السيئات بالنّار.

قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ . الآية هي الحجة و البرهان الواضح و هي إنما تنفع لرفع الجهل البسيط، و أما الجهل المركب فهو داء لا يقبل العلاج لا سيما إذا كان قرين العناد و اللجاج خصوصا إذا كان المورد مما يصح نسبته الى الدين السماوي.

و حينئذ يتضح الوجه في هذه الآية الشريفة، و مضمونها دليل عقلي وجداني لا يختص بعصر التنزيل، و لا بطائفة خاصة.

ص: 101

و المعنى: و لئن جئتهم بكل برهان و حجة على صدقك ما تبعوا قبلتك، و لم يعترفوا بملتك، فقد تمكن منهم الجهل و غلب عليهم العناد و اللجاج بارتكابهم السيئات، فلم يوفقهم اللّه تعالى للإيمان بك.

قوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ . بعد ما أيأس سبحانه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من اتباعهم لقبلته أراد سبحانه و تعالى إياسهم من اتباعه قبلتهم بعد ما اتضح الحق، و أن قبلته (صلّى اللّه عليه و آله) أولى بالاتباع خصوصا بعد ما أمر بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام، و لا وجه لمتابعة قبلة أوجب اللّه تعالى الانحراف عنها و أكد فيه التأكيد البليغ.

و يمكن أن يريد منه بيان بطلان أصل المتابعة، لأنه بعد وضوح بطلان شيء كيف يعقل على العاقل الحكيم متابعته، فيكون مفاد هذه الآية كالآية السابقة.

قوله تعالى: وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ . أي أن أهل الكتاب على خلاف و عناد في أمور دينهم فلا اليهود تتبع قبلة النصارى و لا هؤلاء تتبع قبلة اليهود، فإن كلاّ منهما يرى قبلة صاحبه باطلة، فكيف يتوجه إلى الباطل و يستقبله، و قد أعمى الجهل بصيرته فلا يتبع ما هو صالح واقعا.

قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ . قضية عقلية برهانها معها، أي: إنه إذا ثبت أنك على حق - كما هو الواقع - و كل من خالف الحق بعد ثبوته هو ظالم، فانك لو خالفته لكنت من الظالمين. و قد ثبت في محله. أن صدق القضية الشرطية بصدق النسبة بين الطرفين لا بتحقق موضوعها في الخارج.

و الخطاب موجه إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) تعظيما و تشريفا لأنه المشرع المسؤول عن الأمة في يوم المعاد، و قطعا لأطماعهم بأنه لا يتبع أهواءهم، و إلاّ فحقيقة مثل هذه الخطابات العقلية تكون لجميع العقلاء في القرآن الكريم بلا اختصاص لها بأحد، و لا بزمان دون آخر، و إلى ما ذكرنا يشير ما ورد في الحديث: «أنّ القرآن نزل على طريقة إياك اعني و اسمعي يا جارة». و في الآية توعيد و توبيخ لهم و تبكيت لهم بأنهم أصحاب أهواء

ص: 102

باطلة، و أنهم ليسوا على العلم و أن ادعوه.

ثم إنّه لا بد من الاعتبار من مثل هذه الآيات فإن الخطاب بهذا النحو يكون لأشرف خلقه و أعلاهم مقاما عند اللّه تعالى و إنما أفرده بالخطاب مع ان المراد به غيره من أمته، إعلاما بأن أمته لا بد لهم من متابعته و أن لا يؤثروا على الحق شيئا، و لا يتبعوا أهواءهم و يطلبوا مرضات غير اللّه تعالى. و إيذانا بأن مثل هذا الذنب - و هو متابعة الهوى - من الذنوب التي لا تغفر و لو كان صادرا من أعلى فرد و أقربهم إلى اللّه عزّ و جل.

و في الحديث عن الصادق (عليه السلام) «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»، و الأخبار في ذلك متواترة، و السيرة دالة عليه أيضا، و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى بعد ذلك.

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من مجموع هذه الآيات الشريفة أمور:

الأول: أنّ التعبير بالسفهاء في مطلع الآيات يشعر بأن أصل الاعتراض إنما نشأ عن السفاهة و الجهل، زعما منهم أن الحكم النوعي إذا حصل من اللّه عزّ و جل لا بد و أن لا يتغير و لا يزول، و أن نسخه يستلزم الجهل، و هذا هو الاعتراض الذي يبتني عليه إنكار النسخ عند اليهود، و قد أوضحنا المقال فيه في ما تقدم من مباحث هذا الكتاب، فراجع آية 106 من سورة البقرة.

الثاني: في قوله تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ إشارة إلى أنّ تحويل القبلة كان من ناحية الشمال الغربي إلى نقطة الجنوب.

الثالث: أنّ الوسطية صفة ممدوحة حسنة، و لذا اختارها اللّه سبحانه و تعالى في القرآن دون غيرها من الصفات الحسنة، و لا يتصف بها كل الأمة بالعيان و الوجدان فإن جمعا منهم في طرف العصيان، فلم تتحقق الوسطية بالدليل و البرهان.

الرابع: إنّ ذكر الوسط في الآية المباركة وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً

ص: 103

وَسَطاً بنفسه قرينة على تخصيص الأمة بالبعض دون الجميع، لأنه بأي معنى لوحظ ظاهر في التخصيص.

الخامس: لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا، و لا يتحقق ذلك إلاّ بعرض أعمال الناس، و التمييز بين جيدها و رديئها على الشاهد من قبل اللّه تعالى. و إلاّ فلا يتحقق التحمل فلا يترتب عليه الأداء. و من يعرض عليه أعمال النّاس عدة خاصة، للنصوص الكثيرة الدالة عليه،

و في بعض النصوص: «هم اللب و الأمة بمنزلة القشرة».

السادس: يظهر من هذه الآية لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً بضميمة قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [سورة الكهف، الآية: 51] نحو ملازمة بين الإشهاد على مبدأ الخلق و الإشهاد في المعاد، فإن من كان له الاستعداد لأن يشهد المبدأ، شهودا علميا إفاضيا من اللّه تعالى له الاستعداد أن يشهد على أعمال الخلائق في المعاد.

السابع: أنّ في قوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إيماء إلى أن القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة و القبلة الأولى كانت من التكاليف الامتحانية أمر بالتوجه إليها لمصالح خاصة على ما تقدم، كما يستفاد من ظاهر الآية المباركة أنها نزلت قبل تحوله (صلّى اللّه عليه و آله) إلى الكعبة، و أنها بمنزلة الوعد، و لذا قرنها بالأمر، و قال جل شأنه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

الثامن: أنّ في تخصيص النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالخطاب في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ثم تعميمه لجميع المسلمين في قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ نوع تشريف لمقام النبوة، و لزيادة الاهتمام بالموضوع و التأكيد عليه، بغية الإلفة و الاجتماع و نبذ الفرقة و الاختلاف.

التاسع: ربما استدل بعضهم بمثل هذه الآيات على حرمة التأمل في علل الأحكام و السؤال عنها، لأنها تعبديات محضة، و العقل قاصر عن الوصول

ص: 104

إليها، و لا بد من الانقياد في جميع الأحكام.

و هذا الاستدلال على إطلاقه باطل لا وجه له؛ و الآيات المباركة أجنبية عن ذلك، و ما ذكره مخالف للآيات الكثيرة الآمرة بالتفكر و التعقل في ما يتعلق بالمبدأ، و المعاد، و تكميل النفس، و فهم الأحكام و دركها من أهم وجوه تكميل النفس، و لقد ذم سبحانه و تعالى قوما بقوله جل شأنه: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و قد وردت في السنّة المقدسة نصوص كثيرة تبين المصالح و المفاسد و الحكم الكثيرة للأحكام الشرعية و قد جمعها المحدثون من الفريقين في كتب مستقلة ممتعة و نافعة من شاء فليراجعها.

فالسؤال عن الأحكام و عللها و حكمها صحيح و لا بأس به، بل حيث عليه الشارع. نعم مثل هذا السؤال يكون على أقسام:

فتارة يكون السؤال لأجل التعليم و الإعتقاد و العمل به. و أخرى: يكون لأجل العلم الإجمالي بأن الأحكام الإلهية تنشأ عن الحكم و المصالح بنحو الإجمال، و هذان القسمان لا بأس بهما. و ثالثة: يكون السؤال لأجل التشكيك به في الأحكام و تطبيق المصالح و الحكم على ما يوافق الأهواء مما اكتشف في هذه الأعصار، و هذا القسم باطل، إذ أن المكتشفات تتغير بمرور الزمن، و اتساع رقعة العلم و تطبيق الحكم عليها يوجب التغيير في الأحكام و الجرأة على ردها، و هذا مما لا يرتضيه أحد، و الآيات الشريفة على فرض تمامية دلالتها تدل على هذا القسم.

العاشر: أنّ إضافة القبلة الى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله تعالى: ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إضافة تشريفية و إلاّ فالكعبة قبلة إبراهيم (عليه السلام) و قبلة جميع المسلمين: و فيه إيماء إلى أنه كان معهودا عندهم،

و في بعض الأحاديث: «انه كان في بشارة الأنبياء لهم - أنه يكون بين صفاته كذا و كذا - و أنه يصلي إلى القبلتين».

الحادي عشر: إنما ذكر الوجه في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ، و قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ، لأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان و أجلها، و لذا يطلق و يراد به الإنسان نفسه من باب

ص: 105

استعمال البعض في الكل، لأهمية ذلك البعض أولا، و تقوّم أكل به ثانيا، و الإضافة إلى الذات و سقوط سائر الإضافات ثالثا. و عليه فالاختلاف بين العلماء في معنى الوجه ليس اختلافا حقيقيا، و إنما هو لأجل الكشف عن الذات، فقول الفقهاء في الوجه في المقام بأن المراد به هو مقاديم البدن إنما ذكر بنحو الكشف عن الذات و النفس الذي هو قول الفلاسفة، كما أن قول اللغوي فيه بأنه الجارحة الخاصة أي تلك الجارحة الحاكية عن الذات أيضا، و ليس المراد به الموضوعية الخاصة و إلاّ كان لغوا و باطلا إلاّ إذا دلت القرينة على أن المراد به الموضوعية الخاصة، كما في آية الوضوء و نحوها.

و حينئذ يصح أن يقال: بأن المراد بالوجه هو توجيه الأعضاء إلى أوامر اللّه تعالى الكاشف عن توجيه الذات إليها على نحو يسري الخضوع و الخشوع على سائر الأعضاء من الذات الخاضعة، و ليس المراد هو توجيه الأعضاء فقط الذي يجل مقام النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و سائر عباد اللّه المخلصين عن ذلك، و آية الوضوء و إن أخذ الوجه فيها على نحو الموضوعية لكن من حيث اعتبار القربة في الغسلات و المسحات المنبسطة على الذات لوحظ بنحو الطريقية أيضا. هذا إذا استعمل اللفظ في الإنسان، و أما إذا استعمل في اللّه عزّ و جل، فيأتي شرحه في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السماء أنه (صلّى اللّه عليه و آله) في جميع حالاته يطلب رضاء اللّه تعالى و ينتظر أمره، و أن طلبه - بلسان الحال دون المقال، لكونه أقرب إلى أدب العبودية و ابلغ إلى نيل المقصود.

ثم إنّ للتوجه إلى الكعبة المقدسة نحو ابتهاج للكعبة ابتهاجا معنويا لأن التوجه في العبادة إليها، و الطواف حولها كاشف عن غاية عناية اللّه تعالى بها.

و هي نهاية الابتهاج لكل موجود، و يشهد له ما ورد في توجيه الموتى عند الدفن إلى الكعبة

ففي الحديث: «كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بمكة و أنه حضره الموت و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و المسلمون يصلون إلى البيت المقدس فأوصى البراء إذا

ص: 106

دفن أن يجعل وجهه تلقاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى القبلة فجرت به السنة».

بحث علمي:

للّه تعالى أسماء عبر عنها بالأسماء الحسنى، قال اللّه تعالى: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة الأعراف، الآية: 180]، و قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة طه، الآية: 8]. و قد وردت في شأنها و إحصائها أخبار كثيرة من الفريقين، سيأتي التعرض لها في محله إن شاء اللّه تعالى. و قد وضعوا في شرحها كتبا من العامة و الخاصة، و من تلك الأسماء المقدسة (الرؤوف)، كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و ورد في الآيات المتقدمة: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ . و اللفظ من صيغ المبالغة، و لا مبالغة بالنسبة إليه عزّ و جل؛ لأن صفاته الجمالية و الجلالية غير متناهية من كل جهة كذاته الأقدس، فالمبالغة من جهة الإضافة إلى المتعلق.

و الرؤوف من صفات الذات لا من صفات الفعل، و قابل للتشكيك شدة و ضعفا باعتبار المتعلق لا باعتبار الذات.

و الرأفة بالمعنى اللغوي لا يمكن إطلاقها عليه تعالى، و هي بمعنى اللطف بعباده و التساهل معهم، و لا تكاد تستعمل في الكراهة بخلاف الرحمة فإنها قد تكون في الكراهة للمصلحة. و لم تستعمل في القرآن الكريم - غالبا - إلاّ مقرونة مع الرحمة و مقدمة عليها كذلك في أغلب الدعوات المأثورة أيضا و هي أرق منها. فيكون من تقديم الخاص على العام، لأن الرحمة نحو محبة خاصة تستعمل غالبا في دفع المكروه و إزالة الضرر عن الغير.

و الرأفة تستعمل غالبا في إيصال النفع إليه، فيكون معنى قوله تعالى:

لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي يدفع المكاره و المضرات و يوصل المنافع و هما من مظاهر ربوبيته العظمى و قيموميته المطلقة على جميع ما سواه..

كما أنّ غالب استعمالاته إنما هو بالنسبة إلى ذوي العقول و العباد

ص: 107

و المؤمنين، و لم نجد في القرآن العظيم استعماله بالنسبة إلى سائر الخليقة من الحيوان و النبات.

و حقيقة معنى الرأفة مما يدرك و لا يوصف خصوصا إذا أضيفت اليه عزّ و جل، كسائر الصفات المضافة إليه تعالى، و جميع ما ذكره اللغويون و الأدباء و تبعهم المفسرون قول من وراء الحجاب لا يصلح لإزالة الشك و الارتياب، فحقيقتها مجهولة و إن كانت أخصيتها من مطلق الرحمة معلومة. و الرأفة تستعمل في المخلوق أيضا، قال تعالى: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور، الآية: 2]، و في بعض الدعوات المأثورة (يا أرأف من كل رؤوف)، و تأتي تتمة المقال في سائر أسماء اللّه الحسنى في المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ الآيات المباركة المشتملة على الرأفة على أقسام بعضها مطلقات، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 7]، و قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة الحشر، الآية: 10]. و بعضها الآخر ذكر فيه النّاس، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 143]. و في ثالث ذكر فيه العباد، قال تعالى: وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207]، و قد ذكر المؤمنين أيضا، قال جل شأنه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128]. و ليس ذلك من التقييد في شي ء، فإن ما سواه تعالى مورد رأفته و رحمته حدوثا و بقاء، و ذكر النّاس أو العباد، أو المؤمنين إما لأجل ذكر الفرد الأهم، أو لأجل بيان مراتب الرأفة الكثيرة. اما أن المرؤوف بهم أيضا كذلك.

بحث روائی:

القمي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. قال (عليه السلام): «تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس و بعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال (عليه السلام):

ص: 108

ثم وجهه اللّه إلى الكعبة، و ذلك أن اليهود كانوا يعيّرون على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقولون له: أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من اللّه في ذلك أمرا، لما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرائيل و أخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة، و أنزل عليه قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ . و كان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود و السفهاء:

ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها .

أقول: قريب منه ما رواه الشيخ في التهذيب إلاّ أن فيه: «و تسعة عشر شهرا بالمدينة».

و في الدر المنثور عن البراء «لما قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل اللّه تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ - الآية -. و قال السفهاء من النّاس - و هم اليهود - ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قال اللّه تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ .

و رواه البخاري عن عبد اللّه بن رجاء. و في صحيح مسلم نحوه إلاّ أن المدة ستة عشر شهرا.

أقول: الروايات في ذلك من طرق الخاصة و العامة متواترة في الجملة، و المشهور ان تاريخ الواقعة كان في النصف من شهر شعبان الشهر السابع عشر من الهجرة؛ و يأتي بعض الكلام في المباحث الآتية.

و في الكافي عن بريد العجلي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . قال (عليه السلام): نحن الأمة الوسطى، و نحن شهداء اللّه على خلقه و حججه في أرضه. قلت: قول اللّه عزّ و جل مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ . قال (عليه السلام): إيانا عنى خاصة هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت، و في هذا القرآن يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً . فرسول اللّه الشهيد علينا بما بلغنا عن اللّه عزّ و جل، و نحن الشهداء على النّاس، فمن صدّق صدقناه يوم القيامة، و من كذّب كذبناه يوم القيامة».

ص: 109

و في الكافي عن بريد العجلي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . قال (عليه السلام): نحن الأمة الوسطى، و نحن شهداء اللّه على خلقه و حججه في أرضه. قلت: قول اللّه عزّ و جل مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ . قال (عليه السلام): إيانا عنى خاصة هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت، و في هذا القرآن يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً . فرسول اللّه الشهيد علينا بما بلغنا عن اللّه عزّ و جل، و نحن الشهداء على النّاس، فمن صدّق صدقناه يوم القيامة، و من كذّب كذبناه يوم القيامة».

و في الكافي أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى:

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . قال (عليه السلام):

«نحن الأمة الوسط و نحن شهداء اللّه على خلقه».

أقول: الروايات في ذلك متواترة و ما ورد في الروايات فانه من باب التطبيق، و قد تقدم وجهه.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً إلى آخر الآية. قال (عليه السلام): «فإن ظننت أن اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا!! لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ، و هم الأمة الوسطى، و هم خير أمة أخرجت للنّاس».

و في المناقب عنه (عليه السلام): «إنما أنزل اللّه: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس و يكون الرسول شهيدا عليكم. قال (عليه السلام): و لا يكون شهداء على النّاس إلاّ الأئمة و الرسول. فأما الأمة فإنّه غير جائز أن يستشهدها اللّه و فيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا في حزمة بقل».

أقول: ذلك ظاهر لكل من تأمل في الجملة على الفرد، فكيف بالجماعة فضلا عن النّاس جميعا.

و في قرب الأسناد عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «مما اعطى اللّه أمتي و فضلهم على سائر الأمم الماضية أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلاّ نبي: و كان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على

ص: 110

قومه؛ و إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل أمتي شهيدا على الخلق حيث يقول: لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ - إلى آخر الحديث -».

أقول: لا بد من حمله على ما تقدم من الروايات المفصلة بقرينة ذكر التعليل فيها، بل المنساق من الرواية هي الأمة المسلمة فقط، كما مر.

و في تفسير العياشي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يصف فيه يوم القيامة، قال (عليه السلام): «يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إلاّ من أذن له الرحمن و قال صوابا، فيقام الرسول فيسأل، فذلك قوله تعالى لمحمد (صلّى اللّه عليه و آله): فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً . و هو الشهيد على الشهداء، و الشهداء هم الرسل».

أقول: وجه شهادته على جميع الرسل انه غاية الكل و الغاية مفضلة على ما سواها فهو مقدم عليهم علما، و إن كان مؤخرا عنهم في الوجود الخارجي، كما ثبت ذلك في علم الفلسفة.

عن الشيخ في التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «سألته عن قول اللّه عزّ و جل: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أمره به؟ قال (عليه السلام): نعم إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقلب وجهه في السماء فعلم اللّه ما في نفسه، فقال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ».

أقول: سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بالرواية.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ . قال (عليه السلام): «قال المسلمون للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ رأيت صلاتنا التي كنّا نصلي إلى بيت المقدس؟ فأنزل اللّه تعالى وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ - الآية - فسمى الصّلاة إيمانا، فمن اتقى اللّه عزّ و جل حافظا لجوارحه

ص: 111

موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض اللّه عليه لقى اللّه مستكملا لإيمانه من أهل الجنّة، و من خان في شيء منها، أو تعدى ما أمر اللّه فيها لقى اللّه تعالى ناقص الإيمان». و قريب منه في الكافي.

أقول: الحديث محمول على المرتبة الكاملة من الإيمان.

و في الدر المنثور: «كان من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ماتوا على القبلة الأولى جائت عشائرهم، فقالوا: يا رسول اللّه مات إخواننا و هم يصلون إلى القبلة الأولى و قد صرفك اللّه تعالى إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا؟ فأنزل اللّه وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ - الآية -».

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن اللّه عزّ و جل قال لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله) في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و اخشع ببصرك، و لا ترفعه إلى السماء - الحديث -».

أقول: الحديث وارد في آداب الصلاة. و يمكن أن يكون المراد بالفريضة أنها كانت منشأ جعل الآداب في الصّلاة، لا أن تلك الآداب مختصة بها فقط. و قد ذكر التفصيل في الفقه، فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) أيضا قال: «استقبل القبلة بوجهك و لا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن اللّه يقول لنبيه في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ».

أقول: تقدم ما يتعلق بالحديث.

و في أسباب النزول عن البراء قال: «صلينا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم اللّه عزّ و جل هوى نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ». و رواه البخاري عن

ص: 112

أبي نعيم، و رواه مسلم عن أبي الأحوص.

و في الفقيه: «أن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة و تسعة عشر شهرا بالمدينة - الحديث -».

أقول: الروايات في مدة الصّلاة إلى بيت المقدس مختلفة، و المشهور أنها سبعة عشر شهرا في المدينة و تأتي تتمة الكلام في بحث مستقل.

بحث فقهي:

الوارد في الآيات المباركة إنما هو لفظ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

و الشطر - في اللغة و العرف - جهة الشيء و نحوه، كما تقدم، و لم يبين الشارع الأقدس في هذا الأمر النوعي العام البلوى خصوصية خاصة غير لفظ الشطر و التولي و التحول و نحو، و أمثالها في السنة الشريفة، و المرجع في معاني هذه الألفاظ هو العرف، لأنه المحكم في كل ما لم يرد فيه تحديد شرعي، كما هو المتبع في الفقه. و ما ورد من العلامة في القبلة من الجدي و نحوها - كما ذكر في الفقه - مجملة أيضا ليس لها كلية و ليس من عادة الشرع الإيكال إلى مثله في الأمور العامة البلوى، فهو أيضا من قرائن كون الموضوع عرفيا، فلا يعتبر إلاّ صدق التوجه و التولي شطر القبلة عرفا من دون الابتناء على الدقة العقلية، و لأجل ذلك ذهب جمع من الفقهاء إلى جواز الاعتماد على ما يصممه خبراء الهيئة الموثوق بهم في تعيين القبلة.

ثم إنّ المعروف بين المسلمين أنّ القبلة هي الكعبة، و قد دلت عليه الأخبار المتواترة بين الفريقين،

ففي صحيح البخاري عن ابن عمر، أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ركع ركعتين في قبل الكعبة، و قال (صلّى اللّه عليه و آله) هذه القبلة».

و في جوامع أخبار العامة في حديث تحويل القبلة أنه كان الى الكعبة.

و أما عن الخاصة فقد وردت أخبار كثيرة تدل على أن الكعبة هي القبلة، و في أكثرها أن الكعبة هي القبلة المحول إليها،

ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان يصلي في المدينة إلى بيت

ص: 113

المقدس سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة»،

و في رواية أخرى «أنها قبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء».

و إنّما ذكر المسجد الحرام في الآيات الشريفة لأجل إظهار شأنه و عظمته للنّاس، مع إطلاق المسجد على الكعبة أيضا، اطلاق الكل على الجزء، فيجمع بين ما دل على التوجه الى المسجد و المتواترة الدالة على أن القبلة هي الكعبة أن المسجد الحرام ذكر بعنوان الطريقية الى الكعبة المقدسة.

و في بعض الأخبار: «أن الكعبة قبلة لأهل المسجد، و المسجد قبلة لأهل الحرم، و الحرم قبلة لأهل العالم» و لا معنى لذلك إلاّ الطريقية الصرفة، و المسألة فقهية تعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام].

بحث أدبي:

قد وردت «اللام» في خمسة موارد من الآيات الشريفة المتقدمة مما زاد في بلاغتها و جمالها:

(الأول): لام التعليل في قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . المعبر عنها في اصطلاح الأدباء بلام «كي».

(الثاني): لام الابتداء.

(الثالث): لام تأكيد الإثبات في قوله تعالى: وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ .

(الرابع): لام تأكيد النفي في قوله تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ .

(الخامس): لام القسم في قوله تعالى: اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، و قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ .

و «قد» في قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ للتكثير كما في قول الشاعر:

قد أشهد الغارة الشعواء تحملني *** جرداء معروفة اللحيين سرحوب

ص: 114

و «كان» في قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها منسلخة عن الزمان، و إنما جيء بها لبيان أنه (صلّى اللّه عليه و آله) صاحب القبلتين، و ليترتب عليه قوله تعالى: إِلاّ لِنَعْلَمَ فلا تنافي بين ظواهر الآيات المباركة، كما زعمه بعض المفسرين.

و قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مؤكدة بأنحاء التأكيدات المحاورية من لام القسم، و إن الشرطية الظاهرة في فرض التحقق فضلا عن أصله، ثم لام التأكيد، ثم تعريف الظالمين و الجملة الاسمية و غير ذلك.

ثم إنّ المعروف بين الأدباء و تبعهم المفسرون: أن أدوات الشرط مثل «إن» و «لو» و نحوهما تدل على عليّة المقدم للتالي، أي: انتفاء التالي عند انتفاء المقدم، و رتبوا على ذلك ثبوت المفهوم للجمل الشرطية على ما فصل ذلك في علم الأصول. و هذا من موارد اشتباه العنوان الكلي ببعض المصاديق الخارجية، فإن أدوات الشرط مطلقا، و ما يرادفها من سائر اللغات لا يستفاد منها إلاّ جعل متلوها مورد الفرض و التقدير، و الترتب بأي قسم من أقسامه. و أما خصوص ترتب المعلول على العلة فلا بد في استفادته من التماس دليل آخر عقلا، أو نقلا فضلا عن العلية التامة المنحصرة.

و في المقام يدل العقل و النقل على أن متابعة الهوى بعد ظهور الحق، و ثبوته ظلم فيكون أصل الترتب ظاهرا من سياق الجملة، و العلية التامة المنحصرة ثبتت بالدليل العقلي و النقلي، بل من ظاهر التأكيد في الآية المباركة بلام القسم، كما عرفت.

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) ا.......

اشارة

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا

ص: 115

تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) هذه الآيات مرتبطة مع سابقتها فيما يتعلق بتشريع القبلة و أن أهل الكتاب أيضا يعرفون الحق، و أن الكعبة هي القبلة، و قد أقام سبحانه و تعالى الحجة عليهم بأتم حجة و أبلغ بيان، ثم بيّن تعالى أن كلا منهم متعبد بشريعته و أن القبلة من الأمور المعتادة عندهم و أمرهم بالاستباق إلى الخيرات و التسليم لأمره ثم أمر نبيه و أمته باستقبال الكعبة أينما كانوا و الخشية منه، و أخيرا ذكر سبحانه و تعالى أن تشريع القبلة إنما كان لأجل إقامة الحجة على النّاس، و بطلان حجة الخلاف و التمييز بين الحق و الباطل، و بذلك أتم نعمته عليهم.

التفسير

قوله تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ . هذه الآية بيان لقوله تعالى: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ . أي أنّ علمهم بالحق و معرفتهم به إنّما هو لأجل معرفتهم بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و صفاته؛ كما نطقت بها كتبهم بحيث لا تنطبق على غيره فلا يبقى مجال للشك فيه.

فكما أن القران العظيم يشتمل على ذكر الأنبياء السابقين (عليهم السلام) خصوصا أولي عزمهم، و على ذكر الكتب السماوية و لا سيما التوراة و الإنجيل - كذلك شأن سائر الكتب السماوية فإنها تشتمل على ذكر نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و نعوته و صفاته، بل الاسم الذي سمي به، لأن المبدأ و المعاد في الجميع واحد، و أنهم جميعا يشتركون في الدعوة إلى معبود واحد، و متفقون في الغرض من دعوتهم، فلا بد أن يبشر السابق باللاحق، و أن يذكر اللاحق حالات السابق، و أن ينوّه باسمه و يذكّر أمته بما جرى عليه و على أمته، و هذه سنّة اللّه تعالى في الإنسان، بل ذلك من مقتضيات المجتمع

ص: 116

الإنساني الذي يهتم بحفظ المجتمع و وحدته، و يعتني بأفراده بحيث يجعل الجميع كنفس واحدة في ما لهم و ما عليهم، فالآية المباركة تبين الحكم الفطري في المجتمعات في أن كل سابق يخبر باللاحق؛ و الأخير يؤيد السابق حتّى تتحقق الوحدة الاجتماعية و يبقى التآلف و الترابط بين أفراد المجتمع قائما.

و المستفاد من سياق الآية أن الضمير في قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ راجع إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنه (صلّى اللّه عليه و آله) مذكور في الكتب السماوية بأوصافه، و نعوته، و حالاته، و يشهد له التشبيه في قوله تعالى: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ .

و يستفاد من الآية المباركة أمور:

أحدها: إنها تشير إلى أنهم نشأوا على معرفة بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) كما ينشأ الأب على معرفة ابنه و إن غاب عن أبيه مدة طويلة، و هو مقتضى إتمام الحجة عليهم.

ثانيها: إنها تشير إلى وجود المعرفة القلبية التكوينية لو لم يمنعها اللجاج و العناد.

ثالثها: إنها تشير إلى قبح الإنكار بعد وضوح الأمر.

رابعها: إنها تشير إلى أنّ الابن لمّا كان نتيجة سعي الوالدين و جهودهما، كذلك تكون شريعة خاتم الأنبياء نتيجة خلق العالم، و جهود الأنبياء و المرسلين، و سعي الأمم الماضين، و هو مقتضى السير التكاملي في الإنسان.

خامسها: الإشارة إلى الترغيب إلى لزوم العناية بشأن خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) كما يعتني الآباء بالأبناء نتيجة أعمارهم.

ثم إن عود الضمير إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يلازم معرفة أحكامه إجمالا، و انها من اللّه تعالى. و من ذلك يعرف أنه لا وجه للنزاع في أن الضمير في قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ يرجع إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، أو إلى

ص: 117

تحويل القبلة، أو إلى الكتاب لأن مرجع الكل إلى واحد على نحو الإجمال.

قوله تعالى: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ . المراد بالحق هنا هو ما بيّنه اللّه تعالى في الكتب السماوية من أوصاف النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و نبوته، و جملة كثيرة من معارف الإسلام و شريعته التي منها قبلته.

و نسب الكتمان إلى فريق منهم دون الجميع، لأنهم بين معترف بالحق و مؤمن بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و بين من شهد بالحق و عانده عن لجاج و عناد، و بين من جحده عن جهل لا يعلم شيئا من كتبهم، و قد تقدم في الآيات السابقة بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى: اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . الحق: يشمل إرادته تعالى التكوينية و التشريعية، فهو تعالى حق، و لا حق إلاّ منه.

و قد استعمل (الحق) في القرآن الكريم بوجوه من الاستعمالات.

فتارة: ينسب الحق إلى ذاته الأقدس، و هو تعالى حق في ذاته و بذاته قال تعالى: فَذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ [سورة يونس، الآية: 32].

و أخرى: ينسبه إلى صفاته العليا، قال تعالى: هُنالِكَ اَلْوَلايَةُ لِلّهِ اَلْحَقِّ [سورة الكهف، الآية: 44].

و ثالثة: إلى أفعاله المقدسة، قال تعالى: وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ [سورة الأحزاب، الآية: 3]، و قال تعالى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ [سورة الكهف، الآية: 21].

و رابعة: إلى نفس القرآن العظيم؛ قال تعالى: وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتابِ هُوَ اَلْحَقُّ [سورة فاطر، الآية: 31] و قال تعالى: اَللّهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ [سورة الشورى، الآية: 17].

و خامسة: إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و دينه، قال تعالى: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ [سورة الفتح، الآية: 28]، و قال

ص: 118

تعالى: إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ [سورة فاطر، الآية: 24].

و الحق إذا أطلق لا يمكن الإحاطة بجميع جوانبه و نواحيه، و لا بد من الخضوع لديه و التسليم له، و هذا هو معنى الحق المطلق الذي قال عنه بعض فلاسفة الغرب المحدثين: «إذا قيل اللّه يعني الحق الواقع من كل جهة». و للعلماء و الفلاسفة في هذا الموضوع تعبيرات مختلفة نظما و نثرا، و المتفق بينهم - كما صرح به المعلم الأول - و هو صريح الكتب السماوية و الأحاديث الواردة في السنّة الشريفة: أن الحق لا بد أن يصدر منه تعالى فهو حق بذاته و في ذاته، و لا حق إلاّ منه عزّ و جل. و هذا مما لا مرية فيه.

و مادة (م ر ي) تأتي بمعنى التردد. فما ذكره الخليل من أنها في الأصل مسح ضرع الناقة للحلب. فهو من تفسير المفهوم بالمصداق لأن مسح الضرع للحلب يستلزم تردد الماسح لا محالة.

و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ [سورة السجدة، الآية: 23]، و قال تعالى: وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [سورة الحج، الآية: 55]. و المراء اللجاج، و في الحديث: «أترك المراء و إن كنت محقا».

و الحق في الآية الشريفة من استغراق الجنس أي: أن كل حق في الممكنات إنما هو من اللّه تعالى و يكون تطبيق هذه الكلية على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قهريا، فتصير النتيجة أنت بجميع شؤونك حق فلا يعقل الامتراء في ما هو من اللّه تعالى.

و الخطاب و إن كان موجها إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلاّ أن المراد به غيره، كما تقدم في قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ . و نظير هذه الآية كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ [سورة الفتح، الآية: 2]؛ و مثل هذا الخطاب مألوف عند النّاس فإن الملوك إذا

ص: 119

نصبوا شخصا لإدارة الرعية فإنهم يجعلونه مورد خطابهم مع الرعية في ما لهم و ما عليهم، و على ذلك جرى خطاب القرآن الكريم للرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و يمكن أن يكون الوجه في المقام هو تسلية النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عما لاقاه في أمر القبلة من أهل الكتاب، و المنافقين، فيكون النهي عن صفة باعتبار عدم المنشأ لها أبدا، و لذلك أيضا نظائر كثيرة في المحاورات. أو أن المراد به تذكير المؤمنين لئلا يقعوا في شرك المخادعين و المنافقين و تضليلهم.

قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ . الوجهة:

الجهة. و الهاء في آخرها عروض عن الواو، و هي بمعنى ما يتوجه إليه كالقبلة لما يستقبل إليه.

و السبق: التقدم، و ما يحصله السابق من سبقه؛ و يستعمل في إحراز كل فضيلة، و منه قوله تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلسّابِقُونَ أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 10]،

و قول علي (عليه السلام): «ألا إنّ السبقة الجنّة، و الغاية النار». لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب و غرض مطلوب لا محالة، و لا محبوب إلاّ و الجنّة أعلى منه، و الغاية ما ينتهى إليها و لو لم تكن محبوبة أو مطلوبة، بل و لو كانت مبغوضة.

و قد استعمل الفعل متعديا بنفسه لا أن يكون المفعول منصوبا بنزع الخافض، كما في قوله تعالى: وَ اِسْتَبَقَا اَلْبابَ [سورة يوسف، الآية: 25]، و قوله تعالى: فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ [سورة يس، الآية: 66].

و الخيرات جمع خير، و هو أعم من العمل الصالح، و البر. و معناه - كلفظه - مرغوب كل فرد، و مطلوب كل إنسان، فيكون كلفظ الكمال و العقل في محبوبية اللفظ و المعنى عند الجميع، و قد استعمل في القرآن الكريم في ما يقرب من مأة و ثمانين موردا. و في غالب الاستعمالات يكون اسما، كقوله تعالى: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّهُ لِلنّاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ [سورة يونس، الآية:

11]، و قد يستعمل وصفا يتضمن معنى أفعل التفضيل، قال تعالى: فَما آتانِيَ اَللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ [سورة النمل، الآية: 36] و هو كثير أيضا. و ربما يتردد اللفظ بين كونه اسما أو وصفا، فيحكم بكونه اسما لأن الصفتية تحتاج الى مؤونة زائدة و عناية خاصة.

ص: 120

11]، و قد يستعمل وصفا يتضمن معنى أفعل التفضيل، قال تعالى: فَما آتانِيَ اَللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ [سورة النمل، الآية: 36] و هو كثير أيضا. و ربما يتردد اللفظ بين كونه اسما أو وصفا، فيحكم بكونه اسما لأن الصفتية تحتاج الى مؤونة زائدة و عناية خاصة.

و يستعمل تارة: في مقابل الشر، كقوله تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: 35]. و في مقابل الضر أخرى، قال تعالى: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [سورة يونس، الآية: 107].

و هو من الأمور الإضافية التي لها عرض عريض جدا، فأطلق في القرآن بالنسبة إليه تعالى، قال سبحانه: وَ اَللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة طه، الآية: 73]. و بالنسبة إلى الممكنات جواهرها، كقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ [سورة البينة، الآية: 7]. و أعراضها سواء كانت من أعمال الجوارح أم أفعال القلوب أم نفس المعتقدات.

و لم يبيّن سبحانه في هذه الآية الخيرات، لأن لها مراتب كثيرة غير متناهية تتصل بخير الآخرة التي هي غير متناهية، قال تعالى: وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ [سورة الأعراف، الآية: 169]،

و قال علي (عليه السلام): «و ما خير بخير بعده الجنّة، و ما شرّ بشر بعده النّار».

و قد عد اللّه سبحانه بعض المصاديق في القرآن الكريم، كالآخرة قال تعالى: وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة الأعلى، الآية: 17]، و الإيمان قال تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [سورة النّساء، الآية: 170]، و التقوى قال تعالى:

فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى [سورة البقرة، الآية: 197]، و الرزق قال تعالى: وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة طه، الآية: 131]، و الصدقة قال تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 280]، و الصيام قال تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 184]، و الصبر قال تعالى: وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة النساء، الآية: 25]، و الصلح قال تعالى: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء، الآية: 128]، و الباقيات الصالحات

ص: 121

قال تعالى: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 46]، و تعظيم حرمات اللّه قال تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [سورة الحج، الآية:

30] إلى غير ذلك.

و يستفاد من مجموع ذلك أن كل ما يقرب إلى اللّه تعالى و كان صالحا للإنسان في الدنيا و العقبى فهو من الخير، كما يظهر من السنة الشريفة أن الجامع بين الخيرات ما طلب فيه رضاء اللّه تعالى،

فعن الصادق (عليه السلام): «ليس الخير أن يكثر مالك، و ولدك، و لكن الخير أن يكثر عملك، و أن يعظم حلمك، و أن تباهي الناس بعبادة ربك». و من ذلك يظهر أن الاستباق الى الخيرات مما يحمده جميع العقلاء، فالآية إرشاد إلى طريق العقلاء، لا أن تكون تعبدية شرعية.

و معنى الآية: ان اللّه تعالى جعل لكل أمة شريعة خاصة و منهاجا معينا لا بد من متابعته؛ و المبادرة إلى الحق و متابعته لتحقيق المسارعة إلى الخيرات التي هي الغرض الأقصى من تشريع الشرائع.

و نظير المقام قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ [سورة المائدة، الآية: 48]. و إذا كانت الشرائع الإلهية تناسخ بعضها بعضا فلا بد من المسارعة إلى ما هو خيرها و هو الشريعة الناسخة لا المنسوخة.

و يمكن أن يراد بقوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ المعنى العام الشامل للجهات التكوينية و الاختيارية - عادية كانت أو شرعية - فإن كل فرد من أفراد الإنسان يختلف عن غيره بأمور و خصوصيات قد لا تكون في ما سواه و لا يحيط بها إلاّ علام الغيوب، فتشمل اختلاف العادات و الملكات و الصفات، و الاختلاف في القبلة و الشريعة. و إنما يسعى الإنسان لنيل هدفه و تحصيل غرضه باختياره، فأمر سبحانه و تعالى أن يكون سعي الإنسان إلى الحق و المبادرة إلى الخيرات، فإنّ به يتحقق الاتحاد في المجتمع و به يرتفع الاختلاف و التعاند إذا كان الغرض محبوبا لدى الجميع بعد ما كان فيه الصلاح و الخير، و إلى ما ذكرناه

ص: 122

تشير الآية الكريمة: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ [سورة المائدة، الآية:

48].

و لذلك رغب سبحانه و تعالى في القرآن الكريم بالاستباق إلى الخيرات و المغفرة، قال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الحديد، الآية: 21]، و قال تعالى: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 61].

و مما ذكرناه يظهر الوجه في جعل نفس الخيرات، و المغفرة، أو الصراط سبقا (بفتح السين و الباء) للإعلام بأنها هي الغاية المطلوبة، و الهدف المرجو في المسابقة.

قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً . أينما: ظرف مكان يدل على العموم و يتضمن معنى الشرط و جوابه يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ ، و اللفظ شامل لجميع الحالات الممكنة الواردة على الإنسان و جميع التبدلات الحاصلة له من الجمع و التفرق و نحوهما، و جميع ما يرد عليه من التقلبات و الاستحالات من جوهر إلى جوهر، أو صفة إلى أخرى.

فهذه الجملة من أبرز مظاهر قيمومته و إحاطته على ما سواه عزّ و جل؛ و ذلك من شؤون القهارية و القدرة المطلقتين؛ كما في قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [سورة النساء، الآية: 78]؛ و قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4] و الآية نظير قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّماواتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّهُ [سورة لقمان، الآية: 16]. و جميع ما سواه عزّ و جل في مقابل عظمته و قدرته و قيمومته أصغر من حبة الخردل بل لا وجه لملاحظة النسبة بين المتناهي و غير المتناهي.

و ترتب الآية على قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ من قبيل ترتب الجزاء على الشرط، أي: انكم ترون نتائج استباقكم بأنفسكم؛ فتشمل

ص: 123

الحشر.

و المعنى: ان اللّه تعالى يأت بكم أينما تكونوا و يجمعكم يوم القيامة للحساب و الجزاء و لا يعجزه شيء عن ذلك.

و سياقها و إن كان يدل على الجمع ليوم الحساب و لكن ذلك لا ينافي عمومها المنطبق على مصاديق كثيرة، كما عرفت آنفا، فيصح أن تنطبق على يوم ظهور العدل العملي في هذا العالم المعبّر عنه في السنة المقدسة المتواترة بيوم ظهور المهدي الموعود، و استشهد بها الأئمة (عليهم السلام) لذلك، كما سيأتي في البحث الروائي.

و في الآية الشريفة التأكيد البليغ على أمر القبلة و التوجه إليها في جميع الحالات. و فيها من التوعيد للعاصين و الوعد للمطيعين، كما لا يخفى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . و هو برهان للآية السابقة.

و في هذه الآيات - على اختصارها - إشارة إلى علوم:

منها: علم معرفة النفس و أسرارها الذي قد يفيضه اللّه تعالى الى بعض أوليائه، و قد وضعت كتب و رسائل فيه.

و علم الأخلاق و الاجتماع اللذان هما من أهم العلوم الإنسانية.

و علم المبدأ و المعاد و هما من أهم العلوم في الشرائع السماوية بل عليهما تدور المعارف الإلهية، و للقرآن الكريم كليات في هذه العلوم يأتي التعرض لها في محالها.

قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

كلمة «حيث» تستعمل في المكان، و الجملة التي بعدها تكون بيانا لها، نظير «أين» إلاّ أن الأولى أعم من الثانية؛ فإن الأخيرة لوحظ فيها السؤال عن المكان بخلاف الأولى. كما أن في لفظ «متى» لوحظ فيه السؤال عن الزمان، بخلاف «حين» الذي هو في الزمان كلفظ «حيث» في المكان.

و تستعمل «حيث» في مطلق التحيز، و يشهد له حديث نفي الصفات عنه

ص: 124

تبارك و تعالى،

قال (عليه السلام): «كيف أصفه بحيث، و هو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا»،

و في بعض الأخبار: «و هو الذي أيّن الأين و أوجده».

و في مثل هذه الأحاديث إشارة إلى رد ما أثبته أكابر الفلاسفة من عدم الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها، كما يأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.

و المعنى: أنه من أيّ مكان خرجت و إلى أية جهة توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام.

و قد تكرر قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ في هذه الآيات المباركة، و ذلك لأن الكعبة المقدسة قبلة لأهل العالم، و العالم متقوم بالمكان و الزمان و الجهة و يمكن أن تكون كل جملة إشارة إلى خصوصية من تلك الخصوصيات الثلاث، و من ذلك تعدد جهات الخروج من المشرق و المغرب، و الشمال و الجنوب، و في جميع الأمكنة من البر و البحر و الجو.

مع أن مخالفة اليهود و النصارى تستلزم التأكيد و التكرار، و بيان ان هذه القبلة على خلاف قبلة أهل الكتاب في أنه يمكن التوجه إليها من جميع بقاع الأرض المختلفة شرقا و غربا، شمالا و جنوبا.

قوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ . تثبيت للمطلب و تأكيد للموضوع من وجوه أربعة: «إنّ»، و «لام» التأكيد، و لفظ «الحق» و جملة «من ربك».

و الضمير في «أنّه» يرجع إلى التوجه إلى المسجد الحرام، و سياق الكلام يدل على أنه كان حقا أزلا و هو كذلك أبدا؛ و ان كل توجه في العبادة بخلافه يكون باطلا، و لذا أوعد اللّه تعالى على من خالف ذلك.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . أي أنّ اللّه ليس بغافل عن أعمالكم، لأنه عالم بما سواه حتّى خطرات القلوب و لحظات العيون فلا يتوهم الغفلة بالنسبة إليه مع هذا الحضور الفعلي و الاستيلاء المطلق على كل شيء، و هو المهيمن على الجميع، فهو الذي يتولى الجزاء على أعمالكم خير الجزاء.

ص: 125

قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ . يمكن أن يكون التكرار، لأجل أن الآية السابقة تحمل على المحال القريبة من المسجد الحرام، و الثانية على المحال البعيدة حتّى نفس بيت المقدس و الأخيرة على تمام الربع المسكون، و يمكن الحمل على حالتي الحضر و الذهاب إلى السفر و الإياب منه.

و الابتداء بالخطاب للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فانه و إن كان كافيا في عموم التكليف، إلاّ أنه أراد سبحانه التأكيد بالنص و بيان أهمية الموضوع، و لترتيب ما سيأتي. و الضمير في قوله تعالى: وُجُوهَكُمْ يرجع إلى جميع المسلمين باعتبار وجود النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيهم.

و كان النّاس في زمان تحويل القبلة طوائف ثلاث: اليهود، و النصارى، و المشركين، و الأولان كانا يعترضان عليه (صلّى اللّه عليه و آله) بأنه إذا كان نبي آخر الزمان فلما ذا لا يصلي إلى الكعبة المقدسة؟ و لم يصلي إلى قبلتنا؟ و المشركون كانوا يعترضون عليه بأنه لماذا يصلي إلى بيت المقدس مع أن الكعبة أقدم و أقدس؟ ثم الاعتراض أخيرا من المنافقين بأنّه ما الفائدة في هذا التشريع؟ فذكر سبحانه و تعالى أمورا ثلاثة لبيان حكمة التشريع و الفائدة منه، و الجواب عن اعتراض المعترضين و دفع شبه المنافقين.

قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ . هذا هو الأمر الأول. اللام لتعليل تحويل القبلة و تغييرها، أي: لئلا يكون للمحاجين - و هم الطوائف المتقدمة - عليكم حجة و سلطان.

و مما تقدم يعرف انتفاء حجتهم؛ لأن صلاة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس ظاهرا كانت لمصالح ظاهرية و بذلك اندحضت حجة الفريقين.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ . يصح أن يكون الاستثناء متصلا، إن عممنا المستثنى منه إلى الأعم من الحجة الواقعية و الحجة الاعتقادية الحاصلة عن العناد و اللجاج.

ص: 126

فيكون المعنى: لئلا يكون للنّاس عليكم حجة إلاّ حجة الظالمين الحاصلة عن اعتقادهم و ظلمهم و محاجتهم بعد ظهور الحق، نظير قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اُسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة الشورى، الآية: 16].

كما يصح أن يكون الاستثناء منقطعا إن خصصنا المستثنى منه بخصوص الحجة الصحيحة، فيحتاج الكلام إلى مقدمة مطوية، و هي انه إن كان على المؤمنين حجة، فهي لا تكون إلاّ من الظالم، و لا حجة للظالم فليس عليهم حجة مطلقا، فان الظالم لا ينقطع عن اللجاج و العناد و الإحتجاج حسب الأهواء الباطلة و الآراء المزيفة و ما يمليه عليه ظلمه. و مثل هذا متعارف في المحاورات الفصيحة، قال النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي: لو كان فيهم عيب فهذا عيبهم، و هو ليس بعيب إذا لا عيب فيهم مطلقا.

قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي . الخشية: هي الخوف المشوب بالتعظيم و إنّها أعم موردا من مطلق الخوف، لإطلاقها على الجمادات، قال تعالى: وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 74]. و أخص منه مفهوما لأنها مشوبة بالتعظيم.

و المعنى: لا موضوع لخشيتهم لفرض بطلان طريقتهم فتنحصر الخشية من اللّه تبارك و تعالى، لأنه الحق و الخشية لا بد و ان تكون من الحق.

قوله تعالى: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ . هذا هو الأمر الثاني، و التمام:

انتهاء الشيء و كماله بحيث لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، و يستعمل بالنسبة الى جميع الأمور المادية - جواهرها و أعراضها - و الأمور المعنوية، قال تعالى:

وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة، الآية: 23].

ص: 127

و مادة (نعم) تأتي بمعنى الحالة الحسنة، و تستعمل بالنسبة إلى الإنسان فقط دون غيره، و في جميع حالاته و نشآته في الدنيا و الآخرة و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و قد ذكرت هذه الجملة في موارد من القرآن الكريم، قال تعالى:

وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة، الآية: 6]، و قال تعالى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [سورة النحل، الآية: 81] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. و نعم اللّه تعالى كثيرة لا يمكن عدها، و هي إما معنوية أو مادية أو هما معا. و تكاليف اللّه سبحانه و تعالى من النّعم على الإنسان فإنها تقع في طريق استكماله و ما يترتب عليها من الفوائد.

و تمامها إنما يكون لأجل انها تقع في سبيل سعادة الإنسان في الدارين و ارتقائه إلى درجات الكمال،

و في الحديث عن علي (عليه السلام): «تمام النعمة الموت على الإسلام»،

و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «تمام النعمة دخول الجنّة».

و المنساق من إتمام النعمة في المقام - بعد جعل الإمامة و بناء البيت - استقلال المسلمين بقبلة تخصهم، و تطهير دينهم من آثار الشرك و الضلال، و استيلاء المسلمين على غيرهم بالحجة و البيان إلى غير ذلك من النّعم التي أراد سبحانه جعلها حكمة لتشريع تحويل القبلة.

و ذكر بعض المفسرين أنّ في هذه الآية بشارة إلى فتح مكة، لأنه عزّ و جل ذكر في سورة الفتح، الآية 2: وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً و قد ذكرت - بعد الفتح - النصرة منه تعالى. و القرينة على ان المراد من النعمة ذلك قوله تعالى بعد ذلك: وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ نَصْراً عَزِيزاً .

و لكنه مخدوش بأن مجرد التشابه اللفظي في الموضعين لا يوجب اتحاد النعمتين في الموردين إلاّ مع قرينة خاصة. نعم لو أريد تشابه النعمة في مطلق جنسها فهو صحيح لا اشكال فيه، إلاّ انه خلاف ظاهر كلامه.

ص: 128

قوله تعالى: وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . هذا هو الأمر الثالث. و كلمة «لعل» بمعنى التوجي في جميع الموارد إلاّ أنه بالنسبة إليه عزّ و جل يكون بداعي المحبة و الإيجاب لا بداعي الترجي الحقيقي حتّى يكون محالا عليه عزّ و جل، لأنه الكامل في ذاته و بذاته و لا يعقل النقص بالنسبة إليه تعالى، و التمني و الترجي إنما يتصوران بالنسبة إلى الناقص و أما إذا كانا بدواع أخرى غير داعي وقوع حقيقيّهما فلا محذور بالنسبة إليه عزّ و جل. و تستعمل في القرآن الكريم في كل فعل من أفعال الإنسان و كل غاية يقصدها باختياره.

هذه هي الغايات الشريفة في أمر القبلة و التعبد بها و كل غاية تشير إلى جانب من جوانب هذا الجعل الإلهي: جانب الحجة و الإحتجاج مع المخالفين و المعاندين و قطع حجتهم، و الجانب المادي و الفوائد التي يتوخاها الإنسان، و الجانب المعنوي و الروحي من التكاليف.

و كل واحد من هذه الغايات الشريفة و المنافع الجليلة قد ذكرت في جملة من الآيات الكريمة، و بذلك تتم نعمته على المسلمين و يظهر عظيم لطفه بهم في هذا التكليف.

بحوث المقام

بحث أدبي:

الشايع في المحاورات أن الاستثناء من الإثبات نفي و من النفي إثبات، و جرى عليه نظم القرآن الكريم، كما في قوله تعالى فيما تقدم من الآيات الشريفة إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ و لذلك تدل كلمة التوحيد على نفي الشرك و إثبات الوحدانية له تعالى.

و المعروف بين اللغويين و غيرهم أنّ كلمة «إلاّ» تستعمل في الاستثناء المتصل و المنقطع، و تأتي بمعنى «لكن» و «غير» أيضا و المرجع في التعيين القرائن المعتبرة، و إذا كانت بمعنى «غير» تكون صفة. و قالوا: إنّ الأصل في «إلاّ» أن تكون استثناء و الصفة عارضة، للقرينة، كما أنّ الأصل في «غير» أن تكون صفة و الاستثناء عارض، و في القرآن الكريم أمثلة على ذلك يأتي التعرض لها في محالها.

ص: 129

ثم إنّه وقع الالتفات في الآيات الكريمة المتقدمة بأنحاء.

و هو: أسلوب كلامي يظهر غالبا في كلام العظماء و الملوك عند تكلمهم في مجلس واحد عن قضايا كثيرة على حسب سعة نفوذ أمرهم و سلطانهم، فينتقلون من الحاضر الى الماضي، أو إلى المستقبل، أو إلى الأمر و النهي و قضايا متعددة، فهو يدل على كثرة نفوذ كلام المتكلم وسعة مقصده.

و الحكمة فيه إثارة العقول إلى ما يتحقق من الحكمة و الإتقان و التدبر، و به يتحقق النظم البليغ، لأنه نقل الكلام و تغييره من حالة إلى أخرى، فهو من محاسن الكلام و بدائعه و يهتم الأدباء به اهتماما بليغا، كما وقع ذلك في القرآن الكريم كثيرا.

و المشهور بينهم انه يشترط فيه شروط ثلاثة:

أحدها: أن يكون الانتقال على غير ما يقتضيه الكلام الظاهر، أي أنّ مقتضى الظاهر أن يكون التعبير بغير الالتفات فينتقل إليه.

ثانيها: أن يكون الضمير في المنتقل اليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه، بخلاف ما إذا كان كل واحد من الضميرين يرجع إلى واحد من اثنين، كما في قول: «أنت صديقي».

ثالثها: أن يكون في جملتين.

و هو عند أهل المعاني و البديع على أنواع:

الأول: تعقيب الكلام بجملة مستقلة بعد ما فرغ المتكلم من المعنى تتلاقى الجملة الأخيرة مع الأولى في المعنى على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما، مثل قوله تعالى: وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [سورة الإسراء، الآية: 81]، و قوله تعالى: ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 127]، و هو على سبيل الدعاء.

الثاني: أن يذكر المتكلم معنى فيتوهم ان السامع اعترض في قلبه شيء فليتفت في كلامه ليزيل ما وقع في قلبه من شك و نحوه ثم يرجع الى

ص: 130

مقصوده، كما في قول الشاعر:

فلا صرمه يبدو و في اليأس راحة *** و لا ودّه يصفو لنا فنكارمه

فإن في قوله: «فلا صرمه يبدو» إيهاما بأنه يريد هجر المحبوب إياه و هو غير لائق، فقال: «و في اليأس راحة» فكان هذا عذرا.

الثالث: التفات الضمائر و هو أن يقدر المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما ثم ينصرف عن الإخبار عنه إلى الأخبار عن الثاني ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، نحو قوله تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات، الآية:

6].

الرابع: بناء فعل للمفعول بعد خطاب فاعله او تكلمه؛ نحو قوله تعالى: غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الحمد، الآية: 7] بعد قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فان المعنى غير الذين غضبت عليهم.

الخامس: الانتقال من المذكر إلى المؤنث أو العكس على طريقة الالتفات.

السادس: انتقال الكلام من خطاب الواحد او الإثنين أو الجمع إلى الآخر، و هذا على أقسام - كما يأتي - نحو قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87]، فاتسع في الخطاب فثنى ثم جمع ثم وحد، و نحو قوله تعالى: وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس، الآية: 22] فانه عدول عن خطاب الواحد إلى خطاب الجماعة.

السابع: التفات الأفعال، و هو الانتقال من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر و هو على أقسام أيضا و هذا كثير في القرآن الكريم و فيه لطائف دقيقة.

الثامن: الانتقال في الكلام من كل من التكلم و الخطاب و الغيبة إلى آخر و هو أشهر ما عرف في الالتفات عند علماء الأدب، و يكون ذلك على

ص: 131

أقسام ستة:

الأول: من التكلم إلى الخطاب، نحو قوله تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ [سورة الأنعام، الآية: 71].

الثاني: الالتفات من التكلم إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ [سورة الفتح، الآية: 1].

الثالث: من الخطاب إلى التكلم، كقوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ [سورة الأنعام، الآية: 114].

الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [سورة يونس، الآية: 22].

الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، قال تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ - إلى قوله تعالى - إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة، الآية: 4].

السادس: من الغيبة إلى التكلم، قال تعالى: وَ اَللّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [سورة فاطر، الآية: 9].

و للالتفات فوائد كثيرة مستفادة من الجملة الواقع فيها تليق بذلك الكلام الخاص، و تختلف باختلاف المقامات، فمنها دفع ما يشتمل الكلام على سوء أدب بالنسبة إلى المخاطب بالالتفات إلى الغائب. و منها توبيخ الحاضر لأنه أبلغ في الإهانة فيلتفت إلى الخطاب. و منها الالتفات إلى الماضي لإظهار الاستمرار، أو الالتفات إلى المستقبل للدلالة على الكثرة و التلبس بالفعل في كل وقت. و منها الالتفات إلى المضارع في مورد الماضي لأنه أبلغ و آكد و أعظم وقعا. و منها الالتفات إلى الماضي في مورد المضارع في الأمور الهائلة التي لم توجد أو الأمور العظيمة التي تحدث. و منها إظهار التفخيم، و تذكير السامع بما وقع الى غير ذلك من الفوائد.

ص: 132

بحث روائي:

في تفسير القمي عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نزلت هذه الآية في اليهود و النصارى يقول اللّه تبارك و تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعني: يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، لأن اللّه عزّ و جل قد أنزل عليهم في التوراة و الإنجيل و الزبور صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و صفة أصحابه و مهاجرته، و هو قول اللّه عزّ و جل مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ . و هذه صفة محمد رسول اللّه في التوراة و صفة أصحابه، فلما بعثه اللّه عزّ و جل عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ . و قريب منه ما رواه في الكافي عن علي (عليه السلام).

أقول: هذه الرواية من الروايات التي وردت في بيان صفات رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المختصة به المذكورة في القرآن و في جميع الكتب السماوية التي يتلوها أنبياء اللّه تعالى على أممهم.

و في الدر المنثور في الآية: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام و أصحابه، كانوا يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بنعته و صفته و مبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان. قال عبد اللّه بن سلام: لأنا أشد معرفة برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: كيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول اللّه حقا يقينا و أنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا ادري ما أحدث النساء. فقال عمر: وفقك اللّه يا ابن سلام».

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ قال (عليه السلام): «الخيرات الولاية».

أقول: هذا من باب التطبيق كما ذكرنا غير مرة، و يصح تطبيق الآية

ص: 133

المباركة على القرآن و جميع المعارف الإلهية و قد تقدم الكلام فراجع.

و في الكافي أيضا عن أبي خالد الكابلي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً . قال: «الخيرات الولاية. و قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً يعني أصحاب القائم (عليه السلام) الثلاثمائة و البضعة عشر، قال: هم و اللّه الأمة المعدودة. قال: يجتمعون و اللّه في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم (عليه السلام) و انهم المفتقدون من فرشهم ليلا - الحديث -».

أقول: هذه الآية وردت في رجعة الحق إلى أهله، و الآيات في ذلك كثيرة كما تأتي. و أما الروايات الواردة في ذلك فهي متواترة بين الفريقين و عليه الإجماع أيضا، و سنثبت ذلك بالأدلة الكثيرة الآتية. و الرواية من باب التطبيق، كما تقدم.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: و لا الذين ظلموا منهم و «إلاّ» في موضع «و لا» ليست هي استثناء».

أقول: هذا وجه حسن لا ينافي ما ذكرناه من صحة الاستثناء في الواقع، و قد تقدم في البحث الأدبي فراجع.

بحث فلسفي:

ذهب أكابر الفلاسفة إلى عدم الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها و تقدم في ضمن الآية الشريفة وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ بعض الأخبار التي تشعر بخلاف ذلك.

و استدلوا على البطلان بوجوه - ذكروها في كتبهم - أهمها:

أنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري، و سلبه عنه ممتنع فلا موضوع للجعل التأليفي حينئذ، لأن مناطه إنما هو الإمكان لا الضرورة

ص: 134

و فيه: ان هذه القضية إنما تكون بعد الجعل و التحقق، و أما قبلهما فليس إلاّ العدم المحض و يستوي الثبوت و عدمه بالنسبة إليه، و قد اشتهر بين الفلاسفة: ان الشيء من ذاته ليس، و من علته أيس (الوجود) فلا مجرى لتلك القضية و إن أطالوا القول فيها في الفلسفة.

بل قد نسب إلى بعض أكابرهم تعيين القول بذلك حذرا من تعدد القدماء، فان الذوات في مرتبة الذات متميزة فلو لم تكن مجعولة يلزم المحذور. و دفعه: بأن الشيئية مساوقة للوجود؛ و قبله لا شيء حتّى يلزم العدم. مخدوش: بأنّ اعتبار الذات أمر و اعتبار الوجود أمر آخر، و لا ربط لأحدهما بالآخر. و المسألة مشكلة تعرضوا لها في مواضع في الفلسفة: منها مسألة اصالة الوجود في التحقق، و اصالته في الجعل، و ربط الحادث بالقديم كما يأتي. و لا مفرّ عنه إلاّ بما يظهر عن أئمة الدين (عليهم السلام) من أن قدرته التامة الأزلية تتعلق بتذويت الذوات و إخراجها من العدم إلى الوجود، و انه كان و لم يكن معه شيء - بأي معنى من معاني المعية و لو اعتبارا - و قدرته الكاملة على ما سواه بحيث لا يحيط بمعناها أحد و إنما عرّفها

أئمة الدين (عليهم السلام) بقولهم: «لا يعجزه شيء» كل ذلك يقتضي ما ذكرناه.

إن قيل: إنّ الموضوع محال و قدرته تعالى لا تتعلق بالمحال. يقال: على فرض المحالية فهو محال اعتقادي لا محال واقعي، و ما لا تتعلق القدرة به هو الثاني دون الأول.

و قد نقل عن بعض الفلاسفة الأقدمين أنّ المبدأ مذوّت الذوات و جاعلها، و القدرة الكاملة الأزلية إنما تحصل بذلك.

ثم إنّ جميع الفلاسفة اتفقوا على أن ما سواه تعالى مركب من ماهية و وجود، بلا فرق بين المجردات، و الماديات بمراتبها الكثيرة التي لا حد لها بوجه، و جعلوا ذلك من القواعد الفلسفية المسلّمة التي يستدلون بها في الفلسفة و هي قاعدة: «إن كل ممكن زوج تركيبي من ماهية و وجود»، فالبساطة الحقيقية منحصرة به تبارك و تعالى، و تدل عليها نصوص السنة المقدسة و ظواهر الكتاب المبين. و التركيب و التركّب يلازمان الحدوث،

ص: 135

و هو مناط الاحتياج و هو عين الفقر، فجميع ما سواه عزّ و جل حادث.

ثم إنه اختلف أعلام الفلاسفة في أمور ثلاثة:

الأول: في أنّ الأصل في التحقق و منشئية الأثر هو الوجود و الماهية تابعة له - و قد اصطلحوا عليه بأصالة الوجود - أو يكون الأمر بالعكس؟ و اصطلحوا عليه بأصالة الماهية، بعد اتفاقهم على أنها قبل جعل الجاعل لا حيثية لها أبدا.

الثاني: أنّ المجعول من الباري تعالى هو الوجود و الماهية تابعة له أو الأمر بالعكس؟ و اصطلحوا عليه باصالة الوجود في الجعل، أو اصالة الماهية فيه. و كل واحد من البحثين من المباحث المهمة المفصلة لديهم.

و الذي يظهر من السنة المقدسة أصالة الماهية في كل من التحقق و الجعل، بمعنى أنّ اللّه تعالى مذوت الذات و مفيض الوجود عليها لا بمعنى التشريك، بل بمعنى الترتب الدقي العقلي. و نسب إلى بعض أكابر أهل الدقة و التحقيق إنه وضع رسالة مستقلة في ذلك.

الثالث: ربط الحادث بالقديم، و هو أيضا من المباحث المهمة الدقيقة الذي اختلف الفلاسفة فيه اختلافا كبيرا فاختار كل مهربا، و لا طريق لهم إلاّ التمسك بالسنّة المقدسة من جعل إرادته تبارك و تعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات. هذا موجز القول و التفصيل يطلب من محله، و من اللّه التوفيق و به الاعتصام.

بحث علمي:
اشارة

يظهر من الآيات المباركة الواردة في القبلة أهميتها و عظم أمرها فقد أمر الشارع باستقبال الكعبة في الصّلاة و الذبح و في حالة الاحتضار و غير ذلك و ندب إليها في حالات كثيرة، بل استقبالها مندوب في جميع الحالات إلاّ ما استثني. و حرم استقبالها في مواطن، كما نزّه عنه في مواطن أخرى، و هو يدل على الاهتمام بها، و لذلك نزلت الآيات الشريفة تستعرض جميع جوانب هذا التشريع الجديد و الاعتناء به اعتناء بليغا و التأكيد بمراعاته بأنحاء التأكيدات

ص: 136

بأسلوب رصين و عبارات بليغة.

فذكر سبحانه أولا فضائل البيت الحرام، و كونه مثابة للنّاس و أمنا و محلا لعبادة المتعبدين، و هو بذلك أراد سبحانه تهيئة النفوس لقبول تشريع جديد، ثم ذكر أنّ القبلة أمر تعبدي لا بد و ان يكون من اللّه تعالى - كما هو شأن كل عبادة إلهية - ثم أعلم نبيه بتغيير القبلة و أمر المسلمين باتباع القبلة الجديدة و أكد عليه تأكدا بليغا، و قد جمع سبحانه في ذلك بين رغبة رسوله الكريم في اتخاذ قبلة جديدة و بين استقلال المسلمين فيها بعد أن كانوا تابعين، و ذكر سبحانه أخيرا ان الاستقبال أمر اجتماعي لا يختص بطائفة خاصة، و في الضمن أبطل اعتراض المعترضين و دحض حججهم. و نحن نذكر في هذا البحث بعض الجوانب المهمة في القبلة.

القبلة أمر اجتماعي:

لا ريب في أنّ الإنسان واحد نوعي و هذه الوحدة النوعية تقتضي وحدة الاجتماع بالطبع، و الوحدة الاجتماعية من أهم الأمور النظامية التي يقوم بها النظام و يحفظ بها شؤون الأنام، فإذا كان تنظيم الأمور النظامية في الحيوان بإلهام من اللّه تعالى، كما يستفاد من آيات كثيرة، و يأتي في قوله تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل، الآية: 68] بعض الكلام ففي استلهام طبيعة الاجتماع الإنساني التي يستكمل بها خصوصيات الاجتماع و الجهات اللازمة بالأشد و الأقوى.

و من تلك الجهات التي يستكمل بها الاجتماع وحدة التوجه الى الجهة الواحدة التي لا بد للمجتمع أن يهتم بها كما أن ارتباط كل عابد بمعبوده من الأمور الفطرية التي أظهرها أنبياء اللّه تعالى، كذلك التوجه إلى جهة معينة، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [سورة البقرة، الآية: 148]. و لا تخلو الأمم البدائية القديمة من هذه العادة و إن كانت مشوبة ببعض الجهات المستنكرة إلاّ أنّ ذلك لا يوجب خروجها عن كونها من طرق توجه القلب و الروح الى المعبود، بل سيأتي في المحل

ص: 137

المناسب إثبات أنّ العباديات جميعها - من الطواف حول الكعبة و السعي في المسعى، و القيام بين يدي المولى، و الركوع، و السجود و القنوت، و غسل الوجه و اليدين، و ما يفعل بالرأس و الرجلين - من طرق توجه القلب إلى اللّه تعالى و عدم غفلته عنه و الخضوع و الخشوع لديه كل عضو بحسبه، و هذا هو معنى الروح في العبادة، و البقية بمنزلة اللفظ أو الجسد، و لا فائدة في لفظ بدون المعنى و جسد بلا روح فيه.

و بعبارة أخرى: إنّ فعل الجوارح مع غفلة الروح و القلب مما يستنكره العقل و العقلاء فكيف يرضى به إله السماء.

الحكمة في تشريع القبلة:

ذكرنا أنّ القبلة الجديدة كانت حدثا نوعيا و اجتماعيا الذي به تحفظ الوحدة بين المسلمين بعد أن كانوا متفقين في العبادة و المعبود، و بها تميز المسلمون عن غيرهم و احتفظوا استقلاليتهم بعد ان كانوا تابعين.

و الظاهر أنّ هذا التشريع النوعي الأبدي هو أول تشريع من نوعه في تاريخ الأديان الإلهية، فلم تكن قبلة بهذه الخصوصية في الأديان السابقة. نعم كان لأهل الكتاب قبلة معينة و لكنها كانت محدودة و موقّتة، فقد ورد في شأن موسى و أخيه أن أوحى اللّه تعالى إليهما أن يجعلا بيوتهما قبلة لقومهما، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87] و لكنه كان محدودا بحدود خاصة زمانية و مكانية.

و يظهر من بعض الآثار أنّ قبلة اليهود كانت هي التابوت و كانوا يستقبلونه إذا كان معهم في أسفارهم ثم يضعونه عند صخرة بيت المقدس و يصلون إليه ثم عظم مكانه فصار قبلتهم.

و أما قبلة النصارى فكانت شرقي بيت المقدس باعتبار كونه مولد عيسى (عليه السلام) و مدفنه عندهم، و لم يثبت بدليل يصح الاعتماد عليه أنّ قبلة الطائفتين كانت بوحي سماوي أو هي كسائر مقترحاتهم التي اقترحوها من عند أنفسهم.

ص: 138

و لعل أحد وجوه تأكيد القرآن و اهتمامه بكون بيت الحرام قبلة انها أول قبلة شرعت في الأديان السماوية بها تحفظ الوحدة بين أفراد هذا الدين. و انها كانت سببا في هدايتهم، و إعلاما بأنهم على الصراط المستقيم و تدعيما لهم، و قد تكفل سبحانه و تعالى الجواب عن احتجاج المعترضين، كما وصم سبحانه المخالفين بخفة العقول و اتباع الأهواء الباطلة و الظلم و أوعدهم بسوء العقبى إن هم أصروا على الجحود و الإنكار. و لأجل ذلك كله كان هذا التشريع الجديد من موجبات إتمام النعمة على المؤمنين.

تحويل القبلة:

كان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه يستقبلون بيت المقدس أول بعثته في مكة حتّى بعد هجرته إلى المدينة إلى نزول الوحي بتحويل القبلة و لقد كان (صلّى اللّه عليه و آله) يرغب في ذلك و يترقبه بشغف شديد، كما حكى عنه عزّ و جل: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها .

و يمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ أنّ القبلة الحقيقية كانت هي البيت الحرام، فإنّ كون البيت مثابة يقتضي ان يكون مثابة أيضا لهم في أهم الجهات العبادية و هو الاستقبال و التوجه اليه في العبادة.

و يؤكد ذلك جملة من الأحاديث الواردة في أنّ الكعبة كانت قبلة الأنبياء السابقين (عليهم السلام) و أنّها كانت موضع تقدير العرب و حبهم لها و توجههم إليها، فهي من هذه الجهة اقدم القبلتين و أشرفهما و تربو فضيلتها على بيت المقدس من جهتين: ذاتية - لأنها أشرف بقاع الأرض مطلقا، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة، و انها مقابل بيت المعمور - و عرضية، لأنها موضع عبادة المتعبدين من بدء تكوينها، فما زالت مطاف الملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين و الأولياء و الصديقين و عباد اللّه الصالحين.

و لا يستفاد من آيات تشريع القبلة ما يخالف ذلك إلاّ ما قد يتوهم في قوله تعالى: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها [سورة البقرة، الآية:

ص: 139

142]. و قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [سورة البقرة، الآية:

143] الى غير ذلك مما تقدم من الآيات المباركة:

و يمكن الجواب عنه: بأنّ الآية الأولى نسب الاستقبال فيها إلى المسلمين لا إليه عزّ و جل مما يؤكد عدم كون القبلة المولّى عنها قبلة حقيقية.

و عن الآية الثانية بأنها لا تدل على كون الجعل جعلا أوليا ذاتيا. نعم تدل على الجعل التقريري الظاهري لمصالح ظاهرية متعددة اقتضت استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لبيت المقدس - نظير صلح الحديبية و غيره - و المصالح الزمنية قد تقتضي الفعل و قد تقتضي الترك و لذلك أمثلة كثيرة في الشريعة المطهرة، فلم يكن استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس لأجل كونه قبلة حقيقية فنسخت و حولت إلى قبلة أخرى، بل القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة، و يشهد لذلك

ما ورد: «من أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصلّي - و هو بمكة - نحو بيت المقدس و الكعبة بين يديه».

و عليه فلم تكن مصلحة واقعية في استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لبيت المقدس، بل كان الحكم إرشادا محضا لاستقرار ظاهر الشريعة، و الأمن من كيد الأعداء و خديعتهم ليحين حين إظهار الحق فهو تكليف مجاملي تأليفي، فيكون اطلاق النسخ عليه من باب المجاز و العناية، أو بالمعنى اللغوي، و هو مطلق التبديل إلاّ إذا أريد منه نسخ قبلة اليهود.

إن قلت: يظهر من ذيل الآية الشريفة: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أنّ استقبال بيت المقدس كان لأجل كونه قبلة حقيقية لا أنه مجرد تكليف مجاملي. (نقول): إنّ الآية الشريفة في الخلاف أدل و أظهر، كما ذكرنا آنفا.

زمان تحويل القبلة:

قد صلّى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بأصحابه إلى بيت المقدس برهة من الزمن حتّى نزلت آيات تحويل القبلة فأمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 140

بالتحويل إلى القبلة الجديدة و هو في صلاة الظهر بينما كان يصلي بأصحابه فتحوّل إلى الكعبة المقدسة - و في بعض الروايات أخذ جبرائيل بيد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و حوله إليها - و تحول أصحابه إليها حتّى صار الرجال موضع النساء و النساء موضع الرجال، ثم صلّى بهم صلاة العصر إلى القبلة الجديدة، و هو في مسجد بني سالم و سمي بعد ذلك بمسجد القبلتين، و هو من المساجد المشهورة في المدينة المنورة يقصده المسلمون ليؤدوا فيه الصّلاة إعظاما لهذا الحدث العظيم و تخليدا لذكرى صاحبه.

و أما زمانه فالمروي في صحيح مسلم انه كان في رجب من السنة الثانية بعد الهجرة بستة عشر شهرا، و في رواية البخاري انه صلّى الى بيت المقدس بعد الهجرة بستة عشر أو سبعة عشر.

و لكن المشهور - و عليه جمهور العامة - انه كان في النصف من شعبان من السنة الثانية للهجرة. و على كلا التقديرين فلا بد و ان تكون الشهور بعد الهجرة - التي وقعت في شهر ربيع الأول - اما سبعة عشر إذا كان التحويل في رجب، أو ثمانية عشر إذا كان في شعبان.

و روى الشيخ المفيد في مسار الشيعة: «في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حولت القبلة» هذا.

و روى ابن بابويه في الفقيه «صلّى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة و تسعة عشر شهرا بالمدينة» و ذكره في قرب الأسناد أيضا و لا بد من حمله على بعض المحامل.

تعيين القبلة:

يمكن تعيين القبلة إما بالعلم بها، كما في أهل مكة و الحرم. و إما بالظن و قد عين الشارع له بعض العلامات، كالجدي و غيره، و قد فصل الفقهاء ذلك راجع كتابنا [مهذب الأحكام]. و يستفاد من مجموع ما وصل إلينا ان الشارع اكتفى في تعيينها بمجرد الاطمئنان المتعارف.

و أما ما عن جمع من أعلام الهيئة - رفع اللّه تعالى شأنهم - الذين

ص: 141

اجتهدوا في هذا الموضوع و بذلوا جهدهم في تعيين الجهة، و من ذلك ما تعارف عليه في هذه الأعصار كالآلات المغناطيسية، كل ذلك ان حصل منه الاطمئنان، فلا ريب في كفايته و إلاّ فلا اعتبار به.

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ ت.......

اشارة

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152) هاتان الآيتان كالآيات السابقة في مقام بيان نعمه تعالى، و فيهما إشارة إلى استجابة دعوة إبراهيم (عليه السلام)، كما انهما تدلان على أصول التربية و التعليم، و لطفه تعالى بالنسبة إلى ذاكريه.

التفسير

قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً . مادة (ر س ل) تأتي بمعنى البعث و الانبعاث مع اللين و السهولة و السكون و الطمأنينة. و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «غبن المسترسل سحت» يعني: من سكن إليك فلا تغبنه. و كذا

قول علي (عليه السلام): «لا تثقنّ بأخيك كل الثقة فان سرعة الاسترسال لن تستقال».

و قد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من اربعمأة مورد، و هي تستعمل بالنسبة إلى الملائكة، قال تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى [سورة هود، الآية: 69]، و قال تعالى: لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً [سورة الأسراء، الآية: 95]. و بالنسبة إلى الأنبياء - و هو كثير جدا بجميع الهيئات - و بالنسبة إلى غيرهما، قال تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ [سورة الحجر، الآية: 22]؛ و قال تعالى: وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [سورة الفيل، الآية: 3]، و قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفانَ [سورة الأعراف، الآية: 133]، و غالب استعمالاتها في الخير، و قد تستعمل في الشر، قال تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [سورة الملك، الآية:

17]

ص: 142

و الرسول هو المبعوث من قبل اللّه تعالى لهداية الإنسان و تكميله، و الفرق بينه و بين النبي من جهات:

الأولى: إنّ كل رسول نبي و ليس كل نبي رسولا فيكون بينهما العموم المطلق، لأن النبي يصح ان يكون نبيا في نفسه لنفسه من دون ان يؤمر بإبلاغ الشريعة إلى النّاس، فإذا أمر بذلك يصير رسولا حينئذ - سواء كانت شريعته مبتداة أم ناسخة،

و في الحديث: «ان للّه تعالى أنبياء مستخفين (مستورين) و أنبياء مستعلنين».

و النبي أعم من أن تكون له شريعة كمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و عيسى، و موسى (عليهما السلام)، أو لم تكن له شريعة، كيحيى و ذي الكفل و لوط (عليهم السلام) و غيرهم ممن هو كثير خصوصا في بني إسرائيل الذين كانوا يبلّغون شريعة موسى (عليه السلام)، كعلماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) الذين يبلغون شريعة خاتم الأنبياء.

الثانية: في مبدأ إفاضاتهم من ربهم، فان الرسول يفاض عليه من اللّه تعالى بغير واسطة بشر و يرى الملك و النبي يفاض عليه بالواسطة منه تعالى، و لا يرى الملك؛

و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): «الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات: فنبي منبّئا في نفسه لا يعدو غيرها، و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد، و عليه إمام مثل ما كان ابراهيم (عليه السلام) على لوط. و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و يعاين الملك، و قد أرسل إلى طائفة - قلوا أو أكثروا - كيونس، قال تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون ثلاثين ألفا، و عليه امام، و الذي يرى في نومه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة، و هو امام مثل اولي العزم، و قد كان إبراهيم نبيا و ليس بإمام، حتّى قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ من عبد صنما أو وثنا لا يكون اماما».

الثالثة: إنّ الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي.

و لا ريب في اختلافهم في الفضل، قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [سورة البقرة، الآية: 253]، و عمدة هذا الاختلاف هو العلم بالمعارف الربوبية. كما أن أولي العزم من الرسل خمسة و هم: نوح، و ابراهيم، و موسى، و عيسى (عليهم السلام) و محمد (صلّى اللّه عليه و آله)؛ و يأتي وجه تسميتهم بأولي العزم في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [سورة الأحقاف، الآية: 35].

ص: 143

و لا ريب في اختلافهم في الفضل، قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [سورة البقرة، الآية: 253]، و عمدة هذا الاختلاف هو العلم بالمعارف الربوبية. كما أن أولي العزم من الرسل خمسة و هم: نوح، و ابراهيم، و موسى، و عيسى (عليهم السلام) و محمد (صلّى اللّه عليه و آله)؛ و يأتي وجه تسميتهم بأولي العزم في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [سورة الأحقاف، الآية: 35].

و قد ورد أنّ عدد الأنبياء مائة الف و عشرون ألفا، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر على ما يأتي التفصيل.

و الكاف في قوله تعالى «كما» للتشبيه على النعمة السابقة، بلا فرق بين ان تكون «ما» كافة أو مصدرية.

و المعنى: انه كما جعلنا القبلة نعمة لكم و أتممناها عليكم كذلك أرسلنا رسولا منكم تعرفونه، فانه أيضا نعمة عظيمة لكم، لأنه يهديكم من الضلالة إلى الهدى و يرشدكم إلى سبيل الرشاد.

و يمكن أن تكون «كما» إشارة إلى دعوة إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 129]، فتكون إشارة إلى استجابة هذا الدعاء الذي هو من أهم دعواته.

و التعبير بقوله تعالى: مِنْكُمْ للتحريض على الإيمان به، لكونه أقرب إليكم، و لأنه سبب لفخركم و شرفكم. و قد عدد سبحانه بعض ما كلّفه بالنسبة إليهم، و كلها تتعلق بأصول العقائد و تهذيب النفوس.

قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا . تلو تأتي بمعنى المتابعة؛ و هي في القرآن ذكر الكلمة بعد الكلمة على وجه متسق منظّم. و هي أخص من مطلق القراءة، فان كل تلاوة قراءة و ليست كل قراءة بتلاوة، و تختص أيضا بتلاوة كتب اللّه المنزلة، و لو استعملت في غيرها تكون بالعناية:

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، لعل من أشدها عظمة على النفوس قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ [سورة آل عمران، الآية: 58]. و من أشدها حسرة قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ [سورة البقرة، الآية: 44]. و تقدم بعض الكلام في الآية الأخيرة.

ص: 144

و المعنى: إنّ الرسول يتلو عليكم الآيات الباهرات التي تهديكم إلى الصراط المستقيم و ترشدكم الى الحق القويم.

قوله تعالى: وَ يُزَكِّيكُمْ . أصل الزكاة هو النمو الحاصل من بركة اللّه تعالى سواء أ كان في الأمور الدنيوية، أم الأخروية، أم هما معا. و قد استعملت في القرآن الكريم بأنحاء شتى، فتارة: تضاف الى اللّه عزّ و جل، قال تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 49]. و أخرى: إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)؛ كما في المقام و ثالثة: إلى ذات الفاعل، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها [سورة الشمس، الآية: 9]. و هذا هو شأن جميع الصفات ذات الإضافة.

و التزكية هي الطهارة و التقديس عن الأدناس و الأرجاس الظاهرية أو الرذائل المعنوية، سواء كانتا بالنسبة إلى النفس كما في بعض النفوس السعيدة مما يفيض عليها اللّه تعالى على نحو الاقتضاء، كما قال تعالى: غُلاماً زَكِيًّا [سورة مريم، الآية: 19]، أو بالنسبة إلى الأعمال و الأفعال.

و الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) هو المثل الأعلى في التزكية بجميع مراتبها و القدوة الحسنة في الأخلاق الفاضلة و السجايا الكريمة لا يدانيه أحد و لا يجاريه فرد، و لقد جاهد في تزكية أمته بدينه و تعاليمه و تشريعاته، و بنفسه الشريفة، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللّهَ كَثِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 21]. و تطهيرهم من رذائل الأخلاق و سوء الإعتقاد، فإن بالتزكية يتخلى الإنسان عن الرذائل و الخبائث و يتحلى بالفضائل، فهي التربية العملية التي لها الأثر العظيم في مطلق التربية و التعليم.

و ترتب التزكية على التلاوة من قبيل ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، و قد يكون من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة، كما

ص: 145

في بعض النفوس المستعدة.

ثم انه تعالى قدم التزكية على التعليم في هذه الآية الشريفة و أخرها عنه في دعاء ابراهيم (عليه السلام) قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة، الآية: 129]. و لعل الوجه في ذلك ان للتزكية مراتب كثيرة منها الإرشاد المحض و إتمام الحجة، و منها التخلي عن الرذائل، و منها التحلي بالفضائل، و منها التجلي بمظاهر الأسماء و الصفات الربوبية و لكل واحدة منها درجات، فيحمل ما قدمت فيها التزكية على بعض المراتب؛ و ما أخرت فيها على البعض الآخر.

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ . لأنّ بالتعليم يرتقي الإنسان من أدنى درجات البهيمية الى أقصى درجات الإنسانية، فقد كان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) المعلّم الهادي لأمته يبين لهم ما انطوت عليه شريعته و ما اشتمل عليه كتابه الكريم من الأسرار و المعارف الربوبية.

قوله تعالى: وَ اَلْحِكْمَةَ . تقدم معنى الحكمة في الآية 32 من هذه السورة. فان قلنا بمقالة الفلاسفة من أنّ الحكمة تارة: علمية، و هي: العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة البشرية، و أخرى: عملية و هي صيرورة الإنسان أكبر حجة للّه تعالى في خلقه، فان عظمة مقامها معلومة لكل احد.

و إن قلنا بما يستفاد من الكتاب و السنة المقدسة - و هي متابعة الشريعة أصولا و فروعا، و معرفة حجة اللّه على الخلق - فالأمر اظهر و أبين، و سيأتي شرح الحكمة في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [سورة البقرة، الآية: 269].

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ . بفهم أسرار الكتاب العظيم و اخبار الأمم الماضين و العلوم التي تهمكم و تزيد في علوكم، و تكون سببا في تهذيب نفوسكم مما لم تكونوا تعلمونه سابقا.

و هذه الآية على اختصارها تحتوي على أصول التربية و التعليم بالترتيب الذي أراده القرآن العظيم ابتداء بالتلاوة و التذكر بآيات اللّه تعالى، ثم تزكية

ص: 146

النفس من الرذائل و تحليتها بالفضائل لتستعد لإفاضة العلوم عليها، ثم التعليم ثم معرفة الأشياء بحقائقها و العمل بما عرفه كل ذلك من طريق الشرع المبين.

و عليه ترجع التلاوة و الحكمة إلى الكتاب الذي هو القرآن العظيم فإنهما و ان اختلفتا في المؤدى و لكنهما متحدتان مصداقا، لكن الكتاب يظهر بأطوار مختلفة.

قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي . الذكر تارة: يطلق و يراد به التوجه و الالتفاف الفعلي، و هو عبارة أخرى عن الحفظ، و الفرق بينهما بالاعتبار، فإن الثاني يقال له باعتبار ذاته، و الأول يقال له باعتبار التوجه الفعلي الى الشيء، و لو لوحظ ذات الحضور من حيث هو فهما سواء من هذه الناحية.

و قد يطلق أخرى: و يراد به إظهار الشيء باللسان، أو القلب أو الجوارح، فمن الأول آيات كثيرة منها قوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [سورة الأنبياء، الآية: 24.] و من الثاني قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [سورة البقرة، الآية: 200] فإنه عام لذكر القلب و اللسان. و من الأخير قوله تعالى: وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِذِكْرِي [سورة طه، الآية: 14] حيث إنّ الصّلاة ذكر اللّه تعالى بالجوارح أيضا.

بل يطلق الذكر على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي هو الفرد الأكمل و المرآة الأتم لصفات الجلال و الجمال، قال تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اَللّهِ [سورة الطلاق، الآية: 10] بناء على أنّ لفظ «رسولا» من لفظ «ذكرا»، كما أطلقت «الكلمة» على عيسى بن مريم (عليه السلام) قال تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ [سورة النساء، الآية: 171].

و قد يكون بمعنى الشرف و علو المنزلة قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ [سورة الزخرف، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الشرح، الآية: 4].

و الذكرى كثرة الذكر و أبلغ منه قال تعالى: رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: 43]، و قال تعالى: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرى تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات، الآية: 55].

ص: 147

و الذكرى كثرة الذكر و أبلغ منه قال تعالى: رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: 43]، و قال تعالى: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرى تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات، الآية: 55].

و المراد به في المقام هو الالتفات الفعلي اليه تعالى قلبا و قولا و عملا عكس قوله تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19].

و الالتفات اليه تعالى يتحقق بتذكر نعمه تعالى و إدمان الشكر عليها و الطاعة و العبادة له و إتيان ما اختاره اللّه تعالى مما فيه السعادة في الدارين فان الالتفات اليه عزّ و جل كذلك مبدأ العبودية المحضة المنتهية الى الكمال المطلق، لما ثبت في الفلسفة العملية من: أن آخر مقام الفناء في مرضاته تعالى أول مقام البقاء به عزّ و جل، و ان أخريات درجات التحلي مبشرات لأوليات مقامات التجلي.

و ذلك لأن أنس النفس بالكامل بالذات و الكمال المطلق، و الخير المحض العام، و الفيض الأقدس التام يوجب ترقي النفس و تعاليها عن حضيض البهيمية حينئذ إلى أوج الكمالات الحقيقية و كلما ازداد الأنس ازداد الارتقاء، و أساس هذا الأنس يدور مدار الالتفات الفعلي اليه عزّ و جل كما يريده تعالى، و هو المعبر عنه ب (الذكر) في الكتاب و السّنة الشريفة، و بعبارات مختلفة أخرى، كالتوجه، و التقرب، و التولية و غيرها.

و المناط كله أمران:

(الأول): الالتفات الفعلي إلى اللّه تبارك و تعالى المعبر عنه في الفقه ب (القربة)، كما يعبر عنه علماء الأخلاق ب (الحضور، و التوجه) و نحو ذلك.

(الثاني): كون ما يذكر به اللّه عزّ و جل مأذونا فيه من قبله تعالى، فقد ورد الإذن فيه في الشريعة المقدسة بشرائطه المعينة التي لا بد من مراعاتها، كما فصلها الفقهاء، فكل ما يكون مرضيا للّه تعالى و يؤتى به لوجهه عزّ و جل فهو ذكر اللّه تعالى، سواء أ كان من العقائد أم الأخلاق الحسنة، أم العبادات و المعاملات أم غير ذلك فإن ذكره تعالى - كرحمته - وسع كل شيء

ص: 148

إذا لوحظ فيه التوجه اليه، و قد جعله تعالى بهذه التوسعة تسهيلا لوصول عباده إليه عزّ و جل و ما ورد في الفلسفة العملية من: «أنّ الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق» فيه إشارة إلى ما ذكرناه. فكما لا حدّ للمذكور كذلك لا حدّ لمراتب الذكر.

فان الذكر اللفظي كالتسبيح و التحميد و التهليل و الشكر لنعمائه.

و الذكر العملي هو العبادة، و الطاعة، و الأفعال المرضية له تعالى كعيادة المرضى، و تشييع الموتى، و السعي في قضاء حوائج الأخوان.

و الذكر القلبي هو التوجه و الخلوص و التقرب إليه تعالى. و كلما ازدادت عبودية العبد لربه ازداد مقام توجه إليه؛ و لذا ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرب و لا نبي مرسل». و فيه إشارة إلى بعض توجهاته الخاصة إلى مقامات ربه، أو

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّي أبيت عند ربي فيطعمني و يسقيني ربي».

ثم إنّ ترتيب قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي على الآيات السابقة ترتيب عقلي واجب من باب وجوب شكر المنعم الذي يحكم به العقل المستقل.

و المتحصل من جميع ما ذكرناه أمور:

الأول: إنّ الذكر منبث على القلب و اللسان و الجوارح، و لا يختص بخصوص الذكر اللفظي بل كل ما كان مضافا إليه عزّ و جل و كان مأذونا فيه من قبله تعالى و تقابله المعصية فإنها لا تصدر إلاّ مع الغفلة عنه عزّ و جل.

الثاني: إنّ حقيقته هو التوجه الفعلي إليه عزّ و جل، أي العلم الفعلي بأصل العلم لا مجرد العلم فقط، و لذلك مراتب كثيرة منها ما ذكره بعضهم: «أن ينسى العبد ما سوى اللّه تعالى و يكون مقصوده من جميع حركاته و سكناته و أفعاله و أقواله - بل و خطرات قلبه - هو اللّه تعالى».

الثالث: إنّ أمره بالذكر شامل لجميع المراتب و لا يختص بخصوص بعضها.

ص: 149

الرابع: إنّ ما يقترفه النّاس في كيفية ذكره تعالى لا أصل له إلاّ إذا ورد من الشرع المقدس الإذن فيه، و قد ورد في الأحاديث في ما يتعلق بالذكر - كمية و كيفية زمانا و مكانا - ما يشفي العليل و يروي الغليل، و قد وضع الأعلام فيه كتبا و رسائل.

الخامس: أقسام الذكر ستة فتارة: يتعلق بالنعم الطبيعية، قال تعالى:

أَ وَ لا يَذْكُرُ اَلْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً [سورة مريم، الآية:

67].

و أخرى: يتعلق بالنعم العارضة التي أفاضها اللّه سبحانه على الإنسان، قال تعالى: لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ [سورة الحج، الآية: 34].

و ثالثة: يكون محبوبا بذاته على كل حال و مجردا عن الإضافة قال تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّهَ كَثِيراً [سورة الشعراء، الآية: 227].

و رابعة: يكون عند اهتمام النفس بشيء غير مرضي له تعالى فيذكر اللّه و يرتدع عنه، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 201]، و قال تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللّهِ أَكْبَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [سورة العنكبوت، الآية: 45].

و خامسة: يكون بعد الارتكاب فيذكر طلبا لرضائه، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران، الآية: 135].

و سادسة: حين ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه تعالى،

و قد ورد في الدعاء:

«و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك و ما عصيتك إذ عصيتك و أنا بك جاهل و لا لعقوبتك متعرض و لا لنظرك مستخف و لكن سوّلت لي نفسي».

ص: 150

إن قيل: ذكره تعالى حين ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه عزّ و جل كيف يكون محبوبا له تعالى. (يقال): إنّ الذكر إذا كان على نحو الاستخفاف و الاستهانة - نعوذ باللّه - فلا ريب في أنه ليس من الذكر بل يوجب الكفر و البعد عن ساحة الرحمن. و أما إذا كان من باب انه تعالى ستّار العيوب، و غفار الذنوب فهذا يوجب الحياء منه تعالى و لو في ما بعد، فينتهي إلى التوبة و الاستغفار فيكون محبوبا له.

قوله تعالى: أَذْكُرْكُمْ . للمفسرين في بيان متعلق الذكر أقوال:

منها: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، أو أذكركم بمعونتي.

و منها: اذكروني بالشكر على نعمائي أذكركم بالزيادة إلى غير ذلك مما قالوه.

و الحق هو الحمل على العموم و هو ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر العبودية حتّى يدرك ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر رحمته وجوده، و منه

ما ورد في الحديث: «أنا عند ظن عبدي المؤمن إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، و إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه - الحديث -» و هو يجازي عبده بالجزاء الأوفى و يعد له باللطف و الكرامة و الإحسان و مزيد في النعم و يضاعف لمن يشاء إنه ذو فضل عظيم.

فلا يختص ذكره تعالى لذاكريه بعالم دون آخر و لا بحالة دون أخرى.

ثم إن ترتب قوله تعالى: أَذْكُرْكُمْ على «اذكروني» من باب ترتب المعلول على العلة التامة، لأن التوجه الفعلي من العبد الى اللّه عزّ و جل ذكر منه تعالى للعبد بعناياته الخاصة، فيكون هذا المعنى من الذكر من الصفات ذات الإضافة، فان أضيف إلى العبد يكون ذكرا منه، و إن أضيف اليه عزّ و جل يكون من ذكر اللّه تعالى له.

و قد يكون من باب ترتب المقتضى [بالفتح] على المقتضي [بالكسر] لاختلاف مراتب الذكر و الذاكر كما هو معلوم، و الظاهر أن ملازمة الذكر للذكر من الملازمات المتعارفة بين العقلاء فهو حسن لديهم و يكون من اللّه تعالى

ص: 151

أحسن.

قوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ . مادة (ش ك ر) كمادتي (ك ش ر)، و (ك ش ف) تأتي بمعنى الإظهار، و يقابلها مادة (ك ف ر) التي تأتي بمعنى الستر و يختلف ذلك باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا. و الجامع القريب في الأولى الإظهار، و في الثانية الستر.

فإظهار وحدانية اللّه تعالى، و صفاته الحسنى، و أفعاله العليا إيمان و ستر ذلك كفر، و لهما مراتب. كما أن إظهار نعمه شكر و سترها كفر، و يطلق عليه الكفران أيضا.

و الإظهار تارة: يكون بالاعتقاد، و أخرى بالقول، و ثالثة بالعمل إما بفعل ما أوجبه اللّه تعالى أو ترك ما نهاه عنه تعالى، و قد قال علي (عليه السلام): «شكر كل نعمة الورع عن محارم اللّه تعالى».

و المعنى: أظهروا نعمائي و لا تكفروا بسترها.

و إنما قال تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ و لم يقل: و اشكروا لي أشكركم، لأمور:

أحدها: الإعلان بقبح الكفر و الكفران استقلالا.

ثانيها: التنبيه على عظم النعمة، و أنه بمنزلة كفر الذات.

ثالثها: إنه استفيد من مقابلة الذكر بالذكر - في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ - بالملازمة فلا وجه للتكرار بعد ذلك.

ثم إنّ الشكر من أجلّ الصفات الحسنة و من أرفع مقامات العبودية و هو على أقسام:

الأول: أن يكون من المخلوق للخالق، و قد رغّب اليه الكتاب و السنة المقدسة ترغيبا بليغا بأنحاء مختلفة: بأن أضاف الشكر تارة: إلى نفسه، قال تعالى: أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14]

ص: 152

و قال تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ [سورة البقرة، الآية: 172] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و أخرى: إلى نعمه قال تعالى: وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ [سورة النحل، الآية: 114]. و هو يرجع الى الأول، لأن كل ما بالعرض لا بد ان ينتهي إلى ما بالذات. و ثالثة: إلى نفس الشاكر، قال تعالى: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [سورة لقمان، الآية: 12] فان غاية الشكر إنما يرجع الى نفس الشاكر، كقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [سورة الأسراء، الآية: 7]، و لا فرق في هذا القسم بين أن يكون الشكر على الآراء و المعتقدات الحسنة و المعارف الحقة، أو على النعم الخارجية، و جميع ذلك مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل، الآية: 78] و قال تعالى: وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة الأنفال، الآية: 26] و هو مطابق للقواعد العقلية لأن أساس معرفة اللّه تعالى مبني على وجوب شكر المنعم عقلا - و هذا الوجوب عقلي لا أن يكون شرعيا - و معرفة اللّه تعالى من أرفع المقامات و الكمالات الإنسانية التي وصل الإنسان إليها بحكم عقله.

الثاني: أن يكون من الخالق للمخلوق، قال تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً [سورة النساء، الآية: 147]، و قال تعالى: وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [سورة الإنسان، الآية: 22] بل الشكور من أسمائه الحسنى، فإن من عادة العظماء التشكر مما يستحسنونه من أعمال الرعايا، و له دخل كبير في سوق العباد الى العمل و جلب قلوبهم.

الثالث: أن يكون من الخلق لآخر مثله و هو من مكارم الأخلاق،

و قد ورد في الحديث: «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» لانتهاء المخلوق و نعمه إلى الخالق فالشكر له ينتهي بالآخرة الى شكر نعمائه، و ترك شكر المخلوق ينتهي الى ترك شكر الخالق في سلسلة الأسباب.

ثم إنّ الشكر تارة: يكون للّه تعالى لذاته بذاته بلا لحاظ عناية أخرى، لأنه مبدأ الكل و منتهاه فيستحق الشكر و هو شكر أخص الخواص،

ص: 153

و أخلص أنواع الشكر و أعظمها.

و أخرى: يكون على ما يرد منه تعالى على عبده من البلايا و المحن فيشكر عليها كشكره على النعم، و هو شكر الخواص، و هو كالأول من أجل مقامات العارفين باللّه تعالى.

و ثالثة: يكون بإزاء النعمة و هو شكر العامة من الأنام، و سيأتي في قوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة ابراهيم، الآية: 7] ما يناسب المقام إن شاء اللّه تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: إنّ في اختيار صيغة التكلم في قوله تعالى: أَرْسَلْنا أو قوله تعالى: آياتِنا ثم توجيه الكلام إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إشارة إلى أنّ الاستكمال في المعارف الإلهية لا بد و ان ينتهي اليه عزّ و جل، و أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في ذلك واسطة محضة.

و فيه إشارة إلى الاتحاد في هذه الجهة بينه تعالى و بين نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) حيث شبك الكلام بالضمير الراجع إلى ذاته الأقدس و الضمير الراجع إلى نبيه المقدس.

الثاني: أنّ الآيات المباركة تدل على نبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي لم يكن من ذاته شيء و له من ربه كل شيء فجعله منشأ الفيوضات التامة في عالم الغيب و الشهادة فانه ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوى [سورة النجم، الآية: 4].

الثالث: إنّها تدعو النّاس إلى جميع أنحاء الكمالات الظاهرية و المعنوية بالتعليم.

الرابع: أنّ مقتضى المطابقة و المجازاة بين ذكر العبد و ذكره تعالى أنه بكل وجه تحقق ذكر العبد يتحقق ذكره تعالى له بمثله و نظيره مع

ص: 154

الزيادة، لفرض سعة رحمته و فضله فإن ذكره العبد في نفسه يذكره اللّه عزّ و جل كذلك، و إن ذكره في ملأ من النّاس يذكره اللّه تعالى في ملإ من الملائكة و إن ذكره للدنيا أو الآخرة يكون ذكره تعالى لعبده كذلك، و يمكن أن يكون صرف وجود ذكره تعالى لعبده منشأ لسعادته الأبدية التي لا حد لها و لا حصر، و ذلك يختلف باختلاف الاستعدادات و النفوس. هذا بناء على ما هو ظاهر الآية الشريفة من سياق الشرط و الجزاء الظاهري. و أما بناء على ما أشرنا اليه من رجوع المعنى: ان أذكركم فلا تغفلوا عني، فللمقام لطائف أخرى نشير إليها في الآيات الأخرى.

الخامس: إنّ في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ لطف و عناية و تعليم للغير بمجازاة الخير بالخير.

السادس: إنّ في قوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ تحذيرا لأمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أن لا يتركوا ما أمرهم اللّه تعالى و لا يكفروا بما أنعم اللّه عليهم، لئلا يقعوا في ما وقعت فيه الأمم السابقة بعد ما كفرت بأنعم اللّه تعالى.

السابع: إنّ في ذكر العنوان الإثباتي بقوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا و العنوان السلبي بقوله عزّ و جل وَ لا تَكْفُرُونِ إشارة إلى الاهتمام بالموضوع أولا؛ و نفي أنحاء الكفر حتّى كفران النعمة ثانيا، و إلاّ فيصح الاكتفاء بأحد العنوانين.

بحث روائي:

في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«مكتوب في التوراة التي لم تغير، أن موسى سأل ربه فقال (عليه السلام) : يا رب أ قريب أنت مني فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فأوحى اللّه عزّ و جل اليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى (عليه السلام): فمن في سترك يوم لا ستر إلاّ سترك؟ قال: الذين يذكرونني فأذكرهم و يتحابون فيّ فأحبهم فأولئك الذين إن أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم».

ص: 155

أقول: الروايات متواترة بين الفريقين في فضل الذكر و التحابب في اللّه و التباغض فيه بل في بعضها:

«ليس الإيمان إلاّ الحبّ في اللّه و البغض في اللّه».

و المراد من قوله تعالى: «ذكرتهم فدفعت عنهم» التوجه الخاص الذي يكون بالنسبة الى الأولياء و لأجلهم خلق هذا العالم و يدار هذا النظام، أي:

«العلة الغائية» كما عبروا عنها في الفلسفة الإلهية.

في عدة الداعي قال: روي «أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) خرج على أصحابه فقال: ارتعوا في رياض الجنّة، فقالوا: يا رسول اللّه و ما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا و روحوا و اذكروا، و من كان يحب ان يعلم منزلته عند اللّه فلينظر كيف منزلة اللّه عنده، فإن اللّه تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد اللّه تعالى من نفسه، و اعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم و أزكاها و أرفعها في درجاتكم، و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر اللّه تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه، فقال: أنا جليس من ذكرني، و قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ بنعمتي، اذكروني بالطاعة و العبادة أذكركم بالنعم و الإحسان و الراحة و الرضوان».

أقول: المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «ارتعوا في رياض الجنّة» الترغيب في المسارعة إلى مجالس ذكر اللّه تعالى إن كانت المجالس و كان الذكر مستجمعا لجميع الشرائط التي ذكرها الفقهاء.

و المراد من المنزلة توجه قلب المؤمن و إخلاصه من كل جهة الى اللّه تعالى، و لازم ذلك ارتفاع منزلته عند اللّه تعالى فتكون القضية حينئذ من الملازمات العقلية، لأن الانقطاع من جميع الجهات اليه تبارك و تعالى بحيث لا يشوبه شيء آخر يوجب ان تكون عناياته متوجهة اليه، بل نفس هذا الانقطاع اليه هكذا عناية خاصة منه تبارك و تعالى.

و المراد من

قوله: أنا جليس من ذكرني نهاية القرب اليه جلت عظمته و الدنو المعنوي منه، كما يقرب إلينا جليسنا و يدنو منا لا أن يكون المراد

ص: 156

منه القرب المكاني.

و في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي من سألني».

أقول: إن شغل النفس بذكره تعالى عن بيان الحاجة يكون على قسمين:

الأول: ما إذا كان لسان حاله أنّ علمك بحالي يغني عن مقالي.

الثاني: ما إذا نسي ذلك كله و توجه اليه تعالى من كل جهة، و في القسمين يحصل التوجه التام بالنسبة اليه فيغفل عن شؤونه.

و في المعاني عن الحسين البزاز قال: «قال لي أبو عبد اللّه (عليه السّلام): ألا أحدثك بأشد ما فرض اللّه على خلقه؟ قلت بلى قال: إنصاف النّاس من نفسك؛ و مواساتك لأخيك، و ذكر اللّه في كل موطن، أما أني لا أقول سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر، و إن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر اللّه في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».

أقول: المراد بهذا الذكر - ما تقدم في أقسام الذكر - هو الذكر العملي الخارجي عند إرادة الطاعة أو إرادة المعصية بحيث يكون الذكر اللفظي كاشفا عنه.

في الكافي عن بشير الدهان عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال اللّه عزّ و جلّ يا ابن آدم أذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك».

أقول: تقدم في ضمن الآية المباركة ما يرتبط بهذا الحديث.

و في المحاسن عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال اللّه عزّ و جلّ:

ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلإ أذكرك في خلإ، ابن آدم اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك. و قال: ما من

ص: 157

عبد ذكر اللّه في ملإ من النّاس إلاّ ذكره اللّه في ملإ من الملائكة».

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة بين الفريقين و هذا الحديث مبين لبعض أقسام الذكر فانه إما نفسي قلبي، أو باللسان في مكان خلوة، أو باللسان في الملإ، و الذكر في الملإ إن أوجب ذكر الملإ للّه تعالى، فلا ريب في أن ذلك يوجب تشعب أذكار كثيرة كلها من ناحية الذاكر، فيترتب عليه الثواب مضاعفا، و إن لم يوجب ذكر غيره يكون من إتمام الحجة على الغير فيكون كسابقه.

في الكافي عن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «أوحى اللّه إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثرة المال و لا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، و إن ترك ذكري يقسي القلوب».

و في الدر المنثور أخرج الطبراني و ابن مردويه، و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): من أعطي أربعا، و تفسير ذلك في كتاب اللّه: من أعطي الذكر ذكره اللّه، لأن اللّه يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ . و من أعطي السؤال أعطي الإجابة. لأن اللّه يقول: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ . و من أعطي الشكر أعطي الزيادة: لأن اللّه يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . و من أعطي الاستغفار أعطي المغفرة، لأن اللّه تعالى يقول: اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً ».

أقول: و روي قريب منه عن علي (عليه السّلام) و لا بد من تقييد ذلك بما إذا وقع من العبد بشرائطه.

و في الدر المنثور قال: «رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه و إن قلّت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن. و من عصى اللّه فقد نسي اللّه، و إن كثرت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن».

أقول: يستفاد من أمثال هذه الروايات أن منشأ كل معصية هي الغفلة عن اللّه تعالى، و تدل على ذلك آيات كثيرة نتعرض للتفصيل فيها إن شاء اللّه تعالى.

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى

ص: 158

اللّه عليه و آله) ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم اللّه عزّ و جلّ و لم يصلوا على نبيهم إلاّ كان ذلك المجلس حسرة و وبالا عليهم».

أقول: الوبال هو سوء العاقبة و العذاب، و كون المجلس وبالا لتحقق الغفلة عن اللّه تعالى، لأنها منشأ كل معصية و لا وبال أشد منها.

و الوجه في كون ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) من ذكر اللّه تعالى لفرض انه رسوله و ينبئ عنه، و كذا جميع أولياء اللّه تعالى الذين يدعون إليه تعالى.

و في تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قلت له: للشكر حد إذا فعله الرجل كان شاكرا؟ قال (عليه السّلام): نعم. قلت: و ما هو؟ قال: الحمد للّه على كل نعمة أنعمتها عليّ، و إن كان لكم في ما أنعم عليه حق أداء منه، و منه قول اللّه: الحمد للّه الذي سخر لنا هذا».

أقول: هذا بيان لأدنى مرتبة حد الشكر، لإتمام مراتب الشكر.

عن العياشي أيضا عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه: فمنها كفر النعم و ذلك قول اللّه يحكي قول سليمان: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ .

أقول: تقدم ما يتعلق بأقسام الكفر في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 6] و في البحث الروائي منه.

بحث عرفاني:

من أجلّ مقامات العارفين مقام الذكر، بل هو من أعظم مظاهر حب الحبيب لمحبوبه فإن «من أحب شيئا أكثر من ذكره»، و من علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه، و قد قالوا: إن المحب إذا صمت هلك، و العارف إذا نطق هلك، لأن الأول مجبول على ذكر الحبيب، و الثاني مأمور بستر

ص: 159

الأسرار،

و نسب إلى سيد الساجدين (عليه السّلام):

يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن تعبد الوثنا و الذكر - عندهم - على أقسام ثلاثة:

الأول: ذكر اللسان المستمد من القلب.

الثاني: ذكر القلب مع عدم حركة اللسان، و يسمى مناجاة الروح و الاستجماع للمذكور بالكلية، و هذا ذكر الخواص.

الثالث: ذكر السرّ، و معناه غيبة الذاكر في المذكور - في الجملة - فكأن المذكور يكون هو الذاكر، و هذا ذكر أخص الخواص. و مثّلوا لكل ذلك بأمثلة مذكورة في محالها. كما بينوا لكل واحد منها ثمرات و نتائج.

و لو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام، ذكر عامة النّاس الذي يقوم بالجارحة اللسانية فقط من دون استمداد من القلب، تصير الأقسام أربعة.

و لعلّهم لم يذكروا هذا القسم لتنزّههم عن مثل هذا الذكر.

ثم إنّ ذكر الذاكر إنما يتقوم بحبه للمذكور، و لولاه لم يذكره و المذكور قد يحب الذاكر قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 31]، بل حبه لجميع خلقه مما أثبتته الأدلة العقلية - كما برهن في الفلسفة الإلهية - و النقلية، فيقع التجاذب في البين لكل من الحبيبين. و بعد تحقق مراتب الحضور بينهما كيف يتحقق التخالف؟! لأن ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيح قال الشاعر:

اما ترى الحق قد لاحت شواهده *** و واصل الكل من معناه معناكا

و البحث نفيس جدا لو وجدت لهذا العلم الشريف حملة.

بحث علمي:

يتضمن قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أهم

ص: 160

المناهج في تربية الإنسان في استكماله، و مثله في القرآن الكريم كثير.

و قد أشار سبحانه و تعالى إلى بعض الأصول المهمة في هذا المنهج - كما هو دأبه عزّ و جلّ في القرآن الكريم - فعلى الإنسان الجد و الاجتهاد في التفريع عليها و تطبيقها على مجالات الحياة.

و لا ريب في أهمية التربية و التعليم و ارتباطهما الوثيق بالإنسان و دخلهما في جميع جوانب حياته و بهما يستكمل الفرد و ينال السعادة في الدارين. و لا يمكن لأي فرد من أفراد الإنسان الاستغناء عنهما في أي دور من أدوار حياته و بهما يقوم النظام الاجتماعي، و لا يوجد أمر آخر يكون له هذا الاتصال بالواقع الإنساني و تكون له هذه الشمولية، و هما قرين الإنسان منذ أول الخليقة في جميع أدواره.

و لا يعقل بالنسبة إليه تعالى إهمال هذا الجانب المهم في الإنسان مع علمه عزّ و جلّ بما يترتب على إهماله من الآثار، و لم يشرع شريعة إلاّ لتهذيب النّاس و تكميلهم و إيصال الفرد إلى السعادة.

و منهج التربية و التعليم - كسائر المناهج و العلوم - قد طرأ عليه تغييرات و لم يصل إلى حده الفعلي إلاّ بفضل جهود العلماء و المربين و وضع النظريات العلمية مما أوجب التغلب على كثير من الصعاب.

و للتربية و التعليم مناهج متعددة و قد وضعوا في كل واحد منها كتبا و رسائل كثيرة جدا. و أهم تلك المناهج هو: المنهج العقلي، و المنهج المادي، و المنهج التجريبي، و جميع هذه المناهج قاصرة عن الإيصال إلى المطلوب إلاّ المنهج الإسلامي المبيّن في القرآن الكريم و السنة الشريفة، و السبب في قصورها عدم كفاءتها في رفع المشكلات الإنسانية إلاّ في حدود معينة وصلت إليها أفكارهم القاصرة و لذا نرى الاختلاف و التناقض فيها بخلاف المنهج الإسلامي الذي يصدر عن منبع محيط بكل الجهات و في كل زمان.

ص: 161

و يمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها:

الأول: إنّ المنهج التربوي و التعليمي في الإسلام ليس ماديا صرفا و لا عقليا بحتا بل هو يشمل الجانبين و يعطي لكل جانب حقه.

الثاني: إنّه يراعي الجانب التطبيقي و يعطي للعمل أهميته و يهتم بالمربّين و المعلمين قبل كل شيء، فهو يأمر بالتزكية و إتيان العمل الصالح و لا يكتفي بالجانب النظري فقط.

الثالث: إنّه يهدف الكمال الإنساني و يبغي سعادة الفرد و الاجتماع و وضع لكل ذلك أسسا و قواعد لا يمكن التخلي عنها.

الرابع: إنه عام يشمل جميع مراحل الإنسان و جميع جوانب حياته بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضا بحسب الآثار.

الخامس: إنّه مرتب ترتيبا دقيقا يبتدئ بالتلاوة ثم التزكية فالتعليم و طلب الحكمة، و التجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام.

و في القرآن الكريم إشارات إلى كل واحد من الأمور المتقدمة و في السنة الشريفة شرح ذلك و يأتي في الآيات المناسبة التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ (155) اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ (157) الآيات متسقة منتظمة كلها وردت في سبيل استكمال الإنسان. و لذّة النداء و الخطاب في أولها نرفع عن العبد ثقل التكليف. و قد بيّن سبحانه و تعالى فيها أن الإنسان في طريق استكماله و إشاعة الحق و مقارعة الباطل

ص: 162

يقترن بأنحاء من البلاء و المحن في الأنفس و الأموال و لا يمكن التغلب عليها إلاّ بالصبر و التوجه إليه تعالى في كل أمر. و قد لطف سبحانه و تعالى على عبيده بما يهون عليهم احتمال المكاره و يخفف عنهم عظم المصاب بما أعده سبحانه للصابرين من البشارة العظمى، و لمن قتل في سبيله الأجر الجزيل. و لا يسعنا في ذلك إلاّ أن نقول بما

قاله الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في صحيفته:

«و لو دل مخلوق مخلوقا من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك كان موصوفا بالإحسان و منعوتا بالامتنان و محمودا بكل لسان» فهذه الآيات تكفي في عظمة الموحي و الموحى إليه و الوحي لكل من كان له سمع أو ألقى السمع و هو شهيد.

التفسير

اشارة

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا . قد ورد هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا و فيه من التحبب و الملاطفة مع عبيده ما لا يخفى، و المنساق من سياقه تلبس المخاطب بالإيمان في الجملة، و هو يقتضي أن يكون الخطاب مدنيّا لا مكّيا. و تقدم ما يتعلق به في الآية - 104 من هذه السورة فراجع.

قوله تعالى: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ . الصبر هنا مقاومة النفس مع ما يرد عليها من المكاره و الأذى. و حذف متعلقه يفيد العموم - كما هو المعروف في العلوم الأدبية - أي استعينوا بالصبر في جميع أموركم فإنه مفتاح النجاح، و هو في كل شيء حسن، و لا يتعلق بشيء إلاّ و صار محبوبا، فهو أمّ الفضائل و الجامع لجميع جهات استكمال الإنسان إذا كان الصابر مراعيا لتكاليف المولى.

و الاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب و أعظم السبل في نيل المقصود، و الحاجة إليه في تأييد الحق و مقارعة الباطل و احتمال المصائب معلوم لكل احد، و آثاره ظاهرة لكل فرد، و تقدم ما يتعلق به في الآية - 45 من هذه السورة.

و أما الاستعانة بالصلاة فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب

ص: 163

العالمين، و أهم أبواب مناجاته تعالى، و الإستغاثة به عزّ و جلّ، لما تشتمل على عظيم الآثار، فإنها معراج المؤمن، و إنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر، و بها يحصل للنفس سكونها و اطمينانها عن الحوادث الواردة عليها، لأن فيها ارتباط بعالم الغيب المحيط بهذا العالم - و الإنسان خلق من ذلك العالم فإذا طابقت سنخية الذات مع العمل يحصل الانقطاع عن العلائق و يشتد الارتباط مع رب الخلائق، فينتظم النظام على الوجه الأصلح.

و في الحديث: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا حزبه أمر - أي اشتد عليه - فزع إلى الصلاة» و تقدم نظير هذه الآية في هذه السورة آية - 45 إلاّ أن في الأولى مدح سبحانه الصلاة و في هذه مدح الصبر و بشر الصابرين.

و الوجه في التكرار التأكيد على أهمية الصبر و الصّلاة في تنفيذ الأمور و تكميل النفوس و توطينها لاحتمال المكاره و تحصيل السعادة في الدارين.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ . لفظ «مع» يأتي بمعنى الجمع و المصاحبة في الجملة، و يختلف اختلافا كبيرا بحسب الموارد و الخصوصيات، و يستعمل في الخالق و المخلوق، قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 123] و قال تعالى حكاية عن نوح: وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء، الآية: 118].

و المعية نحو ارتباط حاصل تارة: بين الخالق و المخلوق حدوثا و بقاء، قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4] و يعبر عنها بالمعية القيّومية و تلازمها المعية الزمانية و المكانية و الجامع

ما ذكره علي (عليه السّلام): «مع كل شيء لا بالمجانسة و غير كل شيء لا بالمباينة».

و أما معية المخلوق مع خالقه فيعبر عنها بعبارات مختلفة، أولها العبودية و آخرها الفناء في اللّه تعالى و نتيجة الجميع البقاء باللّه تعالى.

و أخرى: تحصل من عونه و نصرته و توفيقه، و تسبيب أسباب الخير، و منها معيّته تعالى مع الصابرين و المتقين و الأنبياء و الصالحين، فتكون معيته تعالى لهم من جهتين جهة قيموميته تعالى، و جهة فعله و عنايته و نصرته لهم. و هناك معان أخرى للمعية تأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 164

قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ . المراد من القول هو الأعم من الإعتقاد و التعبير بالألفاظ، فاستعمل في الجامع.

و القتل إزهاق الروح عن الجسد إذا لوحظ فيه الإضافة إلى الفاعل. و أما إذا لوحظ فيه الإضافة الى المقتول فيصح التعبير عنه بالموت أيضا. هذا بحسب الشايع المتعارف و إلاّ فيصح إطلاق القتل بالنسبة إلى الجنين الذي لم تتعلق به الروح بعد كما ورد في بعض أحاديث دية الجنين.

كما لا يختص بإزهاق روح الإنسان بل يشمل الحيوان أيضا قال تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة، الآية: 2] و النصوص في هذا الإطلاق مستفيضة من الفريقين.

بل يطلق القتل على إزالة المعارف الحقة عن النفوس المستعدة أو دفعها عنها. فإنّ من تسبب في جهل الناس بالمعارف الإلهية فقد قتلهم شر قتلة لأنه أزال حياتهم الأبدية السرمدية كما يأتي التفصيل.

و قد ذكر القتل هنا بهيئة المضارع، و في قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا [سورة آل عمران، الآية: 169] بهيئة الماضي، و لا فرق بينهما من هذه الجهة، لما ذكرناه من القاعدة الكلية المؤيدة بالدليل العقلي بانسلاخ الأفعال عن الزمان بحسب ذاتها و الخصوصيات الزمانية تستفاد من القرائن الخارجية.

و السبيل هو الطريق الذي فيه السهولة، و يستعمل في كل ما يتسبب به إلى المطلوب - خيرا كان أو شرا - قال تعالى: وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [سورة الأعراف، الآية:

164].

و قد ذكرت جملة «سبيل اللّه» في القرآن الكريم ما يزيد على ستين موردا و هو يدل على سعته و شموله و عظمته و أهميته، و تقدم الفرق بينه و بين الصراط في سورة الحمد عند قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ و قد ذكر في القرآن الكريم و السنة المقدسة بعض المصاديق: مثل بذل النفس في إحياء كلمة التوحيد و تأييد الحق و قمع الباطل، و بذل المال للضعفاء، و إفشاء

ص: 165

الأخلاق الحسنة بين النّاس، و خدمة الوالد، و صلة الأرحام، و إغاثة اللهفان، و عون الضعيف و غير ذلك مما لا حد له و لا حصر، و تقدم قول: «إن الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق».

و المراد به في المقام الجهاد لإعلاء التوحيد و نصرة الحق و مقارعة الباطل و قمعه.

و ذكر القتل في سبيل اللّه بعد قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ من باب ذكر أهم الأفراد و أعظم الأمور الّتي لا بد من الاستعانة بالصبر فيها، يعني: إن اللّه تعالى مع كل صابر خصوصا هذا القسم من الصابرين فإنه آخر درجة التصبر و الاصطبار، فيمنحهم اللّه تعالى المعونة و الأجر الجزيل.

قوله تعالى: أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ . أي: لا تقولوا: في شأن من قتل في سبيل اللّه أنهم أموات مفقودون عن الحس ذهبوا الى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية و لكن لا تشعرون بها، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر.

و المراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ و الحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين، و الحياة في الذكر و اللسان،

نظير ما ورد عن علي (عليه السّلام): «هلك خزان المال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة و أمثالهم في القلوب موجودة» و هو من باب ذكر بعض الأفراد الذي يبقى لا من باب الحصر.

و قد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا ما لا يرجع إلى محصّل كما يأتي تفصيل الكلام فيها.

و الحياة على أقسام:

الأول: الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن و إعمالها للقوى الظاهرية و الباطنية في الجسم الدنيوي فقط.

الثاني: الحياة الذكرى عند النّاس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء و الأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيما لجهودهم في

ص: 166

العلم و الأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.

الثالث: الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

و ظاهر الآية المباركة و النصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل اللّه هو القسم الأخير، لفرض أنّه بذل نفسه و نفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي طلبا لرضائه و امتثال أمره، و لا تحديد في هذه الحياة كما بالنسبة إلى القسمين المتقدمين. و تتبع هذه الحياة الحياة بالمعنى الثاني، فما عن بعض المفسرين من أنّ المراد خصوص القسم الثاني فقط تخصيص للعموم بدون وجه.

إن قيل: مثل هذه الحياة ثابتة لكل فرد من أفراد المؤمنين و معلومة لهم، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.

يقال: إنّ أصل الحياة بعد الموت و إن كانت ثابتة للمؤمنين و معلومة لهم، لكن المستفاد من مجموع الآيات الشريفة و النصوص الواردة في حياة الشهيد أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة كما يدل عليها قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران، الآية: 169].

و الخطاب في الآية عام لا يختص بطائفة خاصة لا المشافهين و لا غيرهم لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في الشريعة المقدسة - خصوصا ما ورد منها في القرآن الكريم - من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.

فمن قال باختصاص الخطاب في المقام و في قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران، الآية: 169] بطائفة خاصة.

لا وجه له إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لطريقة العرف و العقلاء في محاوراتهم و لا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترحم على العباد و الترأف بهم.

و القتل في سبيل اللّه تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى: و الشهيد مشتق

ص: 167

منها الا أنّ الأول باعتبار أصل الحدوث و الثاني باعتبار الثبوت و الشهيد من أسماء اللّه تعالى و هو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه، و لعل اطلاق الشهيد على من قتل في سبيل اللّه تعالى إنما هو لأجل حضوره لديه عزّ و جل متلبسا بما عاناه من الصعاب و الاضطهاد، أو حضور الملائكة لديه مبشرين له بأعلى المقامات و ارفع الدرجات التي أعدت له، و يصح الحمل على المعنى العام أي حضوره لديه للانتصار و حضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء، و المراد من حضوره تعالى هو توجهه الخاص به.

فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحق و لا تختص بخصوص من بذل دمه في سبيل اللّه بل تشمل كل من تحمل الأذية مطلقا في سبيله عزّ و جلّ،

و في جملة من الأحاديث: «المؤمن شهيد و لو مات في فراشه» إلاّ أن للشهيد الذي بذل دمه له أحكاما خاصة و يأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة.

و الآية تدل على تجرد النفس و هو حق لا ريب فيه كما ثبت بالأدلة الكثيرة و هو المستفاد من الكتب السماوية و القرآن المبين و النصوص المتواترة من السنّة الشريفة و يأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ . مادة (بلا) تأتي بمعنى الامتحان و الاختبار و تقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [سورة البقرة، الآية: 124].

و الشيء من الألفاظ العامة الشاملة للقليل و الكثير، و الجواهر و الأعراض.

و الخوف توقع المكروه - مظنونا كان او معلوما - بعكس الرجاء فإنه توقع المحبوب كذلك.

و المعنى: لنمتحنكم بشيء من الخوف من العدو أو بشيء من الجوع.

و لم يذكر سبحانه و تعالى متعلق الامتحان و لا مورد الخوف و الجوع تعميما للاختبار و الامتحان في كل زمان و مكان و بالنسبة الى كل شخص. و لهما مراتب كثيرة يحتمل أن يكون الامتحان بالنسبة الى كل مرتبة بما تقتضيه المصلحة الإلهية.

ص: 168

قوله تعالى: وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَراتِ . النقص يأتي بمعنى الخسران و هو في مقابل التمام. و المراد من الأموال الأعم من الأعيان و المنافع و ما يهتم الإنسان بحفظه فيشمل الحيوان و العبيد و كل ما يبذل بإزائه المال.

كما أنّ المراد بالأنفس كل ما يتأثر الإنسان بفقده و ورود النقص عليه - سواء كان من النقص في قوى النفس أو عروض الموت عليها - فيشمل النفس و الأقارب و الأصدقاء.

و الثمرات جمع ثمرة و هي و إن كانت داخلة في الأموال غالبا لكن أفردها سبحانه و تعالى لتشمل ما ينبت في الأرض بالطبيعة مما لا مالك لها فعلا و ينتفع بها الإنسان كالمرعى و جملة كثيرة من النباتات التي لها منافع هامة للإنسان و تكون غذاء للحيوان.

و يصح أن يراد بالثمرات مضافا إلى ما ذكرناه ثمرات القلوب أيضا و هي الأولاد كما يعبر عنهم بها كثيرا

و في الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

«إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة: أ قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون:

نعم. فيقول: أ قبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول اللّه تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع، فيقول اللّه تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة، و سموه بيت الحمد».

و الآية تشير الى ملازمة ما تقدم من الأمور لدار الدنيا المعبّر عنها في الفلسفة ب (دار الكون و الفساد). كما أنها تفيد بأن الإيمان باللّه تعالى لا يقتضي سعة الرزق و دفع الآلام و رفع المخاوف بل إن ذلك يجري حسب قانون السببية و ما سنّه اللّه تعالى في عباده و إنما يجريها حسب المصالح و الحكم و لذا نرى أنّ المؤمن يرى من البلاء ما لا يراه غيره ليعلم مقدار صبره أو يكمل إيمانه بها و يتهذب بالأخلاق الفاضلة.

ثم إنّ اختبار النّاس من قبله تبارك و تعالى إنما يكون لأجل حكم و مصالح متعددة منها: توطين النفس على المصائب، و تهذيب الأنفس و تكميلها، و التأدب بمقاومة الحالات، و إتمام الحجة، و التمييز بين الصابر

ص: 169

و غيره، و قوة البصيرة، و صفاء السريرة، و تعلّم اللاحقين من السابقين كيفية مجاهداتهم و استقامتهم في الدين و ما يترتب على ذلك من البشارة العظمى و الأجر الجزيل كما في ذيل الآية الشريفة.

و لا أثر لهذا الامتحان بالنسبة إلى علمه عزّ و جلّ فإن النّاس قبل الامتحان و بعده في علمه التام الأزلي على حد سواء.

و لأجل ذلك لا يختص الاختبار ببعض الأفراد دون بعض بل يشمل جميع أفراد الإنسان حتّى الأنبياء و الأولياء بل نقول إن ذلك من سنن الحياة الإنسانية.

نعم، تارة: يكون الامتحان لإتمام الحجة على نفس الممتحن (بالفتح) كما مر و هذا هو القسم الشايع و أخرى: يكون لأجل إتمام الحجة على النّاس بأن هذا الشخص خرج عن الامتحان و قابل للنبوة و الإمامة كما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السّلام)، و أما بالنسبة إلى سيد الأنبياء فإنه حاز مرتبة الجمع و يجل عن ذلك فانه (صلّى اللّه عليه و آله) أول الخلق كان كاملا و مكملا، و ان «آدم و من دونه تحت لوائه يوم القيامة»، و لو كان عيسى و موسى (عليهما السّلام) حين لم يسعهما إلاّ إتباعه كما ورد في الحديث، و

روى الفريقان إنه قال: «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرب و لا نبي مرسل» و على فرض وقوع الامتحان فإنما يكون لتثبيت علو مقامه عند النّاس كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ . أي: و بشر الصابرين على تلك المصائب الذين رضوا بقضاء اللّه تعالى و قدره و سلموا أمورهم إليه و لم تصدهم المحن و المصائب عن شكر اللّه تعالى و لا عن عبادته و طاعته.

و إنما اطلق سبحانه و تعالى البشارة لعدم إمكان تحديد المبشر به بحد معين، فإنه يختلف باختلاف مراتب الصبر و الرضاء، و المناط هو أهلية الصابر لتحمل البلاء و المحن خصوصا إذا اقترن مع الرضا و التسليم فإنه يكون حينئذ من أعلى الفضائل و أسناها كما قال عزّ و جلّ.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . مادة (ص و ب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير و الشر قال تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ [سورة التوبة، الآية: 50] و قال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79].

ص: 170

قوله تعالى: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . مادة (ص و ب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير و الشر قال تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ [سورة التوبة، الآية: 50] و قال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79].

و استعملت المصيبة في كل ما يؤذي الإنسان في نفس، أو مال أو أهل.

و لكن اختصت عند العرف بالنائبة فقط. و في نصوص كثيرة أن كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة حتّى انقطاع شسع نعله، و الشوكة تدخل في بدنه، فتكون المصيبة في الشريعة بمعناها في اللغة من مطلق الإصابة.

و الرجوع و العود بمعنى مصير الشيء إلى ما كان عليه أولا نظير قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف، الآية: 29].

أي: إنّ كل ما لنا من الحياة و النّعم هو من عند اللّه تعالى و ملك له، فهو اعتراف بالملكية له تعالى ذاتا و تدبيرا و تسليما و رضاء بقضائه و حكمته.

و قول إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالرجوع إليه تعالى و الجزاء على الأعمال. و فيه تسلية لكل مصاب و مظلوم و توعيد لكل جائر و ظالم.

و المعنى: و بشر الصابرين الذين يقولون: إنّا للّه و إنا اليه راجعون المعبرين بلسان مقالهم عن الإيمان بالقضاء و القدر و التسليم لأمره.

و قول إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالمبدأ و المعاد للّه تعالى بالمطابقة، و حيث إنّ مبدأ الكل و مرجعهم يستلزم وحدة الذات و الفعل و الا لزم الخلف، فهذه الآية تدل على توحيد الذات و توحيد الفعل بالملازمة، و لعظمة هذه الجملة

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أعطيت هذه الأمة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم و هو إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ .

و الرجوع إلى اللّه تعالى إما غير اختياري أو اختياري، و الأول هو المعاد الذي دلت عليه جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم الذي أكد في هذا الموضوع تأكيدا بليغا. و هو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأن به يثبت المبدأ و وحدانيته و إذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.

ص: 171

و أما الثاني أي الرجوع الاختياري اليه عزّ و جلّ فهو أن يهيئ الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر و الضمائر حضور مجازاة لما فعل و عمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالى بهذا النحو من الحضور.

و بعبارة أخرى: إن هبوط الإنسان من المحل الأرفع الأعلى الى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه و أن يتدنس بما وقع فيه، و لا بد له من التفكر بالعروج و الصعود و هذا هو الاسترجاع العملي و لا ينفع مجرد الاسترجاع القولي. و للاسترجاع العملي مراتب كثيرة و مقامات شريفة فصّلها العرفاء في كتبهم العرفانية.

قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ . بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة.

و الصلاة هي التحية، و التزكية، و البركة و الثناء الجميل. و الجمع باعتبار الكثرة و التعدد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة و شدتها.

و أما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها. و إنما أتى بالجنس تعميما لكل رحمة يكون المورد قابلا لها في العاجل و هي حسن العزاء و التوفيق.

للرضا و التسليم بالقضاء، و في الآجل من المغفرة و الأجر الجزيل، فهو تعالى رحيم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا و الآخرة.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ . الاهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا، و الجنّة في العقبى فهم المستعدون لنيل سعادة الدارين. و لا ريب في تحقق الاهتداء في الاسترجاع القلبي العملي.

و إتيان الجملة الاسمية المعرّفة الطرفين، و التأكيد بضمير المنفصل يؤكد أن هذه الأوصاف لا تكون إلاّ في من صبر و سلّم الأمر إلى اللّه تعالى و اعترفوا بأنّهم للّه و أنهم اليه راجعون.

ص: 172

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدل الآيات المباركة على أمور:

الأول: إنّ الآيات المتقدمة و ما في سياقها تستنهض النّاس على المجاهدة في سبيل اللّه تعالى، بلا فرق بين ان تكون المجاهدة في قتل الكافرين و المعاندين للحق، أو المجاهدة في تهذيب النفس و تزكيتها بمكارم الأخلاق و ترويضها بصالح الأعمال؛ و يسمى هذا بالجهاد الأكبر كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله). أو المجاهدة في تحصيل المعارف الإلهية فإنها أعظم سبل اللّه تعالى و الجهاد فيه يربو على أجر الشهيد،

ففي الحديث: «إذا كان يوم القيامة يوزن مداد العلماء على دماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» أو المجاهدة في السعي في قضاء حوائج المؤمنين و غير ذلك مما يسمى بالجهاد في الشريعة المقدسة، فإن سبيل اللّه له مراتب كثيرة و جوانب متعددة و المجاهدة فيه أيضا كذلك.

الثاني: إنّ الآيات تدل على وجود عالم البرزخ و قد اثبته الفلاسفة ببراهين عقلية و تدل عليه آيات و روايات كثيرة و هو عالم وسيع جدا يتحقق من بعد الموت إلى البعث قال تعالى: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 100] و لهذا العالم تفاصيل كثيرة لعلنا نتعرض للمهم منها في الموضع المناسب.

الثالث: استدلوا بهذه الآيات على تجرد النفس - كما سيأتي بيانه و التجرد و إن كان حقا في الجملة و العلم به حاليا أولى بأن يكون علما استدلاليا مقاليا.

إلاّ أنّ هذه الآيات بمعزل عن الدلالة على تجرد الروح فإنها لا تنافي كونها جسما لطيفا الطف من الهواء، و مع الاختلاف العظيم الذي وقع من العلماء في شرح حقيقة الروح كيف يمكن الجزم بتجردها أو الجزم بشيء آخر؟! و سيأتي الكلام في الروح إن شاء اللّه تعالى.

ص: 173

الرابع: المراد بحياة الشهداء في سبيل اللّه تعالى الحياة الكريمة الدائمية الأبدية التي هي في جوار اللّه تعالى من أول مفارقة أرواحهم لا خصوص الحياة البرزخية فانها تعم الجميع حتّى الكفار و المنافقين، و لا الحياة الذكرى فانها أيضا قد تكون لغير الشهيد و يصح إرادة الجميع كما تقدم ما يدل عليه.

الخامس: لم يذكر متعلق البشارة في قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ ليفيد العموم - كما هو المشهور بين علماء الأدب - و تعظيما للمبشر به. فكل شيء يذكر فيه يكون تحديدا بلا دليل و هي لا تختص بالمقامات الأخروية بل تعم الجميع و لا يصل إليها أحد إلاّ بالصبر.

السادس: يستفاد من حرف القسم و التأكيد في قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ أنّ الإنسان لا ينفك عن المصائب و البلايا و هي إما نوعية أو شخصية و كل منهما إما جسمية أو روحية أو هما معا. و الدنيا لا تخلو عنها أبدا و هي من لوازم وجودها بل من لازم ذاتها و قد عرّفها علي (عليه السّلام) في خطبه المباركة بأحسن بيان. و يختلف أجر الصابر باختلاف المصائب و اختلاف المصابين فإما أن تكون المصائب لحبط السيئات أو لرفع الدرجات أو التفضل بهما معا و ينطبق على كل بحسبه.

السابع: إنّ ذكر البشارة و تعيين المبشر به بالإجمال يدل على رفعة مقام الشهداء و الصابرين و علوّ درجتهم و ان لا يدنسوا هذا المقام الرفيع بحطام الدنيا فإن أجرهم معلوم، و هذا من قبيل تقديم ذكر الأجر قبل العمل الذي حثّ عليه الشرع المبين.

الثامن: إنّما ذكر سبحانه الاستعانة بالصبر و الصّلاة لأنهما أقوى سبب في تكميل النفس ثم بين أنه تعالى مع الصابرين ترغيبا لهم و تخفيفا من معاناة الصبر لكثرة مرارته، ثم عقب سبحانه بعد ذلك الجهاد في سبيله لكونه من أجلّ المقامات و ارفعها ثم ذكر الابتلاء و الامتحان لأنهما مما يوجب الثبات و الاطمئنان في تحصيل الكمالات المعنوية، ثم ذكر بعض ما يفيضه على الممتحنين من أنحاء العطف و الرحمة كل ذلك مقدمة لما يأتي في الآيات

ص: 174

اللاحقة من تشريع الأحكام الإلهية التي يكون إتيانها و الخروج عن عهدتها من الجهاد الأكبر، فالآيات على اختصارها ترغّب النفوس إلى تحمل المتاعب سواء في مقارعة الباطل و إعلان الحق او في إتيان التكاليف الإلهية؛ و كل ذلك يدل على أن في تحصيل الكمال الأبدي لا بد من بذل الوسع و تحمل المشاق.

بحث روائي:

في تفسير العياشي عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «يا فضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السّلام، و قل لهم: إني لا أغني عنكم من اللّه شيئا إلاّ بورع، فاحفظوا ألسنتكم، و كفوا أيديكم، و عليكم بالصبر و الصّلاة إن اللّه مع الصابرين».

أقول: في سياق ذلك روايات متواترة أخرى

فعن أبي جعفر (عليه السّلام) في الصحيح: «لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا و اللّه»،

و عن الصادق (عليه السّلام) حين حضرته الوفاة: «إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصّلاة».

و قد قطع أبو جعفر (عليه السّلام) بقوله هذا أمل كل مؤمل فيهم، و انه لا يفيد الشخص إلاّ الورع عن محارم اللّه تعالى، و ذكر (عليه السّلام) بعض أفراد العمل الصالح. و إنما خص (عليه السّلام) الصبر و الصّلاة لكون الأول من أهم موجبات الورع، و الثانية من أهم ما يوجب التوفيق للعمل الصالح و ترك المحارم.

في الكافي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في قول اللّه تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ قال: «الصبر الصيام، و قال إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فإن اللّه عزّ و جلّ يقول و استعينوا بالصبر يعني الصيام».

أقول: إنّه من باب التطبيق لأنّ الصوم يوجب الصبر عن الشهوات النفسانية، فلا منافاة بين هذا الحديث و سائر ما ورد في معنى الصبر.

ص: 175

في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «كان علي (عليه السلام) إذا أهاله شيء قام إلى الصّلاة، ثم تلا هذه الآية: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ أقول: إنّه يستفاد منه أهمية الصّلاة لدفع المكاره و رفع الشدائد.

في الكافي و التهذيب عن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليه السلام) «قال له: ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين؟ قال: يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش فقال (عليه السلام): سبحان اللّه المؤمن أكرم على اللّه من ان يجعل روحه في حوصلة طير - إلى أن قال (عليه السلام) - إذا قبضه اللّه تعالى صيّر تلك الرّوح في قالب كقالبه في الدنيا. فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

أقول: هذا الحديث ورد في بيان حياة البرزخ و سوف نفصل الكلام في الحياة البرزخية و لوازمها و ما يتعلق بها في محله إن شاء اللّه تعالى.

و الجزء الأول من الحديث قد نسب إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قد نفاه الإمام (عليه السلام) و هو حق لأنه لو لم يكن من التناسخ الباطل لكان نظيره و اللّه تعالى أقدر من أن يجعل بدنا مثاليا لكل إنسان في عالم البرزخ من ان يجعل له بدنا من الحيوان.

و في التهذيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «انه سئل عن أرواح المؤمنين؟ فقال: في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان».

أقول: لكل بدن نشئات هو في جميعها واحد منها نشأة الدنيا، و منها نشأة النوم في عالم الدنيا، فإذا رأينا زيدا في الخارج ثم رأيناه في عالم النوم فهما واحد بلا إشكال، و منها نشأة البرزخ؛ فيكون البدن المثالي في عالم البرزخ كالبدن المثالي في عالم النوم، و منها نشأة الحشر و البعث و هو عين البدن الدنيوي كما سنبينه في مباحث المعاد.

و لا اختصاص لوجود البدن في هذه النشآت بطائفة دون أخرى: نعم الشهداء متنعمون في أبدانهم البرزخية، و في عالم الحشر بنعمة فاقت على

ص: 176

نعم غيرهم حتّى ورد في نصوص كثيرة أنهم يحشرون على نحو ما استشهدوا أو قتلوا.

و عن ابن بابويه عن محمد بن مسلم قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ قبل قيام القائم علامات تكون من اللّه للمؤمنين قلت و ما هي جعلني اللّه فداك؟ قال (عليه السلام): يقول اللّه عزّ و جل: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ يعني المؤمنين قبل خروج القائم بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ قال نبلوهم بشيء من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم، و الجوع بغلاء أسعارهم، و نقص من الأموال قال: كساد التجارات و قلة الفضل. و نقص من الأنفس قال: موت ذريع. و نقص من الثمرات، قال قلة ربح ما يزرع. و بشر الصابرين عند ذلك بتعجيل الفرج. ثم قال لي: يا محمد هذا تأويله إن اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ .

أقول: أما قيام القائم (عليه السلام) فأصله مسلّم بين جميع المسلمين بل بين المليين، و اتفاق الجميع على أنه لا بد و أن يظهر مصلح بين النّاس إنما الاختلاف في المصداق.

و قبل القائم أمر إضافي يشمل القريب بقيامه و البعيد عنه. كما أن ما ورد في علامات الظهور موكول إلى مشيئة اللّه تعالى و ليست كلها حتمية يمكن ان لا يظهر جملة كثيرة منها، و يمكن ان يظهر جملة منها و لم يأذن اللّه تبارك و تعالى بظهوره (عليه السلام) و هذا التفصيل موكول إلى الكتب المعدة لذلك و الروايات الواردة فيها.

و على أي تقدير ما ورد في الحديث من باب التطبيق و لذا

عبر (عليه السلام) بقوله: «هذا تأويله».

عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ أي: بالجنّة و المغفرة.

أقول: هذا بيان لبعض مراتب المبشر به و درجات البشارة في الجملة لا بالنسبة إلى جميع مراتبها، فإن للصبر مراتب و متعلقه أيضا كذلك، و لا ريب

ص: 177

في أنّ بعض مراتبه أشد من مرتبته الأخرى، فلا يعقل تسوية المبشر به بالنسبة إلى الجميع و تقدم في تفسير الآية ما يتعلق بالمقام.

و عن الباقر (عليه السلام) قال: «أتى رجل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد قال: فجاهد في سبيل اللّه عزّ و جل فانك إن تقتل كنت حيا عند اللّه مرزوقا، و إن مت فقد وقع أجرك على اللّه».

أقول: لا فرق بين الشهادة و الموت إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات انفصال الروح عن البدن، فإنه في كل منهما واحد و إنما الشهادة بالنسبة إلى القتل في سبيل اللّه و الموت بالنسبة إلى غيره، ممن يخرج في سبيل اللّه فان مات في الطريق فهو في حكم الشهيد، و ان قتل بيد العدو فهو شهيد حينئذ

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «و ان مت فقد وقع أجرك على اللّه» تطبيق للآية الشريفة:

وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 100].

في المجمع عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته و أحسن عقباه، و جعل له خلفا صالحا يرضاه. و قال (صلّى اللّه عليه و آله): من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا و إن تقادم عهدها كتب اللّه له الأجر مثله يوم أصيب».

أقول: هذا الحديث يبين بعض ما قاله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ .

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام): «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة و يصبر حين تفجعه إلاّ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و كلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكره المصيبة غفر اللّه له كل ذنب اكتسب فيما بينهما».

أقول: ترتب الثواب على الاسترجاع، لأنه اعتراف بالتوحيد الذاتي و التوحيد الفعلي، و اعتراف بالمبدأ و المعاد. فهذه الكلمة جامعة لجملة كثيرة من المعارف الإسلامية، و قد ورد في بعض الأحاديث أنها من خواص هذه الأمة كما تقدم.

ص: 178

في الخصال «أربعة من كنّ فيه كان في نور اللّه الأعظم: من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه، و من إذا أصابته مصيبة قال: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، و من إذا أصاب خيرا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ ، و من إذا أصاب خطيئة قال: استغفر اللّه و أتوب إليه».

أقول: المراد بنور اللّه الأعظم رحمته الواسعة، و هدايته الكاملة إلى المعارف الإلهية، و ذلك لأن هذه الكلمات جامعة لجميع ذلك بنحو الإجمال.

و في الكافي عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه عزّ و جل إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا [فيضا] فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة [منهنّ] عشرا إلى سبعمائة ضعف، و ما شئت من ذلك و من لم يقرضني منها قرضا و أخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها مني، قال: ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): قول اللّه عزّ و جل: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ فهذه واحدة من ثلاث خصال و رحمة من اثنتين، و أولئك هم المهتدون ثلاث. ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): هذا لمن أخذ اللّه منه شيئا قسرا».

أقول: يدل على الجزء الأول من الحديث قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اَللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة، الآية: 245]؛ و قوله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 17].

و أما

قوله (عليه السلام): «و أخذت منه شيئا قسرا» أي جبرا و كرها فهو بالنسبة إلى عامة النّاس، و أما بالنسبة إلى أولياء اللّه تعالى فلا يتصور القسر بالنسبة إليهم لأنّهم في مقام التسليم و الرضا بأمره تعالى.

و في نهج البلاغة قال علي (عليه السلام) و قد سمع رجلا يقول: «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» : «يا هذا إن قولنا: إنّا للّه إقرار على أنفسنا

ص: 179

بالملك. و قولنا: إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . اقرار على أنفسنا بالهلاك».

أقول: يستفاد منه ان هذه الجملة المباركة تشتمل على الاعتراف بالمبدأ و المعاد اللذين هما أساس دعوة الأنبياء و الكتب النازلة من السماء.

و أمثال هذه الروايات كثيرة جدا.

و في المعاني عن الصادق (عليه السلام): «الصّلاة من اللّه رحمة، و من الملائكة تزكية، و من النّاس دعاء».

أقول: قريب منه روايات أخرى، و يمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد و هو الميل و العطف و لكنه يختلف باختلاف الموارد.

بحث فلسفي في تجرد النفس:
اشارة

البحث عن النفس من المباحث المهمة لتعدد الجوانب فيها فقد بحث عنها في الفلسفة القديمة و الحديثة كما بحث عنها في علم الأخلاق و علمي الحديث و التفسير، و العرفان، كما بحث عنها في علم الأحياء و أخيرا أفرد لها علم مستقل يعرف باسمها يبحث فيه عن معرفة النفس الإنسانية و طبيعتها و عوارضها و عملها و أمراضها و وضعوا فيها نظريات و قوانين.

و لقد حاول العلماء التوصل إلى طبيعة هذا المخلوق العجيب و معرفة المسائل التي تتعلق بها لعلهم يجدوا حلا للشبهات التي قد تنشأ من التفكر فيها إلاّ أنهم اعترفوا بعد طول الجهد بالعجز عن الكثير و إن أمكنهم الكشف عن بعض الجوانب و لكنه لا يغني عما يستجد من المشاكل فضلا عن ما ذكرناه فالحقيقة بعد تحت الحجاب، و في ذلك تنبيه الإنسان على أنه إذا عجز عن فهم حقيقة ما هو أقرب الأشياء اليه فكيف يطمع بالإحاطة بحقيقة ما اعترفت العقول بالعجز عنه و الخضوع امام عظمته.

و السبب في ذلك ان النفس - أو الروح - من عالم الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل، لتحقق الإضافة التشريفية فيها بما لا نهاية له بوجه من الوجوه قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 8] و قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85]، و قال جلّ شأنه: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر، الآية: 29] و لأجل هذه الإضافة صارت من الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل أو من كشف عن بصيرته الستار فيرى أنوارا من المعارف لا يعلم مراتب رفعتها و أنواع أشعتها الا اللّه تعالى.

ص: 180

و السبب في ذلك ان النفس - أو الروح - من عالم الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل، لتحقق الإضافة التشريفية فيها بما لا نهاية له بوجه من الوجوه قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 8] و قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85]، و قال جلّ شأنه: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر، الآية: 29] و لأجل هذه الإضافة صارت من الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل أو من كشف عن بصيرته الستار فيرى أنوارا من المعارف لا يعلم مراتب رفعتها و أنواع أشعتها الا اللّه تعالى.

و نحن نذكر في المقام جانبا من تلك الجوانب و هو البحث عن تجرد النفس. و نتعرض للبقية في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى. و تمهيدا للبحث في الموضوع لا بأس بذكر ما يتعلق بالمراد من (النفس) و موقعها من الموجودات.

تقسيم الموجود:

لو نظرنا إلى ذات الموجود من حيث هو فانه ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: أن لا يكون محتاجا إلى المادة مطلقا - لا في ذاته و لا في فعله - بل يكون منزها عنها مطلقا، و هذا القسم منحصر في اللّه تعالى الذي هو خالق الخلق جميعا من مجرداتها و مادياتها.

الثاني: أن يكون محتاجا إلى المادة في الذات و الفعل معا، و هو عالم الماديات المحضة التي تكون ذاتها من المادة و فعلها بها و فيها أيضا.

الثالث: أن لا يكون في ذاته محتاجا إلى المادة و لكن في فعله يحتاج إليها و هو النفوس مطلقا - نباتية كانت أو حيوانية أو إنسانية أو فلكية - المتعلقة بجسم الأفلاك، لا الساكنة فيها كالأملاك.

الرابع: أن يكون في ذاته محتاجا إلى المادة دون فعله و هذا باطل بالضرورة كما هو معلوم.

كما ينقسم الموجود باعتبار آخر إلى اربعة أقسام أخرى:

الأول: أن لا يكون له حدوث أبدا بل يمتنع عليه ذلك، فيكون أبديا سرمديا من ذاته بذاته، و هو منحصر في اللّه عزّ و جل.

الثاني: أن يكون جسمانيا في الحدوث روحانيا في البقاء، فيكون إبداعا إليها في الجسم بنحو ما جرت عليه إرادته البالغة التامة كالنفس، فهي

ص: 181

من جهة كثمرات الأشجار و أوراد النباتات و جمال كل جميل، و حسن كل حسن و غير ذلك مما هو من بدايع اللّه تعالى و ودائعه في الطبيعة، و الأعمال القريبة إلى الإنسان التي تفعلها النفس من هذا القسم أيضا فإنها جسمانية الحدوث روحانية البقاء، لبقائها ببقاء اللّه تعالى و عدم نفاذها و قد أشتهر بين الفلاسفة: «أن النفوس الناطقة جسمانية الحدوث روحانية البقاء».

الثالث: أن يكون روحاني الحدوث و روحاني البقاء كالروحانيين و الأملاك الذين هم سكنة الأفلاك المسيطرون على السفليات بإذن خالق البريات.

الرابع: أن يكون روحاني الحدوث جسماني البقاء كالملك إذا ظهر في صورة جسم، و قد مر في الحجر الأسود من أنه كان ملكا ثم صار حجرا فراجع الآية 137 من هذه السورة.

إذا عرفت ذلك يتبين موقع النفس من هذه الموجودات، فهي الموجود الذي يحتاج في فعله إلى المادة دون ذاته فلا يمكن استقلالها عن الجسد في العمل الذي يكون جسماني الحدوث، لأن حدوثها بحدوث الجسم و قبله لا يكون شيئا؛ و روحاني البقاء لبقائها بعد فناء الجسد. و قد عبر بعض الفلاسفة المحدثين (هيغل) عن النفس بأنّها أدنى تجل حسّي للروح في علاقتها بالمادة، أي: حساسة و فاعلة.

المراد من النفس:

النفس في اللغة تأتي بمعنى الذات و الشخص، و هي مشتقة من (النّفس) الذي هو بمعنى نسيم الهواء؛ و به تتعلق حياة الإنسان فالنفس ما تقوم به الحياة، و لذا سمي الدم (نفسا) في اللغة و الشرع كما ورد في أحاديث حيوان ذي النفس السائلة، و لعل ذلك من باب إطلاق الحال على المحل، لأن حركة الدم في الجسم منشأ لحصول الروح البخاري، و هي مورد تعلق النفس الحيواني. فالنفس هي ما تتقوم به الحياة و بها يتميز الكائن الحي مما لا حياة فيه. و هي بهذا المعنى تكون مرادفة (للروح) فإن الروح إذا انقطعت عن الحيوان فارقته الحياة و كذلك النفس.

ص: 182

و كيف كان فهي ظاهرة عند كل فرد حي، و هي المعبر عنها ب (أنا) و قد عرّفها العلماء بتعاريف مختلفة يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن، فقد عرّفها بعض أكابر الفلاسفة في منظومته الفلسفية:

و أنّها بحت وجود ظل حق *** عندي و ذا فوق التجرد انطلق

و عن العرفاء: أنها من مظاهر التجلي الإلهي، و هي جوهر مشرق للبدن.

و قال بعضهم: إنّها الجوهر البخاري اللطيف الذي هو منشأ الحياة و الحس و الحركة الإرادية. و يسميها أفلاطون بالفكرة الأبدية.

و أما عند الماديين فقد اتفقوا على أنها شيء مادي يمكن أن تقع تحت تجربة؛ و لكنهم اختلفوا في طبيعتها فعن الماديين القدماء انها عمليات أولية فيزيقية كيماوية. و تعتبرها الشعوب البدائية ظل الشخص أو الدم، أو النّفس و نحو ذلك، و من هنا جاء المعنى اللغوي.

و هي عند الجدليين منهم ظواهر عقلية و تفاعلات مادية يمكن كشفها و فحصها بالتجربة و نحوها، و بعبارة أخرى هي صفة خاصة للمادة في تنظيمها الأعلى فلا يمكن لها التجرد عن الجسد أبدا، و هي بهذا المعنى تكون مرادفة للفكر و الإدراك و الذهن و العقل و نحو ذلك.

و لكن النفس عند المتدينين إنها قوة لا مادية خالدة غير متجسدة قادرة على أن توجد في انفصال و استقلال عن الجسد في عالم آخر.

هذه كلمات القوم في تعريف النفس مع غض النظر عن المناقشات التي يمكن ان ترد عليها فان لها موضعا آخر. و قد ألّف المحقق الثاني كتابا في النفس و الروح في القرن العاشر الهجري سماه (الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس و الروح) و جمع الأقوال فيها و أنهاها إلى ما يقرب من أربعين قولا؛ و ان أمكن إرجاع بعضها إلى بعض فتصير الأقوال أقل لا محالة.

و المستفاد من الكتب السماوية و القرآن الكريم أن النفس شيء فيها اقتضاء كل كمال معنوي من اللّه تعالى و كمال ظاهري بلا تحديد فيه بذلك، و هي متحدة مع الجسد زمنا ما ثم تنفصل و تبقى إما سعيدة أو شقية

ص: 183

حسب ما يختار صاحبها من الطريقين، فانها كصحيفة بيضاء لا أثر فيها الا بما ينتقش فيها إما للدنيا أو الآخرة أولهما معا، قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39]، فالآية تشمل كل واحدة من الدارين أو هما معا، قال تعالى: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [سورة طه، الآية: 15] فلا نجاة لها إلاّ بالعمل الصالح الذي ورد من الشرع، و لا مقام و لا منزلة لها في الدنيا إلاّ بالسعي، و هي متفاوتة في ذاتها و مختلفة في آثارها، و هذا قريب من الوجدان. و قد قسمها العلماء إلى أقسام ليس هنا موضع ذكرها و سيأتي تفصيل ذلك كله في آية 281 من هذه السورة إن شاء اللّه تعالى.

تعدد النفس و الجسد:

إذا رجع كل فرد إلى وجدانه يرى انه شيئان: النفس و الجسد و يذعن بأن للإنسان بدنا (جسدا) و قوى ظاهرية، و ما يدبرها و هو ليس إلاّ النفس المعبر عنها ب (الروح)، و هما متحدان كاتحاد الماء مع الورد لا يمكن الفصل بينهما إلاّ من ناحية الآثار و العوارض و الحوادث و الآفات. فإن للجسم خواصا و آثارا و امراضا معينة، كما أن للنفس آثارا و ظواهر و حوادث، و لعل هذا الأمر أصبح من الواضحات في هذه الأعصار بعد تقدم العلم و كشف الظواهر النفسية و ما يترتب عليها من الآثار و الأمراض المتعلقة بالنفس دون الجسد و قد وضعوا لها علما مستقلا يتكفل جميع ما يتعلق بالنفس.

و مع ذلك فقد اثبت الفلاسفة و العلماء القدماء منهم و المحدثون ثنائية النفس و الجسد بأدلة كثيرة قويمة لا تبقي مجالا للقول بواحدية الإنسان كما عن الماديين و انه ليس إلاّ جسما فقط، فانه مخالف للوجدان و الدليل العقلي و جميع الأديان السماوية.

نعم يبقى شيء و هو أنّ الإنسان و إن كان مركبا بالتحليل العقلي من النفس و الجسد إلاّ أنه واحد شخصي يشار إليه باعتبار أنه شخص مادي ذو فكر، متعلم، يفعل كذا و كذا، و بمثل هذا الواحد الشخصي تعلق الخطاب في القرآن الكريم و الشريعة المطهرة و في المحاورات. و لعل من قال بواحدية

ص: 184

الإنسان أراد منها هذه الوحدة، و لا بأس بها، و لكنه حمل ينافي صريح كلماتهم.

معنى التجرد:

لم يرد هذا اللفظ بالنسبة إلى النفس في القرآن الكريم و لا في السنة الشريفة. و إنما استفيد ذلك من سياق الآيات و الأحاديث و الإشارات الواقعة فيها التي يستفاد منها التجرد كالآية التي تقدم تفسيرها و غيرها من الآيات التي نشير إليها.

و المراد من التجرد كفاية أمر اللّه تعالى و إنشائه في تحقق شيء بلا حاجة إلى سبق مادة و تبدل صورة أو غير ذلك في التحقق و الثبوت، و تكون نسبته إلى المادة نسبة القوى المحركة للآلات التي تتحقق بها الحركة، سواء كانت الآلات طبيعية، و يسمى ب (التجرد التكويني). أم صناعية و يسمى ب (التجرد الصناعي).

و هناك معنى آخر للتجرد و هو ابتعاد النفس عما سوى اللّه تعالى بالإرادة و الإختيار بواسطة المجاهدات و الرياضات الشرعية بأن تكون جميع مشاعره الظاهرية و المعنوية - كما أنها من اللّه تعالى - تكون في اللّه و باللّه تعالى، فيصير الشخص من جميع جهاته مظهرا من مظاهر اللّه عزّ و جل، فيتجرد عن دار الظلمة و الغرور و يتصل بينبوع النور، و يسمى هذا ب (التجرد الاختياري).

و لا ريب في أن الأول يكون معدا للثاني، إذ لولاه لما تحقق للأخير موضوع أبدا، و مع ذلك فهو أفضل من الأول بمراتب. كما أنّ الموت تارة طبيعي و أخرى اختياري رغّب اليه

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بقوله: «موتوا قبل ان تموتوا» أي أميتوا النفس الأمارة بالسوء قبل أن تموتوا بالطبيعة. و قد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين التجردين كما لا يخفى على من راجع عباراتهم.

الأدلة على تجرد النفس:

ص: 185

أما الأول: فقد استدلوا بجملة من الآيات المباركة، منها تلك الآيات التي أضيفت الروح فيها إلى اللّه تعالى حدوثا؛ كقوله تعالى: قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85]، و قوله تعالى: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر، الآية: 29] أو أضيفت اليه تعالى بقاء، كقوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [سورة الأنعام، الآية: 60] إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أن هذه الإضافة المطلقة - بلا ذكر سبب مادي أصلا لا مقارنا، و لا سابقا، و لا لاحقا - إلى اللّه تعالى المنزه عن توهم المادة تدل على التجرد بوضوح إذ لا بد أن يكون المنسوب اليه تعالى منزها عن المادة أيضا. و الإهمال فيه مع كثرة أهمية الموضوع، و قيام نظام الدنيا و الآخرة به يكون قبيحا عقلا، لأن الأمر دائر فيه بين النفي و الإثبات فإما أن يكون مجردا محضا؛ أو ماديا لا بد و أن يذكر فيه الجهة المادية و لو في آية أخرى.

و منها: الآيات الكثيرة الدالة على التعقل و التفكر و ذم التغافل عنها فإن ذلك لا يتحقق إلاّ في ما هو مجرد عن المادة خصوصا على ما أثبته أكابر الفلاسفة و أعاظمهم من اتحاد العاقل و المعقول، و سنبين هذا البحث النفيس في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و منها قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [سورة الفجر، الآية: 27] و غير ذلك من الآيات التي تدل بظاهرها على تجرد النفس و بقائها بعد الموت و انتقالها من البدن المادي إلى بدن آخر برزخية أخروية.

أما الثاني: أي الاستدلال بالسنّة الشريفة، و هي نصوص كثيرة وردت في أبواب متفرقة، و منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام»، و لا ريب في دلالته على سبق الحدوث و التجرد في الجملة، و هل المراد بألفي عام الأعوام الربوبية، أو الأعوام الزمانية في عالمنا هذا؟ لم يتضح ذلك إلى الآن حق الوضوح. ثم ما وجه التخصيص بألفين دون غيرهما.

ص: 186

و منها

قول علي (عليه السلام): «إنّ هذه الأرواح تكلّ كما تكل الأبدان - الحديث -» و هو ظاهر في أنها من عالم آخر غير عالم المادة.

و بالجملة، النصوص من الأئمة الهداة أكثر من ان تحصى - و قد سبق في البحث الروائي بعضها - و مجموعها يدل على ان النفس و الروح من عالم آخر تعلقت بالبدن برهة من الزمن ثم تنفصل عنه ثم تعود متعلقة به و تبقى خالدة أبد الدهر.

يضاف إلى ذلك ما اثبته العلماء في العصر الحديث من أمور ترتبط بالنفس و قد وضعوا لها كتبا مستقلة، كما أثبت العلماء الأخلاق امراض النفس و آفاتها، و يشهد لذلك ما اثبت في هذه الأعصار من التفرقة الحسية بين الأرواح و الأجساد.

أما الثالث: أي الدليل العقلي فقد استدل في الفلسفة على تجرد النفس بأدلة كثيرة أنهاها بعضهم إلى عشرة لا يخلو بعضها عن المناقشة. و أهمها أمور:

الأول: حضور ذات النفس بذاته لكل أحد، و هذا بديهي، و هو يدل على التجرد، إذ لو كانت مادية لما أمكن ذلك إلاّ بالانطباع في ما هو أصفى و الطف منها، كما في حضور جميع الصور المادية في المرآة أو الماء الصافي و نحو ذلك.

الثاني: صدور الدقائق العلمية و الفكرية منها مما لا يمكن صدورها عن غير المجرد.

الثالث: قدرتها على تصور غير المتناهي. إلى غير ذلك مما فصل في علم الفلسفة و الكلام.

و من ينكر أصل الروح و النفس أو يقول بماديتها و أنها نفس البدن فلا يسعه إلاّ إنكار وجدانه.

ص: 187

ثمرة البحث:

نتيجة هذا البحث النفيس [تجرد النفس و عدمه] تظهر فى المعاد الروحاني فإن القول بتجرد النفس و عدم فنائها بفناء البدن يمهد الطريق للمعاد الروحاني و يسهل الالتزام به معه، كما عليه جمع كثير من الفلاسفة قديما و حديثا.

و بعكس ذلك، أي القول بعدم التجرد و كون النفس تابعة للبدن فإنه يدل على مسألة المعاد الجسماني. و قد صرح جمع من الفلاسفة بأن طريق إثباته منحصر بالدليل السمعي فقط.

و هذه الثمرة مبتنية على ان المجردات تبقى - و غيرها ينعدم و يفنى ثم يعاد. و لكن يظهر من الآيات المباركة أن ما سواء اللّه تعالى - من مجرداته و مادياته - ينعدم قبل قيام الساعة قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلالِ وَ اَلْإِكْرامِ [سورة الرحمن، الآية: 26 و 27]، و كذا النصوص التي يأتي بيانها مفصلا في المورد المناسب إن شاء اللّه تعالى؛

قال علي (عليه السلام): «إن اللّه سبحانه يعود بعد فنائها الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت و لا مكان، و لا حين، و لا زمان عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات فلا شيء إلاّ اللّه الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الأمور». نعم يثبت المعاد مطلقا بالكتاب و السنة على ما يأتي بيانه مفصلا.

إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خ.......

اشارة

إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أمر القبلة و ما يلاقيه الإنسان - في سبيل استكماله و تزكية النفس - من المصائب التي لا بد من الصبر عليها و التسليم له تعالى، بيّن سبحانه بعض ما يكون دخيلا في كماله فذكر من مشاعر الحج الصفا و المروة و اعتبر التطوف بهما من الخير الذي يشكره عليه و يجزيه بالجزاء الأوفى.

ص: 188

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ ، مادة (ص ف و) تأتي بمعنى الخلوص عن الشوب، و منه الصفاة و هي الحجارة الملساء الصافية الخالصة، و منه أيضا اصطفاء اللّه لخاصة عباده لخلوصهم في عبوديته، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 33]، و قال تعالى: وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى [سورة النمل، الآية: 59].

و الصفا جبل بمكة تجاه البيت الحرام، سمي به، مضافا إلى الوجه اللغوي، أنّ صفي اللّه آدم (عليه السلام) هبط عليه فسمي المحل باسم الحال، و هو يذكر و يؤنث.

و المروة واحد المرو، و هي الحجارة البيض، أو الحجارة التي تقدح منها النار، و هي جبل بمكة أيضا، سمي الموضع بها مضافا إلى التسمية اللغوية أن المرأة - أي حواء - نزلت عليها فسمي المحل باسم الحال.

و بين الصفا و المروة من المسافة ما يزيد على 760 ذراعا يسعى بينهما في الحج و العمرة. و كان للمشركين عليهما أصنام إلى أن أظهر اللّه تعالى الإسلام فألقاها عنهما رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة تطلق تارة: على معالم الحج و مشاعره، و هي أعلامه الظاهرة المعدة للنسك و العبادة، و مشاعر اللّه كل ما يتعبد فيه للّه عزّ و جل، و أخرى: على العبادة و النسك من صلاة و صوم و دعاء، و قراءة القرآن و غير ذلك مما يصح أن تكون عبادة.

و المعنى: إنّ الصفا و المروة من مواضع عبادة اللّه تعالى و معالم طاعته، لأنّ المسعى من أحب البقاع إلى اللّه تعالى، و أن السعي بينهما تذلل خاص و خشوع كبير للّه تعالى، و أن فيه يذل كل جبار

ففي الحديث قيل للصادق (عليه السلام): «لم صار المسعى أحب البقاع إلى اللّه تعالى؟ قال:

لأنه يذل فيه كل جبار».

قوله تعالى: فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ . الحج هو القصد للزيارة، و في

ص: 189

الشرع قصد بيت اللّه الحرام لأداء النسك المخصوصة المعروفة في كتب الفقه.

و العمرة: الزيارة، و هي من العمارة لأن المزور يعمر بالزيارة و هي شرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام على ما هو المفصل في الفقه و الاعتمار أداء مناسك العمرة.

و قد ورد لفظ الحج في القرآن العظيم في تسعة موارد، كما ورد لفظ الاعتمار فيه في مورد واحد، و لفظ العمرة في موردين.

قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما . الجناح (بالضم) الميل، و المراد به هنا الترخيص و عدم الإثم و البأس و لو كان بحسب القرائن الحافة به. و أما وجوب المورد او عدمه فلا بد أن يستدل عليه بالدليل آخر، كما يقال لمن صلّى في ثوب أسود: لا جناح بالصلاة فيه، فإنه لا يدل على الترخيص في أصل الصّلاة بعد ثبوت وجوبها بأدلة خاصة، فيكون متعلق الجناح جهات أخرى لا أصل الصلاة.

و السر في التعبير به مع أنّ السعي بين الصفا و المروة واجب في الحج و العمرة عند المسلمين إما لأجل رفع توهم الحظر فان المسلمين توقفوا في بادئ الأمر من الطواف بينهما، لمكان الأصنام الموضوعة عليهما.

أو لأجل أنّ المشركين كانوا لا يرون الصفا و المروة من الشعائر، و أنّ السعي بينهما ليس من مناسك ابراهيم (عليه السلام) فعبر تعالى بذلك، و هو لا ينافي وجوب السعي بدليل خارجي، كما سيأتي في البحث الفقهي.

و التطوف: الطواف و هو المشي حول الشيء، أو بين شيئين، و قد استعملت المادة في القرآن كثيرا بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و العذاب و الرحمة، قال تعالى: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ [سورة الحج، الآية: 29]، و قال تعالى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ [سورة القلم، الآية: 29] و قال تعالى: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [سورة الإنسان، الآية: 19].

ص: 190

و يطلق الطيف على الخيال، و النوم، و الحادثة باعتبار الإحاطة بالإنسان.

و سمي السعي بينهما تطوفا باعتبار تكرره و الرجوع الى مبتدئه كما يطلق على المرأة طوافة البيت.

و إنما بدأ سبحانه في بيان أعمال الحج و احكامه بالسعي بين الصفا و المروة مع أنه مؤخر عن جملة من الأعمال - كالإحرام و الطواف بالبيت - إما لأجل أن حكمة تشريعة كانت بعيدة عن العقول، أو لأجل أن الصفا و المروة كانا محلا لأعظم أصنام المشركين، فكان المسلمون يتنزهون عن السعي بينهما. أو لأجل إنكار شعيرتهما و عدم كونها مما أتى به إبراهيم (عليه السلام) أول مشرع لأحكام الحج و يرشد الى هذا الاحتمال ذكر آية الكتمان بعد ذلك.

و يمكن أن يقال: انه قد ذكر سبحانه إجمالا بعض اعمال الحج في ما تقدم من الآيات، فقد ذكر الطواف في قوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ [سورة البقرة، الآية: 125] و ذكر صلاة الطواف في قوله تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة، الآية: 125] و هنا ذكر السعي، و سيأتي بقية الأحكام في هذه السورة و سورة الحج.

قوله تعالى: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً . التطوع: هو الرغبة في الشيء متخذا له كما في التعلم و التفهم، و هذا هو شأن هيئة (تفعّل) و هو أعم من الطاعة فانها لا تصدق إلاّ إذا كان أمر في البين - واجبا كان او ندبا - و في غيره لا تصدق الإطاعة.

و لا يدل اللفظ على الندب و الاستحباب إلاّ بقرينة خارجية؛ و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: خَيْراً أن السعي كالطواف حول البيت الحرام انه خير و يكون محبوبا له تعالى، و يقتضيه المتعارف عند الملوك فإن كثرة تردد الرعايا على أبوابهم محبوبة لديهم.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ . شكره تعالى إنعامه على العباد، و الجزاء على ما فعلوه من الخير. و هو العليم بطاعة العباد لا يخفى عليه شيء فيجازي كل فرد بما يستحقه من الجزاء.

و في التعبير بالشكر إشارة إلى نهاية لطفه و كمال عنايته بعبيده، فان العبد

ص: 191

و عمله ملك له تعالى و منافع عمله عائدة إليه و مع ذلك فهو تعالى قد شكرهم عليها و يجزيهم بالخير الجزيل. و في ذلك إيماء إلى وجوب شكر المنعم و الترغيب اليه؛ و الحث على التخلق بأخلاق اللّه تعالى، و التشكر من النّاس و التقدير من أعمالهم.

و معنى الآية المباركة إنّ الصفا و المروة من مشاعر عبادة اللّه تعالى و طاعته فمن قصد زيارة البيت في الحج و العمرة يكون السعي بينهما مطلوبا لأنه خير.

بحث روائي:

ابن بابويه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سمي الصفا صفاء لأن المصطفى آدم هبط عليه، فقطع للجبل اسم من اسم آدم (عليه السلام) يقول اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ . و هبطت حواء على المروة و إنما سميت المروة، لأن المرأة هبطت عليها، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة».

أقول: هذا من بعض وجوه التسمية كما تقدم في التفسير، و يمكن أن يكون هناك جهات أخرى للتسمية، و لا بأس بأن يجتمع في شيء واحد جهات متعددة للتسمية.

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما قال: «لا حرج عليه أن يطوّف بهما».

أقول: تقدم ما يدل على وجوب السعي بينهما و أن قوله تعالى: فَلا جُناحَ و ما ورد في تفسيره بلا حرج إنما هو من جهات اخرى لا من جهة إباحة اصل السعي حتّى ينافي الوجوب.

في الكافي عن بعض أصحابنا قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن السعي بين الصفا و المروة فريضة أم سنة؟ فقال (عليه السلام): فريضة.

قلت: أو ليس قال اللّه عزّ و جل: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما قال: كان ذلك في عمرة القضاء إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) شرط عليهم أن

ص: 192

يرفعوا الأصنام من الصفا و المروة».

و مثله في تفسير العياشي إلاّ أنه زاد: «فتشاغل رجل من أصحابه حتّى أعيدت الأصنام قال: فأنزل اللّه. إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي و الأصنام عليهما».

أقول: الرواية تبين ما تقدم من اختلاف متعلق الوجوب و هو ذات السعي و متعلق «لا جناح» باعتبار وجود الأصنام.

و في الكافي أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) في حديث حج النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «بعد ما طاف بالبيت و صلّى ركعتيه قال (صلّى اللّه عليه و آله): إن الصفا و المروة من شعائر اللّه فابدأ بما بدأ اللّه عزّ و جل، و ان المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا و المروة شيء صنعه المشركون فأنزل اللّه: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما .

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إنّ المسلمين كانوا يظنون أنّ السعي ما بين الصفا و المروة شيء صنعه المشركون فأنزل اللّه هذه الآية» و روى السيوطي مثله في الدر المنثور.

أقول: حيث إنّ المسلمين كانوا يعتقدون أنّ السعي من فعل الجاهلية فيصير قوله تعالى: فَلا جُناحَ في مقام توهم الحظر كما تقدم.

و في تفسير القمي: «إنّ قريشا وضعت أصنامهم بين الصفا و المروة و كانوا يتمسحون بها إذا سعوا، فلما كان من أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما كان في غزوة الحديبية و صده عن البيت و شرطوا له أن يخلوا له البيت في عام قابل حتّى يقضي عمرته الثالثة، و قال لقريش: ارفعوا أصنامكم حتّى أسعى فرفعوها».

أقول: لا منافاة بين هذه الرواية و بين الرواية السابقة الدالة على السعي مع وجود بعض الأصنام لإمكان بنائهم على الرفع و اشتغالهم به و لم يتم ذلك إلاّ بعد مدة.

ص: 193

في الدر المنثور عن عامر الشعبي: «كان وثن بالصفا يدعى إساف، و وثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما و يمسحون الوثنين فلما قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قالوا: يا رسول اللّه إن الصفا و المروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين و ليس الطواف بهما من الشعائر فأنزل اللّه إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ - الآية - فذكّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه و أنّث المروة من جهة الصنم الذي كان عليها مؤنثا».

و في صحيح البخاري عن عاصم «كان المسلمون يمسكون عن الطواف بين الصفا و المروة و كانا من شعائر الجاهلية، و كنّا نتقي الطواف بهما فأنزل اللّه تعالى إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ - الآية -».

أقول: ورد من طرقنا قريب من ذلك أيضا.

بحث فقهي:

يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ أن السعي عمل عبادي يتقوم بقصد القربة فبدونه أو مع قصد الرياء - نستجير باللّه منه - أو غاية أخرى يكون السعي فاقدا لصلاحية الإضافة إلى اللّه تعالى و يكون السعي باطلا، كما في سائر العبادات فيفسد حينئذ اصل الحج أو العمرة، كما هو المفصل في كتب الفقه.

و السعي بين الصفا و المروة عبارة عن المشي بينهما سبع مرات بدءا من الصفا و انتهاء بالمروة كما هو مذكور في الفقه. و يصح ماشيا و راكبا؛ و لا يعتبر فيه الطهارة لا الحدثية و لا الخبثية، و لا الموالاة بين الأشواط، و لا بين أبعاضها على ما فصل في الفقه.

و هو واجب كما عليه جمهور المسلمين و تدل عليه نصوص كثيرة و إجماع الإمامية، و تقدم أن نفي الجناح إنما كان لرفع توهم الحظر الذي اعتقده المسلمون باعتبار أنّ السعي شيء صنعه المشركون أو لأجل وجود الأصنام على الجبلين فتوقفوا من السعي بينهما كما مر، و يمكن استفادة ذلك من ظاهر الآية الشريفة أيضا، فإن إثبات كون الصفا و المروة من شعائر اللّه يدل

ص: 194

على أنّ الإعتقاد كان على خلاف ذلك فأراد سبحانه و تعالى إعلام النّاس بشعيرتهما و نفي ما كان معتقدا عندهم.

و مما ذكرنا يعرف أنّ التطوع بالسعي أمر مرغوب فيه، لأنه خير و من تعظيم شعائر اللّه تعالى، و لا يستفاد منه الاستحباب الشرعي المصطلح عليه في الفقه و لا سيما مع القرينة المزبورة على الخلاف. و لذلك وردت الروايات الدالة على وجوب السعي لعدم التنافي بينه و بين ظاهر الآية الشريفة، و تقدم في البحث الروائي ذكر بعض الروايات و التفصيل يطلب من كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام].

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ (159) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (160) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) سبق و أن ذكر سبحانه عناد أهل الكتاب و الكفار في إنكار الحق و هم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، و في هذه الآيات يبين نوعا آخر من عنادهم، و هو أنهم يكتمون ما أنزل اللّه تعالى إما بإنكار أصله او بتحريفه عن مواضعه، و هو ظلم عظيم يعرف من عظم ما أوعد عليه اللّه تعالى مما أوجب طردهم من رحمته كما طرد من رحمته كل من مات منهم على الكفر فأوجب خلودهم في النّار.

و لعل في ذكر آية الكتمان بعد ذكر آيات القبلة و بعض أعمال الحج إشارة إلى لزوم الاهتمام بالاعتناء بأحكامه و إن كان يصعب على بعض العقول درك بعض أسرارها.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى . الكتمان إخفاء الحق و ستره خصوصا مع الحاجة الى الإظهار و البيان. و قد يستعمل في إظهار الخلاف و إزالة الشيء عن موضعه و وضع آخر مكانه. و البينات: هي

ص: 195

الأدلة الواضحة. و الهدى: كل ما يقع في طريق استكمال النفس أي الآيات و الحجج الواضحة الموجبة لهداية النّاس.

و عموم الآية يشمل جميع التشريعات السماوية المحكمة بالحكمة البالغة الإلهية سواء كانت في أصول الدين أم في فروعه. و جميع الأدلة العقلية المقررة بالشريعة المقدسة، فان العقل شرع إلهي داخلي كما أن الدين شرع إلهي خارجي أيد اللّه كلا منهما بالآخر؛ فهما حقيقتان متلازمتان بل حقيقة واحدة لها آثار مختلفة، و لذا

ورد أنه: «لا عقل لمن لا دين له» كما يصح ان يقال: لا دين لمن لا عقل له و سيأتي إثبات هذه الملازمة بل وحدة الحقيقة فيهما بالأدلة الكثيرة.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ . المراد بالكتاب هو ما أنزله اللّه تعالى في كل عصر فيشمل التوراة و الإنجيل في كل ما لم يثبت نسخه بالقرآن، و لا فرق بين كتابه تعالى و ألسنة رسله لأنّ كلا منهما يحكي عن الآخر. و إنما ذكر سبحانه الكتاب لأنه لا تتم الحجة من اللّه على الخلق إلاّ بإنزال الكتاب و بيانه.

قوله تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ . اللعن: الطرد و الابعاد على سبيل السخط. و هو من اللّه تعالى العقوبة في الآخرة، و الانقطاع عن الرحمة و التوفيق في الدنيا. و من غيره دعاء على الملعون بالإبعاد عن رحمته عزّ و جل. و هو يعمّ الإنسان و الحيوان و غيرهما عما يلهمهم اللّه تعالى، كالرحمة، اللذين هما من أسرار التكوين و يعمان جميع العوالم المرتبطة بالحي القيوم، فإن جميع حقائق الموجودات ملهمة منه عزّ و جل، كما يلهمه سائر ماله دخل في نظامهم.

و المراد من «اللاعنون» كل من يتأتّى منه اللعن، سواء كان ملكا أو إنسانا أو حيوانا و ذكرهم بالخصوص لبيان قبح هذا العمل و شناعته عند من يتعقل و يعلم به.

و حكم هذه الآية عام يشمل كل من كتم علما من العلوم التي فرض اللّه تعالى بيانها للنّاس بل يشمل كل من فعل المحرمات بعد تمامية الحجة عليه

ص: 196

و لا سيما إذا كان ممن يقتدى بفعله فلا اختصاص له بخصوص ما كتمه أهل الكتاب في شأن الإسلام و أوصاف الرسول و نحو ذلك.

ثم إن كتمان ما أنزله اللّه تعالى على أقسام:

الأول: أن يكون الكتمان مع العمد و الالتفات و وجود المقتضي للإظهار و فقد المانع عنه و لا ريب في كونه من المعاصي الكبيرة و شمول اللعن له،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، و الأخبار في ذلك كثيرة بين الفريقين و كلها مطابقة للحكم العقلي الدال على قبح كتمان الحق و حسن إظهاره.

الثاني: أن يكون الكتمان عن جهل و كان الجاهل مقصرا في ذلك و هو مثل الأول في شمول اللعن. و أما إذا كان قاصرا - على فرض وجوده - و كان معذورا فيه فلا يشمله اللعن قهرا.

الثالث: أن يكون الكتمان لأجل مصلحة شرعية فحينئذ يجب و لا يشمله اللعن قهرا.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا . التوبة بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف بالإساءة. و الاعتذار يكون على أقسام:

الأول: أن يقول المعتذر لم أفعل.

الثاني: أن يقول فعلت لأجل كذا و كذا.

الثالث: أن يقول فعلت و أسأت و قد اقلعت.

و الأخير هي التوبة الواردة في الكتاب و السنة، و كل اعتذار يستلزم الرجوع إلى المعتذر منه فيصح تفسير التوبة ب «الرجوع» أيضا، فهي أيضا رجوع إلى اللّه تعالى بعد الإعراض عنه بالمخالفة.

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا بهيئات مختلفة منسوبة تارة: إلى الفاعل. و أخرى: إلى القابل، و هو اللّه تعالى قال سبحانه: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 39].

ص: 197

و المشهور بين العلماء أنها إذا أضيفت إلى الفاعل تكون بمعنى الاعتراف بالذنب و طلب الغفران، و إذا أضيفت إلى اللّه تعالى تكون بمعنى العفو و الغفران بل تبديل السيئة بالحسنة في بعض الأحيان.

و يصح استعمال الاعتذار بالنسبة إلى غير اللّه تعالى، و أما استعمال التوبة بالنسبة إلى غيره جلت عظمته فلم أجده في الاستعمالات الفصيحة.

و المراد من «أصلحوا»: أخلصوا النية للّه تعالى، و أصلحوا ما أفسدوه من أحوال النّاس - كما أن المراد من «بينوا» أي أظهروا ما كتموه و عملوا به.

و المعنى: إلاّ من تاب عن عمله و رجع إلى اللّه تعالى و أخلص النية له عزّ و جل فأصلح ما أفسده و آمن بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يكتم كتاب اللّه و عمل بما رجع إليه، فإنّ اللّه يتوب عليه و يفيض عليه رحمته و مغفرته.

و الآية الشريفة تدل على اعتبار أمرين في هذه التوبة - الأول: الإصلاح و الخلوص للّه تعالى و الإخلاص في النية.

الثاني: بيان الحق و إظهاره من بعد ما كتم و العمل به. فلا يكتفى بالتوبة الظاهرية و الرجوع بمجرد اللسان مع عدم عقد النية عليه.

و بعبارة أخرى: إنّ الموضوع اجتمع فيه حق اللّه تعالى و هو إظهار البيان و حق النّاس و هو الوقوع في الضلالة لعدم البيان و قد دلت الأدلة الكثيرة على أنّ كل مورد من موارد التوبة إذا تعلق به حق من حقوق النّاس لا تصح التوبة فيه إلاّ بأداء ذلك الحق.

قوله تعالى: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ . أي: أولئك أخصهم بالذكر و المغفرة بعد تحقق شرائط صحة التوبة فيهم، فانه هو الذي يرجع عباده اليه بعد الإعراض عنه بالمخالفة و الإدبار عنه بالمعصية؛ و الرحيم بهم يغفر للمسيء و يثيب المطيع.

و في الآية ترغيب شديد إلى التوبة، و الابتعاد عن اليأس مهما عظم الذنب.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ . ذكر سبحانه في

ص: 198

الآية السابقة حكم الكافرين الذين كتموا الحق في الدنيا و أنهم يستحقون اللعن إلاّ الذين تابوا و أظهروا ما كتموه.

و في هذه الآية يبين حالهم في الآخرة إذا أصروا على الكفر و العناد على الحق و الجحود له و ماتوا على الكفر، فانه يلزمهم الذل و الهوان و الطرد عن رحمته و الخلود في العذاب.

قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ . أي:

أنّ أولئك الكافرين الذين لم يتوبوا و ماتوا على الكفر أولئك عليهم لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين حتّى من أهل مذهبهم، لأن هذا الشخص أهل للعن فيستحقه من الجميع.

و لعن الملائكة و النّاس باعتبار استلهامهم التكويني اللعن الدائمي من المبدأ القيوم لكل من طرد من ساحته.

و إنما ذكر لعنهم مع أن لعن اللّه تعالى وحده يكون كافيا في خزيهم و عذابهم، لأجل بيان صلاحية أولئك الكفار للّعن و البعد عن ساحة الرحمن فيستحق اللعن من كل من امكنه الاطلاع على حالهم.

و الآية تشير إلى قضية عقلية فطرية، و هي أن من أصر على الكفر و الحجب عن منبع النور، فهو قد حجب بصره و بصيرته عما هو في غاية الجلاء و الظهور فلا محالة يكون محجوبا عن استشراق النور، و مطرودا عند كل من كان مرتبطا تكوينا او اختيارا أو كليهما معا مع منبع النور، و هم الملائكة و كل من يعتد بلعنه، و هذا معنى لعن اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين، فلا وجه للانتظار و الإمهال في حقه بعد الإصرار على الكفر و الجحود للحق و عدم رجاء الإيمان و الصلاح منه.

و لعن الملائكة و النّاس لا يلزم أن يكون مسموعا او يحس به احد فإنه لا ريب في كون الملائكة و الأنبياء و الأولياء و من يتبعهم يحبون من أحبه اللّه تعالى، و يلعنون من لعنه تعالى لانبعاثهم جميعا عن إرادة اللّه تعالى و أمره.

و اما غيرهم من مخلوقاته فإنه يمكن أن يكون لعنهم كتسبيحهم لا يفقهه

ص: 199

أحد قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44] فإن ما سوى اللّه تعالى في جميع العوالم العلوية و السفلية يرتبط بخالقه و صانعه بأقوى الروابط و العلائق يستلهم تدبيرات شؤونه من خالقه و صانعه، كما أن الخالق و الصانع يرتبط بمصنوعاته، و بهذين الارتباطين يقوم نظام التكوين من أوج المجردات إلى حضيض الماديات و به تتم القيمومة المطلقة على الممكنات جميعا و على هذا فكل من طرده الحي القيوم عن ساحة كبريائه يستلزم الطرد من الغير أيضا لأجل تلك الإضافة اليه تعالى، و كل ما كانت الإضافة أشد كان الطرد أقوى و المبغوضية أشد، و يستفاد ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على ثبوت الحياة المعنوية و التوجه إلى الخالق في جميع مخلوقاته، و للبحث تتمة تأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ مادة (خ ل د) تأتي بمعنى بقاء الشيء على ما كان عليه و عدم عروض الفساد بالنسبة إليه، و أما التأبيد فلا يستفاد من ذات المعنى بل لا بد فيه من الرجوع إلى القرائن، لأن الخلود من الأمور الإضافية، فما يبقى ألف سنة - مثلا - خالد بالنسبة إلى ما لا يبقى الا سنين قليلة. و أما بالنسبة إلى بدء الحدوث فله مبدأ معلوم معين كسائر الحوادث. و قد وردت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة - مصدرا و مفردا و جمعا - و لا سيما بالنسبة إلى أصحاب الجنّة و النّار.

و الخلود و الدوام باعتبار أصل الحدوث لا فرق بينهما لما ثبت في محله من امتناع القديم بالذات الا في اللّه تعالى، و كذا باعتبار البقاء لا فرق بينهما.

نعم قد يقال: إن الدوام هو ما لم يزل و لا يزال بخلاف الخلود و هو باطل: لانحصار الأزلية و الأبدية في اللّه تعالى، فيكون من المغالطة بين المصداق و المفهوم، و لا ريب في اطلاق الدوام عليه تبارك و تعالى و من أسمائه الحسنى (يا دائم).

و أما الخلود فلم يطلق عليه تعالى إلاّ في بعض الدعوات: «لك الحمد حمدا خالدا بخلودك» فيصح اطلاق الدوام و الخلود بالنسبة إلى ما ليس له أول

ص: 200

و لا آخر و هو منحصر في اللّه تعالى، و بالنسبة إلى ما له أول و آخر، و بالنسبة إلى ما له أول و ليس له آخر، كنعيم أهل الجنّة و عذاب أهل النار.

و العذاب: هو الضرب ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة؛ و استعير للأمور الشاقة حتّى قيل: السفر قطعة من العذاب. و قيل: إنّه من الأضداد لاستعماله في الطّيب العذاب أيضا. و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يزيد على ثلاثمائة مورد.

و النظر: استعمال البصر و البصيرة لدرك الشيء و يلزمه التأمل و الإمهال، و منه قوله تعالى: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة الحجر، الآية: 36].

و المعنى: إنّهم ماكثون في اللعنة الموجبة للعذاب و لا يخفف عنهم لفرض استقراره عليهم بموتهم على الكفر فلا يرفع عنهم العذاب و في الآية التفات من الضمير إلى الظاهر للدلالة على أن اللعنة هي العذاب.

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأول: قد وصف سبحانه و تعالى ما أنزله بالبينات أي: الحجج الواضحة المشتملة على هداية النّاس التي تجلب لهم السعادة في الدارين و أن كتمان ذلك و إظهار ما هو خلافه موجب للضلالة و الاختلاف و الشقاء، و هذا المعنى يستفاد من جملة كثيرة من الآيات الواردة في بيان هذه الآية أو التي وردت في بيان سبب اختلاف النّاس، قال تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة، الآية: 213]. و يستفاد من هذه الآية أن ما أنزله اللّه هو الحق الذي لا اختلاف فيه المعبّر عنه بالفطرة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30]. و هو يدل على أنّ سبب الاختلاف و التفرق بين الأمم هو الابتعاد عن الفطرة الذي لا يعلمه كثير من النّاس لكتمان الحق و عدم بيانه للناس، أو تأويله و عدم حفظه، أو لكثرة الشبهات التي توجب الابتعاد عن دين الفطرة، و لذلك كله كان الكتمان ظلما عظيما.

ص: 201

الأول: قد وصف سبحانه و تعالى ما أنزله بالبينات أي: الحجج الواضحة المشتملة على هداية النّاس التي تجلب لهم السعادة في الدارين و أن كتمان ذلك و إظهار ما هو خلافه موجب للضلالة و الاختلاف و الشقاء، و هذا المعنى يستفاد من جملة كثيرة من الآيات الواردة في بيان هذه الآية أو التي وردت في بيان سبب اختلاف النّاس، قال تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة، الآية: 213]. و يستفاد من هذه الآية أن ما أنزله اللّه هو الحق الذي لا اختلاف فيه المعبّر عنه بالفطرة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30]. و هو يدل على أنّ سبب الاختلاف و التفرق بين الأمم هو الابتعاد عن الفطرة الذي لا يعلمه كثير من النّاس لكتمان الحق و عدم بيانه للناس، أو تأويله و عدم حفظه، أو لكثرة الشبهات التي توجب الابتعاد عن دين الفطرة، و لذلك كله كان الكتمان ظلما عظيما.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا أنه لا أثر للتوبة عن كتمان الحق الا بعد إزالة الأثر الخارجي الناشئ عن كتمان الحق و إظهاره و إعلانه و العمل به و إرشاد النّاس اليه.

الثالث: يدل قوله تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ على أن كتمان كل ماله دخل في استكمال الإنسان جناية على المجتمع، فان كل كمال للفرد يكون كمالا للمجتمع و كذا العكس، لمكان التلازم بينهما في الجملة و الإظهار حق نوعي لازم لمن قدر عليه. و تركه - و إخفاء الحق - ظلم نوعي و لذلك يلعنه كل لا عن، إذ أن كل مظلوم يلعن ظالمه بالفطرة و لو لم يكن باللسان.

الرابع: يستفاد من الآية المباركة استمرارية اللعن و دوامه بالنسبة إلى كل من يكتم الحق فلا يختص حكمها بطائفة خاصة، و يدل على ذلك أيضا أن قبح كتمان الحق من المستقلات العقلية فمهما وجد موضوعه ينطبق الحكم عليه قهرا، كما في كل قضية عقلية.

الخامس: إنّما أجمل سبحانه و تعالى اللعن في الآية الأولى و فصّله في الآية الثانية، لتعدد الجهات في الآية الثانية من الموت على الكفر و عدم التوبة من كتمان الحق، و استقرار الظلم في نفوسهم

بحث روائي:

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «قلت له:

أخبرني عن قول اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ . قال (عليه السلام): نحن يعنى بها و اللّه المستعان أنّ الرجل منا إذا صارت اليه لم يكن له او لم يسعه إلاّ أن

ص: 202

يبين للنّاس من يكون بعده».

أقول: مثل ذلك روايات كثيرة أخرى، و لا ريب أنها من التطبيق لكل حق لا بد أن يبين.

و في الإحتجاج في الآية المتقدمة عن علي (عليه السلام): «العلماء إذا فسدوا».

أقول: إذا فسدوا يعني لم يعملوا بعلمهم يكون ذلك كتمانا عمليا للحق الذي يقولونه للنّاس.

و في المجمع في الآية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار، و هو فأنزل له تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ .

أقول: و ذلك لأنه سكت في الدنيا عن بيان الحق و ألجمه هواه عن ذلك، فيظهر ذلك في عالم الآخرة بلجام من النار، و الروايتان تؤيدان ما ذكرناه في الكتمان، و إطلاقهما يشمل كل عالم بكل حق.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ ، قال (عليه السلام):

«نحن هم، و قد قالوا: هو أمّ الأرض».

أقول: لأنهم شهداء الخلق و يعرض عليهم أعمالهم فيكونون هم اللاعنون لا محالة، و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ يَقُولُ اَلْأَشْهادُ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ [سورة هود، الآية: 18] و اما

قوله: «و قد قالوا: هو أمّ الأرض» فقد نسب ذلك إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

و في تفسير القمي في الآية المتقدمة قال (عليه السلام): «كل من قد لعنه اللّه فالجن و النّاس يلعنهم».

أقول: و الوجه في لعن الجن و الإنس لمن يكتم الحق و ثنائهم لمن يظهر الحق كما في بعض الروايات، أنّ جميع الموجودات ترتبط بالحق

ص: 203

الواقعي تكوينا، فيكون كتمانه مبغوضا لديهم و إعلانه محبوبا عندهم، كما تقدم في تفسير الآية.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى : «نزلت في علماء أهل الكتاب و كتمانهم آية الرجم و أمر محمد (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: هذا من باب التطبيق.

بحث كلامي:

اشارة

التوبة باب من أبواب رحمة اللّه تعالى، و هي من أعظم أنحاء لطفه بعباده؛ و من أقرب الطرق اليه عزّ و جل، و هي أول منازل السائرين إلى اللّه سبحانه، و أساس درجات السير و السلوك الإنساني و هي مفتاح التقرب اليه عزّ و جلّ، و الوصول إلى المقامات العالية بل لا تتحقق التخلية عن الصفات الرذيلة و التحلية بالصفات الحسنة إلاّ بها، و يكفي في فضلها أنها من صفات الباري عزّ و جلّ فانه «التواب الرحيم»، و قد منّ على عبيده أن تقرب إليهم بالتوبة عليهم بعد البعد عنه تعالى بالمعاصي و الذنوب، فقال تبارك و تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 54]. و قد ورد في عظيم فضلها نصوص كثيرة،

ففي الكافي عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته و زاده في ليلة ظلماء فوجدها، فاللّه أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها».

و روي عنهم (عليهم السلام): «إنّ اللّه أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السموات و الأرض لنجوا بها، قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ فمن أحبه اللّه لم يعذبه. و قوله عزّ و جلّ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ - الآية -. و قوله عزّ و جل: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً . إلى غير ذلك من

ص: 204

الأخبار الكثيرة الواردة في فضلها. و أنّ للجنّة بابا من أوسع أبوابها يسمى باب التائبين، و هي من مظاهر رحمانيته و رحيميته اللتين هما من أوسع صفات اللّه تعالى العليا بل لا حد لهما أبدا، و البحث عن التوبة من جهات كثيرة:

التوبة و تعريفها و حقيقتها:

التوبة معروفة عند كل من يقترف ذنبا و يعترف به عند اللّه تعالى و هي: بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف المستلزم للرجوع إليه تعالى بعد البعد عنه بسبب الذنب، و هذا هو المعنى اللغوي، كما عرفت.

و قد عرّفها علماء الكلام و الأخلاق بتعاريف متعددة هي أقرب إلى المعنى اللغوي، و نحن نذكر تعريفين منها.

الأول: ما عن بعض علماء الكلام: أنها الندم على معصية من حيث هي مع العزم على أن لا يعود إليها إذا قدر عليها.

الثاني: ما عن بعض علماء الأخلاق: أنها الرجوع إلى اللّه تعالى بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب.

و هذان التعريفان مقتبسان مما ورد في الكتاب الكريم و السنّة المقدسة. و المستفاد من النصوص الواردة في المقام هو أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب كما

ورد في الأثر عنه (عليه السلام): «كفى بالندم توبة».

و ذلك لأنّ الإنسان مزيج قوى متخالفة و مركب من شهوات متعددة، تجذب كل قوة ما يلائمها من الخير أو الشر كما هو المفصل في علم الأخلاق، فالقوة العاقلة تجذب الإنسان إلى الفضيلة و تمنعه عن الرذيلة، و القوة الشهوية ترغبه إلى ما تشتهيه، و القوى الغضبية تورده إلى المهالك و الأخطار إن لم يمسكها بزمام العقل. و الإنسان الكامل هو المدبر لهذه القوى المتخالفة و الملائم بينها بالتوفيق بينها بحيث لا تخرج كل قوة عن الحد الذي عيّن لها فيجلب بذلك سعادة الدارين. و هو في مسيره الاستكمالي لا يسلم من الموانع و العوائق التي تعيقه عن سيره إذا لم يتغلب عليها بالحكمة و التدبير، و من جملة تلك الموانع المعاصي و الذنوب. فإذا

ص: 205

اعترض على الإنسان ذنب يرى نفسه بين أمرين مخيرا بينهما إما الفعل و ما يتعقبه من الآثار، أو الترك و ما يلزمه من راحة النفس و الفوز بالسعادة، و هذا وجداني لكل فاعل مختار، فإذا عزم على الفعل و أقدم على الارتكاب تحصل في نفسه حالة خاصة توجب الندامة و الخجل و الحياء المسمى ب (تأنيب الضمير) في علم النفس المعاصر، و قد اعتبر الشارع هذه الحالة هي التوبة؛

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «التوبة الندامة»

و عن الصادق (عليه السلام): «كفى بالندم توبة».

و السر في ذلك: أنّ هذه الحالة تكشف عن تغليب العقل و القوى الخيرة على الجانب الآخر، و هي تدعو إلى ترك الذنب في المستقبل و الارتداع عن المعصية،

و لذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الندم على الشر يدعو إلى تركه»، و تتكرر هذه الحالة النفسية عقيب كل ارتكاب للمعصية ما لم تترسخ المعاصي في النفس فيهون عنده ارتكاب الذنوب و اقتراف الآثام فيستولي عليه الفساد بالإصرار و يقسو قلبه، و هذه هي حالة إحاطة الخطيئة بالإنسان كما ورد في القرآن الكريم، و قد أشار تعالى إليها بقوله عزّ و جل: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14]. و تزول هذه الحالة بإتيان الأعمال الصالحة و مزاولة الطاعات و تقوية النفس بالحسنات و ترويضها بالأخلاق الفاضلة.

و من ذلك يعلم أن تعريف التوبة بالندم هو أقرب إلى ما يتحصل من الروايات، و اما تعريفها بالرجوع و الارتداع عن المعصية في المستقبل فهو تعريف باللازم الحاصل من الندم.

و إذا عرفت أن التوبة حقيقة هي الندم فلا بد و ان يكون منبعثا عن حرقة القلب و الشعور بالحياء منه عزّ و جل و الخجل عن ما صدر منه كما

في بعض الروايات «إن الرجل يذنب فلا يزال خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه اللّه فيدخله الجنّة».

و أما إذا كان الندم حاصلا من اطلاع الغير عليه، أو خوفه من إعراض المجتمع عنه، أو سقوط منزلته عند النّاس فلا أثر له، بل لا بد من ان تسوءه

ص: 206

سيئته كما ورد في الخبر.

وجوب التوبة:

التوبة من الذنب واجبة على الإنسان بالأدلة الأربعة:

الأول: الكتاب الكريم، و تدل عليه آيات كريمة، منها قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية: 31]، و منها قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة التحريم، الآية: 8] إلى غير ذلك من الآيات، و تدل عليه أيضا الآيات الكثيرة الدالة على إتيان الحسنات بضميمة قوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و من أجلّ الحسنات الفرائض.

الثاني: السنة الشريفة، و الأخبار في وجوبها متواترة بين الفريقين بمضامين مختلفة:

ففي الكافي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ، قال: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه؛ و لا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار».

و في مهج الدعوات عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «اعترفوا بنعم اللّه ربكم و توبوا إلى اللّه من جميع ذنوبكم، فان اللّه يحب الشاكرين من عباده».

و في الكافي أيضا عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنا استزاد اللّه، و إن عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب اليه».

و في الكافي عن أبي بصير: قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال (عليه السلام): «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت: و أيّنا لم يعد؟ فقال (عليه السلام): يا أبا محمد إن اللّه يحب من عباده المفتن التواب».

ص: 207

الثالث: الإجماع من جميع المسلمين على وجوب التوبة، و هو مما لا ريب فيه.

الرابع: دليل العقل: فإن حدوث المخالفة و البقاء عليها قبيح عقلا، و ترك كل قبيح عقلي واجب عقلا و شرعا، و لا يتحقق ذلك إلاّ بالتوبة.

و بتقريب آخر: إنّ المعاصي من المهلكات، و إنّها تجلب الضرر على العاصي؛ و لا ريب في وجوب دفع الضرر عقلا.

فورية وجوب التوبة:

بعد ما ثبت أصل وجوبها يكون هذا الوجوب فوريا، و تدل عليه أمور:

الأول: ظاهر أدلة وجوب التوبة عن المعاصي.

الثاني: قوله تعالى: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: 17].

الثالث: إنّ بقاء العصيان في النفس من أقذر القذارات المعنوية و الفطرة تحكم بفورية إزالتها.

الرابع: الإجماع القائم على الفورية.

الخامس: الأخبار الكثيرة الدالة عليها منها:

رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كل ذنب استغفر اللّه»،

و في وصية النبي لأبي ذر قال (صلّى اللّه عليه و آله): «اتق اللّه حيثما كنت و خالق النّاس بخلق حسن، و إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها»، و في وصية لقمان لابنه «يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة».

و منها الروايات الكثيرة الدالة على إمهال العاصي سبع ساعات،

فقد ورد في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات من النهار، فإن قال: استغفر اللّه الذي لا إله إلاّ هو

ص: 208

الحي القيوم و أتوب إليه، ثلاث مرات لم تكتب عليه». و يستفاد من مجموع هذه الأخبار أن التوبة من الطاعات و من الأمور العبادية.

شروط التوبة:

قد ذكر العلماء للتوبة شروطا كثيرة، و هي على قسمين: شروط لصحة التوبة، فلا تصح إلاّ إذا اجتمعت فيها تلك الشروط. و شروط لكمالها و مع فقدها لا تكون كاملة و لا مقبولة.

أما القسم الأول فهي ثلاثة:

الأول: الندم و قد ذكرنا سابقا أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب، و يدل على اعتبار هذا الشرط ما تقدم من الأخبار،

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «كفارة الذنب الندامة»،

و ما رواه في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «من سرته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن» إلى غير ذلك من الأخبار.

الثاني: أن ينوي عدم العود إلى ذلك الذنب، لأن حقيقة الندم لا تتحقق إلاّ بذلك، كما تقدم، و تدل عليه جملة من الأخبار كما سيأتي، و المعتبر من هذا الشرط ترك العود إلى الذنب الذي سبق مثله، و أما الذنب الذي لم يسبق صدوره منه فنية تركه لا تكون من التوبة، بل هي من التقوى.

ثم إنّ العزم على ترك المعصية في المستقبل بعد تحقق الندم عنها فعلا إن كان كاشفا عن تحقق حقيقة الندم من كل جهة فلا ريب في اعتباره، لأنه مع عدمه لا تتحقق حقيقة الندم الفعلي كما عرفت. و أما إذا تحقق الندم فعلا و لم يتحقق العزم على الترك لعدم التوجه إليه فلا دليل على اعتباره حينئذ، بل يستفاد من بعض النصوص عدمه،

فقد روى الكليني فى الكافي عن أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال (عليه السلام) هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا.

قلت: و أينا لم يعد؟ فقال (عليه السلام): يا أبا محمد إنّ اللّه يحب من عباده المفتن التواب» و المراد بالمفتن من يذنب و يتوب. ثم يعود. و نحوه غيره من

ص: 209

الأخبار.

الثالث: أداء الحقوق وردها إلى أهلها،

و في الحديث: «لا توبة حتّى تؤدي إلى كل ذي حق حقه»،

و في حديث آخر: «الظلم الذي لا يدعه اللّه فالمداينة بين العباد» إلى غير ذلك من الأخبار.

و أما القسم الثاني، و هي شروط الكمال

فقد جمع أمير المؤمنين (عليه السلام) المهم منها في قوله: «الاستغفار درجة العليين؛ و هو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، و الثاني العزم على ترك العود إليه أبدا، و الثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللّه عزّ و جل أملس ليس عليك تبعة، و الرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، و الخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد، و السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر اللّه» و لا يخفى انه (عليه السلام) جمع في كلامه كلا القسمين من الشروط.

و من شروط الكمال أن يترك المعصية لأجل المعصية لا لأجل شيء آخر من حياء أو خجل أو غير ذلك، بل تركها لأجل نقص في عضو او عدم الإمكان لا يسمى توبة. و هذا ظاهر.

قبول التوبة:

إذا تحققت التوبة من العبد و كانت مستجمعة للشرائط تكون مقبولة لا محالة، و يدل على ذلك أمور:

الأول: قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 54]، و يستفاد من هذه الآية قاعدة كلية و هي أن كل ما هو من صغريات الرحمة بينة عزّ و جل و بين عباده يكون واجبا عليه عزّ و جل لأنه كتب على نفسه ذلك فقبول التوبة الجامعة للشرائط مما أوجبه اللّه على نفسه، فيستغنى بذلك عن قاعدة اللطف التي أثبتوها في علم الكلام.

ص: 210

و يدل عليه أيضا قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 110].

الثاني: الأخبار الكثيرة الدالة على لزوم قبول التوبة،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) انه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»،

و في الخبر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أما و اللّه إنها ليست إلاّ لأهل الإيمان. قلت: فان عاد بعد التوبة و الاستغفار من الذنوب و عاد في التوبة؟ قال (عليه السلام): يا محمد ابن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه و يستغفر منه و يتوب ثم لا يقبل اللّه توبته؟!! قلت: فانه فعل ذلك مرارا، يذنب ثم يتوب و يستغفر، فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد اللّه عليه بالمغفرة و إنّ اللّه غفور رحيم يقبل التوبة و يعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة اللّه».

و روى ابن بابويه في ثواب الأعمال عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «أوحى اللّه إلى داود النبي (عليه السلام): يا داود إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم رجع و تاب من ذلك الذنب و استحيا منّي عند ذكره، غفرت له، و أنسيته الحفظة، و أبدلته الحسنة و لا أبالي و أنا ارحم الراحمين» و الروايات في ذلك كثيرة.

الثالث: يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي أيضا و هو أن الإنسان السائر في مسير الاستكمال الأبدي الذي هو أشرف موجودات هذا العالم بل لم يخلق العالم إلاّ لأجله و مع ذلك فهو ضعيف كما قال تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً [سورة النساء، الآية: 28]، قرين النفس الأمارة و محاط بالشهوات المادية، و الشيطان يحوط به إحاطة العروق بالدم و جميع ذلك له دخل في نظام التكوين و التشريع كما ثبت بالبراهين القطيعة في الفلسفة العملية. و حينئذ فلو كان صرف وجود العصيان مانعا دائميا عن إفاضة المبدإ القيوم فيضه عليه لزم تعطيل أعظم المخلوقات عما خلق له، و هو قبيح و القبيح محال بالنسبة اليه عزّ و جلّ، فيحسن قبول التوبة منه تعالى، و يرشد إلى ذلك ما

في بعض القدسيات: «بمعصية ابن آدم عمرت العالم» و منه يظهر سر

ص: 211

ابتلاء آدم بما ابتلي به في بدء الهبوط، كما يظهر شرح

قوله (عليه السلام): «إن اللّه يحب المفتن التواب».

فاليأس عن قبول التوبة معصية كبيرة، و لو عصى العبد مرات عديدة، لأنه يأس من رحمة اللّه تعالى، و هو من المعاصي الكبيرة،

و عن علي (عليه السلام) في بعض دعواته الشريفة: «اللهم إن استغفاري إياك و أنا مصرّ على ما نهيت قلة حياء، و تركي الاستغفار مع علمي بسعة فضلك و حلمك تضييع لحق الرجاء».

موارد التوبة:

تصح التوبة من جميع الذنوب و الخطايا، سواء كانت من الكبائر أم الصغائر، و هي توجب محوها إذا اجتمعت فيها الشرائط، و تدل على ذلك آيات من الكتاب الكريم و روايات من السنّة الشريفة.

اما الآيات فمنها قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية 31]، و قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية:

110].

و يدل على خصوص التوبة عن الكبائر قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اَللّهِ مَتاباً [سورة الفرقان، الآية: 71].

و أما ما يدل على صحة التوبة عن الصغائر فهو كثير، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة النساء، الآية: 31] و الآيات في ذلك كثيرة.

و أما الروايات فهي مستفيضة منها

ما روي عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 212

قال: «اعترفوا بنعم اللّه ربكم، و توبوا إلى اللّه من جميع ذنوبكم فإن اللّه يحب الشاكرين من عباده».

و في تفسير القمي عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما اعطى اللّه إبليس ما أعطاه من القوة قال آدم يا رب سلطت إبليس على ولدي و أجريته منهم مجرى الدم في العروق، و أعطيته ما أعطيته فمالي و لولدي؟ قال: لك و لولدك السيئة بواحدة و الحسنة بعشر أمثالها، قال: يا رب زدني، قال: التوبة مبسوطة إلى ان تبلغ النفس الحلقوم، قال: يا رب زدني، قال: اغفر و لا أبالي. قال: حسبي».

و روى في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء؛ الكبائر فما سواها قلت: دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال (عليه السلام): نعم» و الروايات الدالة على صحة التوبة من الكبائر و الصغائر كثيرة جدا تقدم بعضها.

ثم إنه قد ورد إنه لا تقبل التوبة عن بعض الذنوب، منها ما ورد في عدم قبول توبة من أحدث دينا، و ما ورد في عدم قبول التوبة عن الشرك، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 116]، و عدم قبول توبة المرتد.

و لكن الحق أن يقال: إنّ جميع تلك الموارد لا بد و ان تحمل إما على عدم وقوع التوبة مستجمعة للشرائط او الموت على الشرك و عدم التوبة منه، و إلاّ فإن الإسلام يهدم الشرك بلا إشكال، و تدل على ذلك روايات منها

صحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث الإسلام و الإيمان قال: «و الإيمان من شهد أن لا إله إلاّ اللّه - إلى ان قال - و لم يلق اللّه بذنب أوعد عليه بالنار. قال أبو بصير: جعلت فداك و أينا لم يلق اللّه بذنب أوعد عليه بالنار؟ فقال (عليه السلام): ليس هو حيث تذهب إنما هو من يلق اللّه بذنب أوعد اللّه عليه بالنار و لم يتب منه».

و أما المرتد فتقبل توبته مطلقا - فطريا كان أو مليا - على ما فصلناه في الفقه و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و يدل على القبول

صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «من كان مؤمنا فعمل خيرا في

ص: 213

إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له و حوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه و لا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره».

إن قلت: إنه قد ورد في بعض الأخبار نفي الإيمان عمن يذنب بعض الذنوب و إثبات الكفر له،

ففي الخبر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «لا يزني الزاني و هو مؤمن؛ و لا يسرق السارق و هو مؤمن»، و مثله غيره.

قلت: يحمل ذلك على نفي بعض مراتب الإيمان، أو إثبات بعض مراتب الكفر، و يدل عليه ما

رواه زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام):

«أ رأيت قول رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا يزني الزاني و هو مؤمن، قال (عليه السلام): ينزع منه روح الإيمان». و لا يدل ذلك على سلب الإيمان منهم بالكلية، أو أنّ العاصي بذلك لا مؤمن و لا كافر كما يقوله بعض المعتزلة، و للكلام تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

التوبة و زمانها:

إنّ من رحمته تعالى و منّه على عبده أن فتح لهم باب التوبة بمصراعيه، و من عظيم لطفه جعله مفتوحا أمام العاصين حتى تبلغ النفس إلى الحلقوم، و يدل على ذلك روايات مستفيضة منها ما

رواه الكليني في الكافي عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته، ثم قال: إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته ثم قال: إن يوما لكثير، من تاب قبل ان يعاين قبل اللّه توبته».

و روى في الكافي أيضا عن أحدهما (عليهما السلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ قال لآدم (عليه السلام): جعلت لك أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو بسطت لهم - حتّى تبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي» إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة، و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ [سورة النساء، الآية: 18] أي في ما إذا عاين الموت

ص: 214

كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) كما تقدم في بعض الروايات.

السبل لمحو الذنوب:

تقدم أن الذنوب كلها قابلة للتكفير عنها و محوها، و التوبة عنها و لذلك طرق كثيرة، و هي إما أن تكون محدودة و معينة في الشرع فلا تصح بغيرها، و إما ان لا تكون كذلك. و الجامع بين القسمين هو الندامة، و المجاهدة على ترك الذنب، و إرضاء صاحب الحق - خالقا كان أو مخلوقا - فطرق التوبة على قسمين:

القسم الأول: الطرق التي عينها الشارع و جعل لها حدودا و شروطا لا تصح التوبة بغيرها و هي كثيرة:

منها: الإسلام فإنه يهدم الشرك، و الآيات و الروايات فيه متواترة، و يكفي في ذلك

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) المشهور بين الفريقين: «الإسلام يجبّ ما قبله».

و منها: قضاء الطاعات الواجبة مثل الصّلاة، و الصوم، و الحج و الزكاة، و الخمس، فإن النوبة المقررة في الشريعة عن الذنب الحاصل من تركها هي قضاؤها على ما هو المفصل في علم الفقه.

و منها: أداء حقوق النّاس إن ضيعها سواء كان الحق ماليا، أو جناية على النفس، أو حقا أدبيا أخلاقيا، و التوبة عن الذنب الحاصل من تضييعها أداؤها، و الاسترضاء من صاحب الحق، أو القصاص، أو إخراج الدية كما هو مفصل في كتب الفقه.

و منها: إظهار الخلاف و إعلام النّاس ببطلان ما أظهره كما لو استحدث دينا جديدا فطريق التوبة عنه إظهار خلافه و إعلام النّاس ببطلانه، و الإصلاح بعد الإفساد، قال تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ [سورة البقرة، الآية: 160].

و أما

ما ورد عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّه

ص: 215

(صلّى اللّه عليه و آله) أنه قال: «إن اللّه غافر كل ذنب إلاّ من أحدث دينا، و من اغتصب أجيرا أجره، أو رجل باع حرا» فإنه محمول على عدم تحقق شرائط التوبة منه بقرينة غيره من الروايات المتقدمة.

القسم الثاني: الطرق العامة التي جعلها اللّه تعالى وسيلة للتوبة و التكفير عن الذنوب و الخطايا، و هي أيضا كثيرة.

منها: اجتناب الكبائر فانه موجب لمحو الصغائر، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [سورة النساء، الآية: 31]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ [سورة الطلاق، الآية: 5]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ [سورة الأنفال، الآية: 29].

و روى ابن بابويه في الفقيه عن الصادق (عليه السلام): «من اجتنب الكبائر يغفر اللّه جميع ذنوبه و ذلك قول اللّه عزّ و جل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ .

و في رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «من اجتنب كبائر ما أوعد اللّه عليه النّار إذا كان مؤمنا كفر اللّه عنه سيئاته» و نحوهما غيرهما.

و منها: إتيان الحسنات و الأعمال الصالحة، فانه كفارة للذنوب قال تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114].

و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «الصلوات الخمس و الجمعة تكفر ما بينهنّ إن اجتنبت الكبائر»،

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «أتبع السيئة الحسنة تمحها»،

و في وصية النبي لأبي ذر: «اتق اللّه حيثما كنت، و خالق النّاس بخلق حسن، و إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها».

و في صحيح يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «و من عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر، و من عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية».

و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما أحسن الحسنات بعد السيئات و ما أقبح السيئات بعد الحسنات».

و منها: الاستغفار فانه الممحاة، و انه دواء الذنوب كما في الأثر قال

ص: 216

تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 110]، و قال تعالى: وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [سورة هود، الآية: 90]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 135].

و في الحديث: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرة يقول: استغفر اللّه ربي و أتوب اليه، و كذلك أهل بيته، و صالح أصحابه؛ يقول اللّه تعالى: وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ؛

و في الحديث أيضا قال رجل: «يا رسول اللّه إني أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال: (صلّى اللّه عليه و آله): استغفر اللّه، فقال: إني أتوب ثم أعود فقال: كلما أذنبت استغفر اللّه. فقال: إذن تكثر ذنوبي، فقال (صلّى اللّه عليه و آله) عفو اللّه أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور»،

و عن عمار بن مروان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «من قال استغفر اللّه مأة مرة في يوم غفر اللّه له سبعمائة ذنب، و لا خير من عبد يذنب في يوم سبعمائة ذنبا»

و في رواية عبد الصمد بن بشير عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «إن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربه فيغفر له، و إن الكافر لينساه من ساعته». و الروايات في كون الاستغفار موجبا لمحو الذنوب كثيرة جدا.

و منها: الاستعانة باللّه بالصّلاة و الصيام في غفران الذنوب،

ففي الخبر عنهم (عليهم السلام): «ما من عبد أذنب ذنبا، فقام و تطهر و صلّى ركعتين و استغفر اللّه إلاّ غفر له، و كان حقا على اللّه أن يقبله، لأنه سبحانه قال: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ،

و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتّى أصلي ركعتين». و قد وردت روايات كثيرة على أن صوم أيام من الأسبوع أو أيام من السنة يوجب محو الذنوب، فراجع كتاب الصوم من الوسائل.

التبعيض في التوبة:

تصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض. لتعدد الذنوب و تعدد آثارها

ص: 217

شرعا، و عدم الارتباط بينها كذلك، سواء كانت الذنوب التي يتوب عنها موافقة بالنوع مع الذنوب التي لا يريد التوبة عنها، أو مخالفة لها كأن يريد التوبة عن الكذب دون الغيبة، أو يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلا، و الدليل عليه مضافا إلى ذلك إطلاقات الأدلة و عموماتها، و تسمى هذه بالتوبة المفصلة.

و ذهب بعض العلماء الى عدم صحة التوبة كذلك بل يجب العموم - كما هو مذهب المسيحيين - في التوبة، لأنها إنما تكون لسقوط استحقاق العقاب، و مع ثبوت الاستحقاق الفعلي لسائر المعاصي لا موضوع للتوبة حينئذ.

و هو مردود بأن اختلاف الجهة يدفع ذلك فيرتفع الاستحقاق من جهة، و يبقى من جهة أخرى و لا تنافي بين الجهتين، كما لا يخفى.

نعم، لو كان بقاؤه على بعض المعاصي كاشفا عن عدم تحقق الندامة بالنسبة إلى ما تاب عنها فلا تتحقق التوبة حينئذ، و به يمكن الجمع بين الكلمات فراجع.

و من جميع ما تقدم يظهر أيضا صحة التوبة الموقتة بأن يتوب عن الذنب مدة معينة و لا يذنب فيها.

صيغ التوبة:

للتوبة عبارات متعددة، منها «أتوب إلى اللّه»، و «استغفر اللّه»، و «استغفر اللّه و أتوب إليه» و غير ذلك مما تثبت التوبة بكل واحدة منها بعد تحقق الندم من مرتكب المعصية، كما تقدم. و ليست فيها صيغة خاصة.

أقسام التوبة و مراتبها:

التوبة على أنواع، منها توبة الإنابة، و هي عبارة عن الخوف من اللّه جلّ شأنه لأجل قدرته على العاصي.

و منها: توبة الاستجابة، و هي عبارة عن الحياء من اللّه لقربه من العبد.

و منها: توبة العوام، و هي ناشئة عن الخوف من عذاب اللّه تعالى.

ص: 218

و منها: توبة الخواص من الغفلة، و توبة الأنبياء من ترك الأولى و العجز عن ما ناله غيره، و هي أخص الخواص كما تقدم في آية - 37 من هذه السورة.

و أما مراتبها فهي ثلاثة:

الأولى: أن يتوب العبد عن الذنوب كلها و يستقيم على التوبة إلى آخر عمره و لا تصدر عنه المعاصي إلاّ اللمم و الزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين، و هي التوبة النصوح المعبر عنها

في الروايات «أن يكون ظاهره كباطنه».

الثانية: أن يتوب عن الذنوب و يستقيم على الطاعات إلاّ أنه لا يخلو في حياته عن بعض ذنوب قد تصدر منه و لكنه يندم و يأسف على كل ما صدر عنه، و هذا هو معنى التواب.

الثالثة: مثل السابقة و لكنه لا يحدث نفسه بالتوبة و لا يتأسف على ما صدر عنه.

التوبة في الأديان السماوية:

لا تختص التوبة و التطهير عن الأدناس و الخطايا بدين الإسلام فقط بل تعم جميع الأديان كلها و ان اختلفت في الكيفية و الشروط، و قد ورد في القرآن الكريم توبة آدم (عليه السلام)، قال تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ [سورة البقرة، الآية: 37] و قول موسى (عليه السلام): فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 54] و قال تعالى حكاية عن هود (عليه السلام): وَ يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [سورة هود، الآية: 52] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ذلك، و لكن التوبة عند أكثر المسيحيين أحد أسرار الكنيسة السبعة على تفصيل مذكور عندهم.

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّها.......

اشارة

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما

ص: 219

يَنْفَعُ اَلنّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ وَ اَلسَّحابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) الآيات مرتبطة بالآيات السابقة فانها بمنزلة التعليل لجملة كثيرة من ما ورد في الآيات السابقة كجعل الإمامة، و بناء البيت، و تشريع بعض أعمال الحج، و جعل القبلة، و لعن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من البينات، و قبول توبتهم، فذكر سبحانه و تعالى أوّلا أنّ المعبود واحد و رحمته عامة تشمل الجميع و إن اختلف متعلقها من حيث الرحمة الرحمانية و الرحمة الرحيمية، ثم شرح ذلك في الآية الثانية بذكر آيات عظام ينتظم بها أمور العالم و يعيش بها كل ذي حياة. و مجموعها تدل على أنّ من كانت صفاته هكذا فهو مبدأ كل خير و منتهى كل أمر.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ . تقدم ما يتعلق بلفظ الإله في البسملة من سورة الفاتحة و المستفاد من ما ذكرناه هناك أنه محبوب كل الأشياء، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44] و لا ريب أنّ التسبيح فرع المحبة.

و الواحد مبدأ التكثرات، أي أنه واحد الذات و الصفات و الأفعال و في عين ذلك هو مبدأ التكثرات و مفنيها، كما يكون الواحد كذلك

و قد نسب إلى مولانا الجواد (عليه السلام) في بيان معنى الواحد فقال (عليه السلام): «إجماع الألسنة عليه بالوحدانية، لقوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فجعل (عليه السلام) مناط الوحدانية الخلاقية العظمى التي اجتمعت الألسن عليها دون سائر جهات الوحدانية التي تقصر العقول عن درك بعضها فضلا عن جميعها.

و قد فرق العلماء بين الواحد و الأحد - بعد كون الأخير هو الواحد أبدلت الواو همزة ثم خفف اللفظ فصار أحدا - بوجوه تقدمت في آية 133 من هذه

ص: 220

السورة أهمها امور:

الأول: أنّ الواحد هو المتفرد بالذات، و الأحد أعم منه.

الثاني: أنّ الواحد يطلق على ذوي العقول و غيرهم، و الأحد لا يطلق إلاّ على الأول، و قد يطلق على غيره.

الثالث: أنّ الواحد يدخل في الضرب في العدد دون الأحد كما مر.

و إنّما اطلق سبحانه لفظ الواحد ليفيد العموم فيشمل الوحدة في الذات فلا جزء له، و الوحدة في الألوهية و العبادة فلا شريك له، و الوحدة في الصفات، و الوحدة في الأفعال فينتفي بذلك أنواع الشرك فهو واحد من جميع الجهات ليس كمثله شيء.

و كرر لفظ الإله لإفادة أن استحقاق العبادة و المعبودية إنما هو الوحدة في الألوهية فهو متقوم بها، فلو قال تعالى: «و إلهكم واحد» لما أفاد هذا المعنى.

ثم إنّ الألوهية إما أن تكون واقعية حقيقية، و أما أن تكون اعتقادية، و ما هو متقوم بالوحدة إنما هي الأولى دون الثانية، فإنها تحصل من التكثرات و تتنافى مع الوحدة، قال تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ [سورة ص، الآية: 5]، و قد حصل لهم التعجب، لأنها اعتقادية خيالية تابعة لأهوائهم. قال تعالى: أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [سورة الفرقان، الآية: 43]. و الآيات و الروايات و الأدلة العقلية تدل على كثرة هذا الإله و تعدده بحيث لا حصر له و لا عد.

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ . هذه العبارة من أوضح العبارات الدالة على وجود اللّه و توحيده و نفي ما عداه، و هي كلمة نابعة من ينبوع الفطرة المستقيمة.

قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ . تقدم تفسيرهما في بسملة الفاتحة، و ذكر هما في المقام لتقوم الربوبية العظمى بهما.

ثم إنّ ما ورد في هذه الاية الشريفة من البيّنات الواضحة الدالة على وجود اللّه تعالى و وحدانيته و بديع صنعه الناشئ من رحمته التي وسعت كل

ص: 221

شيء، و مضمونها من أقرب الأشياء إلى الفطرة، و أوضح الأمور التي يقبلها العقل السليم و لا يحتاج إلى البرهان، لكنه تبارك و تعالى بعظيم لطفه و سابق منّه شاء أن يرشد الإنسان إلى ذلك بإقامة الحجة القيمة ليستفيد منها العالم و غيره كل بحسب استعداده، و ليكون العلم بذلك بالبرهان المتين، فذكر جلّت آلاؤه بعض الآيات من خليقته و ظواهر الكون الدالة على وحدانيته و رحمته.

قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . مادة خلق تأتي لمعان منها: إبداع الشيء من غير مثال، كقوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [سورة الأنعام، الآية: 73]، فهو مثل البديع، قال تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 117]، و فاطر قال تعالى:

اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الفاطر، الآية: 1] و هذا مما يختص به تعالى، قال عزّ و جل: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [سورة النحل، الآية: 17].

و منها: إيجاد شيء من شيء، قال تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [سورة النحل، الآية: 4]، و قال تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [سورة الرحمن، الآية: 14]، و قال تعالى: وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [سورة الرحمن، الآية: 15]، و بهذا المعنى يصح استعماله في غيره تعالى، قال عزّ و جل: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110].

و منها: التقدير، و يصح استعماله في غيره تعالى أيضا، لأن التقدير من مبادئ كل إرادة نفسانية، و لعل منه قوله تعالى: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، و ربما يكون المراد منه الخالق الاعتقادي لا الواقعي كقوله تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [سورة ص، الآية: 5]. و قد ثبت في محله امتناع تعدد الآلهة الواقعية.

و السموات هي الأفلاك العلوية بجميع أجرامها و كواكبها المختلفة و منظوماتها المتعددة - التي منها منظومتنا الشمسية - المختلفة في أعدادها

ص: 222

و أبعادها و أوزانها و المؤتلفة بينها بنظام دقيق، و هو قانون الجاذبية في الأفلاك السابحة في الفضاء الفسيح غير المتناهي بسير منتظم وفقا لقواعد فلكية، المؤثرة في حياتنا الأرضية بنحو من التأثير و غير ذلك مما فيه آيات بينات دالة على وحدة صانعها و حكمته البالغة، يبهر المتأمل في ظواهرها فكيف بمن اطلع على عجائبها.

و قد ورد لفظ السموات في القرآن الكريم بصيغة الجمع في ما يقرب من مأتي مورد، أو بصيغة المفرد أكثر من مائة مورد، و الجميع مقرون بما يدل على جلالة الصانع و بداعة صنعه و كمال الخلق و لم يرد لفظ السماء في القرآن بلفظ التثنية.

ص: 223

و الليل اسم جنس واحده ليلة، كتمر و تمرة، و النهار اسم جنس أيضا و يقع على القليل و الكثير على حد سواء، و لم يسمع له جمع في الاستعمالات الفصيحة.

و اختلاف الليل و النهار كذلك فيه من الحكم و المصالح الدالة على حكمته البالغة و عظيم صنعه، و فيه من المنافع للنّاس مما يدل على عظيم لطفه، و قد أشار سبحانه إلى بعض تلك المنافع في آيات أخرى فقال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً [سورة الإسراء، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [سورة الفرقان، الآية: 62]، و قال تعالى: وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة القصص، الآية: 73].

قوله تعالى: وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ اَلنّاسَ . الفلك - بضم الأول و سكون الثاني - السفينة و مفردها كجمعها و يفرق بينهما بالقرائن، قال تعالى: وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [سورة النحل، الآية: 14] و قال تعالى: وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا [سورة هود، الآية: 37]. فإن الأول جمع و الأخير مفرد، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يزيد على عشرين موردا، و أما الفلك - بفتح الأول و الثاني - فهو مجرى الكواكب.

و جريان الفلك في البحر و انتفاع الناس بها في نيل مقاصدهم في التجارة و حمل الأثقال و الأسفار البعيدة، كل ذلك من آيات اللّه تعالى الدالة على وجوده و وحدانيته و حكمته البالغة، لأن جريانها في البحر لم يكن إلاّ نتيجة قواعد علمية ثابتة، منها القواعد المعروفة في ثقل الأجسام؛ أو المتعلقة بجريان الريح قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ اَلْجَوارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ [سورة

ص: 224

الشورى، الآية: 23]. و منها القواعد المتعلقة بالبخار و الكهرباء الذين تجري بهما الفلك في هذه الأعصار، و غيرها من القواعد و القوانين التي هي من نعم اللّه تعالى على الإنسان قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ [سورة لقمان، الآية: 31].

قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماءٍ . فإنّ في نزول المطر و ارتواء الأرض و حياتها بعد موتها آية من الآيات الدالة على رحمته العامة و حكمته البالغة. و لم يبين سبحانه في هذه الآية كيفية تكوين المطر إلاّ أن آيات أخرى تبين ذلك، و سيأتي في قوله تعالى: اَللّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [سورة الروم، الآية: 48] إثبات أن مضمون هذه الآية هو الذي أثبته العلم الحديث بعد قرون عديدة.

قوله تعالى: فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ . البث التفريق، و الدابة من الدبيب، و هي كل ما يدب في الأرض و إن اشتهرت في العرف بما يركب.

و المراد من حياة الأرض بعد موتها هو جميع أنواع الحياة النباتية و الحيوانية و الإنسانية و خروجها من الجدب إلى الارتواء و قابلية إنماء النبات و قوة الإنبات، فان من نزول المطر ترتوي الأرض فتستعد لحياة النبات عليها، و به يعيش الحيوان و الإنسان، قال تعالى: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [سورة الحج، الآية: 5]. و الأرض القاحلة الخالية عن الماء لا يعيش فيها نبات و لا حيوان فهي ميتة من هذه الجهة، و ان المطر يخرجها الى الحياة، و من ذلك يعرف أن الماء سبب في حياة الأرض و النبات و الحيوان، و نزوله بحسب حكمته البالغة يدل على عظيم لطفه و واسع رحمته.

قوله تعالى: وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ . التصريف: النقل و التغيير. و الرياح الهواء المتحرك و إذا استعمل اللفظ في القرآن الكريم جمعا يكون

ص: 225

للرحمة، و مفردا يكون للعذاب في ما إذا كان من فعله، قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً [سورة فصلت، الآية: 16].

و تصريف الرياح تغييرها و تبديلها و توجيهها بإرادة اللّه تعالى، فإن في ذلك دخلا في بقاء النبات و الحيوان بل في حياة الإنسان من حيث المرض و الصحة، و كدورة النفس و صحوتها، كما أثبته العلم الحديث.

و قد ذكر العلماء أن الرياح على طبايع مختلفة، منها: الصبا و محلها من مطلع الشمس، و الجدي عند الاعتدال، و الشمال من الجدي الى مغرب الشمس، و الدبور من سهيل إلى مغربه، و الجنوب من مطلع الشمس إلى مغربها.

و منها الأعاصير، و الملقحة للنبات، و العقيمة، و المتناوحة التي تهب من كل ناحية، و منها الإستوائية الدافئة، و القطبية الباردة، و الموسمية، و التجارية التي تجري بها السفن، و منها الهادئة التي تمنع خطر العواصف.

كل هذه الأقسام تجري و تهب وفق الإرادة الأزلية و بحسب الحكمة و النظام مما يدل على حكمة صانعها و رحمة مدبرها و منّه على خلقه.

قوله تعالى: وَ اَلسَّحابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ السحاب الغيم، سواء كان فيه الماء أم لا و الفرق يستفاد من القرائن و سمي به إما لجر الريح له، أو لجريان الماء منه، أو لانجراره من محل إلى محل آخر بتسخير اللّه تعالى له، و التسخير التذليل بأمر المسخر.

و تسخير السحاب فهي الجو و اعتراضه بين السماء و الأرض و جريانه إنما يكون بحسب قواعد علمية ثابتة قد كشف العلم الحديث بعضا منها، و توجيه هذا السحاب و تنظيمه بأحسن نظام فيه الدلالة الواضحة على ربوبيته العظمى و رحمته الواسعة.

قوله تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . الآيات جمع آية و هي العلامة الظاهرة، أي: أن كل واحد من الأمور السابقة و الظواهر الكونية المنتظمة بأحسن نظام و المتحركة وفق الإرادة الأزلية التي اقتضت أن تسير هذه الأمور بحسب قواعد علمية ثابتة متقنة لم يتنبه الإنسان إليها إلاّ بعد مرور قرون

ص: 226

عديدة و قد كشف القرآن الكريم قبل ذلك عن بعض منها، و في كل ذلك دلالات واضحة على أنها من صنع اللّه تعالى القادر المتعال العليم الحكيم الرحيم، فإن كل مصنوع فيه الدلالة على صانعه، و إنّ فيها الدلالة على وحده صانعها و أنّه المستحق للعبادة و التعظيم لا يشاركه غيره، قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 21].

بحوث المقام

بحث دلالي:

تتضمن الآيات المباركة أمورا:

الأول: ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات من الأسماء الحسنى الوحدة، و الرحمانية، و الرحيمية دون غيرها من الأسماء، و يمكن أن يكون الوجه فيه هو أن بالوحدة تتم له تعالى جميع أنحاء التوحيد و يتنزه عن جميع أنحاء الشرك فهو فرد في الألوهية و الصفات العليا لا يشاركه أحد من مخلوقاته، فيستحق بذلك الألوهية في الخلق و العبادة، كما سيأتي مزيد بيان في البحث الفلسفي و بالرحمانية و الرحيمية تتم له الربوبية العظمى في مخلوقاته.

الثاني: قد ذكر سبحانه في هذه الآيات أصول الخلق التي تتعلق بالإنسان من حيث حياته و نشأته و بقاؤه و انتفاعه، فقد ذكر خلق السموات و الأرض لأن بهما تتقوم حياة كل حي و ذكر اختلاف الليل و النهار من حيث مدخليتهما في نشأة الحيوان و الإنسان و بقائهما، ثم ذكر الماء و النبات، لأن بقاء كل كائن حي إنما يكون بهما، و ذكر أخيرا تصريف الرياح باعتبار مدخليتها في بقاء كل ذي حياة، و أما الانتفاع من الرياح و الفلك و غيرهما فهو ظاهر.

الثالث: إنما ذكر سبحانه وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ اَلنّاسَ بعد اختلاف الليل و النهار، لأن تمامية النفع من الفلك إنما يتحقق بمعرفة الأوقات و ساعات الليل و النهار. و ذكر السحاب بعد تصريف الرياح،

ص: 227

لأن تسخير السحاب لا يكون إلاّ بتصريف الرياح و جريانها كما عرفت.

الرابع: إنما قدم عزّ و جل الليل على النهار في الآيات المشتملة عليهما، لأن ضوء النهار أمر وجودي متقوم بطلوع الشمس و غروبها و هو مسبوق بالعدم، فيكون الأصل هو الظلمة و إن كان الليل و النهار متلازمين في التحقق الخارجي، و يأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: تدل الآيات المباركة و ما في سياقها على أن الأشياء في عالم الطبيعة و الماديات مطلقا لا تحصل إلاّ بأسبابها المقتضية لها، و عليه جرت سنة اللّه تعالى في خلقه، و يدل عليه الدليل العقلي و النقلي،

و في الحديث: «أبى اللّه ان يجري الأمور إلاّ بأسبابها»، و قد تقدم في أحد مباحثنا السابقة إثبات ذلك.

و لا فرق في ذلك بين الأمور النوعية، و الصنفية، و الفردية، و هو يدل على كمال قدرته و إحاطته بمخلوقاته و واسع رحمته، فلو لا إرادته الأزلية لم يتحقق شيء من الأشياء، و لو لا الأسباب التي جعلها اللّه تعالى وسيلة لتحققها لما وجدت أصلا، فانه يكون من تحقق المعلول بلا علة، و هو محال و لا ريب في أن لثبوت الحوادث أسبابا ثبوتية واقعية مستندة بنفسها، و ترتب مسبباتها عليها إلى إرادة قاهرة فوق الطبيعة تديرها بجميع شؤونها و جهاتها، و الجميع لا يعزب عن علمه و لا يخرج عن قدرته.

و من ذلك يعلم أنّ الاقتصار على الأسباب و إرجاع الحوادث كلها إليها فقط مع الغفلة عما وراءها من السبب الواقعي تفريط في الرأي، و باطل بالأدلة العقلية و النقلية.

كما أنّ إرجاعها إلى اللّه تعالى مسبب الأسباب و مبدأ الكل و منشئه من دون نظر إلى الأسباب و العلل إفراط في الكلام، و قد أبطلته الشرايع الإلهية بل الوجدان و الدليل العقلي ينفيه، و الطريق الوسط الذي أمرنا باتباعه هو ما ذكرناه.

السادس: تدل الآيات على وجوب التعقل و التفكر، و هو مما حكم به

ص: 228

العقل أيضا، و قد ورد الأمر به و الحث عليه في ما يقرب من خمسين آية بعبارات مختلفة تشمل جميع أصناف خلقه بما فيها العلوم و الحرف و الصناعات إلاّ ما نهى عنه في الشرع كما هو مفصل في الفقه.

السابع: بيّن سبحانه في هذه الآيات ما يحب التأمل و التعقل و التفكر فيه، و هو خلق اللّه دون ذاته تعالى، و السنة متواترة في ذلك

فقد ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «تفكروا في آيات اللّه و لا تتفكروا في اللّه».

الثامن: إنّ الآيات المتقدمة و ما في سياقها في مقام سوق العباد إلى معرفة الخالق و الاعتراف بوجوده من خلال صنعه و خلقه، و مثل هذا الاستدلال على وجود المبدأ و معرفته أقرب إلى أذهان عامة النّاس قال تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَ إِلَى اَلسَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَ إِلَى اَلْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَ إِلَى اَلْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [سورة الغاشية، الآية: 17]. و قد يستدل سبحانه بالخالق على المخلوق و بالصانع على المصنوع، قال تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة الحج، الآية: 34]، و قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة فصلت، الآية: 53] و تفصيلهما مذكور في علم الفلسفة و الكلام.

التاسع: ذكر سبحانه أنّ ما ذكر في الآيات المتقدمة آيات لقوم يعقلون و لم يبين ما فيه الآية و حذف المتعلق تعميما للفائدة، فإنها تدل على أصل وجوده تعالى دلالة الصنع على الصانع، و على قدرته و علمه، و حكمته التامة البالغة، و لطفه و عنايته بأمر خلقه، فتدل السموات و الأرض على حدوثها و استناد خلقها إلى خالق قديم، و اختلاف الليل و النهار على التغيير و الاستناد إلى مدبّر يدبرهما بالتدبير الحسن، و جريان الفلك على رأفته و عطفه على خلقه، و إحياء الأرض بعد موتها على ظهور أنواع الثمار و النبات و ظهور منافعها للنّاس، و على لطائف الصنع و بدايع الحكمة، و بث الدابة على خلق الغرائز المختلفة و غرائب الحكمة و بدائع الصنيعة. و تصريف الرياح على تفريقها في الجهات، و على دفع المضار و الأمراض بها و غير ذلك من الآيات الدالة على بديع صنعه و أنها من تقدير العزيز العليم.

ص: 229

جمالك في كل الحقائق ظاهر *** و ليس له إلاّ جلالك ساتر

تجليت في الأكوان خلف ستورها فنمّت بما ضمّت عليها الستائر

و قد نسب إلى الحسين بن علي (عليهما السلام) في بعض دعواته: «أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك و متى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك».

بحث أدبي:

يدل قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ على الاعتراف و الإقرار بوجود اللّه تعالى و تحققه فعلا، و نفي الشريك له عزّ و جل و هذا هو المقصود من دعوة الأنبياء.

لكن قد يقال: إن قدّر خبر «لا» النافية لفظ ممكن أي لا إله ممكن إلاّ اللّه فهو ممكن و يثبت الإمكان بالنسبة إليه تعالى، و هو أعم من الوجود الفعلي، إذ لا يلزم أن يكون كل ممكن موجودا.

و ان قدر الخبر كلمة «موجود» أي لا إله موجود إلاّ اللّه فهو موجود، فهو و ان دل على فعلية الوجود له تعالى لكن لا يدل على امتناع الشريك عنه عزّ و جل، إذ ليس كل معدوم ممتنعا.

و الجواب: إنّ كلمة «لا» تامة لا تحتاج إلى الخبر، كما في ليس التامة فيكون المعنى إنّه لا تحقق للمعبود بالذات إلاّ اللّه تعالى، فيثبت وجوده و امتناع غيره، مع أنه يمكن تقدير الخبر لفظ «ممكن» و لا يلزم المحذور لما أثبته الفلاسفة من أن كل ما هو ممكن بالنسبة إليه عزّ و جل و ليس فيه نقص فهو واجب بالنسبة إليه تعالى.

و عن جمع من أكابر الفلاسفة إن كان الوجود بذاته واجبا فيثبت المطلوب و إلاّ فيلازم ذلك ثبوت المطلوب و كذلك في الصفات التي لا يلزم النقص من ثبوتها لذات الوجود.

كما يصح تقدير الخبر لفظ «الموجود» أيضا و يكون نفي الوجود عن المستحق للعبادة ذاتا مساوقا لامتناعه، لأنه لو كان ممكنا لتحقق. و لعل لظهور

ص: 230

هذه الكلمة المباركة في ما ذكرناه اكتفى الأنبياء (عليهم السلام) بها في دعوتهم للعباد إلى الاعتراف بوجود اللّه تعالى و وحدانية و نفي الشريك عنه.

بحث قرآني:

الآيات التي تقدم تفسيرها مجموعة من الآيات الكثيرة في مواضع متعددة من القرآن الكريم التي يأمر اللّه تعالى فيها الإنسان بالتفكر و التأمل و التعقل في خلقه عزّ و جل و الاعتبار منه، و الغرض من ذلك هو إثبات الإله الواحد الأحد رب العالمين، و نفي الشريك و طرح الأنداد، و إعلام الإنسان بأنّ جميع ما سواه مخلوق و مربوب للّه تعالى و هو من أهم مقاصد القرآن الكريم بل و جميع الكتب السماوية.

و قد نزل القرآن في ذلك بأسلوب جديد تميز به عن غيره و هو إرجاع الإنسان إلى الوجدان و الفطرة عن طريق التفكر و التأمل في بديع صنع اللّه تعالى و أصناف خلقه.

و لقد اعتنى الحكيم عزّ و جل به اعتناء بليغا و أكد عليه بأنحاء التأكيدات لما له الأهمية الكبرى و عظيم الأثر في إثبات المطلوب، و ذلك لأنّ في استخدام هذا الأسلوب بعثا للشعور الوجداني الكامن في النفس الإنسانية، و الاعلام للطرف بأن الحجة فيك و لا تتعدى عنك، و هو أبلغ في الإحتجاج على الغير.

و لوضوح هذا النحو من الإحتجاج استخدمه القرآن الكريم في بيان أهم مقاصده في المبدأ و المعاد في ظروف كانت الوثنية و الشرك و الجهل المهيمنة على الإنسان الذي رفض استخدام العقل و التعقل في اختيار معتقداته و آرائه و اقتصر على المادة لحصول الانس بها، فسلب بذلك عن نفسه الرؤية الصحيحة للأشياء، فصار يعيش في خرافات موهومة و بنى عليها حضارات متعددة اتسمت كلها بالجاهلية، فجلب لنفسه الشقاء، و استبعدها عن السعادة و الكمال.

و كانت السمة المميزة للإنسان الجاهلي هي تعدد الآلهة و خوفه من الطبيعة و عناصرها التي خلقها اللّه تعالى لنفع الإنسان و خدمته، فصوّر لكل

ص: 231

عنصر من عناصر الطبيعة إلها استحق منه التعظيم و التقرب إليه بأنواع القرابين، فجعل السماء إلها، و للأرض إلها، و للمطر إلها. و للشجر إلها، و للحب إلها، و للشمس إلها و للقمر إلها إلى غير ذلك مما ضبطه التاريخ.

و نسب ما يصيبه من المكاره و المحن إلى هذه الآلهة إما لأجل غضبها على الإنسان، أو لأجل الصراع المستمر بين الآلهة أنفسها، حتّى يؤول الأمر إلى الغضب على الطبيعة، فيلحقها الدمار الشامل كما في قصة الطوفان.

و يمكن تلخيص ما اعتقده الإنسان في عصر التنزيل في الطبيعة و الإله فيما يلي:

الأول: تعدد الآلهة و الإعتقاد بأن لكل عنصر من عناصر الطبيعة إلها يفعل ما يريد و يحكم ما يشاء في حدود ما ثبتت إلهيته.

الثاني: انه يرى قدم العالم و أزليته بقدم الآلهة و أزليتها.

الثالث: إنّه يعتمد في نظرته للطبيعة و عناصرها أن لها أرواحا تعمل بالإرادة الكاملة و تستحق التعظيم و العبادة، و أن الإنسان مسيّر تحت ارادتها.

الرابع: إسناد الحوادث كلها إلى هذه العناصر الطبيعية، فان كانت رخاء و نعمة فهي من تقارب الآلهة كما اعتقد أنّ عمران الأرض بالنبات و الأنهار و الأمطار كان نتيجة التقارب بين آلهة السماء و آلهة الأرض. و أما إذا كانت الحوادث سوءا و دمارا فهي من غضب الآلهة على الإنسان أو من الصراع المستمر بينها.

الخامس: تأثير العناصر السماوية في العناصر الأرضية.

و لقد نزل القرآن الكريم في هذه الظروف و كان أول همه إرجاع الإنسان إلى وجدانه و وعيه عن طريق التأمل و التفكر في ما حوله من الأشياء و أحكمه بأشد الإحكام، و ذم التقليد و العصبية في الآراء، و بذلك بيّن الطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى الكمال و الهداية عن غيره و في نفس الوقت حدّد علاقة الإنسان بالطبيعة، و هي بالإله، و بيّن بوضوح حقيقة الطبيعة و موقف الإله منها بأسلوب بياني رائع يقبله الطبع السليم، و كان له القول الفصل في ذلك

ص: 232

بحيث أصبح منارا يحتذي به كل متأله و حكيم، و منه استمد كل من كتب في الفلسفة الإلهية و الحكمة المتعالية.

و محصل ما يستفاد من القرآن في ذلك ما يلي:

الأول: أنّ الطبيعة بجميع عناصرها - السماوية منها و الأرضية - كلها حادثة و مخلوقة للّه تعالى و هي خاضعة لإرادته يفعل فيها ما يشاء و يحكم ما يريد، و هي تدل على وحدانيته تعالى و حكمته المتعالية، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبارَكَ اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأعراف، الآية: 54].

تبين هذه الآية بوضوح كيفية خلق السموات و الأرض و أنها حادثة و ليست أزلية.

الثاني: أنّها كما لا تكون أزلية - أي قديمة - لا تكون خالدة و أبدية، يصيبها الفناء كما يصيب كل مخلوق مسخر، قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [سورة إبراهيم، الآية: 48].

الثالث: أنّه خلق السموات و الأرض بلا شريك له في الخلق و لا وزير، قال تعالى: مَا اِتَّخَذَ اَللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 91].

الرابع: أنّه لا تنازع و لا صراع بين أفراد الطبيعة و عناصرها كما زعموه، بل كلها مسخرات بأمره كما في الآية المتقدمة.

الخامس: أنّها خلقت لأغراض صحيحة وفق نظام محكم و قواعد علمية متقنة، و إنها تدل على وحدانية و حكمته التامة و ربوبيته العظمى قال تعالى: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّارِ [سورة ص، الآية: 27] و الآيات في ذلك كثيرة.

ص: 233

السادس: أنّها ليست شرا بل خلقت لأجل نفع الإنسان إن كان مطيعا للّه، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة الروم، الآية: 46].

و يتفرع عن كل واحد مما تقدم أمور أخرى يأتي تفصيل الكلام فيها في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى. و بذلك بيّن سبحانه أصول الإعتقاد بالمبدأ و المعاد و نبذ الشرك و الأنداد.

كما بيّن أن جميع مخلوقاته آيات و علامات على وجود المبدأ تبارك و تعالى الذي وصفه القرآن الكريم بأمور:

الأول: أنّه أزلي قديم، لأنّ كل حادث لا بد له من الانتهاء إلى علة قديمة، و إلاّ يلزم التسلسل الباطل، و بذلك أثبت الفلاسفة القاعدة المعروفة في الفلسفة الإلهية: «أنّ كل حادث في عالم الإمكان لا بد و أن ينتهي إلى علة قديمة و واجبة و إلاّ لاختل النظام». و القاعدة المشهورة: «إنّ كلما بالعرض لا بد و أن ينتهي إلى ما بالذات».

الثاني: أنّه موجود إذ لا يعقل استناد الحوادث إلى المعدوم.

الثالث: امتناع التعدد بالنسبة إليه، كما يأتي في الآيات المناسبة له.

الرابع: أنّه حي مدرك، إذ لا يمكن اسناد هذا النظام الحسن إلى غيره.

الخامس: أنّه منعم رحيم رؤوف، لأنّ الخلق و التقدير إنما هو رحمة و رأفة و نعمة في وجدان كل ذي شعور كما يأتي في الآيات اللاحقة.

السادس: أنّه حكيم عليم بدقائق الأمور كلياتها و جزئياتها، لما في بدايع صنعه من خصوصيات و دقائق علمية مما تدهش منه العقول و يعترف أهل الفن بالعجز و القصور في درك الحقيقة و يخرّون سجدا لإلهية و حكمته.

ص: 234

السابع: أنّه لا يعزب عن علمه و تدبيره و كمال قدرته مثقال ذرة في السموات و الأرض.

الثامن: أنّ جميع الموجودات مستندة إليه في الحدوث و البقاء و أنّ مناط الحاجة إلى العلة فيها إنما هو الإمكان، و هو قرين ما سواء حدوثا و بقاء، و لا ينفك عنه بوجه من الوجوه.

التاسع: أنّه يسير ما سواه تعالى اليه عزّ و جل سيرا استكماليا، لما ثبت في الفلسفة و العرفان من أنه محبوب الكل و لا كمال للحبيب إلاّ السير إلى محبوبه بكل وجه أمكن.

العاشر: كما أنه مبدأ الكل فهو منتهى الكل أيضا، لمكان التلازم بينهما.

بحث روائي:

في الكافي عن هشام بن الحكم قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى أكمل للنّاس الحجج بالعقول و نصر النبيين بالبينات، و دلّهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ اَلنّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ وَ اَلسَّحابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

أقول: الأخبار في مضمون هذا الحديث متواترة من أنّ العقل يدعو إلى اللّه تبارك و تعالى، كما أنّ الأنبياء يدعون إليه إلاّ أنّ العقل حجة داخلية و النبي حجة ظاهرية.

و

قوله (عليه السلام): «أكمل للناس الحجج بالعقول» أي عرّفهم كيفية الاحتجاج على الشيء بما آتاهم من العقول.

و المراد من البينات البراهين الواضحة و لا ريب في كونها موجبة لنصرة النبيين عند ذوي العقول.

ص: 235

و المراد بالأدلة كلما يمكن أن يستدل به على الربوبية و هي كثيرة و يمكن حصر أنواعها في ثلاثة: دلالة الذات على الذات، كما

قال (عليه السلام): «يا من دل على ذاته بذاته». و دلالة المخلوقات عليه، كما هو المتعارف في القرآن الكريم كما مر و السنة الشريفة، و الأدلة العقلية الدالة على إثبات العلة بمعلولها. و دلالة المعاد و جزاء الأعمال عليه تبارك و تعالى لما مر مكررا من إثبات الملازمة بين المبدأ و المعاد. و سيأتي الكلام فيها في المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

في الخصال و المعاني و التوحيد عن شريح بن هاني قال: «إنّ أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: ان اللّه واحد؟ قال: فحمل النّاس عليه و قالوا: يا أعرابي ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب؟ فقال أمير المؤمنين: دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم؛ ثم قال: يا أعرابي إن القول في ان اللّه واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ و جل، و وجهان يثبتان فيه. فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن من لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة. و قول القائل الواحد من الناس يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه جلّ ربنا عن ذلك و تعالى. و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا. و قول القائل: إنه ربنا أحدي المعاني، يعني به إنه لا ينقسم في وجوده و لا عقل و لا وهم كذلك ربنا عز و جل».

أقول: هذا الحديث مما يدل على أن اطلاق الصفات عليه تعالى و على غيره ليس بالاشتراك المفهومي كما فصلناه قبل ذلك و يأتي إن شاء اللّه تعالى.

في الكافي عن أبي هاشم الجعفري عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في معنى الواحد قال (عليه السلام): «إجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ ».

أقول: روى مثله ابن بابويه و المراد من الحديث اتفاق الأنبياء و من

ص: 236

تبعهم على وحدانيته، مضافا إلى حكم الفطرة بذلك.

و عن ابن عباس انه قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في الآيات - المتقدمة - «ويل لمن سمع هذه الآيات فمج فيها».

أقول: المراد من المجّ هنا عدم التعقل و التفكر فيها.

بحث فلسفي:

أثبت جمع من الفلاسفة اشتراك مفهوم الوجود و ما يتبعه من العلم و القدرة و الحياة بينه تعالى و ما سواه ممن يتصف بالعلم و القدرة و الحياة و استدلوا على ذلك بأمور كثيرة مذكورة في محلها لا تخلو عن النقض و الإبرام كما ستأتي في محالّها إن شاء اللّه تعالى.

إلاّ أنّ اطلاق الواحد عليه تبارك و تعالى في القرآن الكريم ينفي ذلك، فان المراد بالواحد كونه واحدا من جميع الجهات، و في كل شيء لا يدانيه أحد و لا يشبهه في ذلك شيء، و هذا ما يستفاد من اطلاق الواحد على شيء عرفا خصوصا إذا قرن ب «القهار» كما في قوله تعالى: اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ فهو متفرد متوحد في كل ما يطلق عليه عزّ و جل فتكون هذه الآيات و ما في سياقها أدلة لمن قال بالاختلاف و المغايرة كما هو مذهب جمع آخر من الفلاسفة و المتكلمين، و تشهد لها السنة المقدسة

فعن علي (عليه السلام): «باين عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة». و تدل على ذلك الأخبار الكثيرة الواردة في تفسير صفات الباري عزّ و جل بالمعنى العدمي فإذا قيل: اللّه سميع. أي: لا تخفى عليه المسموعات، و بصير. أي: لا تخفى عليه المبصرات، و قدير. أي: لا يعجزه شيء، حذرا من تحقق الاشتراك و اللوازم الفاسدة المترتبة عليه. و البحث يحتاج إلى مزيد من البيان لا يسعه المقام، و من ذلك يظهر أنّ قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ بيان لقوله تعالى: إِلهٌ واحِدٌ »

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذ.......

اشارة

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ

ص: 237

اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبابُ (166) وَ قالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ اَلنّارِ (167) بعد أن ذكر سبحانه جملة من مصنوعاته التي في كل واحدة منها آيات دالة على توحيد الخالق، و قدرته، و رحمته، و علمه و حكمته التامة البالغة، و رغب الناس إلى التفكر و التأمل فيها، عقبها بهذه الآيات للإشارة إلى أنه مع وجود هذا الإله القادر المحيط الحكيم و بعد تلك الآيات الباهرات لا موضوع لاتخاذ الند من دونه و من فعل ذلك فليس إلاّ من نهاية غفلته و سيأتي يوم يتبرّأ أحدهم من الآخر و يستحقون الخلود في النّار.

التفسير

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً . الأنداد، و الأكفاء، و الأشباه، و الإشكال، و الأقران، و النظير بمعنى واحد، و الفرق بينها بالاعتبار، ففي الاتحاد في الذات يقال: ند، و في الاتحاد في الأمور المتعارفة يقال: كفو، و في الاتحاد في عرض من الأعراض يقال: شبيه، و في الاتحاد في القدر و المساحة يقال: شكل، و في الاتحاد في الكيفية يقال: نظير. و ربما لا تلاحظ هذه الخصوصيات فيطلق بعضها في محل البعض الآخر، و المثل أعم من الجميع، فكل ند مثل و لا عكس، و من عبر عن الأنداد بالضد يكون من اشتباه المفهوم بالمصداق، لأن الضدين أمران وجوديان لا يجتمعان في موضوع واحد، فمن جهة شمول الوجود لهما يكونان مثلين، و في جملة من الدعوات: «و كفرت بكل ند يدعى من دون اللّه». و الأنداد أعم من تأليههم أو اتباعهم في الأفعال و الأعمال.

و إنما عبر تعالى بلفظ «الناس» تعميما لجميع أفراد الإنسان من حين نزول الآية المباركة إلى قيام يوم الحشر فانه يكون فيهم أفراد يتخذون من دون اللّه أندادا في كل زمان و مكان، و لا يختص ذلك بقوم دون آخرين بل يمكن أن

ص: 238

يكون الخطاب من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لما قبل نزول الآية أيضا.

و إنما ذكر تعالى لفظ «اللّه» دون الرحمن الرحيم و أمثالهما من الصفات لبيان إثبات الدليل على بطلان اتخاذ الند من دونه، فان لفظ «اللّه» اسم للذات المسلوب عنها جميع النقائص الإمكانية. يعني: أن من كان هكذا يكون أخذ الند في مقابله لغوا عند كل ذي شعور و دراية و يستقبح ذلك.

قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ . الحب معروف، و هو من المفاهيم التي قصرت الألفاظ عن بيان حقيقتها، و الكلمات عن الإحاطة بها، فإيكاله إلى الوجدان أولى من التعرض له باللفظ و البيان.

و قد وردت مادة (ح ب ب) في القرآن الكريم كثيرا و هو من اللّه تعالى لخلقه، قال تعالى: وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 195]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ [سورة الممتحنة، الآية: 8]، و قال جلّ شأنه: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 146] و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 4] إلى غير ذلك مما هو كثير، و من الخلق للّه تعالى قال سبحانه: يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ [سورة المائدة، الآية: 54]. و بالنسبة إليهما معا قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة، آل عمران، الآية: 31]. و من الخلق للخلق قال تعالى: وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا [سورة يوسف، الآية:

30].

و الحب أصل جميع المقامات و الأحوال؛ فهي إما وسيلة إلى حصوله أو هي ثمرة من ثمراته، كالتوحيد، و الرجاء، و الخوف، و التوكل، و غير ذلك؛ و لذا اختص بهذا المقام الخطير إمام الأنبياء و سيد المرسلين (صلّى اللّه عليه و آله) و لعلنا نتعرض لبعض الجوانب في المقامات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و أما تفسير المحبة بالإرادة، كما عن بعض المفسرين فهو خلاف الاستعمالات المتعارفة لأنه يصح أن يقال:

«اللهم و من أرادني بسوء فأرده» و لا يصح ان يقال: اللهم من أحبني بسوء. كما يصح ان يقال: أحببت القرآن

ص: 239

فقبّلته، و لا يصح استعمال الإرادة فيه، و من اختلاف استعمال كل منهما في مورد الآخر حسنا و قبحا يعلم اختلاف المعنى. نعم يصح جعل الإرادة و الشوق من مبادي المحبة.

و المعنى: و من الناس من يتخذ من دون اللّه أندادا و أمثالا و نظائر إما في القدم، فيجعلون الذوات قديمة، او في الأثر، كما يجعلون الطبيعة مؤثرة، أو في الحكمة و البداعة فيجعلونها من مقتضيات الذوات أو في الاختيار و القدرة فيتبعون الرؤساء و يجعلونهم سببا مستقلا في مقابل إرادة اللّه تعالى، أو في الأفلاك و كائنات الجو فللناس فيها عقائد و مذاهب باطلة، و يظهرون العلاقة القلبية بالنسبة إليهم و يعظمونهم و يخضعون لهم على نحو تعظيم اللّه تعالى و إظهار العلاقة له عزّ و جل، لعدم التعقل و التفكر في الواقع و عدم فرقهم بين الحقيقة و المجاز و الاقتصار على الظاهر فقط.

و المراد (بحب اللّه) الحب الظاهري الناشئ من المعاشرة مع المسلمين المحبين للّه تعالى، و الحب الادعائي الذي يدعيه المنافقون.

و مقتضى المقابلة بين الآيات السابقة و المقام و سياق المخاطبة أن يقال:

و من الناس من يتخذ من دون اللّه أندادا يحبونهم كحب اللّه لأنهم لا يعقلون.

إلاّ أن من أدب القرآن، و الحث و الترغيب في دخولهم الإسلام و المدارة معهم مهما أمكن أوجب تغيير التعبير، و لذا نرى أن الآيات المشتملة على جملة: «لا يعقلون» نازلة في أواخر البعثة و بعد استقرار الإسلام، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ اَلْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة الحجرات، الآية:

4]، و قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر، الآية: 14] و قال تعالى: وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة المائدة، الآية: 103].

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ . لاعتقادهم بأنه جامع لجميع الصفات الحسنى، و انه مرجع الكل و منتهاه، و أنه أرحم الراحمين، و له القدرة و السلطان، و ان عنده مفاتيح الغيب يعطي لمن يشاء و يمنع عمن يريد، و ان

ص: 240

عنده الثواب و العقاب. فكان عرفانهم له أتم فلا يرجون غيره و لا يعبدون سواه فلا محالة يكون حبهم له أشد.

و حب الذين آمنوا باللّه تعالى ليس كالحب الحاصل من الشهوات النفسانية، بل له واقع غيرها و هو اللّه عزّ و جل، و انه حق لأن الاعتقاد بالحق حق لا ريب فيه، و أنه ظاهر في العمل لأن العمل المنبعث عن الواقع و الحقيقة مرآة صافية لا شائبة فيه غيرهما، فكان هذا الحب بالنسبة إلى الواقع و الاعتقاد و العمل، هو الحب الحقيقي الذي يربط بين الخالق و المخلوق و العابد و المعبود، و بقدر إخلاص العبد للّه تعالى تزداد محبته له تعالى، كما ان بقدر الاختلاط مع الغير تضعف درجة المحبة، فان كل من أحب شيئا أعرض عن غيره و ازداد الاتصال به.

و يظهر أثر هذه المحبة في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فباتصاف العبد بجميع الكمالات المعنوية و ارتقائه في المقامات العالية و الابتعاد عن الرذائل و التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود، فان للملكات النفسانية تأثيرات في ذات النفس و كذا بالعكس.

و أما في الآخرة فقد أعد اللّه للمحبين له ما لا عين رأت و لا اذن سمعت. هذا بالنسبة إلى حب العبد للّه تعالى.

و أما محبته عزّ و جل للعبد فهي من صفات فعله، و هي الهداية الى الصراط المستقيم و كشف الحجب عن قلبه، و توفيقه لما يحبه عزّ و جل، و التوجه إليه و حينئذ يطأ بساط قربه و لا يصل العبد إلى هذه المراتب إلاّ باتباع الشريعة المقدسة اعتقادا و قولا و عملا، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31].

قوله تعالى: وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ رأى مصدرها (رؤية) تحذف الهمزة في مستقبلها، فيقال: يرى و نرى و ترى. و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم و هذه المادة تستعمل في جميع القوى الظاهرية، يقال: لمسته فرأيته ناعما، أو سمعت صوته فرأيته حسنا، و تفكرت فيه فرأيته صحيحا، و تعقلت فيه فرأيته دقيقا و غير ذلك من الاستعمالات التي

ص: 241

لا تنحصر بالمحسوسات و الإنسان، و الدنيا، بل تشمل غيرها، قال تعالى:

وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة، الآية:

105]، و قال تعالى: وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تَرَى اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [سورة الزمر، الآية: 60]، و قال تعالى:

إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف، الآية: 27] فهو أعم لفظ يستعمل في الإدراكات.

و المراد به هنا هو الإدراك بعين اليقين و حق اليقين كما هو الشأن في جميع مدركات الآخرة، و أما في الدنيا فإنّ ذلك يختص بالأنبياء و الأولياء و المعنى: و لو يرى الظالمون الذين ظلموا عظيما باتخاذهم الأنداد و التعدي عن حدود اللّه تعالى و يرون بالعيان العذاب و يشاهدونه و يدركون أهواله لعلموا حق اليقين بأنه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام و ما جنوه من السيئات.

قوله تعالى: أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعَذابِ . جملة «أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ...» مفعول ل «يرى»، و الجملة الثانية عطف على المفعول. أي:

حينما يدركون بعين اليقين انحصار القوة و القدرة فيه تعالى وحده و ان غيره لا حول و لا قوة له، و ان العقاب و الثواب بيده عزّ و جل و انه شديد العذاب مع الظالمين.

و جواب «لو» مقدر حذف لدلالة سياق الكلام عليه، و لتعظيم الأمر و تهويله، أي: لندموا ندامة شديدة و أذعنوا بظلمهم و ضلالهم و رجعوا إلى الحق و اعتقدوا بالوحدانية، و انه ليس من دونه وليّ و لا نصير. و بالجملة انه يدخل عليهم ما لا يمكن دخوله تحت وصف من الحسرة و الندامة.

و في الآية تسفيه عظيم لهم بأنهم لا يهتدون بعقولهم، و توبيخ شديد.

قوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ .

جملة «إذ تبرأ» بدل من «إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ» أو عطف بيان، و العامل فيهما «و لو يرى».

ص: 242

و التبري، و البرء، و البراء بمعنى واحد و هو الابتعاد عما يكره مجاورته، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا، قال تعالى: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ [سورة يونس، الآية: 41] و قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ [سورة التوبة، الآية: 3].

و يقال في العرف: برئت من المرض.

و الاتباع هو اقتفاء الأثر، سواء في الخير أو الشر، قال تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ [سورة الأنعام، الآية: 142]، و قال تعالى: يا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ [سورة يس، الآية: 20]، و قال تعالى: أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النحل، الآية: 123].

و المراد بالرؤية هنا - كما تقدم - هو الانكشاف و المشاهدة بعين اليقين، لظهور الحقائق و انكشاف الحجب في الآخرة.

و المعنى: و لو يرى الظالمون تبرؤ المتبوعين - و هم الرؤساء - من الأتّباع حين ما يرون العذاب و يشاهدون أهواله و علموا بأنّه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام و ما فعلوه من السيئات باتخاذهم الأنداد و التعدي عن حدود اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبابُ . التقطع الانفصال، و زوال الأثر المطلوب و الأسباب جمع السبب و هو الحبل الذي يتوصل به إلى الصعود، و المراد بها هنا تلك الروابط التي كانت بين الظالمين - الرؤساء و الأتّباع - فتشمل رابطة المال، و الجاه، و العقيدة، و العشيرة و نحو ذلك من الروابط و الأسباب التي اعتقدوها سببا لنجاح مقصودهم.

و الجملة كناية عن خيبة آمالهم في الوسائل و الروابط حينما يرون العذاب و يدركون أهواله فلا يمكن الاستفادة من تلك الأسباب التي عاشوا بها برهة من الزمن فلا تجديهم نفعا.

و الآية تشير إلى غريزة من الغرائز في الإنسان و هي أن متابعة كل فرد للغير إما ان تكون لجلب النفع أو لدفع الضرر فإذا لم يرج ذلك عند انحصار الأمر في اللّه تعالى يثبت التبري عن الغير، و هي مثل غريزة دفع الضرر بل الأولى من فروع الأخيرة و لا اختصاص لها بعالم دون عالم فهي قرينة الإنسان

ص: 243

إلى ما بعد موته إلى خلوده في دار الخلد إما الجنّة أو النّار.

و من هذه الغريزة يتحقق كثير من أفعال الإنسان كسائر الغرائز - خيرا كانت أو شرا - إلاّ إذا وجهها صاحبها إلى طريق الخير فقط و من آثارها ما نشاهده في عالمنا من وقوع التبري بين الأتّباع و المتبوعين عند ما يتوقع أحدهما وقوع الضرر من الطرف الآخر أو عدم تمكن الانتفاع منه، و أما في الآخرة فان المتبوع حينما يرى العذاب الشديد و لا يمكن التخلص منه إلاّ بالعمل الصالح فلا تنفعه الأسباب و لا يقدر الأتباع مساعدته لا محالة يتبرأ منهم و الأمر في الأتباع أظهر، فتنكشف حقيقة التبعية، و أنّها كانت كالسراب لا واقع لها فتبطل التابعية و المتبوعية، و ينحصر الأمر في اللّه تعالى فيجازيهم بسوء أعمالهم.

و مضمون هذه الآية من القضايا العقلية التي يغني تصورها و التأمل فيها عن إقامة الدليل عليها.

كما أنه لا اختصاص لهذه الآية بطائفة خاصة و بقسم خاص من التبعية بل يشمل جميع الطوائف و الأفراد حتّى الفقهاء الذين إذا ادعوا لأنفسهم ما لا يستحقون لجلب قلوب الناس إليهم و الإتباع لهم، كما يشمل المبلغين و المرشدين الذين لم يظهروا حقيقة الإسلام قولا و عملا بل بينوا خلاف ما أسسته الشريعة المطهرة، و كذا المعلمين إذا كان التعليم خلاف ما أذن فيه سيد المرسلين،

و في الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده فان كان الناطق ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه و إن كان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان».

ثم إن في التعبير بقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مع ادعائهم الحب للأنداد من اللطف ما لا يخفى، و من البلاغة و روعة الأسلوب ما يبهر منه الفطن اللبيب.

قوله تعالى: وَ قالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنّا . بيان لقضية فطرية و هي مجازاة الشيء بمثله، و حيث انه لا موضوع لتبري الأتباع من المتبوعين في دار الآخرة لما يشاهدونه من العذاب علقوا

ص: 244

ذلك على الكرة إلى الدنيا و تمنوا الرجوع إليها فيتبرءوا من المتبوعين و يعودوا إلى الحق و يهتدوا بهدى المرسلين لينتفعوا به في الجزاء.

قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ . الحسرة واحدة الحسرات و هي أعلى درجات الندامة على شيء و أشد من الغم و سببها الجهل بالواقع و تركه و العمل على خلافه فيكون السبب الفاعلي للحسرة من العبد، و الفرار منها إنما يكون بالرجوع إلى الإيمان باللّه تعالى و رسله و العمل الصالح، أو التوفيق منه عزّ و جل.

أي: كما أنّهم رأوا العذاب و وقع التبري بينهم و انقطعت الأسباب التي علقوا عليها آمالهم كل ذلك يكون حسرة عليهم و ان جميع أعمالهم صارت وبالا عليهم فخلّفت أسوأ الآثار في نفوسهم حيث أورثت الحسرة و الشقاء فتكون أسباب الحسرة هي نفس الأعمال لتفريطهم فيها.

و إنّما أسند ذلك إلى نفسه المقدسة لبيان أنّ جميع الأمور مستندة اليه عزّ و جل سواء في الدنيا أم الآخرة إلاّ أنّه عزّ و جل جرت عادته على ترتب المسببات على الأسباب الظاهرية في دار الدنيا فيزعم الغافل السببية الحقيقية.

قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ اَلنّارِ . أي: خالدون في النار لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا، جزاء لأعمالهم و اعتقاداتهم السيئة.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: إنما عبّر سبحانه و تعالى بالاتخاذ للإشارة إلى أنه ليس من الصراط المستقيم و سواء السبيل بل فيه تكلف بإخراج الفطرة عن طريقتها و سبيلها المستقيم لأنّ الاتخاذ هو الافتعال و تدل المادة على كثرة العناية و الاهتمام بما اتخذ و هو أعم من الحق و الباطل، قال تعالى: وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 125]، و قال تعالى:

ص: 245

أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [سورة الفرقان، الآية: 43] و كذا المقام الذي هو من الباطل للأدلة الكثيرة الدالة عليه.

الثاني: إنّما قال تعالى: أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ و لم يقل أحب للّه، لأن في التعبير الأول نحو عناية لم تكن في الثاني و تدل على ان محبة المؤمنين أشد من سائر أنحاء المحبة و أنها أتم لأن من شهد له محبوبه بالمحبة كان حبه أتم، و لأن المحبة إذا كانت للّه تعالى و في اللّه عزّ و جل و باللّه كانت لا محالة أشد و أبقى و أدوم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ان جميع ما يستدل به على وحدانية اللّه تعالى أو صفاته العليا أو أفعاله المقدسة بالأدلة العقلية و البراهين القويمة إما من المعلول على العلة أو بالعكس إنما يكون موطنها في هذا العالم، و أما في الآخرة فإنها عالم العيان و المشاهدة لانكشاف الواقع و ارتفاع الأستار و الحجب فيها، و قد يكون كذلك في هذا العالم لعباد اللّه المخلصين الذين تجلت عظمة الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فلا يرون غيره تعالى،

قال علي (عليه السلام): «ما رأيت شيئا إلاّ و رأيت اللّه قبله و بعده و معه و فيه»،

و نسب إلى ابنه الحسين (عليه السلام):

«عميت عين لا تراك و خسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيب».

الرابع: إنّ قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ يدل على أن الحب للأنداد شيء و حب اللّه تعالى شيء آخر و لا يستفاد منه الاشتراك في المحبة بينه تعالى و بين الأنداد، و كذا في قوله تعالى: أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ لأنّ حب الأنداد مذموم و حب اللّه تعالى ممدوح، و هذا يدل على نفي الاشتراك بينهما من كل جهة.

و من ذلك يظهر أنّ ما ذكره بعض المفسرين من أنّ محبة أولياء اللّه تعالى و أنبيائه و الصالحين مذمومة أيضا لفرض وقوعها في مقابل محبة اللّه تعالى فيكون من الشرك في المحبة الذي عرفت انه مذموم أيضا. (ضعيف) لأن محبة أولياء اللّه تعالى، و الأنبياء ترجع إلى محبة اللّه تعالى، و لا يعتقد أحد

ص: 246

من المسلمين الاستقلالية بالنسبة إليهم في مقابل اللّه او الشرك به عزّ و جل فهم من حيث أنّ اللّه تعالى امر باتباعهم و تعظيمهم صاروا محبوبين لديهم، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31].

بحث روائي:

في تفسير العياشي و الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ - الآية -، قال (عليه السلام): «و اللّه يا جابر هم أئمة الظلمة (الظلم) و أشياعهم».

أقول: نفس الآية الشريفة دالة على ذلك، و كذا ما في سياقها من سائر الآيات فان اللّه تعالى وصف التابعين بالظلم فإذا كان المتبوع حقا لا تكون جهة المتابعة ظلما.

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ قال (عليه السلام): «هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة اللّه بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة اللّه، أو في معصية اللّه فان عمل به في طاعة اللّه رآه في ميزان غيره فرآه حسرة و قد كان المال له، و ان كان من عمل به في معصية اللّه قواه بذلك المال».

أقول: قريب منه روايات كثيرة عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) و هذه الروايات و ان وردت في المال و لكن يمكن أن يقال ان ذلك من باب التطبيق فيشمل جميع مناشئ الخيرات من الأعمال و غيرها كما تقدم في تفسير الآية.

بحث فلسفي:

يدل قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ اَلنّارِ على الخلود في النار و هو من المسائل المتفق عليها بين الكتب الإلهية و الشرائع السماوية و مع ذلك لم تخرج عن موضع نقاش الإنسان و إشكالاته. و مما أورد عليه انه يستلزم القسر الدائم، و قد ثبت في الفلسفة بطلانه، و سيأتي في الموضع المناسب

ص: 247

التعرض لمسألة الخلود و البحث فيها مفصلا. و في المقام نتعرض للقسر فنقول:

القسر في اللغة هو القهر فيشمل كل إعاقة للفرد أو النوع و قهره عن مطلوبه و غايته، و المراد به عند الفلاسفة إيجاد المانع عن وصول الممكن إلى كماله اللائق به في سيره الاستكمالي في عالم الكون و الفساد الذي هو عالم الاستكمال، مع أنّ مقتضى الحكمة و العناية إيصال كل ممكن إلى المطلوب و الغاية.

و يستفاد من ذلك أن القسر إنما يكون بإيجاد المانع عن إجراء قانون المقتضي (بالكسر) و المقتضى (بالفتح) في أفعال الإنسان و غاياته و لا يختص بخصوص الإنسان بل يجري في كل مقتض بالنسبة إلى مقتضاه في السير الاستكمالي.

و قد يطلق في كلمات الفلاسفة على الفعل غير الطبيعي فإن سقوط الحجر من العلوّ فعل طبيعي له، و خلافه - أي الملقى إلى الأعلى - فعل قسري، و هو غير دائمي للزوم جريان قانون المقتضيات على اقتضائها وفق النظام الطبيعي كما فصل في الفلسفة الطبيعية.

و القسر على قسمين:

الأول: القسر الدائمي،: بأن يكون المنع في الإنسان أو غيره عن الوصول إلى الكمال دائميا، و قد ثبت في الفلسفة بطلانه لأنّه خلاف الحكمة من الخلق فيكون قبيحا عليه جل شأنه و كل قبيح يكون محالا عليه.

الثاني: القسر غير الدائمي، و هو في ما إذا كانت الإعاقة عن المطلوب موقتة، و هذا القسم لم يقم دليل على بطلانه بل هو واقع في الخارج كثيرا، كالحوادث و الكوارث الطبيعية مثل الزلازل و الفيضان و الأمراض و الأوبئة و غيرها مما يوجب هلاك الحرث و النسل قبل البلوغ إلى الغاية و المطلوب.

و لهذا القسم أسباب متعددة:

منها: الأسباب الطبيعية الخارجة عن قدرة الإنسان و اختياره.

ص: 248

و منها: القوانين التي تحدد حريات الفرد و تكبح جماحه عن الشهوات سواء كانت تلك القوانين شرعية إلهية أم وضعية وضعت لمصلحة الإنسان بحيث لو لاحظنا تلك المصالح لما كان قسر في البين و إنما يرجع القسر إلى عدم درك المنشأ.

و منها: العادات و التقاليد فإن لها تأثيرا في قهر الفرد، و هذه العادات و التقاليد إن كانت سيئة و غير موافقة للشريعة المطهرة يجب إزالتها و محوها و إلاّ رجعت إلى الشرع المبين.

ثم إنه قد ذكرنا انهم أشكلوا على الخلود في النار بأنه يستلزم القسر الدائمي و هو باطل، فيمتنع عليه تبارك و تعالى.

و الجواب عنه بأنّ الأفعال لا بد و أن تجري على وفق الموازين الطبيعية و الواقعية منها بما لها من الجهات و الخواص و الآثار التي لا يحيط بها إلاّ الحي القيوم، فما كان على خلاف ما نراه من الطبيعة لا يستلزم أن يكون كذلك في الواقع أيضا، لعدم إحاطة المدركات بالواقعيات مضافا إلى أن الخلود في النار إنما هو نتيجة سوء سريرة الإنسان التي تكون معه أينما كان فيكون أمرا واقعيا لقانون العلية و المعلولية فلا موضوع للقسر حينئذ.

بحث عرفاني:

من أقرب المعاني إلى النفس و أعذبها عليها الحب. ذلك هو الترابط الوثيق الذي يربط الموجودات بعضها مع بعض و به يجتذب كل صانع مصنوعه فهو الطريق إلى الكمال كل بحسب ما يريده كمالا و به تتحقق الحياة السعيدة و لأجله يعيش الفرد و يعمل.

يعرفه جميع الروحانيين و أملاك السبع الشداد، و دواب الأرض المهاد، و جميع الوحوش في الفلوات، و الحيتان في البحار الغامرات. بل ان جميع الموجودات تحبه تعالى و تعشقه كما أثبته جمع من الفلاسفة.

و بهذه الصفة يدرك المخلوق خالقه، و من هذه الجهة يعطف الخالق على خلقه، فلا حياة إلاّ بالحب و لا سعادة إلاّ بالعشق.

ص: 249

و هو من المعاني الوجدانية التي يدركها كل أحد و ان قصرت العقول عن الوصول إلى كنه حقيقته. فهل هو برق من نور الجمال الكامل المطلق يبرق ثم يختفي؟!! أم هو تجلّ من وجه اللّه الأعظم ظهر و تجلّى؟!! أم هو تلك الجاذبية التي أثبتها العلم الحديث في جميع الموجودات؟!! أم هو ما بينه علي (عليه السلام) في مقام العارفين و خطبة همام؟!! أم هو ما

نسب إلى ابنه الحسين (عليه السلام) في دعائه لربه: «تعرفت إليّ في كل شيء فرأيتك في كل شيء و أنت الظاهر لكل شيء؟!!أم هو ما شرحه السجاد (عليه السلام) في مناجاة المحبين؟!! أم هو ما ذكره ابن الفارض في قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك التي شرحت بشروح كثيرة مطلعها:

سقتني حميّا الحب راحة مقلتي *** و كأسي حميّا من عن الحسن جلّت؟!!

أم غير ذلك مما يقوله العلم الحديث كما مر. كل ذلك قطرات من البحر لا يدرك ساحله بل يغرق وارده، و مع ذلك فهو أوضح من كل شيء و يوجد في كل شيء.

و هو لا يختص بالإنسان بل يشمل جميع الموجودات الواجب منها و الممكن - و قد أثبت العلم الحديث عموم الجاذبية و المجذوبية في الموجودات، و في حب اللّه تعالى و حب الإنسان، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31] و حبه تعالى لمخلوقاته من فروع رحمته الواسعة.

و أما محبة سائر الموجودات له تعالى فقد أثبتها جمع من الفلاسفة منهم صدر المتألهين في كتابه القيم (الأسفار الأربعة): أنّ الموجودات بأسرها

ص: 250

عاشقة لجماله، و يكفي في ذلك أنها سائرة إلى الكمال المطلق و لا كمال كذلك إلاّ فيه تعالى و منه عزّ و جل فهو محبوب من كل جهة.

فالقول باختصاص الحب في غيره عزّ و جل نظرا لتنزهه عن معناه (باطل) و لا يخفى فساده، لا سيما بعد ما ورد في القرآن الكريم من إثبات حبه عزّ و جل لبعض الأفراد قال تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية:

76]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران، الآية:

159]، و قال جلّ شأنه: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران، الآية:

148].

و الحب من المعاني القلبية المنبثة على جميع جوارح الإنسان و حواسه كما هو واضح و يتعلق بالأشخاص أو الأشياء العزيزة، أو الجذابة، أو النافعة و يكون باعثا إلى التقرب إلى المحبوب بكل وسيلة يحبها المحبوب كما في حب اللّه تعالى الداعي إلى إتيان ما يريده عزّ و جل و ترك ما لا يرضيه أو محركا إلى الإتيان بالعمل المحبوب، كما في الأعمال الصالحة و الحرف و الصنايع و نحو ذلك، أو يكون داعيا إلى قضاء الحاجة من المحبوب كما في حب الأكل، و حب المال، و حب النساء و غير ذلك؛ أو يكون مصاحبا إلى البذل و العطاء من دون انتظار مقابل كما في حب الأم للأطفال.

و الحب المجرد الذي لا يكون مقرونا بأي شيء لا أثر له بل هو من مجرد اللفظ فقط و هو تارة: يتركز حول النفس؛ و يسمى بحب الذات الذي لا يخلو عنه أي حيوان و هو المعبر عنه في الإنسان بالأثرة و أخرى: يتعلق بالغير فهو إما أن يكون مصحوبا بالغيرة و هو المسمى بالحب العذري او لا يكون كذلك.

و ثالثة: يتعلق باللّه تعالى و يسمى بالحب الإلهي الذي هو وليد كمال معرفة اللّه تعالى و الناشئ عن الجمال المطلق و لا يحصل إلاّ بالتخلية عن الرذائل و التطهير عن كل ما يشغل القلب عن اللّه تعالى، و التخلية بالفضائل. و هذا القسم هو أفضل أقسام الحب و لا يشعر به إلاّ العارفون باللّه؛ و هو ذو مراتب متفاوتة، و الجامع بينها أن يكون الحب للّه و في اللّه و كل ما كان الحب أشد كانت

ص: 251

السعادة أتم و أعظم.

و هو يختلف باختلاف المحبوب و ينقسم بحسب القوى الظاهرية في الإنسان كحب البصر للرؤية، و السمع لسماع الأصوات الحسنة، و كذلك الشم للأرياح الطيبة، و كذلك اللمس و الذوق.

كما أنه ينقسم بحسب القوى المعنوية - كالعقل و الفكر و الإيمان، و في جملة من الأخبار

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ليس الإيمان إلاّ الحب في اللّه و البغض في اللّه» أي حب اللّه و حب احكامه و تشريعاته و حب محبيه و البغض لأعداء اللّه و المحرمات الإلهية: و قد ذكرنا أن هذا القسم من أفضل أفراد الحب الموجب لسعادة الإنسان في الدارين.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْم.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) بعد ما بين سبحانه و تعالى في الآيات السابقة أحوال متخذي الأنداد ذكر تبارك و تعالى في هذه الآيات ما أوجب ذلك و أنه أكل الخبائث و اتباع خطوات الشيطان العدو للإنسان الذي لا يرجى منه الخير و الصلاح، و تقليد الآباء و الاعتماد على أفعالهم من غير عقل و لا هدى ثم أعقب ذلك مثلا يبين بطلان عقائدهم و سخف آرائهم، و انهم كالحيوان الذي لا يعقل ما حوله إلاّ دعاء الداعي و زجره، فهؤلاء أيضا كذلك صمّ عن الحق كأنّهم لا يسمعونه و بكم لا يستجيبون لما يدعون اليه، و عميّ كأنهم لا يشاهدونه فهم لا يعقلون الحق و لا يهتدون اليه.

ص: 252

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً .

الحلال: هو المباح في مقابل المنع و الحرام، و بينه و بين المنع نسبة العدم و الملكة، و لذا لا تتصف أفعال اللّه تعالى بالحلال و المباح، لعدم تعقل الحظر و المنع بالنسبة إليه عزّ و جل.

و الطيب ما تستلذه النفس و لم يرد فيه نهي من الشرع.

و الأمر فيه للإباحة و «من» للتبعيض أي بعض ما في الأرض إذ ليس كل ما فيها يؤكل، أو من بعض ما في الأرض مما أحله اللّه تعالى. و الجمع بينهما إما لأجل التحريض في إناقة الأطعمة بأي وجه أمكن إذا لم يكن محذور شرعي في البين. أو لأجل أدب المقام و تكريم الأكل في قوله تعالى: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [سورة النساء، الآية: 4].

و تعميم الخطاب للنّاس أجمعين من جهة تعميم رحمته تعالى.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ . الخطوات [بضمتين] جمع خطوة و هي ما بين قدمي الماشي كالشهوة و الشهوات و قرئت بضمة و سكون، و خطؤات بضمتين و همزة، و خطوات بفتحتين، و خطوات بفتح فسكون جمع الخطوة و هي المرة من الخطو. و المعروف هو الأول. و اتباع خطوات الشيطان هو الاقتداء به و اقتفاء أثره و الاستنان بسنته. و لم تستعمل كلمة الخطوات في القرآن الكريم إلاّ بالنسبة إلى الشيطان الرجيم، و قد نهى سبحانه النّاس عن اتباعها في موارد متعددة.

و الشيطان سواء كان من شطن أو شطأ بمعنى المبتعد عن الحق و العدو اللدود. و لفظه عبرى الأصل.

و يعتبر في الأديان الإلهية الكبرى مبعث الشر متمثلا في شخص خاص و له أعوان من صغار الشياطين يأتمرون بأوامره، و هو يغري الإنسان و يكون سببا في غوايته على نحو الاقتضاء لا الجبر و لا يعدم اختياره، فيستطيع ان يدافع معه و ذلك بتوفيق من اللّه تعالى.

ص: 253

و هو في الأصل كان في زمرة الملائكة صورة تمرد و تكبر على اللّه تعالى فسقطت منزلته فأظهر حقيقته على ما حكى عنه الجليل في القرآن الكريم، و قد ورد ذكره في عدة مواضع من التوراة و الإنجيل، و في القرآن الكريم و سيأتي الكلام فيه مفصلا.

و المراد من خطوات الشياطين كل ما يوجب انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و الشرع القويم لأنه لا يأمر إلاّ بالسوء و الفحشاء قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [سورة النور، الآية: 21]، فهو منشأ كل ضلال و فساد و هو المحرض على ارتكاب الجرائم و الآثام فيكون كل ما هو خارج عن الشريعة المقدسة، سواء كان في الإعتقاد او الأعمال من خطواته.

و يستفاد من الآية المباركة تعدد سبل إضلال الشيطان و اغوائه بخلاف الصراط المستقيم المقابل لخطواته و هي عبارة عن السبل التي قال تعالى فيها: وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153] و من أهم سبله متابعة الهوى و الشهوات النفسانية قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ [سورة ص، الآية: 26].

و منها: إضلاله بجعل كل ما لم يكن من الدين في الدين بلا دليل معتبر عليه ففي روايات كثيرة ان الحلف على ذبح الولد، و الحلف بالطلاق و العتاق من خطوات الشيطان، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بها.

و منها: وسوسته و تزيين الحرام في نظر العبد ليرتكبه،

ففي الحديث عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام): «قلت له: رجل عاقل مبتلى بالوضوء قال (عليه السلام): و أي عقل له و هو يطيع الشيطان» و غير ذلك مما هو كثير.

و يقابلها هداية الرحمن فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما و مصير كل منهما معلوم إما رضوان اللّه تعالى أو سخطه، قال تعالى: أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ [سورة آل عمران، الآية: 162] فالإنسان واقع بين قائد شرير و هو الشيطان يدعوه

ص: 254

إلى متابعة خطواته، و سائق كذلك يرغبه إلى ذلك و هو النفس الأمارة، و هاد إلهي يهديه إلى الحق و الصراط المستقيم و هم الأنبياء و المرسلون و المبدأ في الأول هو الشر و الوسط خطوات الشيطان و المنتهى هو النار، كما أن المبدأ في الثاني هو اللّه تعالى و الوسط الأنبياء المرسلون و الصراط المستقيم و الغاية هي الجنّة.

و حقيقة الشيطان عبارة عن الجهل المركب و الظلمات المنتهية إلى الإختيار.

ثم إنّ لخطوات الشيطان مظاهر و مراتب مختلفة، فإنّ ترك كل واجب و إتيان كل محرم إلهي، بل إتيان المشتبهات يكون من خطوات الشيطان، و كذلك إتيان المكروه بالنسبة إلى كمال مرتبة الإيمان، و كذا الغفلة عنه تبارك و تعالى؛ بل اطلاق النهي يشمل القوى الباطنية من الوهم و الخيال، فإن ذلك كله مظاهر مختلفة من خطوات الشيطان أيضا، و الجميع تشترك في عدم الثبات، كما هو شأن الخطوة المتقومة بالحركة.

قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . تعليل للنهي عن متابعة الخطوات بما هو ثابت في الفطرة التي تقضي بالفرار عن العدو و الحذر منه و مخالفته بكل وجه أمكن. و عداوة الشيطان للإنسان واضحة فانه لا يدعو إلاّ إلى ما يوجب الهلاك و البعد عن ساحة الرحمن، و هو لا يخفي عداوته للإنسان و أبان ذلك من حين خلق آدم (عليه السلام) و يسعى في إفساد أحوال العبد قال تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ [سورة فاطر، الآية: 6].

و قد أكد سبحانه و تعالى هذا الأمر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم بل في جميع الكتب السماوية. و الوجه في كونه عدوا مبينا أنه حلف على إغواء الإنسان كما حكى عنه تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 83].

و من إخباره تعالى بأنّ الشيطان عدو للإنسان و إيكال الأمر إلى الفطرة يستفاد غاية التحذير و السعي في الابتعاد عنه.

ص: 255

قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشاءِ . بيان لعداوته مع الإنسان بإفساد فطرته و بصيرته بغوايته و إضلاله مما يوجب ابطال أعماله و معتقداته.

و المراد بالأمر هنا الدعوة إلى السوء و الفحشاء و تزيينهما للإنسان و إيجاد دواعيهما لديه.

و السوء كل ما يغم الإنسان في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا.

و الفحشاء ما يستعظم قبحه من الأفعال، و الأقوال و هو أعظم من السوء، فان كل فحش سوء و لا عكس.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ كل سوء و فحشاء يقعان في العالم إنما هو من فعل الشيطان و من طرق إضلاله و غوايته فلا يرجى منه الخير و الصلاح.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ . أي: و يأمركم ان تفتروا على اللّه و تنسبوا إليه عزّ و جل ما لا تعلمون أنه من شرعه و دينه و لا يختص ذلك بخصوص الأحكام الشرعية و تحليل الحرام أو تحريم الحلال بل يشمل العقائد الباطلة و الآراء المزيفة التي لم يقم دليل على صحتها كما يشمل ما ينسب إلى أنبيائه و رسله (عليه السلام) افتراء فإن الإضافة إليهم إضافة إلى اللّه تعالى، ففي جميع ذلك افتراء على اللّه و اعتداء على حقه،

و قد سئل الباقر (عليه السلام) عن حق اللّه تعالى على العباد قال (عليه السلام): «ان يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون» فيكون كل اعتقاد أو رأي في أصول الدين أو فروعه لم يمضه الشارع الأقدس داخلا في الآية الشريفة و ما في سياقها و لذلك ذكر العلماء أنّ الأصل عدم الحجية في الرأي و الاعتقاد إلاّ إذا قامت الأدلة القطعية على الحجية و قد تعرضنا لذلك في علم الأصول فراجع كتابنا [تهذيب الأصول] و سيأتي تتمة الكلام عند قوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ اَلْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ اَلْوَتِينَ [سورة الحاقة، الآية: 46].

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا . ألفينا بمعنى وجدنا مع اتخاذ ذلك عادة و الايتلاف به. و الضمير

ص: 256

في «لهم» عائد إلى المشركين و المعاندين للحق.

و المراد من الآباء: الأعم من السادة و الكبراء و الآباء و المربين فانه يصح اطلاق الأب عليهم كما

في الحديث: «الآباء ثلاثة: أب ولدك، و أب علّمك، و أب زوّجك»، و يشهد للتعميم قوله تعالى: رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ [سورة الأحزاب، الآية: 67].

و لعل في ذكر هذه الآية بعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان إشارة إلى أن اتباع ما عليه الآباء يمكن أن يكون من اتباع خطوات الشيطان، و ان تقليد الآباء، و الإعراض عما أنزله اللّه من السوء، و الفحشاء و القول على اللّه بغير علم بلا فرق بين ان يكون الشيطان من شياطين الإنس أو الجن قال تعالى: شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 112] و قد رد عزّ و جل عليهم و أبطل معتقداتهم.

قوله تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ . تقبيح لهم و تفضيح لمعتقدهم و متابعتهم لآبائهم أي: أنهم يتبعون آبائهم و لو كان آباؤهم لا يعرفون شيئا من الدين و لا يهتدون إلى الحق فإذا كانوا كذلك فهم أيضا مثلهم لأنهم على غير هدى و كتاب منير. و فيه إرشاد إلى ان متابعة فرد لآخر لا بد و ان تكون مع المعرفة بأنّ المتبوع حائز على الكمال و الهداية و مع فقدهما لا يقدم العاقل على المتابعة و لا تكون إلاّ الضلالة و الدليل على ذلك نفس وجدان التابعين لو تخلوا عن العناد و اللجاج و رجعوا إلى التفكر و التعقل، و ما ورد في الكتاب و السنة من ذم التقليد إرشاد إلى ذلك.

و نظير هذه الآية قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ [سورة المائدة، الآية: 104] و لعل الاختلاف في التعبير في الآيتين بحسب مراتب الجحود و العناد ففي الآية الأولى ادعوا متابعة الآباء و لم يدعوا شيئا وراء ذلك و في هذه الآية ادعوا وراء ذلك الاكتفاء بها، فعبر في الأولى بعدم التعقل و في الثانية بالجهل من هذه الجهة.

ص: 257

و من الآية الشريفة يستفاد تقسيم التقليد إلى قسمين: قسم يكون في الباطل و إلى الباطل، و قسم آخر يكون في الحق و بالحق كما ستعرف.

قوله تعالى: وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً . المثل: الشبه، و القول في شيء يشبه قولا في شيء آخر يبين أحدهما الآخر. و المثال الصورة،

و في الحديث: «إذا خرج المؤمن من قبره خرج معه مثال يتقدم أمامه فيقول له المؤمن من أنت؟ فيقول له: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا» و قد ذكرت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم في ما يزيد على أربعين موردا.

و ذكر الأمثال في الكلام من أهم جهات الفصاحة و البلاغة و إنما يؤتى بها لتقريب المعاني إلى الأذهان و قد اعتنى بها اللّه تعالى في القرآن الكريم قال سبحانه: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [سورة الروم، الآية: 58] و تقدم ما يتعلق بها في آية 17 من هذه السورة فراجع.

و النعيق صياح الراعي بالغنم و زجرها، و العرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل، و يستعمل النعيق، و النغيق، و النعيب في صوت الغراب أيضا بحسب اختلاف حالاته.

و الدعاء للقريب. و النداء للبعيد غالبا و قد يستعمل أحدهما في مقام الآخر أيضا.

و قد بين سبحانه و تعالى أنّ مثل الكفار في عدم التعقل و التدبر في ما يرتبط بشؤون دينهم و آخرتهم، و عدم تأملهم في ما أتى به الأنبياء لأجل سعادتهم و نجاتهم من المفاسد و المهالك، مثل الحيوانات التي لا تفهم من الخطاب إلاّ مجرد الأصوات التي يصدرها الإنسان لدعوتها إلى شيء أو زجرها عن شيء آخر فهي لا تعقل شيئا مما يقول و لا تفهم منها معنى كذلك شأن الكفار في الجهل و عدم التمييز بمداليل الألفاظ و عدم درك المعاني.

قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ . أي: أنّ الكافرين صم عن الحق فلا يدركونه، و بكم عن السؤال عما يفيدهم و عمي عن العبرة

ص: 258

و الاعتبار مما يرونه، و هذا شأن كل من غلب عليه الجهل المركب و لا يكون في مقام رفعه فليس له حظ من الكمال و لا يريد الاستكمال و قد تقدم نظير هذه الآية في آية 18 من هذه السورة.

و يمكن أن يستدل بمثل هذه الآية على أن الكفار الذين ركبهم الجهل و العناد أضل من الأنعام فانها تنزجر بزجر الراعي و تستجيب دعوته، و لذا يمثلون كل مجتمع ليس فيهم قائد بصير و لا مدبر خبير بأنهم كأغنام لا راعي لها، و هذا بخلاف الكفار فإنهم لا يرتبون أي أثر على دعوة الأنبياء و لم يعيروا لها بالا.

ثم إنّ المثل في المقام يحتمل وجوها أربعة:

الأول: أن يكون تشبيه حالهم في ترك دعوة الحق و اتباع آبائهم بالناعق للحيوان يعني أن التابعين كالحيوان و المتبوعين كالناعق لهم.

الثاني: أن يكون كالوجه الأول إلاّ ان التشبيه يكون بالنسبة إلى التابع، يعني: ان المتبوع كالحيوان و التابع كالناعق لهم.

الثالث: لحاظ التشبيه بالنسبة إلى المعبودات الباطلة من الأوثان و الأصنام، بل يمكن التعميم فيشمل كل ما يراد به غير وجه اللّه تعالى، فيكون المراد به أنه ليس له إلاّ التعب و النصب من دعائه.

الرابع: تشبيه واعظ الكفار - و هم الأنبياء - بالراعي الذي ينعق بالحيوان، فلا يسمع الكفار منهم و لا يفهمون ما يقولون لهم. و يمكن أن يؤخذ معنى عاما يشمل جميع ذلك.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تشير الآيات الشرية إلى أمور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ أنّ أمر الدين مختص باللّه تعالى و أنّ في غير ما أذن فيه تعالى يكون تشريعا محرما و اتباعا لخطوات الشيطان.

ص: 259

الثاني: أنّ التعبير بالخطوات إشارة إلى أن إغواء الشيطان إنما يكون من الأشياء الدنيئة و الخواطر الرديئة و الأمور السفلية التي يستقبحها العقل لأنه مرجوم عن العلويات و الأمور المعنوية العقلية، فيكون إضلاله ناشئا عن الجهل و عدم التفكر و التعقل اللذين هما من جهة العلو، فلا ينبغي لأحد ان يدع وحي السماء النازل على الأنبياء و متابعة من تكون ذاته الدناءة و الخسة و البعد عن ساحة الرحمن، فيكون التعبير بالخطوات كناية عن نهاية الخسة و الدناءة.

الثالث: أنّ قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إرشاد إلى أمر فطري، و هو أنّ الإنسان لا يركن إلى عدوه و يتبعد عنه بل هذا ارتكازي في الحيوان في الجملة، فيكون من باب بيان الموضوع لترتب الحكم الفطري عليه قهرا.

الرابع: إنّما وصف سبحانه الشيطان بأنّه «عدو مبين» إما لأجل وضوح عداوته لكل عاقل لو تبصر و تأمل في أفعاله و وساوسه حق التأمل، و يكفي في ذلك الإعتبار من حال الكفار و المنافقين، أو لأجل قسمه و حلفه على الإغواء كما حكى عنه تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 83] أو لأجل إخراجه و رجمه عن قرب اللّه عزّ و جل، أو لأجل أنّ بني آدم أفضل منه، و يمكن أن يكون لاجتماع هذه الأسباب دخل في اشتداد إغوائه و إضلاله للنّاس.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنّ للشيطان ركيزتين في إضلال الإنسان و إغوائه:

الأولى: تزيين ما ترغب إليه النفس الأمّارة من السوء و الفحشاء و الترغيب إليهما بأساليب مختلفة، و هو بذلك يبعد الإنسان عن الجانب الأهم في طبيعته أي جانب التعقل و التدبر.

الثانية: تلبيس الحق بالباطل و اراءة الباطل حقا بحيث ينسب ما ليس من الدين إلى الدين فيجتهد في ذلك و يريد بذلك طمس الفطرة الإنسانية، فان الإنسان بفطرته يميل إلى الحق و التدين بالدين الإلهي.

ص: 260

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ عدم الاستقامة و الإستواء كما هو الشأن في الخطوات فانها لا تكون بمستوى واحد و الا لكان التعبير بالصراط و نحوه.

بحث أدبي:

أدوات الاستفهام كثيرة و الأصل فيها «الهمزة» و الباقي من المتفرعات و الشؤون و الحالات؛ و لذا اختصت همزة الاستفهام بأحكام خاصة في المحاورات لا تجري في غيرها من سائر الأدوات.

منها: أنّ ورودها لطلب التصور تارة و لطلب التصديق أخرى، و سائر الأدوات تختص بالأول إلا «هل» فإنّها تختص لطلب التصديق فقط.

و منها: تمام التصدير فتتقدم على حرف العطف، لأصالتها في الصدارة مطلقا. و لذلك أمثلة في القرآن الكريم قال تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ [سورة المائدة، الآية: 104] و قال تعالى: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [سورة يونس، الآية: 51] و قال تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 46] و أما بقية أدوات الاستفهام فتتأخر عن العطف قال تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 101] و قال تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [سورة التكوير، الآية: 26]، و قال تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [سورة غافر، الآية: 62] و قال تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الأحقاف، الآية: 35] و قال تعالى: فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [سورة الأنعام، الآية: 81].

ثم إنّهم قد ذكروا معاني كثيرة للهمزة منها: التهكم، و التعجب و الأمر، و نحوها و جعلوها من متعدد المعنى، و الظاهر انه من الخلط بين دواعي الاستعمال و المستعمل فيه، و كم لهم من مثل هذا الخلط في الألفاظ.

بحث روائي:

في التهذيب عن منصور بن حازم عن أبي جعفر (عليه السلام): «ان

ص: 261

طارق النخاس قال: إني هالك خلعت بالطلاق و العتاق و النذر فقال له (عليه السّلام): يا طارق إنّ هذه من خطوات الشيطان».

و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ قال (عليه السلام): «كل يمين بغير اللّه فهي من خطوات الشيطان».

و فيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل حلف ان ينحر ولده فقال (عليه السلام) ذلك من خطوات الشيطان».

أقول: الروايات في أن الحلف بالطلاق أو الحلف على شيء مرجوح شرعا من خطوات الشيطان جميع ذلك من باب ذكر بعض المصاديق و إلاّ فكل ما لم يرد به وجه اللّه تعالى و لم يكن مطابقا لرضائه جل جلاله فهو من خطوات الشيطان سواء كان من الأعمال و الأفعال أو المعتقدات.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إياك و خصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي النّاس برأيك أو تدين بما لا تعلم».

أقول: هذا محمول على ما إذا لم تكن حجة معتبرة في البين و إلاّ فان كان مطابقا للموازين الشرعية فهو محبوب للّه تعالى و مرغوب اليه في السنة المقدسة.

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً» قال (عليه السلام): «أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت».

أقول: تقدم ما يتعلق بها.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً : انها نزلت في ثقيف و خزاعة و عامر بن صعصعة حرّموا على أنفسهم من الحرث و الأنعام».

ص: 262

أقول: لو صح السند فهو بيان لبعض مصاديق العام.

بحث فقهي:

استدل الفقهاء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً و جملة أخرى من الآيات الكريمة على إباحة الأشياء و حليتها إلاّ ما قام الدليل المعتبر على الحظر و الحرمة من الكتاب العزيز و السنة المقدسة، و الإجماع المعتبر، فان هذه الآية الشريفة صريحة في الإذن بالانتفاع فيما ليس فيه نهي شرعي.

و لكن عن جمع آخرين عكس ذلك و قالوا بحرمة الانتفاع بالأشياء مطلقا و ان الأصل في الأشياء الحظر إلاّ ما دل الدليل على الإباحة، و استدلوا بأدلة قابلة للمناقشة تعرضنا لتفصيلها في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم إنّه قد يستدل بمثل هذه الآيات على بطلان التقليد مطلقا في فروع الدين فضلا عن أصوله، لأنه تعالى إنما ذم الكفار باتباعهم لآبائهم.

و لا ريب في بطلان الاستدلال أما أولا: فلأنّ الآيات الشريفة ظاهرة في التقليد في أصول الدين و انما ذم تعالى الكفار باتباعهم الآباء في الباطل و الدعوة إلى الأوثان و الأصنام و لم يقل أحد من المسلمين بجواز التقليد كذلك.

و أما ثانيا: فلأن التقليد في الحق و متابعة من يحكم عن السنة المقدسة المنتهية إلى اللّه تعالى متابعة له عزّ و جل، و التقليد كذلك أصل من أصول الدين، و ملجأ يلجأ إليه الجاهل الذي لا يمكنه النظر و الاستدلال.

و التقليد و المتابعة في أمور الدين مأخوذ على نحو الطريقية لا الموضوعية بوجه من الوجوه؛ و البحث محرر في الفقه و الأصول فراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

ثم إنّ التقليد المبحوث عنه في المقام هو التقليد في أمور الدين، و قد ذكرنا أنّه لا يجوز في أصول الدين و أما في فروعه فهو فرض العامي الذي لا

ص: 263

يتمكن من استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، و أما التقليد و المتابعة في غير ذلك من أمور المعاش كلها - كالصنايع و الحرف و غيرهما - مما ليس فيه منع شرعي فهو صحيح بل قد يجب ان كان من الواجبات النظامية و لم يرد نهي شرعي عنه، كما انه ليس من متابعة خطوات الشيطان.

بحث اجتماعي:

المتابعة و التقليد هو العمل بما شرعه المتبوع و جعله سواء كان التابع قد قصد المتابعة أو لا. و بعبارة أخرى: المتابعة انطباقية لا أن تكون قصدية، و هي سنة من سنن الاجتماع الإنساني بل هي من غرائز الإنسان لا سيما في المراحل الأولى من حياته، و لعلماء الاجتماع في ذلك كلام طويل بل يظهر من بعضهم أنها من أسباب رقي الفرد أو الأمة، و لم يصل أحد إلى مرتبة الكمال إلاّ بفضل المتابعة و التقليد و المحاكاة.

و الظاهر أنّ القرآن الكريم لم ينه عن التقليد على النحو الكلي و إنما اعتبر في التقليد الذي يمكن أن يحقق الفائدة للفرد أو المجتمع أمرين.

الأول: أن يكون التقليد عن حق و في حق فلا يكون إلاّ ممن له الكمال و الهداية و الصلاح قال تعالى: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [سورة يونس، الآية: 35] فإنّ تبعية شخص لشخص آخر لا بد و أن يرى في المتبوع جهة كمال ليستفيد منه في ارتقاء العقل بلا فرق بين ان تكون هذه التبعية شخصية أو نوعية دينية أو دنيوية و يدل على ذلك قوله تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ فجعل المناط في أمر التقليد عقل الآباء و اهتداؤهم و قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة يونس، الآية: 89] فتكون التبعية حينئذ تبعية العقل و الكمال و بالأخرة ترجع إلى تبعية رضوان اللّه تعالى و الأمر الإلهي قال تعالى: وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [سورة الأعراف، الآية: 157] و في غير ذلك لا تكون إلاّ متابعة للنفس الأمارة و متابعة الهوى التي لا يجتنى منها إلاّ الفساد و الضلال و يكون مآلها إلى النار

ص: 264

قال تعالى: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاّ خَساراً [سورة نوح، الآية: 21] و الداعي إلى هذا التقليد هو الشيطان لأنه من طرق غوايته و إضلاله قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ اَلشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ [سورة لقمان، الآية: 21].

الثاني: أن تكون الغاية من التقليد هي الاستكمال لا مجرد المحاكاة التي لا يخلو عنها الحيوان قال تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة التوبة، الآية: 100]، و قال تعالى: يا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشادِ [سورة غافر، الآية: 38] و يستفاد ذلك مما ورد في قصة موسى و الخضر قال تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [سورة الكهف، الآية:

18] و قال تعالى: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 18] و الآيات في ذلك كثيرة منطوقا و مفهوما.

و بالجملة: إنّ ذم التقليد و التشنيع على من يقلد الآباء ليس لأجل نفس التقليد و المتابعة بل لأجل عدم توفر الشروط التي حددها القرآن الكريم فيه، فيرجع إلى متابعة الشيطان و النفس الأمارة و متابعة الهوى التي هي من أهم أسباب الضلال و الابتعاد عن الحق.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنّ أمر الدين و تشريع الأحكام لا بد و أن يكون منه تعالى، و في غير ذلك يكون من خطوات الشيطان، و أبطل التقليد في الدين، وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى المؤمنين لأنهم أولى من غيرهم و أباح لهم الطيبات ثم حدد لهم بعض ما يجب اجتنابه من المطاعم و لذلك لا بد لهم من الشكر الدائم له تعالى.

ص: 265

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ . الأكل معروف، و الطيّب (بالتشديد) ما تستلذه النفس. و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة إلاّ انه لم يرد فيه الطيب (بالتخفيف). و هو في مقابل الخبيث و كل ما نهى عنه الشرع يكون خبيثا واقعيا و إن استلذته النفس، فما هو في معرض أكل الإنسان على أقسام ثلاثة: الطيبات، و الخبائث، و المصائب. و المحرمات و إن لم تكن من الخبائث الظاهرية عند النّاس و الحلال هو الأول فقط دون الأخيرين.

و الأمر هنا استعمل في إنشاء الطلب بداعي الترخيص و الإباحة لا بداعي الطلب الحقيقي، فلا يستفاد منه سوى الإباحة و الترخيص لا الوجوب بقرينة قوله تعالى: وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ [سورة الأعراف، الآية: 157].

و توجيه الخطاب للمؤمنين خاصة، لأنّهم هم المقصودون في تحليل الطيبات و ان الغرض الأهم إنما هو انتفاع أهل الإيمان منها، كما إذا أجرى شخص ماء ليشرب هو و أهله منه و ينتفع به في زرعه فتشرب منه الحيوانات، فالمؤمن هو الغاية و أنه أولى من غيره، و لذا تكون الطيبات خالصة لهم يوم القيامة قال تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة الأعراف، الآية: 32]. أو أنه تعالى خصهم بالذكر تفضيلا.

قوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ . الشكر إظهار نعمة المنعم على نحو من التعظيم اما بالقلب و هو تصور نعمة المنعم، أو باللسان و هو الثناء عليه، أو بالجوارح و الأركان و هو مكافآت النعمة بقدر الاستحقاق و حينئذ فان كان المنعم غير اللّه تعالى فالأمر واضح و أما إن كان هو عزّ و جل فلا أثر للشكر إلاّ استكمال الشاكر قال تعالى: وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [سورة النمل، الآية: 40] فالشكر للّه أي شكر نعم اللّه التي خلقها و أباحها و سهّل الانتفاع منها فانها كلها من فضله و مننه و إحسانه.

و الشكر كما يظهر - من الآيات و الروايات - من أجلّ مقامات الإنسان

ص: 266

و أفضل درجاته، و يكفي في ذلك النداء الربوبي: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة ابراهيم، الآية: 7]

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في المتفق عليه من جوامع كلماته المباركة: «الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب، و المعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، و المعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع». و هو من العبادات التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى.

و لا يحتاج فيه إلى قصد القربة لكن يضره الرياء و لا يختص بخصوص النعم الحادثة للشاكر بل هو ممدوح في نفسه و بالنسبة إلى النعمة الحادثة في المستقبل.

و الظاهر انه لم يرد تحديد خاص في الشكر بل يكفي مطلقه،

فقد قال الصادق (عليه السلام): «شكر كل نعمة و ان عظمت ان تحمد اللّه عزّ و جل عليها»

و عنه (عليه السلام) أيضا: «ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد للّه إلاّ أدّى شكرها».

و للشكر درجات و مراتب منها الشكر القلبي

قال الصادق (عليه السلام): «من أنعم اللّه عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدى شكرها». و منها الشكر بالتقوى و ترك المعاصي التي هي من أفضل مراتبه،

قال الصادق (عليه السلام): «شكر النعمة اجتناب المحارم» و يظهر ذلك من قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 123] فيتحقق بالقلب و اللسان و أعمال الطاعات و اجتناب المحرمات.

و مورد الشكر ليس هو النعم الدنيوية فقط بل الأخروية أيضا كالتوفيق للإيمان و إتيان الطاعات و العبادات و السعي في قضاء حوائج النّاس، الواردة من اللّه تعالى فإنها توجب رفع الدرجات و تكفير السيئات و هي مما يوجب الشكر عليها.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ . احتجاج على وجوب الشكر بأحسن بيان؛ يعني: إذا كنتم إياه تعبدون، لأنه إلهكم و معبودكم فاشكروه لأنه المنعم عليكم؛ أو إن كنتم تدعون عبادته فاشكروا للّه، لأن منشأ كونه أهلا

ص: 267

للعبادة عين منشأ كونه أهلا للشكر لعدم تعدد الحيثيات و الجهات في ذاته الأقدس، فكما انه إله الجميع بالاستحقاق الذاتي كذلك يكون مشكور الكل أيضا، لانتهاء جميع النعم إليه عزّ و جل، فالشكر على نعمائه ملازم لعبادته و هي متوقفة على معرفة المعبود و لو إجمالا، و من أهم مقدمات المعرفة وجوب شكر المنعم بل هو أساس العبادة و غاية العبودية؛ و لذا قدم عزّ و جل الشكر على العبادة في المقام، و في قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ [سورة النساء، الآية: 147] فالشكر يكون داعيا للعبادة بل هي نفسه في نفوس الأولياء كما قال سيدهم:

«ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» و هذا من أدق مباني الفلسفة حيث اجتمع فيه العلة الفاعلية و العلة الغائية و المادية و الصورية.

قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ . مادة (ح ر م) تأتي بمعنى المنع، سواء كان تكليفيا أم غير تكليفي تكوينيا أم قهريا، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ [سورة المائدة، الآية: 72] و هو من المنع التكويني لكونه من الجمع بين المتنافيين فلا يجتمع الخبيث من كل جهة مع الطيّب كذلك، و من المنع القهري قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة المائدة، الآية: 26] و المقام من المنع التكليفي الشرعي.

و الحرمة من احدى الأحكام الخمسة التكليفية: و هي الوجوب، و الحرمة، و الإباحة، و الندب، و الكراهة، و هي ثانية في جمع الشرايع الإلهية على اختلافها بل هي دائرة في الأحكام الوضعية و لو كانت غير سماوية.

و الميتة: من الحيوانات ما مات حتف أنفه، و عن الفقهاء تعميمها إلى كل ما زال روحه بغير تذكية شرعية.

و الدم: معروف و به يحيا الحيوان و تنتظم شؤونه و وظائفه: أو المراد به هنا الدم المسفوح لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [سورة الأنعام، الآية:

145].

ص: 268

و تأتي مادة (لحم) بمعنى اللزوم، و سمي اللحم لحما للزوم بعضه مع بعض.

و الخنزير: حيوان معروف و هو من المسوخات التي يأتي المراد منها في قوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ [سورة يس، الآية: 67] و قد نهى سبحانه عن أكل لحم الخنزير في مواضع متعددة من الكتاب الكريم قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ [سورة المائدة، الآية: 3] و قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام، الآية: 145] و قال تعالى:

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ [سورة النحل، الآية: 115] مضافا إلى السنّة المتواترة و إجماع المسلمين.

و ضرر هذا اللحم بيّن دلت عليه التجربة، و قد كشف العلم الحديث عن بعض مفاسده. و لا فرق في الحرمة بين البري منه و البحري و ان كان الأول يزيد عن الأخير في انه نجس عينا و أعظم خبثا.

و إنّما ذكر اللحم كناية عن جميع اجزائه لأنه أهمها.

و قد حرّم اللّه هذه الثلاثة لخباثتها و لما لا يؤمن الضرر منها و قذارتها و اشمئزاز النفس منها، و قد كشف العلم الحديث ما يترتب عليها من المفاسد و المضار.

قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ . الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل في أول كل صوت يرفع، و منه استهل الصبي، و الإهلال بالحج، و الإهلال بالذبح أي التقرب بالذبائح إلى الأصنام و الأوثان و غيرها مما يعبد من دون اللّه تعالى، أو ذكر الوثن و الصنم عند الذبح فإنّ ذلك كله من عادات المشركين و الوثنيين و هو شرك باللّه تعالى، و قد اعتبر الشارع هذه الذبائح من الميتة التي لا يجوز أكلها، و إنما ذكرها بالخصوص للاهتمام به في ترك العادة التي جرت عليها قرون عديدة من الإهلال لغير اللّه تعالى.

و لعل من أسرار قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ التمهيد لما يأتي و إعلام الناس بأنهم أجلّ مخلوقاته عزّ و جلّ، و انه

ص: 269

تعالى خلق ما في الأرض له ليرفع نفسه عن درجات البهيمية الى الدرجات العالية و يتنزه عن ما ينافي مقام العبودية فلا يعبد غيره تعالى فان الجميع مخلوق و مربوب له عزّ و جل.

قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . قد ذكر الاضطرار إلى الأكل في موارد خمسة من الكتاب الكريم أحدها في هذه الآية و الثاني في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة المائدة، الآية: 3]. و الثالث في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية:

145]. و الرابع في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 115]. و الخامس في قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [سورة الأنعام، الآية: 119].

و كلمة «غير» منصوبة على الحالية و قبل على الاستثناء، و التمييز بينهما هو انه إذا صلح في موضعها لفظ (في) أو ما يفهم معنى الظرفية و الحالية، فهي حال و إذا صلح لفظ (الا) فهي استثناء.

و الاضطرار معلوم و المراد به الإلجاء إلى أكل شيء من المذكورات و مادة (بغي) تأتي بمعنى الميل، و له مراتب كثيرة و من بعض مراتبه الطلب، و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا إن اللّه يحب بغاة العلم» أي طالبي العلم.

و هي إما أن تكون متعدية أو لا تكون كذلك بل تتعدى بلفظ (على). و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ربما تزيد على عشرين موردا، و جامعها الميل من الحق إلى الباطل، و قد تستعمل في الميل إلى الحق أيضا كمن أتى بالفرائض و بغى إتيان النوافل.

فالأقسام أربعة: الميل من الحق إلى الحق، و الميل من الباطل إلى

ص: 270

الحق، و الميل من الحق إلى الباطل، و منه البغي بمعنى الظلم، و البغاء أي الزنا، و الخروج على خليفة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

و قد روى الفريقان أنه (صلّى اللّه عليه و آله) قال لعمار بن ياسر «تقتلك الفئة الباغية». و القسم الرابع الميل من الباطل إلى الباطل، و القسمان الأخيران مذمومان، و الغالب في استعمالات البغي إنّما هو في الميل من الحق إلى الباطل.

و العادي: المتعدي عن الحق إلى الباطل، فيشمل كلا طرفي الإفراط و التفريط لأن كلا منهما باطل بالنسبة إلى الحد الوسط.

و قد اختلف العلماء في المراد منهما فقيل: المراد من الباغي الظلم. و قيل الاعتداء، و قيل الحسد، و قيل الفساد من بغى الجرح إذا فسد و قيل مجاوزة الحد عن الحق أو عن القصد. و الحق ما ذكرناه في بيان اللفظين، فيكون المراد منهما مطلق المعصية و ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام)، و ما ذكروه في بيان اللفظين من باب التطبيق و تفسير المعنى الكلي بالفرد، و هذه عادة جارية بين اللغويين و المفسرين كما نبهنا عليها مرارا.

و المعنى: إنّه بعد أن أباح سبحانه و تعالى للمؤمنين أكل الطيّبات بيّن حرمة بعض الأشياء لخباثتها و فسادها و أضرارها، أو لإزالة الشرك و خلع الأنداد و إثبات التوحيد في جميع القربات و هي أربعة: الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما أهل لغير اللّه تعالى. و رخص سبحانه الأكل منها في حالة الاضطرار إليها بشروط خاصة مذكورة في كتب الفقه إلاّ أن يكون المضطر باغيا أو عاديا بأن يكون مائلا إلى الباطل و حينئذ يحرم الأكل عليهما.

و إنّما ذكر سبحانه «غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» بعد الاضطرار للتنبيه على أنه ليس لأحد تحديد الاضطرار و تفسيره من قبله و الا كان من أحدهما و يأتي في البحث الفقهي زيادة إيضاح.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . أي: إنّ اللّه يغفر المعاصي رحيم بالعباد، إذ أباح لهم الطيبات و حرّم عليهم الخبائث و رخص لهم ما لم يقدروا عليهما. و ذكر الغفران في المقام مع انه لا معصية في مورد الاضطرار، للاعلام بانه إذا كان لا يؤاخذ على المعاصي ففي موارد الرخصة أولى أن لا يؤاخذ، أو

ص: 271

لأنّ تقدير الضرورة إنّما هو موكول إلى الناس و قليل منهم يقتصرون على قدر الضرورة فلا غناء عن غفران اللّه تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: إنّ الحصر في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ حقيقي إذا لوحظت الحرمة بالنسبة إلى خطوات الشيطان و ما افتعلوه من المحرمات، و إضافي بالنسبة إلى الحيوانات بقرينة قوله تعالى: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ [سورة الأعراف، الآية: 157].

الثاني: إنّما أتى سبحانه و تعالى ب اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ في المقام معرفا و في غير المقام منكرا كما في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 145] للإشارة إلى حرمتها بجميع المراتب و الشؤون بحسب صرف الوجود في ما لا يكون شائعا، و بحسب الوجود الساري في غير ذلك، و بحسب نفس وجوداتها و تركيباتها مع ما هو حلال.

الثالث: إنّما ذكر سبحانه في هذه الآية المباركة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ و ترك ذلك في غيرها من الآيات في سائر الموارد، لأن عدم الإثم في ظرف الاضطرار موافق للقانون العقلي، فتكفي الإشارة في موضع واحد، مع أنّ في قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 115] و في [سورة المائدة، الآية: 3] إشارة إلى ذلك.

الرابع: ذكر سبحانه في المقام: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ و في غير المقام أخّر الجار و المجرور، و لعل الاختلاف في التعبير لأجل اختلاف

ص: 272

عاداتهم، فان بعضهم يقدمون ذكر آلهتهم ثم يذبحون لها و البعض الآخر يذبحون الذبائح ثم يقربونها إلى الإلهية، و ثالث يقصدون التقرب إليهم مطلقا قبل الفعل و حينه و بعده.

الخامس: لا فرق في قوله تعالى: مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ بين كونه من إضافة الصفة إلى الموصوف، أو من قبيل قيام الصفة به بعد الالتفات إلى أن الخطاب إلى خصوص المؤمنين لأنهم هم الذين يعرفون الرازق و يشكرونه فهم الأصل في الرزق و لغيرهم التبعية فيه.

بحث روائي:

في الفقيه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي الذي يخرج على الإمام، و العادي الذي يقطع الطريق لا تحل لهما الميتة».

و في تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي الخارج على الامام و العادي اللص».

أقول: روى مثله في الدر المنثور عن ابن عباس.

و في المجمع عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ : «غير باغ على امام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحققين».

أقول: إنّ ذلك كله من باب بيان المصاديق، و قد ذكرنا المتحصل من الأخبار الواردة في المقام في الفقه في كتاب الصيد و الذباحة من كتاب [مهذب الأحكام].

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي باغي الصيد، و العادي السارق و ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما

ص: 273

هي على المسلمين، و ليس لهما ان يقصرا في الصّلاة».

أقول: روي مثل ذلك في تفسير العياشي و التهذيب.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «الباغي الظالم، و العادي الغاصب».

و في الفقيه في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عن الصادق (عليه السلام): «من اضطر إلى الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتّى يموت فهو كافر».

أقول: الوجه في كونه كافرا مخالفة اللّه تعالى حيث انه تعالى أمر بالأكل حينئذ و لم يفعل، فالكفر كفر عملي لا اعتقادي كما تقدم أقسامه في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 6].

بحث فقهي:

تدل الآية الشريفة على جملة من الأحكام الشرعية:

منها: أنّ إطلاق قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ يشمل جميع التقلبات و التصرفات في الميتة أكلا و انتفاعا و غيرهما. و تدل عليه الأخبار الكثيرة الشارحة للآية المباركة

ففي الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تنتفعوا من الميتة بشيء»

و في حديث عبد اللّه بن حكيم عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تنتفعون بإهاب و لا عصب»

و عن الصادق (عليه السلام): «لا ينتفع بشيء منها و لو بشسع منها» هذا بالنسبة إلى الانتفاعات التي يشترط فيها الطهارة، و أما في غيرها مثل التسميد و الزرع و نحوهما مما لا يشترط فيه الطهارة فلا دليل على الحرمة.

و منها: أنّ إطلاق قوله تعالى: اَلْمَيْتَةَ يشمل جميع أنواع الميتة سواء كانت برية أو بحرية ميتة ما له نفس سائل - أي الدم الخارج عن العروق حين الذبح - و ميتة ما ليس له نفس سائل و ان كانت الأخيرة غير محكومة بالنجاسة.

كما تشمل القطعة المبانة من الحيوان الحي، و في ذلك روايات كثيرة من الفريقين،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما قطع من البهيمة

ص: 274

و هي حية يكون ميتة».

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يشمل حرمة جميع أجزاء الميتة. و عن بعض علماء العامة جواز الانتفاع بجلد الميتة، بل طهارته بالدبغ و استدل

بالحديث المروي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) حين مر على شاة ميمونة فقال: «هلا أخذتم إهابها»

و لقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أيما إهاب دبغ فقد طهر» و قد ناقشنا ذلك في الفقه مفصلا، و كذا

قول علي (عليه السلام) في البحر: «الحل ميتته» محمول على الطهارة لا حلية الأكل.

و منها: إطلاق قوله تعالى: وَ اَلدَّمَ يشمل القليل و الكثير و حرمة جميع التقلبات و التصرفات و الانتفاعات منه؛ كما يشمل جميع أنواع الدماء.

و منها: المراد من قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ ان يكون الذبح لغيره تعالى سواء ذكر غير اسم اللّه تعالى كما يفعله الوثنيون و المشركون، أو ذبح للأصنام و الأوثان من دون ذكر اسم عليه أبدا.

و المناط في حلية الذبيحة ذكر اسم اللّه عليها، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام، الآية: 121] فالإهلال بالذبيحة لغير اللّه شيء كما ان الإهلال بها للّه تعالى شيء آخر، ففي القسم الأخير لو أهل بالذبيحة للّه تعالى و تصدق بلحمها على فقراء مشهد أو مزار رغب الشارع في زيارته فهو حلال لا إشكال فيه.

فما عن بعض انه لا يحل تمسكا بقوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام، الآية: 121] أو أنه إهلال لغير اللّه تعالى خلط بين موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر. فان الذبح كان للّه تعالى و مصرفه كان للمنذور له أو الفقراء، و بعبارة أخرى: إنّ ذلك كان على نحو الطريقية إلى اللّه تعالى و التقرب إليه عزّ و جل لا الموضوعية للمنذور له أو الفقراء.

و منها: يستفاد من قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أنّ الاضطرار يرفع الحكم التكليفي، لأن التكليف محدود بالقدرة و لا تكليف في ما لا قدرة للمكلف عليه، و الاضطرار إلى الفعل الحرام أو ترك

ص: 275

الواجب ينافي القدرة، لأن المضطر لا يقدر على الترك في الأول كما لا يقدر على الفعل في الثاني.

و المناط في القدرة: القدرة العرفية التي يعتمد عليها النّاس في أمور معاشهم و جميع أغراضهم نعم قد يتبدل الحكم في صورة الاضطرار إلى حكم آخر و لكنه يحتاج إلى دليل بالخصوص.

و الاضطرار الحاصل للإنسان المبيح لتناول المحرّم على قسمين:

الأول: ما لا ينتهي إلى اختياره، الثاني: ما ينتهي إلى اختياره، و لا ريب في انه لا تكليف و لا عقاب في الأول. و أما الثاني فلا ريب في أنّ العقل يحكم باختيار أقل القبيحين، لأن الأمر يدور بين إهلاك النفس و أكل الميتة مثلا، و لا إشكال في كون إهلاك النفس القبح من أكل الميتة، و أما الخطاب فهو باق على ملاكه، لبقاء العقاب لفرض الانتهاء إلى الإختيار، فمن ذهب إلى سفك دم معصوم أو هتك عرض محترم أو غصب مال كذلك فاضطر حينئذ إلى أكل الحرام يعاقب على الأكل، فيكون حكم القرآن الكريم موافقا للعقل السليم.

و من ذلك يعلم أنّ الاضطرار المبيح لأكل المحرمات - كالميتة و الدم و نحوهما - محدود في الشريعة المقدسة بحد خوف التلف على النفس في ترك الأكل، ثم الأكل بقدر سد الرمق من دون تعد عنه. و في المقام فروع كثيرة أخرى تعرضنا لها في كتب الفقه.

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّار.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ اَلْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي اَلْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة التي وردت في ذم قوم تركوا سبيل الحق و اتبعوا خطوات الشيطان لأن تبديل الحق بالباطل من أعظم خطواته و لذا

ص: 276

كان التوعيد عليه عظيما، كما أنه بين سبحانه و تعالى فيها أنّ الاختلاف في الحق هو الشقاق البعيد.

التفسير

ص: 277

قوله تعالى: وَ لا يُزَكِّيهِمْ . أي: لا يقبل منهم أعمالهم مع ما هم عليه من الكفر و الفعل الشنيع و لا يطهرهم من دنس الخطايا أو يزكيهم بالثناء عليهم كما يفعل بالنسبة إلى أهل الجنّة.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ . أي: عذاب شديد الألم.

و حكم هذه الآية عام يشمل كل من عرف الحق و كتمه قولا أو عملا فلا اختصاص له بأهل الكتاب، بل يصدق على المسلمين الذي عرفوا الحق فكتموه مع القدرة على الإظهار، أو لم يعملوا به خارجا.

ثم إنّه لا يخفى أنّ المعارف الإلهية و الأحكام المقدسة لها وجود واقعي حقيقي يتم بالجعل الإلهي و إتمام الحجة و وجود ظاهري إثباتي لا يتم إلاّ بالإظهار و إعلام النّاس. و الأول في مرحلة الحدوث و الثاني في البقاء، و المهم هو الأخير إذ لا أثر في حدوث ما لا بقاء له في ما يطلب منه البقاء و الاستمرار. و جاعل القانون مطلقا - إلهيا كان أو وضعيا - انما يهتم بإبقائه أكثر من اهتمامه بأصل الإيجاد و الحدوث. و الكتمان إنما يتحقق بالنسبة إلى الثاني، و به تبطل حكمة تشريع الأول، و لذلك كان وزر الكتمان عظيما يعرف من عظم ما أوعد عليه اللّه تعالى بتعدد نقمه عليهم من وعيده بالنار و عدم التكلم معهم و عدم التزكية، و العذاب الأليم.

و نظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 77] و لعل وجه التأكيد في الآية الأولى تعدد موجب العقاب فيها من الكتمان و الاشتراء بخلاف الآية الثانية.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى . هذا كالنتيجة للآيات السابقة: أي أولئك الذين اشتروا بالكتمان ثمنا قليلا انهم في عملهم هذا اشتروا الضلالة بالهدى.

قوله تعالى: وَ اَلْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ . أي اشتروا العذاب بالمغفرة لمكان

ص: 278

اشترائهم الضلالة بالهدى، فيكون ترتب هذا على سابقه من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

قوله تعالى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ . (ما) للتعجب و المراد أنّهم فعلوا فعلا يتعجب كل عاقل منهم و انهم كيف يدعون العقل مع أن فعلهم يدل على سفاهتهم و غفلتهم، و انه لو وقع من أحد مثل هذا الاشتراء في أمور الدنيا لكان دليلا على السفاهة، فهم أدخلوا أنفسهم في النّار باختيارهم و سلطوا عليهم غضب الجبار فكان صبرهم على العذاب شديدا.

و يصح أن تكون للتعجب من إحاطة النّار بهم كمية و كيفية و سائر الجهات أي: ان فعلهم الذي أوجب دخولهم في النار و أنّ صبرهم على العذاب ما يثير العجب.

و يجوز التعجب على اللّه تعالى إذا كان بداعي عظمة العقاب و شدته و إلاّ فأنّ التعجب الحقيقي لا يجوز بالنسبة إليه عزّ و جل لأنّه يستلزم الجهل و هو محال عليه تعالى، و مثل هذا الأسلوب كثير في المحاورات.

كما يصح أن تكون (ما) للاستفهام بداعي شدة العقاب، أو التوبيخ، أي أي شيء أصبرهم؟!.

و يحتمل أن يكون المراد من النّار نار جهلهم المركب التي تجعلهم عرضة للفساد و الشقاء، و يؤول أمرهم إلى النار في الآخرة.

و الآية تدل على بطلان كل عمل منهم و غضب اللّه تعالى و سخطه عليهم مع أن لهم اعمالا حسنة لها آثار عظيمة ينتفع منها الناس و ليس من سنته عزّ و جل اضاعة الأعمال الحسنة قال تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 30].

و لكن يمكن أن يقال: إنّهم من حيث كفرهم و كتمانهم للحق يدخلون النار لكنهم ينتفعون بأعمالهم الحسنة سواء في الدنيا أو في البرزخ أو في الحشر و النشر أو في تخفيف العذاب بمقتضى قانون ترتب الجزاء على العمل الذي أسسه القرآن الكريم و المؤيد بحكم العقل و تدل عليه أخبار

ص: 279

كثيرة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ . مادة (نزل) تدل على الهبوط من العلو إلى السفل، و لها استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة تقرب من ثلثمائة مورد و تشمل التشريعيات و التكوينيات قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44] و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 174] و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [سورة الحديد، الآية: 25] و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً طَهُوراً [سورة الفرقان، الآية: 48] و قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى [سورة الأعراف، الآية:

26] و تستعمل في الخير و الشر، و الأول كثير، و من الثاني قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً [سورة البقرة، الآية: 59] و قال تعالى: إِنّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [سورة العنكبوت، الآية: 34] فيصح استعمال الإنزال بالنسبة إلى جميع ما يصدر منه عزّ و جل بلا فرق بين الجواهر و الأعراض و الشرعيات و غيرها، لأن الكل صدر عن مبدإ لا نهاية لعلوه و لرفعته سواء كان بالتسبيب أو بدونه فان أزمة الأمور بيده و ما سواه يستمد من مدده.

و الفرق بين الإنزال و التنزيل أنّ الثاني لوحظ فيه التفرق في الجملة بخلاف الأول قال تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً [سورة الإنسان، الآية: 23] و قال تعالى: وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً [سورة الفرقان، الآية: 25] و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 10] فجميع ما سواه إنزال منه عزّ و جل كما أن الجميع تنزيل منه و أكمله القرآن العظيم.

و الكتاب من كتب مادته تأتي بمعنى الجمع و الضم، سواء كان في الحروف و ضمها في الخط، أو اللفظ، أو الذهن، و المتعارف في الاستعمال هو الأول، و من لوازم الضم الثبوت كما ان من لوازمه الحكم، و تستعمل هذه المادة فيهما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183] و قال تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ [سورة الأنفال، الآية: 75] أي في حكم اللّه، و الأصل في ذلك ان ما يراد تثبيته يجمع في الذهن ابتداء ثم في الإرادة ثانيا ثم يحكم به ثالثا و يكتب رابعا.

ص: 280

و الكتاب من كتب مادته تأتي بمعنى الجمع و الضم، سواء كان في الحروف و ضمها في الخط، أو اللفظ، أو الذهن، و المتعارف في الاستعمال هو الأول، و من لوازم الضم الثبوت كما ان من لوازمه الحكم، و تستعمل هذه المادة فيهما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183] و قال تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ [سورة الأنفال، الآية: 75] أي في حكم اللّه، و الأصل في ذلك ان ما يراد تثبيته يجمع في الذهن ابتداء ثم في الإرادة ثانيا ثم يحكم به ثالثا و يكتب رابعا.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة أكثر من مأتين و خمسين موردا.

و المراد من الكتاب في المقام مطلق ما كتبه اللّه تعالى على عباده، و القرآن مهيمن على ذلك كله، فلا فرق بين أن يكون المراد من الكتاب هو القرآن أو جميع الكتب السماوية غير المنسوخة إذا الجميع واحد في الحقيقة و ان اختلف في الصور.

و تقدم معنى الحق في آيتي 144 و 147 من هذه السورة.

و قد أسس الفلاسفة قاعدة كلية أحكموها ببراهين عقلية و فرعوا عليها أمورا، و هي: «ان من كان حقا بذاته و من ذاته يكون حقا من جميع جهاته، في صفاته و أفعاله، و جميع شؤونه» فإذا كان المبدأ القيوم حقا في الأزل الذي لا يتصور له أول كذلك يكون في ما لم يزل الذي ليس له آخر شأنا و صفة و فعلا، و في كل ما يتعلق به تعالى من الجهات التكوينية و التشريعية.

و من فروع هذه القاعدة التلازم بين المبدأ و المعاد في كل ما يتعلق بشؤون العباد سيأتي في الموضع المناسب شرحها مفصلا.

و للمفسرين في اعراب محل (ذلك) في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ أقوال:

منها: الرفع على أنّه مبتدأ خبره محذوف، أي ذلك الشأن.

و منها: أنّه خبر لمبتدأ محذوف أي الشأن ذلك.

و منها: النصب بفعل مقدر رأي: جعلنا ذلك، و كل واحد منها صحيح بعد عدم ثبوت الترجيح في البين.

ص: 281

و المعنى: إنّ ذلك الذي تقرر في شأنهم إنّما هو بسبب أنّ الكتاب نزل بالحق و أنّهم على الباطل، و لا يمكن للباطل مغالبة الحق الذي هو بيّن دلائله و واضح معالمه.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي اَلْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ .

الاختلاف ضد الاتفاق الذي لا ينفك عنه كل مجتمع المنتهي إلى الاختلاف في الأفكار، و هو ينتهي إلى الاختلاف في الفهم و الاستعدادات، و هو طبيعي بالنسبة إلى الإنسان، و لذلك وجب الرجوع إلى الكامل في تدبير شؤون المجتمع و ادارته، و إلاّ انتهى الأمر إلى التنابذ و الاختلاف و اختلال النظام، و قد جعلوا ذلك من الأدلة العقلية على وجوب وجود النبي و الإمام بين النّاس.

و الشقاق عبارة أخرى عن الاختلاف كأن كل واحد من المختلفين يصير في شق،

و في الدعاء المأثور: «اللهم إنّي أعوذ بك من الشقاق و النفاق» و المراد به هنا الاختلاف البعيد أي: آخر مراتب الشقاق الذي لا يمكن فيه الايتلاف بوجه من الوجوه.

و من ذلك يعلم أن الاختلاف في الكتاب و أمور الدين موجب للابتعاد عن الصراط المستقيم الذي يدعوا اليه الكتاب، و السلك في سبل متعددة، و الابتعاد عن الحق قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153].

بحث دلالي:

تدل الآيات الكريمة على أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّارَ يدل على تجسم الأعمال، و سنخية العقاب مع العمل، فان كتمانهم للحق كان لأجل كسب المال و الجاه و الاستفادة منه في إشباع بطونهم و كان جزاء هذا العمل الشنيع ان أبدل اللّه تعالى تلك الأثمان إلى النار التي تستعر في بطونهم، نظير ذلك قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [سورة التوبة، الآية: 35] و آية الربا و سيأتي البحث في تجسم الأعمال.

ص: 282

الأول: أنّ قوله تعالى: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّارَ يدل على تجسم الأعمال، و سنخية العقاب مع العمل، فان كتمانهم للحق كان لأجل كسب المال و الجاه و الاستفادة منه في إشباع بطونهم و كان جزاء هذا العمل الشنيع ان أبدل اللّه تعالى تلك الأثمان إلى النار التي تستعر في بطونهم، نظير ذلك قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [سورة التوبة، الآية: 35] و آية الربا و سيأتي البحث في تجسم الأعمال.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ ان اللّه تعالى إنما أنزل الكتاب و المعارف الحقة و الأحكام التشريعية للألفة و الاتحاد و نبذ الاختلاف، و ما كان خلاف ذلك فهو الباطل الذي لا يجلب منه إلاّ الفساد و التنازع، كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة و آيات أخرى.

الثالث: يصح أن يستدل بالآية الشريفة على أنّ القرآن الكريم ناسخ لجميع الكتب السماوية إلاّ إذا قرر القرآن العظيم شيئا منها. و النسخ بهذا المعنى موافق لقانون العقل القاضي بالسير التكاملي في الإنسان، و هذا أمر طبيعي حتى بالنسبة إلى القوانين الوضعية.

الرابع: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: فِي بُطُونِهِمْ ناراً اضطراب قلوبهم في الدنيا بما ارتكبوه من كتمان الحق بعد ما عرفوه فكانوا مخلدين في عذاب الضمير في هذه الدنيا و في البرزخ.

الخامس: لا منافاة بين هذه الآية المباركة أي: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و الآية التي تدل على سؤال الناس أجمعين يوم القيامة قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الحجر، الآية: 92] لإمكان اختلاف الجهة إما ان يراد بالمنفي كلام التلطف و العناية و بالمثبت السؤال عن جرائم ما فعلوه، أو للتوبيخ و الإهانة، أو يراد اختلاف المواقف و المقامات، لأن ليوم القيامة مواقف كثيرة.

بحث روائي:

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ قال (عليه السلام): «ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيّرهم إلى النار» و رواه العياشي في التفسير.

و في تفسير القمي في تفسير الآية المباركة فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ :

«يعني ما أجرأهم على النار».

ص: 283

و روي عن الصادق (عليه السلام): «ما أعملهم بأعمال أهل النار».

أقول: هذه الروايات قريبة المعاني و من باب ذكر السبب و ارادة المسبب، و الاجتراء على السبب الذي يوجب الدخول في النار اجتراء على النار لا محالة.

لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائ.......

اشارة

لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ (177) الآية على اختصارها تشتمل على أصول المعارف الإلهية، و هي اجمع آية في القرآن العظيم للكمالات الإنسانية، و فيها يدعو اللّه عزّ و جل الإنسان إلى مكارم الأخلاق التي بها يفضل على الاملاك، فقد ذكر سبحانه و تعالى الخصال الخمس عشرة الجامعة لأصول الإيمان و الاعتقاد و هي الإيمان بالمبدأ و المعاد، و الملائكة رسل الوحي و منزلي الكتب ثم الإيمان بالأنبياء و المرسلين، و أصول الأعمال الصالحة و هي إيتاء المال و إقام الصلاة، و أخيرا ذكر أصول مكارم الأخلاق و هي الوفاء بالعهد و الصبر في البأساء و الضراء و حين البأس، و بذلك يرشد الإنسان إلى الصراط المستقيم، و يعتبر العامل بها من الصديقين و المتقين فجدير لكل فرد أن يستنير بهدي الكتاب المبين و قول الحكيم العليم، و حقيق لمن عمل بهذه الآية أن يكون قد استكمل بها إيمانه كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

التفسير

قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ . الآية الشريفة تشتمل على مقاطع ثلاثة في كل مقطع مجموعة من الخصال تعتبر أصول المعارف الإلهية و أساس الكمالات الإنسانية.

الأول: في الاعتقاديات من المبدأ و المعاد.

ص: 284

الثاني: في تهذيب النفس بأعمال الجوارح.

الثالث: الأخلاق و المعاشرة بين الناس.

مادة (ب ر ر) تدل على الاتساع و الشمول في أي هيئة استعملت و يأتي البر (بفتح الباء) في مقابل البحر لاتساعه، و كذا لفظ (بر) بالفتح أيضا إذا أطلق على اللّه عزّ و جل قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ [سورة الطور، الآية: 28] أي واسع خيراته و إفاضاته، و كذلك إذا اطلق على الإنسان قال تعالى حكاية عن عيسى: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي [سورة مريم، الآية: 32] و قال عزّ و جل كذلك: وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ [سورة مريم، الآية: 14] فانه يكون بمعنى كثرة الخير و منه (البر) بالضم و هي الحنطة الغذاء المتسع لنوع الإنسان و لكنه لم يرد في القرآن الكريم.

و يجمع على «بررة» في القرآن الكريم، قال تعالى: مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس، الآية: 16] و هو يختص بالملائكة و الوجه في ذلك أنّ استعمال لفظ البر (الخيرات) أولى من لفظ البار لأنه أبلغ كقول زيد عدل أبلغ من عادل. و البار يجمع على الأبرار قال تعالى: إِنَّ اَلْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [سورة الإنفطار، الآية: 13].

و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم كلها مقرونة بالمدح و الإختصاص بالمقامات العالية قال تعالى: وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [سورة آل عمران، الآية: 193] و قال تعالى: إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [سورة المطففين، الآية: 18].

و المراد به في المقام هو كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى من الخير و الفعل المرضي.

و يأتي البر (بالكسر) بمعنى فعل الخير إن أضيف إلى الناس، و إن أضيف إليه تعالى يكون بمعنى الاتساع في الثواب و الإحسان.

و قبل (بكسر القاف و فتح الباء) هو الجهة و الناحية.

و المشرق و المغرب هما جهتا قبلة أهل الكتاب. و يمكن أن يكون على

ص: 285

سبيل المثال لكل جهة و عمل يعتقد كونه برأ، كما يحتمل أن يكون كناية عن طرفي الإفراط و التفريط.

و يجوز رفع (البر) على أن يكون اسم ليس، و يكون خبره جملة (ان تولوا). كما يجوز نصبه على ان يكون خبر ليس و جملة (ان تولوا) الاسم و هذان الوجهان جائزان في كل مورد يقع بعد (ليس) معرفتان فيجعل أيهما الاسم و الخبر إلاّ إذا اقترن أحدهما بالباء فيتمحض في الرفع، قال تعالى: لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى [سورة البقرة، الآية: 189]. و لا يفرق المعنى على الوجهين.

كما يصح ان يكون بمعناه المصدري مبالغة، او يكون بمعنى الفاعل أي البار، أو بالتقدير أي: ليس البر بر من آمن باللّه فحذف المضاف.

و الكل صحيح و لا ترجيح في البين بعد صحة الاستعمالات و بناء المحاورات عليها.

و المعنى: ليس البر بتولي الوجه قبل المشرق و المغرب و كل ما يعتقد كونه برا مما يوجب الدخول في الجنّة بزعمهم، فنفى عزّ و جل البر عن كل ما يعتقده الإنسان برا إلاّ ما تنطبق عليه الآية الشريفة.

و ظاهر الخطاب و إن كان موجها إلى أهل الكتاب بدعوى ظهور لفظ (المشرق و المغرب) اللذين هما قبلة اليهود و النصارى، فيكون توبيخا لهم في افتعالاتهم و ردعا لذلك و لكنه من باب المثال لكل من كان خارجا عن الصراط المستقيم.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ . قرئ (لكن) بالتخفيف و التشديد و هذا هو القسم الأول الذي يتعلق بالاعتقاد و الإيمان بالمبدأ و المعاد، أي: إنّ البر يجب الاهتمام به هو الإيمان باللّه الواحد الأحد حق الإيمان، و ابتدأ به لأنّه أساس كل بر و أصل كل خير و لا يكون كذلك إلاّ إذا كان متمكنا في النفس بحيث يظهر أثره عليها بالتسليم و الإذعان و الخشوع و الاطمينان فلا يهدم ايمانه بالشرك و اتباع الهوى و مخالفة أحكام اللّه، و بهذا

ص: 286

الإيمان يكون الفرد كاملا و يرتفع من حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية.

قوله تعالى: وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ . أي يوم القيامة و الاعتقاد به يعني: الاعتقاد بعالم آخر يحيا فيه الناس للحساب و الجزاء و الايمان به يوجب سعي المؤمن لتحصيل ما ينجي به نفسه و يصرفها عن الحياة الفانية و لا يجعل أكبر همه الدنيا و حق الإيمان باليوم الآخر إنما هو في ما إذا ظهر أثره على الجوارح و الجوانح.

و إنّما أخر سبحانه الإيمان باليوم الاخر عن الإيمان باللّه لأنه لا يتحقق حقيقة الإيمان باللّه إلاّ بالإيمان باليوم الآخر لتلازم المبدأ و المعاد و رجوع كل منهما إلى الآخر.

قوله تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةِ . تقدم في قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [سورة البقرة، الآية: 30] اشتقاق الكلمة؛ و الإيمان بهم لأنهم رسل اللّه تعالى إلى الأنبياء، و الإيمان بوجودهم إيمان بالوحي و سائر ما أنزل على الأنبياء و المرسلين، و الإيمان بهم إيمان بالغيب، لأن الملائكة من عالم الغيب و إنكارهم إنكار الوحي و النبوة و بالأخرة إنكار لليوم الآخر، و قد تقدم في قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [سورة البقرة، الآية: 97] بعض ما يتعلق بالمقام، و من ذلك يعرف وجه تقديم الملائكة على الكتب.

قوله تعالى: وَ اَلْكِتابِ . المراد بالكتاب جنس كتب اللّه تعالى، لعدم الاختلاف فيها أبدا بالنسبة إلى المعارف الإلهية و المبدأ و المعاد، و لو كان اختلاف فهو في بعض الأحكام و هذا طبيعي بالنسبة إلى السير التكاملي الحاصل للإنسان، أو القرآن الكريم فإنّ الإيمان به إيمان بجميع الكتب السماوية لذكرها فيه، و لأنه أعظمها و أتمها و أجمعها، و كتاب اللّه في الحقيقة هو قانون إلهي أنزل لتربية الإنسان و تكميله بجميع الكمالات الدنيوية و الأخروية المشتمل على القواعد المتقنة و الأحكام و العلوم التي ينتفع بها الإنسان في جميع نشأته.

و يصح أن يراد بالكتاب في المقام الكتب الأربعة التي أثبتها أهل

ص: 287

العرفان من التدويني، و التكويني، و الآفاقي، و الأنفسي التي يأتي شرحها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يكون المراد بالكتاب جنس ما فرضه اللّه تعالى على عباده و لو على ألسنة أنبيائه.

و الإيمان بالكتاب هو إيمان بما جاء به الأنبياء و المرسلون و هو يستدعي الامتثال بما جاء فيه و إنّما أتي عزّ و جل هذا اللفظ مفردا للإشارة إلى عدم الفرق بين جميع الكتب الإلهية ما لم يثبت النسخ بالقرآن فإنّ القانون واحد نزل من واحد لغرض واحد كما عرفت.

قوله تعالى: وَ اَلنَّبِيِّينَ . النبي هو معلم البشر من قبل اللّه تعالى يبين القانون الإلهي، و هو يدعو إلى الكتاب و الكتاب يدعو إلى النبي فهما متحدان في الواقع و مختلفان بالاعتبار بل يصح أن يقال: إنّ النبي عقل من الخارج و القوة المدركة للكتاب المميز بين الحق و الباطل أو بين الخير و الشر عقل من الداخل، و كل منهما يدعو إلى الآخر فلا أثر لقول الأنبياء مع عدم العقل، كما لا اثر للعقل مع عدم الاعتقاد بالأنبياء، هذا ما أثبته أكابر الفلاسفة و المتكلمين في مباحث النبوة و تدل عليه نصوص كثيرة ستأتي في موردها.

و الإيمان بالأنبياء هو الاهتداء بهديهم و الاستنان بسنتهم و امتثال أوامرهم و الانتهاء عما نهوا عنه.

و إنّما أتى سبحانه «النبيين» بلفظ الجمع للدلالة على أن المطلوب الإيمان بجميع الأنبياء لا سيما خاتمهم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ الإيمان به إيمان بجميع من سبقه من الأنبياء لأنّه المخبر عنهم و الحاكي قصصهم و الناقل إلينا معاجزهم، و لو لا ذلك ما وجدنا إلى معرفتهم سبيلا و بذلك تنتهي أصول الإعتقاد.

قوله تعالى: وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ . من هنا يبتدئ القسم الثاني الذي يتعلق بتهذيب النفس بالأعمال الصالحة.

ص: 288

الإيتاء: يأتي بمعنى الإعطاء، و المال من (م ى ل) بمعنى التوجه و العطف، و سمي المال مالا لأنه يميل من صاحبه إلى غيره و لا يبقى عنده أبدا. أو لميل الطباع اليه، و يسمى عرضا أيضا. و قد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة و سياق الجميع ليس سياق المدح قال تعالى: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سورة سبأ، الآية: 37].

و الضمير في «حبه» يرجع إلى اللّه تعالى المدلول عليه سياق الآية الشريفة. أي: على حب اللّه خالصا لوجهه الكريم. و يصح أن يرجع إلى نفس المال يعني: انه على حبه للمال ينفقه.

و على الأول تستفاد الإضافة إلى اللّه عزّ و جل بالمطابقة، و على الثاني بالالتزام لأن إنفاق المحبوب لا بد أن يكون لغرض أعلى و أجل و هو اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [سورة الدهر، الآية:

8].

و المعنى: أنّ البر هو إعطاء المال مع حبه له و بذله على الأصناف الآتية طلبا لمرضاة اللّه و خالصا لوجهه الكريم.

قوله تعالى: ذَوِي اَلْقُرْبى . أي: قرابة المعطي كما هو ظاهر اللفظ، و حسن الإنفاق عليهم مما تحكم به فطرة كل ذي شعور لما يمت إليهم بصلة القرابة و النسب و يشدهم الرحم فيألم لهم أشد مما يألم لغيرهم إذا نزل فيهم حاجة أو فاقة و لذا

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا صدقة و ذو رحم كاشح» لأنّ الصدقة على غير ذوي القربى و هم معدمون محتاجون بعيدة عن الفطرة و يحكم بمرجوحيتها العقل و العقلاء.

و يحتمل أن يراد به قرابة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و يكون الإنفاق عليهم أبعد من الدواعي النفسانية و أقرب إلى مرضاة اللّه تعالى، فيكون المراد بالمال المال الذي جعله اللّه تعالى لهم في سورة الأنفال.

قوله تعالى: وَ اَلْيَتامى . اليتيم في الإنسان كل صبي انقطع عن أبيه، و في الحيوان ما انقطع عن أمه، كما تستعمل المادة في كل شيء

ص: 289

ينحصر بالفرد في نوعه، يقال: درة يتيمة. و الجامع هو الانقطاع. و تستعمل في القرآن الكريم كثيرا مفردا و جمعا قال تعالى: فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [سورة الضحى، الآية: 9] و قال تعالى: وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [سورة النساء، الآية: 127].

و الإنفاق على اليتيم مع انقطاعه عن من يكفله مما يحكم بحسنه الفطرة، و يحبذه العقل و العقلاء.

قوله تعالى: وَ اَلْمَساكِينَ . المسكين هو الذي أسكنه الفقر و الحاجة و ألزمه الحياء و العفة عن السؤال فيكون أشد فقرا من مطلق الفقير، و لكنه أعم استعمالا منه، إذ يستعمل في غير الفقراء أيضا قال الشاعر:

مساكين أهل الحب حتى قبورهم *** علاها تراب الذل بين المقابر

و في دعاء النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين» و المراد به الخضوع و ذل العبودية للّه تعالى الذي هو أعلى درجات الغنى. و في مساعدتهم تجيب لهم و انقاذ لنفوسهم المنكرة.

قوله تعالى: وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ . و هو المسافر البعيد المنقطع عن أهله و قرابته حتّى كان السبيل ربّاه و بمنزلة أبيه، و في التعبير من اللطف ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ اَلسّائِلِينَ . و هم الذين اضطرتهم الحاجة إلى السؤال و التكفف.

قوله تعالى: وَ فِي اَلرِّقابِ . أي: عتقهم أما بالشراء أو بإعانتهم ليؤدوا مال الكتابة فيعتقون بمقتضى القرار الذي وقع بينهم و بين مواليهم. و تشمل المديونين من الناس الذين عليهم الدين و لم يتمكنوا من أدائه المعبر عنهم ب (الغارمين) كما في آية أخرى و هي: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 60] و ذلك لأنّ رقبته مرهونة عند الدائن لأجل

ص: 290

الدين.

قوله تعالى: وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ . إقامة الصّلاة هي أداؤها كاملة بحدودها و المواظبة عليها و الالتزام بإتيانها في أوقاتها. و هي من أعظم مظاهر العبودية و أقوى الروابط الروحانية بين المخلوق و خالقه إذا أقيمت بشرائطها، و هي أول دعوة الأنبياء و آخر وصية الأوصياء و لها الآثار العظيمة في تزكية النفوس و تطهيرها من الرذائل و الفحشاء، و بسببها يكون الشخص خاضعا خاشعا، و بها يصل الإنسان إلى جنة اللقاء و لذا اعتبرها اللّه تعالى من البر الذي يوجب الوصول إلى الكمال. و قد تقدم في قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 153] بعض ما ينفع المقام.

قوله تعالى: وَ آتَى اَلزَّكاةَ . أي أعطى الزكاة المفروضة على وجهها المطلوب شرعا. و الزكاة من أقوى الروابط بين أفراد المجتمع و هي ركن من أركان الإسلام و بها يستكمل المؤمن ايمانه، و هي قرينة الصلاة في القرآن الكريم في عدة مواضع قال تعالى: وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ [سورة التوبة، الآية: 5] و قال تعالى حكاية عن عيسى: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ [سورة مريم، الآية: 31] و قال تعالى: وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ [سورة مريم، الآية: 55] و قال تعالى: وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ [سورة التوبة، الآية: 71].

فان في الصلاة تهذيب الروح و في الزكاة توثيق الصلات و الروابط و الإنسان الكامل هو الجامع بينهما، و لو عمل المسلمون بهاتين الخصلتين لنالوا ذرى المجد و فاقوا الجميع.

قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا . هذا هو القسم الثالث من الخصال التي هي البر في الأخلاق و تهذيب المجتمع و هي الوفاء بالعهد، و الصبر في الأمور. و الوفاء بالعهد مما يجب بفطرة العقول، و هو يشمل العهود الواقعة بين النّاس بعضهم مع بعض، و العهود الإلهية مع الخلق التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية و المستقلات العقلية كقبح الظلم و حسن العدل.

ص: 291

و حفظ العهود - و منها العقود - حفظ كيان المجتمع و حفظ الوحدة بين الأفراد و به تتم الثقة بينهم.

قوله تعالى: وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ . البأساء أنحاء الفقر و الشدة. و الضراء أنحاء العلل و الأمراض و موت الأحبة. و البأس الحرب

و منه قول علي (عليه السلام): «كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فلم يكن أحد منا أقرب الى العدو منه» و (حين) أي: حين القتال و مقاتلة العدو. و الجامع بين البؤس و البأس و البأساء هو شدة الكروب بالمراتب المختلفة.

و الصبر محمود في جميع الأمور و في جميع الأحوال، و إنما خص هذه المواطن لما فيها من الفضيلة الكبرى، فان بالصبر في شدة الفقر و تسليم الأمر اليه تعالى يهون على الصابر شدة وطأته و يسلمه عن المخاطر، و كذا في الصبر في الضراء، فان بالصبر عليها يحصل الشكر و الثبات و السلامة في المآل، كما أن الصبر في الحرب و مقارعة العدو نصرة الحق و السلامة من الضلال و الارتداد. و بالصبر في هذه المواطن يوجب توطين النفس في غيرها فقد أمكن الصبر من نفسه فيكون على غيرها أصبر.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا . أي: إنّ الذين جمعت فيهم هذه الخصال هم الذين اتصفوا بالصدق في دعواهم الإيمان فاتصفوا بصدق النية و الأقوال و الأعمال.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ . الذين اتقوا بأنفسهم عن حضيض الحيوانية و متابعة الشيطان و أوصلوها إلى أوج مقام الإنسانية و متابعة الرحمن فاتخذوا لأنفسهم وقاية عن سخطه و خذلانه في الدنيا و الآخرة.

و ترتب الحكمين على جميع ما سبق من ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

ص: 292

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآية المباركة أمور:

الأول: تقدم أنّ في قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ فيه من روعة الأسلوب و بلاغته ما لا يخفى، فانه يخرج الكلام من الفرض و التقدير إلى الوقوع، فكأن البر هو الإيمان و ما ذكرت في الآية من الصفات و الأعمال باعتبار تمثلها في الشخص و هذا أبلغ تأثيرا في النفس من اسناد المعنى إلى المعنى، و الغرض من ذلك هو الإشارة إلى تحققها و الإحتجاج بمن تلبس بها، لا مجرد المقابلة بين البر و تولية الوجه و من لم يكن متلبسا به.

الثاني: يستفاد من الآية الشريفة تحقق من عمل بها لكونها في مقام الإحتجاج و لا ريب في أن أكمل فرد و أجلى مصداق من اجتمعت فيه هذه الخصال الأنبياء خصوصا سيدهم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و من يتلو تلوه الذي نزله رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) منزلة نفسه

فقال «علي مني بمنزلة هارون من موسى» على ما رواه الفريقان، مع أنا قد اثبتنا في محله انه لا يمكن ان تخلو الأرض من حجة للّه قائمة.

الثالث: أنّ الشرط في قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا إشارة إلى شمول العهد للعهود المتقومة بالإثنين أو العهد القائم بشخص واحد. و فيه من التعريض إلى من يخالف العهد و خروجه عن مقتضى الفطرة ما لا يخفى.

الرابع: أنّ النفي و الإثبات دليل الحصر كما هو الثابت في العلوم الأدبية، و الآية الكريمة تنفي البر مطلقا بنفي أبرز جهاته و أظهر آثاره و هو تولّي الوجه قبل المشرق و المغرب و تثبته في المذكورات فلا بر مطلقا إلاّ في ما تضمنته و هي كمالات فردية، و اجتماعية، دنيوية، و اخروية و هي الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه و غيرها من السبل التي أمرنا بالابتعاد عنها.

الخامس: إنّما قدم سبحانه و تعالى الإيمان باللّه لأنه رأس كل

ص: 293

بر، و لعدم الفائدة في الجميع إلاّ به، ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر للتلازم بين المبدإ و المعاد. ثم ذكر الملائكة، لأنّهم رسل الوحي و وسائل الفيض الربوبي ثم ذكر الكتب، لأنّها الوحي المبين المنزل من اللّه تعالى بواسطة الملائكة على الأنبياء و المرسلين، ثم ذكر إيتاء المال، لأن الإيمان لا بد و ان يظهر آثاره على العمل و من أشد الأعمال هو إعطاء المال و بذله لكثرة علاقة النفوس به،

و لذا قال علي (عليه السلام): «ينام الرجل على الثكل و لا ينام على الحرب» ثم ذكر إقام الصّلاة لأنها أول الفرائض و أرفعها شأنا في تهذيب النفس ثم ذكر إيتاء الزكاة لأن بها يستكمل الإنسان إيمانه فإن الصّلاة يلاحظ فيها الجانب الروحي، و في الزكاة يلاحظ الجانب العلمي المادي. ثم ذكر الوفاء بالعهد، لتقوم الجانب الأخلاقي في جميع التكاليف الإلهية و العهود المراعاة بين الخلق بالوفاء به ثم ذكر الصبر أخيرا لأن في الإخلال بالعهد و نبذه إيماء إلى إعلان الحرب و هو يتقوم بالصبر، أو لأن جميع الأمور المذكورة إنما تتقوم و تتحقق بالصبر، و عدم الظفر بالنتيجة إلاّ به و لذا أخره عن الجميع كتأخر الغاية عن ذيها.

السادس: أنّ الآية الشريفة مشتملة على أصول هي أصول نظام الإنسانية الفردية و الاجتماعية و هي محور جميع الشرايع الإلهية، و أساس الفلسفة العملية، و بها يرتبط الإنسان بعالمي الغيب و الشهادة و هي:

الأصل الأول: الإيمان باللّه و اليوم الآخر، و هو الكمال الذي ليس فوقه أي كمال، و ينطوي فيهما ما أوحي على المرسلين و هما أساس ما استلهمه أهل الفلسفة العلمية و العملية. و لا ريب في أنّ الإيمان كذلك له مراتب متفاوتة.

الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة بما انهم وسائط في التدبير و التنظيم و إتقان الصنع فهم وسائط فيض اللّه تعالى؛ فكما أنّ شكر المنعم واجب بحكم العقل كذلك يجب شكر الوسائط، و الشكر لا يتحقق إلاّ بعد المعرفة.

و الملائكة من عالم الغيب الذي هو مقابل عالم الشهادة التي نحن فيها المتضمنة لأنواع الحيوان و النبات و الجماد، و لا يمكن درك أسراره و ان بذل

ص: 294

غاية الجهد.

الأصل الثالث: الإيمان بالكتب و الأنبياء معلمي البشرية و هاديها و لا يخفى أنّ بالتعلم و التعليم يقوم نظام إنسانية الإنسان و إلاّ لبقي على أصل الحيوانية، و ان بهما يتحقق السير الاستكمالي له و انهما وسيلة لإخراج ما هو المكنون في الكون من الأسرار، و لا يتحققان إلاّ بقوانين تنظم شؤون الفرد و المجتمع و ترشده إلى الطريق المستقيم و معلم يهديهم إلى ذلك. و الأول هو الكتاب و الثاني هو النبي، و بدونهما يكون التشريع لغوا و باطلا و هو محال عليه تعالى، و الجميع يرجع إليه تعالى فهو أول من وضع الكتاب و أول واضع لنظام التعليم و التعلم و أول من أرسل المعلم، و الآيات القرآنية تبين ذلك بوضوح.

الأصل الرابع: إيتاء المال و بذله لأن كل مجتمع - بدائيا كان أو حضاريا - فيه طبقات تختلف في الغنى و الفقر، و هذا من مقتضيات نفس العالم إن لوحظت بالنسبة إلى النظام الأحسن، و حينئذ يحكم العقل بحسن بذل المال و عدم احتكاره تقديما لحفظ المجتمع على مالكية الفرد أو سدا لحاجة الفقراء أو دفعا لسطوة الأغنياء، و هذا هو الأصل الذي ارتضاء العقلاء و قررته الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم و لذلك كله حدود و قيود مذكورة في الفقه الإسلامي.

و لا يقال: إنّ بذل المال مجانا يوجب ازدياد الكسل و البطالة، و بالأخرة الفساد الاجتماعي و الأخلاقي و لأجل ذلك أنكرت بعض المذاهب الاقتصادية الصدقات و العطيات و الكفارات.

و فساد ذلك بيّن فإنّ الشرايع الإلهية التي تحبذ على الصدقات و العطيات إنما تجعل حدودا و قيودا في بذلها منها الحاجة الماسة أي: فقر الآخذ، و عجزه عن التكسب اللائق بحاله، كما أنّ اهتمام العقلاء ببذل المال إنما هو لأجل عدم تمركز الثروة في فئة قليلة بل لا بد من توزيعها بالتدريج - بمثل ما هو المقرر في الشريعة - لئلا «يتبيّغ [يتأثر] بالفقير فقره».

الأصل الخامس: إقام الصّلاة بما فيها من الارتباط بعالم الغيب و الاستمداد منه، و فيها تتحقق المخاطبة بين العابد و المعبود و يتجلّى المعبود

ص: 295

في مظاهر عبودية العابد، و ليس المراد من إتيان الصّلاة هو مجرد الذكر اللساني و الأفعال الخاصة الفاقدة لروح العبودية بل المراد إقامتها على وجهها المطلوب شرعا بشرائطها الخاصة لتؤثر آثارها العظيمة، و قد ذكر لها الفقهاء شروطا خاصة مذكورة في كتب الفقه و هي شرائط الصحة. و أما شرائط القبول فقد جمعها سبحانه و تعالى في قوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 27].

الأصل السادس: إيتاء الزكاة المفروضة، و هي أقل جزء و أيسر ما فرضه اللّه تعالى على الأغنياء لرفع حاجة المحتاجين، و من تتبع تاريخ الحضارات و يلاحظ تاريخ الإسلام و المقارنة بينهما يرى بوضوح اهمية هذا التكليف في رفع كثير من المشكلات الاقتصادية الناشئة من تكتل الثروات و الفقر و لقد راعى الإسلام في الزكاة المفروضة حق المالك و حق الفقير و لأجل ذلك كان لهذا التكليف أهمية عظمى في تاريخ الإسلام و المسلمين. و قد جعل الشارع لها حدودا و قيودا في الصرف و المصرف مذكورة في كتب الفقه و تعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام].

الأصل السابع: الوفاء بالعهد، و الأهمية حفظ العهد في المجتمع الإنساني أكد عليه سبحانه و تعالى في مواضع متعددة في القرآن الكريم و ذلك لأن في نقض العهد انهيار للوحدة المتجانسة بين أفراد المجتمع و حلول الغدر و الخيانة و الفحشاء فيهم بدل الصلح و الوئام و الاحترام.

الأصل الثامن: الصبر و هو الركيزة الأولى في كل عمل يعمله الإنسان في حياته العملية فإن بالصبر يصل الفرد إلى كماله اللائق بحاله أو بالصبر يتصف الفرد بالأخلاق الفاضلة، فتكون نسبته إلى سائر الخصال كنسبة الروح الى الجسد، و نظام الأفعال التكوينية يقوم على التأني و التأمل فضلا عن الأفعال الاختيارية، فهو محبوب في كل موطن و كل حال. و إنّما اقتصر سبحانه على ذكر «البأساء و الضراء و حين البأس» لأهمية هذه المواطن و لأن الصبر فيها يمكن الإنسان على الصبر في غيرها بطريق أولى.

بل يمكن أن يكون المراد من «حين البأس» حين المجاهدة مع النفس

ص: 296

المعبر عنها بالجهاد الأكبر، لتقومه بالصبر و الثبات أكثر مما يتقوم به الجهاد الأصغر.

بحث أدبي:

ذكرنا أنّه يجوز قراءة «ليس البر» بالنصب على أنه خبر مقدم أو بالرفع على أنه اسم، و هذا جار في كل مورد يكون بعد (ليس) المعرفتان.

و قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ إخبار عن المعني بالذات و هو من أحسن أساليب الفصاحة و البلاغة، و هو يرجع إلى تغيير أسلوب الكلام من بيان الصفات إلى بيان الذات المتصفة بها لبيان إجلال تعظيم مثل هذه الذات، و ان المقصود إنما هو الذات المتصفة لا مجرد تعداد الصفات.

فما ذكره بعض المفسرين و غيرهم في المقام من التقدير و حذف المضاف صحيح بحسب القواعد النحوية و لكنه لا يفيد ما ذكرناه من براعة الأسلوب و حسن تأديته. و له نظائر كثيرة في الأساليب العربية الفصحى، قال الحطيئة:

و شر المنايا ميت وسط أهله *** كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره

و أما رفع قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ فلأجل العطف على «من آمن»، كما أنّ نصب «و الصابرين» يكون على المدح و الإختصاص.

و يمكن أن يكون الرفع و النصب كلاهما على المدح أي: و هم الموفون و أعني الصابرين، لأن النعوت و الصفات إذا طالت جاز الاعتراض بينهما بالمدح أو الذم، قال الشاعر:

إلى الملك القرم و ابن الهمام *** و ليث الكتيبة في المزدحم

و ذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل و ذات اللجم

فنصب ليث الكتيبة، و ذا الرأي على المدح. و الأحسن هو الاختلاف في الإعراب في المقام ليكون النصب في «الصابرين» إشارة إلى أنّ في المقام سرا مكنونا، و هو بيان مقام الصبر و أهميته.

ص: 297

بحث فقهي:

تدل الآية المباركة على جملة من الأحكام الفقهية:

الأول: إنّها تدل على رجحان إيتاء المال و بذله في إعانة المحتاجين و الهدايا و صرفه في الخير و هو محبوب عقلا أيضا، إلاّ أنه قد يكون واجبا كالزكاة، و الكفارات، و النذور، و أداء الديون.

و قد يكون مندوبا و هو في ما إذا كان يراعى فيه الوظيفة الشرعية و لم يصل إلى الصرف المحرم و له مصاديق كثيرة مذكورة في كتب فقه الفريقين. و الظاهر أن قوله تعالى: وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ناظر إلى القسم الثاني لذكر الزكاة بعد ذلك، و يمكن أن تكون الزكاة مثالا لجميع الحقوق الواجبة المالية.

الثاني: القيد في قوله تعالى: عَلى حُبِّهِ قيد توضيحي إن رجع إلى حب المال لأنه أمر غريزي مركوز في الإنسان أو أنه يرجع إلى حفظ النفس من الهلاك و هو أمر فطري أيضا. و ان رجع إلى اللّه تعالى يصح أن يكون احترازيا، لأن النّاس يختلفون في ذلك إلاّ أن يقال إنّ الآية وردت في وصف الأبرار، و صرفهم للمال لا يكون إلاّ للّه تعالى، قال عزّ و جل: وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً [سورة الدهر، الآية: 9].

الثالث: لا يعتبر الفقر في ما ذكر من الأصناف سوى المسكين لعدم كون دفع المال من باب الصدقة الواجبة بل أعم منها. نعم لو كان بعنوان الصدقة الواجبة يعتبر الفقر في موردها.

الرابع: ذكر تعالى السائلين، و السؤال إن كان لأجل الاضطرار و حفظ النفس يجوز، بل قد يجب و إن كان لغير ذلك يكره، بل قد يحرم.

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه باب فقر»؛

و عن الصادق (عليه السلام): «ثلاثة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب اليم - إلى ان قال - و الذي يسأل الناس و في يده ظهر غنى»،

و عن أبي جعفر (عليه السلام): «لو يعلم السائل ما في المسألة ما

ص: 298

سأل أحد أحدا، و لو يعلم المعطي ما في العطية ما رد أحد أحدا، و من سأل و هو بظهر غنى لقي اللّه مخموشا وجهه يوم القيامة».

و يكره رد السائل مطلقا،

فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «للسائل حق و ان جاء على ظهر فرسه».

الخامس: يستفاد من الآية الكريمة انه يجوز صرف الزكاة في جميع الموارد التي ورد فيها مع تحقق الشرائط المذكورة في الفقه.

السادس: الظاهر أنّ المراد من قوله تعالى: ذَوِي اَلْقُرْبى قرابة المعطي، و لكن يحتمل ان يكون قرابة للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) كما في قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ [سورة الأنفال، الآية: 41].

بحث روائي:

في تفسير القمي في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ قال (عليه السلام): «هي شروط الإيمان الذي هو التصديق».

أقول: الظاهر أنّ مراده (عليه السلام) بالإيمان الإيمان الكامل الذي يدخل به المؤمن في زمرة الأبرار و الصديقين.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

أقول: و لا ريب في ذلك لأن الآية الشريفة، كما مر جامعة للاعتقادات و الأعمال الجوارحية و لا معنى لكمال الإيمان إلاّ جامعية المؤمن للمعتقدات الصحيحة و الأعمال الصالحة. و يستفاد من الآيات الواردة في مدح الأبرار، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا [سورة

ص: 299

مريم، الآية: 96] و قال تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءِ اَلزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة النور، الآية: 38].

و لكن الآية الشريفة هي أجمع الآيات التي ذكر فيها درجات الأبرار و منازلهم في الآخرة. و تبين الملازمة بين كون الإنسان برا في هذه الدنيا - بالمعنى المذكور فيها - و كونه من الأبرار في الآخرة فتكون حقيقته في جميع النشآت واحدة و ان السبق إلى البر في هذا العالم ملازم لكونه من السابقين في الآخرة، قال تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلسّابِقُونَ أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 10].

و في الدر المنثور عن أبي عامر الأشعري: «قلت يا رسول اللّه ما تمام البر؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية».

أقول: في سياق ذلك روايات متواترة من الفريقين، و يدل عليه حكم العقل، لأن المخالفة بين السر و العلانية نفاق، و يشهد لقوله (صلّى اللّه عليه و آله) ذيل الآية الشريفة: أُولئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ إذ لا معنى للصديق إلاّ من طابق قوله فعله و سره علانيته.

في مجمع البيان عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام): ذوي القربى قرابة النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: يمكن أن يكون ذلك من باب أشرف المصاديق كما تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «الفقير الذي لا يسأل النّاس و المسكين أجهد منه و البائس أجهدهم».

أقول: ذكرنا ذلك في الفقه مفصلا، من شاء فليراجع كتاب الزكاة من كتابنا [مهذب الأحكام].

في التهذيب عن الصادق (عليه السلام): «سئل عن مكاتب عجز عن

ص: 300

مكاتبته و قد أدى بعضها. قال (عليه السلام): «يؤدى عنه من مال الصدقة فإنّ اللّه عزّ و جل يقول: و في الرقاب».

أقول: سيأتي بيان ذلك في آية الزكاة: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 60].

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام): «ابن السبيل المنقطع به».

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ قال (عليه السلام): «في الجوع، و العطش، و الخوف، و قوله تعالى: حِينَ اَلْبَأْسِ ، قال (عليه السلام) عند القتال».

أقول: كل ذلك من باب التطبيق.

في الدر المنثور: «أن رجلا سأل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن البر فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فدعا الرجل فتلاها عليه، و قد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلاّ اللّه و ان محمدا عبده و رسوله ثم مات على ذلك، وجبت له الجنّة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: يدل الحديث على أن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلاّ بذلك لأن الآية الشريفة حينئذ بمنزلة الشرح لكلمة التوحيد، كما يدل عليه ما استفاض من طرقنا

عن مولانا الرضا (عليه السلام): «قال اللّه تعالى كلمة لا إله إلاّ اللّه حصني و من دخل حصني أمن من عذابي، قال بشرطها و شروطها و أنا من شروطها».

بحث قرآني:

تدعو الآية الشريفة إلى الإيمان باللّه و اليوم الآخر و الملائكة و الكتب و الرسل، و إتيان الأعمال الصالحة، و تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة و قد وصف سبحانه العامل بما تضمنته هذه الآية الشريفة بأنه من الصديقين، و أنه من المتقين، و قد أعد لهم من الدرجات المعنوية و المنازل العالية كما بينها في

ص: 301

آيات أخرى، و هي تشرح حقيقة الإنسان من حيث نظر القرآن الكريم، و كل واحد من هذه الأمور له آثار خاصة تؤثر في النفس و تظهر في العمل و حياة الفرد في الدنيا و العقبى بما يجلب له السعادة في الدارين. و نشير هنا إلى بعض ما هو المقصود في القرآن الكريم من الإعتقاد المطلوب شرعا.

و قد أمر سبحانه الإنسان بالإيمان باللّه و اليوم الآخر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و المراد به الإيمان الذي يترتب عليه الآثار التي ذكرها في هذه الآية، و آيات أخرى في سياقها التي تكون كاشفة عنه في مقام الإثبات على نحو كشف المعلول عن العلة، و هي:

الأول: إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى العمل الصالح، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [سورة الكهف، الآية: 118]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الأعراف، الآية: 42] إلى غير ذلك من الآيات التي يقترن الإيمان و العمل الصالح فيها، فان ذلك من الجمع بين المتلازمين.

الثاني: إنّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث على اتباع الرسول و ما جاء به الأنبياء، قال تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة، الآية: 143]، و قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31].

الثالث: انّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث السكينة لصاحبه و الراحة في النفس و الاطمينان في القلب، قال تعالى: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [سورة الفتح، الآية: 26] و قال تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّهِ أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ [سورة الرعد، الآية: 28] و قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام، الآية:

ص: 302

الثالث: انّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث السكينة لصاحبه و الراحة في النفس و الاطمينان في القلب، قال تعالى: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [سورة الفتح، الآية: 26] و قال تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّهِ أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ [سورة الرعد، الآية: 28] و قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام، الآية:

125].

الرابع: إنّ الإيمان المطلوب هو ما كان باعثا على حب اللّه و رسوله بحيث يكونان أحب إليه من غيرهما، قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اِقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ [سورة التوبة، الآية: 24].

الخامس: انّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه على الصبر في الحوادث و المصائب، لأنّ صاحبه يعلم بأنّ المصيبة إنّما هي في الدين و أنّها أشد من المصائب في النفس و المال، و قال تعالى: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [سورة البقرة، الآية: 156].

السادس: إنّ الإيمان يدعو صاحبه إلى اجتناب المحارم و إنّه إذا عرضت له المعاصي و الآثام أعرض عنها، و لو صدرت منه معصية لغفلة أو جهل أو نسيان يبادر إلى التوبة و الانابة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 153].

السابع: إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى التسليم و الرضا بالقضاء و القدر، قال تعالى: وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاةِ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [سورة الحج، الآية: 35]، و قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 142].

الثامن: إنّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه إلى مراقبة النفس و تزكيتها بأنواع البر و الاجتهاد في طلب مرضات اللّه تعالى و تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة.

التاسع: إنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر ما كان يدعو إلى الإيمان بالغيب و جميع ما أنزل اللّه تعالى قال عزّ و جل: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 3].

ص: 303

التاسع: إنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر ما كان يدعو إلى الإيمان بالغيب و جميع ما أنزل اللّه تعالى قال عزّ و جل: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 3].

العاشر: إنّ الإيمان الصحيح هو ما يجلب لصاحبه سعادة الدارين و ما أعده اللّه تعالى للمؤمنين من المنازل و الدرجات و هي مذكورة في آيات كثيرة.

و أجمع آية تشتمل على كثير مما ذكرناه في الإيمان المطلوب هي الآية التي سبق تفسيرها، فإنها تبين المراد من الإيمان، و أنّه الداعي لإتيان الأعمال الصالحات، و الباعث لتهذيب النفس و تزيينها بالأخلاق الفاضلة الموجب كل ذلك لكون المتصف بها من الصديقين و المتقين، فللإيمان كمال و نقص، و الكامل منه ما ذكرناه.

بحث أخلاقي:
اشارة

الآية الشريفة التي تقدم تفسيرها هي من أجمع الآيات القرآنية لصنوف البر و الأخلاق الفاضلة، و هي بانضمام آيات أخرى من القرآن الكريم تبين مفهوم الأخلاق في الإسلام، فان له نظرا خاصا فيه يخالف سائر المذاهب الأخلاقية، و لكنه في ذاته يعتبر امتدادا لسائر الاتجاهات الأخلاقية الصحيحة.

و بتعبير آخر: إنّه يكون تركيبا لتراكيب، فهو يشتمل على روح التوفيق لشتى النزعات في المذاهب الأخلاقية الأخرى، فهو واقعي و مثالي، و محافظ، و تقدمي، و تطوري، و عقلي، و صوفي، و متحرر، و نظامي، كما انه يلبّي جميع المطالب الفردية و الاجتماعية، الشرعية و الأخلاقية. و لا يمكن الإلمام بجوانب هذا المفهوم القرآني للأخلاق إلاّ بعد معرفة النظريات الأخرى و لو على سبيل الإيجاز ثم الحكم بأفضليته و أكمليته من الجميع.

المذاهب الأخلاقية:

يختلف العلماء و الباحثون في علم الأخلاق النظري في تقسيم المذاهب الأخلاقية المتعددة بين مفصل لها بتعداد سائر الاتجاهات، و بين مجمل لها بذكر أصولها، و السبب في ذلك أن طائفة منهم ربطت المذاهب الأخلاقية بالمذاهب الفلسفية في المعرفة الإنسانية من الواقعية و المثالية،

ص: 304

و العقلية، و الحدسية، و التجريبية، و المادية، و التشكيكية و غير ذلك. و هذا المسلك و إن أمكن تطبيقه على بعض المذاهب الأخلاقية، فإنه يكون امتدادا لتلك المسألة إلاّ أنه لا يمكن تطبيقه على البعض الآخر مثل الأخلاق المسيحية فإن لها خصائص ما يخالف تلك الاتجاهات.

و طائفة أخرى أرجعت الاختلاف بعينه إلى الاختلاف في الغاية، و انها هي المنفعة، سواء كانت فردية أو اجتماعية و ابتغاء اللذة و السرور و دفع الآلام و الشرور. و هذا المنهج كسابقه فان كثيرا من المذاهب يخرج عن هذا التقسيم.

و طائفة ثالثة ذهبت إلى أنّ المناط هو الوجدان و الزهد و التقشف؛ كما يراه الاتجاه الصوفي.

و الحق أنّ شيئا مما ذكر لا يصلح لأن يكون المناط في تقسيم المذاهب الأخلاقية، بل إنّ جميعها تتفق على أنّ الكمال و السعادة هما الغاية القصوى و المقصد الأسنى للإنسان، و إنّما الاختلاف في ما يصدق عليه الكمال و السعادة فالاختلاف في المصداق فقط، و على هذا الأساس يمكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة:

الاتجاه العقلي:

الاتجاه الذي يعتبر العقل هو الذي يحدد الغاية في حياتنا، و أنه الباعث الذي يحفزنا إلى ابتغاء الحياة السعيدة و الغزوف عن اللذات و أنّه الداعي إلى الطاعة لأوامر الشرع أو العقل، و أصحاب هذا الاتجاه يعترفون بأصول مسلّمة لا يمكن العدول عنها كحسن العدل، و قبح الظلم و أمثال ذلك، فلا بد للإنسان - الذي يتميز عن سائر الكائنات بطبيعته العاقلة - ان يتصرف وفق القوانين المجعولة من قبل العقل أو الشرع، و في ذلك ابتغاء السعادة. و يشمل هذا الاتجاه من المذاهب الأخلاقية المذهب الحدسي، و الواقعي، و المثالي، و بعض المذاهب اليونانية القديمة أمثال الرواقيين و الأفلاطونيين و غيرهم.

الاتجاه المادي:

و هذا الاتجاه يرفض كل القيم الإنسانية المسبقة التي تحدد للإنسان

ص: 305

سلوكه و التي لها التأثير في تشكيل حياته، بل يعتبر عامل المادة له الأثر الكبير في سلوك الإنسان، و زاد بعضهم أن الأفكار و المشاعر و الرغبات و القيم الخلقية و الجمالية هي وليدة النظام الاقتصادي و ما يستلزمه من العلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض، و ان المنفعة سواء في شكلها الحسي أو العقلي هي وحدها الخير الأقصى و المرغوب لذاته، و انها السعادة، و الضرر و الألم وحده هو الشر الأقصى، فالأفعال الإنسانية لا تكون خيرا إلاّ إذا حققت النفع مطلقا و إذا جلبت ضررا أو عاقت عن وصول النفع كانت شرا.

و بالجملة: إنّ في هذا الاتجاه على اختلاف مذاهبه يتوجه النظر على نتائج الأفعال و آثارها، بلا فرق بين أن تكون المنفعة فردية حسية عاجلة، كما في مذهب القورنائيين أو حسية و عقلية و روحية كما في مذهب الابيقوريين، و جميعهم أصحاب اللذة الفردية الانانية. نعم، تحول بعض المذاهب إلى منفعة المجموع و القول بالصالح العام و لكنه لا تخرجها عن ابتغاء اللذة و المنفعة، و لذا دعوا جميعا ب (الانانيين) حتّى في تصورهم للصالح العام، و تشترك جميع هذه المذاهب في تقييد حرمة الفرد، و القول بالجبر الأخلاقي و الفوضى في الأخلاق.

و من ذلك يعرف أنّه لا علاقة بين الفكر الفلسفي و المذهب الخلقي في هذا الاتجاه.

الاتجاه الصوفي:

و في هذا الاتجاه يتنكر الإنسان للمادة في جميع مظاهرها، و أنّ العزوف عن ملاذ الدنيا هو المناط في الأخلاق الفاضلة، و يرى أصحابه أنّ السعادة هي الابتعاد عما يشغل بال الإنسان عن التفكر، و الكمال هو الوصول إلى مرحلة يصل بها إلى درك الحقائق، و في هذا الاتجاه تعتبر المحبة أصلا لكل خير.

هذه هي الاتجاهات الأساسية للمذاهب الأخلاقية المختلفة المتعددة و هي جميعها قد أخفقت في حلّ المشكلات الخلقية للإنسان سواء الفردية أو الاجتماعية، و لم يصل الفرد بها إلى ما يصبو من السعادة و الكمال بل لم تجلب للإنسان إلاّ الشقاوة، و الوقوع في صراعات فكرية لا يجتنى منها فائدة تذكر.

ص: 306

المفهوم الأخلاقي في القرآن:

إنّ الطابع العام الأخلاقي الذي يستمد من القرآن الكريم يختلف كثيرا عما ذكرناه في المذاهب الأخلاقية المختلفة، سواء من الناحيتين النظرية و العملية فهو يحل جميع المشكلات الخلقية و يضع كل شيء في موضعه المعين، و يربط بين الفضل و الفضيلة، فطالما يكون المرء فاضلا و لا يعرف الفضيلة، و لذا ترى أنّ المفهوم الأخلاقي في القرآن الكريم لا يقتصر على الحاجة العقلية فقط؛ بل إنّ الجانب النظري و العملي كل واحد منهما مكمل للآخر و تكون لهما وحدة خاصة تشبع الحاسة الأخلاقية التي أودعها اللّه تعالى في الإنسان.

كما أنّ المفهوم الأخلاقي فيه يمتاز عن غيره في انه يشتمل على روح التوفيق بين سائر النزعات الأخلاقية، و يلبي جميع المطالب للإنسان، فهو ينظر إلى الفرد كما ينظر إلى المجتمع، و يعطي لكل واحد منهما حقه، و لهذه النزعة الأخلاقية خصائص يمكن تلخيصها في ما يلي:

خصائص الأخلاق في القرآن:

الأولى: إنّ في الإنسان انبعاثا داخليا فطريا إلى الأخلاق يساير جميع مراحله يمكن التعبير عنه به (الحاسة الأخلاقية) التي يميز بها بين الخير و الشر، كما يميز بالحاسة الجمالية المودعة فيه بين الجميل و القبيح، قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية:

8]. و من هذه الحاسة الخلقية نستطيع أن نؤسس القواعد الخلقية و القانون الأخلاقي العام.

و لكن قد يلقى هذا النور الباطني الفطري موانع توجب طمسه، و هي كثيرة مثل العادات، و الوراثة، و البيئة، و شواغل الحياة المادية بل إنّ نفس القواعد الخلقية الفطرية لم تكن كافية في إرضاء الجميع بحيث تكون قاعدة عامة تجلب رضاء الكل، و لهذا كان لا بد من بعث الأنبياء ذوي النفوس المصطفاة الملهمة بالوحي ليثيروا للنّاس دفائن العقول، و يزيلوا الغشاوة عن النور الفطري و يكملوا ما كانوا يحتاجون اليه في إكمالهم، فكان نور الوحي

ص: 307

الإلهي مكملا لنور الفطرة التي أودعها اللّه في الإنسان فكان «نور على نور».

الثانية: إنّ القواعد الخلقية هي تلك القواعد التي تخاطب الضمير الإنساني، و يرغب إليها الإنسان لأجل الحقيقة ذاتها و أهميتها الخلقية فهي لم تكن غريبة عليه، فكانت لها صفة الإلزام، قال تعالى: بَلِ اَلْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ [سورة القيامة، الآية: 15]. و يظهر ذلك بوضوح في تلك الآيات القرآنية التي ترجع الإنسان إلى عواطفه، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، و قال تعالى: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ [سورة الحجرات، الآية: 12].

الثالثة: إنّ القرآن الكريم يقرر أنّ الإنسان مسئول عن عمله، فقد أظهر فكرة المسؤولية الأخلاقية الفردية و الاجتماعية بالمعنى الكامل قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39]، و قال تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة الإسراء، الآية: 15]، فكل شخص مسئول بالشروط المقررة عن أفعاله الخاصة الشعورية و الإرادية، كما انه فرد من مجتمع يحمل جانبا من المسؤولية الاجتماعية.

الرابعة: إنّ الإنسان حرّ في اختيار أفعاله الإرادية، و لا شيء - سواء كان داخليا أو خارجيا - يستطيع إرغامه و سلب حريته، قال تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 284]، و قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 54] بل يعتبر القرآن أنّ أساس المسؤولية هي الحرية، و قد مضى في ضمن الآيات القرآنية البحث عن ذلك مفصلا و قد تنبّه إلى ذلك الفيلسوف الغربي [كانت] بقوله «يستحيل علينا ان نتصور عقلا في أكمل حالات شعوره، يتلقى بشأن احكامه توجيها من الخارج... فارادة الكائن العاقل لا تكون إرادته التي تخصه بالمعنى الحقيقي الا تحت فكرة الحرية».

الخامسة: الجزاء الأخلاقي وفقا لقانون أن كل مسئولية لا بد لها من

ص: 308

جزاء. و قد بين القرآن الكريم أنّ كل عمل له جزاء خاص يلائمه و قد تقدم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

السادسة: النية و أنّ كل عمل لا بد له من نية و إعطاء الأهمية للنية و البواعث الكامنة في النفس وراء العمل، و يعتبر أن قيمة كل عمل تدور مدار شدة التنزه، و أن الهدف من كل عمل هو ابتغاء وجه اللّه تعالى.

السابعة: أنّ كل عمل لا بد أن يقرن بالاعتقاد، كما هو ظاهر الآيات الشريفة التي يقرن فيها بين الإيمان و العمل الصالح، قال تعالى: لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة سبأ، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصّالِحِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 9].

الإنسان كائن أخلاقي:

يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية في أنه مزيج قوى متخالفة متصارعة، فهو مركب من عقل، و قلب و إرادة أي: له حياة عقلية، و انفعالية، و فاعلة. و لكل واحدة من هذه الثلاث آثارها و وظائفها التي من امتزاجها في هذا الكائن الخاص يكون إنسانا و هذا مما لا ريب فيه، و قد دلت عليه التجارب و أثبتته البراهين العلمية.

و بتعبير آخر: و هو المتبع في علم الأخلاق - إنّ الإنسان مركب من قوى ثلاث: هي القوة الشهوية التي هي مصدر الرغائب من محبة المال و النساء و غيرهما من الشهوات الحيوانية، و الأفعال المنسوبة إلى هذه القوة هي الأفعال التي تجلب المنفعة؛ كالأكل و الشرب و نحو ذلك.

و القوة الغضبية، و هي مصدر العواطف كالشجاعة، و الغضب، و الأفعال المنسوبة إليها هي الأفعال التي تدرأ المضار كالدفاع عن النفس و المال و العرض و غير ذلك.

و القوة العاقلة، و هي التي تدبر البدن و تسوسه، و الأعمال الفكرية كلها منسوبة إلى هذه القوة.

ص: 309

و لكل واحدة من هذه القوى الثلاث آثارها و خصائصها، و هي متباينة في صفاتها و ذواتها، و لكن من اجتماعها ينشأ الإنسان المفكر الدراك، و باتحادها تنشأ وحدة تركيبية تصدر منها أفعال خاصة، و بها يبلغ الإنسان إلى سعادته التي خلق لأجلها، و وظيفته هي أن يحافظ على هذه الوحدة التركيبية، و ان لا تخرج قوة من هذه القوى الثلاث عن حد الاعتدال إلى حدي الإفراط أو التفريط، و إنّ بذلك يصل إلى الغاية المرجوة من خلقه و هي السعادة الفردية و النوعية في الدنيا و الآخرة و لأجل ذلك كان الإنسان أخلاقيا دون سائر الكائنات الحية.

و علم الأخلاق يبحث عن كيفية المحافظة على الحد الوسط التي هي الفضيلة و الاجتناب عن طرفي الإفراط و التفريط اللذين هما الرذائل، لتصدر منه أفعال يصل بها إلى السعادة المرجوة.

الاعتدال في الأخلاق:

ذكرنا أنّ وظيفة الإنسان - ككائن أخلاقي - هي المحافظة على حد الاعتدال لكل واحدة من القوى الثلاث المتقدمة. و المراد بحد الاعتدال - هو الوسط الأخلاقي - أي استعمال كل قوة على ما ينبغي ليجلب بها السعادة.

و قد جعل العلماء حد الاعتدال في القوة الشهوية هي العفة، و الجانبين - الإفراط و التفريط - الشره، و الخمول. و في القوة الغضبية الشجاعة و الجانبين التهور، و الجبن. و في القوة الفكرية الحكمة و الجانبين الجربزة، و البلادة.

ثم قالوا إنّ في اجتماع تلك الملكات في النفس تحصل ملكة رابعة و هي العدالة و المراد بها هي وضع كل شيء موضعه الذي ينبغي له، و بها يمكن الإنسان ان يحافظ على حد الاعتدال في القوى الثلاث، فيخرج عن الظلم و الانظلام.

و هذه الأربعة هي أصول الأخلاق الفاضلة تكون نسبتها إليها كنسبة الجنس إلى النوع، و هي كثيرة - كالجود و السخاء و القناعة و الشكر و الصبر و نحو ذلك كما هو مفصّل في كتب الأخلاق.

ص: 310

و هذا هو التقسيم الشايع بين علماء الأخلاق منذ عصر أرسطو، و هو لا يخلو عن المناقشة، و لكن الأمر سهل بعد أن كان ذلك لأجل تصنيف الفضائل و الرذائل و التمييز بينها.

إلاّ أنّ للقرآن نظرية خاصة في الوسط تغاير النظريات الأخرى فقد اعتمد القرآن على التقوى التي ورد ذكرها فيه أكثر من مأتين و خمسين مرة، قال تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 8] و اعتبرها محور الكمالات الإنسانية و معيار الفضائل، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [سورة البقرة، الآية: 189]، و قال تعالى: وَ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [سورة النمل، الآية: 53]، و قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 27]، و قال تعالى: اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران، الآية: 102]، و قال تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 7]، و قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 123].

و المراد من التقوى في نظر القرآن: هي الجهد المحمود - الحاصل من الفرد - المتواصل في خدمة التكليف في جميع نشاطاته و علاقاته مع نفسه، و مع ربه، و الناس أجمعين، و هذا هو المراد مما

ورد في النصوص الكثيرة بأنها «إتيان الواجبات و ترك المحرمات».

و تظهر أهمية هذا الملاك عن نظرية «الوسط العادل» أي: تجنب الإفراط و التفريط في أنّه يربط بين العمل و النية، فلا يمكن التفكيك بينهما، فيعتبر العمل بلا نية لا قيمة له، كما أنّ النية الخالية عن أي عمل لا ثمرة لها، كما يظهر ذلك بوضوح من الآيات التي تقارن بين التقوى و العمل الصالح، كما تقدم. قال تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ [سورة الشعراء، الآية: 110].

كما أنّ بالتقوى يصير الإنسان بارا و يصبح من الصديقين، و إنّ بها يتهيّأ لقبول الملكات الفاضلة و يحدد سلوكه الأخلاقي، و بها يصير الإنسان عادلا

ص: 311

موفقا بين رغباته و أحاسيسه و عواطفه، فهي المقياس الحسي للفضائل يسهل معرفته لكل أحد و يسلم عن الخطأ و الالتباس من دون أن يقع في متاهات النظرية الوسطية القديمة؛ و هي العلة الغائية في السلوك الأخلاقي و العلة الفاعلية لاكتساب الفضائل و إزالة الرذائل. و أخيرا هي القاعدة العامة التي يمكن التوفيق بها بين سائر التكاليف و يجلب بها الكمال، و الدين الذي أمرنا باتباعه. و بها صارت هذه الأمة وسطا في جميع الشؤون. نعم لها مراتب، كما تقدم سابقا، و يأتي بيانها مفصلا.

طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة:

ذكرنا أنّ الأساس الذي يبتني عليه الأخلاق في القرآن هو التقوى فإنّها الطريق إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة و اكتساب الفضائل و إزالة الرذائل، و تقدم أنّ التقوى هي الجهد التواصل من الفرد، فلا تتحقق إلاّ بالتواصل و العمل الدؤوب و تكرار الأعمال الصالحة لتتمكن الأخلاق الفاضلة في النفس و يتعذر إزالتها. و في التقوى يرتبط العمل بالنية فكل ما كانت النية خالصة للّه تعالى خالية عن الأغراض الدنيوية ازدادت قيمة العمل و قرب إلى القبول و صلح للجزاء الأوفى.

بل يعتبر القرآن أنّ الغايات المرجوة من الأعمال سواء كانت لجلب النفع، أو لدفع الضرر هي نقص في مقابل الكمال المطلق، قال تعالى: إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة يونس، الآية: 65]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحصر الكمال فيه عزّ و جل. و لهذا الأمر أثر كبير في النفس حيث يجعل العمل خالصا لوجه اللّه منزها عن كل غاية من غير اللّه تعالى، و أنّ الغاية هي اللّه تعالى و التخلق بأخلاقه، و هذا مسلك جديد لم يكن معروفا من قبل نزول القرآن و يختلف عن سائر المسالك المتّبعة في تهذيب النفس بوجهين:

الأول: أنّ في هذا المسلك يعد الإنسان إعدادا علميا و عمليا لقبول الأخلاق الفاضلة و المعارف الإلهية بحيث لا يبقى مجال للرذائل، و فيه تختلف

ص: 312

الفضائل عن غيره من المسالك.

الثاني: أنّ في هذا المسلك يكون الفعل صادرا عن العبودية المحضة و الحب العبودي، فيكون الغرض هو وجه اللّه تعالى فقط، فهو مبني على التوحيد الخالص بخلاف غيره.

و هنالك مسالك أخرى في تهذيب الأخلاق:

أحدها: هو تهذيب النفس بالآراء المحمودة و العقائد العامة الاجتماعية في الحسن و القبح و الغايات الصالحة الدنيوية، و هذا هو المعروف في علم الأخلاق، فهذا المسلك يدعو إلى الخلق الاجتماعي، و الغاية هي حياة سعيدة دنيوية يحمدها كل الناس؛ و لم يرد في القرآن الكريم ما يدل على حسن هذا المسلك. نعم في بعض الموارد إشارة إلى بعض الأمور الاجتماعية، قال تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة، الآية: 150]، حيث علل الحكم بأن لا يكون للناس عليكم حجة، و قال تعالى: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال، الآية: 46]، حيث علل ترك الصبر أو الاتحاد بالفشل و ذهاب الريح. و لكن ذلك كله يرجع إلى الثواب و العقاب الاخرويين.

ثانيها: تهذيب النفس بما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) و الكتب السماوية من العقائد و التكاليف الدينية و الآراء المحمودة بالغايات الأخروية، و قد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ [سورة الأعراف، الآية: 157]، و قال تعالى: اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ [سورة لقمان، الآية: 21]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 30]، و قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة الزمر، الآية: 10]. و غير ذلك من الآيات الشريفة التي ذكر فيها الأجر الأخروي بألسنة مختلفة.

ص: 313

و من مبادئ هذا المسلك هو إعداد الإنسان علميا بأنّ كل ما يصدر منه من الأفعال، و ما يقع من الأمور كلها صادرة عن قانون القضاء و القدر الإلهي؛ قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 11].

و إنّه لا بد من التخلق بأخلاق اللّه تعالى و التذكر بأسمائه الحسنى حتّى يمكن تهذيب النفس بالغايات الأخروية المتكفلة لسعادة الدارين، فإنّ الكمال الحقيقي و السعادة الواقعية هي الحياة السعيدة في الآخرة و تلازمها سعادة هذه الدنيا أيضا.

و هذا المسلك هو الغالب في الديانات الإلهية، و قد دعا اليه الأنبياء و المرسلون، و هو متين يغاير المسلك الأول في الغاية و السبب.

ثالثها: التغير في الأخلاق و التبدل في الفضائل، و القول بالتطور و التكامل في الأخلاق فلا يمكن أن يكون للحسن و القبح أصول مسلمة مطلقا، و المناط كله هو ابتغاء المنفعة و دفع المضرة سواء أ كانتا فرديتين او اجتماعيتين، و هذا مذهب قديم في الأخلاق دعا اليه بعض الماديين كما أشرنا اليه سابقا، و هو مذهب فاسد، و سيأتي في الموضع المناسب ذكر حججهم و دحضها.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ ع.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ما ورد في الآيتين من التشريعات الكلية النافعة في النظام الفردي و الاجتماعي للإنسان، و قد لوحظ فيهما بقاء النوع و تهذيبهم بالأخلاق الفاضلة و نبذ الانتقام و العدوان، و قد اعتبر في القصاص المساواة بين القاتل و من يراد الاقتصاص له. و فيهما إشارة إلى بعض العادات السيئة التي كانت متبعة قبل هذا التشريع، و لذلك كله لا تخلو من الارتباط بالآيات السابقة.

ص: 314

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا . تقدم الكلام في مثل هذا لخطاب في آيتي 104 و 153. و كتابة هذا التشريع على المؤمنين لأجل الشرف لا يدل على نفيه عن غيرهم.

قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى . الأصل في مادة (كتب) هو الجمع و التثبت في جميع موارد استعمالاتها، سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى علم اللّه تعالى، أو اللوح المحفوظ أو الكتب النازلة من السماء. أو الإيجاب على العباد - تكليفا أو وضعا - أو التحقق العيني الخارجي، فالكل كتاب، و الجميع يدل على الثبوت و الدوام، و التحفظ. و المراد به في المقام هو الفرض و الإيجاب.

و مادة (ق ص ص) تأتي بمعنى تتبع الأثر، و حيث إنّ وليّ المقتول، يتبع أثر القاتل ليأخذ منه جريمة ما فعله، و كذا المجروح يتبع أثر الجارح كذلك، يقال له القصاص.

و منه القصة و القصّاص، لأنه فيها تتبع أثر ما وقع في الخارج كما أن منه القاص لأنه يتبع الآثار و الأخبار.

و المراد بالقصاص شرعا هو أخذ الجاني بمثل جنايته إن أراد وليّ المقتول ذلك، و هو مطلق لا بد من تقييده بما إذا كانت الجناية عمدية، لخروج الجناية الخطأية عن تحت هذه الآية بقوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [سورة النساء، الآية: 92].

و الآية تبين أصل تشريع القصاص؛ و قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ يبين حكمة هذا التشريع.

و في الآية إشعار بأنّه لا بد من التساوي بين المقتول و من يراد القصاص منه، و أنه لا بد من العدل في القصاص و ملاحظة المثلية. و في ذلك رد على ما كان يفعل في الجاهلية من المغالاة في سفك الدماء و قتل الأبرياء

ص: 315

كالاقتصاص من رئيس القبيلة و السيد في قتل العبد ظلما و عدوانا.

و القتلى: جمع القتيل بمعنى المقتول، و القتل زوال الروح إذا أضيف إلى المتعدي إليه (أي من وقع عليه القتل). و إذا أضيف إلى ذات الشخص فهو موت فلا فرق بينهما إلاّ بالإضافة و الاعتبار، كما يقال: مات بالشهادة، أو مات بالقتل، و مات بالمرض. نعم يصح اعتبار التغاير بينهما بلحاظ السبب كما قال تعالى: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [سورة آل عمران، الآية: 144].

و الجامع هو زوال الروح.

و عموم الخطاب يشمل الوضعي و التكليفي كما في جملة من الخطابات المتعلقة بإتلاف الأموال ففي المقام بالأولى، و الأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة المعروفة.

و أما الأحكام الوضعية و هي ما تعلق بها غرض الشارع المقدس و لم تكن من الخمسة التكليفية، و هي كثيرة كالضمان، و الولاية، و الطهارة، و النجاسة، و قد يجتمع الحكمان في شيء واحد كاشتغال الذمة بعوض فهو وضعي و وجوب تفريغها تكليفي، و قد ذكر التفصيل في محله فراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم انه ذكر سبحانه و تعالى بعض موارد المساواة و التكافؤ بين المقتول، و من يراد الاقتصاص منه.

قوله تعالى: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ . الحر: خلاف العبد لخلوصه عن الرقية، و الحر من كل شيء خالصه، و أحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ.

و العبد من فيه الرقّية، و في اصطلاح الكتاب و السنة هي المملوكية للغير بالملكية الظاهرية. و عند جمع من أهل العرفان: كل من كان له علاقة بغير اللّه تعالى فهو عبد له، و قالوا: إنّ عبد الشهوة و الهوى أشد رقّية من العبد المملوك للغير، و استشهدوا لذلك بأدلة عقلية و نقلية لعلنا نتعرض لذلك في محله.

و كيف كان، و المراد منه هنا المعنى الأول.

ص: 316

و في الآية من البلاغة ما لا يخفى و فيها إشارة إلى بيان ذكر المثلية إجمالا.

قوله تعالى: وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى . كان في أهل الجاهلية بغي و حمية و كانت القبائل تتحكم بحسب القوة و المنعة، فان قتل من حي أهل منعة و عز أحد لا بد لهم من الاقتصاص و كانوا لا يكتفون من القاتل فقط، و إذا قتل منهم أنثى لا يقتصون من أنثى مثلها بل يقتصون من الذكر. و قد أنكر الشارع هذه العادة و حكم بالمساواة بين القاتل و المقتول فإذا كان القاتل أنثى فلا بد و ان يقتص منها لا من غيرها، و فيها بيان للمثلية أيضا أي الحرة بالحرة و الأمة بالأمة.

قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ . بعد ان ذكر وجوب القصاص و أنّه أساس العدل في الجنايات، و أنّه الأصل في ردع الجاني من الاستمرار في الجناية بيّن هنا جواز العفو بل رجحانه و هو تعالى ينظر إلى الجانب الأخلاقي في هذا التشريع و يعطي أهمية خاصة إلى التراحم و التعاطف بين أفراد البشر في ظرف تسيطر على النفس الغرائز الدفينة و العادات السيئة الموروثة من الجاهلية، فكان هذا التشريع موفقا في الجمع بين الجانب العاطفي في الإنسان و الجانب الغريزي و الشهودي فيه.

و مادة عفو تأتي بمعنى المحو و الزوال و نفي الأثر، و التجافي عن الذنب، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 199]، و قال تعالى: عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ [سورة المائدة، الآية: 95]، و قال تعالى: وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ [سورة الشورى، الآية: 25].

و العفوّ - بالتشديد - من أسماء اللّه الحسنى، و في بعض الدعوات: «اللهم إنّي أسألك العفو و العافية و المعافاة». و الأول محو الذنب، و الثاني الصحة من الأسقام و الأمراض، و الأخير الحفظ عن أن يظلم أحدا أو أن يظلمه أحد.

و الفرق بين العفو و الغفران أنّ الثاني يختص استعماله باللّه تعالى غالبا

ص: 317

و إن استعمل في غيره تعالى أحيانا؛ قال سبحانه: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 14]؛ بخلاف الأول فانه يستعمل في غيره عزّ و جل كثيرا، قال تعالى: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سورة البقرة، الآية: 237]، و قال تعالى: إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ [سورة البقرة، الآية: 237]. و يقال: عفت الدار إذا انمحت آثارها.

و يمكن الفرق بينهما باعتبار المورد أيضا، فان العفو يصح استعماله بالنسبة إلى مطلق سوء الأخلاق و إن لم يكن من الذنب الشرعي كما يصح استعماله بالنسبة إليه أيضا بخلاف الغفران.

و التعبير بالأخ ترغيب إلى العفو و المراد به ولي الدم.

و «شيء» صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل أي بعض العفو و شيء منه، و هو حق الاقتصاص أولا و يشمل البدل و المبدل أيضا.

و المعنى: و من عفا لأخيه عن جنايته و لم يرد القصاص و رضي بالدية فهو خير له.

قوله تعالى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ . المعروف: ضد المنكر، و معناه كلفظه؛ و المراد به كل ما حسن عند العقلاء و لم ينه عنه الشرع سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا. و هو يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار. و قد وقع هذا اللفظ في القرآن الكريم و السنة الشريفة كثيرا، قال تعالى: اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة، الآية: 180]؛ و قال تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة، الآية: 228]، و قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً [سورة البقرة، الآية: 263] إلى غير ذلك مما يقرب من أربعين موردا.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كل معروف صدقة».

و المعنى: إن رغب في العفو عن القصاص لا بد له من إتباعه بالمعروف على الجاني بأن لا يرهقه في الدية، أو ينظره إلى الميسرة إن كان ذا عسرة، أو الطلب منه بالرفق، أو يعفو عن بعض و نحو ذلك مما لا يستنكره

ص: 318

العرف، و ذلك مرغوب فيه لا سيما في هذه الحال التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى قوى البطش و الانتقام منها إلى العقل.

قوله تعالى: وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ . أي أداء من الجاني إلى الولي بالإحسان كما أحسن اليه بالعفو و إتباعه بالمعروف.

قوله تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ . أي: أن تشريع القصاص و العفو عنه و الانتقال الى الدية و الاتباع بالمعروف و الأداء بالإحسان كلها تخفيف على الأولياء و الجانين و رحمة لهم، لأنه جل شأنه قادر أن يشرع عليكم بما يكون أشد من ذلك، فقد راعى عزّ و جل الوسط بين الإفراط، و التفريط. مع أن في هذا التشريع الجديد تخفيفا بالنسبة إلى ما كانوا قد اعتادوا عليه في الجاهلية فقد كان ذلك ثقلا كبيرا عليهم و رحمة عليكم في الامتناع عن إراقة الدماء ظلما و عدوانا، فلا يبقى بعد ذلك مجال للظلم و الاعتداء.

قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ . أي: فمن اعتدى و انتقم من الجاني بعد العفو، أو تعدى عن الحد الذي قرره اللّه تعالى فله عذاب أليم، لأنه متعد عن القانون الإلهي و كل متعد كذلك لا بد و أن يعاقب عقلا و شرعا، فيكون مصيره إلى النار.

قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ . بعد أن شرّع تعالى القصاص و حكم بأنّه لا بد من التساوي و التكافؤ بين الدماء. ذكر هنا حكمة هذا التشريع الجديد و علته بأفصح بيان و أبلغه و أوجز عبارة تفي بالمطلوب. فكان أحسن كلام يقرع الأسماع و ابلغ نظم يؤديه البيان، قرن فيه بين التلطف و العتاب فما أجمل هذا الخطاب فاح نسيم الوحي من السماء فانفتح الكمام و تواضع كل من يدعي الفصاحة أمام حسنه، و أعيى كل من جهد نفسه في البلاغة، و لو قورنت هذه العبارة مع ما قيل في مثل المقام كقولهم:

(القتل أنفى للقتل) و قولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، و قولهم (أكثروا القتل ليقل القتل) لكان ما ورد في القرآن كالنور في الظلماء، و النار على المنار من حيث البلاغة و الفصاحة، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق

ص: 319

بذلك.

و المعنى: أنّ في القصاص المذكور الحياة للفرد و المجتمع، أما بالنسبة إلى المجتمع فإنّه أحسن رادع عن الإقدام على قتل النفوس، إنّ فيه حفظ النّاس عن اعتداء بعضهم على بعض، و أما بالنسبة إلى الفرد فإنّ فيه حفظ من يريد الجناية فإذا علم بالقصاص يرتدع عنه، و بذلك يحفظ نفسه و من أراد قتله و لو فعله كان ذلك عبرة لغيره ممن يريد الإقدام على ذلك، ففي القصاص حياة الناس و الأفراد بل فيه تسلية لولي المقتول حيث يخفف عنه لوعة المصاب، فكانت الغاية من القصاص و ما يجتنى من عواقبه حميدة يعرفها كل من اعطي حق التأمل في هذا الحكم.

قوله تعالى: يا أُولِي اَلْأَلْبابِ . الألباب جمع اللب، و هو العقل الخالص عن الشوائب، لأنّ لب الشيء خالصه و صفوته، و لذا جعل اللّه تعالى أولي الألباب. مورد خطابه و عنايته في جملة كثيرة من الآيات القرآنية، لأنّ ذا اللب هو الذي يعرف حقائق الأشياء و موازينها، و آثارها و ما يترتب عليها. قال تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 9]، و قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 21] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و قد فسر سبحانه اللب في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 18].

و لم يرد لفظ اللب مفردا في القرآن الكريم كما لم يرد لفظ العقل كذلك. و المتأمل في الآيات المتضمنة لذكر أولى الألباب يعلم أنها وردت في مدحهم بخلاف العقل فإنّه ليس كذلك، قال تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 67]، و قال تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة النور، الآية: 61].

و لعل السر في عدم ورود المفرد لهذين اللفظين الإشارة إلى أنّهما من

ص: 320

الحقائق التي لا تحصل إلاّ من الاجتماع إما بعضهم مع بعض، أو مع الأنبياء و الإيمان بهم و العمل بما جاؤا به. مع أن مثل هذه الخطابات نوعية اجتماعية ملقاة الى المجتمع لا إلى الفرد المعين.

و اللب و العقل هما من أسرار اللّه تعالى التي أودعها في الإنسان، و قد قال عزّ و جل حين خلقه كما

في الحديث: «و عزتي و جلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك إياك آمر، و إياك أنهى، و بك أثيب و أعاقب»، و هو أصل الإنسان و ما سواه من القشر، و هو مبدأ الاستكمالات و اليه المنتهى، و بالعمل و التقوى و الصلاح يرتقي العقل و اللب، و منهما ينشأ الخير، فيصح أن يقال: قد اجتمعت العلة الفاعلية و الغائية فيهما.

و الحاصل: إنّ اللب و العقل و الفلاح و الصلاح و التقوى كلها مفاهيم مختلفة لمعنى واحد إذا لوحظت النشآت فانها مرتبطة بعضها مع بعض؛ فان

«الدنيا مزرعة الآخرة» كما قال نبينا (صلّى اللّه عليه و آله) خصوصا بناء على الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أعاظم الفلاسفة. نعم أصل هذه المزرعة و أساسها العمل و به يرتقي العقل ثم منه ينشأ الخير الذي يرجع بالآخرة إلى العقل أيضا.

و إنّما ذكرهم في المقام للتنبيه على أنّ هذا الحكم بما فيه من المصالح و الآثار لا يعلمها إلاّ أولوا الألباب الذين يفقهون سر هذا الحكم باستعمال عقولهم. و لذلك فمن ينكر هذا الحكم فهو ممن ليس له لب و عقل، فكان هذا كالدليل لما تقدم.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أي لعلكم تتقون اللّه في كل أموركم حيث شرع لكم هذا التشريع العظيم الذي ينبّئ عن الحكمة و العلم، أو تتقون الظلم خوفا عن القصاص فتكفون عن سفك الدماء أو يتقي بعضكم بعضا حرصا على الحياة.

و منه يستفاد أن اللب السليم يرشد إلى التقوى، و سبب استكمال ذوي الألباب.

ص: 321

بحوث المقام

بحث أدبي:

أنّ قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ أبلغ آية في القرآن الكريم و أفصحها و هي في إيجازها قد ارتقت سماء الإعجاز لما اشتملت على فنون البلاغة و الإيجاز و جمعت بين قوة الاستدلال و براعة اللفظ؛ فتحدت فرسان الفصاحة و البيان، و قد أفادت حكما لم يكن من قبل معروفا في أسلوب رصين و عذوبة في الألفاظ و تضمنت من الفوائد و الحكم في تنظيم النظام ما لا يبلغ به عقول الأنام، و اشتملت على أنحاء من البلاغة ما لا يوجد في أي أثر منقول عن العرب و نحن نذكر بعضا منها:

الأول: الطباق بين القصاص و الحياة فإنّ الأول يفوّت الثاني فهو في مقابلها.

الثاني: فصاحتها في تلائم الألفاظ و عذوبتها و سلامتها و رصانتها في الأسلوب، و الإيجاز في العبارة فقد جمعت بين جمال اللفظ و سموّ المعنى.

الثالث: اشتمالها على جعل الضد متضمنا لضده أي الحياة في الاماتة.

الرابع: تعريف القصاص بلام الجنس ليشمل كل أنواع القصاص من القتل و الجرح و الضرب.

الخامس: تنكير الحياة للإشعار بأنّ في الحكم حياة عظيمة لا يمكن الاستهانة بها، او لأجل أنّ القصاص لم يكن سببا لمطلق الحياة بل لنوع من أنواعها فيكون التنوين فيها إما لأجل التعظيم أو لأجل التنويع.

السادس: جعل القصاص ظرفا للحياة، لبيان أنّ القصاص يحمي الحياة من الآفات، و هذا من غرائب الحكم.

السابع: تقرير أنّ الحياة هي المطلوبة و أنّ القصاص وسيلة إليها و هذا من أسمى الحكم في جعل هذا التشريع.

الثامن: الإطراد في أنّ كل قصاص حياة.

ص: 322

التاسع: اشتمالها على التسلية لأولياء المقتول.

العاشر: اشتمالها على التخويف و الارتداع لمن تسول له نفسه الجريمة.

الحادي عشر: تحريض المجتمع - الذي تقوم به الحياة النوعية - على حفظ الأفراد.

الثاني عشر: خلوّ الآية المباركة من التعقيد و التكرار و الإبهام و غير ذلك مما ذكروه في المأثور عن العرب في المقام.

و هذا نزر يسير مما يمكن ذكره في هذه الآية الشريفة و قد صنف بعض العلماء كتابا في الأنحاء الأدبية لهذه الآية الكريمة، و هو لم يصل إلى الغاية كيف و قد صدرت ممن لا نهاية لكماله، و لهذه الآية وقع في النفوس في مثل المقام فإنّ فيه توطينا على تقبل هذا التشريع الجديد، و إنّ براعتها و عذوبتها لتخفف مما يترتب على هذا الحكم من إزهاق النفوس فسبحان من جلت آلاؤه و بهرت آياته و تمت حكمته.

بحث فقهي:

هذه الآية الشريفة تتضمن من الأحكام ما يلي:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أنّ الحكم الأولي في الجنايات مطلقا هو القصاص و التبديل إلى الدية إنما يكون لجهات أخرى و لفظ «كتب» يشمل الحكم الأولي و الثانوي.

الثاني: إنّها مسوقة لبيان التساوي و التكافؤ بين الدماء خلاف ما كانت عليه العادة في الجاهلية كما تقدم. و قد ذكر فيها بعض الأفراد إلاّ أنّها لا تدل على الحصر فيهم، و قد وردت في السنة الشريفة ما يبين حصول التكافؤ و التساوي في القصاص، و من ذلك التفرقة بين دية الرجل و المرأة و قتل واحد

ص: 323

لجماعة أو بالعكس، و قتل العبد للحر، فإنّ لكل واحد من هذه أحكاما خاصة مذكورة في الفقه مفصلا.

الثالث: إنّ اطلاق قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يدل على القصاص في الجناية، سواء كانت في القتل أو القطع أو الجرح كما هو مفصل في قوله تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة، الآية:

45].

الرابع: إنّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الجناية عمدية أو خطئية و لكنها خصصت بالأولى، لقوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [سورة النساء، الآية: 92].

كما أنّها خصصت بموارد:

منها: قتل الأدب لابنه و إن كان عمديا، للإجماع و النصوص.

و منها: قتل الحر للعبد، إجماعا و نصوصا.

و منها: قتل المسلم للكافر على ما هو المفصل في الفقه، و من شاء فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «في رواية الحلبي في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ .

قال (عليه السلام): «ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية و ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه و يؤدي اليه بإحسان».

و عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ . قال (عليه السلام): «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل فله عذاب أليم، كما قال اللّه عزّ و جل».

ص: 324

أقول: روي مثله في عدة روايات.

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى قال (عليه السلام): «لا يقتل الحر بعبد و لكن يضرب ضربا شديدا، و يغرم دية العبد و إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول ان يقتلوا أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل».

أقول: الحديث يفسر التكافؤ في الدماء و الجراحات، كما هو مفصل في الفقه.

في الإحتجاج عن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قوله تعالى:

وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ : «لكم يا أمة محمد في القصاص حياة، لأن من همّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكفّ لذلك عن القتل كان حياة للذي همّ بقتله، و حياة للجاني الذي أراد أن يقتل و حياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجترءون على القتل مخافة القصاص - الحديث -».

أقول: ذكر أمة محمد من باب ذكر أفضل الأفراد لا التخصيص، لأن الحكم عام للجميع.

و في تفسير القمي قال: «لو لا القصاص لقتل بعضكم بعضا».

و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى : «كان بين حيين من أحياء العرب قتال، و كان لأحد الحيين طول على الآخر فقالوا: نقتل بالعبد منا الحر منكم و بالمرأة الرجل فنزلت هذه الآية».

أقول: تقدم وجه ذلك.

بحث علمي:

ذكرنا أنّ آية القصاص نزلت في قوم كان الانتقام متبعا بينهم بأقبح الصور، فقد كانوا يقتلون لواحد جماعة و ربما قتل الحر بالعبد أو الرجل بالمرأة، و الرئيس بالمرؤوس، بل ربما وقعت حروب و غارات بسبب قتل

ص: 325

حيوان من قوم ذوي منعة و شرف، و كان المناط كله على قوة القبائل و ضعفها، و المتبع هو القتل و الانتقام، و الاقتصاص من دون أن يكون في البين قانون يحدده أو قواعد تهذب تلك العادات كما هي عادة الأقوام البدائية و الشعوب الهمجية.

نزلت آية القصاص و لم يكن أحد يعرف الصلح و الوئام بدل القتل و الانتقام، و كان ذلك تشديدا منهم على أنفسهم؛ كما يستفاد من ذيل الآية الشريفة قال تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ .

و من المعلوم أنه لا ينكر أحد أنّ حب الانتقام طبيعة من طبايع الحيوان فضلا عن الإنسان، و ان دفع التعدي غريزة من غرائزه، و أنّه على ذلك مجبول و مفطور.

كما أنه ليس ثمة من ينكر أن العفو و الرحمة غريزة أخرى من غرائز الإنسان بها يحنو على بني نوعه، و يدفع عن أهله البلاء و يكافح في سبيلهم العيش و الرفاه.

و بحسب تلك الأسس و الغرائز نزلت آية القصاص؛ و قررت تشريع حق الاقتصاص لولي الدم، و أهدرت دم الجاني لولي المجني عليه فقط، و مهدت له السبيل و أمكنته كل التمكين من القصاص بشروط خاصة لإشباع غريزة الانتقام في الإنسان فكان ذلك أول خطوة في تهذيب هذه الغريزة.

لكنه تعالى لم يغفل عن الغريزة الأخرى الكامنة فيه فحبّب اليه العفو بمختلف الأساليب فتارة: رغب اليه العفو بأخذ الدية و أداء اليه بإحسان. و أخرى: بالثواب في الآخرة، و رضاء اللّه تعالى، و العفو و المحبة للمحسنين، قال تعالى: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ [سورة الشورى، الآية: 40]، و قال تعالى: وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 134].

و لقد راعى الإسلام في هذا التشريع جميع من يهمه هذا التكليف القاتل، و المقتول، و وليه، و المجتمع، و الصالح العام، فحكم بالمعادلة بين

ص: 326

القاتل و المقتول، فقال عزّ و جل: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فحفظ بذلك التهجم على الدماء، و وقف الإسراف في القتل.

و اهتم عزّ و جل بالجانب التربوي فحبب إلى الإنسان الرحمة و العطف و رغّب النّاس على نبذ مسلك الانتقام و الوعد لمن راعى هذا الجانب بعظيم الأجر و الإحسان.

و لذلك كان هذا التشريع موفقا كل التوفيق في رفع الخصام، و حلول الصلح و الوئام الذي هو السبب في حفظ الأمن و النظام هذا بالنسبة إلى الإسلام.

أما بالنسبة إلى سائر التشريعات الإلهية فإنّها تختلف بين إثبات تشريع القصاص و الإلغاء؛ ففي التشريع اليهودي اعتبر الحكم في الجنايات هو القصاص و لم يسنّ للعفو و الدية أحكاما إلاّ في حالات معينة راجع ما ورد في التوراة في الفصل الحادي و العشرين، و الثاني و العشرين من سفر الخروج، و الخامس و الثلاثين من سفر العدد، كما حكى عنها القرآن الكريم، فقال تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة، الآية: 48].

و أما التشريع في الدين المسيحي فلا يرى في مورد الجنايات إلاّ العفو و الدية، و ليس للقتل و القصاص فيه سبيل إلاّ في موارد خاصة.

و أما سائر التشريعات، سواء كانت وضعية أو غيرها فهي تختلف في هذا الحكم، و لا يمكن جعلها تحت ضابطة كلية، و إن كانت لا تخلو عن القصاص في الجملة.

و مما ذكرنا يعرف أن الإسلام اختار الطريق الأمثل و سلك مسلكا وسطا بين الإلغاء و الإثبات، فحكم بالقصاص و لكن ألغى تعيينه فأجاز العفو و الدية، و لا حظ جميع جوانب هذا الحكم و أحكمه أشد الأحكام و سدّ باب الجدال و الخصام، و أبطل شبهات المعترضين.

ص: 327

و مع ذلك فقد اعترض على تشريع القصاص في الإسلام خصومه فادعوا انه خلاف إنسانية الإنسان. و أنت بعد الإحاطة بما ذكرناه تعلم أن ما ذكروه في المقام واضح الفساد.

و قد استدل على إلغاء هذا الحكم بأمور هي:

الأول: ان تقرير حق الاقتصاص إقرار للعادات السيئة التي كانت سائدة في الشعوب الجاهلية، و الأقوام البدائية.

و هذا باطل أما أولا: فلأنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو تربية الإنسان تربية صالحة يرفض معها كل ظلم و انتقام، و لم يكن ينظر إلى تقرير عادة أو إبطالها.

و ثانيا: ذكرنا أنّ حب الانتقام غريزة من غرائز الإنسان و الإسلام إنّما أراد تهذيبها و كبح جماحها خلاف ما كانت بين الأقوام وقت نزول القرآن.

و ثالثا: فائدة تشريع القصاص إنّما ترجع إلى الجماعة و الصالح العام شأنه شأن غالب التكاليف الإلهية.

الثاني: إنّ القوانين الوضعية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جواز عقوبة الإعدام مطلقا، و ترفض إجراءها بين البشر معتمدين في ذلك على أنّ القتل مما ينفر عنه الطبع و يستهجنه وجدان كل إنسان.

و أنّ القتل على القتل يكون فقدا على فقد.

و أنّ القتل بالقصاص فيه من القسوة و الانتقام زيادة على نفس القتل الواقع من الجاني و لا بد من إزالة هذه الصفة من بين الناس بالتربية العامة و عقاب القاتل بما هو أدون كالسجن و الأعمال الشاقة.

الثالث: إنّ المجرم إنّما يكون مجرما و أقدم على الجريمة لأجل عذر له إما للجهل أو عدم التربية الصالحة، أو لمرض عقلي فيجب في هذه الحالة علاجه إما بالتربية الصالحة أو معالجة مرضه.

و إنّ إبقاء الفرد الجاني أولى من إفنائه لأنّ في إبقائه منفعة للمجتمع و لا ملزم لأن نقبل عقوبة القصاص إلى الأبد فيعاقب الجاني بما يعادل القتل، و في

ص: 328

نفس الوقت نستفيد منه فيكون توفيقا بين حق المجتمع و حق أولياء الدم، و غير ذلك من الوجوه. و لأجل ذلك عدلت القوانين الوضعية عن القصاص و القتل إلى عقوبات أخرى لردع الجناة أشدها عقوبة الحبس؛ سواء كان محدودا بوقت أو غير محدود به مع الأشغال الشاقة مثلا.

و لكن كل ذلك باطل أما أولا: فلأنّ في تشريع القصاص تهذيبا للطبيعة الإنسانية في حب الوجود و ملاحظة الجانب التربوي في هذا التكليف، بل جميع تكاليف الإسلام و قوانينه إنما وضعت لأجل ذلك، و لذلك حث على العفو، و لم يكن الإسلام ليمنع من رفع هذه العقوبة بعد التربية الصالحة و إعداد الأفراد في صالح المجتمع، و نبذ التخاصم و الانتقام، و الأمم الراقية إنما ذهبت إلى ذلك بعد جهد جهيد في تربية الأفراد و تنفير القتل بينهم، و هذا شيء حسن لم ينكره أحد، و هو مما يريده الإسلام كما تشير اليه نفس الآية الشريفة.

و ثانيا: فلأنّ الإسلام إنّما لا حظ في هذا التشريع الصالح العام و مصالح النوع كما هو شأن كل قانون، سواء كان إليها أو وضعيا، و يعتبر أن الاعتداء على فرد كالاعتداء، على الأمة، قال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً [سورة المائدة، الآية: 32]، و لا ريب أن الدفاع عن الأمة و الجماعة أمر غريزي، و لذا نرى أن الأمة تهبّ في دفع الأعداء و من يريد إهلاكهم فلا يتوقفون عن الدفاع عن أمتهم فكيف يمكن القول بالرأفة في هذه الحالة فهل تقبل الطبيعة الإنسانية مثل هذه الرأفة في هذه الحالة؟! بل لا تكون الرأفة إلاّ إبادة للأمة و اختلالا للنظام.

و ثالثا: فلأنّ ما ذكروه في تبرير قتل القاتل إنّما هو في الحقيقة تبرير لتطبيق قانون العقوبة، لا أنّه عيب في نفس القانون كم فرق بينهما؛ مع أنّ الإسلام قد لاحظ جميع الخصوصيات في القتل، كما هو مفصل في الفقه، فلا يبقى عذر بعد ملاحظة ذلك، مع أنّ ذلك تلقين للمجرم، و إعطاء السلاح بيد المجرم كما يقال.

ص: 329

و أخيرا إنّ تبديل هذه العقوبة إلى عقوبة أخرى أنفع للمجتمع و للفرد، فإنّه يسأل منهم هل كانت هذه العقوبات ناجحة في ذلك؟! و هل رفعت الفساد الأخلاقي؟!! و هل كان الحبس مطلقا ناجحا في رفع المشكلات و تقويض الجنايات؟! مع أنّ الملاحظ يعترف أنّه قد أدى تطبيق هذه العقوبة إلى نتائج خطيرة و جلبت مشاكل دقيقة:

منها: قتل الشعور بالمسؤولية في نفوس المجرمين، و أنّها سببت زيادة في سلطان المجرمين و إفسادا للمسجونين، و أوجبت انعدام قوة الردع إلى غير ذلك من المشاكل، و بعد ذلك كله فهل يمكن الاستفادة من المجرمين؟! و لعمري انه لا يمكن تفضيل أي قانون على القانون الإسلامي لما عرفت من أنه يراعى فيه جميع جوانب الحياة، و ما أورد عليه يكون من قبيل الشبهة في البديهيات، قال تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ [سورة الحج، الآية: 46].

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتّ.......

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الآية تبين حكما قد لوحظ فيه الجانب المادي و الاجتماعي، و لذا أكد عزّ و جل عليه، و أوعد على من يبدله، و أمر بإصلاحه إن كان فيه الانحراف، و يناسب هذا الحكم ما تقدم في الآيات السابقة باعتبار أنّ القصاص يوجب إزهاق الروح، و إنّ الوصية توجب استمرارية التصرف لما بعد الموت.

التفسير

قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ . المراد بالكتابة هنا الثبوت الشرعي، و هو أعم من الوجوب و الندب و تستعمل في كل منهما مع

ص: 330

القرينة، و المنساق في المقام عدم الوجوب بقرينة كون الوصية للوالدين و الأقربين من أنحاء البر. نعم لو كان المورد واجبا كالديون المالية تكون الوصية واجبة، كما قرر في الفقه مفصلا.

و مادة حضر تأتي بمعنى وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك بإحدى الحواس، و هي من الصفات ذات الإضافة المتقومة بأكثر من واحد. و يعم استعمال هذا اللفظ بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و الخالق و المخلوق فإن من أسماء اللّه الحسنى [حاضر] فهو تعالى حاضر لدى الخلق بالحضور الإيجادي الإحاطي، كما أن الخلق حاضر لديه تعالى بالحضور العلمي. و قال تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ [سورة النساء، الآية: 128]، و قال تعالى: فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [سورة يس، الآية: 53]، و قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [سورة آل عمران، الآية: 30].

و لو قيل إنّ الحضور بمعناه العام الشامل لجميع الموجودات - من الجواهر و الأعراض و الواجب و الممكن - هو شعاع من حضور الأحدية المطلقة فيما سواها لكان حقا، فالكل منه تعالى و الجميع يعود إليه عزّ و جل، و لعلنا نتعرض لهذا البحث النفيس في ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و المراد من حضور الموت حصول موجباته التي ليس لها حد محدود.

و قد نسب الحضور إلى الموت في هذا المقام، و الآيات التي ذكر فيها حضور الموت و لم ينسب إلى الشخص، و لعله لعدم تهيئة النفوس و استعدادها له، أو لعدم أنسها به كما هو الشأن بالنسبة إلى أولياء اللّه تعالى،

فقد نسب إلى علي (عليه السلام) انه قال: «و اللّه ان ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ما يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه».

قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ الخير معروف أي كل ما فيه نفع، و هو من الأمور النسبية الإضافية التشكيكية، و له مراتب كثيرة.

و المراد به كل ما فيه النفع عينا كان أو منفعة، و لكن نسب إلى

ص: 331

علي (عليه السلام) أنه فسره بالمال الكثير في المقام، و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ . فإن الوصية لهم تقتضي عادة أن يكون المال كثيرا دون المال القليل أو مطلق ما فيه النفع، فإنّ النّاس لا يهتمون بذلك، فما قاله علي (عليه السلام) من باب تعدد الدال و المدلول، لا أن يكون معنى لغويا.

و قوله تعالى: لِلْوالِدَيْنِ أي بما هما والدان لا باعتبار الاجتماع كما أن قوله تعالى: وَ اَلْأَقْرَبِينَ باعتبار النّاس لا التقييد بالجمع.

و تقدم معنى الوصية في قوله تعالى: وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [سورة البقرة، الآية: 132].

المعروف: هو العدل، و عدم الإفراط و التفريط في كل من الموصى اليه بأن لا يرجح أحدا على احد، و الموصى به بأن لا يكون مجحفا بالورثة أو قليلا يوجب الاستخفاف.

قوله تعالى: حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ . حقا منصوب على المصدر المؤكد، أو على تقدير الفعل أي يحق ذلك حقا، أو حال من الوصية و هو تأكيد للكتابة.

و ذكر المتقين لبيان أنّ التقوى هي موضوع كل عمل ينتفع به في الآخرة لا لتخصيص الوصية بهم فقط.

قوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ . التبديل التغيير مطلقا و يشمل الإنكار و الكتمان بالأولى. و الضمير في إثمه راجع إلى التبديل و سائر الضمائر إلى الوصية، و هي مصدر يجوز فيه الوجهان أو إلى الإيصاء المدلول عليه بذكر الوصية.

و المراد من قوله عزّ شأنه بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي من بعد ما تمت عنده الوصية و لو بالبينة.

قوله تعالى: فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ . أي أنّ الإثم المترتب على التبديل و المخالفة على الذين يبدلونه، و أما الموصي فقد خرج عن

ص: 332

العهدة و ثبت له الأجر. و فيه التفات من الأفراد، لبيان تعميم الإثم للمباشر للتبديل، و كل من يرتب عليه الأثر بالقول أو العمل؛ فيكون كالربا الذي لعن اللّه دافعه، و آخذه، و شاهده و كاتبه. أو كالخمر التي لعن اللّه شاربها، و صانعها، و غارسها. و بالجملة، التبديل سواء كان فرديا، حدوثا و بقاء، أو كان جميعا حدوثا و فرديا بقاء، أو بالاختلاف. و سواء كان بالقول أو بالعمل كل ذلك حرام يشمله إطلاق الآية الشريفة.

و إنما ذكر تعالى: عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ و لم يقل عليهم للاعلام بأن سبب الإثم إنما هو التبديل، و ترتيب الأحكام التالية.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . أي: إنّ اللّه سميع بإيصاء الموصين، عليم بتبديل المبدلين و فيه من الوعد للموصين، و الوعيد للمبدلين.

و قد جمع تعالى بين السمع و العلم اهتماما بهذا العمل الذي هو آخر ما يفعله العبد في هذه الدنيا و للإعلام بأن الموصي و إن لم يكن حاضرا و لكن اللّه تعالى عالم بالوصية رقيب عليها.

و في الآية إشارة إلى انه تعالى عالم بالجزئيات كما أنه عالم بالكليات.

قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً . الجنف هو الانحراف و الميل من الإستواء و الاستقامة إلى الخلاف، أو الميل عن الحق إلى الباطل فيشمل الظلم في الحكم، و لم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلاّ في موردين: أحدهما في المقام، و الثاني في قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ [سورة المائدة، الآية: 3].

و عن الخليل إن الجنف الميل عن الحق إلى الباطل في الحكم، و الحيف مطلق الميل عن الحق إلى الباطل في كل شيء.

و من مقابلة الجنف مع الإثم يستفاد أنّ الميل عن الحق إلى الباطل قسمان: قسم فيه إثم، و هو ما إذا كان الميل عن تقصير؛ و قسم آخر لا إثم فيه، و هو ما إذا كان ذلك عن قصور، كالجهل و نحوه.

و المراد بالخوف هنا الاطمينان بوقوع المخوف من باب ذكر اللازم

ص: 333

و إرادة الملزوم و هو كثير في كلام الفصحاء.

و الخطاب متوجه إلى أولياء الأمور، و مع العدم أو القصور فإلى حكام الشرع، أو يقال: إنّ الخطاب موجه إلى كل من يعرف حال الوصية، سواء أ كان من الورثة أم من غيرهم.

و الآية متفرعة على الآية السابقة فإنّه لما حكم تعالى بالإثم على كل من بدّل الوصية استثنى منه حالة، و هي ما إذا كانت الوصية خارجة عن المعروف، و فيها الجنف أو الإثم، فيجوز التبديل للإصلاح و إزالة التنازع، فلا إثم في هذه الحالة.

قوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . أي: إذا عرف كمال الوصية فأصلحها بتبديل الجنف و الإثم حسب الموازين الشرعية فلا إثم عليه؛ لأنه من تبديل الباطل إلى الحق، و إزالة المفسدة بالمصلحة و الإصلاح بين حق الموصى له و الموصي و الورثة. و من كان صالحا في قصده و مصلحا في فعله فلا إثم عليه.

و ذكر تعالى الصلح للدلالة على الترغيب و التحريض اليه و هو مما يحكم بحسنه العقل و الفطرة، فاكتفى برفع توهم الحظر، لأن جهة الوجوب في مثل هذه الحالة معلومة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . للمذنبين، و هو عام يشمل الإثم الواقع في أصل الوصية التي تحقق فيها الجنف، و إثم الإصلاح و التبديل في الوصية، فانه يكون بمنزلة التوبة فاللّه يغفر للمصلح، و للموصي و يثيبه على عمله.

بحوث المقام

بحث علمي:

المشهور بين العلماء أن قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ يدل على وجوب الوصية، و أن لسان الآية لسان الوجوب، ثم قالوا إنها منسوخة بآية المواريث، و هي قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ [سورة النساء، الآية: 11]، فان الأخيرة نزلت بعد الأولى، و بالسنة

ص: 334

المشهور بين العلماء أن قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ يدل على وجوب الوصية، و أن لسان الآية لسان الوجوب، ثم قالوا إنها منسوخة بآية المواريث، و هي قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ [سورة النساء، الآية: 11]، فان الأخيرة نزلت بعد الأولى، و بالسنة

فقد ورد في الحديث: «لا وصية لوارث».

و ذكر بعضهم أنها لو كانت منسوخة فالمنسوخ إنما هو الفرض دون الندب و أصل المحبوبية.

و ذكر بعض آخر أن الوجوب المذكور في الآية الشريفة كان في بدء الأمر و أوائل تغيير الشريعة لمواريث الجاهلية، فالحكمة اقتضت ان يكون التغيير تدريجيا بنحو الوصية أولا ثم بأحكام المواريث.

و الحق أن يقال: إنّ آية الوصية غير منسوخة بشيء لا بآية المواريث، و لا بالنسبة الشريفة، و آية الوصية تدل على محبوبيتها، و الكتابة يراد بهاهنا مطلق الثبوت الأعم من الوجوب و الندب، كما ذكرنا، فقد تكون الوصية واجبة كما في الوصية بالحقوق الواجبة. و قد تكون مندوبة كما في الوصية بالتبرعيات، و في الأخيرة يشترط أن لا تكون أكثر من ثلث المال، و في الأولى لا يشترط فيها ذلك بل لا بد و أن تخرج من جميع المال، و لا ربط لآية الإرث بآية الوصية و هما موضوعان مختلفان فأين يتحقق النسخ؟ مع أنّ الإرث متأخر عن الدين و الوصية.

و ما ذكروه من تأخر آية الإرث عن آية الوصية فتكون منسوخة.

ففيه أولا: أنه لم يثبت ذلك.

و ثانيا: على فرض الثبوت لا فرق بين الناسخ و المنسوخ في المتقدم و المتأخر بينهما، كما تقدم في بحث النسخ.

و أما الاستدلال بالسنة على نسخ آية الوصية.

ففيه: أولا: عدم ثبوته، كما ذكر جمع من علماء الفريقين.

و ثانيا: أن

حديث: «لا وصية لوارث» يمكن حمله على أنه لا وصية لوارث إذا كان أكثر من الثلث.

ص: 335

و الحاصل: أن آية الوصية غير منسوخة بشيء. نعم بين أحكام المواريث و الأحكام المتعلقة بالوصية جهات لا بد من مراعاتها كما هو مفصل في الفقه.

بحث فقهي:

يستفاد من الآية أمور:

الأول: تدل الآية على رجحان الوصية و الاهتمام بها و قد أكد تعالى عليها بأنحاء التأكيد، كما ورد في السنة المقدسة أيضا، و لا بد أن يراعى فيها جميع الشروط المذكورة في الكتب الفقهية، منها العدل و المعروف، و عدم الإضرار بالورثة كما يستفاد من قوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ .

الثاني: أنّ الوصية في الآية الشريفة هي الوصية التمليكية لما ذكر فيها الخير. و أما الوصية العهدية فلا يشترط فيها وجود المال، بل يكفي فيها وجود نفع للموصي.

الثالث: إطلاق الآية الشريفة يشمل الوصية بالقول، أو الكتابة أو الإشارة المفهمة مع العذر.

الرابع: تدل الآية على عدم تقوم الوصية بالوصي بل تتحقق بدونه، و المعتبر إنفاذ الوصية و لو من قبل الحاكم الشرعي.

الخامس: يستفاد من الآية الشريفة حرمة التبديل و أنه من الكبائر و قد دلت عليه نصوص خاصة.

السادس: يمكن أن يكون الإذن في الإصلاح من باب الإرشاد إلى الحكم إن كان الموصي جاهلا بالحكم، و يصح أن يكون من باب النهي عن المنكر ان كان عالما به، و يصح تصديه من كل أحد يعرف الحكم. و لا بد أن يكون هذا الإصلاح مطابقا للموازين الشرعية، و الا فلا يجوز،

فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصلح جائز بين المسلمين ما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا».

ص: 336

بحث روائي:

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «الوصية حق و قد أوصى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فينبغي للمسلم أن يوصي».

أقول: الروايات في استحباب الوصية و رجحانها كثيرة، و في بعض الروايات

عن علي (عليه السلام): «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية». و المراد بالمعصية مطلق العمل المرجوح لا العصيان الموجب لاستحقاق العقاب.

و في الكافي أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن الوصية للوارث، فقال (عليه السلام): تجوز ثم تلا هذه الآية: إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ».

أقول: قد روي قريب من ذلك في عدة روايات.

و في الفقيه عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ . قال (عليه السلام): «هو شيء جعله اللّه عزّ و جل لصاحب هذا الأمر قلت: فهل لذلك حد؟ قال (عليه السلام): نعم. قلت: و ما هو؟ قال (عليه السلام): أدنى ما يكون ثلث الثلث».

و مثله في تفسير العياشي إلاّ أن فيه أدناه «السدس و أكثره الثلث».

أقول: المستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ الوصية في قوله تعالى تشمل وصية السابق للاحق بأصول الإعتقاد بذوي القربى، كما في قوله تعالى: وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ و حيث لا نبوة بعد نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فتكون الوصية حينئذ بالنسبة إلى ذوي قرباه.

و أما تفسير المال بالسدس، أو الثلث، و هو أيضا صحيح من باب تطبيق الكلي على بعض المصاديق، و الا فقد ورد في روايات أخرى أن أدناه الربع. و ليس ذلك في مقام التحديد و الحصر، بل المراد بيان أنّ المال

ص: 337

الموصى به يكون معتنى به في الجملة، كما ذكرنا في التفسير.

و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ . قال (عليه السلام): «هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هو المواريث».

أقول: يمكن أن يحمل النسخ في المقام على غير معناه الاصطلاحي كما يمكن أن يحمل على نسخ بعض مراتب الإلزام، دون أصل الرجحان أو الوجوب في مورد وجوب الوصية كما في الوصية بالديون.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ : إنما هي منسوخة بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

أقول: تقدم وجه ذلك.

في تفسير القمي أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إذا أوصى بوصية فلا يحل للوصي أن يغير وصيته، بل يمضيها على ما أوصى، إلاّ أن يوصى بغير ما أمر اللّه فيعصي في الوصية و يظلم، فالموصى اليه جائز له أن يرده إلى الحق. مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته و يحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق، و هو قوله تعالى: جَنَفاً أَوْ إِثْماً . فالجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، و الإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران، و اتخاذ المسكر، فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك».

أقول: ما ذكر في بيان الجنف و الإثم من باب ذكر بعض المصاديق، كما هو معلوم. و يستفاد من لفظ «فأصلح» الوارد في الآية الشريفة أنّ كل ما يكون خلاف الصلاح الشرعي يجري عليه حكم الجنف.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «في رجل أوصى بماله في سبيل اللّه، فقال (عليه السلام): أعطه لمن أوصى به له و إن كان يهوديا أو نصرانيا إنّ اللّه تعالى يقول: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ».

ص: 338

أقول: الروايات في ذلك كثيرة، و لا بد من تقييدها بما إذا لم يكن صرف المال إليهم من الصرف إلى المحرم، كما يظهر من سائر الروايات.

في تفسير العياشي عن محمد بن سوقة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ . قال (عليه السلام): «نسختها التي بعدها، و هي قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني: الموصى اليه إن خاف جنفا من الموصي في ولده في ما أوصى به اليه في ما لا يرضى اللّه به من خلاف الحق فلا إثم عليه، أي على الموصى اليه أن يبدله إلى الحق، و إلى ما يرضى اللّه به من سبيل الخير».

أقول: المراد بالنسخ التقييد، لا النسخ الاصطلاحي.

في العلل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . قال (عليه السلام): «يعني: إذا اعتدى في الوصية».

أقول: و مثله في تفسير العياشي إلاّ أن فيه «و زاد على الثلث». و ما ورد في الروايتين من باب ذكر بعض مصاديق الجنف، و ليس من جملتهما ما إذا لم يمض الورثة ما زاد عن الثلث، و إلاّ فلا إثم حينئذ.

و في المجمع: «الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري انه يجوز، قال: روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام).

أقول: هذا لا إثم فيه إن كان خطؤه مع قصور، و أما إذا كان مع التقصير فيكون مثل الرواية الآتية.

في الفقيه أيضا عن علي (عليه السلام): «أنّ الجنف في الوصية من الكبائر».

أقول: يستفاد ذلك من عدة روايات. و اللّه العالم.

ص: 339

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.