مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي انزل القرآن شفاء و رحمة للمؤمنين؛ و جعله في لوح محفوظ لا يمسّه الاّ المطهّرون. لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ فيه تفصيل كلّ شيء و هدى و رحمة لقوم يؤمنون، و جعله من أعظم مواهبه على عباده.

و الصّلاة و السّلام على من اعطي السّبع المثاني و القرآن العظيم الّذي فرّق اللّه عليه قرآنه ليقرأه على النّاس على مكث؛ النّبيّ الأميّ الّذي هو غاية نظام التّكوين، و مكمّل ما انزل من المعارف على الأنبياء و المرسلين محمّد ابن عبد اللّه سيّد ولد آدم و خاتم النّبيّين الّذي أرسله اللّه رحمة للعالمين، و تشرّفت به السّماوات و جميع الرّوحانيّين.

و على آله الّذين رفعوا بهممهم العالية أعلام الدّين، و شرعوا نهج الهدى للقاصدين؛ حماة معالم الشّرع المبين، و محيي مآثر النّبيّين، الّذين قرنهم اللّه بالكتاب المبين، أئمّة الهدى و قادة أهل الدّين.

و على أصحابه الّذين آمنوا به و عزّروه و نصروه و اتّبعوا النّور الّذي انزل معه، الّذين أبلوا البلاء الحسن في نصرته و إقامة دينه.

و بعد فقد شملتني عنايته تعالى لتفسير هذا الكتاب العظيم الذي عجزت العقول عن درك كنهه، فكما أن ظاهر لفظه: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فحقائقه و رموزه أولى أن تكون كذلك، ففي كل سورة منه بحار من المعارف، و يتجلى من كل آية منه أنوار من الحقائق، و كيف لا يكون كذلك و قائله لا نهاية لعلمه و كماله و لا حدّ لعظمته و جلاله و ما حصل من التحديدات إنما هو من مقتضيات الاستعدادات لا أن يكون تحديدا فيه.

ص: 5

و بعد فقد شملتني عنايته تعالى لتفسير هذا الكتاب العظيم الذي عجزت العقول عن درك كنهه، فكما أن ظاهر لفظه: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فحقائقه و رموزه أولى أن تكون كذلك، ففي كل سورة منه بحار من المعارف، و يتجلى من كل آية منه أنوار من الحقائق، و كيف لا يكون كذلك و قائله لا نهاية لعلمه و كماله و لا حدّ لعظمته و جلاله و ما حصل من التحديدات إنما هو من مقتضيات الاستعدادات لا أن يكون تحديدا فيه.

و قد ظهر لي بعد مراجعتي لجملة من التفاسير أنه فسر كل صنف من العلماء القرآن بما هو المأنوس عندهم، فالفلاسفة و المتكلمون فسروه بمذهبهم من الآراء الفلسفية و الكلامية و العرفاء و الصوفية على طريقتهم و الفقهاء همهم تفسير الآيات الواردة في الأحكام و المحدثون فسروه بخصوص ما ورد من السنة الشريفة في الآيات كما أن الأدباء كان منهجهم الاهتمام بجهاته الأدبية دون غيرها و العجب إنه كلما كثر في هذا الوحي المبين و النور العظيم من هذه البيانات و التفاسير فهو على كرسي رفعته و جماله، و يزداد على مرّ العصور تلألؤا و جلالا.

و قد فسر نفسه بنفسه، لأنه تبيان كل شيء فإذا كان كذلك فأولى أن يكون تبيانا لنفسه مستدلا لذلك بما ورد من السنة النبوية و المأثور عن آله الذين قرنهم النبي (صلى اللّه عليه و آله) بالكتاب و جعلهم الأدلاء عليه فجمعت بينهما و بين ما اتفق عليه الجميع مع تقرير الشريعة له، و قد بذلت جهدي في عدم التفسير بالرأي مهما أمكنني ذلك تأسيا

بقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ» و قد ذكرت ما يمكن أن يستظهر من الآيات المباركة بقرائن معتبرة فإن هذا الحديث الشريف لا يشمله إذ التفسير بالرأي غير الاستظهار من الآيات المباركة بالقرائن.

و تركت التعرض للتفاسير النادرة و الآراء المزيفة و الفروض التي تتغير بمرور الزمان.

و كان منهجنا في التفسير أولا: التعرض في تفسير الآية لمضمونها و بيان مفرداتها ثم ما يتعلق بها من المباحث. و قد ذكرت فيها المبحث الدلالي

ص: 6

و أردت منه المعنى العام مما تشير إليه الآية المباركة من الدلالات الظاهرة أو الدقائق العلمية أو غيرها.

و ثانيا: لم أتعرض لبيان النظم بين الآيات و ذلك لأن الجامع القريب في جميعها موجود و هو تكميل النفس أو الهداية و مع وجوده لا وجه لذكر النظم بين الآيات لأن الغرض القريب بنفسه هو الجامع و الرابط بين الآيات، كما اني لم أهتم بذكر شأن النزول غالبا لأن الآيات المباركة كليات تنطبق على مصاديقها في جميع الأزمنة فلا وجه لتخصيصها بزمان النزول أو بفرد دون فرد آخر و كذلك جميع الروايات الواردة عن الأئمة الهداة في بيان بعض المصاديق لها فهو ليس من باب التخصيص بل من باب تطبيق الكلي على الفرد كما ستعرف ذلك كله إن شاء اللّه تعالى.

و ثالثا: احترزت عن ذكر العبارات المغلقة و الألفاظ الصعبة أو التفصيل الزائد عن الحد و حاولت أن أبين المعنى بأسهل الألفاظ و الكلمات حتّى يعم النفع للجميع و تتم الحجة به عليهم.

و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.

النجف الأشرف.

عبد الأعلى الموسوي السبزواري

ص: 7

ص: 8

سورة فاتحة الكتاب

اشارة

و هي سبع آيات

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (1) هذه الآية المباركة بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ تشتمل على كثير من المعارف الإلهية لا سيّما الصفات الرا

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (1) هذه الآية المباركة بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ تشتمل على كثير من المعارف الإلهية لا سيّما الصفات الراجعة إلى ذات الباري عزّ و جل و في اختيار صفتي الرحمن الرحيم ما فيه من البشارة للإنسان من كونه مورد رحمته و عطفه تعالى مهما تعددت أسباب الشر و قويت، و فيها إرشاد إلى تعليم الإنسان لتوخّي الرحمة و المودة في أفعاله و جعل نفسه من مظاهر رحمته تعالى ليعرف أنّه مؤمن باللّه تعالى، و أن لا يعتمد على نفسه مهما بلغ من الكمال لأنّه المحتاج بعد، بل لا بد له من إيكال أمره إلى الغني المطلق.

التفسير

قوله تعالى: بِسْمِ اَللّهِ . ال (باء) للاستعانة، لأنّ الإنسان مفتقر بذاته، و المحتاج المطلق لا بد أن يستعين في جميع شؤونه بالغنيّ المطلق الذي هو اللّه تعالى، فالممكنات في ذاتها و عوارضها و حدوثها و بقائها محتاجة إليه فهي بلسان الحال تستعين به تعالى، فقدّرت الاستعانة في المقال تطبيقا بين لساني الحال و المقال.

و جعل المتعلّق كل ما يفعل بعد البسملة و إن كان صحيحا لا بأس به و لكن كون المتعلق هو الاستعانة يدل عليه أيضا بالملازمة، فإنّ الاستعانة

ص: 9

المطلقة به تعالى تستلزم الاستعانة في كل فعل يؤتى به خصوصا ما يؤتى به بعد البسملة، كما أنّ كون المتعلّق هو الفعل الخاص مثل القراءة في المقام يستلزم تحقق الاستعانة المطلقة أيضا، إذ المراد القراءة مستعينا به لا القراءة المطلقة و لو بلا استعانة و رعاية منه تعالى، فيكون الفرق بينهما كالفرق بين الطبيعي و الفرد في أنّ تحقق كل منهما خارجا يستلزم تحقق الآخر بل هو عينه.

(اسم): أصله من السمو - مخففة - بمعنى الرفعة و منه السماء، و يصح أن يكون اشتقاقه من السمة بمعنى العلامة. و الهاء عوض الواو فيكون أصله الوسم، فالوسم و الوسام و الوسامة بمعنى العلامة. و الهمزة: همزة وصل على التقديرين، و يصح الاشتقاق من كل منهما، لأنّ التبديل و التغيير في حروف الكلمة جائز ما لم يضر بالمدلول إلاّ أن يكون اللفظ بخصوص شخصه سماعيا؛ و من وقوع التغيير و التبديل في هذا اللفظ في الاشتقاقات الصحيحة و سهولة لغة العرب نستفيد صحة ما تقدم.

و يصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: و هو البروز و الظهور، لأنّ الرفعة نحو علامة، و العلامة نحو رفعة لذيها، و هما يستلزمان البروز و الظهور. و دأب اللغويون و الأدباء و تبعهم المفسرون على جعل المصاديق المتعددة مع وجود جامع قريب من مختلف المعنى، مكثرين بذلك من المعاني غافلين عن الأصل الذي يرجع الكل إليه، فكان الأجدر بهم بذل الجهد في بيان الجامع القريب و الأصل الذي يتفرع منه، حتّى يصير بذلك علم اللغة أنفع مما هو عليه، و لذهب موضوع المشترك اللفظي و غيره من التفاصيل إلاّ في موارد نادرة. و لعل سبب إعراضهم عن ذلك هو أنّ ذكر اللفظ و بيان موارد استعمالاته سهل يسير بخلاف الفحص عن الجامع و تفريع ألفاظ منه.

ثم إنّ لفظ الاسم: اسم جنس لأسماء غير محصورة تحدث و تزول على مر العصور في ألفاظ و لهجات غير متناهية.، و هذا من اللايتناهى الذي اتفق الفلاسفة على صحته و اصطلح القدماء منهم عليه ب «اللايتناهى اللايقفي»

ص: 10

و لشرحه موضع آخر يأتي عند قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [سورة الروم، الآية: 23] إن شاء اللّه تعالى.

و لفظ الاسم هنا واسطة محضة لاسم اللّه تبارك و تعالى لا أن يكون له موضوعية خاصة فيكون مما به ينظر لا مما إليه ينظر كما هو الشأن في جميع الأسماء إلاّ أنّ فيها واسطة لتعرّف المعنى و هنا واسطة لتعرف اللفظ أي «اللّه».

و على أية حال سواء كان الاسم من الوسم واقعا بمعنى العلامة، أو من السمو بمعنى الرفعة، ففي ذكر البسملة يكون إظهار لإضافة العبد نفسه إليه تعالى إضافة تشريفية بذكر اسمه تعالى، و رفعة لمقام العبد به، و ذكر الاسم في غيره تعالى علامة للمعنى المراد و إخراجه عن الخفاء إلى البروز و الظهور.

و لا ريب في أنّ الاسم عرض قائم بالغير سواء أريد لفظ - أ س م - أو مدلوله اللفظي - كلفظ [كتاب] - مثلا، و ما أطيل فيه قديما من أنّ الاسم عين المسمى أو غيره قد ظهر في الفلسفة المتعالية بطلانه.

و في تخلل لفظ الاسم بين حرف [الباء] و لفظ الجلالة إشارة إلى أنّ ما هو حد الإدراك للإنسان إنّما هو ذكر اسمه تعالى و الإعتقاد به مشيرا من حيث الإضافة إلى الذات لا أن يحوم أحد حول كشف الحقيقة و الذات فإنّها لن تدرك لغيره تعالى. و أما قوله تعالى: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ [سورة العلق، الآية: 2] مخاطبا نبيّه (صلّى اللّه عليه و آله) حيث ذكر الاسم فيه أيضا فهو لأجل تعليم الغير لا بالنسبة إلى مقام النبي الجامع من الحقائق كنوزها و الحاوي لدقائق رموزها.

ثم إنّه قد ذكرت هذه الكلمة - اسم - في القرآن الكريم مفردة و مجموعة، مضافة إلى اللّه تعالى، و إلى الرب، و إلى الضمير الراجع إليه تعالى، و موصوفة. فقال تعالى: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة الأعراف:، الآية: 180]. و في الكل مقرونة بالتعظيم و التجليل، و قد كثرت استعمالات هذه الكلمة في الآثار الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أئمة الهدى (عليهم السّلام) في دعواتهم مع اللّه تعالى:

باسمك

ص: 11

العظيم و

اسمك الأعظم و

باسمك الأعظم الأعظم. و المراد بالعظيم: ما أذن اللّه تعالى لخلقه أن يدعوه به، كجميع أسمائه تعالى. و المراد بالأعظم: ما هو مستور عن خلقه و لكنّه تعالى أذن لبعض أحبائه أن يدعوه به، و أما الأعظم الأعظم فهو: ما استأثره لنفسه و لم يظهره لأحد غيره.

اللّه: أجل لفظ في الممكنات كلها، لأعظم معنى في الموجودات جميعها. بهت في عذوبة لفظه كل سالك مجذوب، و تحيّر في عظمة معناه جميع أرباب القلوب، تتدفق المحبة و الرأفة عن الاسم فكيف بالمعنى، فكأنّ نفس المعنى يتجلّى فيه و يقول: إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا [سورة طه، الآية: 14] جمعت فيه من الكمالات حقائقها و من الألطاف و العنايات دقائقها و رقائقها، تطلبه الملائكة الكروبيون كما يطلبه أهل الأرضين و الكل لا يصل إليه، ظهر لغيره بالآثار و خفي عن الجميع بالذات، فما أعظم شأنه فقد عجزت العقول - و إن قويت فطنتها - عن درك أفعاله فضلا عن صفاته فكيف بذاته، فكلّما زاد الإنسان تأملا فيه زيد تحيرا و جهلا. فسبحان الذي اكتفى بالتحيّر في الذات و الصفات و الأفعال عن التعمق فيها لعلمه الأزلي بعدم قدرة ما سواه على ذلك أو لعدم لياقة جملة من العقول به.

ثم إنه قد ذكر أهل اللغة أنّ [اللّه] اسم جنس للواجب بالذات و لكنه منحصر في الفرد كالشمس و القمر و نحوهما و تبعهم فيه جمع من المفسرين. و هو غير صحيح عقلا لأن المتفرد بذاته في جميع شؤونه و جهاته و البسيط فوق ما نتعقله من معنى البساطة كيف يقال في اللفظ المختص به إنه اسم جنس (عام)؟! و قد ثبت في الفلسفة الإلهية المتعالية أن الكلية و الجزئية و الجنسية و نحوها من شؤون المفاهيم الممكنة و ذاته الأقدس فوق ذلك مطلقا فلا يصح اطلاق اسم الجنس على اللفظ المختص به تعالى.

نعم لو أراد القائل بأنّه اسم جنس على نحو الجنسية الوجودية أي: السعة الوجودية بالعنوان المشير إلى الذات لا الجنسية الماهوية لكان له

ص: 12

وجه لطيف و لكنهم بمعزل عن ذلك. نعم ربما يطلق الإله على غيره تعالى إطلاقا اعتقاديا باطلا، كقول فرعون: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [سورة القصص، الآية: 38]، و قوله تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [سورة ص، آية: 5].

كما أن القول بأن (اللّه) اسم جنس باطل من جهة العلوم الأدبية أيضا لعدم وقوعه صفة و وقوعه موصوفا دائما فلا يصح أن يكون اسم جنس بل هو علم مختص لواجب الوجود بالذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية لظهور آثار العلمية فيه على ما هو المعروف بين الأدباء.

و نظير ذلك ما ذكروا أنه مشتق من وله بمعنى تحير، أو من أله بمعنى تعبد. لتعبد الكل له تكوينا أو اختيارا، و تحيرهم فيه.

و هذا أيضا مردود أولا بأن التحير و التعبد عنوان وصفي فلا يصح أن يؤخذ في ما هو اسم للذات المتصف بجميع صفات الجمال و الكمال و الجلال. و ثانيا بما

رواه ابن راشد في الصحيح عن موسى بن جعفر (عليه السلام): «سئل عن معنى اللّه تعالى فقال (عليه السلام): استولى على ما دق و جل» فإن الحديث ظاهر في أن لفظ (اللّه) غير مشتق من أله و وله بل هو اسم جامد بمعنى القيّومية المطلقة على ما سواه.

فالحق ما نسب إلى الخليل اللغوي و غيره من أن لفظ الجلالة بسيط و ليس بمشتق، و اللام جزء اللفظ، و أنّ الواضع له هو اللّه تعالى بل جميع أسمائه عرفت بتعليمه عزّ و جل فهو المعرّف فيها و المعرّف بها و يشهد له

قول الصادق (عليه السّلام): «اعرفوا اللّه باللّه».

إن قلت: إنّ كلام اللغويين في مفهوم (اللّه) من حيث إنه مفهوم لا الذات الأقدس إذا لا إشكال في صحة قولهم في الاشتقاق و كونه من اسم الجنس.

(قلت): قولهم إنما يصح في المفاهيم الممكنة و أما إذا كان الموضوع واحدا و واجبا بالذات يكون الإطلاق عليه مع إطلاقه على الممكن كالاشتراك اللفظي، كما ذهب إليه جمع من الفلاسفة في أسمائه تعالى فيكون إطلاقه

ص: 13

عليه تعالى بنحو العلمية و في الممكن بنحو اسم الجنس، كما في لفظ المدينة مثلا فإنها علم لمدينة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و اسم جنس لسائر المدن و لكن في اسمه تعالى لا يجوز إطلاقه على غيره لاختصاصه به، كما في قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا [سورة طه، الآية: 14] و يستفاد ذلك من كلام العرب قبل الإسلام أيضا.

هذا ما يتعلق بلفظ الجلالة من حيث هو.

و أما معناه فلا ريب في أنه مما تحير فيه العقول مع اعتراف الجميع بوجوده و دأب القرآن و ما ورد في الشريعة التعبير عنه تعالى بالأسماء الحسنى (الصفات) التي ذكرت في القرآن من دون تحديد بالنسبة إلى الذات بل ورد

في الأثر عن الأئمة (عليهم السّلام): «يا من لا يعلم ما هو و لا كيف هو و لا أين هو و لا حيث هو إلاّ هو» فأثبتوا له تعالى أصل الهوية و لكن حصروا العلم بالهوية به تعالى. نعم ورد

في الآثار عنهم (عليهم السّلام) التعبير عنه تعالى:

«أنه ذات لا كالذوات و شيء لا كالأشياء»

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «اذكروا من عظمة اللّه ما شئتم و لا تذكروا ذاته فإنكم لا تذكرون منه شيئا إلاّ و هو أعظم منه»

و عن الصادق (عليه السّلام): «إنّ اللّه تعالى يقول و إنّ إلى ربك المنتهى فإذا انتهى الكلام إلى اللّه تعالى فأمسكوا».

و أما ما ورد عن الفلاسفة المتألهين: إنه الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية و المسلوب عنه جميع النواقص كذلك، و عن العرفاء و بعض محققي الفلسفة الإلهية: أنه الذات المسلوب عنه الإمكان مطلقا، و عن بعض قدماء اليونان - الذي عبر عنه في كلماتهم بشيخ اليونانيين - أنه ذات فوق الوجود يمكن إرجاع جميع ذلك إلى ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) و إن قصرت عبارات بعضهم عن ذلك. و سنعود إلى بعض ما يتعلق بالمقام في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى، و لعل عدم تعرض القرآن و سائر الكتب السماوية لحقيقة ذاته الأقدس لوضوحه بالآثار و قصور الممكن مطلقا عن درك حقيقة ذات الواجب و إنما حده درك الآثار فقط و هو تعالى بيّن ذلك كاملا في كتابه و يتم بذلك الحجة و البيان.

ص: 14

و على أي تقدير ف (اللّه) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التسعة و التسعين أو الثلاثمائة و ستين التي من أحصاها دخل الجنّة على ما رواه الفريقان، و هذه الأسماء المباركة منطوية في لفظ الجلالة انطواء الشعاع في نور الشمس مع المسامحة في هذا التشبيه.

قوله تعالى: اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ .

هما من الرحمة و من مشتقاتها، و رحمته عزّ و جل أعم صفاته و أوسعها شملت جميع ما سواه قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 156] فكلما يطلق عليه شيء في جميع العوالم يكون من رحمته تعالى، و إشكال أن الشر يطلق عليه الشيء أيضا فلا بد و أن يكون من رحمته تعالى مردود بأنه ليس في التكوينيات شر محض و إنما يتحقق الشر بالإضافة - على ما يأتي -. و أما في الاختياريات فإن وساطة الاختيار بين الفعل و الفاعل يجعل الشر باختيار الفاعل فلا يكون من رحمته تعالى كما في قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79]. و سيأتي تفصيل هذا البحث المفيد مستقلا إن شاء اللّه تعالى في الآيات المناسبة له.

و في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ [سورة لقمان، الآية: 27] إشارة إلى مظاهر رحمته الواسعة، و قد اعترف الأنبياء (صلى اللّه عليهم) و الأئمة (عليهم السّلام) و جميع الفلاسفة المتألهين بالقصور عن الإحاطة بمراتب رحمته تعالى الواسعة و إن بعض عظمائهم أطال القول في أن وجود كل شيء من رحمته تعالى و أثبت ذلك بالأدلة الكثيرة و مع ذلك اعترف بالقصور عن دركها، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها.

ثم إنّ هاتين الكلمتين من الصفات المشبهة إلاّ أنّهم فرّقوا بينهما بوجوه:

الأول: أن الرحمن مبالغة و الرحيم صفة مشبهة يدل على مجرد الثبوت هذا و إن كان صحيحا بالنسبة إلى ذات اللفظين حين الإطلاق على المخلوق. و أما

ص: 15

من حيث إضافتهما إلى اللّه عزّ و جل فلا وجه للمبالغة بالنسبة إليه تعالى. لأن صفاته بالنسبة إليه تعالى غير محدودة فلا تجري المبالغة فيها. نعم تصح المبالغة بالنسبة إلى مورد الرحمة على نحو قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: 160] و قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة البقرة، الآية: 261] إلى غير ذلك مما ترجع المبالغة فيه إلى المبالغة في الرحمة بالنسبة إلى المخلوق.

و أما ما في بعض التفاسير من أن فعلان لا يدل على الثبوت بخلاف فعيل و إنما ذكر تعالى (الرحيم) لأجل اظهار ثبوت الرحمة بالنسبة اليه تعالى. (مخدوش) لأن التفرقة بين اللفظين انما تصح في الممكنات دون الواجب تبارك و تعالى كما عرفت.

الثاني: الرحمن يختص بالدنيا و الرحيم بالآخرة لتقدم الدنيا على الآخرة في سلسلة العوالم و النشآت الزمانية فيكون المقدم للمتقدم و الأخير للمتأخر، أو لذكر الرحيم مقرونا بالغفران و التوبة في جملة من الآيات الكريمة، و الغفران و أثر التوبة في الآخرة فيكون الرحيم مختصا بها.

و الوجهان مخدوشان لا يصلحان حتّى للاستحسان، فان العوالم بالنسبة إليه تبارك و تعالى في عرض واحد و إنّه محيط بالزمان و الزمانيات و خارج عنهما إلاّ أن يلحظ ذلك بالنسبة إلى المخلوق. و قد ورد الرحمن بالنسبة إلى الآخرة في قوله تعالى: اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [سورة الفرقان، الآية: 26]، و قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً [سورة مريم، الآية:

85]، كما ورد الرحيم بالنسبة إلى الدنيا في قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 29] و قد ورد عن الأئمة الهداة:

«يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما».

الثالث: أن الأول عام للجميع لقوله تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 156] و الثاني خاص بالمؤمنين لقوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128] و هو أيضا

ص: 16

مردود فإن ذكر بعض الأفراد و أشرفها لا يدل على نفي ما عداه إلاّ بالمفهوم و قد ثبت في محله أنه لا مفهوم للقيد فراجع.

الرابع: أنّ الرحمن ذات الرحمة الشاملة لكل محتاج إليها و بجميع مراتبها التفضلية بلا اختصاص لها بنوع دون نوع من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و سائر المخلوقات فلأجل إهمال المتعلق استفيد العموم و الشمول لجميع الأنواع الممكنة من حضيض الجمادات الى أوج المجردات. نعم من أهم مصاديق الرحمانية تنظيم عالم التكوين بأحسن نظام و من أجلى مصاديق الرحيمية تنظيم التشريع بأكمل نظام و أثر التشريع إنما يظهر بالنسبة إلى المؤمنين العاملين به اختص الرحيمية بالآخرة من هذه الجهة، فهو تعالى رحيم في الدنيا بالتشريع و في الآخرة بالجزاء عليه.

و الذي ينبغي أن يقال: إنه لا ريب أن جميع ما سواه تعالى مورد افاضة الوجود منه تبارك و تعالى و هذا هو الرحمة الرحمانية التي خرج بها ما سواه من العدم إلى الوجود؛ كما لا ريب في أن كل نوع من أنواع الموجودات مطلقا بل كل صنف من أصنافها له خصوصية لا توجد تلك الخصوصية في غيرها و هي غير محدودة بحد و تنكشف في طي العصور و مر القرون و تلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك و تعالى مورد الرحمة الرحيمية، فكما أن في الإنسان نوعا خاصا منه و هو المؤمن مورد رحمته الرحيمية كذلك يكون في الملك و الفلك و الجماد و النبات و الحيوان أيضا أصناف خاصة تكون تلك الأصناف مورد رحمته الرحيمية بعد عدم برهان صحيح على اختصاص رحمته الرحيمية بخصوص دار الآخرة كما عرفت.

و قد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بأن القرآن من أبرز مظاهر رحمتيه تعالى أما الرحمانية فلفرض وحيه و إنزاله، و أما الرحيمية فلأنه تبارك و تعالى تجلى لعباده فأظهر فيه المعارف الربوبية و خلاصة الكتب السماوية و زبدة حقائق التكوين و التشريع و ربط به قلوب أوليائه.

ثم إنه يظهر من ذكر الرحمن بعد اسم الجلالة في البسملة و في قوله تعالى: قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ [سورة الاسراء، الآية: 110].

ص: 17

و سائر موارد استعمال هذا الاسم المبارك في القرآن العظيم أن لهذا الاسم الشريف اهمية عظمى و منزلة كبرى عند اللّه تعالى فهو من أمهات الأسماء كالحي و الرب و القيوم و الرحيم و إلى هذه الأربعة ترجع سائر أسمائه عزّ و جل فإذا رجعنا إلى موارد استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم نرى أنه استعمل مقرونا بالتعظيم و التجليل بالنسبة إلى عالمي الدنيا و الآخرة قال تعالى: جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [سورة مريم، الآية:

61]، و قال تعالى: اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [سورة الفرقان، الآية:

26]، و قال تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ [سورة الرحمن، الآية: 1] و قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ اَلرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [سورة الملك، الآية: 3].

و أما الرحيم فقد ذكر في القرآن الكريم غالبا مقرونا مع الرءوف و التواب و الغفور، فقد جمع اللّه تبارك و تعالى في كتابيه التدويني (القرآن) و التكويني بين رحمته الرحمانية و رحمته الرحيمية فتكون الرحمة الرحمانية عامة لجميع الممكنات قال تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى [سورة طه، الآية: 5] أي استولى و العرش هنا عبارة عما سواه تعالى، و الرحمة الرحيمية تعم جميع ذوي الكمالات التي أفيضت عليهم من المجردات إلى الجمادات فتكون من مظاهر رحمتيه تعالى الرحمانية و الرحيمية كما عرفت.

بحوث المقام

بحث دلالي:

البسملة هي إيجاد الإضافة بين العبد و خالقه إضافة تشريفية، و قد اختيرت هذه الجملة المباركة لأن فيها من أوسمة الخير ما عرفت، فإن قرن العبد اعتقاده بالعمل بما يدعو إليه تعالى كانت البسملة وساما قوليا و اعتقاديا و عمليا و إلاّ كانت لفظية فقط لها بعض الآثار كالتبرك باللسان مثلا.

و مثل هذه الإضافة لم تكن أمرا غريبا عند الناس بل هو مألوف عندهم بذكر اسماء عظمائهم و رؤسائهم في مبادئ أمورهم تشرفا و تقربا إليهم و وساما

ص: 18

لأنفسهم مع أن المنسوب إليه كنفس المنسوب و النسبة في معرض الهلاك و الزوال فأثبت القرآن للنّاس إضافة تشريفية إلى اللّه تبارك و تعالى الذي لم يزل و لا يزال و تبقى الإضافة إليه كذلك أيضا فقرر ما هو المألوف لديهم بلفظ آخر و هو البسملة، كما في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [سورة البقرة، الآية: 200] و منه يعلم أهمية البسملة فإن فيها إضافة إلى الرحمن الرحيم الأزلي الأبدي و لهذا وردت أخبار تؤكد على الابتداء بها في جميع الأمور كما سيجيء في البحث الآتي، فإذا قال العبد المؤمن (بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ) يكون من مظاهر رحمته تعالى من جهتين جهة التلفظ بالقول وجهة الذات فإن ذاته من مظاهر رحمته. كما عرفت.

ثم إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى و هو تارة يكون ذات المسمّى و أخرى: جوهرا موجودا خارجيا و ثالثة: عرضا كذلك. و الكل يصح بالنسبة إليه تعالى فمن الأول ما ورد

في الأثر عن علي (عليه السّلام) «يا من دل على ذاته بذاته» فاتحد فيه تعالى الدال و المدلول و اختلف بالاعتبار و مثله كثير. و من الثاني أنبياء اللّه و أولياؤه الذين جاهدوا في اللّه،

و في الحديث: «نحن اسماء اللّه الحسنى»، بل عن بعض الفلاسفة المتألهين: «إن جميع الموجودات تحكي عن جماله و جلاله». و من الثالث الأسماء اللفظية التي تطلق عليه تعالى و يأتي في المواضع المناسبة تتمة الكلام.

و المعروف أنّ أسماءه تعالى توقيفية لا يجوز إطلاق اسم عليه تعالى لم يرد في الشريعة المقدسة إطلاق به عليه، و إن أمكن ذلك عقلا، فلا يجوز اطلاق المادة و الصورة عليه تعالى لامتناعه عقلا و عدم الورود شرعا، كما لا يجوز إطلاق العلة عليه تعالى لعدم وروده شرعا و إن أمكن عقلا.

و أما الخالق و الجاعل و سائر مشتقاتهما فقد أطلقا عليه شرعا و هو صحيح عقلا أيضا، كما أنّه لم يعهد اطلاق اللقب و الكنية عليه تعالى لأجل أمور يأتي التعرض لها، و إن قيل إنّ الرحمن بمنزلة اللقب له تعالى، و لكنه لم أظفر بما يعضده من خبر يدل على ذلك.

ص: 19

بحث فقهي:

البسملة في أول كل سورة إما جزء منها أو من السورة التي تسبقها، أو آية متكررة في القرآن، أو من غيره، ذكرت تبركا.

و الكل واضح البطلان كما يأتي سوى الأول و قد وردت النصوص على ذلك فتكون البسملة جزء من كل سورة التي افتتحت بها إلاّ في سورة التوبة فإنه لا بسملة لها كما ستعرف.

فعن علي (عليه السّلام): «البسملة في أول كل سورة آية منها و إنما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى و ما أنزل اللّه تعالى كتابا من السماء إلاّ و هي فاتحته».

و عنه (عليه السّلام) أيضا: «أنها من الفاتحة و أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقرأها و يعدها آية منها و يقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني».

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم».

و عن الرضا (عليه السّلام): «ما بالهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها».

و في سنن أبي داود قال ابن عباس: «إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان لا يعرف فصل السورة - أي انقضاءها - حتّى ينزل عليه بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ».

و في صحيح ابن مسلم عن أنس قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ». و روى الدارقطني عن أبي هريرة: «إذا قرأتم الحمد فاقرؤا بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ فإنّها أم القرآن أم الكتاب، و السبع المثاني و بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ إحدى آياتها».

و الأخبار في كونها جزء من سور القرآن كثيرة من الفريقين.

ص: 20

و يستحب الجهر بالبسملة مطلقا كما ورد النص بذلك و قد جعل ذلك من علامات المؤمن كما في الحديث و لعل السر في ذلك هو أن الجهر بها إجهار بالحق و إعلان لحقيقة الواقع.

كما تستحب الاستعاذة باللّه من الشيطان عند قراءة القرآن لقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ (*) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (*) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل، الآية: 97-100] بل يستفاد من بعض الآيات لا سيما سورة الناس استحباب الاستعاذة مطلقا. و هي إما قولية أو فعلية. و اجتماعهما في واحد هو من الكمال، و سيأتي التفصيل.

بحث روائي:

عن نبينا الأعظم فيما رواه الفريقان: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ فهو أبتر».

و عن الصادق عليه السلام: «لا تدعها (أي البسملة) و لو كان بعدها شعر».

أقول: يحمل الخبر الأول على الأفضلية جمعا بينهما.

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «أول كل كتاب نزل من السماء بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ».

و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر العين الى سوادها».

أقول: يأتي ما يتعلق بالاسم الأعظم و مراتبه. و آثاره و من هو العالم به.

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «إذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ و إذا قرأتها سترتك ما بين السماء و الأرض».

أقول: و يظهر منه إنه عند دوران الأمر بين البسملة و الاستعاذة تكون البسملة أولى.

و عن الصادق (عليه السّلام): «من تركها من شيعتنا امتحنه اللّه بمكروه

ص: 21

لينبهه على الشكر و الثناء و يمحو عنه و صمة تقصيره عند تركه».

أقول: يظهر منه و من جملة من الأخبار ان ترك المندوب و فعل المكروه فيه آثار خاصة فضلا عن ترك الواجب و فعل المحرم.

و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها الآية التي قال اللّه عزّ و جل: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ».

و عنه (عليه السّلام) أيضا في تفسير البسملة: «يعني أسم بسمة من سمات اللّه تعالى و هي العبادة. قيل له: ما السمة؟ قال (عليه السّلام): العلامة».

أقول: العلامات الدالة على اللّه عزّ و جل كثيرة فإما جوهر خارجي كالمشاعر العظام، أو عمل خارجي كالصّلاة، أو ذكر قلبي كالتفكر في عظمة اللّه تعالى و التوجه إليه، أو ذكر لفظي كالبسملة و نحوها.

و في رواية أنّ كل واحد من أجزاء البسملة إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى

فعن الصادق (عليه السّلام): «الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم مجد اللّه (ملك اللّه) و اللّه إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة».

أقول: المراد ببهاء اللّه جماله و جلاله و السناء بمعنى الرفعة، و أشار (عليه السّلام) في هذا التفسير إلى علم الحروف و هو علم شريف إلاّ أنّه مكنون عند أهله و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ للّه عزّ و جل مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فبها يتعاطفون و يتراحمون ادّخر تسعا و تسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة».

أقول: رواه الفريقان.

و عن علي (عليه السّلام): «الرحمن العاطف على خلقه بالرزق لا ينقطع عنهم مواد رزقه و إن انقطعوا عن طاعته».

ص: 22

أقول: المراد من مواد الرزق أسبابه.

و عن الصادق (عليه السّلام):

«الرحمن اسم خاص لصفة عامة، و الرحيم اسم عام لصفة خاصة».

أقول: اسم خاص أي لا يطلق على غيره تعالى، و الصفة العامة لأن رحمته تعالى وسعت كل شيء، و الرحيم اسم عام لإطلاقه على غيره تعالى أيضا و الصفة الخاصة يعني مختص بالمؤمنين في الآخرة و تقدم أن هذا الإختصاص إضافي أي أن أفضل أقسام الرحيمية إنما تكون للمؤمنين فقط.

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (2) اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ (4) قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ : الألف و اللام للجنس أو ال

اشارة

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (2) اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ (4) قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ : الألف و اللام للجنس أو الاستغراق، و المعنى واحد و الفرق بالاعتبار فإذا لوحظ الحمد من حيث طبعه و ذاته الشامل لجميع ما يدخل تحته من الأفراد يطلق عليه الجنس و إذا لوحظ من حيث الأفراد فهو استغراق، فالحقيقة واحدة و الفرق بالإجمال و التفصيل. و على أي تقدير يفيد الانحصار به تعالى، كما سيأتي.

التفسير

الحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري، و المعنى أنّ كل حمد يصدر من أي حامد اختياريا كان أو غير اختياري (تكويني) فهو للّه تعالى لأنّ الكل مخلوق و مربوب له عزّ و جل فهو الخالق و المدبر لجميع ما سواه فيرجع ما سواه إليه سبحانه، قال تعالى: أَلا إِلَى اَللّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ [سورة الشورى، الآية: 53] فكما أنه تعالى مبدأ الكل يستلزم أن يكون حمد الكل له، و في الآيات دلالات واضحة عليه، قال تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1] و قال تعالى: وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الروم، الآية: 18]، و قال تعالى: لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ [سورة القصص، الآية: 70].

ثم إنّ هناك عناوين أربعة: الحمد، و المدح، و الشكر، و التسبيح.

و نسب إلى أهل اللغة و جمع من الأدباء و المفسرين أنّ الأول - هو الثناء باللسان

ص: 23

على الجميل الاختياري، و الثاني - هو الثناء باللسان على الجميل و لو لم يكن.

اختياريا، كما في قولك: مدحت اللؤلؤ على صفائها، و النجوم اللامعة على جلائها و بهائها، فيكون الفرق بينهما بالعموم و الخصوص. و لم يرد لفظ المدح في القرآن الكريم، كما أنّه لم يستعمل الحمد فيه إلاّ للّه تبارك و تعالى. و الثالث ما أنبأ عن عظمة المنعم سواء أ كان بالقلب أو اللسان أو الأركان، فالتفكر في عظمته تعالى شكر له و ذكره باللسان و فعل الصّلاة شكر له أيضا، فالحمد أعم من الشكر من ناحية المتعلق، لأنّه الجميل الاختياري سواء أ كان للحامد أم لغيره، و أخص منه من ناحية المورد لأنّ مورده اللسان فقط في الإنسان، و الشكر بالعكس فإنّ متعلقه الإنعام على الشاكر فقط و مورده يعم القلب و اللسان و الأركان. و قد ورد الشكر في القرآن بالنسبة إليه تعالى كثيرا، قال تعالى:

وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة، الآية: 152]، و قال تعالى:

وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ [سورة البقرة، الآية: 172]، و قد يكون من اللّه عزّ و جل لعباده قال تعالى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [سورة الإسراء، الآية: 19]، و قال تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً [سورة النساء، الآية: 147]. و المراد بشكره تعالى هو الجزاء على الخير سواء كان في الدنيا، أو في الآخرة أو فيهما معا. كما يقع من الخلق للخلق قال تعالى: أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14]. و التسبيح هو التنزيه عن كل نقص مطلقا و يختص ذلك باللّه تعالى كاختصاص الحمد به تعالى، قال تعالى:

سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الصافات، الآية: 159]، و قال تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء، الآية: 44] و يأتي التفصيل. هذا ما هو المعروف بينهم.

و هنا وجه آخر و هو أن مادة (ح م د) مع مادة (م د ح) واحدة في أصل المواد، و إنما الاختلاف بالتقديم و التأخير و هذا الاختلاف أوجب اختصاص لفظ الحمد باللّه تعالى، و إطلاق المدح على غيره أيضا، فيكون لفظ الحمد كلفظ (اللّه، و الرحمن) مختصا به تعالى فلا ينبغي إطلاقه بالنسبة إلى غيره عزّ و جل و لو أطلق يكون بمعنى المدح، بخلاف المدح فإنه يطلق على غيره

ص: 24

تعالى إطلاقا شائعا هذا من ناحية الحصر اللفظي.

و أما من ناحية الحصر المعنوي فلا ريب في أن الممكنات له و منه و به تعالى و قد ثبت في محله أن كل ما بالغير يكون بذاته و كماله منه فكمال الكل و محمودية الكل ترجع إليه.

ثم إنّ الحمد يكون من اللّه تعالى لذاته المقدسة و هو كثير في القرآن، قال تعالى: وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الروم، الآية:

18]، و قال تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ اَلسَّماواتِ [سورة فاطر، الآية: 1] و قال تعالى: فَلِلّهِ اَلْحَمْدُ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ رَبِّ اَلْأَرْضِ [سورة الجاثية، الآية:

36].

و يكون من خلقه له تعالى: وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا [سورة الأعراف، الآية: 43].

و أما التسبيح فيقع منه تعالى و من خلقه له، و لكن لا يقع من الخلق للخلق، كما يأتي التفصيل.

قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ : لهذا الاسم [رب] الشريف منزلة عظيمة في الكتب السماوية لا سيما القرآن المهيمن على جميعها فهو من أمهات الأسماء المقدسة كالحي، و القيوم بل هو الأم وحده، لأنه ينطوي فيه الخالق و العليم و القدير و المدبر و الحكيم و غيرها، فإنه غير الخلق كما يستفاد من قوله تعالى: رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ [سورة الأنبياء، الآية: 56] أي خلقهنّ.

و قد ذكر بعض المفسرين تبعا لجمع من اللغويين أنّ الرب بمعنى المالك و الملك أو الصاحب. لكن التدبر في استعمالات هذا اللفظ يعطي أن الملك شيء و ربانيته شيء آخر قال تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ [سورة الزمر، الآية: 6] و قال تعالى بِرَبِّ اَلنّاسِ مَلِكِ اَلنّاسِ إِلهِ اَلنّاسِ [سورة النّاس: الآية: 4] فإن فيه خصوصية - ليست هي في المالك و الملك و الصاحب - و هي الربوبية الحقيقية الناشئة عن الحكمة الكاملة التي لا يتصور

ص: 25

النقص فيها بوجه، فالتكوين شيء و تنظيم عالم التكوين بتربيبه على النظام الأحسن شيء آخر، قال تعالى: وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ (سورة الأنعام، الآية: 164]. و يدل على ذلك مضافا إلى ما ذكر عدم صحة استعمال كل واحد منها مقام الآخر في الاستعمالات الصحيحة إلاّ بالعناية.

و على أية حال فإنّ الرب مجمع جميع أسماء أفعال اللّه المقدسة لأن جميع أفعاله تبارك و تعالى متشعبة من جهة تدبيره تعالى، و تربيبه في كل موجود بحسبه فالرب مظهر الرحمة و الخلق و القدرة و التدبير و الحكمة فهو الشامل لما سواه تعالى، فإنهم المربوبون له تعالى على اختلاف مراتبهم.

فكم فرق بين الربوبية المتعلقة برسوله الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) أو سائر الأنبياء العظام أو الملائكة المقربين و ما تعلق بسائر النّاس.

فالربوبية لها مراتب تختلف باختلاف مراتب المربوب و المتعلق، قال تعالى:

اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ [العلق، الآية 3]، و قال تعالى: وَ تَرَى اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (سورة الزمر، الآية: 75] و قد ورد في الأثر عن الأئمة الهداة (عليهم السّلام): «رب الملائكة و الروح».

و قد قرن هذا اللفظ في القرآن الكريم بما يفيد عظمته و جلالته قال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ [سورة الصّافات، الآية: 180]، و قال تعالى: وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ [سورة المؤمنون، الآية: 86]، و قال تعالى: اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ [سورة الصافات، الآية: 126]، و قال تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [سورة يس، الآية: 58]، و قال تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ [سورة سبأ، الآية: 15] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و لجلال عظمته وقع مقسما به قال تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة النساء، الآية: 65] و قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الحجر، الآية: 92]، و قال تعالى: فَوَ رَبِّ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [سورة الذاريات، الآية: 23].

ص: 26

و لأجل ما تقدم - من أنه أم الأسماء، و كونه مظهرا لجملة من أسمائه المقدسة - لم يرد في القرآن الكريم دعاء من عباده إلاّ مبدوّا باسم الرب قال تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً [سورة البقرة، الآية:

201] و قال تعالى: رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [سورة آل عمران، الآية: 147] و قال تعالى: رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً [سورة إبراهيم، الآية: 35] و قال تعالى: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى [سورة البقرة، الآية: 260] و غيرها من الآيات المباركة.

و لعل السر في ذلك هو إفادة هذا اللفظ حالة الانقطاع إلى اللّه تعالى أكثر من غيره و لذا وقع من أنبيائه العظام في تلك الحالة قال تعالى عن لسان نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً [سورة الفرقان، الآية: 30]، و قال تعالى عن لسان نوح (عليه السّلام): رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً [سورة نوح، الآية: 5].

فليس في أسمائه المقدسة أعم نفعا و أكمل عناية و لطفا من اسم (الرب) بالمعنى الذي ذكرناه، و لعل المراد بقوله تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة المؤمنون، الآية: 88] و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: 185] و قوله تعالى: فَسُبْحانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة يس، الآية: 83] هو الربوبية العظمى الإلهية فإن التغييرات و التبدلات اللازمة لعالم الكون و الفساد، و الإفاضات الحاصلة منه تعالى على العوالم هي عبارة عن الملكوت المضافة اليه تعالى.

مع أن الثابت في علم الفلسفة ان ما سواه تبارك و تعالى يحتاج إليه تعالى في البقاء كما يحتاج إليه في أصل الحدوث ففي كل لحظة - بل أقل منها - له رحمة خالقية و ربوبية بالنسبة إلى ما سواه من الموجودات و هذا هو معنى القيمومية المطلقة التي لا يمكن إحاطة الإنسان بها و بالربوبية العظمى كعدم إمكان الإحاطة بذاته تعالى و تقدس شأنه.

قوله تعالى: اَلْعالَمِينَ : جمع عالم و هو أيضا جمع، لا واحد له من

ص: 27

لفظه كالقوم و الرهط و النفر، و اشتقاقه من العلامة بمعنى الدلالة فكل ما هو مخلوق علامة و آية كاشفة عن خالقه، كما أن كل معلول أو مصنوع علامة للعلة أو الصانع. و الممكن علامة عقلية للواجب بالذات، فكل ممكن عالم من عوالمه عزّ و جل بذاته و كذا كل ما يتعلق من عوارضه و آثاره و خواصه من أدنى الموجودات إلى أرقاها فجميع الموجودات عوالمه و جميع عوالمه آياته و يأتي في الأخبار تفسير العالمين بالجماعات من المخلوقات أيضا.

و عن جمع إن العالم لا يطلق إلاّ على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء و إن لم تكن منهم و ذاك لأن هذه العوالم هي التي يظهر فيها معنى التربية. و هو فاسد لأنه إن كان المراد به التغليب فله وجه، و إن كان المراد عدم الصدق الحقيقي على ما لا يعقل فهو مخالف لصحة إطلاق عالم التكوين فإن إطلاقه يشمل الجمادات أيضا. و إن اثر التربية يظهر في كل ما يسمى شيئا قال تعالى: وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة الأنعام، الآية: 164]. فلا اختصاص للتربية بمن يعقل.

ثم إنّ معنى العالم و مدلوله وسيع جدا و غير محدود بحد، بل غير متناه - بالمعنى الذي سنبينه إن شاء اللّه تعالى - فمن أقرب العوالم إلى الإنسان عالم التراب - الذي يكون محسوسا له و هو عظيم لم يتمكن الإنسان من إدراك جميع خصائصه و جهاته. مع أنه من أجل العوالم نفعا، و كذا بالنسبة إلى عالم الإنسان الذي كل من أراد فهمه لا يزداد إلاّ تحيرا فيه، و هكذا غيرهما من العوالم، فليس للإنسان إلاّ الاعتراف بالعجز و القصور أمام جلال عظمته تبارك و تعالى.

و العوالم تارة: تكون في نفسها مترتبة منظمة بأن يكون كل سابق مقتضيا للاحقه، فيصح أن يقال:

أول ما خلق اللّه العقل في عالم الروحانيين و المجردات، كما في الحديث.

و أول ما خلق اللّه تعالى في عالم الماديات الماء، كما عن علي (عليه السّلام). و أول ما خلق اللّه في عالم الأعراض الحروف، كما في بعض الأخبار إلى غير ذلك مما ورد في أوّليات خلق عوالمه تعالى، و للفلاسفة من الأقدمين بل و من المسلمين مباحث علمية في بيان

ص: 28

العوالم المترتبة (طولية) و قد أثبتوا ذلك بالبرهان و سيأتي تفصيل العوالم في محله إن شاء اللّه تعالى.

و أخرى: لا ترتب بينها بل ينشأ جمع من تلك العوالم عن مبدإ واحد في عرض واحد، كما نشاهد ذلك في عالم الطبيعة.

و ثالثة: تكون مركبة من القسمين كما هو المحسوس في عالم النطفة في صلب الرجال ثم مسيرها إلى الرحم و مجيئها إلى هذا العالم و كذا كل ما هو في مسير الاستكمال و الارتقاء و تسمى هذه العوالم الطولية و في عرض ذاك عوالم أخرى إن لوحظت مع نظيرها، كما تقدم في القسم الثاني.

و هناك عوالم (طولية) أخرى يمر الإنسان عليها و هي عالم الدنيا، و عالم البرزخ، و عالم النشر و الحشر، و عالم الخلود، و سيأتي بيانها في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

نعم هنا بحث و هو أنّ العوالم هل هي متعددة حقيقة أو أنّ تعددها اعتباري محض؟ عن بعض المحققين من المتألهين أنّ العالم واحد و هو عالم الدنيا و غيره من عوالم البرزخ و الحشر و النشر و الخلود من تبعاتها و شؤونها فتكون الدنيا كالمادة للجميع السارية فيها فيكون العالم واحدا حقيقة، و سيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له.

و كل ما تقدم من العوالم - بشؤونها و أصنافها - غير متناهية بجميع مراتبها - و يأتي شرح ذلك مفصلا - و أنّها مخلوقة بأحسن خلق و أكمل نظام، كما أن جميع تلك الأصناف غير المتناهية مورد ربوبيته العظمى و قيمومته المطلقة و له المعيّة (الإحاطة) التدبيرية بكل ما سواه من العالم، و لكن تلك المعية في العباد لا توجب سلب اختيارهم، لأن الإختيار فيهم ثابت لفرض وجود التربية التشريعية و هي لا تعقل بدون الإختيار.

و أما تربيته التكوينية فهي منحصرة بإرادته و اختياره تعالى كما يأتي تفصيل هذا الإجمال في محله إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ في ذكر رب العالمين بعد الحمد دلالة على أن من موجبات

ص: 29

استحقاقه تعالى للحمد هو كونه رب العالمين.

قوله تعالى: اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ : تقدم تفسيرهما. و إنما كرر سبحانه و تعالى: «اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» هنا، بناء على جزئيّة البسملة للفاتحة، كما هو الحق عند المسلمين، لأنّ الرحمن الرحيم، لوحظا في البسملة بالعنوان العام من كونهما من صفات الذات الأقدس بلا إضافة إلى شيء، و في الفاتحة لوحظا باعتبار منشأ استحقاقه تعالى للحمد، فهذه الخصوصية توجب الاختلاف في الجملة، و بها يرتفع التكرار.

قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ . هذه المادة (المالك) بأي هيئة استعملت تكون بمعنى الاستيلاء و الإحاطة و الاحتواء سواء أ كان بالنسبة إلى الخلق و الإيجاد أو بالنسبة إلى النظم أو الانتظام. نعم؛ هي في المخلوق محدودة لفرض محدودية ذاته و صفاته و في الخالق لا وجه للتحديد فيه بوجه من الوجوه، و ذكر يوم الدين من باب ذكر بعض المصاديق لنكتة لا للانحصار كما ستعرف.

نعم؛ مالكية يوم الدين تستلزم مالكيته لجميع العوالم السابقة عليه نحو استلزام النتيجة للمقدمات كما أن مالكية الدنيا ملازمة لمالكية يوم الدين كاستلزام المقدمات للنتيجة المنطوية فيها، مع أن قوله تعالى: بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ [سورة تبارك، الآية: 1]، و قوله تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و قوله تعالى: بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة المؤمنون، الآية: 88] عام يشمل جميع العوالم و مالكيته لها بالدلالة المطابقية.

ثم إنه وردت هذه المادة بأغلب مشتقاتها في القرآن الكريم فقد أطلق فيه الملك (بفتح الميم و كسر اللام) بالنسبة إليه تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلامُ [سورة الحشر، الآية: 23] و قال تعالى: فَتَعالَى اَللّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ [سورة طه، الآية: 114]، و قال تعالى: مَلِكِ اَلنّاسِ [سورة الناس، الآية: 2] كما ورد الملك (بضم الميم و سكون اللام) مضافا إليه تعالى كثيرا قال تعالى: لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الحديد، الآية:

ص: 30

2]، و قال تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ [سورة فاطر، الآية: 13]، و قال تعالى: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [سورة آل عمران، الآية: 26]. و قد ورد المالك، قال تعالى: اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ [سورة آل عمران، الآية: 26]. كما ورد المليك أيضا، قال تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [سورة القمر، الآية: 55] و لم يرد الملك (بكسر الميم و سكون اللام) لإغناء الملك (بضم الميم) عن ذلك بالأتم و الأكمل، و لعل عدم وروده في القرآن لأنه غالبا يستعمل في الأمور الزائلة و هو تعالى منزه عن إضافة مثله إليه.

هذا و قرئ (ملك) لأن كل ملك يستلزم المالك و لا عكس. و الظاهر أنه لا فرق بالنسبة إليه تعالى لكونه مالكا في عين ملكيته تعالى و بالعكس فكما أنه تعالى رب العالمين بالنسبة إلى جميع الموجودات كذلك ملك و مالك بالنسبة إلى جميعها أيضا.

و قد يرجح قراءة (مالك)، لأن المالكية تشمل ملكية الأجزاء و الجزئيات بخلاف (ملك)، فإن الملكية هي التسطير على الكل. هذا بحسب اللغة.

و أما بالنسبة إليه تعالى فقد قلنا: إنه لا وجه لذلك، كما تقدم، و ان كان قراءة (مالك) أوفق بالعرف.

يَوْمِ : المراد به هو الوقت، و ان كان إطلاقه على الزمان الذي لا ظلام فيه بالطبع إطلاقا شائعا و لكن ليس بحسب ذاته و من مقوماته فهو غير محدود بحد معين بل هو بالنسبة إلى هذا العالم الذي نحن فيه المقدر فيه الليل و النهار لأجل دوران الكرة الأرضية لا بالنسبة إلى جميع العوالم، و لذا لم يذكر اليوم في القرآن في مقابل الليل و إنما ذكر النّهار في مقابله.

و مما يدل على عدم التحديد فيه قوله تعالى: إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [سورة الحج، الآية: 47]، و قوله تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ [سورة الأعراف، الآية: 54]، و قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [سورة فصلت، الآية: 12] بناء على أن اليوم المعهود

ص: 31

لدينا إنما حدث بعد خلق السموات و الأرض و لا وجه لأخذ الحد الخاص الحاصل من خصوصيات عالم معين في معنى الكلمة الذي هو عام و شامل لجميع العوالم إلاّ إذا كانت هناك قرائن معتبرة خارجية تدل على خصوصية معينة و حد خاص.

اَلدِّينِ : هو الجزاء و يوم الدين هو يوم الجزاء على الأعمال و حسابها، كما في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [سورة غافر، الآية: 17]، و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية، الآية: 28]. الى غير ذلك من الآيات المباركة.

و المستفاد من مجموع الآيات أنّ الإنسان من بدء حدوثه إلى خلوده هو في يومين: يوم العمل الذي يعبّر عنه ب (الدنيا) و يوم الجزاء المعبّر عنه ب (الآخرة)، أو يوم القيامة، أو غير ذلك.

و قد وصف اللّه تعالى هذا اليوم بأوصاف شتى كالعظيم، قال تعالى:

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة مريم، الآية: 37]؛ و المحيط كقوله تعالى: وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [سورة هود، الآية: 84]، و بأنواع الحوادث العظيمة الهائلة قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى اَلنّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى [سورة الحج، الآية: 2].

و كل ذلك لأجل بيان نهاية عظمة اليوم؛ و قد لخصها اللّه تعالى في سورة الإنفطار بأحسن تلخيص و أكمل بيان و أتم دهشة، و في المقام مباحث تأتي في مواضعها المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

و إنما ذكر اللّه عزّ و جل «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» مع أنه تعالى مالك لجميع ما سواه و لم يخرج عن ملكه شيء لأن يوم الدين مظهر ثبوت الوحدانية المطلقة و الربوبية العظمى الإلهية عند الكل و انقهار الجميع تحت قهاريته و هو يوم ظهور فساد الشرك الذي توهمه النّاس بزعمهم و خيالهم فيوم الدين يوم يظهر فيه التوحيد الحقيقي و العدل الإلهي.

و إنما ذكر «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» بعد «اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» ترغيبا لعباده

ص: 32

و حنانا عليهم بأن لا تغلبهم دهشة اليوم، فإن الرحمن الرّحيم معهم في أي عالم وردوا عليه و حاضر فيهم في ما إذا أحاطت بهم الدهشة.

و هذا من لطيف المعاتبة بين المالك الحكيم الغني و المملوك المحتاج فيدفع بيد و يجذب بالأخرى و قد جمع اللّه تعالى بين الترغيب و الترهيب.

إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (6) قوله تعالى: إِيّاكَ نَعْبُدُ : لفظ الخطاب إياك استعمل هنا في مقام الحصر

إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (6) قوله تعالى: إِيّاكَ نَعْبُدُ : لفظ الخطاب إياك استعمل هنا في مقام الحصر، و قد أطلق عليه تعالى في القرآن بضمير الغيبة و ضمير المتكلم مع إفادتهما الحصر أيضا، قال تعالى: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ سورة يوسف، الآية: 40، و قال تعالى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ سورة العنكبوت، الآية: 56.

و يستفاد الحصر في المقام من أمرين:

أحدهما: سياق الآية المباركة لأن من كان «رَبِّ اَلْعالَمِينَ» و «اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» و «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» لا وجه لعبادة غيره فإنّ غيره مطلقا مملوك له تعالى و محتاج إليه و لا وجه أن يدع من له تلك الصّفات في عبادته و يعبد غيره، و منه يظهر سر

قولهم (عليهم السّلام): «العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» و كثرة إطلاق الجهل على المشركين في الكتاب و السنة.

الثاني: استفادة الحصر من انفصال الضمير و تقديمه و ينحل الحصر الى النفي و الإثبات كأنه قال: لا نعبد غيرك و نعبدك، كما في لا إله إلاّ اللّه. و سائر موارد الحصر.

و في الآية المباركة التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه بعد إقرار العبد بالالوهية و الاعتراف بالربوبية و انه مالك يوم الجزاء صار لائقا بالمخاطبة الحضورية معه تعالى فارتقى العبد من الغيبة الى الحضور لارتقاء مقام قلبه عن الغفلة إلى التوجه و الحضور.

و للتوجه من الغيبة الى الحضور مراتب بحسب مراتب المعرفة و الطاعة في العبد، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

ص: 33

نَعْبُدُ العبادة: الطاعة و أصل المادة تنبئ عن الذل و الخضوع و الاستكانة و الانقهار في أي هيئة استعملت و منها العبد و المملوك. فالمادة تشمل العبودية التسخيرية، و العبودية الاختيارية و الواقعية و العبادات الباطلة الاعتقادية، كما في قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ [سورة يس، الآية: 60]. و قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء، الآية: 98]، و قوله تعالى: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً [سورة العنكبوت، الآية: 17]، و العبادة: خضوع خاص ناشئ عن الإعتقاد بأن للمعبود عظمة، و لا يحيط بها العقل في المعبود الحقيقي، لعدم وصول الإدراك الى عظمته فضلا عن ذاته، و ان كان مدركا بالآثار، كما عرفت فإنه أعلى و أجلّ من أن يرقى إليه إدراك أحد، و لذا لا تصدق العبادة على الخضوع بالنسبة إلى غيره تعالى.

و قد تطابق العقل و النقل على عدم جوازها لغيره تعالى لأن حقيقتها الخضوع لمن هو في أعلى درجات الكمال بحيث لا كمال فوقه و هو منحصر باللّه تعالى، و في قوله تعالى: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (*) وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات، الآية: 95-96] إشارة إلى ذلك، و أنه لا تكون العبادة الا للخالق و مفيض الحياة و الإطلاق بالنسبة إلى غيره تعالى اعتقادي باطل لا واقعي حقيقي.

و العناوين الشايعة ثلاثة: العبادة، و الطاعة، و الانقياد.

و الأول - عبارة عن إتيان العمل بقصد التقرب إلى اللّه تعالى سواء كانت صحة العمل في حد نفسه متوقفة على قصد القربة - كالصّلاة و الصوم و الحج و غيرها من سائر العبادات، فإذا أتى بها من دون قصد القربة يبطل أصل العمل، أو لم تكن كذلك، كقضاء حوائج الإخوان و أداء حقوق النّاس، أو مثل النظافة فإذا كان للّه تعالى يثاب عليه مع حصول الطاعة و إذا لم يكن له تعالى تحصل الإطاعة دون الثواب، فالإطاعة أعم من العبادة، كما أنّ الانقياد أعم من كل منهما لإطلاقه عليهما و على إتيان ما يحتمل أنه محبوب للّه تعالى و ترك ما يحتمل انه مبغوض له عزّ و جل و إن لم يكن أمر و نهي منه تعالى، و قد فصلنا

ص: 34

الكلام في كتابنا [مهذب الأحكام].

و قد وردت الإطاعة في كثير من مشتقاتها في القرآن الكريم؛ قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب، الآية:

71]، و قال تعالى: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة الأنفال، الآية: 46]، و قال تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [سورة البقرة، الآية: 184]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ [سورة النساء، الآية: 64] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ثم إنّ العبادة هي التوجه إلى المعبود في القيام بما جعله من الوظيفة و إتيان المطلوب الذي أراده من العبد و حيث إنّ اللّه تعالى يطّلع على النوايا كاطّلاعه على الأعمال فلا بد أن تكون النوايا القلبية متوجهة إليه تعالى و منحصرة في العبودية له تعالى.

و بعبارة أخرى كما أنّ العابد حاضر لدى اللّه تعالى و لا يخفى منه على اللّه شيء و هو عالم السر و الخفيات، بل وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، يعلم خطرات القلوب و حركات الجوارح و لحظات العيون فلا بد و أن يكون توجه العابد إلى مثل هذا المعبود كاملا و كذا في قلبه تاما بحيث لا يخطر في قلبه غيره فإن ذلك يوجب النقص في العبادة و العبودية بل قد يوجب الطرد و الهجران و الإثم و العصيان،

و قد قال علي (عليه السّلام) في معنى العبادة: «أن تعبد اللّه كأنك تراه و ان لم تكن تراه فإنه يراك». و يأتي التفصيل في قوله تعالى: وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ [سورة الأعراف، الآية:

29].

و الدواعي للعبادة كثيرة حتّى عند شخص واحد فربما يختلف دواعيه لها في حالة عن حالة أخرى و كلما كانت العبادة مجردة عن الدواعي الشخصية و المادية كانت العبادة أشد خلوصا للّه تبارك و تعالى و لذا

ورد عن علي (عليه السّلام): «أن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و ان قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و ان قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار»

و نسب إليه (عليه السّلام): «ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك بل وجدتك

ص: 35

أهلا للعبادة فعبدتك»،

و عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السّلام): «العباد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ و جل خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء. و قوم عبدوا اللّه عزّ و جل حبا له، فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة». و لا شك في أن عبادته لحبه تعالى، كما في هذه الرواية من أفضل أنحاء العبادات لخلوصها حتّى عن المسألة عنه تعالى و إضافة شيء إليه عزّ و جل خارجا عن ذاته، و لكن في بعض الروايات

عن علي (عليه السّلام) كما تقدم «أن قوما عبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار» و هي من أفضلها أيضا و لكن لا تصل إلى مرتبة المحبة، لأن المحبة قد تصل إلى مرتبة الفناء في المحبوب فلا يرى شيئا آخر أبدا وراء أهلية المحبوب و الشكر هو لحاظ شيء آخر وراء ذات المحبوب و سيأتي تفصيل هذه المباحث في محالها إن شاء اللّه تعالى.

و إذا تحققت العبادة الواقعية بحيث لا يشوبها شيء كانت ثمرتها عظيمة لا يمكن حدها، و قد ورد في ذلك ما يوجب التحير منه،

فعن أبي جعفر (عليه السّلام): «إن اللّه جل جلاله قال: ما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، و إنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبه - الحديث -» فإن محبته تعالى لعبده من أجلّ مراتب الكمال و توجب وصوله إلى مقامات عالية لاستلزام الانقياد و العبودية التامة من العابد الإفاضة المطلقة بالنسبة إليه و يستفاد ذلك من كثير من الروايات، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و عن المحقق الطوسي أن العبادة أقسام ثلاثة: قلبي كالعقائد الحسنة و بدني كالأعمال الحسنة، و اجتماعي كالمعاملات الشرعية و الأخلاق الحسنة مع النّاس و سيأتي في الآيات المباركة المناسبة لها تفصيل الكلام.

قوله تعالى: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ : الاستعانة طلب العون، و الحصر هنا كالحصر في «إِيّاكَ نَعْبُدُ» لفظي و سياقي و حالي، لأن الغني المطلق من كل جهة، لا بد و أن تنحصر الاستعانة به، و الاستعانة بما سواه ان رجعت إليه تكون الاستعانة به، و الا تكون شركا من هذه الجهة، فيكون المعنى هنا مشتملا على النفي و الإثبات، أي: لا نستعين بغيرك و نستعين بك فقط.

ص: 36

ثم إنّ الاستعانة باللّه تعالى إما اختيارية أو تكوينية بلسان الحال و الاستعداد، و الثانية من لوازم الإمكان لا تنفك عنه في جميع العوالم فإن المخلوق محتاج في حدوثه و بقائه إلى الخالق و مستعين به بل كل معلول مستعين كذلك من علته، كما ثبت بالبراهين العقلية و النقلية أن مناط الحاجة الإمكان دون الحدوث فجميع ما سواه مستعين به ذاتا و قد تجتمع الاستعانتان، كما في المؤمنين باللّه تعالى فإن فيهم الاستعانة التكوينية و الاختيارية، و كل ما تجلت عظمة المستعان في قلوبهم اشتدت استعانتهم به فالاستعانة به تعالى تتفاوت شدة و ضعفا.

و تأخير العبادة و الاستعانة عن «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» نحو تأخير المعلول عن العلة يعني: من كان رب العالمين و مالك يوم الدين لا بد و ان يكون معبودا و مستعانا به. كما أن في تقديم العبادة على الاستعانة اعتراف بالمسكنة و الخضوع بألطف وجه في أن يعتني الغني المطلق باستعانته، و من ثم قيل: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة مع أنه من قبيل تقديم الغاية على ذيها لكثرة أهمية الغاية فإن غاية الاستعانة باللّه انما هي استعانته في عبادته و ان ما سواها أمور زائلة و حقيرة، و العاقل لا يستعين باللّه تعالى في أمور زائلة غير دائمة إلاّ إذا رجعت إلى ما هو دائم يبقى.

بل إن عبادته تعالى و الاستعانة منه عزّ و جل متلازمتان فعبادته استعانة به كما أنّ نفس الاستعانة عبادة له فيكون مثل قول القائل: أديت ديني فقضيت حاجتي أو قوله قضيت حاجتي أديت ديني. و في ذلك إشارة إلى أن لا ينسب العبد الى نفسه شيئا فانه خلاف أدب العبودية.

و جملة «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» دليل واضح على إبطال الجبر و التفويض و إثبات الأمر بين الأمرين، كما ذكره الأئمة الهداة (عليهم السّلام) على ما يأتي بيان هذا المبحث الشريف مفصلا في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و إنما ذكر «نعبد» و «نستعين» بلفظ الجمع إما باعتبار القارئ و من معه من الملائكة الحفظة، أو باعتبار من معه في صلاة الجماعة، أو من

ص: 37

المصلين، أو باعتبار من معه في الاعتقاد رجاء أن يكون فيهم من يقبل عمله فيقبل منه أيضا، و لأجل تصغير ما يصدر عنه من العمل فإذا التفت إلى أن الكل يعبدونه و يستعينون به عزّ و جل فلا يغتر به و لا يحسب لنفسه وزنا.

و الأولى أن يقال: إن لفظ الجمع فيهما للتحريض إلى حفظ وحدة المجتمع الذين يعبدونه تعالى و يستعينون به فكما انهم مجتمعون في وحدة المعبود و العبادة و المستعان به لا بد أن يكونوا كذلك في جميع شؤونهم كما تدل عليه آيات كثيرة، و سيأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

و إنما كرر لفظ «إياك» لتأكيد الحصر و تشديده في كل واحد من العبادة و الاستعانة، و إطلاقها و حصرها فيه تعالى يقتضي الاستعانة به في جميع الأمور مطلقا، و هي عبارة أخرى عن الاعتقاد ب «لا حول و لا قوة إلاّ باللّه» و العمل بمقتضاه في جميع الأحوال.

قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ . هذا هو ثمرة العبادة و الغرض الأقصى من الاستعانة و أعلى المقامات الإنسانية. و هي الأمانة التي عرضت عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ [سورة الأحزاب، الآية: 72].

و الهداية: الدلالة سواء كانت إلى الحق أو الباطل، و كثيرا ما تستعمل في القرآن في الأول، و من الثاني قوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]، و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ [سورة الصافات، الآية: 23].

و للهداية مراتب كثيرة متفاوتة يصح تعلق الطلب بجميع مراتبها كما يصح تعلقه بالمراتب الراقية و ان كان الشخص واجدا لها بالنسبة إلى المراتب السابقة، ففي كل مرتبة منها تطلب المرتبة الأرقى منها، فلا وجه للإشكال بأن الشخص إذا كان واجدا للهداية لا يصح أن يطلبها من اللّه تعالى ثانيا لأن إبقاء ما يكون واجدا له و تكميل مراتبه و طلب ما فوقه كلها من اللّه تعالى.

و الهداية من أفعاله تعالى و هي من صفات الفعل لا صفة الذات و قد

ص: 38

اضطربت كلمات الفلاسفة المتألهين في الفرق بين ما هو صفة ذاته تعالى و ما هو صفة فعله فجعلوا بعض ما هو صفة الفعل صفة لذاته عزّ و جل و بذلك عسر الجواب عنه و لم ينهضوا بدليل يحسم الاشكال. لكن المستفاد من الآيات الشريفة - على ما سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى - و السنة المقدسة قاعدة كلية و هي: كل ما يصح توصيف اللّه تعالى به و بنقيضه أو ضده فهو من صفة الفعل و كل ما لا يصح ذلك فيه فهو من صفة الذات.

و الأول - كالإرادة، قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و قال تعالى: يُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة المدثر، الآية: 31].

و الثاني - كالحياة و البقاء و العلم مثل: السميع و البصير و القدير، و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن الهداية إما تكوينية أو تشريعية:

و الأولى: ما يعم جميع ما سواه تعالى من المجردات و الماديات و يدل على ذلك قوله تعالى: رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه، الآية: 50] فالبلوغ إلى مرتبة الكمال في كل موجود هداية بالنسبة إليه.

و الثانية: تخص المؤمن و يطلبها منه عزّ و جل و قد جمعت في الإنسان الهدايتان التكوينية و التشريعية و هو يطلبهما معا أما الأولى بالاستعداد كما في سائر الموجودات و الثانية بالطلب الذي يختص به و أما الكافر فله الهداية التكوينية فقط كالنباتات و الحيوانات و إنما ترك الهداية التشريعية باختياره بعد ما تمت الحجة عليه.

الصراط: و هو الطريق المؤدي إلى المطلوب. و الاستقامة هي الاستواء في مقابل الانحراف و الاعوجاج. و إنّها تعم الجميع من الاعتقادات و الملكات بل و الخواطر النفسانية و أعمال الجوارح من العبادات و المعاملات و المجاملات فإنها إن تطابقت مع رضاء اللّه تبارك و تعالى كانت مستقيمة و إلاّ فهي منحرفة قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101] فبين تعالى معنى الهداية و الصراط المستقيم بل يتحقق

ص: 39

الصراط المستقيم في جميع الموجودات فإنّها إن طابقت مع ما جعله اللّه تعالى لها في النظام الأحسن كانت على الصراط المستقيم و إلاّ خرجت عنه بعدم بلوغها الى غاياتها للحوادث الطارئة.

فالهداية الى الصراط المستقيم متقومة بطرفين: المفيض و هو اللّه تعالى، و المستفيض و هو ما سواه تعالى، لأنّ جميع الموجودات في طريق الاستكمال الذي أعده الحكيم جل شأنه.

ثم إنّ الصراط المستقيم كلي واقعي له أنواع كثيرة متفاوتة في التجرد و التعلق بالمادة و غير ذلك و يتحد مع الجميع اتحاد الجنس مع أنواعه فالمجرد منه كالعقل الكلي و المتعلق بالمادة منه كنفوس الأنبياء و الأوصياء، و الأولياء و العرضية منه كالكتب السماوية و التشريعات الإلهية.

و قد بين اللّه تعالى معنى الصراط المستقيم الذي يطلبه الإنسان في عدة آيات، منها قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [سورة الأنعام، الآية: 161]، فجعل الدين هو الصراط المستقيم، و منها قوله تعالى: وَ اِتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: 61]، فجعل اتباع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هو الصراط المستقيم، و كذا في قوله تعالى:

وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّراطِ لَناكِبُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 74]، و منها قوله تعالى: وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: 61]، و جميع هذه الآيات المباركة بيان لأمر واحد و هو الدين الذي أراده اللّه تعالى لخلقه و عبّر عنه بالنور في الآيات الكثيرة كما سيأتي بيانها.

و الانحراف عن الصراط المستقيم وقوع في الظلمات التي لها أنواع كثيرة يجمعها قوله تعالى: «المغضوب عليهم و الضالين» على ما سيأتي، و ذكره تعالى المغضوب عليهم و الضالين بعنوان الجمع اشارة الى التعدد و الاختلاف و عدم الوحدة فيه بخلاف الصراط المستقيم فإنه واحد لا تعدد فيه بوجه و هو النور الذي لم يستعمل في القرآن إلاّ مفردا بخلاف

ص: 40

الظلمات، قال تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ [سورة البقرة، الآية: 257] و قوله تعالى: يَهْدِي اَللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [سورة النور، الآية: 35] فالنور و الصراط المستقيم لا يعقل التعدد فيه لأن مبدأه منه تعالى كما أن بقاءه به و منتهاه إليه بخلاف الظلمات فإنها مختلفة حسب الإعتقادات و الأهواء الباطلة قال تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 16].

نعم المستفاد من مجموع الآيات و الروايات أن الظلم و الشرك من الشيطان فهما حقيقة واحدة لها مراتب كثيرة و مظاهر متفاوتة و الاختلاف في التعبير دون الحقيقة و سيأتي تفصيل ذلك في بيان حقيقة الشيطان إن شاء اللّه تعالى.

صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّالِّينَ (7) قوله تعالى: صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . بيان

اشارة

صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّالِّينَ (7) قوله تعالى: صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . بيان للصراط المستقيم و إنما كرر لفظ «الصراط»، لأهمية الموضوع و أنّ المطلوب ليس مجرد حدوث الهداية فقط بل بقاؤها و إبقاؤها؛ و قد بيّن تعالى الصراط المستقيم بنفسه، لأن صراطا يكون مبدؤه من اللّه تعالى و منتهاه اليه كيف يمكن وصفه و بأي وجه يتحقق نعته؟!! فلا يقدر المخلوق أن يصفه إلاّ بما وصفه الخالق بالقول الجامع في قوله: صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فمن يقدر أن يحد هذه النعمة العظمى التي هي أجلّ مواهب اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و أعلى الكمالات الإنسانية في ما يرد عليه من العوالم كلها و أنّى للممكن المتناهي من كل جهة أن يحيط بحقيقة ما يكون كله منه تبارك و تعالى.

اشارة

و عن جمع من اللغويين أن استعمال النعمة يختص بذوي العقول فلا يستعمل في غيرهم إلاّ بالعناية و له وجه إن أريد منه أن الغاية من خلق النّعم هو الإنسان، كما في قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة

ص: 41

البقرة، الآية: 29]. و أما لو أريد ملاحظة الوسائط بعضها مع البعض فلا كلية له، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ [سورة لقمان، الآية: 31].

و إنما اطلق لفظ النعمة في الآية المباركة، ليفيد التعميم من كل جهة تتصور من النّعم الظاهرية و الباطنية، قال تعالى: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً [سورة لقمان، الآية: 20].

كما بين تعالى بعض مصاديق نعمه في الآية المباركة: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ [سورة النساء، الآية: 69] فإنهم نعم مطلقا و ان النّعم الواردة من المبدأ غير محدودة بحد خاص، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: 34].

ثم إنّ مادة (نعم) استعملت في القرآن العظيم بهيآت مختلفة كلها تشعر بالحنان و الرأفة و العطف و الرحمة قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [سورة الغاشية، الآية: 8]، و قال تعالى: اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة البقرة، الآية: 47]، و قال تعالى: وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [سورة الدخان، الآية: 27] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ما ذكرنا.

تلخيص ما تقدم في أمور:

الأول - لا ريب في أنّ تشريع الأديان السماوية و إنزال الكتب الإلهية و تكميل النفوس الإنسانية بل و تنظيم العالمين - الدنيا و الآخرة - متقوّم بهدايته تبارك و تعالى و لكثرة أهمية ذلك صارت الهداية من شؤونه المختصة به، قال تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 73] و قال جل شأنه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: 56] و كما تكون نفس الهداية من فعله تعالى كذلك تكون مراتبها و أقسامها لأنّه حكيم عليم بخصوصياتها و لكنّها في الإنسان بتوسط الإختيار دون غيره من سائر المخلوقات.

ص: 42

ثم إنّ هذه الهداية - بالمعنى الذي تقدم - واجبة في النظام عقلا لأنّ في تركها إهمالا للنفوس المستعدة و تضييعا لها و هما قبيحان عقلا و كل قبيح ممتنع بالنسبة إليه جل شأنه.

و سبل الهداية بالنسبة إلى اللّه تعالى كثيرة فكل ما يسوق العبد اليه عزّ و جل يكون من مظاهر هدايته و مصاديقها فالقرآن من هدايته تعالى لعباده قال تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 97]، و قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ [سورة البقرة، الآية: 185]. و كذلك سائر الكتب السماوية، قال تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44]. و جعل الكعبة المشرفة أيضا من مظاهرها قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 96]. كما أن السنة الشريفة أيضا كذلك، لأنها أحسن سبيل لتكميل النفوس الإنسانية.

الثاني - إنّ هدايته جل شأنه لعباده على أنواع:

الأول: عام يشمل الجميع قال تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ اَلسَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً [سورة الدهر، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]. و لا ريب في شمولها لجميع أفراد الإنسان كما يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة.

الثاني: الهداية الخاصة و هي تخص بجمع بذلوا وسعهم في العمل بالشريعة المقدسة فزادهم اللّه تعالى بذلك أنحاء الهداية لقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [سورة السجدة، الآية: 24]، و قال تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ [سورة الأنعام، الآية:

90] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ص: 43

الثالث: ما هو أخص من الثاني كما ورد في شأن رسوله و حبيبه (صلى اللّه عليه و آله): لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ [سورة الإسراء، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ [سورة الأنعام، الآية: 75]. و غير ذلك مما ورد في شأن أنبيائه الكرام و هذا مقام عظيم لا يليق لأحد إلاّ لهؤلاء (صلوات اللّه عليهم أجمعين). و لكل من هذه الأنواع مراتب كثيرة أيضا.

(الثالث): حيث إنّ منشأ الصراط المستقيم - بكلا معنييه - من علمه تعالى و إبداع حكمته التامة و إحاطته به من جميع الجهات فهو الأصل في الكمالات و ينبعث منه سائر الكمالات في المخلوقات، فيكون مبدؤه علمه تعالى و بقاؤه بديع حكمته جل شأنه و منتهاه الخلود في جنته و في مثل هذا الأمر - الذي لا يدرك عظمته - لا يتصور فيه نقص و ينطوي فيه جميع المعارف الإلهية، و ما يتصور فيه من الاشتداد و الضعف إنما هو من ناحية المتعلق و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

(الرابع): تقدم أن الصراط هو الطريق المؤدي إلى المطلوب و استعمل في القرآن الكريم موصوفا بالاستقامة و الإستواء غالبا، و قد أضيف اليه تعالى بأنحاء الإضافة كقوله تعالى: وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً [سورة الأنعام، الآية: 126]، و قوله تعالى: صِراطِ اَللّهِ [سورة الشورى، الآية: 53] و قال اللّه تعالى: إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ [سورة سبأ، الآية: 6].

و لم يضف الصراط الى غيره تعالى إلاّ نادرا بخلاف السبيل فإنه أضيف إلى غيره تعالى كثيرا، كما أنّه ذكر بلفظ المفرد و الجمع، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153]، و قال تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69].

و السبيل هو الطريق الموصل إلى الصراط و اختلاف السبل لا يوجب الاختلاف في أصل الصراط، فمثل الصراط المستقيم و السبل المؤدية إليه مثل البحر و ما يتفرع عنه من الجداول فالبحر يفيض على الكل و الكل

ص: 44

مستفيض من البحر و كلها موصوفة بالاستقامة و الرشاد و بإزائها الاعوجاج و الانحراف و السبل المنحرفة المتفرقة هي سبل الشيطان كما تقدم.

(الخامس): للصراط المستقيم مراتب من الوجود. (الأولى): مرتبة البيان و إتمام الحجة و هي من اللّه تبارك و تعالى و أنبيائه العظام و أوصيائهم (عليهم السّلام) و يدخل في ذلك جميع الشرايع الإلهية و الرسالات السماوية. (الثانية): مرتبة الاعتقاد. (الثالثة): مرتبة العمل و هما من وظائف العبد إلاّ أن الثاني أشقهما عليه (الرابعة): مرتبة ظهوره في النشأة الآخرة و من هذه المرتبة الصراط في يوم القيامة الذي لا بد من العبور عليه للوصول إلى محل الخلود.

فالعبور وضعي لا أن يكون تكليفيا، إذ لا تكليف في يوم القيامة و ان اختلف زمان العبور و كيفيته تبعا لاختلاف درجات العابرين و معنوياتهم.

قوله تعالى: غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّالِّينَ . بيان للآية السابقة اهتماما بصراط المنعم عليهم و اعتناء بشأنهم و أنه يباين طريق المغضوب عليهم و طريق الضالين فالجملة الأولى وقعت في مقام المدح لعباد الرحمن و الأخيرة كأنها وردت في مقام رجم الشيطان و من تبعه.

و الغضب: هو الشدة، و رجل غضوب أي: شديد الخلق. و غضب اللّه تعالى عقابه دنيويا كان أو أخرويا أو هما معا، كما أن رضاه ثوابه، و هما من صفات الفعل لا من صفات الذات و تقدم بيان الفرق بينهما.

الضلال بمعنى التحير و يستلزمه الهلاك و الغيبة عن المقصود الحقيقي و العقاب و الهلاك متلازمان، و إنما ذكرهما معا بيانا للمبدأ و الأثر، فالضلال مبدأ العقاب و منشأ استحقاقه و العقاب مترتب على الضلال ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) و إنما قدم الغضب و العقاب على الضلال إرشادا للإنسان بأن لا يرتكب ما يوجب غضب اللّه تعالى.

و الغضب استعمل في القرآن مع اللعن و مع الرجس و مع العذاب كما في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اَللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 60]، و قوله تعالى: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ [سورة الأعراف،

ص: 45

الآية: 71]، و قال تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل، الآية: 106]، و قال تعالى: وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ [سورة الفتح، الآية: 6] بل ورد في مورد بعض المحرمات أيضا:

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ [سورة النساء، الآية: 93].

و يستفاد من ذلك كله شموله لكل من انحرف عن الصراط المستقيم بالكفر سواء كان مشركا أو غيره من أي ملة كان.

و أما الضلال فهو بمعنى التحير كما عرفت فيشمل مطلق الكفر أيضا، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 136] فتفسير الأول باليهود و الثاني بالنصارى من باب التطبيق لا التخصيص حتّى أنه أطلق الضلال على مطلق العصيان أيضا قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: 36].

بحوث المقام

بحث روائي:

وردت روايات كثيرة متفق عليها بين المسلمين في فضل فاتحة الكتاب - المسماة ب (السبع المثاني)، و (أم الكتاب) أيضا، كما في روايات كثيرة - و يكشف ذلك عن امتياز هذه السورة عن سائر السور

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أن فاتحة الكتاب أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه و هي شفاء من كل داء إلاّ الموت» و يحمل ذلك على الموت الحتمي الذي لا بداء فيه و إلاّ فيمكن أن يكون شفاء عن الموت غير الحتمي أيضا

لقول أبي عبد اللّه (عليه السّلام): «إنها من كنوز العرش و انها لو قرئت على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجبا».

ص: 46

أقول: لا يتصور محل أرقى من كنوز العرش الذي نزلت منه هذه السورة المباركة و سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان العرش و ما يتعلق به في الآيات المناسبة له.

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش»،

و عن علي (عليه السّلام): «نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش».

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «انه قال لجابر: ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه؟ قال: بلى علمنيها فعلمه الحمد للّه أم الكتاب ثم قال هي شفاء من كل داء».

أقول: الأم هي الأصل في كل شيء بحيث يتفرع منها الأشياء، فأم الكتاب أي: أصل الكتاب.

كما أن أم القرى أصلها أيضا بحيث تفرعت عنها سائر القرى، كما ورد في النصوص، و سيأتي بيانها عند قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها [سورة الشورى، الآية: 7]، تكون الفاتحة كذلك، لاشتمالها على كثير من معارف القرآن على نحو الإجمال، كما سيأتي في البحث الدلالي.

و عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي قال هي: أم القرآن تثنى في كل صلاة.

أقول: سميت الفاتحة أما لأصالتها و تفرع سائر القرآن منها، كما تقدم.

و أما تسميتها بالسبع المثاني فلما ورد عن الفريقين

أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «أعطيت الطول مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزبور، و فضلت بالمفصل سبع و ستين سورة».

أقول: المراد من الطول من سورة البقرة إلى سورة التوبة، و المئين هي السور التي تتضمن أكثر من مأة آية. و المثاني - التي هي جمع مثنى - مثل المعاني جمع معنى - أي: ما كرر فيه شيء، و هي السور التي تقصر عن المئين، أي: ما كانت على نحو مأة آية أو أقل، و أما المفصل فهي السور التي

ص: 47

تفصل بينها البسملة كثيرا و تقصر آياتها.

و في ذلك أقوال أخر: (الأول) إنها سميت ب (المثاني) لتكررها في الصّلاة. (الثاني): إنما سميت بذلك لنزولها مرتين مرة بمكة، كما تقدم عن علي (عليه السّلام)، و أخرى بالمدينة، لعظمة شأنها، و نسب ذلك إلى مجاهد، و لكن المشهور على خلافه و يقتضيه الإعتبار أيضا. (الثالث): أنّ المثاني جميع القرآن و فاتحة الكتاب سبعة آيات من أعظم آيات القرآن؛ قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ [سورة الحجر، الآية: 87]، و يشهد له ما تقدم في تفسير الآية المباركة عن ابن عباس.

و يصح أن يقال: إن المثاني من الأمور الإضافية، كما عرفت و إطلاقها على فاتحة الكتاب بكل معنى يتصور بالنسبة إلى عنوان المثاني صحيح؛ فهذه الأقوال من باب تطبيق الكلي على الفرد.

و قد روى الفريقان

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): قال: «قال اللّه عزّ و جل: قسّمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل؛ إذا قال العبد: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي و حق عليّ ان أتمم له أموره و أبارك له في أحواله، فإذا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ ، قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي، و علم أن النعم التي له من عندي و أنّ البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم اني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، و إذا قال: اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ، قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفّرن من رحمتي حظه و لأجزلنّ من عطائي نصيبه، فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ ، قال اللّه تعالى: أشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين لاسهلنّ يوم الحساب حسابه و لأتقبلنّ حسناته و لأتجاوزنّ عن سيئاته فإذا قال: إِيّاكَ نَعْبُدُ ، قال اللّه عزّ و جل صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي فإذا قال: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي

ص: 48

و إليّ التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره و لأغيثنه في شدائده و لآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة قال اللّه عزّ و جل: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمل و آمنته مما منه و جل». و قريب منه عن ابن عباس عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا.

أقول: هذه الرواية تكشف عن أهمية سورة الفاتحة بالنسبة إلى سائر آيات القرآن، فإنه (أولا): جعل عبده شريكا لنفسه في المخاطبة و المكالمة (و ثانيا): قسّم السورة بين نفسه جل شأنه و بين عبده نصفين. (و ثالثا): جعل على نفسه الوفاء بما جعله لعبده. (و رابعا): إنها أوثق رابطة بين العابد و المعبود و توجه كل منهما إلى الآخر. (و خامسا): حنان خاص من المعبود الحقيقي إلى عابديه.

فهذه السورة المباركة - التي جعلها اللّه تعالى في صلاة المسلمين - هي كمرآة لجميع معارف القرآن بأخصر البيان.

و عن علي (عليه السّلام) في تفسير الحمد للّه: «إنّ اللّه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف فقال لهم: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا».

أقول: و يدل عليه قوله تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [سورة النحل، الآية: 18].

و عنه (عليه السّلام) في تفسير رب العالمين: «مالك الجماعات من كل مخلوق من الجمادات و الحيوانات و خالقهم و سائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون يقلّب الحيوانات بقدرته و يغذوها من رزقه و يحوطها بكنفه و يدير كلا منها بمصلحته، و يمسك الجمادات بقدرته و يمسك المتصل منها ان يتهافت و يمسك المتهافت منها أن يتلاصق و يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه و الأرض أن تنخسف إلاّ بأمره.

أقول: الحديث ظاهر في عموم ربوبيته تعالى لجميع الموجودات بتمام شؤونها، و يدل على ذلك ما تقدم في معنى الرب.

ص: 49

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في بيان مالك يوم الدين: «إنّ أكيس الكيّسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت و إنّ أحمق الحمقاء من أتبع نفسه هواها و تمنى على اللّه الأماني، و أحمق النّاس من باع آخرته بدنياه، و أحمق منه من باع آخرته بدنيا غيره». و في معناه ورد كثير من الروايات،

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا أو زنوها قبل أن توزنوا».

أقول: هذه الروايات المتواترة تدل على أهمية المعاد و وجوب كثرة الاهتمام به.

و عن علي (عليه السّلام) في بيان اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ : «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا».

أقول: و المراد من الإدامة تجدد مراتب الهداية بعد تحصيل كل سابق، كما تقدم.

و عن الصادق (عليه السّلام): يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك و المبلغ الى جنتك و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك».

و عنه (عليه السّلام) في الصراط: «هو الطريق الى معرفته عزّ و جل و هما صراطان: صراط في الدنيا و صراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا و اقتدى به مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم».

و عن الصادق (عليه السّلام) في قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ فقال: «فاتحة الكتاب من كنز العرش فيها (بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ) الآية التي تقول: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ، (و اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ) دعوى أهل الجنّة حين شكروا اللّه حسن الثواب. و (مالك يوم الدين). قال جبرائيل: ما قالها مسلم قط إلاّ

ص: 50

صدّقه اللّه و أهل سماواته (إِيّاكَ نَعْبُدُ) إخلاص العبادة. (وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ) أفضل ما طلب به العباد حوائجهم (اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ) صراط الأنبياء و هم الذين أنعم اللّه عليهم (غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود (وَ لاَ اَلضّالِّينَ) النصارى».

و عنه (عليه السّلام) أيضا في قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ .

قال: «صراط محمد و أهل بيته».

و عن ابن عباس كذلك قال: «قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد و أهل بيته».

أقول: الأخبار في ذلك كثيرة عن الفريقين، و هو تعبير عن الكلي بالفرد و بيان أحد المصاديق و مثل ذلك كثير في القرآن العظيم و السنة الشريفة.

بحث دلالي:

هذه السورة تتضمن أمورا -:

الأول: إثبات وحدة ذاته تعالى لأنّ لفظ الجلالة (اللّه) كما تقدم بمعنى الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعية و الإدراكية و الشريك في الذات نقص بل من أخس أنحائه.

الثاني: إثبات وحدة فعله تعالى بذكر «رب العالمين» لأنّ العالمين بمعنى ما سواه و هو فاعل الكل و مربيه.

الثالث: إثبات وحدة المعبود بذكر «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» .

الرابع: المعاد الذي هو من أهم المعارف الإلهية و الإعتقاد به بذكره تعالى «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» .

الخامس: الإشارة إلى النبوات السماوية و الشرايع الإلهية بذكر «اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ» .

ص: 51

فهذه السورة على اختصارها مشتملة على جميع المعارف الإلهية و المعتقدات الحقة المذكورة في الكتب السماوية، و يدل على فضل هذه السورة و كمالها مضافا إلى ذلك أمور أخرى:

منها: حسن نظمها و جمالها فإنها ابتدأت بالبسملة ثم الحمد و بعده ثناء اللّه عزّ و جل بأتم الصفات ثم إظهار العبودية للّه تعالى التي هي أعلى مقامات الإنسانية، فالاستعانة منه جل شأنه لدفع المهالك و جلب المنافع ثم طلب الهداية منه تعالى إلى طريق الصلاح، فقد تجلى اللّه سبحانه و تعالى في القرآن و تجلى القرآن في الفاتحة و لأجل ذلك استحقت السورة ان تسمى ب (أم الكتاب) لاحتوائها - على اختصارها - عامة ما يحويه القرآن من المعارف و هي من أهم جوامع الكلم التي فضل اللّه تعالى خاتم أنبيائه (صلّى اللّه عليه و آله) بها و ان شئت الظفر على بعض ما قلناه فانظر إلى ما يقرؤه أهل التوراة و الإنجيل و سائر الأديان في صلواتهم تجد الفرق بينهما كبيرا.

و منها: أنّها تبين أدب العبودية و تعلم العبد كيفية التكلم و المخاطبة معه جل شأنه، و التلقين منه تبارك و تعالى دليل على القبول و الاستجابة، و قد روى الفريقان

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنه يقول: «قال اللّه عزّ و جل قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي». و قد تقدم في البحث الروائي.

ثم إنّ ابتداء هذه السورة بالحمد يدل على محبوبيته له تعالى و حسنه على كل حال سواء كان لذاته أو لفعله أو لصفاته. و الظاهر من إضافة الحمد إلى اللّه تعالى أن الذات الأقدس ذات محمودة و الذات المحمودة بالذات تستلزم محمودية الصفات - التي هي عين الذات - فما تعارف بين العلماء من أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري - كما تقدم - إنما هو بحسب الغالب المتعارف بين المخلوق بحسب إدراكهم و الذات الأقدس خارج عن الاختيار، و الحمد على الذات الأقدس هو أعلى مراتب الحمد

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

نعم، لا بد و أن ينتهي الحمد إلى الذات الأقدس و الا لتسلسل، لأن إنشاء الحمد من الحامد نعمة منه تعالى فهو يحتاج الى حمد آخر و هكذا

ص: 52

فيتسلسل،

و قال (عليه السّلام) في الصحيفة السجادية: «و كيف لي بتحصيل الشكر و شكري إياك يحتاج إلى شكر فكل ما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد».

فمن لطائف القرآن ابتداؤه ب «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» و آخر دعوى المخلدين في الجنّة «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» قال تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة يونس، الآية: 10]، فترجع النهاية إلى البداية، و عليه شواهد من الكتاب و السنة تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى.

بحث فقهي:

يظهر من الروايات المستفيضة بين الفريقين أنّ قوام الصّلاة بفاتحة الكتاب

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»

و قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» الى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

و أما التأمين بعد الفاتحة فيبحث فيه تارة، بحسب الثبوت، و أخرى:

بحسب الإثبات.

أما الأول: إنّ الهداية إما أن تلحظ من حيث إضافتها إلى اللّه تعالى فهو الهادي فحينئذ لا رجحان لذكر آمين بعدها، كما في جميع صفاته تعالى الفعلية، و إما أن تلحظ من حيث اضافتها إلى العبد أي: طلب الهداية منه تعالى فكذلك أيضا لفرض حصول جميع مناشئ الهداية و أسبابها و موجبات إتمام الحجة منه عزّ و جل فقد حصل المطلوب خارجا فلا يعقل معنى صحيح للتأمين على ما وقع و حصل.

و إن كان المراد بها بحسب البقاء لا أصل الحدوث فإن أضيف البقاء إليه عزّ و جل فهي باقية لأنّ حجته تامة و باقية ببقاء الإنسان و لا وجه للتأمين عليه أيضا و إن أضيف الى العبد فهو من فعله و لا معنى لتأمين الشخص على فعله.

و إن أريد به أن يوفق اللّه عبده لإدامة الهداية لنفسه في المستقبل كما

ص: 53

و فقه في الماضي، فهو خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل.

و أما الثاني: فقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بأسناد غير نقية قول: «آمين» بعد تمام الحمد. فالمقام مقام الحمد للّه تعالى على هذه النعمة العظيمة من وقوف العبد بين يدي اللّه تعالى و مخاطبته معه جل شأنه، و يرشد الى ذلك قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اَللّهُ [سورة الأعراف، الآية: 43]،

و قد ورد عن الصادق (عليه السّلام): «إذا قال الامام و لا الضالين فقولوا الحمد للّه رب العالمين».

ثم إنّه يجوز قصد الإنشاء بجملة «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» و «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ» و نحوها من الآيات الكريمة مع قصد القرآنية أيضا لأنّ المتكلم في مقام إيجاد مفاهيم هذه الألفاظ لفظا و البناء على العمل طبقها خارجا.

و قد أشكل عليه جمع من المفسرين بأنّه من استعمال اللفظ في معنيين، و هو غير جائز. (و هو مردود): لأنّ الاستعمال الممتنع على فرض امتناعه إنما هو في ما إذا كان المعنيان فردين مستقلين في الإرادة الاستعمالية كل منهما في عرض الآخر لا في ما إذا كان أحدهما استقلاليا و الآخر تبعيا. و إلاّ فهو واقع كثيرا في المحاورات الصحيحة، و المقام من هذا القبيل فيقصد القارئ القرآنية استقلالا و الإنشائية تبعا و المسألة أصولية تعرضنا لها في [تهذيب الأصول].

بحث فلسفي:

المعروف بين جمع من الفلاسفة لزوم السنخية بين العلة و المعلول، فالمباين من كل جهة لا يمكن أن يصير علة للمباين كذلك كما أنّ المباين من كل جهة لا يصدر من المباين كذلك و بنوا عليه مباحث فلسفية و عرفانية.

و لكن ظاهر قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ و غيره من الآيات المباركة

ص: 54

- الكثيرة التي يأتي بيانها - ينفي ذلك فإنّ موجد العوالم و مربّيها لا سنخية بينه و بينها إذ لا سنخية بين الممكن بالذات و الفقير المحض و بين الواجب بالذات و الغني المطلق كذلك.

و دعوى: انّ السنخية في مفهوم الموجودية متحققة. (مردودة): بأنّه لا علية و لا معلولية في المفاهيم و إنّما هما من شؤون الحقائق فما هو مشترك لا يتصور العلية و المعلولية فيه و ما هو علة و معلول لا يتحقق الاشتراك فيه، و سيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و لذا ذهب جمع من محققي فلاسفة المسلمين إلى أنّ السنخية إنما تصح في العلل الطبيعية، كتوليد النّار للحرارة. و أما الفاعل المختار القدير فلا وجه لذلك فيه، كما عرفت.

ص: 55

ص: 56

سورة البقرة

اشارة

مدنية و هي مائتان و ست و ثمانون آية

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ اَلْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَ

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ اَلْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (5) سميت هذه السورة المباركة ب (البقرة) لذكر قصتها في السورة و هي من أهم السّور القرآنية ففيها آيات من ذروة العرش بل من كنوزها، و من لباب المعارف الإلهية أسرارها و رموزها. و فيها أعظم آية في كتاب اللّه، و أجمع آية للكمالات الإنسانية و آخر آية نزلت على صاحب النبوة و فيها شرعت جملة من أركان الدين و جعلت الكعبة المقدسة قبلة للأنام و مطافا لهم يأتونها من كل فج عميق.

اشارة

و بالجملة كمال السورة إن كان لاشتمالها على المعارف الربوبية فهي في رأسها، و إن كان لأجل اشتمالها على الأحكام التشريعية الفرعية فهي في مقدمتها، و إن كان لأجل اشتمالها على القصص القرآنية فهي في طليعتها، فحق أن تسمى سنام القرآن، و سنام كل شيء ذروته و أعلاه.

التفسير

قوله تعالى: الم : المعروف بين المفسرين أنّ هذه الحروف

ص: 57

المقطعة في أوائل السور القرآنية من المتشابهات و لا ريب في أنّ العلم بها مختص باللّه تبارك و تعالى أو بمن علّمه عزّ و جلّ لأنّ هذه الكلمات المقطعة قد أعيت العلماء على جهدهم عن الوصول الى آثارها فضلا عن العلم بكيفية تركيبها و الاطلاع على حقائقها و أسرارها.

و الظاهر أنّ ذكر الحروف المقطعة في القرآن العظيم يشير إلى أهمية الحروف الهجائية و كثرة عناية اللّه عزّ و جلّ بها لأنّها محور الشرايع السماوية و الكتب الإلهية بل بها تقوم الحياة الاجتماعية في الإنسان، و لأجل ذلك جعل تعالى البيان [أي النطق بها] في قبال خلق الإنسان فقال تبارك و تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ [سورة الرحمن، الآية: 4]. و على هذا يمكن أن يكون «ذلك الكتاب» مبتدءا مؤخرا و «الم» خبرا مقدما.

ص: 58

منها: أنّ المراد بها الإشارة إلى حساب الجمل الذي كان متداولا في العصور القديمة فاستخرجوا منها جملة من الحوادث و منها مدة حياة هذه الأمة، و استند بعضهم إلى حديث أبي لبيد المخزومي. و أصل هذا التفسير باطل لا دليل عليه من عقل أو نقل و الحديث ضعيف و دلالته مخدوشة و الحساب الواقع فيه غلط على كل تقدير فلا يمكن الاعتماد عليه.

و منها: ما عن جمع من مفسري الصوفيّة تفسيرها بالقطب و الولي و الأوتاد و غاية ما ادعوه في إثبات ذلك الكشف و الشهود.

و لكن التفسير بذلك باطل أيضا، و لا دليل عليه و ما ادعوه من الكشف مردود لا مجرى له في القرآن الكريم و السّنة الشريفة و الأحكام الإلهية و نصوصنا به متواترة.

و منها: إنّها إشارة إلى إعجاز القرآن فإنّ ما يستعمل في التكلم و التخاطب إنما هو المركبات دون المقطعات و مع ذلك فإن في هذه المقطعات لطافة لا تكون في غيرها و حلاوة لا توجد في ما سواها فإعجازها في الفصاحة و البلاغة نحو إعجاز خاص إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن إرجاعها الى الحكم و الفوائد المتصورة كما ستعرف و إلاّ فلا يمكن القول بأنها معان لها.

و الحق أنّها بحسب المعنى من المتشابهات التي استأثر اللّه تعالى علمها لنفسه، كما تقدم. فلا يلزم على العباد الفحص عن حقيقتها و بذل الجهد في دركها و فهمها، بل لا بد من إيكال الأمر إليه تعالى، و قد وردت في ذلك روايات كثيرة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام). نعم يمكن أن يلتمس لتلك الحروف حكم و فوائد:

منها: أنّ استعمال الرموز بالحروف المقطعة كان شايعا عند العرب، و قد يعد ذلك من علم المتكلم و حكمته، و القرآن الكريم لم يتعدّ عن هذا المألوف فأشار بذكرها إلى أنّ القرآن الكريم هو من هذه الحروف و جامع لما هو المتعارف لديكم، و مع ذلك فقد أبدع إبداعا عجزت العقول من جمال لفظه فضلا عن كمال معناه.

و منها: أنّها ذكرت لأجل جلب استماع المخاطبين فإنّهم إذا سمعوها

ص: 59

تهيئوا لاستماع البقية، فهي تشويق و تنبيه لاستعداد تفهم شيء جديد.

و منها: إرشاد النّاس الى أنّ وراء كل ظاهر باطن فلا يكتفى بالجمود على الظاهر، بل لا بد من التأمل في بطون الكلمات القرآنية لأنّ في كل كلمة من كلمات القرآن بانفرادها دقيقة، كما أنّ في سائر جهاتها دقائق و لطائف.

و منها: أنّها تشير إلى بعض الحقائق و رموز الى بعض العلوم التي سترها اللّه تعالى عن العباد لما رآه من المصالح حتّى يظهر أهلها فيستفيد منها و تكون لغيره من مخفيات الكنوز فلها ربط بعلم الحروف.

و مقتضى الأخبار الكثيرة أنّ عند الأئمة الهداة شيء كثير منه و هو مما اختصهم اللّه تعالى به فعلم فواتح السور من الأسرار المودعة لدى الإمام (عليه السّلام)، و يرشد إلى ذلك ما يستفاد من مواظبة الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في حالاتهم الانقطاعية مع اللّه تعالى و توسلهم اليه عزّ و جلّ بفواتح السور، و أنّ لها شأنا من الشأن و منزلة عظيمة عند اللّه تعالى. و هذه قرينة معتبرة على سقوط كثير من احتمالات المفسرين و بذلك تخرج عن التشابه المطلق لأنّ ما ذكره الأئمة الهداة انما كان من الإفاضات الربوبية عليهم.

قوله تعالى ذلِكَ اَلْكِتابُ : فسر الأدباء «ذلك» للإشارة إلى البعيد - ذهنيا كان أو خارجيا، حسيا كان أو عقليا - و أنّ موارد استعمالاته في القريب إنّما تكون بالعناية، كقوله تعالى: فَذلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [سورة يوسف، الآية: 32] و قوله تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 102] و المراد بالأولى بعد جمال يوسف (عليه السّلام) عن كل ما يتصورون فيه و بالثانية بعد حقيقته تعالى عن إحاطة العقول بها مطلقا.

و فيه: أنّ كل ذلك تكلّف مستغنى عنه فإن أرادوا الحقيقة و المجاز يعني أنّ استعمال «ذلك» في البعيد حقيقة و في غيره مجاز أو أنه من تعدد الوضع فالأصل ينفي كلا منهما؛ و إن أرادوا به مجرّد الاستحسان فهو مخالف للقاعدة التي أسسوها من أن اللغة لا تثبت بالاستحسان.

و حينئذ فإن قالوا بأنّ الموضوع له في أسماء الإشارة عام فهي كأسماء الأجناس لا فرق فيها بين القريب و البعيد و التفرقة بينهما ساقطة. و إن قالوا بأنّه

ص: 60

خاص و يكون «هذا» لخصوص القريب و «ذلك» لخصوص البعيد و لوحظت هذه الخصوصية في الوضع و الموضوع له، فأصالة عدم ملاحظة هذه الخصوصية مسلمة عند جميع الأدباء و غيرهم أيضا. و إن أرادوا أنّ الخصوصية حاصلة عند الاستعمال، فهو صحيح في الجملة لكن محققيهم لا يقولون بصحة أخذ ما حصل من الاستعمال في الموضوع له، و قد فصلنا القول في الأصول فليراجع تأليفنا فيه. هذا مع أنّ هذا البحث ساقط بالنسبة إلى ما ينزل منه عزّ و جل، إذ لا يتصور بعد و قرب بالنسبة اليه تعالى وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، و هو قريب في عين بعده و بعيد في عين قربه، و قد استعمل لفظ «هذا» بالنسبة إلى القرآن أيضا، قال تعالى: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي [سورة الإسراء، الآية: 9] مع أن القرب و البعد لهما مراتب متفاوتة في القرآن أيضا فهو قريب إلى الأذهان من حيث نظمه و أسلوبه الظاهري. و قصصه و بعيد عنها من حيث متشابهاته و دقائقه فيصح استعمال الإشارة القريبة و البعيدة اليه من جهتين،

و عن علي (عليه السّلام): «إن القرآن ذو وجوه».

ثم إنّ هذه الجملة المباركة «ذلِكَ اَلْكِتابُ» في مقام التعظيم و الإجلال للقرآن الكريم عظمة لا نهاية لها كما ستعرف. و الكتاب قيل هو بمعنى الجمع لأنه مصدر من كتب يكتب إذا جمع.

و قيل: إنه بمعنى المكتوب و هو اسم جنس لما يكتب. و الظاهر أن مادة كتب بمعنى الثبوت و الوجوب. و يمكن إرجاع الأولين إليه أيضا فإن القرآن هو الثابت في جميع العوالم و الجامع لجميع المعارف و الكمالات.

و قد أطلق لفظ الكتاب على القرآن الكريم مقرونا بالتجليل و التعظيم، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: 29]، و قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ [سورة إبراهيم، الآية: 1]، و قال تعالى:

أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [سورة الكهف، الآية:

1-2] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ص: 61

و قد ثبت في الفلسفة الإلهية أنّ الإنسان من بدء وجوده إلى حين موته إنما يسعى و يستهدف في حياته تحصيل غاية و غرض مّا و هذا الغرض يختلف باختلاف أفراد الإنسان، و يمكن جمع تلك الأغراض المختلفة غير المحدودة في عنوانين كليين: الأغراض الواقعية العقلية، و الخيالية الوهمية، و ليس كل فرد يصل إلى غايته و غرضه لوجود موانع لا تعد و عوائق لا تحصى، و الحياة عبارة عن جلب الملائم و دفع العوائق و ثبت هذا بالفطرة أيضا.

و في الآية المباركة إشارة إلى أن الغاية العقلية التي لا بد من طلبها و الغرض الذي يجتهد في تحصيله ذلك الكتاب، لقوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89] فهلموا إليه و لا تذهبوا يمينا و شمالا فتضلوا السبيل.

و يمكن أن يكون المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي كان الأنبياء (عليهم السّلام) يطلبونه بالفطرة الاستكمالية عندهم لتكميل النفوس الإنسانية، و يدل عليه قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 48].

قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ . الريب و الريبة: هو الشك بل هو أدنى مراتبه و حذف المتعلق يفيد العموم أي: أن ذلك الكتاب لا شك فيه من أي جهة يمكن أن يتصور فيه الشك فهو مبرأ من كل عيب و شك، لأن نفي كل طبيعة يقتضي نفي جميع أفرادها المتصورة في تحققها، فنفي الريب بقول مطلق يقتضي نفيه في نظمه و بلاغته و في علومه و معارفه و تشريعاته و جميع الجهات المتصورة في كماله و معارفه و لا ريب في كونه كذلك، فليس لأحد أن يرتاب فيه بعد الاعتراف بأنه من الحكيم الخبير، و هذا حكم عقلي ذكره اللّه تبارك و تعالى في كتابه الكريم كسائر الأحكام العقلية، كقوله تعالى: أَ فِي اَللّهِ شَكٌّ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة ابراهيم، الآية: 10].

قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ . هدى مصدر و الهداية الدلالة إلى الصراط المستقيم و لها مراتب كثيرة تختلف باختلاف الاستعدادات و سائر الجهات اختلافا كثيرا، و تقدم ما يتعلق بها في سورة الفاتحة.

ص: 62

و المتقين: من الاتقاء، و الاسم التقوى و معناها الحجز و المنع و هي من أعلى الصفات التي اعتنى بها اللّه تبارك و تعالى، كما أنها من أجلّ المقامات الإنسانية و أرفعها، و التقوى تدور مدار الإيمان و العمل الصالح.

و القرآن العظيم كما أنه مقتض لحدوث التقوى للعاملين به كذلك مقتض لبقائه فيهم أيضا، و لا ريب في أن العمل بالقرآن ملازم للتقوى فكأنه قال تعالى: هدى للعاملين به، و إنما ذكر المتقين إشعارا بعظمة التقوى و أهمية مقامها و ذكر أحد المتلازمين و ارادة الملازم الآخر شايع في كلام الفصحاء. و قد وصف اللّه تبارك و تعالى الكتاب في آيات أخرى بأنه هدى للمتقين، كقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 138] كما وصفه تعالى بأنه هدى للمسلمين، قال تعالى: نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 102]. و للناس أيضا، كقوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ [سورة البقرة، الآية: 185]، فهو هاد للمتقين و العلماء العاملين به و سواد النّاس و ذلك لعدم تناهي معارفه و عدم إمكان الإحاطة بعلومه لغيره عزّ و جل فكل يستفيض منه بقدر قابليته.

و ليس المراد بالمتقين خصوص من بلغ المرتبة القصوى في إيمانه و تقواه لأن القرآن نافع و هاد لجميع المراتب بل و جميع النّاس كما عرفت، و لا تختص هداية القرآن بالمتقين فقط لأن الوصف لا يدل على المفهوم خصوصا مع التصريح بالعموم في آيات كثيرة على ما تقدم.

ثم إنّ التقوى استعملت في القرآن الكريم بهيئاتها الكثيرة و جميعها تشعر بعظمة مقامها و رفعة شأنها و انها توجب محبة اللّه للمتصفين بها و محبة النّاس لهم كقوله تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [سورة الدخان، الآية: 51] و قال تعالى: أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة ق، الآية: 31] و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 7]، و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى. و قد استعملت منسوبة إليه عزّ و جل في قوله تعالى: وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة، الآية: 41]، و قال

ص: 63

تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ [سورة الحشر، الآية: 18] و اتقاؤه يعني اتقاء عذابه و عقابه، و الا فلا وجه لنسبة الاتقاء الى ذاته و لا قدرته تعالى. و عقاب اللّه إما دنيوي أو أخروي أو هما معا، و اتقاء عقابه إنما يتحقق بالإيمان الصحيح و العمل الصالح؛ و أدنى مرتبة التقوى التي يكون المدار عليها في الكتاب و السنة هي إتيان الواجبات و ترك المحرمات و فوق ذلك مراتب و درجات كما وردت في خطبة علي (عليه السّلام) في وصف المتقين و هي من جلائل خطبه و نفائسها.

و التقوى فوق الإيمان بدرجة، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة الأنفال، الآية:

29]. و قد وردت في جملة من الأخبار أيضا، فعن الرضا (عليه السّلام):

«الإيمان فوق الإسلام بدرجة و التقوى فوق الإيمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و ما قسم في النّاس شيء أقل من التقوى» و يعضد ذلك اللغة و العرف أيضا، فإن أهل التقوى عند النّاس أخص من المؤمنين، و قد جعل الإيمان موضوعا للتقوى في جملة من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ خَيْرٌ [سورة البقرة، الآية: 103]، و قوله تعالى:

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة، الآية: 88]، و قال تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ [سورة المائدة، الآية: 35]. نعم قدم التقوى على الإيمان في جملة أخرى من الآيات كقوله تعالى: إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة، الآية: 93].

و يمكن أن يكون هذا التقديم و التأخير باعتبار المراتب و الثبات عليها لا باعتبار أصل الإيمان فانه موضوع التقوى، فما عن بعض المفسرين من أن التقوى في المقام هو الإيمان و أصر عليه مردود و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ . الإيمان من الأمن سمي به

ص: 64

لكونه موجبا لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة قال تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً [سورة الجن، الآية: 13] أو لأمان النّاس به في الدنيا.

و في الحديث «لأنه يؤمن على اللّه فيجيز أمانه» و هو - كما في جملة من الأخبار - الإعتقاد بالجنان و العمل بالأركان و الإقرار باللسان فليس الإيمان مجرد الإقرار بل العمل بالوظيفة جزؤه فهو في اللغة و الشرع بمعنى واحد و هو التصديق الجازم.

و يستعمل لازما و هو كثير في القرآن، قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ [سورة البقرة، الآية: 13]. و متعديا بكلمة (الباء) و (اللام) و هو أيضا كثير، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ [سورة البقرة، الآية: 177]، و قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [سورة يونس، 83].

و يكشف من ورود متفرعات هذه المادة في مواضع كثيرة من القرآن عن أهمية الإيمان و أنّه الأصل في الكمالات الإنسانية مطلقا، بل جعل تعالى العقل - الذي هو من أعظم مواهبه - دائرا مداره، فقال عزّ و جل: فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً [سورة الطلاق، الآية:

10] حيث خص أولي الألباب بالمؤمنين.

و قرن العمل بالصالحات مع الإيمان في كثير من الآيات، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ [سورة البقرة، الآية: 82]، و في النصوص الكثيرة أن الإيمان مبثوث على الجوارح جميعها و يدل على ذلك الإعتبار أيضا فإنّ من التزم بشيء و لم يعمل بما التزم به لا يعد من أهل ذلك الملتزم به إلاّ بالعناية و المجاز.

نعم؛ الإيمان أمر تشكيكي و انه كسائر الصفات النفسانية التي لها مراتب كثيرة كمالا و نقصا و شدة و ضعفا كما سيأتي و يختلف باختلاف متعلقه من القلب و اللسان و عمل الجوارح و أعلى مراتبه ما بينه تعالى في قوله: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177].

ص: 65

نعم؛ الإيمان أمر تشكيكي و انه كسائر الصفات النفسانية التي لها مراتب كثيرة كمالا و نقصا و شدة و ضعفا كما سيأتي و يختلف باختلاف متعلقه من القلب و اللسان و عمل الجوارح و أعلى مراتبه ما بينه تعالى في قوله: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177].

و من ذلك يعلم أن الإيمان على أنحاء أربعة: (الأول): الإيمان الانتسابي فقط بأن يرى الشخص نفسه في بلاد المسلمين منسوبا إليهم بلا اعتقاد و لا عمل. (الثاني): الإيمان الاعتقادي فقط من دون عمل. (الثالث):

العمل الظاهري من دون الاعتقاد. (الرابع): الاعتقاد القلبي و العمل على طبق ما اعتقد، و ما يصدق عليه الإيمان حقيقة هو الأخير و هو النافع للنفس الإنساني في طريق استكماله و عوالمه الأخروية و سائر الأقسام إنما أطلق عليها الإيمان بالعناية للتسهيل. نعم لا يطلق عليه الكافر إلاّ إذا انتفى منه الإعتقاد و العمل و الإقرار، و مع انتفاء العمل بالأركان فقط يكون فاسقا إن لم يكن منكرا لضروري من ضروريات الدين فمن ترك واجبا و ارتكب محرما فهو ليس بمؤمن من هذه الجهة و إن كان مؤمنا من جهة أخرى

قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

«لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن»،

و عن الصادق (عليه السّلام): «فأما الرشا في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم».

و من ذلك يظهر بطلان إشكال جمع من المفسرين و غيرهم بأنه إن كان العمل بالشريعة المقدسة جزءا من الإيمان لزم عطف الجزء على الكل في الآيات الكثيرة المشتملة على عطف عمل الصالحات على الإيمان، كقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ [سورة البقرة، الآية: 277].

أو اشتراط الشيء بنفسه و كلاهما باطل.

و وجه الدفع أنّ عطف الجزء على الكل إذا كان لفائدة و خصوصية لا بأس به بل هو من شؤون البلاغة و الفصاحة كما صرح به أئمة العربية و أي فائدة أحسن من كون الإيمان بالشريعة يدور مدار العمل بها

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «لا قول إلاّ بالعمل و لا عمل إلاّ بإصابة السنة». و ليس المقام من اشتراط الشيء بنفسه بل من اشتراط الشيء بأهم شروطه،

كما في قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا صلاة إلاّ بطهور».

ص: 66

قوله تعالى: بِالْغَيْبِ . الغيب هو خلاف الحضور و الشهود فكلما لم يكن حاضرا في المدارك الجسمانية و مشهوداتها يكون من الغيب و لكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت و التحقق. و الإيمان بالغيب هو الإعتقاد بما غاب عن النّاس من الموجودات و العوالم كعالم الملائكة و عالم البرزخ و عالم الآخرة و جميع ما أنزله اللّه تبارك و تعالى من الأحكام بل نفس القرآن لأنه و ان كان مشهودا للناس لكنه من الغيب من حيث معارفه و علومه، و يمكن أن يكون مشهودا من جهة و من الغيب من جهة أخرى كالصّلاة فإنها عمل حاضر و لكنها - من حيث أن حافتي الصراط الصلاة و صلة الرحم - من الغيب. و كذا الحجر الأسود فإنه مستلم الحجيج ظاهرا فهو مشهود، و لكن من حيث كونه يمين اللّه في الأرض يصافح بها مع عباده - كما في الحديث - من الغيب إلى غير ذلك.

و المراد بالغيب هنا هو اللّه تبارك و تعالى و كل ما أوحى إلى نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) و الدار الآخرة و ما فيها من النشر و الحشر و الحساب و الثواب و العقاب، و قد أشار عزّ و جل إلى ذلك في ذيل الآية «وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .

و إنما حثّ اللّه عباده على الإيمان بالغيب و عدم اقتصارهم على المحسوسات لأنه الأصل في الكمالات الإنسانية الباقية، و بالإيمان به يسهل على الإنسان كلفة العمل فكأنه يرى فعلا ثمرة عمله بخلاف المقتصر على الحسن فإنّه و ان بلغ الى غاية مراده لكن كماله الظاهري منحصر بالماديات فقط.

و الغيب يستعمل في القرآن الكريم بمعان.

الأول: ما ذكر في هذه الآية المباركة و سائر الآيات المرغبة للإيمان.

الثاني: ما أضافه اللّه تعالى إلى نفسه مثل عالم الغيب و الشهادة، قال تعالى: عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ [سورة التغابن، الآية: 18]، و قوله تعالى: وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة هود، الآية: 123]، و: أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ [سورة التوبة، الآية: 78] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة و المراد بهذا الغيب جميع ما سوى اللّه تعالى من حقائق المجردات

ص: 67

و الماديات و الجواهر و الأعراض و خواصها و مباديها و ما يصير إليها أمرها و ارتباط بعضها مع بعض و المضادة بينها، و ما يتعلق بالإنسان حدوثه و بقائه و مصيره و العوالم التي يرد عليها إلى غير ذلك مما هو مستور.

الثالث: ما ينبغي ستره و حفظه، كما في قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ [سورة النساء، الآية: 24] و قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف، الآية: 52].

الرابع: ما حدث و مضى، كقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ [سورة يوسف، الآية: 102] مع أن قصة يوسف (عليه السّلام) وقعت في الخارج ثم حكاها اللّه تعالى لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله). و الجامع لتلك المعاني هو الاستتار.

قوله تعالى: وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ . استعملت مادة (ق و م) في القرآن العظيم بكثير من هيئاتها المختلفة بالنسبة إلى الصّلاة تعظيما لها و اهتماما بشأنها. و الإقامة بمعنى الإستواء و الاعتدال و الجمع. و معنى إقامة الصلاة إتيانها بحدودها و قيودها على ما أمر اللّه تعالى به و التوجه بها إلى اللّه عزّ و جل.

و الصلاة بمعنى الدعاء و العطف و الرحمة قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 43] أي يرحمكم و يعطف عليكم و قال تعالى: وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 103]، و قال تعالى:

إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 56] أي ينزل الرحمة و العناية الخاصة عليه (صلّى اللّه عليه و آله)، و استعمل لفظ الصّلاة في ما هو المعهود من الأعمال في الشريعة الإسلامية لوجود الدعاء و طلب الرحمة فيها.

و هذه العبادة الخاصة كانت معهودة لدى الأنبياء السابقين و أتباعهم في الشرايع القديمة بل كانت توجد عند الحنفاء في الجاهلية. و قد أحكمها اللّه تعالى في هذه الشريعة في أفضل هيئة و أتم عبادة، و هي أول ما علمها اللّه

ص: 68

تعالى لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مباشرة من وراء الغيب ليلة المعراج كما في الحديث. و أول ما ينظر إليها اللّه تعالى من أعمال العباد يوم القيامة

«إن قبلت قبل ما سواها و ان ردت رد ما سواها» و جعلها النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عمود الدين كل ذلك لما فيها من الأثر العظيم في تهذيب النفوس و العروج بها إلى الملكوت. و قد ذكر اللّه تعالى من عظيم أثرها في قوله: إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت، الآية: 45]، و لذلك أمر اللّه تعالى بإقامتها و المحافظة عليها و الخشوع فيها و أدائها في أوقاتها.

و ليس المراد بإقامتها مجرد الإتيان بها صورة من قيام و ركوع و سجود خالية من روح العبادة و التوجه إليه تعالى و إلاّ فهو مضيع لها و قد توعد اللّه فاعلها بالويل فقال جل شأنه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [سورة الماعون، الآية: 4] فهو و ان سمي مصليا لكنه منعوت بالسهو عن حقيقتها

فتقول الصلاة له: «ضيعك اللّه كما ضيعتني» كما ورد في الأثر و لأجل ذلك لم يستعمل لفظ الإتيان بالصّلاة في القرآن العظيم إلاّ مقرونا بالذم غالبا كقوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ [سورة التوبة، الآية: 54].

قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ . الرزق: هو العطاء الخاص في مقابل الحرمان و يشمل الماديات - كالمال و الولد - و المعنويات كالعلم و التقوى و الجاه. و بالجملة: كل جهة إمكانية تحققت بالنسبة إلى الإنسان و أفاض اللّه تعالى عليه فهو رزق منه تعالى إليه قال عزّ و جل: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ [سورة الإسراء، الآية:

70].

إن قلت: إثبات أنّ الإنسان بجميع جهاته - من ذاته و وجوده و عوارضه - رزق و مجعول منه تعالى مناف للنزاع المعروف بين الفلاسفة و المتكلمين من أن الوجود مجعول منه تعالى، فتكون الماهية ليست كذلك أو الماهية مجعولة منه تعالى فالوجود ليس كذلك، فلا كلية في ما ادعيت من أن الإنسان مجعول منه تعالى.

ص: 69

قلت: لا ريب في أن الجميع - الوجود و الماهية و عوارضها - مجعول منه تعالى إما تبعا أو استقلالا فمن يقول باستقلالية الجعل بأحدهما يكون الآخر مجعولا بالتبع فالكل مجعول منه تعالى و مرزوق منه جل شأنه.

و الإنفاق: هو الإخراج من اليد و المراد به هو الإعطاء الخاص المرغّب اليه شرعا و الممدوح عقلا و هذا وصف آخر للمؤمنين بالغيب فإن من كان مؤمنا بما وراء الماديات و يعتقد بأنّ مرجعها إلى الزوال و الفناء و ان ما يملكه هو رزق من اللّه تعالى يجد في نفسه ميلا إلى بذله ابتغاء رضوان اللّه و رحمة لبني نوعه و يكون من المتقين الذين لهم القابلية لهدى القرآن، فقوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أجمع كلمة نافعة للإنسان و أعظم ما يتحفظ به النظام لأن جميع مواهب اللّه تعالى على الإنسان رزق منه لا بد و ان ينفق بنحو ما اذن اللّه له و هذا هو الاستكمال و الاستنماء لنفس الموهبة الإلهية في الدنيا و الآخرة و هو من الأمداد الغيبي الذي يصل منه تعالى إلى المنفقين، و فيهم نزل قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [سورة البقرة، الآية: 261].

كما أن فيهم نزل أيضا: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: 160]. و ليست الحسنة مختصة بالمال بل تشمل كل خير يوصل إلى الغير لينتفع به و يسمى صدقة أيضا و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

ثم إن الإنفاق أقسام:

الأول: الإنفاق الواجب كالزكاة المفروضة و الخمس و الكفارات و النفقات الواجبة و ما أوجب الإنسان على نفسه بالنذر و نحوه، و من الإنفاق أيضا انفاق الواجبات النظامية على ما فصل في الفقه.

الثاني: الإنفاق المندوب الذي حث القرآن اليه في آيات كثيرة كما سيأتي، و كل ما اشتد حب الإنسان لشيء يشتد ثواب إنفاقه للّه تعالى قال جل شأنه: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران، الآية:

92].

ص: 70

الثالث: الإيثار على النفس الذي هو من أجلّ مقامات الأولياء و فيهم نزلت الآية المباركة: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [سورة الحشر، الآية: 9]. و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة له.

و من ذلك يعرف أنه لا وجه لتخصيص الرزق بالنفقة الواجبة على الأهل و الولد أو الزكاة المفروضة أو صدقة التطوع، أو الحقوق الواجبة العارضة في الأموال - ما عدا الزكاة - و كذا ليس المراد به خصوص العلم - كما يأتي في البحث الروائي - بل هو عام يشمل كل إنفاق و لو كان معنويا يبتغي فيه سبيل اللّه تعالى فإنه ربما يكون الإنسان مصليا و صائما و لكنه متى ما عرض عليه ما يقتضي به بذل شيء شحت نفسه و أمسك عن الإعطاء.

و يستفاد من إسناد الرزق إلى اللّه تعالى أن الإنسان مهما جدّ في تحصيل ما يتملكه كان كله من اللّه جل شأنه و أنه هو الرزاق فلا يكترث بما يصيبه و لا يبخل عما يطلب منه، و إن الإنفاق بشيء له تعالى ليس من فقد الشيء عن الباذل بل حقيقته تحويل شيء عن معرض الزوال و الفناء إلى خزائن اللّه تعالى التي لا يتصور فيها الفناء و الزوال و في قوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سورة سبأ، الآية: 39] و قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة الأنفال، الآية: 60] إشارة إلى ما ذكرناه. و سيأتي التفصيل.

كما أنه يستفاد من قوله تعالى: مِمّا رَزَقْناهُمْ أن المطلوب منه النفقة ببعض مما يملك لا جميعه كما نبه عليه في آية أخرى: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً سورة الإسراء، الآية:

29].

بحوث المقام

بحث روائي:

عن العسكري (عليه السّلام) أنّه قال: «اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث و النشور

ص: 71

و الحساب و الجنّة و النار و توحيد اللّه و سائر ما لا يعرف بالمشاهدة و إنما يعرف بدلائل قد نصبها اللّه تعالى دلائل عليها».

و عن الصادق (عليه السّلام): «الذين يؤمنون بالغيب يصدقون البعث و النشور و الوعد و الوعيد».

و عنه (عليه السّلام) أيضا: «الذين يؤمنون بالغيب أي آمن بقيام القائم (عليه السّلام) إنه حق».

أقول: الغيب شامل لكل ما لم يكن محسوسا و يكون داعيا إلى اللّه تعالى فإيمان المسلمين في هذا الزمان بنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و سائر أنبياء اللّه تعالى من الإيمان بالغيب، و كذا كل حجة منه تعالى تدعو إليه، فما ذكر في الخبر صحيح لا ريب فيه، لأنه من باب أحد المصاديق و من باب التطبيق.

و أما ما فسره جمع برجال الغيب أيضا و فصلوا القول فيه فليس ذلك إلاّ من مجرد الدعوى، و لم يقم دليل على صحته لا عقلا و لا نقلا، كجملة كثيرة من أقوالهم في الركن و الولي و المرشد و الأوتاد و نحو ذلك.

و عن الصادق (عليه السّلام): «فطر النّاس جميعا على التوحيد».

و عنه (عليه السّلام) أيضا: «فطرهم على المعرفة قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن اللّه تعالى خالقه».

أقول: يستفاد من ذلك أن الإيمان بالغيب مودع في الفطرة و من مصاديقه الإيمان باللّه، كما يأتي في الآيات المباركة.

و عن الصادق (عليه السّلام) في قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي: «مما علمناهم ينبئون و ما علمناهم من القرآن يتلون».

أقول: هذا يدل على ما قلناه من أن الإنفاق لا يختص بالمال بل يشمل كل ما ينفع الغير و لا اختصاص لقوله (عليه السّلام) بعلم الشريعة بل يشمل كل علم ينتفع به الغير في دينه أو دنياه - ما لم يكن منهيا عنه شرعا - كعلم

ص: 72

الطب و غيره مما يقوم به نظام المجتمع الذي لا ينافي وجوب إنفاقه أخذ الأجرة عليه، كما بيناه في الفقه،

و عنه (عليه السّلام) أيضا حيث سئل في كم تجب الزكاة؟ فقال له: «الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال: أريدهما جميعا فقال: أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة و عشرون و أما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك». و في ذلك روايات أخرى يأتي بيانها في موردها إن شاء اللّه تعالى.

بحث كلامي:

ذكرنا أنّ الإيمان هو التصديق، و اختلفوا في أن التصديق بسيط أو مركب و كان هذا الاختلاف بين الفلاسفة و لكنه سرى الى غيرهم. و قد أثبتنا في محله سقوط أصل النزاع رأسا لأن مثل التصديق الذي هو من الصفات النفسانية إن لوحظ باعتبار مبادئ حصوله، فهو مركب عند الجميع. و ان لوحظ باعتبار نفسه، فهو بسيط كذلك فالنزاع بينهم لفظي.

لكن في الإيمان نزاع آخر قديم بينهم و هو أنّ العمل على طبق الوظيفة الشرعية جزء مقوّم لحقيقة الإيمان بحيث إن من لم يعمل بالوظيفة الشرعية لا إيمان له و ان كان له التصديق القلبي الجازم بأصول الدين، أو أن العمل بالوظيفة الشرعية شيء خارج عن أصل التصديق القلبي فيكون من كان معتقدا بأصول الدين و لا يعمل بالوظيفة مؤمنا و لكنه فاسق.

و المتحصل من مجموع الآيات المباركة المشتملة على جملة «الذين آمنوا و عملوا الصالحات» و السنّة المقدسة المسوقة في هذا السياق أنّ للإيمان كمالا و نقصا و شدة و ضعفا، و يختلف متعلقه - كما تقدم - قلبا و عملا و لسانا فيكون ايمان كل شيء بحسبه فإيمان القلب بالاعتقاد و ايمان اللسان بالإقرار و ايمان الجوارح بالعمل فإذا تحقق الجميع يثبت الإيمان الكامل و إذا تحقق بالنسبة إلى البعض فهو إيمان ناقص يثبت بالنسبة إلى ما تحقق و ينتفي بالنسبة إلى ما لم يتحقق و يثبت الكفر مكانه.

و الكفر له مراتب كمراتب الإيمان من حيث الشدة و الضعف و من حيث الكمال و النقص، و يتحقق بالنسبة إلى الإعتقاد و اللسان و عمل

ص: 73

الجوارح، فيمكن أن يكون شخص مؤمنا اعتقادا و لسانا و لكنه كافر عملا لا اعتقادا و لا إقرارا و هذا معنى الأثر الذي تقدم من أنّ

«الإيمان اعتقاد بالجنان و إقرار باللسان» فإيمان كل شخص مبثوث على الجوارح، فالإيمان و الكفر كالنور و الظلمة فقد يكون النور في كل مورد و قد يكون في مورد دون آخر، و لا ريب في انه متى ما انتفى النور يحل محله الظلمة لا محالة و لا واسطة بينهما، و هذا معنى ما تقدم من الأخبار من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن» الى غير ذلك مما ورد فإذا اجتمع الإيمان باللّه قلبا و الإقرار باللسان و العمل بما أمر اللّه و ترك ما نهى عنه يكون مؤمنا، و إذا لم يتحقق الإيمان قلبا و تحقق لسانا و عملا يكون منافقا، و إذا تحقق قلبا و لسانا و لم يتحقق عملا يكون فاسقا و هو لا ينافي إطلاق الكفر العملي عليه أيضا

كما في قوله (عليه السّلام): «أما الرشا في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم».

فكل من جهل شيئا من أمور دينه ينقص من إيمانه بقدر جهله، و كل من أنكر ما يجب عليه تصديقه في الشريعة فله حظ من كفر الجحود إلى أن يصل إلى الجحود المطلق و كل من أظهر بلسانه ما لا يعتقده بقلبه بغير عذر شرعي فله حظ من النفاق إلى أن يصل إلى النفاق المطلق، و كل من كتم حقا شرعيا بعد معرفته فله حظ من التهود إلى أن يصير كذلك مطلقا، و كل من استبد برأيه و لم يتبع الشريعة فله حظ من الضلالة إلى أن تتم فيه، و كل من ارتكب حراما أو ترك واجبا فله حظ من كفر الاستخفاف إلى أن يصل إلى الكفر المطلق إن لم يتدارك ذلك بالتوبة. و لكن من أسلم وجهه للّه تعالى و اتبع الشريعة المقدسة في جميع ما جاء به و تدارك ذنبه بالتوبة فهو المؤمن حقا.

هذه خلاصة ما يستفاد من الكتاب و السنة بعد رد المجمل إلى المفصل و المتشابه إلى المحكم، و سيأتي البحث عن ترتب الجزاء على كل واحد مما ذكر.

بحث فلسفي:

لا ريب أنّ الإنسان مركب من جزئين بهما قوامه، و هما الروح و البدن

ص: 74

فلا فعل للروح إلاّ بالبدن كما لا أثر للبدن إلاّ بالروح الإنساني. و اتفق جميع الفلاسفة على أنّ الأول من عالم المجردات و الثاني من عالم المادة. و هذا يحتاج إلى تفصيل سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

نعم، قد اختلفوا في خصوصيات هذين التوأمين حتّى وصل الحد بجمع منهم إلى الاعتراف بالقصور عن درك حقيقتهما و خصوصياتهما. و كيف كان فالروح نزلت من مقام شامخ - على ما يأتي - إلى حضيض المادة. و البدن مستعد إلى العروج من مرتبة الحضيض إلى أوج الروح فصار الإنسان جامعا للكمالين و مركبا من النشأتين فهو بفطرته لا يمكنه إنكار ما وراء المادة.

و قد يوجب أنه بالمادة و الماديات انتقاله عن ما ورائها، و لذا ترى يرجع إلى فطرته في حين و آخر، فالإيمان بالغيب الذي حث اللّه تعالى إليه هو إرجاع الإنسان و سوقه الى فطرته و التوجه بمقام روحانيتهم بما أودع اللّه فيه من استعداده لدرك المعارف و اكتساب الكمالات بعد إتمام الحجة عليه و عدم تدنيس ذلك المقام الرفيع باتباع الأهواء المضلة و الآراء الباطلة.

و قد اتفق الفلاسفة على أنّ منشأ الإدراكات المعنوية و العلوم الكلية في الإنسان هو العقل و لا ينافي ذلك حصول علوم جزئية من غير طريقه. و العقل حجة في جميع إدراكاته بعد تمامية مقدمات الإدراك و من جملتها الإيمان بالغيب، و جميع التشريعات السماوية، و ان تكون المقدمات حاصلة مما أمر به اللّه تعالى الذي هو الجاعل و المشرع، فلا بد و أن يكون مجعوله و مشروعه تحت سلطنته و اختياره. و الا لبطل النظام و اختلت الأحكام. فكل إيمان بالغيب لم يحصل من طريق ما أمر اللّه تعالى به و أذن فيه، فهو باطل لا اعتبار به، بل يمكن أن يعاقب صاحبه سواء أ كان ذلك في كيفية الإدراك أم خصوصيات المدرك، و يأتي التفصيل في محله.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ هذه الآية كالبيان للإيمان بالغيب جيء بها اهتماما و تأكيدا، و يمكن أن يقال: إنهم قسم آخر من المتقين و أعيد لفظ «الذين» لتحقيق التمايز بين القسمين و هذا القسم أرقى من القسم الأول لأن أوصافه تقتضي الأوصاف التي أجريت على القسم الأول مع الزيادة

ص: 75

فالقرآن يكون لهم هدى بالأولى.

و المراد «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» القرآن و سائر ما أوحي اليه (صلّى اللّه عليه و آله) كما أن المراد بالإنزال الوحي و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ المراد الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء.

و في تقديم القرآن بقوله تعالى «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» إشارة إلي فضيلته و جامعيته و كماله، كما أن قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ تفصيل لقوله تعالى: «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» ، لأن الإيمان بما أنزل اليه (صلى اللّه عليه و آله) مشتمل اجمالا على الايمان بما انزل على من قبله (صلى اللّه عليه و آله) من الأنبياء و المرسلين فإن الشريعة الإسلامية تحتوي على أصول جميع الشرايع السماوية من أصول الدين و أمور استكمالية أخرى، فهذه الآية عبارة أخرى عن قوله تعالى: «و المؤمنون كل آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله» [سورة البقرة، الآية: 285].

كما أنّ في تقديم قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ دلالة أيضا على أن إيمان أهل الكتاب بموسى و عيسى (عليهما السّلام) و كتبهما لا أثر له ما لم يؤمنوا بالقرآن، و ما أنزل على خاتم النبيين لأنه من غير المعقول للإنسان أن يدع الإيمان بما هو كامل أبدي و يلتزم بما كان كاملا في وقته و زمانه فإن الشرايع السماوية تتفاوت في الكمال حسب تفاوت استعداد الإنسان و ترقيه في درجات الاستكمال هذا في غير أصول الدين. و أما فيها فالجميع سواء، إذ لم يختلف الأنبياء في دعوة أقوامهم إلى التوحيد و نبذ الشرك و الإيمان بالآخرة فهم في هذه الجهة كنبي واحد و إن جميع الكتب السماوية تجمعها وحدة المبدأ و الغرض، فالإيمان باللّه و بما أنزله تعالى لا تبعيض فيه و إلاّ فيخرج المؤمن بسببه عن حقيقة الإيمان، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 136].

ص: 76

كما أنّ في تقديم قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ دلالة أيضا على أن إيمان أهل الكتاب بموسى و عيسى (عليهما السّلام) و كتبهما لا أثر له ما لم يؤمنوا بالقرآن، و ما أنزل على خاتم النبيين لأنه من غير المعقول للإنسان أن يدع الإيمان بما هو كامل أبدي و يلتزم بما كان كاملا في وقته و زمانه فإن الشرايع السماوية تتفاوت في الكمال حسب تفاوت استعداد الإنسان و ترقيه في درجات الاستكمال هذا في غير أصول الدين. و أما فيها فالجميع سواء، إذ لم يختلف الأنبياء في دعوة أقوامهم إلى التوحيد و نبذ الشرك و الإيمان بالآخرة فهم في هذه الجهة كنبي واحد و إن جميع الكتب السماوية تجمعها وحدة المبدأ و الغرض، فالإيمان باللّه و بما أنزله تعالى لا تبعيض فيه و إلاّ فيخرج المؤمن بسببه عن حقيقة الإيمان، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 136].

فالناس في زمان ظهور دعوة النبي كانوا على أقسام:

الأول: من كان مشركا فأسلم، فهو من المهتدين، و من أصحاب الجنّة.

الثاني: من بقي على شركه و لم يسلم، فهو كافر، و من أصحاب النار.

الثالث: من أظهر الإسلام و أبطن الشرك، فهو منافق، و من أصحاب النار.

الرابع: من كان من أهل الكتاب و آمن بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و كان مؤمنا بكتابه غير المنحرف أيضا، فهو مؤمن، و من أهل الجنّة.

الخامس: من بقي على كتابه و لم يؤمن، فهو كافر و من أهل النار.

السادس: من آمن بخاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) و القرآن و كفر بكتابه السماوي غير المنسوخ في هذه الشريعة، فهو كافر و من أهل النّار لأن الإسلام و القرآن يدعوان إلى الكتب السماوية و هي تدعو إلى القرآن و الإسلام و لا اختلاف بينهما في الأصول كما عرفت.

قوله تعالى: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ : المراد من الآخرة هو عالم جزاء الأعمال و الحساب و الثواب و العقاب و قد يعبر عنها ب (الدار الآخرة) أيضا في مقابل الدار الدنيا.

و اليقين هو مرتبة خاصة من العلم أي: الإعتقاد الجازم المطابق للواقع في الشريعة، فإنّ للعلم مراتب منها اليقين، كما قاله تعالى: كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ [سورة التكاثر، الآية: 5-6]. و سيأتي بقية مراتبه إن شاء اللّه تعالى. و اليقين بالآخرة هو أعلى مراتب كمال النفس الإنسانية و به ينتظم حال المؤمن في الدنيا و الآخرة، و يظهر أثر ذلك في أفعاله و أعماله و أقواله لأنّ اليقين باعث و زاجر.

و إنما ذكر تعالى الضمير المنفصل (هم) تثبيتا لهذه الصفة الخاصة لقسم خاص من المؤمنين إذ ليس كل مؤمن من أهل اليقين بالآخرة.

ص: 77

و يدل على ذلك قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة لقمان، الآية: 4-5] فأكد سبحانه و تعالى من حيث تكرار نفس الآية و تكرار الضمير «هم» فيها تأكيدا بليغا كاشفا عن أهمية المورد.

قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ .

الفلح: الشق و القطع. و أصل الفلاح الظفر بالمقصود و الفوز بالمطلوب بعد الكد و الاجتهاد فكأنه قد قطع المصاعب حتّى نال مقصوده و لا يطلق إلاّ في الخير، فالمفلحون هم الذين أدركوا و أمنوا مما منه فزعوا في الدنيا و الآخرة كما هو مقتضى الإطلاق.

و الآية في مقام بيان حال المتقين فإنّ اتصافهم بالصفات المذكورة يقتضي فوزهم بالهداية و الفلاح، و كل من الهدايتين بتوفيق من اللّه تعالى الأولى بالنسبة إلى الحدوث و الثانية بالنسبة إلى البقاء، أو أن الأولى بالنسبة إلى بعض المراتب و الأخرى بالنسبة إلى ما فوقها. و عليه يكون المشار إليه به «أولئك» في الموضعين واحدا و هم المتقون. و قد رتب الفلاح على التقوى في آيات كثيرة، قال تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة، الآية: 100]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200]، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى [سورة الأعلى، الآية: 14] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و تكرير الإشارة و ذكر ضمير الفصل «هم» للدلالة إلى رفعة مقام المفلحين و إعلانا لعظمة شأنهم.

و ذكر حرف الاستعلاء في قوله جل شأنه «على هدى» إشارة إلى استيلائهم على الهداية و رسوخها فيهم و شدة تمكنهم منها، و لا ريب في ذلك فإن المواظبة على شيء و القيام به كما هو حقه يوجب اتصاف النفس به و ارتسامه فيها فيصير طبيعة ثانوية ربما تغلب الطبيعة الأولية كما هو المشاهد في بعض النفوس.

كما أن تنكير لفظ «هدى» يفيد العظمة و عدم محدودية الهداية بحد لأنها

ص: 78

مفاضة من ربهم عليهم.

بحث دلالي

إنما ذكر الإيمان بالغيب ابتداء، لأنه أصل كل إيمان و أساس كل اعتقاد و عمل كما عرفت ثم عقبه تعالى بالصلاة، لأنها أهم أركان الدين و انها الرابطة بين العبد و معبوده؛ ثم ذكر الإنفاق لأنه أعظم صلة بين أفراد الإنسان و به يحصل التعاون بينهم و تطهر أموالهم، فالآية باختصارها جمعت بين الأصول الاعتقادية و أهم الأعمال الجوارحية و أعظم الأمور الاجتماعية و هذا من إعجاز القرآن.

كما أنه ذكر تعالى المتقين في مفتتح القرآن العظيم إعلاما بأنّ التقوى هي الأصل الذي تدور عليه الكتب السماوية خصوصا القرآن و ما يدعو اليه جميع الأنبياء و المرسلين لا سيما خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) فذكر المتقين من باب ذكر المعلول إجمالا و تفصيل علته بعد ذلك و العلة إنما أجملت بقوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ و فصلت ثانية في الآيات التالية.

ثم إنه تعالى ذكر وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ مع أن الآخرة من أفراد الغيب الذي ذكر في أول الآية و ذلك لأجل التأكيد و الأهمية بالنسبة إلى الآخرة فإن عماد النشأتين - الدنيا و الآخرة - هو الإيمان بالمعاد بعد الإيمان باللّه تعالى و به تنتظم حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية. و أيضا إنّ الإيمان بالغيب إجمالا قد لا يكون كافيا في حث الإنسان على العمل الصالح و ردعه عن عمل المنكر بخلاف من كان مؤمنا بالآخرة تفصيلا فإن أثره يظهر على أعماله فيكون مراقبا لنفسه و من ذلك يظهر الوجه في ذكر اليقين في الآية الأخيرة.

و اليقين بالآخرة يحصل تارة: بإخبار المعصوم بعد أن قامت الأدلة على عصمته، و أخرى: بالنظر الصحيح و التفكر و التدبر في آيات اللّه تعالى و خلق الإنسان و أنّ الدار الدنيا التي هي دار الكون و الفساد لا يمكن أن تكون دار النعيم للأبرار أو الجحيم للأشرار فحينئذ يحكم العقل بأنّ وراء هذه الدار

ص: 79

الفانية المتغيرة دار أخرى فيها يثاب المحسن و يعاقب المسيء. و يسمى هذا البرهان في الفلسفة الإلهية ب (البرهان الإنّي).

و ثالثة: يحصل من المواظبة على عبادة اللّه تعالى كما هو حقه و ترك مخالفته، و يشير إليه قوله تعالى: وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ [سورة الحجر، الآية: 99]، فإن المراد باليقين إن كان هو اليقين بالآخرة فيدل على ما ذكرناه بالمطابقة و ان كان المراد به الموت فيدل عليه بالملازمة. و سيأتي التفصيل في محله.

و أما اليقين الحاصل من غير هذه الطرق فإن طابق المتيقن به الشريعة الإسلامية فصحيح و إلاّ فلا اعتبار به.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ و

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) ما تقدم كان في بيان حال طائفة من النّاس و هم المتقون المؤمنون بالغيب، و المؤمنون بالقرآن، و بما أنزل من قبل و ما يؤول إليه أمرهم من الفوز بالهداية و الفلاح.

اشارة

و في هاتين الآيتين بيان حال طائفة أخرى و هم الكافرون المعاندون الذين كانوا لعنادهم و جحدهم للحق أنهم بلغوا أقصى مراتب الغواية و الضلال فلا جدوى للهداية فيهم و لا يؤثر فيهم التبشير و الإنذار فكان من نتيجة عملهم أن ختم اللّه على قلوبهم فلا استعداد لها للإيمان و كان لهم الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا . الكفر: ستر الشيء و تغطيته و منه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده و الكفر يستعمل في القرآن في مقابل الشكر قال تعالى: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة لقمان، الآية: 12]، و في مقابل الإيمان قال تعالى:

ص: 80

وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف، الآية: 29].

و الكفر هو ستر الحق اعتقادا أو لسانا أو عملا في مقابل الإيمان الذي هو اعتقاد بالجنان و اقرار باللسان و عمل بالأركان كما تقدم. و عليه يكون للكفر مراتب كمراتب الايمان فقد يكون الشخص كافرا بالنسبة إلى مرتبة و هو مؤمن بالنسبة إلى مرتبة أخرى.

و المراد بالذين كفروا - بقرينة السياق و مقابلتهم لأهل اليقين و الإيمان في الآية السابقة - من ستر الحق مطلقا و تمكّن منه الكفر و استولى عليه بحيث لا يرجى منه الإيمان و كان في علم اللّه من الراسخين في الكفر، سواء كان عن عناد و جحود للحق بعد معرفته، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: 14]. أو إعراض عنه للحق إما استكبارا عن النظر فيه، أو لأجل مرض في قلوبهم، بسبب انهماكهم في الأمور الدنيوية فعمى عليهم كل سبيل، و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام. فهؤلاء الكفار لما علم اللّه منهم الجحود للحق و الاستهزاء به لم ينفعهم الإنذار و التخويف و الآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لكل كافر كذلك في أول الإسلام و من يأتي بعده و يترتب على ذلك - قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ - ترتب الجزاء على الشرط الحاصل باختيارهم.

(سواء) اسم بمعنى الإستواء. و الإنذار هو الإخبار بالشيء و لا يكون إلاّ مع تخويف بما يترتب على الإهمال بالشيء.

فيكون المعنى إنّ من كان الكفر عليه مستوليا و لم يكن من المستعدين لقبول الحق و الهداية يستوي فيه الإنذار و عدمه فهم لا يؤمنون بعد دعوتهم للحق إذ وظيفة الداعي للحق هي الدعوة اليه، بلا فرق بين المستعد للإيمان و غير المستعد و هذا من الأمور الفطرية إذ كيف ينفع الدواء مع مزاولة المريض أسباب الداء كما لا يفيد النور مع إغماض العين حتّى لا يراه، و لم يكن ذلك نقصا في الدواء و لا عيبا في النور.

ص: 81

قوله تعالى: خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ . الختم و الطبع بمعنى واحد و هو تغطية الشيء و الاستيثاق منه لئلا يدخله غيره. و الختم على القلب كناية عن عدم انتفاعه بالمعارف الربوبية و الحقائق الإلهية و ما يترتب عليها في عالم الدنيا و الآخرة، فالختم و الطبع و صيرورة القلب في الأكنّة كلها بمعنى واحد، و هو ما ذكره عزّ و جل في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها [سورة الأنعام، الآية: 25]، و كذلك قوله تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [سورة المطففين، الآية: 14].

و المراد منه أنّ من تمكن منه الكفر و استحوذ على قلبه فلا يبقى فيه استعداد للإيمان و الهداية و علم اللّه تعالى انه لا يؤمن باختياره و ذلك بسبب ممارسته المعاصي و مزاولته لارتكاب المحذورات، فتأثر طبعه و نفسه بها و صارت كالطبيعة الثانية له فلا يرجى منه خير و هذا هو المراد من الطبع و الختم فيكون ذلك أمرا طبيعيا فهو سنة اللّه في خلقه و لذا عبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر مفروغ منه و سنة قائمة في من كان كذلك.

و هذه الآية المباركة لا تدل على سلب الإختيار عنهم و انهم مجبورون على الكفر، بل الختم أو الطبع على القلب حاصل من عملهم و إصرارهم على الكفر، و يدل على ذلك آيات كثيرة منها الآية المتقدمة الدالة على أن الرين كان بسبب كسبهم المعاصي حتّى غطّت قلوبهم تلك المعاصي، و كذا قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [سورة الجاثية، الآية: 23] فإنه يدل على أن الختم حصل بسبب اتخاذه إلهه هواه بحيث أعمى بصره و بصيرته فلا يفيد معه شيء.

و إنما أسند الختم الى نفسه تعالى للدلالة على ما ذكرناه، و لأنه من نسبة المقدور و المقضي الى القدر و القضاء لا نسبة المعلول إلى علته، أو نسبة المرضي الى الرضا، فإن اللّه تعالى لا يرضى لعباده الكفر و الجهالة

ص: 82

و الضلالة، بل هو يقضي ذلك على الخلق بحسب اختيارهم و إرادتهم، فيكون المقام نظير قوله تعالى: وَ لَوْ عَلِمَ اَللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [سورة الأنفال، الآية: 23].

و الحاصل: إن الأمور التكوينية الجارية على مجاريها الطبيعية لها إضافتان اضافة إلى فاعلها المباشري فتنسب إليه أولا و بالذات، و إضافة الى خالقها بواسطة خلقه للفاعل المباشري فتنسب إليه تعالى و لا يستلزم ذلك الفساد نقصا فيه تبارك و تعالى، و سيأتي تفصيل البحث إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنه قد ذكر في هذه الآية الختم على القلب مقدما على الختم على السمع، و في سورة الجاثية بالعكس - كما تقدم - حيث قال تعالى: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ، الآية: 23] و لا فرق بينهما من هذه الجهة لأن المدارك الظاهرية طريق إلى حصول العلم بالمقصود و فهم المعارف الإلهية. و لذا ذكر الفلاسفة: «من فقد حسا فقد فقد علما» فمن ختم اللّه على قلبه فقد فقد الفهم و الانتفاع من المعارف الإلهية و كان كذلك بالنسبة إلى سمعه إذ لا أثر لسماع لا يدخل في القلب و كذا لو ختم على سمعه فقد أعرض عن فهم الحق فلا يسمع إلاّ صوتا و حينئذ يصير السماع لغوا كما هو المشاهد في بعض الناس فهما متلازمان في الجملة سواء عبر بالأصل أم بالعكس.

قوله تعالى: وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ . الغشاوة: الغطاء و الحجاب. و المعنى أن أبصارهم لكثرة المعاصي و ارتداعهم عن قبول الحق لا تدرك آيات اللّه تعالى في الآفاق و الأنفس و دلائل وجوده فهي في حجاب، و انما لم يسند الغشاوة إلى نفسه من حيث ثباتهم على الكفر و ارتكابهم المعاصي و في سورة الجاثية أسندها الى نفسه فقال تعالى: وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً و ذلك لأنها تنتهي بالآخرة اليه انتهاء المقتضى (بالفتح) الى المقتضي (بالكسر) مع اختيارهم لذلك و عدم كونهم مجبورين عليه.

و إنما ذكر تعالى عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مع تحقيق الطبع بالنسبة إليها أيضا، لكثرة توغلهم في الجهالات فكأن أبصارهم طبع عليها مرة بعد

ص: 83

أخرى، فعبر تعالى عن المرة الأولى ب (الطبع و الختم)، كما قال تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة النحل، الآية: 108] و عن الثانية ب (الغشاوة) كما في الآية المباركة و ما قلنا جار في جميع الآيات المسوقة في هذا البيان.

و يمكن أن يفرق بينهما بأن يقال: إن الطبع و الختم إنما هو بالنسبة إلى المعنويات مطلقا و الغشاوة بالنسبة إلى الظواهر من حيث إمكان الانتقال منها إلى المعنويات فهذه الجهة مسلوبة عنهم أيضا كما يستفاد ذلك من الآيات المباركة على ما سيأتي.

ثم إنه ليس المراد بالقلب و السمع و البصر في المقام ما هو الموجود في البهائم إذ ليس ذلك مناط الفضل حتى يختم عليه بل المراد منه العقل الذي يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان و يغلق به أبواب النيران و قد بينه اللّه تعالى بقوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و بقوله جل شأنه: أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة الزمر، الآية: 22].

و يستفاد من ذلك أن الختم على القلب و على سائر المدارك إنما يكون بالنسبة إلى عالم الغيب و المعارف الإلهية و ذلك لا ينافي بقاء إدراكها بالنسبة إلى الجهات المادية الدنيوية بل نبوغها فيها لتغاير العالمين و تباين النشأتين و عدم ارتباط أحدهما بالآخر فكم من نابغة في الدنيا ليس له حظ في الآخرة و كم من عالم بما يتعلق بالآخرة لا توجه له بأمور الدنيا.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ . العذاب بمعنى الحبس و المنع، و منه الماء العذب، أي يمنع عن اختلاط شيء آخر، أو لأنه يقمع العطش و يمنعه.

و هو في القرآن اسم لما يؤلم و يمنع النفس عن جميع مشتهياتها من الخير. و العظيم ضد الحقير و يراد به العظمة من كل جهة كما و كيفا و زمانا و مكانا و هو يشمل

ص: 84

عذاب الدنيا و الآخرة قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ [سورة الرعد، الآية: 34] و التنكير لإظهار تعميم العذاب من جميع الجهات التي تتصور فيه و حينئذ فيكون ذكر العظيم من باب أهمية عظمته.

و هاتان الآيتان من القضايا الشرطية المركبة من الشرط و الجزاء و قد ثبت في علم الميزان أن جملة من تلك القضايا تكون قياساتها معها، أي: تصورها يغني عن إقامة البرهان عليها. و سيأتي بيان أن للعذاب - في الآخرة - حياة و إدراكا. مفصلا إنشاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن علي (عليه السّلام): «سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فختم على قلوبهم و سمعهم ليوافق قضاؤه عليهم علمه فيهم ألا تسمع قوله تعالى: لَوْ عَلِمَ اَللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ».

أقول: بين (عليه السّلام) أن الختم و الطبع على قلوبهم وقع باختيار منهم لا أن يكونوا مقهورين في ذلك كما تقدم.

و قوله: «ليوافق - علمه فيهم» ليس هذا العلم من العلة التامة للطبع و الختم حتّى يستلزم الجبر كما ذهب اليه جمع،

لقوله (عليه السّلام) في صدر الرواية «ليوافق قضاؤه عليهم علمه» فحكمه (عليه السّلام) بأن ذلك من مقتضياته - و القضاء بنحو الاقتضاء لا العلة التامة - يدفع هذا الاشكال.

قال أبو جعفر (عليه السّلام): «و اللّه إنّ الكفر لأقدم من الشرك و أخبث و أعظم».

أقول: يظهر من هذه الرواية الشريفة أن الآيتين المباركتين لا تختصان بوقت دون وقت فيكون القدم فيها قدما زمانيا لأن كفر إبليس أقدم من جميع أنحاء الكفر، و يمكن أن يجعل قدما رتبيا فإن كل شرك مبدوّ بأوهام تحصل للنفس و هي بعض مراتب الكفر في الواقع و مبادئ الشرك فيصير الكفر مبدئا للشرك بعد ذلك.

و عن الرضا (عليه السّلام): «الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة

ص: 85

على كفرهم» أقول: و هذا نص في أن الكفر كان باختيارهم فطبع اللّه على قلوبهم عقوبة عليهم.

و عن الصادق (عليه السّلام) في وجوه الكفر في كتاب اللّه عزّ و جل قال: «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر اللّه، و كفر البراءة، و كفر النعم: فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، و هو قول من يقول: لا رب و لا جنّة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال: لهم الدهرية، و هم الذين يقولون و ما يهلكنا إلاّ الدهر، و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم و لا تحقيق لشيء مما يقولون، قال عزّ و جل: إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ أنّ ذلك كما يقولون، و قال: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني بتوحيد اللّه فهذا أحد وجوه الكفر.

و أما الوجه الآخر من الجحود على معرفة و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق قد استقر عنده، و قد قال اللّه عزّ و جل: وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا ، و قال اللّه عزّ و جل: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلْكافِرِينَ فهذا تفسير وجهي الجحود.

و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ، و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ، و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ .

و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عزّ و جل به، و هو قول اللّه عزّ و جل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ؛ فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .

ص: 86

و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عزّ و جل به، و هو قول اللّه عزّ و جل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ؛ فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .

و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، و ذلك قول اللّه عزّ و جل يحكي قول ابراهيم: كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةُ وَ اَلْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ ، يعني تبرأنا منكم، و قال يذكر إبليس و تبرأه من أوليائه من الإنس يوم القيامة: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ، و قال: إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، يعني يتبرأ بعضكم من بعض».

أقول: يمكن جعل جميع ما في هذه الرواية من التقسيم العقلي بأن يقال: الكافر إما لا يعتقد بمبدإ أصلا، و هو الكافر المطلق و يطلق عليه الجاحد بالمعنى العام أيضا؛ أو يعتقد به في الجملة ثم يجحده و هو كفر الجحود بالمعنى الخاص، أو يعتقد به و لا يجحده و لكن يكفر بنعمه و هو كفر النعم، أو يعتقد به و لكن يترك ما أمر اللّه به و هو كفر ترك الطاعة و يشمل هذا ترك كل واجب شرعي، أو إتيان كل ما نهى اللّه عنه. أو يعتقد بذلك كله و لكن لا يبرأ من عدوه و لا يتوالى وليه و هو كفر البراءة. و من هذا الحديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر على تارك الصّلاة أو على إتيان بعض المحرمات أو التولي لأعداء اللّه أو التبري من أولياء اللّه فهذا الحديث هو الجامع لجميع أنواع الكفر، و لكن الكفر الاصطلاحي الذي يبحث عنه في الفقه الموجب لأحكام خاصة يختص ببعض الأقسام دون الجميع.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُ

اشارة

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) ذكر سبحانه أولا المؤمنين حقا و هم الذين أخلصوا دينهم للّه، ثم ذكر الكافرين حقا و هم الذين محضوا في الكفر. و اللازم منهما أنّ هناك قسمين

اشارة

ص: 87

آخرين هما من أبطن الكفر و أظهر الإيمان و هم المنافقون، و من أظهر الكفر و أبطن الإيمان؛ حيث إنّ للإنسان قلبا و لسانا فيمكن أن يعتقد بقلبه شيئا و يظهر بلسانه خلافه، و يأتي الثاني عند قوله تعالى: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [سورة النحل، الآية: 106].

و في هذه الآيات يذكر حال المنافقين الذين جعلهم اللّه تعالى في عرض الكفار في الدنيا فقال: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ [سورة التوبة، الآية: 73] كما أنه جمعهم في الآخرة فقال تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 140].

و قد عطف هذه الطائفة على الطائفة الثانية لما بينهما من الصّلة و الترابط في الكفر بينما قطع الثانية عن الأولى لما بينهما من التباين و الاختلاف.

و قد وصف سبحانه و تعالى حال الطائفة الثانية في آيتين و حال المنافقين في ثلاث عشرة آية هنا لأنهم أشد ضررا على المسلمين من غيرهم. و انهم فرقة من النّاس توجد في كل عصر و زمان و لا تختص بالمنافقين في عصر التنزيل و إن كانت تتناولهم تناولا أوليا و قد اعتنى اللّه سبحانه بذكر أوصافهم و توبيخهم ليتجنب المؤمنون عن كيدهم و إغوائهم و تضليلهم و خبثهم و إلاّ فهم من الكافرين لنفي الإيمان عنهم حيث قال تعالى: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فالتقسيم ثنائي في الواقع المؤمن، و الكافر. و إنما أهمل سبحانه ذكر أسمائهم لأن من أدب القرآن الستر مهما أمكن، و لأن الأمر من قبيل القضية الحقيقية شامل لكل من يكون كذلك.

التفسير

ذكر سبحانه جملة من صفات المنافقين في هذه الآيات الشريفة: منها قوله تعالى: يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فنفى الإيمان عنهم. و إنما خص سبحانه الإيمان باللّه و اليوم الآخر بالذكر و لم يحك عنهم الإيمان بالأنبياء لاستلزام الإيمان بالمبدأ و المعاد الإيمان بالأنبياء أيضا كما عرفت سابقا.

ص: 88

و ما يقال: من أنّ للمنافقين أعمالا حسنة في حد نفسها أيضا فكيف يعدون من الكفار بقول مطلق (مردود) بأنّ الأعمال الحسنة من المنافق إنّما صدرت لأجل أغراضهم الشريرة فلا وجه لترتب الأثر الحسن عليها فنفي حقيقة الإيمان عنهم يجزي عن هذه التكلفات.

و منها قوله تعالى: يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا . الخدع: المكر. و هو إظهار شيء و إخفاء خلافه، و هو من أقبح الرذائل و شر الصفات.

و عن بعض الأدباء أن المخادعة من فعل الطرفين و جعلوا ذلك هو الأصل في صيغ المفاعلة و تبعهم جمع من المفسرين ثم قالوا إنّ المخادعة محالة على اللّه و غير لائقة بالمؤمنين لأنه من فعل المنافقين.

و لكن ذلك مردود بأنّ صيغة المفاعلة إنّما تدل على إنهاء الفعل إلى الغير واقعا أو اعتقادا و أما أنّ الغير يفعل مثل ذلك بالنسبة إلى الفاعل الأول فهو غير مأخوذ فيها، فقد يكون و قد لا يكون. نعم الجزاء على المخادعة مع اللّه و رسوله شيء و مخادعة اللّه و رسوله شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر و إنما ذكرت المخادعة لبيان أن هذا العمل يتكرر عنهم.

و أما مخادعتهم مع اللّه و رسوله تكون بالنسبة إلى اعتقاد المنافق لا بالنسبة إلى الواقع إذ لا معنى لمخادعة من هو عالم السر و الخفيات و مع ذلك نسبها سبحانه الى نفسه ابتداء تسلية للمؤمنين لئلا يثقل تحملها عليهم لشدة صفاء قلوبهم فوحدة السياق نحو تلطف منه تعالى بالمؤمنين كقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية:

10] و غير ذلك من الآيات المباركة.

و أما خداعهم مع المؤمنين فبإظهار الإيمان و إخفاء الكفر و العمل رياء و سمعة و ذلك لأجل الاطلاع على أسرار المؤمنين و اذاعتها لأعدائهم.

قوله تعالى: وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ اي: ضرر عملهم راجع إليهم فهم المخدعون. و أصل الشعور هو التوجه و الالتفات و الفطنة بالشيء و لا يقال إلاّ في ما دق و خفي، و لذلك لا يوصف به سبحانه لعدم خفاء شيء عليه.

ص: 89

و معنى الآية المباركة إن المنافقين لا شعور لهم في إدراك قبح عملهم لفرض أنّ بناءهم على النفاق و الفساد و هم مسخرون تحت طبيعتهم الشريرة، كما في قوله تعالى: فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون، الآية: 3].

ثم إنّ مفاد هذه الآية المباركة يجري في جميع الرذائل النفسانية التي طبعت في قلوب أهلها فالمورد و إن كان خاصا و لكن الحكم (و ما يشعرون) عام.

قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ . المراد بالقلب في الآيات المباركة:

منشأ الفهم و الإدراكات فينطبق عليه النفس و الروح و العقل أيضا. و المرض هو الخروج عن الاعتدال سواء كان في الجسم أو في القلب. و المراد بمرضها ضعف إدراكاتها و عدم تعقلها للدين و أسراره و أحكامه و يجمع ذلك عدم التفقه لها كما قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [سورة الأعراف، الآية: 179].

قوله تعالى: فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً . يمكن أن تكون هذه الجملة المباركة دعاء عليهم كقوله تعالى: ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [سورة التوبة، الآية: 127]. و يمكن أن تكون جريا على سلسلة الأسباب المنتهية إليه تعالى فانه عزّ و جل بعث الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أنزل القرآن و أتم الحجة فكذّبوا بها و أبوا أن يتّبعوه حسدا و استكبارا فزاد ذلك مرضا على مرضهم، فنسب المرض بالسبب القريب الى اختيارهم و بالسبب البعيد الى إرسال الرسول و الدعوة الى الإسلام و الكل ينتهي إليه تعالى في سلسلة الأسباب.

و في تنكير المرض إشارة إلى ثبوت جميع أنواعه حسب مفاسد أخلاقهم و استقرارها في قلوبهم.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ . أي: كان العذاب لأجل كذبهم لأن المنافق كاذب و يستلزم ذلك تكذيبهم للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فلا فرق في قراءة (يكذبون) بين المجرد اللازم و المزيد المتعدي.

ص: 90

و إنما ذكر تعالى خصوص هذه الصفة (كذب) لكونه مصدر كل شر و أساس كل نفاق.

أليم: صفة للعذاب بمعنى المؤلم و إطلاقه يشمل كل ألم و في أي مرتبة كانت من مراتب العظمة كما يدل قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [سورة النساء، الآية: 145] فيكون عذابهم أشد من عذاب الكافرين.

بحث فلسفي:

الشعور هو أدنى مرتبة الإحساس و الإدراك و كلما كان إحساسات الشخص و إدراكاته للدقائق أكثر كان شعوره بها أشد و كليات أنواع الإحساسات و الإدراكات ثلاثة: عقلية، و خيالية - و منها الإدراكات الحيوانية - و نباتية على ما أثبتها قدماء الفلاسفة و العلم الحديث أيضا و لكل منها مراتب كثيرة غير متناهية لا يحيط بها إلاّ الباري جل شأنه.

و كمال الإنسان لنفسه و لغيره إنما هو بالإدراكات العقلية و في غيرها لا ثمرة مهمة فيها. و الإدراكات العقلية على قسمين:

الأول: ما يتعلق بالجهات التشريعية السماوية فهي محدودة و لا بد فيها من موافقتها للكتاب و السنة و عدم مخالفتها و الخدعة - التي هي النفاق - مطلقا مخالفة لها.

الثاني: ما يتعلق بغير الجهات التشريعية كسائر العلوم أو الصنائع فإن الإدراك فيها مرسل غير محدود بحد إذ لأحد للعقل و لا منع للشرع، و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ صفات النفس على أقسام:

الأول: ما كانت صفة لها بحسب ذاتها كان هناك غيرها أولا، كالحياة و الجمال. فالجميل جميل كان هناك غير يراه أولا.

الثاني: الصفات التي تضاف إلى الغير فلا تحقق لها بدونه كالظلم و حسن الخلق و الأذى و نحوه و منها النفاق.

ص: 91

الثالث: الصفات الإضافية المختلفة باختلاف الجهات و سيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَ

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) من صفات المنافقين التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآيات الفساد في الأرض و الاستهزاء بالمؤمنين و توصيفهم بالسفاهة و عدم شعورهم بجهالتهم و تلك الصفات كلها من أخس الصفات و أرذلها التي كانت فيهم.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ . الفساد خروج الشيء عن الاعتدال و تغيره عن سلامة الحال و ضده الصلاح. و مادة الفساد في أي هيئة استعملت تدل على المبغوضية و الاشمئزاز، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ [سورة البقرة، الآية: 205] و لا سيما هيئة الإفساد و متفرعاتها فإنّ المتلبس بها مذموم عند الجميع و يقابل ذلك مادة الصلاح، فإنها في أي هيئة استعملت تدل على المحبوبية و الرغبة و ميل النفس خصوصا هيئة الإصلاح و ما يتفرع منها فإنّها ممدوحة عند الجميع قال تعالى: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء، الآية: 128].

و إنما ذكر تعالى القول بلفظ المجهول ليشمل كل ناه عن المنكر رسولا كان أو وليا أو كان من عرض النّاس، كما أنه سبحانه ذكر الأرض وحدها لأنها محل إفساد المفسدين قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [سورة الروم، الآية: 41].

ص: 92

ثم إنّ الخروج عن الاعتدال و الاستقامة الذي هو معنى الفساد تارة يكون بالنسبة إلى الشخص نفسه في ما بينه و بين اللّه تعالى كالرياء و أخرى بالنسبة إلى شخص آخر مثله كالغش مثلا و ثالثة بالنسبة إلى المجتمع كالخيانة بالنسبة إليهم و لهذه الحالات مراتب متفاوتة. و في الجميع إما أن يكون الشخص متوجها الى ما يفعل أو لا يكون كذلك بل يرى فساده صلاحا و إصلاحا و الآية المباركة تبين هذا القسم.

و معنى الفساد في الآية الشريفة ارتكاب المعاصي سواء كانت صغيرة أو كبيرة، و يدخل فيها مذام الأخلاق، و ذلك لأنّ أفعال الإنسان إما أن تكون موافقة للشرع، أو تكون موافقة لموازين الاجتماع و إن كانت مخالفة للشرع، و ثالثة: أن تكون موافقة لمعتقدات الشخص و إن كانت مخالفة للأولين، و النفاق أو الفساد في الآية المباركة من أحد الأخيرين و قد أكد تعالى بطلان معتقداتهم في قوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ بأن لا صلاح في معتقداتهم إذ ليس كل صلاح اعتقادي صلاحا واقعيا.

قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ . لظهور آثار الفساد في أفعالهم كتفريق المسلمين و إلقاء النفاق بينهم و افشاء أسرارهم.

قوله تعالى: وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ . لأنّ كثرة انهماكهم في الغي و الضلالة أوجبت أنهم يرون باطلهم حقا فنفى اللّه تبارك و تعالى نسبة الشعور عنهم بكلمة (لا) الظاهرة في نفي نسبة المدخول في مثل المقام و الدال على الاستمرار فالآية الشريفة في مقام توبيخ المنافقين و التشنيع عليهم حيث وصفهم بعدم الشعور و الإدراك.

و لعل نفي الشعور عنهم مرتين تارة: بقوله تعالى: وَ ما يَشْعُرُونَ و أخرى: بقوله تعالى: لا يَشْعُرُونَ للإشارة إلى نفي أصل الشعور عنهم أولا و نفي أنهم لا يشعرون بذلك فيكون من إثبات الجهل لعدم الشعور لهم.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ . ذكر تعالى صفة أخرى من صفات المنافقين و هي السفاهة و هذه الصفة تلازمهم و لا بد و ان يكونوا كذلك لأن من ليس أهلا للحق و لا يقبله من

ص: 93

أهله كان ذلك من الجهل المركب عنده و يرى سوء عمله حسنا كما يرى من سواه فاسدا هالكا. و قد أعيت هذه الفرقة جميع أنبياء اللّه عزّ و جل و أوليائه في كل عصر لو لا أن تداركهم العنايات الخاصة الإلهية جل شأنه، و يشهد لما ذكرنا قوله تعالى: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء، الآية:

111]، و قال تعالى: ما نَراكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ اَلرَّأْيِ [سورة هود، الآية: 27].

و إنما أتى سبحانه و تعالى القول بصيغة المجهول تنبيها إلى عدم اختصاص القائل بشخص مخصوص بل يشمل كل من أظهر الحق كما تقدم في الآية السابقة.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ . الناس و الإنسان و البشر ألفاظ مترادفة معنى لهذا الحيوان الناطق المستوي القامة الذي يتفاوت أفراده بين أوج الكمال و أدنى مرتبة الحضيض فالمراد بهم في المقام من دخل في الإسلام، و تقدم معنى الإيمان.

قوله تعالى: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ . السفه: هو الخفة و قلة التمييز بين الخير و الشر و النفع و الضرر سواء كان في الأمور الدنيوية أو الأخروية، فمن لا يعرف نفعه من ضره و خيره من شره بالنسبة إلى الجهات الأخروية يعد سفيها بالنسبة إليها و لو كان رشيدا و ملتفتا إلى الأمور الدنيوية التفاتا دقيقا، كما أن كلّ من كان متوجها و ملتفتا إلى أموره الأخروية و غير دقيق في أموره الدنيوية يعد عند الناس سفيها، و هذا نزاع قديم بين الفريقين فأهل الدنيا يعدون أهل الآخرة سفهاء و أهل الآخرة يعدون أهل الدنيا من السفهاء.

و لا نزاع في الحقيقة لأن المراد من السفيه السفه من جهة لا من كل جهة فمن أراد الآخرة و سعى لها سعيها لا يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة و ان عده بعض أهل الدنيا سفيها بالنسبة إلى بعض جهات الدنيا و من أراد الدنيا و سعى لها سعيها معرضا عن الآخرة يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة كما في المقام لأنه ترك الحياة الدائمة الباقية لأجل الحياة الزائلة و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 94

قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ . و لا ريب في مطابقة ذلك للواقع لأن كل من ترك الحياة الدائمة و أخذ بغيرها سفيه بلا شك. و إنما عبّر بقوله تعالى هنا لا يَعْلَمُونَ و في الآيات السابقة عبّر تعالى ب لا يَشْعُرُونَ تنبيها على أنهم متوغلون في الجهالة و أنّها من سنخ الجهل المركب و تأكيدا لنفي الإدراك عنهم بجميع أنحائه: من نفي الشعور، و نفي العلم، و نفي الفقه و العقل كما في قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر، الآية: 14]، و قوله تعالى: فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون، الآية: 3].

قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ . هذه الآية المباركة تبين صفة أخرى للمنافقين و هي المداهنة بإظهار شيء و إضمار خلافه و لا تكون هذه إلاّ فيمن بلغ في فساد الأخلاق حدا بعيدا فيظهر بوجهين و يتكلم بلسانين يلقى كلا بحسب ما تقتضيه المصلحة و هم يرون ذلك من مصالحهم الفردية و الاجتماعية، و هذه الفئة من المنافقين لم تكن تختص بعصر التنزيل بل توجد في كل عصر و زمان و لا ينافي ذلك الحكاية عنها بصيغة الماضي و تقدم الكلام في ذلك.

و قد بين تعالى أنّ المنافقين يداهنون في دينهم فإذا رأوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون كذبا و زورا و إذا اجتمعوا بشياطينهم قالوا إنا معكم في العقيدة و العمل و إنما نحن نستهزئ بالمسلمين و دينهم و قد فضحهم اللّه تعالى و أعدّ لهم شديد العقاب.

و المراد بالشياطين هم المتمردون، من الشطن و هو البعد و التمرد فكلما بعد الإنسان عن الخير و الصّلاح و قرب إلى الباطل و الفساد يقرب من الشيطان. و المقصود بهم رؤوسهم، و من يدبرهم في مذام الأخلاق و شعب النفاق سواء أ كانوا من الإنس أم الجن، كما في قوله تعالى: جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 112].

ص: 95

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ كونهم مع أهل الإيمان إنما هو بمجرد المرور و الملاقاة فقط، و أما معيتهم مع الشياطين فكانت بعنوان التفهيم و الاستفادة من نواياهم الفاسدة.

ثم إن الخلوة مع الشياطين تارة تكون على نحو الاستفادة و أخذ الآراء الفاسدة و العقائد السيئة و أخرى: تكون لارتكاب الفحشاء و المنكرات و ثالثة: تكون على نحو التفكر في ما لا ينفع للدين و الدنيا فإن الأوهام و الخيالات الفاسدة و الأماني الباطلة من أقوى سبل الشياطين المستولية على الإنسان الموجبة لحرمان عقله عن قرب الرحمن

و عن علي (عليه السّلام):

«الأماني بضائع النوكى» أي: الحمقى و أما الخلوة معهم لأجل هدايتهم إلى الحق فهي ممدوحة بل قد تجب.

قوله تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ .

الاستهزاء هو الاستخفاف و السخرية. و المد: هو الزيادة. و الطغيان: التجاوز عن الحد. و العمه: التحير.

و المعنى: إن اللّه سبحانه و تعالى يجازيهم بالعقاب و يعاملهم معاملة المستهزئ بهم و يدعهم و يمهلهم في فعلهم و تسمية ذلك بالاستهزاء من باب التجانس اللفظي فقط كما في قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: 40]، و قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 194] فإن جزاء الظلم ليس بظلم.

و استهزاء اللّه تعالى بهم لا يختص بعالم دون عالم و لا بأمر دون آخر فمن ذلك سلب توفيقاته و تأييداته، أو إجراؤه تعالى أحكام الإسلام عليهم في الدنيا و ليس لهم حظ منها في الآخرة و كونهم في الدرك الأسفل من النار و هذا من أشد أنحاء الاستهزاء بهم و يزيدهم في تحيرهم و عدم اهتدائهم للصواب و الحق جزاء بما كانوا يعملون و عقوبة لهم على استهزائهم.

و هذه الآية مثل سائر الآيات المباركة التي سبقت مساقها كقوله تعالى: فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة

ص: 96

يونس، الآية: 11]، و قوله تعالى: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً [سورة المائدة، الآية: 64] و غيرها من الآيات الشريفة الموافقة لقانون الطبيعة بالنسبة إلى النفوس الشريرة. و تقدم في خداعة اللّه تعالى لهم بعض الكلام فراجع.

و هذه الآية في مقام التسلية للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و سائر أنبيائه قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة يس، الآية: 30] و المؤمنين أيضا، و حيث أن الاستهزاء بأنبياء اللّه يرجع إلى الاستهزاء باللّه تعالى فنسب جزاء المستهزئين بهم إلى نفسه فقال تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ و قال تعالى: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الشعراء، الآية: 6]، و قال تعالى: وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الزمر، الآية: 48] فإن إحاطة نفاقهم بهم من لوازم فعلهم و الكل يرجع إليه سبحانه و تعالى بنحو الاقتضاء، كما مر، فيصح أن يقال: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ جزاء لأعمالهم أو حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ .

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ . يطلق الاشتراء على الاستبدال مع رجاء النفع أي: أنّ المنافقين استبدلوا الهداية بالضلالة و العمى لغرض من الأغراض الفاسدة الدنيوية فتركوا استعداد فطرتهم فلم تربح تجارتهم و كانوا من الخاسرين. و الخسران في هذه المعاملة من الواضحات لكل عاقل بعد التأمل و لو قليلا و قد بين تعالى ذلك في آية أخرى بما هو أظهر فقال سبحانه: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ اَلْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ [سورة البقرة، الآية: 175] و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 177]. و في جملة من الآيات المباركة التعبير بالثمن القليل قال تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اَللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة النحل، الآية: 95] و قال تعالى: وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 187].

و يمكن أن يفرق بين التعبيرين بأنّ استبدال الهداية و الإيمان بالضلال

ص: 97

و الكفر تارة: يكون لأجل الكفر و الجحود و الشقاوة المنبعثة عن اقتضاء الذات بمجرد الاقتضاء لا العلية، و هذا هو استبدال الهداية بالضلالة و الإيمان، بالكفر، و قد أشار الى ذلك سبحانه و تعالى: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى عَلَى اَلْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ اَلْعَذابِ اَلْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة فصلت، الآية: 17]. و أخرى: يكون الاستبدال لأجل الأغراض الفاسدة الخيالية الدنيوية، و هذا هو الاشتراء بالثمن القليل، فإن كل غرض إذا صدر من الإنسان مع قطع النظر عن إضافته إليه عزّ و جل فهو من المعاملة الخاسرة و إذا صدر منه من جهة إضافته إليه تعالى مع تأييد ذلك بالشرع فهو من المعاملة الرابحة. و المائز بين الغرضين هو الشرع أو العقل المقرر بالشرع، لما سيأتي في محله من أن نسبة الشرع الى العقل نسبة الصورة إلى المادة، فكما لا أثر للمادة بدون الصورة فكذا لا أثر للعقل بدون الشرع، فالعامل بالعقل التارك للشرع يضل في هديه، و العامل بالشرع التارك للعقل يبطل سعيه و مسعاه، و يأتي تفصيل هذا الإجمال إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنه يصح أن يكون قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ من باب ذكر اللازم و إرادة نفي أصل الملزوم فيكون المعنى أنه لا تجارة لهم أصلا في الواقع و إن كانت بحسب الظاهر لأنّ التجارة ما كان فيها اقتضاء الاسترباح في الجملة لا ما بنيت على الخسران و الضلالة.

و في الآية المباركة نحو استعارة و مجاز لإسناد الربح الى التجارة و منه يعلم وجه قوله تعالى: وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ فتصح نسبته إلى تجارتهم الخاسرة او الى جميع شؤونهم التي منها تجارتهم.

بحث روائي:

عن الصادق (عليه السّلام) «سئل فيما النجاة غدا؟ فقال إنما النجاة في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فإنه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر، فقيل له كيف يخادع اللّه؟ فقال (عليه السّلام) يعمل بما أمر اللّه عزّ و جل به ثم يريد به غيره فاتقوا اللّه و اجتنبوا الرياء فإنه شرك باللّه

ص: 98

عزّ و جل إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر، يا غادر، يا خاسر حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

أقول: و قريب من هذه الرواية روايات أخرى كثيرة الظاهرة في حصر النجاة في يوم القيامة في الخلوص و الإخلاص و ترك المخادعة و هو كذلك لأن المخادعة توجب سلب الأجرة على العمل لفرض أن المخادع يأتي بعمله لغيره تبارك و تعالى فلا أجر له منه.

و عن الرضا (عليه السّلام) في قوله تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فقال (عليه السّلام): «إن اللّه لا يستهزئ، و لكن يجازيهم جزاء الاستهزاء».

أقول: تقدم بيان ذلك.

بحث أخلاقي:

للنفاق سببان الأول السبب الفاعلي الثاني السبب الغائي أما سببه الفاعلي فالعمدة فيه ترجع الى عدم العقيدة بالمبدأ و المعاد أصلا أو قلتها و ضعفها فلو اعتقد الإنسان بمبدإ قيوم مراقب له في جميع جهاته و أفعاله لا يحصل منه النفاق الذي هو أم مساوي الأخلاق و كلما اشتد الاعتقاد بالمبدأ و احاطته تعالى يضعف النفاق. و السبب القريب فيه يرجع إلى حب النفس و الجاه و قد بينهما

النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

و أما سببه الغائي فلا ريب في أنه ليس له غاية عقلية و إنما تكون له غايات جزئية وهمية خيالية ربما يستنكر نفس المنافق تلك الغاية لو فرض كمال عقله و إيمانه.

و أما شعبه و مراتبه فهي كثيرة منبثة على الجوانح و الجوارح فالمنافق يمكن أن ينافق بقلبه كالرياء كما تقدم في البحث الروائي أو بكل واحدة من جوارحه أو بجميعها و الوجوه المتصورة في هذه الصفة الشريرة على أقسام:

الأول: كونها من سنخ الطبايع غير القابلة للتغير و التبدل كسائر الطبايع

ص: 99

المودعة في الأشياء كلها من جواهرها و أعراضها التي يصح أن يعبر عنها بالصفة غير القابلة للتخلف و التغيير.

الثاني: كونها من مجرد الاقتضاء الذاتي القابلة للتغير و التبدل و الاشتداد و التضعيف.

الثالث: كونها من مجرد الاكتسابيات المحضة بلا علية و لا اقتضاء أبدا.

الرابع: كونها في مبدأ الأمر من مجرد الاقتضاء المحض و صيرورتها بالممارسة من سنخ الطبيعة و اللوازم غير المنفكة.

و قال بكل من ذلك قائل من الفلاسفة و المتكلمين، و يمكن أن يكون جميع ذلك صحيحا إن أراد القائل بالأول مرتبة خاصة من الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة كسائر الطبايع غير الإرادية الاختيارية فإنه لو قيل بها لزم محاذير كثيرة يشكل الجواب عنها كما يأتي التفصيل في محله.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ

اشارة

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اَلصَّواعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) المثل كالشبه وزنا و معنى. و المثل هو وصف الشيء و بيان نعوته التي توضّحه.

اشارة

و كانت الأمثال دائرة بين الأمم خاصة عند العرب بل كان استعمالها يعد من شؤون الفصاحة و البلاغة، و قد نهج القرآن الكريم في استعمال الأمثال لغرض تفهيم المخاطبين و التكلم معهم بلسانهم المتعارف بينهم و جلب قلوبهم إلى غير ذلك من الحكم و الفوائد. و قد اهتم القرآن الكريم بها اهتماما كبيرا، فقال تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [سورة الروم، الآية: 58]، و قال تعالى:

ص: 100

وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة ابراهيم، الآية: 25] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة و الوجه في ذلك معلوم لأن ذكر المثل يجلي المعاني المعقولة الخفية و يؤثر في النفوس المأنوسة بالمحسوسات، و النّاس إلى ما ارتكز في غرائزهم أميل و إلى ما يكون دائرا في ما بينهم أرغب

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» و على هذا ضرب اللّه تعالى مثلا للمنافقين أولا بمن استوقد نارا.

و ثانيا: بمثل آخر لحال المنافقين فشبه تعالى الإسلام بالمطر لأنه يحيي الأرض بعد موتها و الإسلام يحيي القلوب، و جعل تعالى شبهات المنافقين و أباطيلهم كالظلمات، و شبه ما في الدين من الوعد و الوعيد بالرعد و البرق و ما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق، و هم في غلو و اضطراب و خوف من النّاس:

يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اَللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ [سورة المنافقون، الآية: 4]، فهذا المثل يشرح حال المنافقين و يبين سوء أعمالهم و فساد أسرارهم فقد أتتهم الحكمة من السماء و فتح اللّه عليهم أبواب علومه فاعترضوا ذلك بالشبه و الآراء الفاسدة فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ [سورة الجاثية، الآية: 17] فحصل بعد هذا العلم الإلهي ظلمات و حيرة في أنفسهم باتباع الشهوات فصاروا في حيرة من أمرهم مترددين هالكين.

التفسير

قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ . المراد باستيقاد النّار هو إيقادها للاهتداء بنورها أو الاستضاءة به كما كان يفعل ذلك في قديم الزمان.

قوله تعالى: ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ . المراد به الأعم من النور الظاهري الذي كان من إيقاد النار، و النور المعنوي الذي هو الإسلام كما قال تعالى: أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [سورة الزمر، الآية: 22] فإنّ المنافق لتماديه في الغي و الضلالة و مزاولته للأعمال الشريرة حصلت له طبيعة ثانية أوجبت إطفاء نور الفطرة و الاعراض عن الإيمان

ص: 101

فأوكله اللّه الى نفسه و ذهب بنوره و يدل على ذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذابُ [سورة الحديد، الآية: 13] و لهذا النور مقام عظيم سيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة له.

قوله تعالى: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ . أي صيرهم في الظلمات لا يبصرون شيئا، و يستفاد من حذف المتعلق و سياق الآية الشريفة أنّ اللّه تعالى اذهب جميع مراتب النور عنهم في الدنيا و الآخرة بل سلب جميع الكمالات الإنسانية فلا يرجى منهم خير.

و إنما قال تعالى: ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ و لم يقل اذهب اللّه نورهم لفرض انهم باختيارهم اختاروا الظلمة و العمى فنسب تبارك و تعالى إذهاب النور إلى نفسه لأن الجميع منتسب إليه تعالى بواسطة الأسباب الحاصلة باختيارهم.

قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ . أي: لا يرجعون عن الضّلالة الى الهداية لأنه طبع على حواسهم و ختم على قلوبهم لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179] و المراد من هذا المثل أن المنافقين لم يشعروا بما يفعلون فهم بمنزلة الأعمى الأصم الأبكم لأنهم تمادوا في الغي و الضلالة.

قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اَلصَّواعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ . الصيب اسم من أسماء المطر، و يمكن أن يراد به السحاب لأنه يصيب الفضاء. و الرعد هو صوت السحاب، و البرق هو الضوء اللامع في السحاب. و الصاعقة هي النّار العظيمة النازلة من السماء فتصعق ما تنزل به.

ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة أربعة من كائنات الجو و هي: الصيّب، و الرعد، و البرق، و الصاعقة و تقدم معانيها. و أما حقيقتها

ص: 102

و أسباب حدوثها فقد اختلف فيها فنسب الفريقان إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أسبابا لها ذكروها في الكتب الموضوعة لنقل أحاديثه (صلّى اللّه عليه و آله).

و ذكر قدماء الفلاسفة الطبيعيين لها أسبابا خاصة مذكورة في الكتب الفلسفية، و أما علماء الطبيعيات في العصر الحديث فقد ذكروا أمورا تغاير ما ذكره القدماء، و يظهر من بعض الآيات و الأحاديث - على ما سيأتي في محله - أنّ لها حياة و شعورا و إدراكا خاصة.

و الظاهر أنّ ذلك لم يكن من الاختلاف في الحقيقة و إن قصرت عبارات بعض، فإنّ لكل شيء من موجودات هذا العالم أسبابا و معدات و مقتضيات و شروطا قد أدرك العقل بعضها و لم يدرك الآخر بعد، و أنبياء اللّه تعالى و أولياؤه حيث إنّهم يرون أنّ جميع الحوادث تستند اليه عزّ و جل و الملائكة المدبرين لأمره ينسبون ذلك اليه تعالى و هو الحق الذي لا محيص عنه، و أما غيرهم فلا يدركون إلاّ ما وصل اليه فكرهم مع أنه يمكن أن تكون في الواقع أسبابا أخرى غفلوا عنها و تشبه ذلك حالة المريض الذي اختلفت أنظار النّاس في مرضه فالعالم الروحاني يرى أنّ مرضه نشأ من ناحية دعاء المظلوم الذي ظلمه هذا الشخص مثلا، و الطبيب يقول إنّ مرضه من التهاب بعض أعضاء جسمه مثلا، و النفساني يرى كدورة نفسه هي السبب، و أهل المريض يرون أنه كان محموما فشرب الخل مثلا. و لما عاده وليّ من أولياء اللّه قال: إنّ ممرضك هو يشفيك كما قال تعالى: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء، الآية:

80] و الجميع صادقون في أقوالهم و آرائهم فإن كل واحد ذكر مقتضيا من مقتضيات المرض و سببا من أسبابه لا أن يذكر العلة التامة، و بهذا يمكن أن يجمع بين آراء العلماء في العلوم. و ربما ننتفع به في غير المقام كما سيأتي.

و حيث إنّ المنافقين من الخائنين و الخوف مسلط على الخائن مطلقا فتكون هذه الجملة: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ توبيخا آخر لهم بالملازمة فهم يخافون من موتهم بالصاعقة و الرعد، فيجعلون أصابعهم في

ص: 103

آذانهم ليتحفظوا بذلك بكل ما أمكنهم من أنحاء التحفظ بزعمهم منها.

و للصاعقة و الرعد و البرق مراتب فيمكن أن يكون بعض مراتبها موجبا للموت بحسب قرب الوصول إلى الأجزاء الرئيسية من البدن.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ . الإحاطة هي الإحداق بالشيء و المراد الإحاطة من جميع الجهات علما و قدرة و عذابا في الدنيا و عقابا في الآخرة و من حيث الاستدلال و البراهين و من حيث الدنيا و جميع العوالم بل هو محيط بما سواه بكل معنى الإحاطة، كما أن المعنى عام في جميع العصور من عصر التنزيل إلى يوم القيامة و لجميع أصناف الكفر و أفراده، و فيه دلالة واضحة على أنه بعد احاطته تعالى بهم ليس وراء الكفر و النفاق إلاّ الخزي و الضلال و الهلاك و مع ذلك يمهلهم.

و إحاطته تعالى بما سواه تارة: إحاطة وجودية، و أخرى: علمية، و ثالثة:

فعلية، فمن الأول قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً [سورة النساء، الآية: 126].

و مفهوم الإحاطة و المحاط متقوم بالاثنينية لغة و عقلا. فتوهم وحدة الوجود من مثل هذه التعبيرات في الآيات المباركة - كما زعم جمع من الفلاسفة و العرفاء - باطل، فضلا عن وحدة الوجود و الموجود كما زعم جمع من خواص العرفاء و الفلاسفة، و سيأتي تفصيل هذه المذاهب و فسادها في محالها إن شاء اللّه تعالى.

و من الثاني قوله تعالى: أَنَّ اَللّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً [سورة الطّلاق، الآية: 12] و قوله تعالى: عالِمِ اَلْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3] و هذا القسمان من إحاطته يعمان جميع ما سواه من أنحاء الممكنات.

و أما إحاطته الفعلية كقوله تعالى: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 54] فإن كان المراد بالفعل الخلق و التقدير فهي تعم

ص: 104

جميع ما سواه أيضا. و ان كان المراد بها رضاه و سخطه فالأول للمؤمنين و الأخير للكافرين و المنافقين، و مآلهما واحد لأن علمه الأقدس عين ذاته المقدسة على تفصيل يأتي في مباحث العلم إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: يَكادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ . الخطف: هو الأخذ و الإذهاب بسرعة. و المراد أن القرآن و الآيات البينة و الحجج القيمة تشتمل على أدلة قويمة و براهين قاطعة فيظهر لهم الحق و يلمع في نفوسهم نور الإيمان كالبرق الخاطف يخطف قلوبهم فيزمعون على اتباعه و لكن الشبهات و الآراء الفاسدة تعترضهم فيكونون على حيرة من أمرهم.

قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ . لأنّ القرآن و الشريعة يشتملان على بيان المصالح النوعية و الترغيب إلى الخيرات و التأكيد في دفع المضار و أمثال ذلك و هذا هو الذي يضيء لهم فيمشون فيه.

قوله تعالى: وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا . القيام كناية عن التحير، لأن القرآن و أحكام الدين تزجرهم عن ما يخالف مشتهياتهم النفسانية فيظلم عليهم فيتحيرون في أمرهم.

و الآية الشريفة باختصارها تبين أن في الدين ما يصلح للنّاس دنياهم و ارشاد لهم إلى أن فيه زجرا لهم عما يفسد حالهم، فلا تختص هذه الآيات بالمنافقين بل تشمل كل مشكل في الأمور الشرعية النوعية.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ . أي لو شاء اللّه لجعلهم غير مدركين لشيء. و إنما خص عزّ و جل السمع و البصر بالذكر، لأن غالب الإدراكات في نوع النّاس إنما ترجع إليهما، كما في قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة، الآية: 18]. و يمكن أن يراد بالسمع و البصر الظاهران فيكون تتمة للمثل نفسه و بالآية الأخرى عدم الإدراك بقرينة قوله تعالى: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة البقرة، الآية: 171].

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . لا يعجز عن شيء لأن كل شيء حادث و كل حادث فهو مخلوق و معلول له تعالى فله التوحيد في المعبودية و في الذات و في الفعل، و قد تقدم ما يتعلق بالأول في سورة الفاتحة

ص: 105

و أشرنا إلى الثاني في ما سبق و سيأتي القول في الثالث إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن الرضا (عليه السّلام) في قوله تعالى: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ فقال: إنّ اللّه لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، و لكنه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر و الضلالة فمنعهم المعاونة و اللطف و خلّى بينهم و بين اختيارهم.

أقول: لا بد و أن يرجع الترك - المنفي عن اللّه سبحانه و تعالى المستلزم لعدم القدرة الذي هو المحال بالنسبة إليه تعالى لفرض عموم قدرته - الى فعله سبحانه و تعالى كما ارجعه (عليه السّلام) الى ذلك و هو التخلية بينهم و بين فعلهم و الإمهال لهم في أعمالهم و عدم تعجيل العقاب عليهم، فيكون كالصبر المنسوب إليه تعالى فإنّه أيضا يرجع إلى عدم تعجيل العقاب لا الصبر الاصطلاحي عندنا.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِ

اشارة

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِراشاً وَ اَلسَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) بعد أن ذكر سبحانه في ما تقدم أصناف خلقه و هم المؤمنون المهتدون الفائزون، و الكافرون الذين اختاروا الكفر فطبع بذلك على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم، و المنافقون الذين هم الأخسرون اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون انهم يحسنون صنعا. فكما أن الدنيا مجمعهم بالوجود الجمعي و التدريجي في سلسلة الزمان كذلك الآخرة مجمعهم بالوجود الجمعي في الزمان و المكان. دعا سبحانه و تعالى في هذه الآيات النّاس إلى التوحيد و العبادة حتّى تستعد نفوسهم إلى التقوى. ثم عدد جلائل نعمه في السماء و الأرض ليرغّبهم إلى التفكر و نبذ الأنداد فلا يستعينوا بغيره عزّ

اشارة

ص: 106

و جل، كل ذلك في عبارات يتدفق منها الحنان و العطوفة، و قد أظهر اهتمامه بهم بقوله تعالى: خَلَقَكُمْ ثم ذكر خلق السابقين ليعرف أن الجميع خلقه و هو الخالق و المستحق للعبادة دون غيره و إنما كان الخلق السابق كالمقدمة لخلق المسلمين ثم بين الغاية القصوى للخلق و هي التقوى ثم عدد بعض النّعم النوعية التي تكون من خصائص الربوبية.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ . تقدم في سورة الفاتحة معنى العبادة و الرب، و في هذه الآية أمر سبحانه النّاس بالعبادة و هي الغاية لخلق الإنس و الجن كما قال سبحانه و تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]

و قد ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «خلقهم ليأمرهم بالعبادة» و لم يبعث اللّه الرسل إلاّ لدعوة أقوامهم إلى العبادة قال تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ [سورة النحل، الآية: 36].

و إنما اختار من أسمائه المقدسة لفظ (الرب) لاشتمال الربوبية المطلقة على جميع الكمالات الإلهية، و فيه إشعار بالحنان و الرأفة بخلقه. و إنما أمر بالعبادة لأنها تقتضي الإعتقاد بالتوحيد الذاتي أيضا.

قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . ذكر تعالى خلق الذين من قبلهم لأنهم كانوا يفتخرون بآبائهم بل بعضهم يعبدونهم فقال تعالى: إنهم مخلوقون له كما أنتم مخلوقون له فنفى تعالى جهة الشرك بهذه الكلمة كما بين غاية العبادة و هي التقوى.

قوله تعالى: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِراشاً وَ اَلسَّماءَ بِناءً . الفراش و البساط و المهاد لها جامع واحد و هو سهولة الأرض للانتفاع بها بكل معنى يتصور الانتفاع و إنما تفترق هذه الألفاظ بخصوصيات خاصة تأتي الإشارة إليها في محالها. و التعبير بالفراش كما في هذه الآية الشريفة، و المهاد. كما في قوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهاداً [سورة النبأ، الآية: 6]، و البساط

ص: 107

كما في قوله تعالى: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ بِساطاً [سورة نوح، الآية: 19] دلالة على أنها خلقت كذلك لأجل ملاءمتها لطباع النّاس و ألفتهم بها كما يألفون إلى الفراش و البساط و المهاد.

و السماء تطلق على كل ما علا و أظل و على مجموع ما فوقنا و للعلو درجات و مراتب و لذا يتصور فيها الجمع و قد ورد في القرآن لفظ «السموات» كثيرا لأن جهات البعد كثيرة جدا و لا سيما بناء على أن البعد غير متناه. و البناء وضع شيء على شيء مع التماسك بينهما.

و المراد به أنه تعالى جعل السماء سقفا متماسكا لئلا تقع على الأرض و يدل عليه قوله تعالى: وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 32] و يمكن أن يراد بالبناء العمران في مقابل الخراب و ليس المراد بالعمران و الخراب ما ندركه بأبصارنا الظاهرية فقط بل لها معان أخرى لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى،

و قد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «أطت السماء و حق لها أن تئط فإن ما بها موضع شبر إلاّ و ملك واضع جبهته عليه عظمة للّه تعالى»، و قد ورد التأكيد عن أئمة الدين في رد من زعم أنها خراب لا عمران فيها و على هذا يصح ترتيب نزول الماء من السماء سواء كان البناء بمعنى السقف أو بمعنى العمران كما لا يخفى على أهله.

و قد خلق السماء بأحسن نظام و أجمل صورة و جعل فيها أجراما غير متناهية متماسكة من غير أن يصطدم بعضها ببعض و قد كشف العلم الحديث لهذا السقف آثارا و فوائد كل ذلك يدل على تمام قدرته و عنايته تبارك و تعالى.

و إنما قدم سبحانه و تعالى الأرض لأنها من أنفع الكرات و أعظمها فائدة للإنسان و لأن فيها قيام حياة النبات و الحيوان و الإنسان، و الذي زاد في فضلها انها مهبط وحي السماء و محل نشوء الأنبياء و معبد الأولياء و مسجد أهل الإيمان و محل تكميل نفوس العقلاء بل لم يخلق سبحانه و تعالى في العالم خلقا أجل نفعا و أعظم فائدة من هذه الكرة الأرضية و لذا كان اهتمامه تعالى بها أكثر و اعتناؤه أشد من أي كرة أخرى فإنه سبحانه أعلم بأسرارها و رموزها

ص: 108

و كنوزها. و ما يتوهم من أن الأرض كما أنها مجمع المنافع فيها شرور أيضا من أهمها انها محل إضلال الشياطين و اغوائهم. غير صحيح بما ثبت في علم الفلسفة من أن الشر القليل لا يمنع عن الخير الكثير الموجود فيها و لم يذكر الأرض بلفظ الجمع في القرآن العظيم و ان وردت جمعا في الدعوات المأثورة المعتبرة و قد ذكر السماء مفردا و جمعا في القرآن. نعم ورد في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [سورة الطلاق، الآية: 12]، و يأتي ما يتعلق بذلك.

و لكن ثبت في الفلسفة القديمة بالبراهين القويمة أن جميع الكرات من النوع المنحصر في الفرد بلا فرق بين الأرض و غيرها و لو فرض تعدد فإنما هو بحسب النوع لا بحسب الأفراد الداخلة تحت نوع واحد؛ و على هذا فإفراد لفظ الأرض في القرآن كإفراد لفظي الشمس و القمر يكون بحسب الدليل، و سيأتي تتمة البحث و أما إفراد السماء و جمعها فقد تقدم بعض الكلام فيه.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ . الماء معروف و هو منشأ الحياة في كل ذي روح سواء كان إنسانيا أو حيوانيا أو نباتيا كما قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30] و الماء أصل حدوثه يكون في العالم العلوي و في الأرض أمكنة مجعولة إلهية لإبقاء هذه النعمة الكبرى تسهيلا على المنتفعين به فأصل الحدوث من السماء و العلة المبقية في الأرض، و سيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الآيات المناسبة.

و لا ريب في تقوّم الإنسان بل كل حيوان برزق مخصوص، و الرزق متقوم بالثمرات و هي ما يحصل من النبات و كل نبات متقوم بالماء و هو من السماء و بالأخرة يرجع الرزق اليه تبارك و تعالى و قد أشار سبحانه و تعالى الى ذلك بقوله: وَ فِي اَلسَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ [سورة الذاريات، الآية:

22].

و قد ذكر سبحانه في هذه الآيات من أصول نعمه نعمة الإيجاد و الخلق

ص: 109

لنا و لأسلافنا و نعمة العيش و الحياة و نعمة الغذاء، فعرفنا ذاته المقدسة بآثار رحمته و عظيم نعمه و سعة فضله و غاية قدرته و عظمته.

قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تفريع و توبيخ للمخاطب العاقل في صورة النهي، يعني أنه مع علمكم بألطافه تعالى و عناياته عليكم كيف تجعلون له شريكا و مثلا. و الند هو المثل و الكفؤ و الشريك. «وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أنه لا ندّ له لكونهم معترفين بأن اللّه خالقهم و رازقهم و المنعم عليهم و المدبر لأمورهم فلا يقول خلاف علمكم و عقيدتكم. و يجري معنى الآية في كل من يقول بأنّ مجاري الطبيعة مسخرة تحت إرادته تعالى و مع ذلك يعتقد بخلاف ذلك فلا يختص بزمان دون زمان.

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِي

اشارة

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) بعد أن ذكر سبحانه أقسام الناس بالنسبة إلى الإيمان و الكفر كما تقدم. أمر سبحانه الناس بعبادته لعلهم يصلون إلى الغاية المرجوّة لهم و هي التقوى و التي تستكمل نفوسهم بها لأنه المنعم عليهم بأنواع نعمه. و بما كان له من الربوبية العظمى في خلقه شرع في إثبات النبوة لعبده و بيان ما أنزله عليه و إزالة الشك بأن ما جاء به محمد (صلّى اللّه عليه و آله) كان من عند نفسه فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله. فالآية من أدلة اثبات النبوة و يصح جعلها من أدلة اثبات اعجاز القرآن كما يصح جعلها لهما معا لمكان تلازمهما في جميع مراحل الوجود.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ . يعني إذا حصل لكم الشك في أمر القرآن و زعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بسورة من مثله، و قد ذكر سبحانه و تعالى المنزل عليه بأحسن لفظ تشريفي يتدفق منه الحنان و العطوفة.

ص: 110

فالسياق سياق العناية بالنسبة إلى كل من المنزل و المنزل عليه و هما متلازمان في جميع مراحل الوجود، فيسقط بذلك ما أطاله جمع من المفسرين في مرجع ضمير «مثله» و انه يرجع الى العبد أو الى القرآن المعبر عنه بقوله مِمّا أَنْزَلْنا و ذلك لأن مقام النبوة التي هي من أجل المقامات الممكنة في البشر إنما يتحقق بنزول القرآن عليه و نزول القرآن لا يكون إلاّ بالنسبة إليه فالحقيقة واحدة و الفرق اعتباري. نعم لما كان للكتاب الاستقلال المحض و ليست النبوة إلاّ الدعوة اليه فتكون نسبة الداعي إلى المدعو اليه نسبة اللفظ إلى المعنى و لا أثر في اللفظ بدون المعنى فلا بد و أن يرجع الضمير إلى القرآن، و يشهد لذلك ما ورد في سائر آيات التحدي قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [سورة الطور، الآية: 34]، و قال جلّ شأنه فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس، الآية: 38]، و قال تعالى: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88].

و قد ثبت في العلوم الأدبية أن الجملة الشرطية تجتمع مع إمكان الشرط و تحققه خارجا بل و مع امتناعه فعلا أيضا، و لا إشكال في تحقق الريب بالنسبة إلى بعضهم و إمكانه بالنسبة إلى بعضهم الآخر فيصح استعمال الجملة على أي تقدير.

و لفظ (كان) في نظائر المقام منسلخ عن الزمان بل أثبتنا في محله عدم دلالة الفعل على الزمان أصلا و إنما الزمان مستفاد من السياق إن لم تكن قرينة على الخلاف و الريب: هو الشك كما تقدم في أول السورة.

و كلمة (من) للتبيين لكثرة وضوح المطلب و أنّ شأن هذا القرآن مما لا يرتاب فيه و أن معارضة الناس هنا معه كمعارضة سحرة فرعون مع عصا موسى و معارضة نمرود مع إبراهيم الخليل و أنه لا معنى معقول لمعارضة المقهور تحت الطبيعة مع من هو قاهر عليها، فالتحديات القرآنية انما وقعت لإتمام الحجة على المعاندين لا أن تكون تحديا حقيقيا واقعيا، و منه يظهر أن جميع ما ذكروه في التحدي في الكتب الكلامية و التفاسير بالنسبة إلى المعجزات

ص: 111

و خوارق العادة غير صحيح إلاّ بالنسبة إلى إتمام الحجة.

و السورة هي بعض الشيء و طائفة منه قلّ أو كثر، و التحدي بها يقتضي التحدي بأقصر سورة في القرآن، بل إذا كان ال (ب) للتبعيض يشمل الآية الواحدة أيضا.

ثم إنه ورد التحدي بالقرآن في ثلاثة مواضع غير هذا الموضع: قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88].

و ثانيها قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة هود، الآية: 13]. و ثالثها قوله جل شأنه: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس، الآية: 38]. نعم. ذكر تعالى الحديث أيضا فقال سبحانه: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [سورة الطور، الآية: 34] و لكن المراد هو القرآن فيرجع الى القسم الأول.

و لعل الوجه في اختلاف التحدي بالقرآن تارة بمثله، و أخرى بعشر سور من مثله، و ثالثة بسورة من مثله اختلاف أشخاصهم فبعض ادعى الإتيان بالمثل، و بعض ادعى الإتيان بعشر سور مثله، و بعضهم ادعى الإتيان بسورة مثله، أو لأجل اختلاف الأزمنة ففي أوائل البعثة اتفقوا على الإتيان بالمثل و بعد ظهور العجز في الجملة ادعوا الإتيان بعشر سور مثله و بعد استقرار العجز تحدوا بإتيان سورة من مثله.

و ما يقال: من أنّ المتحدي (بالكسر) هو اللّه تعالى في جميع معجزات الأنبياء خصوصا معجزة خاتم الأنبياء المعجزة الدائمة الأبدية، أو أنّه النبي من قبل اللّه تعالى فيرجع إليه سبحانه أيضا و المتحدّى به في المقام إما هو القرآن أو النبي الصادر منه المعجزة و المتحدى منه هو عامة الخلق و لا بد من السنخية في الجملة بين المتحدي (بالكسر) و المتحدى منه فالملك الجليل العاقل لا يتحدى مع سواد الناس في شيء، و كذا لا بد منها بين المتحدي (بالكسر) و المتحدى به فمن كانت لديه جوهرة نفيسة منحصرة بالفرد في العالم كله ليس

ص: 112

له أن يتحدى في ذلك من في عرض النّاس فلا موضوع للتحدي الذي أطيل القول فيه من المتكلمين و تبعهم جمع من المفسرين.

مردود أولا: بأنّ أصل التحدي إنّما هو لإتمام الحجة على الأمة لئلا يكون للناس على اللّه حجة، و كل ما تحققت هذه الجهة يصح التحدي و مع عدمه فلا موضوع له. و ثانيا: بأنه لطف و عناية منه جل شأنه مع الخلق و مما شاة معهم و إظهار لضعفهم مما يتوهمون لذلك.

قوله تعالى: وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . الدعاء:

النداء و الاستعانة. و الشهداء: جمع شهيد و هو من يعتد بحضوره ممن له اعتبار في القول أو الحل و العقد، و بعبارة أخرى أهل الخبرة بالشيء. و ما دون اللّه أي ما سوى اللّه. و المراد أنه إذا كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من هذا القرآن و لو كان بمعونة ما سوى اللّه فإذا عجزوا عن ذلك يكون ذلك حجة قاطعة على ثبوت أصل الدعوى و هي كون القرآن معجزة إلهية أنزله لإتمام الحجة عليهم.

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا . بيان لثبوت عجزهم و عدم استطاعتهم لما يدعونه، و الجملة الأولى إشارة لإيكال الموضوع الى اختيارهم، و الثانية اخبار واقعي عن الواقع المحقق في علم اللّه و ما هو المتحقق في نظام الطبيعة من عدم ارتباط المحدود المقيد بها بمن هو قاهر عليها إلاّ بإرادته تعالى فالنفي الأبدي إنما هو لأجل أن المدعو به يستلزم الخلف و هو محال ذاتي.

قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ . الوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار. و النّاس هم الكافرون و العصاة. و الحجارة هي حجر الكبريت أو سائر المعادن الحجرية التي تستعمل للوقود بل يمكن أن يراد بها نفس النّاس الكفرة بعضهم بالنسبة إلى بعضهم و هو ما يقتضيه قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء، الآية:

98] فيصير الموقود و الوقود شيئا واحدا فكل من ازداد طغيانه و تبعه قوم يكون حجارة بالنسبة إلى تابعيه مع وجود الحياة في المتبوع أيضا.

ص: 113

ثم إنه في المقام بحثان:

الأول: إنّ التكليف بالشيء يدور مدار القدرة عقلا و شرعا فلا يصح التكليف بغير المقدور كذلك و في هذه الآية المباركة أخبر سبحانه بقوله تعالى: وَ لَنْ تَفْعَلُوا أنه من التكليف بغير المقدور الذي هو باطل. و الجواب عن ذلك بأن التكليف إن كان للامتحان - كما عرفت - أو إتماما للحجة عليهم و أخذا بإنكارهم للنبوة و المعجزة يصح و لو مع العلم بعدم إمكان الامتثال.

الثاني: إنّ العقاب مترتب على مخالفة اللّه عزّ و جل و في المقام لم تتحقق منهم مخالفة حتّى يتعلق بهم العقاب. و الجواب يظهر من الجواب السابق فإذا تمت الحجة عليهم بالنبوة و إعجاز القرآن لا بد لهم من التصديق و الاعتقاد بهما و حينئذ الريب و الشك الحاصل باختيارهم مخالفة توجب استحقاق العقاب.

قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ . ذكر اللّه تعالى إعداد النّار أو العذاب للكافرين في جملة من الآيات و إعداد الجنة للمتقين كذلك قال سبحانه: وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [سورة آل عمران، الآية:

131] كما قال جل شأنه: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 133] إلى غير ذلك من الآيات، فيستفاد من الآية أمور:

الأول: أن أصل خلق النّار كان لأجل الكافرين فإذا أطلق في القرآن أنّ النار للفاسقين أو المجرمين لا بد من حملهم على الكافرين بقرينة أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أو أن نارهم غير ما أعدت للكافرين بحسب المرتبة و الدرجة.

الثاني: إنها أعدت فيستفاد من لفظ الإعداد سبق الوجود إذ لا يطلق هذا اللفظ على المقارنة الوجودية أو التأخير الوجودي إلاّ بالعناية.

الثالث: سنخ هذه الآيات نحو بشارة للمؤمنين بأن النّار لم تعد لهم - كما يدل عليها بعض الأخبار على ما يأتي - و ان دخلوها لبعض معاصيهم

ص: 114

و بينهما فرق واضح. و في المقام جزاء لإنكارهم للمعجزة الأبدية التي هي القرآن باختيارهم يدخلون النّار التي أعدت لهم.

ثم إنّ الإعداد من الأمور الإضافية و له مراتب متفاوتة كثيرة يقول القائل: أعددت هذه الحنطة لطعامي مثلا أو هذا القماش للباسي أو هذه الأرض لمسكني إلى غير ذلك من الأمثلة و مقتضى ما ورد من الآيات المباركة و الأخبار المستفيضة من الطرفين - على ما يأتي في محله - أنّ الإعداد حاصل من الأعمال و الأفعال،

كقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة» لا أنّ اللّه تعالى أعد ذلك بذاته الأقدس أولا و بالذات بلا فرق بين درجات المتقين و دركات الكافرين و المنافقين فترجع موجبات الإعداد الى نفس الطائفتين فالمعد (بالكسر) إنما هو نفس المكلف و الإعداد يحصل من عمله، و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و حيث إنّ هذه الآية مفتتح آيات التحدي إلى المعجزة لا بد و ان نشير إليها في الجملة.

حقيقة الإعجاز:

اشارة

الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان على أقسام:

(الأول): أن لا يستند إلى سبب و هو محال، لما ثبت بالأدلة العقلية من أنّ حدوث الفعل الاختياري بلا سبب فاعلي محال.

(الثاني): أن يستند إلى سبب من الأسباب الطبيعية الشايعة و هذا القسم معلوم لكل أحد.

(الثالث): أن يكون سببه من الأسباب الطبيعية النادرة بحيث لو أمكن الاجتهاد في تحصيلها لظفر بها بلا دخالة خصوصية شخص فيها بل كل من تعلّم الأسباب و أحاط بها أمكن صدور تلك الأفعال منه جريا لقانون السببية و المسببية الجاري في جميع الممكنات. و جميع الأفعال النادرة، و الفنون العجيبة، بل السحر و الشعبذة و نحوهما من هذا القبيل. نعم يختص السحر و نحوه بأنّ لإيحاء بعض النفوس الشريرة دخلا في تحققه في الجملة على ما

ص: 115

يأتي تفصيله في قوله تعالى: إِنَّ اَلشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [سورة الأنعام، الآية: 121].

(الرابع): أن يكون سببه من الأسباب الغيبية الإلهية فكما أن نظم طبيعي العالم بمجرداته و أعراضه و جميع مادياته لا بد و أن يكون مورد إرادته المطلقة و تحت قيّوميته التامة كذلك تكون تلك الإفاضات المفاضة على الحيوانات - التي لا تحصى أنواعها فضلا عن أفرادها - بجلب منافعها و دفع مضارها و توليد المثل، بل صدور بعض الأفعال الجميلة كما قال تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل، الآية: 68] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، و كذا في النباتات من إيحاء جلب المنفعة و دفع المضرة و إيجاد المثل. و الإعجاز بنفسه أيضا يكون من هذا القسم فهو من فعله تعالى في أفراد خاصة من الإنسان إقامة للحجة على الجميع و ارتباطا لعالم الشهادة بعالم الغيب، فكما أنّ اللّه تعالى إذا أراد شيئا يقول له: كُنْ فَيَكُونُ بلا سبب في البين أصلا إلاّ الإرادة التامة المقدسة، جعل سبحانه لأنبيائه المعجزات و لأوليائه خوارق العادات بهذا المعنى لمصالح كثيرة.

و الفرق بين ما أراده لنفسه و ما جعله لغيره من جهات:

الأولى: أنّ الأول لنفسه من نفسه، و الثاني من غيره لغيره.

الثانية: أنّ الأول غير محدود بحد خاص أبدا، و الثاني محدود بخصوص الحد المفاض إليه فقط.

الثالثة: الأول واجب نظامي صدر عن الواجب بالذات، و الثاني واجب نظامي صدر عن الممكن بالذات فعلا و ذاتا. و حينئذ يكون قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية: 17] لا يختص بخصوص الرمي فقط بل هو جار في جميع معجزات الأنبياء و خوارق عادات الأولياء لأنّ إبراز المعجزة و خارق العادة على أيديهم له دخل في نظام التكوين، كما أنّ التشريع كذلك بل هو غاية نظام التكوين.

ص: 116

و ربما يتوهم من أن ما ذكر صحيح لا إشكال فيه و لكنه مخالف للقاعدة التي تسالموا عليها في الفلسفة من أنه لا بد و أن تكون علة الطبيعي طبيعية، و المعجزة و خارق العادة في عالم الطبيعة و منها، فلا بد و أن تحصل بالعلة الطبيعية. و لهذا التجأ بعض المفسرين إلى القول بأن علتها طبيعية لكن لا يعرفها إلاّ من جرت على يده.

نقول: إنّ أصل القاعدة موردها العلل الطبيعية لا الفاعل المختار الذي هو محيط بكل شيء و يفعل ما يشاء، مع أن جعل المعجزة و خارق العادة من عالم الطبيعة ممنوع بل هما من عالم آخر تظهران في ظلمات الأرض، و لم يقم دليل على أن كل ما يظهر في عالم الطبيعة - من العالم الآخر - لا بد أن يكون من الطبيعة، بل الدليل على خلافه كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ليس ما ذكرناه في معنى المعجزة مبنيا على الحلول و لا على وحدة الوجود و الموجود، لما سيأتي من إثبات بطلان ذلك كله إن شاء اللّه تعالى، بل المعجزة و خارق العادة من إيجاد اللّه تعالى القدرة الخلاّقية - في الجملة - في من شاء من عباده لمصالح كثيرة تقتضي ذلك. و لا فرق بين المعجزة و خارق العادة من هذه الجهة إلاّ أنّ الأولى لا بد و أن تقترن بالتحدي أي: الدعوة إلى المبارزة و المنازعة في الإتيان بمثلها في الناس، بخلاف الثاني فإنّه قد يصدر عن عبد خمول في فلاة من الأرض لا يعرف و لا يعرفه أحد كالخضر.

فحقيقة الإعجاز قدرة النفس الإنسانية على إيجاد ما يخرق به الطبيعة و العادة و التصرف في هذا العالم بما هو خارج عنه كل ذلك بإقدار من اللّه تعالى عليه لمصالح متعددة تقتضيها الظروف. هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المعجزة، و للقوم فيها تفاصيل في كتب الكلام و التفسير.

التحدي و معناه:

التحدي هو نداء الناس جميعا إما للإتيان بمثل ما يدعيه المدعي أو الاعتراف بالعجز و القصور فتثبت أصل الدعوى لا محالة باعتراف الخصم، و هو من أحسن الطرق لإثبات المطلوب و إقامة الحجة عليه. و هو

ص: 117

شايع في المحاورات و المخاصمات العرفية من قديم الأعصار خصوصا في الجاهلية، و تشهد لذلك معلقاتهم على باب الكعبة فإنها كانت للتحدي لإظهار ما يفتخرون به في الفصاحة و البلاغة فجاء القرآن و أبطل ذلك و أتم الحجة عليهم بما كان شايعا لديهم.

فمعنى التحدي دعوة الخصم إلى الإتيان بما أتى به المدعي و بعد ثبوت عجزه باعترافه ثبتت دعوى المدعي لا محالة. فما نسب إلى بعض من أن اللّه تعالى أعجزهم عن ذلك و صرفهم عن التأمل حوله. مردود: بما عرفت سابقا و لا ريب في عجز ما سواه تعالى عن الإتيان بالقرآن و إنما جيء بالجمل الشرطية لإظهار العجز و التوبيخ و إتمام الحجة و غير ذلك من الدواعي.

إعجاز القرآن:

وجوه إعجاز القرآن كثيرة و متعددة بل هو من جميع الجهات لأن قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الاسراء، الآية: 88] خطاب عام لجميع أفراد الإنس و الجن بما فيهم من العلماء و ارباب علوم شتى و فنون كثيرة فلا بد و ان يعم الجميع بما هم كاملون و مخترعون فيه. و بعبارة أخرى: أن دعوة المبارزة و التحدي بالإتيان بالمثل دعوة إلى العقل الإمكاني من حيث هو كذلك و قد ثبت عجزه عن الإتيان بمثله.

و أما الإشكال بأنه لا وجه للتحدي بهذا التعميم، ثم لا وجه للتحدي من كل شيء. فهو مردود: بأن في القرآن آيات كثيرة دالة على كماله من جميع الجهات قال تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ [سورة النحل، الآية: 89]، و قال تعالى: لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 59]، ثم قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ [سورة سبأ، الآية: 28] فلا بد و أن يكون التحدي عاما من جميع الجهات و من كل جهة يشمل المتحدى به على الدعوة من تلك الجهة و إلاّ لما تمت الحجة كما هو معلوم، فكل شيء فيه جهة حسن و كمال للفرد أو المجتمع في الدنيا أو النشآت الأخرى يكون القرآن معجزة فيه من حيث بيانه و الاستكمال

ص: 118

فيه، فهو معجزة للفصيح و البليغ في فصاحته و بلاغته، و للعالم في علمه، و للفلسفي في فلسفته إلى غير ذلك، فإذا كانت وجوه الإعجاز كثيرة فنحن نشير إلى المهم منها على سبيل الاختصار إن شاء اللّه تعالى.

حياة القرآن:

ليس المراد من الحياة في القرآن هي الحياة المعروفة في الحيوان - التي هي عبارة عن الحركة الإرادية التي تكون في معرض الزوال و الفناء - بل المراد منها هي الحياة الحقيقية الواقعية لأن قوام حياة الفرد و المجتمع إنما هو بالكمالات المعنوية الحاصلة لهما و القرآن هو الذي يفيد الكمال الفردي و الاجتماعي سواء أ كان في هذا العالم أم في عالم آخر.

و بعبارة أخرى: هو الكمال للكل بكل معنى الكمال و هذا هو معنى الحياة التي وردت في قوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ [سورة الأنعام، الآية: 122]، و قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [سورة النحل، الآية: 97]، و قوله تعالى: اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال، الآية: 24]، و قال جل شأنه: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [سورة الشورى، الآية: 52] فإذا كان القرآن روحا بذاته و كان من عالم الأمر يكون منشأ حياة الغير لا محالة، كما سيأتي تفصيل ذلك.

و الحياة لها أقسام: حياة العقول المجردة على ما أثبتها جمع من الفلاسفة، حياة الملائكة - كما هي المنساق من الكتاب و السنة و سائر الأدلة على ما يأتي تفصيلها - على أنواعهم التي لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى منها سادات الملائكة - مثل جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل - و منها حملة العرش الكروبيون، و منها روح القدس الذي يظهر من الأخبار أنه غير جبرائيل. و حياة القرآن المقدس أفضل، لأن جميع ما تقدم له حياة من جهة و للقرآن حياة من جميع الجهات، و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 119

إعجاز القرآن في المعارف الإلهية:

يشتمل القرآن على كثير من العقائد الدينية و العلوم الإلهية و المعارف الربوبية فهو السابق في جميع هذه العلوم و قد شهد بذلك جميع الأئمة الهداة الذين هم أحد الثقلين و جميع علماء المسلمين بل و غيرهم فقد تحدى الناس في التوحيد الفعلي قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة فصلت، الآية: 53]، و قال تعالى: أَ فِي اَللّهِ شَكٌّ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة إبراهيم، الآية: 10]، و قال جل شأنه: هُوَ اَللّهُ اَلْخالِقُ اَلْبارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة الحشر، الآية: 59]، و قال تعالى: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ [سورة الزمر، الآية: 62] إلى غير ذلك من الآيات المباركة التي يستدل بها من المجعول لإثبات الجاعل، و ليس في البراهين التي أقامها الفلاسفة أظهر و أبين و أتم من هذا البرهان المسمى عندهم ب (البرهان اللمّي) أي العلم من المعلول بالعلة فهو معجزة في إثبات التوحيد الفعلي.

كما أنه معجزة في التوحيد الذاتي الذي هو من أهم مقاصد الفلاسفة و قد كتبوا في ذلك كتبا، و صنفوا رسائل و لم يأتوا في ذلك شيئا جديدا و ما ذكروه إنما أخذوه من القرآن الكريم، قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ اَلسَّماءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [سورة الحج، الآية: 21] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و أما توحيد صفاته فقد تعرض الفلاسفة و العرفاء له أيضا و جميعهم اقتبسوا من نور هذا الكتاب العظيم قال تعالى: قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [سورة يوسف، الآية: 30] بناء على ما ثبت في محله من أن الذات ذات جامع لجميع صفات الكمال فنفي الهوية عما سواه إثبات لحصر جميع صفات الكمال بالنسبة إليه، و سيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 120

و أما المعاد و خصوصيات الحشر و النشر فيغنيك مراجعة الآيات المباركة الواردة فيهما عن تفصيل البيان في ذلك.

و أما النبوءات السماوية فقد ذكرت فيه بجميع جوانبها من معجزاتهم و قصصهم و كيفية معاشرة أممهم معهم. إلى غير ذلك من المعارف التي تأتي الإشارة إليها، و لا مجال للتعرض لجميعها في المقام.

إعجاز القرآن في تشريع الأحكام:

مما تحدّى به القرآن الكريم هو تشريعه للأحكام المدنية النظامية الفردية و الاجتماعية التي لم تكن أفهام البشر تصل الى ما وصل إليه القرآن في ذلك و ان طال عليه الزمن و تأتي أهمية هذه القوانين المجعولة وفاؤها لجميع حاجات الإنسان و شمولها لكل جوانب الحياة و عدم تغييرها و تبديلها.

و القول بأنّ حاجات الإنسان تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار فلا بد أن تكون القوانين المجعولة التشريعية تختلف و تتغير فلا موضوع للتحدي في ما يتغير و يتبدل. (مردود): بأنّ التغير و التبدل ليس في الكليات و أصل القوانين، كوجوب عبادة اللّه تعالى، و حرمة أكل مال الغير، و وجوب رد الأمانة، و حرمة الخيانة و غير ذلك من أصول القوانين التشريعية التي ضبطها الفقهاء في الكتب الفقهية، و لكن الجزئيات قد تختلف حسب اختلاف الحالات و الخصوصيات و هو مما لا بد منه في جعل القوانين فأصل القوانين التشريعية المجعولة من اللّه تعالى يكون مثل القوانين المسلّمة العقلية كحسن الإحسان، و قبح الظلم و نظائر ذلك مما لا يتغير و لا يتبدل.

إعجاز القرآن في العلوم:

يشتمل القرآن الكريم على كثير من العلوم التي تكون في طريق استكمال الإنسان - الفردية و النوعية - قال تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام الآية: 59] فهو يحتوي من المعارف أجلاها و أرقاها، و من العلوم العملية أتقنها و أسناها، و من تشريع القوانين أرفعها و أدقها سواء أ كان في

ص: 121

العلوم الاجتماعية أم الاقتصادية و الإنسانية و مطلق العلوم التكاملية. و كيف لا يكون كذلك فإن علم القرآن بجميع جهاته ينتهي إلى علمه تعالى و هو راجع الى ذاته الأقدس غير المتناهية من كل جهة، فمن تصور القرآن بهذا النحو من التصور يجزي نفس تصوره عن التحدي بالنسبة إليه فهذا الموضوع من الموضوعات التي يكفي الالتفات في الجملة لمقام ثبوته عن إقامة الدليل على إثباته، و سيأتي تفصيل المقال في مبحث علمه تعالى إن شاء اللّه تعالى.

إن قلت: إنّ جملة كثيرة من العلوم و الاكتشافات العصرية مما لم يشر إليها في القرآن العظيم مع أنها من أهم مفاخر الإنسان (فإنّه يقال): إن الذكر و الإشارة أعم من أن يكون على نحو الكلية و الإجمال أو الجزئية و التفصيل، و جميع ذلك مما اكتشف مذكور في القرآن بنحو الكلية و إن لم يلتفت إليها إلاّ بعد مدة و إن كان العلم بها مخزونا عند أهله. فيستفاد الحركة الجوهرية - التي اكتشفوها - من قوله تعالى: وَ تَرَى اَلْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ صُنْعَ اَللّهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة النمل، الآية: 88]. كما أنهم اكتشفوا التلقيح بالرياح، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ [سورة الحجر، الآية: 22]. و اكتشاف حركة الأرض من قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً [سورة طه، الآية: 53] و وجود موجودات في السماء من قوله تعالى: وَ اَلسَّماءَ بِناءً [سورة البقرة، الآية: 22] إلى غير ذلك من العلوم مما لا يسع المقام ذكرها.

إعجاز القرآن في العلم بالغيب:

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب فهو المخبر عما جرى على الأمم الماضية في عالم الفناء بأصدق بيان قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [سورة يوسف، الآية: 102] كما أخبر عن أمور لم تكن في عصر التنزيل و ما يحدث في عالم الدنيا، و يخبر أيضا عما يجري و يحدث في عالم البقاء، لأنه من مظاهر علمه تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات و الأرض. فالقرآن من الغيب، لأنه من اللّه عزّ و جل

ص: 122

العالم غيب السموات. و للغيب، لأنه يدعو النّاس إلى الغيب. و في الغيب، لأن حقائقه غائبة عن الإدراكات و إن أحاطت بظواهرها عقولهم و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة أيضا إن شاء اللّه تعالى.

إعجاز القرآن ببلاغته و فصاحته:

قد ثبت أن العرب في عصر نزول القرآن و لا سيما في مهبط الوحي كانوا أفصح النّاس بحيث لا يدانيهم في ذلك قوم و لا يقربهم في هذه الخصلة رهط، و كان ذلك من أهم مفاخرهم، و أشرف مآثرهم و كانت محافلهم تعج بالخطباء و الشعراء، و تعقد الأسواق لذلك، و قد ضبطت الكتب فروع كلماتهم و دقائق جملاتهم و مع ذلك لم ينقل إلينا إلاّ شيء قليل، و كل من تأمل في هذه اللغة و رأى فيها من الأسرار و الدقائق و ما عليها من الجمال و البهاء يعترف بالعجز و التحير، و حينئذ لا بد و أن تكون هذه الصفة - أي صفة البلاغة و الفصاحة - التي كانت شايعة في مهبط التنزيل أقصى هدف سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) في إعجاز ما ينزل من اللّه تعالى إذ لم يكن تحدي كل نبي إلاّ بما تميز به قومه، فنزل القرآن متحديا لهم ببلاغته و فصاحته و أمرهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك و اعترفوا بالقصور. و قد نقل أنهم لما سمعوا قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْماءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة هود، الآية: 44] أخذتهم الدهشة و التحير و أمروا بإنزال ما علق على الكعبة المشرفة من القصايد و الأشعار.

و ربما يقال: إنّ البلاغة و الفصاحة كالجمال و الملاحة من الغرائز الطبيعية فهي خارجة في الجملة عن الإختيار فلا وجه للتحدي بما هو خارج عنه.

و لكنه فاسد أولا: بأنه يصح التحدي بالنسبة إلى من كانت الفصاحة و البلاغة من غريزته، و مع ذلك إذا اعترف بالعجز كان بالنسبة إلى المطلوب أتم و أعظم. و ثانيا: إنّها و إن كانت من الغرائز في الجملة و لكن للاختيار في أصلها و سائر جهاتها دخل بالوجدان كما هو واضح لا يحتاج الى البيان.

ص: 123

إعجاز القرآن بعدم الاختلاف فيه:

قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء، الآية: 82] و في سياقه آيات كثيرة تدل على أنه محفوظ و انه في كتاب مكنون. لم يسلم كتاب من وجود الاختلاف فيه فربما يكون واضحا و قد يكون خفيا لا يدركه إلاّ من كان له حظ من العلم إلاّ أن القرآن الكريم سلم من وجود الاختلاف فيه و الآيات الشريفة تشير إلى برهان قويم و هو أنه قد ثبت بالأدلة العقلية و النقلية أن اللّه تعالى واحد ذاتا و صفة و فعلا فالوحدة الحقة الحقيقية تامة بالنسبة إليه عزّ و جل، و كلامه واحد من عند واحد لأن عالم المعنى و الحقيقة لا تكثر فيه و التكثر إنما يكون في المضاف إليه دون المضاف، بل لا تكثر في ذات الإضافة أيضا و قد يقرب ذلك بالتمثيل بالشمس في مرتبة الإشراق و الإشعاع فيكون المستشرق متعددا لا الإشراق الفعلي الإضافي. فالاختلاف في عالم الحقيقة - و لا سيما الحقيقة الحقة الواقعية - خلف، لفرض الوحدة في جميع جهاته، و كلامه عزّ و جل من فعله و فعله واحد كوحدة ذاته، إذ لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العظيم كما اثبتوا ذلك بالبراهين العقلية.

هذا مضافا إلى أنّ كلامه نزل على الفطرة المستقيمة و الفطرة واحدة، فالقرآن واحد لا اختلاف فيه، هذا بالنسبة إليه عزّ و جل. و أما بالنسبة إلى غيره فليس فيه إلاّ مثار الكثرة، و منشأ التغير و الاختلاف فيكون فرض الوحدة فيه خلفا.

ثم إنّه قد يعترض أحد بأنّ النسخ الواقع في القرآن، و ما أخذه جمع من متناقضات القرآن هو من الاختلاف فيه.

و لكن نجيب عنه: بأنّ النسخ ليس من الاختلاف بشيء بل هو من شؤون جعل القانون و حدوده، لأنّ جعل القانون و تشريع الأحكام إنما يكون على طبق المصالح و المقتضيات و هي تختلف في نشأة الكون و الفساد، و ليس النسخ إلاّ هذا، على ما يأتي تفصيله.

و أما أخذ المتناقضات فلأنّها إنّما كانت حسب و هم نفس الآخذين لها

ص: 124

و إدراكهم الناقص و ليس من النقض الواقعي على القرآن، كما هو واضح، فإذا راجعنا ما ذكروه نرى أنّ ما يتخيلونه نقضا إما أن يكون بين عام و خاص، أو مطلق و مقيد، أو بين أمرين مختلفين زمانا أو مكانا و غير ذلك مما لا يعد من التناقض و الاختلاف. هذا بعض ما يتعلق بالتحدي و لو أردنا بيان التمام لطال الكلام، و يأتي جملة ما يتعلق به في الآيات المباركة المناسبة لها.

وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا

اشارة

وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا اَلَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25) من سنته تعالى أنه في كتابه الكريم يقرن بين الترهيب و الترغيب فكلما يذكر شيئا من مظاهر غضبه يعقبه بشيء من موجبات رحمته، إتماما للحجة و لئلا ييأس من رحمته أحد و كلما يذكر شيئا من جهات رحمته قفاه بشيء من موجبات غضبه لئلا يتكل على عمله أحد، و لذا بعد أن ذكر الكفار و المنافقين، و ما أعد لهم من العقاب أردفه ببشارة المؤمنين و ما وعد لهم من النعيم.

التفسير

قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ . البشارة هي الإخبار بما يوجب ظهور آثار السرور في بشرة المخبر و قد تستعمل في الإخبار بالشر أيضا توبيخا و تعييرا كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 21]. و تقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة.

ص: 125

و العمل الصالح من الواضحات عند الناس مفهوما و مصداقا و هو كل ما يحبه اللّه و يرتضيه، و قد ذكر سبحانه جملة من مصاديقه في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177] و نحو ذلك من الآيات المباركة.

قوله تعالى: أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ . مادة (ج ن ن) تأتي بمعنى الستر. و الجنات جمع جنّة و هي البستان الملتف بالأشجار التي فيها أنواع الفواكه و الثمار المستترة بالأشجار و المراد بها في القرآن الكريم نعيم الآخرة من باب إطلاق الخاص على العام إما لكماله من جميع الجهات، أو لعدم الاعتناء بالفاني مع التوجه إلى الباقي.

و ما عن بعض اللغويين من أنّ البستان إذا كان فيه الكرم يسمى بالفردوس و إن كان فيه النخيل يسمى جنة. فإن أراد أنه مجرد اصطلاح طائفة خاصة في عصر مخصوص فلا بأس به. و إن أراد التخصيص في أصل المعنى و الذات فلا دليل عليه، مع أنه ورد في القرآن الكريم ما يخالفه قال تعالى: وَ جَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [سورة الأنعام، الآية: 99] و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [سورة الكهف، الآية: 107] و السياق في الجميع واحد.

ثم إنه ورد لفظ الجنّة و الجنّات كثيرا في القرآن الكريم بأنحاء الاستعمالات المشعرة باعتنائه تعالى بها اعتناء بليغا، و لا بد أن يكون كذلك، لأنّها نعيم أبدي لا يزول و أنّها دار الأبرار و المتقين و هي عوض ما اشتراه اللّه تعالى من المؤمنين فقال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111] و كلما كان المعوض أعلى و أغلى يكون للعوض المكانة العليا.

قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ . تستعمل هذه الجملة في القرآن الكريم مع لفظ الجنات غالبا و تشتمل جميع الأقسام التي يمكن تصويرها في جريان الماء و نبوعه تحت أظلال الأشجار المطابق للأذواق الحسنة المتعارفة بين الناس التي يمتدحونها و يهتمون بها في تزيين جناتهم الدنيوية. و قد نظم ذلك الشعراء بوجوه من النظم في مدح تلك الجنان، و لم يبين سبحانه خصوصيات الجريان تعميما لجميع مراتب الحسن و الكمال.

ص: 126

قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا اَلَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً . يحتمل أن يجعل الظرف الأخير في الآخرة: أي، كلما انتفعوا من ثمارها قالوا هذا ما رزقنا قبل ذلك من ثمار الآخرة فإنها تكون بحيث كلما يقتطف منها ثمرة يعود مكانها مثلها.

و يحتمل أن يجعل الظرف في الدنيا فإنّ ثمار الدارين متحدتان اسما و جنسا و نوعا، و لكنهما مختلفتان في اللطافة و الذوق و الالتذاذ و نحوها.

و يحتمل أن يراد من الرزق الثاني هو نفس الأعمال الصالحة التي هي بمنزلة البذور لثمار الجنة فيكون المراد إن ثمار الجنة لنا من جزاء أعمالنا، و منه يظهر وجه قوله تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً لوجود التشابه بين ما ينتفعون به فعلا و بين جميع الاحتمالات التي تعرضنا لها في الجملة، فالمراد بالتشابه المعنى الأعم الشامل، و يشهد للتشابه في الجملة

قول الصادق (عليه السّلام): «كل ما في الدنيا فسماعه أعظم من عيانه و كل ما في الآخرة فعيانه أعظم من سماعه» حيث أثبت (عليه السّلام) الاتحاد من جهة و الاختلاف من أخرى، و يدل عليه أيضا قوله تعالى: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 71]، فإن من المشتهيات ما اشتهوه في الدنيا و تلذذوا به، و كذا ظاهر كثير من الآيات التي تعد نعم الجنّة بالأسماء المستعملة المأنوسة.

و أما ما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر» و غيره مما في سياق ذلك. فلا ينفي ما ذكر في سائر الآيات و الروايات، لأنها نعم أخرى إما جسمانية ليس في الدنيا لها اسم و لا رسم، أو من النعم المعنوية التي لا موضوع لها في الدنيا.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ . الأزواج جمع زوج بمعنى القرين، و يطلق على كل واحد من الذكر و الأنثى، و قد يطلق على الأخيرة الزوجة. و المعنى أن لهم أزواجا مطهرات غاية التطهير، لأن حذف المتعلق يفيد العموم فهنّ مطهرات من جميع الأقذار الخلقية - كالحيض

ص: 127

و النفاس - و الخلقية كالمكر، و سائر مساوئ الأخلاق و مستكملات بكل المحامد الجسمانية و النفسانية، و ما ورد في بعض الأخبار أنهنّ مطهرات من الحيض و النفاس إنما هو بيان لبعض المصاديق.

قوله تعالى: وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ . سيأتي معنى الخلود في قوله تعالى:

خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ [سورة هود، الآية: 108].

بحث دلالي:

ذكر سبحانه في هذه الآية الارتزاق الفردي أولا، ثم أوكل معرفة ذلك الرزق إلى نفس المنتفعين منه ثانيا في قوله تعالى: هذَا اَلَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ، ثم ذكر الأزواج و الاجتماع الجنسي ثالثا و إنما أخره عن الرزق، لتقدمه على الاجتماع الجنسي تكوينا. و حصر موارد الارتزاق في الثمرات رابعا لجريان نظام التكوين عليها في النشأتين. فهو سبحانه قد بين؛ كما أن بقاء الإنسان في هذا العالم بالارتزاق كذلك له دخل في تلك النشأة أيضا و لكن لا يعلم أنه دخل بقائي - كما في هذا العالم - أو دخل تلذذي و البقاء مستند إلى شيء آخر.

إلاّ أن يقال: إنّه لا وجه لاستناد البقاء في الآخرة إلى الارتزاق، لأن الارتزاق من الثمرات في الدنيا إنما هو لأجل الحركة و تحلل قوى الإنسان، و ليس الأمر كذلك في الآخرة.

و لكن يمكن الجواب عنه: بأنه لا وجه لنفي الحركة عن أهل الجنّة و النار لأن بعض لوازم الجسم لا تتغير في جميع النشآت و المفروض ان المعاد جسماني، كما يأتي و حينئذ يثبت التحلل لهم، لأنه من لوازم الحركة. نعم ليس لهم فضلات الجسم كالعرق و البول و نحوهما. بل ليس كل تغذية تكون لأجل التحلل كتغذية الجنين في الرحم.

ثم إنّه تعالى ذكر الجنّات بلفظ الجمع و يحتمل فيه وجهان:

الأول: أن يكون لكل واحد منهم جنات.

ص: 128

الثاني: أن يكون لكل واحد منهم جنّة فيصير المجموع جنّات و سياق الآيات و العناية الإلهية تقتضي الأول، و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن الصادق (عليه السّلام) في قوله عزّ و جل: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ : «الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن و لا يحدثن».

أقول: تقدم أنه من باب التطبيق.

كما أن ما ورد عن ابن عباس أن قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ إلى آخر الآية المباركة - نزل في علي (عليه السّلام)، و حمزة، و جعفر، و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - من باب التطبيق لا التخصيص، كما تقدم منا مكررا.

إِنَّ اَللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ

اشارة

إِنَّ اَللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اَللّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ (26) اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (27) بعد أن فرغ سبحانه و تعالى من ذكر بعض أحوال المؤمنين و الكفار و المنافقين، و بيان المثل للأخير ذكر تعالى وجه ضرب المثل لنفسه و بيان الحكمة في ضرب الأمثال، و أكد ذلك اهتماما منه تعالى للأمثال لكونها أوقع في النفوس كما مر.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها . الحياء: هو انقباض النفس عن الشيء و انزجارها عنه خوفا من اللوم، و يلازمه ترك ذلك الشيء هذا في الإنسان.

ص: 129

و أما إذا أطلق عليه سبحانه فالمراد به نفس الغاية و هي الترك. فقوله تعالى: لا يَسْتَحْيِي أي لا يترك و لا يدع - و كذا الكلام في جميع الصّفات التي يلزم من إطلاقها عليه تبارك و تعالى النقص. فيكون استعماله في المعنى الحقيقي لكن بداعي الترك، و لا محذور من جعل الاختلاف في الداعي، لا في ذات المعنى المستعمل فيه اللفظ.

و يفترق الحياء عن الخجل بأن الثاني من عوارض الجسم الإنساني بخلاف الأول فإنه من صفات الروح، و لذا عد الحياء من جنود العقل في جملة من الأخبار، و هناك فروق أخرى مذكورة في علم الأخلاق.

و الضرب: يستعمل في معان كثيرة. و المراد به هنا التوصيف و التبيين فضرب الأمثال: توصيفها و بيانها.

و «ما» للإبهام و التنكير، و ما فوق البعوضة هو ما دونها في الصغر و الحقارة. و يقال: إن البعوضة أصغر الحيوانات و حياتها في جوعها فإذا شبعت ماتت، و لكن قد أثبت العلم الحديث أصغر منها.

و المعنى: إنّ اللّه تعالى لا يترك و لا يرى من النقص ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها، و إنّما لا يستحي عن ذلك، للأدلة العقلية الدالة على أنّ كلام الحكيم موافق للحكمة، سواء أ كان كلامه في الشيء الجليل العظيم أم الحقير اليسير أم في ما هو خارج عن عالم الممكنات و حيث إنّ القرآن نزل ليستفيد منه عامة النّاس فلا بد و أن يقترن بالأمثال جريا على طريقتهم لتأنس بها النفس، و تتم بها الحجة عليهم. و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً [سورة البقرة، الآية 17].

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ . هذا من باب ذكر العلة و المعلول مشعرا بالمدح و الثناء، لأن علة قولهم «إنه الحق من ربهم» إنما هو إيمانهم الذي معهم و اعتقادهم بكلامه تعالى، و أنه الحق من ربهم و لم يضرب الأمثال إلاّ لحكم و مصالح فلا ينظرون إلى المثل و الممثل به في الصغر و الكبر و الضعف و القوة بل ينظرون إلى الممثل (بالكسر) نظرة الحق و العظمة و الجلال، و أن كل مثال صغيرا أو كبيرا هو مثال الحق في الحكمة

ص: 130

و الموعظة فلا يمكن أن يكون صغيرا أو حقيرا و إن كان الممثل به كذلك في بعض الجهات.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اَللّهُ بِهذا مَثَلاً . لأنّهم نظروا إلى نفس الممثل به و لا يلتفتون إلى عظمة الممثل [بالكسر] و لا إلى أهمية ما مثّل لأجله، لجهلهم و عنادهم فأعرضوا عن الحجة كما هو الحال في اختيارهم أصل الكفر و الضلال.

قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً . يصح أن تكون هذه الجملة مقولة من الكفار تعييرا و توبيخا للمثال، كما يصح أن يكون من قول اللّه عزّ و جل أجاب به عن سؤالهم، و على أي تقدير فالسبب في هذا القول هم الكفار، لأنهم بإنكارهم للإيمان و جهلهم للحقائق حصل لهم الريب بكل ما أنزل اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ . الفسق بمعنى الخروج، و تختلف مشتقاته باختلاف موارد استعمالاته، و فسق الإنسان خروجه عن طاعة اللّه تعالى اعتقادا، أو عملا؛ لكبيرة أو صغيرة فهو يشمل الجميع بجامع الخروج عن الطاعة.

و عن بعض اللغويين أنه لم يستعمل الفاسق وصفا في كلام العرب إلاّ في القرآن الكريم. و فيه بحث، هذا بحسب اللغة. و أما في اصطلاح الكتاب و السنة فيستعمل الفاسق في مقابل العادل.

و المعنى: أنّ علة إضلالهم هي الخروج عن طاعة اللّه تعالى؛ وصولا من مرتبة الاقتضاء الى مرتبة الفعلية بما يعرض على الإنسان فيظهر منه الغي و الضلال أو الحق و السداد، و منه يظهر الوجه في التعبير بقوله تعالى: يُضِلُّ ليبين أن ذلك أمر مركوز فيهم، و راسخ في نفوسهم. ثم إنّ هذه الآية تشتمل على أمور:

الأول: إنما قدم سبحانه الضلالة على الهداية مع تقدم الثانية على الأولى بكل جهات التقدم، لأن سببها متقدم، و هو اقتضاء ذاتهم، و كل من تقتضي ذاته شيئا يبادر به بين الأنام، و يظهر أثره في الكلام فجيء بالأمثال

ص: 131

لإخراجهم من ظلمات الضلال الى نور الهداية و الإيمان.

الثاني: قد ذكر سبحانه لفظ الكثرة في الفريقين، مشعرا بأنّ المهتدين كالضالين في الكثرة، مع أنّ الطائفة الأولى هم الأقلون عددا. و الوجه في ذلك أن القلة و الكثرة إضافية فتصح الكثرة بالنسبة إلى ملاحظة شيء، و القلة بالنسبة إلى شيء آخر، فالمهتدون و إن قلوا عددا لكنهم أكثر نفعا و أجل فائدة.

الثالث: أثبتت الآية المباركة أنّ وراء الضلالة و الهداية الاقتضائية في الذات هداية و ضلالة تحدثان بحدوث ما يطرأ من الأسباب و تتجددان بذلك، و لذا قالوا: إنّ الضلال و الهداية يتجددان بتجدد الأسباب و الزمان.

بحث كلامي:

اشارة

هذه الآية الشريفة مفتتح آيات الكتاب العزيز في الجبر و التفويض فلا بد من البحث فيهما ليمكن إرجاع سائر المواطن اليه. فنقول و من اللّه الاستعانة و الاستمداد:

إنّ شبهة الجبر و التفويض لم تكن حادثة في الإسلام و إنّما هي قديمة بقدم الإنسان و ترجع الى أوائل الخلقة، كما يظهر من مخاصمة إبليس مع اللّه تعالى، فكل من يعتقد بمبدإ غيبي مؤثر في العالم يمكن أن تتولد فيه هذه الشبهة،

و قد قال علي (عليه السّلام): «عرفت اللّه بفسخ العزائم و نقض الهمم». و فسخ العزيمة إنّما وقع من عهد أبينا آدم (عليه السلام) فأصل الشبهة من ذلك الحين و إنما تطورت بمرور الزمن فدخلت آراء و شبهات أخرى و بلغت حدا بعيدا من البحث حتّى أفردت لها كتب و رسائل.

و كيف كان فالأفعال الاختيارية الصادرة من الإنسان يحتمل فيها وجوه:

الأول: أنّها صادرة بإرادة اللّه تعالى و اختياره فقط و ان العبد بمنزلة الآلة الجمادية و أن الإنسان و فعله مخلوقان للّه تعالى و هذا هو الجبر.

الثاني: أنّها صادرة من العبد و باختياره فقط، و لا دخل فيها للّه تبارك و تعالى، و هذا هو التفويض.

الثالث: الأمر بين الأمرين و المنزلة بين المنزلتين فيكون لكل واحد

ص: 132

منهما دخل بنحو الاقتضاء لا العلية التامة، و هذا هو الحق الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم السلام) ردا على المذهبين السابقين، فإنّ الأول منهما خلاف الأدلة العقلية و النقلية بل الوجدان، و الثاني يلزم منه التعطيل، كما ستعرف ذلك فيما سيأتي من التفصيل، و البحث تارة يقع في الجبر و التفويض، و أخرى في الأمر بين الأمرين:

الجبر:

مذاهب الجبر ثلاثة: منها: مذهب الأشاعرة، و هو نفي الإرادة عن العبد مطلقا و انحصارها في اللّه تعالى، و أن العبد بالنسبة إليه كالقلم في يد الكاتب فيكون نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و الى العبد بالمجاز.

و منها: ما ذهب اليه جمع من القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة فلا اثنينية بين الخالق و العبد حتّى تكون فيه الإرادة و الإختيار، و سيأتي بطلان القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة، بل الالتزام بلوازمه يوجب الكفر.

و منها: ما ذهب اليه بعض: من أن علم اللّه تعالى علة تامة لحصول معلوماته، و فعل العبد معلوم له تعالى فلا أثر لاختيار العبد و ارادته في فعله أصلا.

و قد استدل القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة للّه تعالى بالأدلة العقلية و النقلية، أما الأدلة العقلية فاستدلوا بأمور:

الأول: أن فعل العبد مقدور للّه تعالى، لأنه من جملة الممكنات التي هي منه تعالى، و حينئذ لو وقع بقدرة العبد وحده لزم تعطيل قدرته تعالى، و إن وقع بقدرتهما معا لزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد.

و الجواب: أن ليس كل مقدور له تعالى هو من فعله المباشري فمجرد كون فعل العبد مقدورا له تعالى لا يستلزم أن يكون من فعله أيضا.

الثاني: إن جميع ما سواه مورد إرادته تعالى الأزلية الأبدية و ان إرادته عين ذاته و هي العلة التامة لتحقق المعلول فلا أثر لإرادة العبد في فعله.

و الجواب: أن ذلك مبني على جعل الإرادة من صفات الذات، لكن

ص: 133

الحق أنها من صفات الفعل فتكون حادثة بحدوثه، بل إرادته عين فعله، كما في الروايات. و سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: أن العلم الإلهي متعلق بجميع ما سواه من الممكنات و منها أفعال العباد سواء منها في الدنيا أم في الآخرة الذي لا انتهاء لأفعاله و علمه سبب تام لحصول المعلوم.

و الجواب: إن العلم من مقدمات حصول الإرادة المتقدمة على الفعل و ليس سببا تاما لحصول المعلوم بوجه من الوجوه بل علمه تعالى تعلق بأفعال العباد من حيث أنها مختارة لا ان يتعلق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي: العلم، و المشيئة، و الإرادة، و القدرة و القضاء، و الإمضاء و نحوها. و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر سواء أ كان هو اللّه تعالى أم العبد. و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية، و كل ذلك من المقتضيات و ليست من العلة التامة في شيء، و هذه كلها في العبد تكون تارة التفاتية تفصيلية، و أخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب، و سيأتي تفصيل هذا في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

أما الأدلة النقلية فقد استدلوا بظواهر من الآيات المباركة تؤيد مذهبهم، منها قوله تعالى: وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات، الآية: 96]، و قوله تعالى: فَيُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة إبراهيم، الآية:

4]، و قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية:

17] و أمثال ذلك من الآيات.

و يناقش فيها بوجهين:

الأول: أنها معارضة بآيات أخرى أكثر عددا و أصرح دلالة على اختيار الإنسان في أفعاله كما ستعرف.

الثاني: أن سياق تلك الآيات و القرائن المحيطة بها تدل على أن المراد منها غير ما ذهبوا اليه فنفي الرمي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الآية السابقة - مثلا - إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة، لا بالنسبة إلى الفعل

ص: 134

المباشري الصادر منه (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي في البحث الروائي ما يفيد المقام.

و مجمل القول في الجبر و مذاهبه أنه لم يصادم العقل و النقل فقط، بل هو مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء. كما أنه يلزم منه نفي الثواب و العقاب الثابتين في جميع الشرائع الإلهية بل يلزم منه تجويز الظلم و الجور على اللّه تعالى إلى غير ذلك من المفاسد.

و لو لا ظهور بعض كلمات القوم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه - كالعزة و الذلة، و الغنى و الفقر. و لأمكن حمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي، يعني أنّ مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها، و لكنه تبارك و تعالى جعل للإنسان بل لمطلق الحيوان إرادة في الجملة لمصالح كثيرة، فالجبر الاقتضائي لا ينافي الإختيار الفعلي من العبد.

التفويض:

قد عرفت أن المراد من التفويض المنسوب الى المعتزلة هو كون الأفعال مختارة باختيار العباد بلا دخل لاختياره تعالى و أنها تنسب إلى العباد بالحقيقة و إلى اللّه تعالى بالمجاز و أنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة اللّه تعالى.

و استدلوا على ذلك بأنه إذا لم يكن الإنسان موجدا لأفعاله لا يصح تكليف العباد و لا المدح و الذم و لبطل الثواب و العقاب، و للزم منه الجبر، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات و الأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

و الجواب عن ذلك يظهر من بيان الأمر بين الأمرين.

و قد احتجوا ببعض الآيات الكريمة، فإن قسما منها تدل على كون الإنسان هو الفاعل لأعماله كقوله تعالى: كُلُّ اِمْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ

ص: 135

[سورة الطور، الآية: 21]. و قسما منها تدل على أن المطيع يثاب على أعماله الحسنة و المسيء يعاقب بمعاصيه، قال تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [سورة غافر، الآية: 17]، و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية، الآية: 28]، و قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها [سورة الأنعام، الآية: 160]. و قسما منها تدل على أنه مختار في أفعاله قال تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف، الآية: 29]. و قسما منها تدل على اعتراف الإنسان بصدور المعاصي منه في الآخرة، قال تعالى: وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 22] إلى غير ذلك من الآيات الدالة منطوقا أو مفهوما على أن الإنسان خالف لأفعاله و أنه المسؤول عنها.

و الجواب عن ذلك أنّ أقصى ما يستفاد منها أن الإنسان هو الفاعل و عنه يصدر جميع أعماله و أما أنه ليس لإرادته تعالى و قدره و قضائه دخل فيها فلا يستفاد منها، فهي من هذه الجهة معارضة بالآيات الدالة على أنها من اللّه عزّ و جل قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ [سورة النساء، الآية: 78]. و الآيات الدالة على طلب الاستعانة منه تعالى نحو قوله تعالى: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الحمد، الآية: 4].

و لما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) من قول: «لا حول و لا قوة إلاّ باللّه»، فإن الجميع ظاهر في صحة نسبة أعمال العباد إلى اللّه تعالى، إما بنحو القضاء كما في السيئات، أو هو و الرضاء معا. كما في الحسنات. و قضاؤه و رضاه ليسا من العلة التامة.

و بالجملة: إنّ الآيات و الروايات لا يمكن أن يستفاد منها التفويض الكلي للعباد المقابل للجبر، و يمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي بأن يقال: إنّ نهاية استغنائه تعالى عن خلقه يقتضي إيكال الإرادة إلى العباد

ص: 136

بعد بيان طريق الحق و الباطل، و إتمام الحجة عليهم و لكنه لم يفعل لمصالح كثيرة، بل جعل إرادته مسيطرة على إرادة عباده لا على نحو يلزم منه الجبر، و هذا هو ما يظهر من بيان الأمر بين الأمرين، كما سيأتي.

الأمر بين الأمرين:

مما تفردت به الإمامية عن سائر الفرق القول بالأمر بين الأمرين و المنزلة بين المنزلتين

فقد ورد عن الأئمة الهداة (سلام اللّه عليهم) أنه «لا جبر و لا تفويض، بل أمر بين أمرين» و هو الحق المطابق للوجدان و البرهان.

و المراد ب (الأمر بين الأمرين) أن اللّه تبارك و تعالى أودع القدرة في عباده و بها بعد وجود الدواعي يصدر الفعل من الفاعل و ينسب الفعل إليه مباشرة، فهو غير مجبور، لتعلق قدرته بطرفي الفعل معا. هذا هو المعنى المستفاد من الأخبار الواردة في (الأمر بين الأمرين)، و لا بد من توضيح ذلك بشيء من التفصيل.

بيان ذلك: إنّ أفعال العباد منحصرة في ثلاثة أقسام: فهي إما من الحسنات، أو من السيئات، أو من المباحات. و لا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوم بالانتساب اليه تعالى، و الى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء، و من رضائه تعالى بالحسنات و ترغيبه إليها و التأكيد في إتيانها و الثواب عليها أو العقاب على الترك في بعضها يصح الانتساب إليه تعالى، و يسمى ذلك بالانتساب الاقتضائي لا يبلغ حد الإلجاء و الاضطرار. و من إذنه تعالى في المباحات و ترخيصه لها صح انتسابه اليه تعالى اقتضاء كما هو الحال في الحسنات، فتحقق بالنسبة إلى الحسنات و المباحات رضاؤه و قضاؤه تعالى إليها.

و من خلقه تعالى للنفس الأمارة و الشيطان صح نسبة السيئات اليه تعالى، لا بمعنى رضائه بها و ترغيبه إليها فيصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في السيئات، و يجري هذا الوجه في الحسنات و المباحات فإن هذه النسبة توجد في الجميع.

ص: 137

و أما نسبة الفعل إلى الفاعل فإنّ اللّه تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئات مثلا مع نهيه تعالى و إظهار سخطه و توعيده عليها و قد فعلها العبد بسوء اختياره، فينسب إليه الفعل مباشرة كما أن منشأ النسبة إليه تعالى أنه خلق الذات القادرة المختارة مع إبلاغ النهي و التوعيد، و قد علم بها و قضاها على نحو الاقتضاء لا قضاء الحتم و لا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا، و لعل هذا أحد معاني قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].

و بعبارة أخرى: إنّ في الحسنات و المباحات تتعدد جهة الانتساب اليه تعالى من الرضاء و القضاء، و الاذن و الترغيب، أو خلق الذات القادرة المختارة، و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة و القضاء الاقتضائي مع النهي و التوعيد، كل ذلك موافق لقانون العقل و العدل. و من ذلك يعلم أن الهداية و الضلالة، بل السعادة و الشقاوة ليستا من ذاتيات العبد بحيث لا اختيار له فيها، و لا من لوازم الذات كلزوم الزوجية للأربعة و إلاّ لما كانت قابلة للتغيير و التبديل، و لبطل التكليف و الثواب و العقاب و نحو ذلك من المحاذير، بل هي من قبيل الأعراض الخارجية القابلة للزوال و التغيير و التي للاختيار فيها دخل مع توفيق و هداية منه تبارك و تعالى.

و مما ذكرناه يجاب عن شبهات القوم، و يرفع التعارض بين الآيات و الروايات، و لعلماء الإمامية في تفسير الأمر بين الأمرين وجوه أخرى فراجع، و سيأتي في البحث الآتي مزيد بيان.

بحث روائي:

عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام) قالا: «إن اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها. و اللّه أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون».

و سئلا (عليهما السلام) «هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء و الأرض».

ص: 138

و عن الوشا قال: «سألت الرضا (عليه السّلام) اللّه فوض الأمر إلى العباد؟ قال (عليه السّلام): اللّه اعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: اللّه أعدل و أحكم من ذلك، ثم قال (عليه السّلام) قال اللّه تعالى: يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».

أقول: هذه الجملة الأخيرة صريحة في ما ذكرناه آنفا.

و عن الصادق (عليه السّلام) قال له رجل: «جعلت فداك أجبر اللّه تعالى العباد على المعاصي؟ قال (عليه السّلام): اللّه أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فقال له: جعلت فداك ففوض اللّه إلى العباد؟ قال (عليه السّلام): لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر و النهي. فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: نعم أوسع ما بين السماء و الأرض».

أقول: (لم يحصرهم) أي لم يوقعهم في حصر التكليف فيكون نفس تصور التكليف بما هو، و بيان الجزاء عليه كافيا في نفي الجبر و التفويض و إثبات الأمر بين الأمرين. و هذه عادتهم (عليهم السلام) في إثبات هذا المدعى بأدلة التكليف و الجزاء.

و عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) القائل في جواب من سأله عن التوحيد و العدل: «التوحيد أن لا تتوهمه، و العدل أن لا تتهمه. فالقائل بأنه خالق للأفعال فقد اتهمه بالظلم، و القائل بأنه يكلف العباد ما لا يطيقون فقد نسب اليه القبيح، و القائل بأنه لا يقدر على أعمال عباده و ان كل أعمالهم بإرادتهم و لا شأن له فيها قد اتهمه بالعجز».

أقول: الأول عبارة عن الجبر، و الثاني من لوازم التفويض و ترتب اللازمين عليهما واضح.

و عن الرضا (عليه السّلام): «ألا أعطيكم في ذلك أصلا لا تختلفون فيه و لا تخاصمون عليه أحدا إلاّ كسرتموه؟ إن اللّه عزّ و جل لم يطع بالإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه فهو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته، لم يكن عنها صادرا، و لا منها

ص: 139

مانعا، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و ان لم يحل و فعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».

أقول: المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى و هو محسوس لكل أحد، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه و هذه هي المنزلة بين المنزلتين.

و عن الصادق (عليه السّلام): «لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين الأمرين» أقول: تقدم ما يتعلق بكل واحد منها.

و عن الرضا (عليه السّلام): «القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك، و المراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا، و ترك ما نهوا عنه، و الإرادة و المشية من اللّه تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها و الرضا لها، و بالنسبة إلى المعاصي النهي عنها، و السخط لها و الخذلان عليها، و ما من فعل يفعله العباد من خير، أو شر إلاّ و للّه فيه قضاء، و القضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة».

أقول: أما أن القائل بالجبر كافر فلأنه نسب إلى اللّه تعالى الظلم، و مع ذلك يعاقب العبد عليه. و أما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل ارادة اللّه تعالى. و أما ما ذكره (عليه السّلام) في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال، و إلاّ فهو عام لجميع الأفعال.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ النقض: هو الفت و الفك و الفسخ، و لا يستعمل غالبا إلاّ فيما فيه القوة و استعداد البقاء، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ [سورة النحل، الآية: 92]، و يتعلق بالميثاق أيضا لأجل كونه محكما يعسر نقضه قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [سورة المائدة، الآية: 13].

و العهد: حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال، و هذه المادة في أية هيئة

ص: 140

استعملت تفيد الالتزام، و الثبات، و العزيمة.

و المراد بالميثاق: ما يوثق به الشيء، كالميقات لما يتحقق به الوقت.

و يجوز أن يضاف الميثاق إلى اللّه تعالى، إذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به اللّه تعالى عباده، كما يجوز أن يضاف إلى العباد و هم الذين قبلوا عهد اللّه تعالى ظاهرا ثم نقضوه، فيكون المراد من بعد ما أوثقوه. و يصح الحمل على العموم الشامل لجميع ذلك.

و المعنى: إنّه لما وصف الضالين بالفسق أراد سبحانه و تعالى بيان حال هؤلاء الفاسقين الضالين فذكر لهم أوصافا ثلاثة: هي نقض العهد، و قطع ما يجب أن يوصل، و الإفساد في الأرض. و المراد بالعهد ما عاهد تعالى به على أنبيائه من المعارف و الشرايع الراجعة إلى تربية العباد، و هو من أعظم العهود الموثقة من قبله تعالى بالحجج و البراهين.

و يصح ان يراد به الأعم من ذلك و من العهد الفطري الموثق بالعقل الذي هو أعظم حجج اللّه تعالى، فالمراد بنقض العهد عدم الوفاء به قولا، أو عملا، أو اعتقادا كما هو وجداني.

قوله تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ .

صلة كل شيء بحسبه. و المراد بالأمر الأعم من التكويني و التشريعي فصلة العقيدة باللّه و رسله جعلها راسخة في النفس، و صلة الأحكام الإلهية التكليفية العمل بها و المواظبة على إتيانها، و صلة النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) هو الاهتداء بهديه، و العمل بما جاء به من ربه وصلة الرحم التآلف و التودد معه، و كذلك صلة المؤمنين بعضهم مع بعض، وصلة الأمور التكوينية معرفة منافعها، و مضارها، و نتائجها المترتبة عليها. و تشمل الآية الشريفة جميع ذلك؛ و التفرقة - و لو في الجملة - نقض لعهد اللّه تعالى و ميثاقه، و قطع للصلة، فمن أنكر اللّه أو صفاته فقد قطع ما أمر به أن يوصل، و من أنكر النبوة و ما جاء به الأنبياء فقد قطع ما أمر به أن يوصل من هذه الجهة.

قوله تعالى: وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ . الفساد خلاف الصّلاح و هو

ص: 141

أعم من الفردي و الاجتماعي.، و ذكر الأرض قرينة للحمل على الأخير.

و الإفساد في الأرض هو إضلال الناس، مثل الظلم، و الغيبة، و سيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ . نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة، فإن من اتصف بهذه الصفات فقد استحق الخزي في الدنيا، و عذاب الآخرة، و هذا هو الخسران المبين، إذ لا معنى لنقض العهد، أو قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، أو الفساد إلاّ الخسران المبين.

بحث روائي:

عن ابن عباس: «لما ضرب اللّه سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً و قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّماءِ قالوا «إنّ اللّه أجل و أعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

و في رواية أخرى عنه أيضا: «إنّه لما ذكر اللّه تعالى آلهة المشركين فقال؛ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ و ذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أ رأيت حيث ذكر اللّه الذباب و العنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء يصنع؟ و ضحكت اليهود، و قالوا: ما يشبه هذا كلام اللّه؟ فأنزل اللّه هذه الآية».

أقول: قد تقدم أن ذلك من باب التطبيق.

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُ

اشارة

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) ذكر سبحانه و تعالى في هاتين الآيتين حال الإنسان من مبدأ خلقه إلى ما يؤول اليه أمره، و أنّ جميع ما في الأرض مخلوق لأجله و معدّ له ليتمتع بما فيها، و إنما قدم التوبيخ و الملامة على التفضل و العناية لبيان أن كل ما يكون للإنسان من المراتب و الأطوار إنما هو من تفضّله تعالى، لا من اقتضاء

اشارة

ص: 142

ذاته، ثم عقب ذلك خلق السموات ليذكّرنا تمام قدرته و حكمته. و ربط هاتين الآيتين بالآيات السابقة ظاهر.

التفسير

قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ . تعيير و توبيخ؛ يعني أنه لا ينبغي لكم أن تكفروا باللّه و الحال ان موتكم و حياتكم تحت قدرته و إرادته. و إنما ذكرهما، لأنهما من الوجدانيات و إنكار خالقهما يرجع إلى إنكار الوجدان و الجمع بين النقيضين.

قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ . ذكر المفسرون في الموت و الحياة أقوالا:

منها: أن المراد بالموت هنا العدم السابق على الوجود أي: كنتم معدومين فأوجدكم، و ظاهر القرآن ينفي هذا الاحتمال.

و منها: عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة، كالنطفة، و العلقة، و المضغة، و نحوها من الأطوار التي تعرض على الإنسان في بدء خلقه حتّى يصير خلقا جديدا.

و منها: أنّ المراد بها الموت الحكمي، لا الحقيقي، إذ الإنسان حين ولادته لا اسم له، و لا شهرة له عند النّاس ثم يصير مشهورا عندهم، و لم يأت كل منهم في ما ذكروه بدليل يدل عليه.

و الأولى الحمل على الجميع، فإن للحياة بمراتبها المختلفة من النباتية و الحيوانية و الإنسانية جامعا قريبا و هو الحركة و الحس، و للموت أيضا بمراتبه الكثيرة جامعا قريبا، و هو الوقف و السكون، و اللّه تعالى هو القادر على إيجاد أصلهما و سائر جهاتهما و خصوصياتهما، فإن الإنسان من بدء خلقه إلى نشوره و وقوفه بين يدي رب العالمين، و في جميع أطواره و حالاته، بل جميع شؤونه و تبدلاته مورد علمه و قدرته و إرادته و هذا هو معنى الربوبية العظمى التي أشرنا إليها في قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الحمد، الآية: 1] و إذا كان هذا شأنه معكم، و كان لكم التفات إلى هذه الجهة و لو إجمالا كيف تكفرون

ص: 143

باللّه، فتكون هذه الآية الشريفة مثل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 22].

قوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أي يميتكم بقبض الأرواح حين انقضاء الآجال، ثم يحييكم حياة ثانية ثم اليه ترجعون لأخذ جزاء أعمالكم، هذا بحسب كليات الموت و الحياة و الرجوع إليه تعالى. و أما بحسب الخصوصيات - كالزمان الفاصل بينهما - فلا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

و الفرق بين الحياة الأولى و الحياة الثانية بعد اتحاد المبدأ و المرجع فيهما، و عدم الفرق بينهما من هذه الجهة: أن الحياة الأولى مؤقتة و الثانية أبدية دائمية، و أن التبدل في الصورة فالأعمال في الدنيا - خيرا كانت أو شرا - عرض قائم بالغير، و في الآخرة جوهر قائم بالذات فالعامل و العمل فيهما واحد؛ و الاختلاف إنما هو في صورة العمل. و أن الحياة الأخرى أكمل من الأولى للإنسان إن عمل صالحا في الدنيا و أدون إن كان شرا، و سيأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و بعد أن بيّن سبحانه بعض آياته في الأنفس فتفضل على الإنسان بنعمة الإيجاد، ثم بنعمة الموت، ثم الحياة، ثم الرجوع اليه ليصل كل واحد إلى ما أعده لنفسه من الأعمال ذكر سبحانه بعض نعمه في الآفاق.

قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً . بيان لما مر من قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِراشاً [سورة البقرة، الآية: 24]، لأن من لوازم جعل الأرض فراشا للإنسان أن يكون جميع ما في الفراش مهيئا للانتفاع به، و كذا قوله تعالى: سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 65].

و الخلق بمعنى التقدير المستقيم، و يستعمل في الإبداع أيضا، كقوله تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [سورة الفرقان، الآية: 59] بقرينة قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 117]؛ و في إيجاد شيء من شيء كقوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [سورة

ص: 144

النحل، الآية: 4]، و كذا قوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [سورة العلق، الآية: 2] و جميع هذه الاستعمالات من المشترك المعنوي لوجود الجامع القريب فيها، و هو التقدير المستقيم. و المراد بالخلق هنا التقدير أي: قدّر اللّه تعالى أن يكون ما في الأرض لأجل انتفاع الإنسان، و التقدير مقدم عن الإيجاد و كل موجود مقدر، و ليس كل مقدر موجودا، لجريان البداء في مرتبة التقدير و القضاء، كما يأتي.

و خلق ما في الأرض إما لأجل الانتفاع به انتفاعا ماديا صحيحا بكل وجه يتصور، أو عقليا كالنظر و الاعتبار،

كما قال علي (عليه السّلام): «خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به، و تتوصلوا به الى رضوانه، و تتوقوا به من عذاب نيرانه».

ثم إنه يستفاد من هذه الآية المباركة، و غيرها من الآيات كثرة عناية اللّه تعالى بالإنسان، و قد افتخر به على سائر خلقه كما في قوله تعالى: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، بل جعله غاية خلق الموجودات، و جعل الطبيعة مسخرة بين يديه، و أفاض عليه من علومها و أسرارها لأن ينتفع بها و يستفيد من جميع ما يمكن الاستفادة منه.

قوله تعالى: ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ . مادة (س و ي) تدل على المساواة و المعادلة، و تختلف الخصوصيات باختلاف الاستعمالات، فإذا عديت ب (على) أفادت معنى الاستيلاء عن عدل و حكمة، كما في قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى [سورة طه، الآية: 5] أي استيلاء علم و حكمة و تدبير و إتقان، فيكون ما سواه من صنع اللّه الذي أتقن كل شيء، و إذا عديت ب (إلى) اقتضى القصد و الشروع، و الأخذ المشتمل على أتم أنحاء التدبير،

قال علي (عليه السّلام): «أخذ في خلقها و إتقانها».

و قد استعملت هذه المادة بهيئاتها المختلفة في القرآن الكريم قال تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى [سورة الأعلى، الآية: 2] و قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة ص، الآية: 72] و الخلق أعم من التسوية.

ص: 145

و المعنى: أنه قصد خلق السماء، و أراد ذلك بأتم أنحاء التدبير و أحسن جهات التنظيم فجعلهنّ سبع سموات متقنات، و سيأتي بيان عدد السبع في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و في هذه الآية إشارة إلى أن خلق الأرض قبل خلق السماء. و لكن عرفت أن الخلق غير التسوية، فإن في الأرض جهات كثيرة و في السماء أيضا كذلك، فكل منهما من الأمور الإضافية و يصير خلق تلك الجهات أيضا كذلك. و حينئذ لا منافاة بين ذلك، و قوله تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [سورة النازعات، الآية: 27-31]، فإن خلق السماء في هذه الآية المباركة مقدم من حيث الاستواء و الإتمام. و خلق الأرض مؤخر من حيث فعلية نظمها، و جري أنهارها و دحوها و نحو ذلك. و في الآية السابقة أن خلق الأرض مقدم من حيث أصل التقدير فلا تضاد بينهما.

قوله تعالى: وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ . الشيء من ألفاظ العموم بل لا أعم منه. و عن بعض اللغويين إن لفظ عليم للمبالغة و ليس لمجرد الوصف الثابت. و قد عدّي بلفظ (باء)، مع أنه متعد بنفسه، لقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [سورة الممتحنة، الآية: 10] لإظهار الزيادة في العلم و المعلوم.

و في القرآن آيات كثيرة دالة على إحاطته بما سواه علما و قدرة و من سائر الجهات و لعل أبلغ هذه التعبيرات بالنسبة إلى المخاطبين قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 33]، إذ الشهود و العيان أخص عندهم من العلم و إن كان لا فرق بينهما بالنسبة إليه تعالى.

بحث فقهي:

استدل الفقهاء بقوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً لإثبات الإباحة المطلقة في جميع الأشياء إلاّ ما دل دليل بالخصوص على تحريمه، و تمسكوا بغيرها من الآيات المباركة أيضا على ما سيأتي، و بالروايات، بل و العقل، و بينوا في علم الأصول ما يتعلق بذلك.

ص: 146

بحث روائي:

عن علي (عليه السّلام) في قول اللّه عزّ و جل: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ - الآية - قال «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به، و لتتوصلوا به إلى رضوانه، و تتوقوا به من عذاب نيرانه. ثم استوى إلى السماء أخذ في خلقها و إتقانها فسويهن سبع سموات و هو بكل شيء عليم، و لعلمه بكل شيء علم المصالح، فخلق شرع ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم».

أقول: ما ورد في هذا الحديث في مقام بيان غاية الخلق و هو المنساق من جملة من الآيات القرآنية على ما تقدم.

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «خلق الأرض قبل السماء».

أقول: تقدم إجمال بيانه، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ وَ نَحْنُ نُس

اشارة

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) شروع في بيان قصة خلق آدم، و الغاية من خلقه و عصيانه، و هبوطه إلى الأرض، و قد تكررت هذه القصة في مواضع متعددة من القرآن الكريم، بل وردت في جميع الكتب السماوية، فتظهر أهميتها لما فيها من الحكم و الأسرار، و اعتنائه تبارك و تعالى بالإنسان الذي يمتاز عن غيره من المخلوقات، لأنه المستعد لبلوغ أقصى درجات الكمال، و لذلك كان جديرا بالخلافة.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ . المراد بالقول هنا الإلقاء في النفس، سواء أ كان بسبب من الأسباب الظاهرية، أم الخفية. و ليس المراد من

ص: 147

القول المنسوب إليه تعالى في جميع القرآن هو المعنى المعروف أي: الحركات المعتمدة على مخارج الحروف، و سيأتي شرح ذلك في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و الملائكة: قيل من أ لك و هي الرسالة إما لأنّ جميعهم رسل اللّه إلى ما يرسلهم إليه من تدبير الأمور، أو تغليبا لاسم عظمائهم و ساداتهم - و هم جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل - عليهم، و لا بأس به لفرض تسخير البقية تحت إرادة العظماء منهم بأمره تعالى.

و لا ريب في وجود الملائكة و قد تكرر ذكرهم في القرآن الكريم و سائر الكتب السماوية مع شيء من بيان أعمالهم و في الروايات الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام) شرح لبعض خصائصهم و أحوالهم.

و قد استدل الحكماء و الفلاسفة بأدلة عقلية على وجود الملائكة منها قاعدة «إمكان الأشرف» المذكورة في الكتب الفلسفية، و يغنينا عن ذلك ظهورهم لأنبياء اللّه (عليهم السلام) لا سيما أولي العزم منهم؛ و ظهور جبرائيل في صورة دحية الكلبي مروي في كتب الفريقين.

و أما الخلاف في أنهم ذوات مجردة تظهر بأشكال مختلفة كما عليه الفلاسفة، أو أجسام لطيفة كذلك كما عن غيرهم، فلا ثمرة في ذلك و النزاع بينهم لفظي.

و الملائكة مختلفون في الأشكال و الهيئات، و هم على طوائف متعددة مختلفة محدودة قال تعالى: يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 20]، و قال تعالى: وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ [سورة الصافات، الآية: 165] و يدل على ذلك بعض الروايات الواردة عن المعصومين و هم يتكاثرون بواسطة بعض الأعمال الصالحة الصادرة من العباد، كما هو مذكور في كتب الأحاديث، و من قطرات النهر المكنون تحت العرش كما في بعض الروايات على ما يأتي.

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ أمران:

ص: 148

الأول: إنما وجه الخطاب إلى النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) ليعلم الناس أنّ الغرض الأصلي من خلق آدم إنما هو سيد الأنبياء و الرسالة التي جاء بها، و ذلك لأن العلة الغائية مقدمة في العلم و إن كانت متأخرة في الخارج، كما ثبت بالأدلة العقلية، و يدل عليه بعض الأدلة النقلية، فأصل الدعوة هي دعوته (صلّى اللّه عليه و آله) و إن تعددت الدعاة إليها و تفرقوا في سلسلة الزمان، و يأتي شرح ذلك عند قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية:

48]. و فيه تسلية له (صلّى اللّه عليه و آله) بما رأى من الحوادث الواردة على أبيه آدم، ليصبر على ما يراه من كيد المشركين.

الثاني: إنما قال سبحانه ذلك للملائكة ثم بينه للناس لجهات؛ منها:

إظهار فضل آدم للملائكة، و تعريفه لهم، و إعلامهم بمقامه بأن له الخلافة في الأرض.

و منها: إظهار ما هو المكنون في نفوس الملائكة على أنفسهم ليعترفوا بذلك بالعجز و القصور.

و منها: الإعلام بأن صنع هذا المخلوق الجديد كان بمباشرته عزّ و جل بلا مداخلة أحد غيره فيه.

و منها: بيان أن ليس للإنسان معرفة حقائق الأشياء، و أسرار الخليقة و حكمها، فإن الملائكة مع رفعة شأنهم قد عجزوا عن ذلك.

و منها: أن هذه المحاورة كانت تلطفا منه عزّ و جل و جبرا لما انكسر من نفوسهم حيث صنع اللّه الخليفة من الطين الذي هو دونهم بمراتب.

و منها: إرشاد النّاس إلى المشاورة بينهم في أمورهم، و أن المشاورة لا تنقص الفرد و إن عظم شأنه، كما قال تعالى مخاطبا لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله): وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ [سورة آل عمران، الآية: 159].

كما أنه أعلمنا بأنه قد رضي لخلقه أن يسألوه عما خفي عنهم.

قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً . الجعل هو الفعل

ص: 149

و الإحداث. و الخلافة هي النيابة عن الغير إما لقصوره، أو زواله أو للتشريف و التشريع و الإبلاغ، و خلافة أنبياء اللّه تعالى و حججه من القسم الأخير، و للعلماء في جعل الخلافة في الأرض قولان:

الأول: إنّ اللّه تعالى جعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض ذهب اللّه تعالى بهم بعد أن أفسدوا، و سفكوا الدماء، و استدلوا بقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [سورة يونس، الآية:

14] و من سؤال الملائكة قياسا على ما مضى.

الثاني: إنّ اللّه جعل آدم خليفته في الأرض، كما يشهد له قوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ [سورة ص، الآية: 26].

و الحق أن يقال: إن المستخلف عنه في المقام الأعم مما ذكروه، فإن الإنسان فيه جهتان: جهة البدن و الجسم، و جهة الروح، و هو مزيج منهما فقد تعلق جعله تعالى بآدم من جهتين الجسمانية حيث باشر تعالى بنفسه في خلقه، و نفخ فيه من روحه، فيكون من هذه الجهة خليفة عن غيره تكوينا، و أما الجهة المعنوية فقد تعلقت الإرادة الإلهية بجعله خليفة، كما تعلقت بجعل داود خليفة في الأرض، و يشهد لذلك ما استفاض

عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «إن أول مخلوق على وجه الأرض هو الحجة، و آخر من يموت هو الحجة» فتكون الخلافة لآدم (عليه السلام) من حيث نبوته، و كونه حجة اللّه خلافة شخصية، و من حيث كونه آدم أبا البشر نوعية، كما يدل عليه قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ إذ لكل طبقة لاحقة خلافة تكوينية بالنسبة إلى الطبقة السابقة في دار الكون و الفساد، فتكون الخلافتان متلازمتان.

قوله تعالى: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ . المراد من الفساد المعنى الأعم الشامل للفساد الشخصي و النوعي، و من الأول ارتكاب المناهي الإلهية، و من الثاني النفاق.

و سفك الدماء: إراقتها بغير حق. و التسبيح التنزيه عن صفات الممكنات، و معنى نسبح بحمدك أي: ننزهك عن النقائص، مقرونا بالثناء

ص: 150

عليك فاجتمع في هذا التعبير صفات الجلال و الجمال، و التقديس بمعنى التنزيه - كما عن جمع من اللغويين و المفسرين - و التطهير المعنوي عن النقائص، و قد استعمل في القرآن كل منهما بالنسبة إليه تعالى قال جلّ شأنه: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ [سورة الحشر، الآية: 24].

و يمكن التفريق بينهما بجعل الأول بالنسبة إلى الذات الأقدس، فهو تعالى منزه عن كل نقص، و الثاني بالنسبة إلى الفعل، ففعله منزه عن كل نقص، لكونه صادرا عن الحكمة البالغة. و يمكن أن يقال: إن معنى نقدس لك أي نطهر أرضك من الفساد و المعاصي.

و المعنى: أ تستخلف في الأرض من هو على هذه الصفات من الإفساد و سفك الدماء، و نحن المعصومون نسبح بحمدك و نقدس لك، فالغاية المتوخاة من جعل الخليفة موجودة فينا دون غيرنا فزعموا أن التسبيح و التقديس فقط هو المقصد الأصلي من الخلق و ليس فيهم سبب الفساد، لأنهم متحدوا القوى و ليست لهم قوى متخالفة.

ثم إنه يمكن أن يكون منشأ سؤال الملائكة هذا أحد أمور:

الأول: علمهم بأنّ الدار دار الكون و الفساد و الإنسان مركب من قوى متضادة متخالفة من الشهوة و الغضب، و القوة و الضعف، و نحو ذلك، و من كان هذا حاله و هو في دار الكون و الفساد، و المادة يلازمه سفك الدماء و الإفساد، فيكون قولهم من باب كشف الملزوم عن اللازم و هو صحيح.

الثاني: حصول ذلك من حمل المستقبل على الماضي الذين أفسدوا في الأرض و سفكوا الدماء، فحصل لهم العلم بذلك من التجربة.

الثالث: أنّ حب النفس فطري في كل ذي حياة فحبهم لنفسهم أوقعهم في هذا القول، و لكن هذا الوجه ينافي مقام عصمتهم.

الرابع: أنه بعد إخبارهم بأنه سيجعل في الأرض خليفة عجبوا كيف يمكن أن يكون المصنوع من التراب خليفة رب الأرباب، مع أنّ اللّه تعالى أخبرهم أن في ذريته من يفسد و يسفك الدماء، كما في بعض الأخبار، و غفلوا

ص: 151

عن الحكمة.

ص: 152

[سورة الكهف، الآية: 65]، و قال جلّ شأنه: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء، الآية: 113]، و قال سبحانه و تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 151]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 282].

و المستفاد من الجميع هو إلقاء المعلم حقيقة ما يريده من العلم إلى الطرف بنحو الإلهام أو الإشراق - كما يحكى عن الفلاسفة الإشراقيين - دفعة واحدة أو بالتدريج، بلا فرق في ذلك بين أن لا يكون سبب ظاهري، أو كان ذلك، كما في قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [سورة المائدة، الآية: 31].

و ظاهر الآية المباركة أن التعليم كان مباشريا من اللّه تعالى بلا واسطة ملك. و كيف لا يكون كذلك و قد اقتضت العناية الإلهية الاهتمام بأول خليقته و المصنوع بيمينه - و كلتا يديه يمين كما في الأحاديث - و النفخ فيه من روحه كل ذلك ينبئ عن السر العظيم و الحكمة التامة في هذا الإنسان فميزه عن سائر خلقه بهذا المقام الخطير بأن علمه ما لم يعلم، و جعل في نسله هذه القوة العلمية فكان في ذريته الأولياء الذين أشرقوا العالم بأنوار المعارف الإلهية و تفرع عن هذا الأصل جميع العلماء و العقلاء الذين سخروا العالم بعلمهم و دبروا البلاد بعقلهم.

و لم يكن هذا العلم مقتصرا على ألفاظ و مسميات خاصة و هو في هذا المقام العظيم و المنصب الرفيع فقد تعلم كل المعارف الإلهية و ماله دخل في استكمال الإنسان في النشأتين، كما أن التعليم شمل أسرار القضاء و القدر و خواص الأشياء و منها خواص النبات و عرف موجبات الفرح و السرور و أسباب الحزن و الكدر فإن آدم و سائر حجج اللّه سفراؤه في الأرض و لا بد و ان يكون السفير مطلعا على دار سفارته، و لعل منها ما حكاه اللّه تبارك و تعالى في قوله : وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه، الآية: 115] فأخبره تعالى بوقوع هذه الحادثة العجيبة منه لكثرة أهميتها في النشأة الدنيوية و سيأتي في البحث الروائي و غيره مزيد بيان.

ص: 153

و لفظ «آدم» سواء كان لفظا عربيا - من الأدمة بمعنى السمرة أو من أديم الأرض و هي ظاهرها - أو غير عربي، سهل في النطق و ذلك يكشف عن وجود الأنس بين ذريته و لعله لذلك سمي إنسانا لأن الانس من طبعه و في جبلته أو لكونه وسطا بين الإفراط و التفريط كما أن السمرة وسط بين السواد المحض و البياض كذلك، و الظاهر أن اطلاق هذا الاسم عليه كان من اللّه تعالى من حين الخلقة لا حين نزوله الى الأرض فهو باسمه و جسمه و روحه مضاف إلى اللّه تعالى إضافة خاصة.

قوله تعالى: اَلْأَسْماءَ كُلَّها . الأسماء جمع اسم و له معان:

الأول: اللفظ الخاص المعروف في مقابل الفعل و الحرف مثل سماء، و أرض، و بحر، و نهر الى غير ذلك مما هو في ازدياد على مر العصور، فيكون التعليم من مجرد اللفظ فقط بلا توجه من المتعلم الى المعنى أبدا، لا فعلا و لا بعد ذلك، و هذا يعد من اللغو في المحاورات المتعارفة بين الناس، فيكون قبيحا بالنسبة إليه تعالى و هو محال، لاستحالة كل قبيح عليه عزّ و جل.

الثاني: الأسماء من حيث كونها آلة للتعرف على المسميات و المعاني فتتحقق الإفادة و الاستفادة، كما هو شأن تعلم اللغة التي بها امتاز الإنسان على سائر الخلق، قال تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ [سورة الرحمن، الآية: 2].

الثالث: المراد من الأسماء ذوات المسميات، و حقائق الأشياء لوجود خاصية الاسم فيها، لأن الاسم ما أنبأ عن المسمى، و جميع تلك الحقائق تنبئ عن آيات اللّه و جلاله و جماله. أو للترابط الوثيق بين الدال و المدلول بحيث إذا أطلق أحدهما انتقل الذهن إلى الآخر، كما تقدم.

و الظاهر هو المعنى الأخير، و يتحقق المعنى الثاني لا محالة، فإنّ المناسب من تعليم اللّه تعالى آدم الأسماء من حيث كشفها عن حقائق المسميات و جواهرها، و أعراضها، و مجرداتها، و معرفة ذواتها و خواصها و صفاتها، فكما أن آدم أبا البشر في مقام الأبوة و البنوة الإضافية صار أصلا لهم

ص: 154

في ما يتعلق بشئونهم الفردية و الاجتماعية و من أهم ذلك معرفة الحقائق و أسمائها، و يشهد لذلك قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلائِكَةِ ، فإنه لو كان المراد هو مجرد الألفاظ فقط لما كان لهذا القول معنى إلاّ بالتكلف.

و لا فرق في ذلك بين أن يكون التعليم دفعيا و في آن واحد، أو كان بالتدريج على حسب مجرى الطبيعة التي هي مسخرة تحت إرادته تعالى. و لا بأس بالقول بكل منهما فيكون بالنسبة إلى البعض دفعيا و بالنسبة إلى البعض الآخر تدريجيا، و في جميع الحالات يكون التعليم منسوبا إليه عزّ و جل.

ثم إنه لا وجه لصرف الآية عن التعميم، و القول بأن التعليم يختص بتلك الأسماء التي كانت مورد حاجة آدم في حياته، و تعليم غيرها يكون من اللغو أو لزوم ما لا يلزم و اللّه تعالى منزه عن ذلك، إذ يرد على هذا القول بأن الآية ظاهرة في التعيمم، مع أن الإحاطة العلمية خصوصا بمثل هذه الإحاطة العلمية الغيبية كمال للنفس و أي كمال أفضل منه بل يعد هذا من معجزات آدم (عليه السلام).

و يحتمل أن يكون المراد بعالم الأسماء عالم المثال الذي أثبته بعض الفلاسفة، و يسمى بعالم الخيال المنفصل أيضا الذي فيه صور جميع الموجودات بأشكالها الخاصة و هيئاتها المختلفة المحدودة بحدودها المعينة كما في الصور الخيالية التي تكون بين التجرد المحض و المادية المحضة و استدلوا عليه بالأدلة العقلية، و بما ورد

عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) «أن في العرش صور جميع الموجودات»،

و قد ورد في شرح دعاء - يا من أظهر الجميل و ستر القبيح - «أن العبد إذا فعل فعلا قبيحا ستر اللّه تلك الصورة بستار لئلا يطلع عليها الملائكة» و المراد بهؤلاء الملائكة بعض حملة العرش، و يأتي للمقام شواهد عقلية و نقلية.

و على هذا يكون إتيان لفظ من يعقل في قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ من باب ذكر الأهم لأنه المقصود الأصلي من خلق الجميع.

بل يمكن أن يقال: إنّ المقصود الأصلي من الأسماء إنما هو مقام

ص: 155

الخلافة الإلهية و أسماء الخلفاء ليكون آدم على بصيرة من أمره من أن الأرض أرضه، و البشر نسله، و الخلفاء من ذريته و لا سيما سيدهم (صلّى اللّه عليه و آله) و هذا مما لا ريب فيه

فقد روى الفريقان عنه (صلّى اللّه عليه و آله) : «كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين» فهو (صلّى اللّه عليه و آله) مقدم على آدم علما و إن كان مؤخرا خارجا.

قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلائِكَةِ . العرض هو الإظهار على الغير لغرض فيه قال تعالى: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأحزاب، الآية: 72]، و قال تعالى: وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [سورة الكهف، الآية: 48]. فإذا عدي بالهمزة يكون بمعنى الإدبار و التولي، كقوله تعالى: وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 199] و قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة السجدة، الآية: 30].

و المراد بالعرض على الملائكة توجيه نفوسهم، و الاطلاع على تلك الأشياء إما إلى أعيانها إن كانت موجودة أو أمثالها المحدثة بإرادة منه عزّ و جل إن لم توجد في الخارج.

و ذكر خصوص من يعقل من باب التغليب أو الأفضل كما تقدم، أو لأجل بيان أن المراد الأصلي إنما هو ذوو العقول و لا سيما الكاملين منهم، أو لأجل أن جميع موجودات هذا العالم من جماده و نباته و حيوانه له عقل و شعور في عالم الغيب، و إن خفي ذلك علينا، و يشير إليه قوله تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44]، و هذا العالم يسمى بعالم الروحانيين، و عالم الأشباح و الأظلة و بالملكوت الأسفل، فيكون معنى عرضهم على الملائكة رفع بعض حجب الغيب عنهم، و في هذا العالم تكون خزائن اللّه التي يقول جلّ شأنه فيها: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجر، الآية: 21].

و بالجملة: حجب الغيب كثيرة، و تحت كل حجاب عالم من العوالم لا

ص: 156

يعلمها إلاّ اللّه عزّ و جل. و عن جمع من الفلاسفة «أن كلما هناك حي ناطق و لجمال اللّه دواما عاشق».

قوله تعالى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . الأمر للتعجيز، و إظهار عجزهم على أنفسهم و على غيرهم، فلا وجه لإشكال جمع من المفسرين من أن أمر العاجز عن الشيء قبيح فيكون محالا عليه تعالى، لأن ذلك في ما إذا كان الداعي من الأمر هو الإيجاب و أما إذا كان الداعي شيئا آخر من تعجيز و نحوه فلا محذور و هو في القرآن كثير، و تأتي الإشارة إليه.

و الإنباء هو الإخبار يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، و بواسطة الحرف أخرى، كما عن جمع من اللغويين.

و المراد بالأسماء هنا نفس الألفاظ فقط و هو تعجيز شديد، يعني أنكم إذا لم تقدروا على الإخبار عن مجرد اللفظ فأولى أن تكونوا عاجزين عن معرفة أسرار الأشياء و حقائقها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن ما خطر في نفوسكم أنكم أفضل من آدم و ما أظهرتموه من الدهشة في اختيار الخليفة من الإنسان. و ليس ذلك من الحسد المبغوض بل هو من حب الكمال الذي هو من الفطريات لكل ذي إدراك، و لم يسلم من ذلك حتّى أنبياء اللّه تعالى، كما تشهد به قصة موسى (عليه السلام) مع الخضر، و سيأتي تفصيلها في سورة الكهف.

و من ذلك يعلم أن الحكمة في التعليم و العرض هي إظهار فضل آدم (عليه السلام) على الملائكة، و أن الخلافة لا تكون إلاّ لمن استجمعت فيه مراتب الاستعداد و لا يعلم بها أحد إلاّ اللّه تعالى.

هذا كله إذا كان المراد بقول الملائكة الاستفهام الحقيقي، و كان الاستعمال بداعي ذلك أيضا. و أما إذا كان الاستعمال بداعي التنفر و الاشمئزاز من المفسدين و سفكة الدماء فهو صحيح، و يصح انتسابه إلى جميع الملائكة حتّى عظمائهم، و حملة العرش كما لا يخفى. فيكون قول اللّه تعالى ناظرا الى عدم إحاطتهم بمراتب الغيوب، و مقدمة لأمرهم بالسجود لآدم لما ظهر لهم من

ص: 157

فضله بما أفاض اللّه تعالى عليه علم الأسماء، و جعله خليفته في الأرض.

و أما ذكر «هؤلاء» بعنوان الإشارة إلى الحاضرين فيمكن أن يكون لبيان رفعة مقام المسميات بخصوص هذه الأسماء دون غيرها فكأنهم حاضرون في جميع العوالم، و قد عبّر عن خصوص هذه المسميات جمع من الفلاسفة بأرباب الأنواع، و جمع آخر بالمثل الأفلاطونية.

قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا . كلمة «سبحانك» تقال في مقام التوبة كما في قوله تعالى: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 87]، و قوله تعالى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف، الآية: 143].

و أما قوله تعالى: لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا اعتراف منهم بالعجز و القصور، و ان علمهم لا يحيط بجميع المسميات و فيه ثناء على اللّه تعالى، لأنهم أثبتوا العلم له عزّ و جل و نفوه عن غيره و أنه المفيض عليهم بالعلم على قدر القابليات و الاستعدادات.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ . تأكيد منهم على حصر العلم بالنسبة إلى ذاته، و للحكمة بالنسبة إلى فضله و مادة (ح ك م) في أية هيئة استعملت تفيد الإتقان و الإحكام و الإتمام. و أصل الحكمة منه تعالى معرفة الأشياء، و إيجادها بالإحكام و الإتقان الواقعي، و هي منبعثة عن العلم بالحقائق. و إذا أطلقت بالنسبة إلى الإنسان ففي اصطلاح الفلاسفة: هي العلم بحقائق الأشياء على حسب الطاقة البشرية. و في اصطلاح المفسرين:

معرفة الأشياء و فعل الخير و قالوا منه قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ [سورة لقمان، الآية: 12]، و يأتي في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [سورة البقرة، الآية: 269] بعض الكلام.

و إذا أضيفت الى القرآن كقوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [سورة القمر، الآية: 5] فانما يراد بها الاشتمال على الآيات و القوانين المحكمة. و يطلق الحكم على الحكمة أيضا،

كما نسب إلى النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصمت حكم و قليل فاعله».

ص: 158

و من هذا الجواب يستفاد أنّ سؤالهم لم يكن من الخصومة و الجدال بل كان سؤال مستفسر مستوضح، و لذا رجعوا إلى ما كان قد غفلوا عنه، و فوّضوا الأمر إليه تعالى بعد ما تبين لهم الحال.

و في هذه الآية المباركة جملة من الآداب بين السائل و المجيب ففيها إيماء إلى أن الإنسان يجب أن لا يغفل عن كونه مخلوقا ناقصا مهما بلغ من الكمال، و أن لا يأنف من الاعتراف بالجهل إذا كان لا يعلم، و أن لا يكتم العلم إذا كان يعلم، و يجب عليه أن يحفظ مقام معلمه في تواضع و أدب.

قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ . أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، و إيكال تعليم الملائكة الى آدم (عليه السلام) يدل على أفضلية مرتبة الخلافة عنهم. و قد نادى اللّه سبحانه جملة من أنبيائه في القرآن العظيم بأسمائهم العلمي فقال تعالى: يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا [سورة هود، الآية: 48]، و قال تعالى: يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا [سورة الصافات، الآية: 105]، و قال تعالى: يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ [سورة القصص، الآية: 31]، و قال تعالى: يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ [سورة المائدة، الآية: 116]. و أما سيد الأنبياء فلم يخاطبه عزّ و جل إلاّ بأوصافه فقال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ [سورة الأنفال، الآية: 64] أو يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ [سورة المائدة، الآية: 41] و طه و يس فيكون له سبحانه و تعالى معه (صلّى اللّه عليه و آله) أدب، و للرسول معه عزّ و جل حالات خاصة.

قوله تعالى: فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ . يدل على أن استكمال الملائكة بالعلم إنما يكون بواسطة أنبياء اللّه و حججه و لا محذور فيه بل الأدلة العقلية و النقلية تؤيد ذلك.

و لعل من اسرار نزول الملائكة في ليلة القدر - أو مشايعتهم لبعض السور حين نزولها على النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) - هو الاستفادة مما ينزل على النبي، أو ولي الأمر، و على هذا يكون بين الملائكة اختلاف في الفضل حسب كثرة حشرهم و مخالطتهم مع الأنبياء و الحجج و قلته، و للكلام

ص: 159

تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . أي قلت لكم إني أعلم ما غاب من أنظاركم و علومكم، فاحتج عليهم بإثبات علم الغيب له تعالى و نفيه عنهم فلن أخلق خلقا عبثا. و إنما ذكر تعالى غيب السموات و الأرض فقط و لم يذكر عالم الشهادة، لشمول الأول له بالأولى، مع أن جميع العوالم شهادة بالنسبة إليه تعالى، و التقدم و التأخر بالنسبة إلى الزمان و هو محيط بالزمان و الزمانيات.

ثم احتج عليهم بأنه عالم بما يبدون و ما يكتمون، لأنه - كما ذكرنا سابقا - أضمروا في نفوسهم أحقيتهم للخلافة، لكونهم يعبدون ربهم و يقدسونه فلم يخلق خلقا أكرم عليه منا.

و الظاهر - كما يدل عليه بعض الأخبار و يأتي في البحث الروائي نقلها - أنّ المراد هم جميع الملائكة، و يحتمل أن يكون المراد هو خصوص الشيطان من جهة كونه داخلا في عموم الخطاب، لأنه كان داخلا فيهم صورة فيكون من باب إطلاق الجمع و إرادة الفرد منه، و هو صحيح واقع في القرآن الكريم و المحاورات.

بحوث المقام

بحث دلالي:

لا ريب في دلالة الآيات المباركة على فضل العلم، و أنه الغرض الأقصى من خلق الإنسان و جعل الخليفة، إذ لا معنى للخلافة الإلهية بل مطلقها إلاّ علم الخليفة في ما يستخلف فيه و تدبيره الحاصل بالعلم أيضا، فيكون العلم هو العلة الغائية لخلق الموجودات كلها، كما أنه العلة لإيجادها، ففي مثله تجتمع العلة الغائية و الفاعلية.

كما يستفاد منها فضل الإنسان، لأنه لا فضل إلاّ بالعلم، و لا علم يستعمل في دقائق الكون، و أسرار التكوين و رموزها إلاّ في الإنسان و قد سخر

ص: 160

الكون بعلمه و لم يخلق اللّه تعالى العالم إلاّ له، كما يأتي ذلك في الآيات الكثيرة؛ فمبدأ الخلق إنما هو من العلم و غايته للعلم و تدبيره إنما هو بالعلم، فالجهل و الجهلاء بمعزل عن مبدإ الخلق و غايته و تدبيره و يكون كالجزء الفاسد من العالم، و يأتي شرح هذا العلم و تفصيله في الآيات المستقبلة إن شاء اللّه تعالى.

و من هذه الآيات المباركة يستفاد فضل آدم (عليه السّلام) على الملائكة، لأن اللّه تعالى جعله معلما للملائكة و فضل المعلم على المتعلم واضح.

و تعليم الأسماء لآدم (عليه السّلام) بمنزلة كتاب سماوي أنزله اللّه تعالى على آدم (عليه السّلام) و به تحدى الملائكة فأظهروا العجز و القصور، كما جعل الكلام العربي معجزة لنبيّنا الأعظم محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يستفاد من الآيات الشريفة أن هذه المحاورة إنما كانت بين اللّه تعالى و بين ملائكة الأرض الذين وكّلوا في شؤونها، و كان قد خفي عليهم وجه الحكمة في خلق آدم (عليه السّلام) دون غيرهم من ملائكة السماء و عظمائها كالكروبيين و حملة العرش، و إن كان الإطلاق يقتضي ذلك إلاّ أن الإعتبار يقتضي الأول، كما سيأتي في البحث الروائي فإن المراجعة إنما كانت في الأرض، لا في السماء و إنّ آدم (عليه السّلام) خليفة اللّه خلق من الأرض - لأنه من طين و من حمإ مسنون - و في الأرض لأنه خليفة اللّه في الأرض و للأرض كما هو شأن جميع الأنبياء و الرسل، فلا وجه لتوهم كون الخلق في السماء إلاّ قوله تعالى: قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً و بعض الأخبار، و سيأتي ما يتعلق بذلك.

بحث روائي:

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السّلام): «ما علم الملائكة بقولهم: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء؟ لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها و يسفك الدماء».

ص: 161

أقول: يستفاد من هذه الأخبار أن علم الملائكة ليس من علم الغيب، بل حاصل من المدارك الجزئية الخارجية، و أما أن مداركهم الجزئية كعين مداركنا الجسمانية ففيه تفصيل يأتي بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و في التفسير عن الصادق (عليه السّلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها . ما هي؟ قال (عليه السّلام) أسماء الأودية و النبات و الشجر و الجبال من الأرض».

و فيه عنه (عليه السّلام) أيضا في قول اللّه عزّ و جل: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها . ما ذا علمه؟ قال: الأرضين و الجبال، و الشعاب و الأودية، ثم نظر إلى بساط تحته. فقال: و هذا البساط مما علمه».

و في التفسير أيضا عن داود بن سرحان قال: «كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فدعا بالخوان فتغدينا، ثم دعا بالطشت و الدستشان (أي: محل غسل اليد) فقلت: جعلت فداك قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها الطست و الدستشان منه؟ فقال (عليه السّلام) الفجاج و الأودية و أهوى بيده كذا و كذا».

و في تفسير العسكري عن السجاد (عليه السّلام): «علمه أسماء كل شيء».

أقول: الأمثلة التي ذكرها (عليه السّلام) من باب المثال لما كان موجودا في زمان آدم (عليه السّلام)، لا الحصر.

و في المعاني عن الصادق (عليه السّلام): «ان اللّه عزّ و جل علّم آدم (عليه السّلام) أسماء حججه (عليهم السّلام) كلها، ثم عرضهم و هم أرواح على الملائكة».

أقول: يظهر من هذا الحديث كجملة من الأحاديث المستفيضة أن الأرواح سابقة على الأجسام؛

و في الحديث المعروف بين الفريقين عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». و من ذهب الى أرباب الأنواع، أو المثل الأفلاطونية فإن أراد بقوله مثل

ص: 162

ما ذكره (عليه السّلام) في هذا الحديث فلا بأس به، و ان أراد به غير ذلك فلا بد في إثباته من الرجوع إلى أدلتهم المذكورة في الفلسفة الإلهية و التأمل فيها.

و في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «لما أن خلق اللّه آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنّا نظن أن اللّه خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه و نحن أقرب الخلق اليه. فقال اللّه: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض و اعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر الجان، و كتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش».

و مثله عن علي بن الحسين و زاد فيه «فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، و أنها كانت من عصابة من الملائكة - و هم الذين كانوا حول العرش لم يكن جميع الملائكة - الى أن قال (عليه السّلام): فهم يلوذون حول العرش الى يوم القيامة».

أقول: تقدم في البحث الدلالي ما يدل على ذلك.

و في العلل عن الصادق (عليه السّلام): «أنّه سئل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أخبرني عن آدم لم سمي آدم؟ قال: لأنه خلق من طين الأرض و أديمها».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

ثم إنّ في المقام بحثين آخرين - أحدهما: بحث خلقة آدم (عليه السّلام) و قد بينه تعالى في جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن بيانا وافيا لهذا الخلق العجيب، ثم شرحته السنّة المقدسة شرحا وافيا و طريق العلم به منحصر بهما، لقصور ما سواهما مطلقا عن درك ذلك لأنه من الغيب المختص علمه به تعالى و إظهاره يكون بإخباره عزّ و جل.

ثانيهما: بحث الطينة و الميثاق، و تعرض له المفسرون و المحدثون من العامة و الخاصة عند قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 172] و الأخبار في ذلك كثيرة من الفريقين، و هو أيضا من الغيب المختص به عزّ و جل، و لا بد أن يكون العلم به من ناحيته تعالى بلا واسطة، أو بواسطة أنبيائه و أوليائه تعالى، و قد وردت الأخبار في ذلك عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام).

ص: 163

ثانيهما: بحث الطينة و الميثاق، و تعرض له المفسرون و المحدثون من العامة و الخاصة عند قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 172] و الأخبار في ذلك كثيرة من الفريقين، و هو أيضا من الغيب المختص به عزّ و جل، و لا بد أن يكون العلم به من ناحيته تعالى بلا واسطة، أو بواسطة أنبيائه و أوليائه تعالى، و قد وردت الأخبار في ذلك عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام).

و الطينة الواردة في السنّة الشريفة على قسمين:

الأول: ما كانت علة تامة منحصرة لكون مآلها إلى الجنّة بلا دخل للتكليف و الإختيار فيها أصلا، أو كون مآلها الى النار كذلك.

الثاني: ما كانت مقتضية لذلك مع دخل شرائط أخرى في كل منهما حتّى تصير إلى الجنّة أو النار. و لا بد من حمل جميع ما وردت في الطينة من الأخبار على القسم الثاني، دون الأول، لظواهر الكتاب - على ما يأتي - و السنّة، و أدلة عقلية نشير إليها في محالها إن شاء اللّه تعالى.

بحث اجتماعي:

من أعظم ما أنعم اللّه تعالى على الإنسان نعمة البيان و النطق فقال عزّ و جل في مقام الامتنان عليه: اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ [سورة الرحمن، الآية: 2] فلو لا اللغة و البيان لم يتحقق للإنسان اجتماع و لاختل أساس التشريع، و بالأخرة لم يقم له نظام الدنيا و الآخرة؛ فلا يمكن تحديد هذه النعمة بحد، و يكفي في ذلك قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [سورة الروم، الآية: 22] حيث جعل تعالى اختلاف الألسنة من الآيات.

و الكلام في اللغة يكون من جهات متعددة ففيها التاريخية، و الأدبية و العلمية، و الاجتماعية و غير ذلك، و قد وضع العلماء لكل واحدة من تلك الجهات كتبا كثيرة.

و الذي يهمنا في المقام هو ما يستفاد من قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها في نشأة اللغة عند الإنسان بعد معلومية انتهائها إلى اللّه عزّ و جل، فإنه المفيض عليهم هذه النعمة - كما في سائر نعمه عزّ و جل - بإلهام منه تعالى مباشرة، أو بالتعليم.

ص: 164

و الذي يهمنا في المقام هو ما يستفاد من قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها في نشأة اللغة عند الإنسان بعد معلومية انتهائها إلى اللّه عزّ و جل، فإنه المفيض عليهم هذه النعمة - كما في سائر نعمه عزّ و جل - بإلهام منه تعالى مباشرة، أو بالتعليم.

و الوجوه المحتملة كثيرة و قال بكل منها جمع و هي:

الأول: أنّها كانت من مجرد أصوات ذات دلالات وضعية فقط فتعدت عن تلك المرتبة بالتكرار حتّى وصلت إلى مرتبة الدلالة الاستعمالية فصارت ألفاظا خاصة كاشفة عن معان مخصوصة.

الثاني: أنّها كانت من ألفاظ ذات دلالات وضعية منشؤها الفطرة الإنسانية، كالألفاظ التي يستعملها الصبي غير المميز، أو تستعمل له فتعدت بكثرة الاستعمال عن تلك المرتبة إلى المرتبة الكاملة، كما هو مقتضى السير التكاملي في كل شيء. و لا يخفى بعد هذين الوجهين عن الآية الكريمة، مضافا إلى ما فيهما من التعسف.

الثالث: أنّها مركبة من الوجهين في بدو الأمر؛ فحصل التكامل بما يحصل التكامل في سائر الأشياء. و يرد عليه ما أورد على الوجهين السابقين.

الرابع: أنّها حصلت أصولها بتعليم اللّه تعالى، و البقية بنحو ما مر.

الخامس: أنّها حصلت جميعها بتعليم اللّه عزّ و جل لآدم فانتشرت في ذريته بحسب مقتضيات الأزمنة و الأمكنة.

و الوجه الأخير و إن كان يلائم المستفاد من الآية الكريمة، و بعض الأخبار التي تقدم ذكرها في البحث الروائي. فإن الجمع المحلى باللام المفيد للعموم في «الأسماء» و تأكيده بلفظ «كل» الواقعين في الآية الكريمة يشملان جميع الأسماء الواقعة في سلسلة الزمان إلى انقراض العالم، و في جميع اللغات و اللهجات، و قد أحاط بها آدم (عليه السّلام) إحاطة فعلية.

و هو و إن لم يكن من قدرة اللّه تعالى ببعيد، و لكنه مشكل جدا و بعيد من الأذهان، و لو كان الأمر كذلك لكانت معجزة آدم (عليه السّلام) أجلى و أرفع من معجزات جميع الأنبياء.

ص: 165

فالحق أن يقال: إنّ المراد من الجمع و التأكيد الإضافي منهما أي ما كان في عصر خلق آدم (عليه السّلام)، و ما كان مورد احتياجه في مدة حياته ثم بعد ذلك استحدثت لغات و لهجات و ألفاظ بالجعل و الوضع تخصيصا أو تخصصا، و هذا هو الذي يمكن استفادته من مجموع الروايات بعد رد بعضها إلى بعض، و هو قريب من الأذهان، و به يمكن الجمع بين بعض الوجوه المتقدمة.

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (34) بعد أن جعل اللّه تعالى آدم

اشارة

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (34) بعد أن جعل اللّه تعالى آدم (عليه السّلام) خليفة له، و بيّن فضله بما علّمه و جعله معلما لملائكته أمرهم بالسجود له، و هذه فضيلة أخرى لآدم (عليه السّلام).

التفسير

السجود هو التذلل و الخضوع، و في الشريعة وضع الجبهة على الأرض خضوعا للّه تعالى، و بينه و بين المعنى اللغوي جامع قريب في التذلل. و هو تارة اختياري تعبدي على الوجه المعروف لدى المسلمين يوجب الثواب على الموافقة و العقاب على المخالفة، كقوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَ اُعْبُدُوا [سورة النجم، الآية: 62]. و أخرى: تسخيري تكويني. كسجود المخلوقات كما في قوله تعالى: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً [سورة الرعد، الآية: 15].

و مادة (بلس) سواء أ كانت عربية أم معربة تدل على الحزن العارض من شدة اليأس، و يلازمه اليأس من الروح و الراحة. قال تعالى: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام، الآية: 44] و لعل حزن إبليس الدائم. و يأسه الأبدي حصل من قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ [سورة الحجر، الآية: 34] فإن الرجم و اللعن الأبدي من منبع الجود و الرحمة من المبغوضات لكل ذي شعور.

ص: 166

و الإباء: شدة الامتناع، إذ كل إباء امتناع، دون العكس،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كلكم في الجنّة إلاّ من أبى».

و الكبر و الاستكبار و التكبر هو الإعجاب بالنفس، و هو على قسمين:

مذموم - كأن يظهر الشخص من نفسه ما ليس له، و يكون من أقبح القبائح إذا كان على اللّه تعالى - و ممدوح - و هو ما إذا جهد الشخص أن يصير كبيرا في ما أذن اللّه تعالى فيه و رضي به. و كلا القسمين وردا في القرآن.

فمن الأول قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ اَلسَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ [سورة الأعراف، الآية: 40]، و قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً [سورة النساء، الآية: 173] إلى غير ذلك من الآيات.

و من الثاني مفهوم قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ [سورة الأعراف، الآية: 146]، و مثله قوله تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ [سورة الأحقاف، الآية: 20]، و يشهد له قوله تعالى: اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّارُ اَلْمُتَكَبِّرُ [سورة الحشر، الآية: 23]. فالمراد منه أنه تعالى فوق ما سواه من كل جهة فيكون تكبره جلّ شأنه كعزته و جماله، و حينئذ يكون من قبيل صيغ المبالغة أي: أنه تعالى في غاية الكبرياء و العظمة بحيث لا يدرك ذلك فيكون إطلاق المتكبر عليه وصفيا انطباقيا. و من السنّة فكثيرة منها قولهم (عليهم السّلام): «إنّ اللّه أذن للمؤمن في كل شيء و لم يأذن له أن يذل نفسه» و غير ذلك من الروايات.

ثم إنّ سجود الملائكة لآدم (عليه السّلام) يتصور على وجوه:

الأول: أن يكون السجود شكرا للّه تعالى لهذه النعمة العظمى بعد أن عرفوا منزلة آدم (عليه السّلام) فينطبق عليه التهنئة لآدم (عليه السّلام) قهرا.

الثاني: أن يكون السجود الشكر للّه تعالى مع قصد التهنئة تبعا لشكره تعالى.

الثالث: السجود للّه محضا و جعل آدم (عليه السّلام) قبلة، كما نسجد

ص: 167

شكرا للّه تعالى إلى القبلة.

الرابع: السجود الحقيقي لآدم في مقابل السجود للّه تعالى.

الخامس: السجود للّه تعالى فقط و جعل ذلك من الضميمة الخارجية الراجحة كالصّلاة في المسجد مثلا. هذه هي الاحتمالات الثبوتية.

و أما في مقام الإثبات فقد دل الدليل العقلي و النقلي على أن السجود غاية التذلل و الخشوع، و لا يكون إلاّ لمن هو في غاية العظمة و الجلال و بناء على هذا يتعين الوجه الأخير.

و يمكن أن يقال: إنه بعد أمره تعالى بالسجود لآدم (عليه السّلام) يسقط جميع تلك الاحتمالات، إلاّ الوجه الرابع، لظهور الآية المباركة فيه.

و لكن يجاب عنه بأن ظهور الآية في ذلك الوجه ممنوع بعد وجود تلك الاحتمالات، خصوصا بعد ورود الرواية على أنه كان من سجدة الشكر للّه تعالى.

و من ذلك يظهر أنه لا وجه لما يقال من أنّ السجود عبادة ذاتية فلا يصلح إلاّ لمن هو معبود بالذات.

فإنه يرد عليه أولا: أنه لا وجه لكونه عبادة ذاتية و إلاّ لما أضر به الرياء، لأن الذاتي لا يختلف و لا يتخلف، مع اتفاق فقهاء المسلمين و ظهور نصوصهم في أن كل عبادة أتي بها رياء تكون باطلة، بل يأثم فاعلها و هو شامل للسجدة رياء. نعم لا ريب في أنه يغاير سائر العبادات في اعتبار قصد القربة شرطا زائدا على قصد أصل ذاتها؛ و له نظائر كثيرة - كقراءة القرآن و الدعاء و نحو ذلك - و قد أثبتنا ذلك في الفقه فيكون قصد الرياء مانعا عن تحقق العبادة، لا أن يكون قصد القربة شرطا لتحققها، لأن العمل بذاته مقتض لذل العبودية ما لم يكن مانع في البين.

و ثانيا: بعد أن أذن اللّه تعالى و أمر بالسجود لا فرق بين كونه عبادة ذاتية أو قصدية، لأن الذاتية - على فرضها - اقتضائية لا منطقية غير قابلة للتخلف، هذا بحسب الاحتمال. و أما الروايات فهي مختلفة و سيأتي نقلها في

ص: 168

البحث الروائي.

هذا و يمكن أن نقول بأنّ سجود الملائكة لآدم (عليه السّلام) يكون كاشفا عن تسخير اللّه تعالى أشرف مخلوقاته له و هم الملائكة الذين جعلهم اللّه تعالى حفظة للإنسان، و وكّلهم في شؤون الأرض فيكون تسخير غيرهم لآدم (عليه السّلام) بالأولى، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ . المراد بالملائكة هنا جميعهم لوجود القرينة على التعميم في قوله تعالى: فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [سورة الحجر، الآية: 30] و هذه الآية كسابقتها تبين فضل آدم (عليه السّلام) على غيره، فإن السجود - سواء كان حقيقيا أو لم يكن كذلك - يستلزم أفضلية المسجود له من الساجد.

ثم إنّ للعلماء و المفسرين كلاما في حقيقة إبليس. فعن جمع إنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن اتصف ببعض صفات الملائكة و استدلوا بقوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف، الآية: 50] و أنه تعالى بيّن حقيقته في ما حكاه اللّه تعالى عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [سورة الأعراف، الآية: 12] و حينئذ يكون الاستثناء منقطعا.

و عن جمع آخرين أنه كان من الملائكة و تمسكوا بظاهر الآية فإنه كان مشمولا لأمره تعالى للملائكة بالسجود فيكون الاستثناء متصلا.

و الصحيح أن يقال: إنه لا ريب في مباينة إبليس مع الملائكة و شموله للأمر لا يستدعي كونه منهم، فإنه ذات خبيث مفسد لأحد لفساده دلّس على الملائكة الروحانيين حتّى ظنوا أنه منهم.

و قد اقتضت الحكمة الإلهية في خلقه لمصالح ليس في وسع البشر دركها - كما في سائر ما خلقها اللّه تعالى - و لعله منها أنه أحد طرفي الإختيار في الإنسان، فإن اللّه يدعو إلى الجنّة و المغفرة و هو يدعو إلى النار و الإنسان بينهما فإن شاء نبى دعوة اللّه و إن شاء لبى دعوة الشيطان، و هذا هو الأمر بين الأمرين

ص: 169

الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في مقابل الجبر و التفويض، كما تقدم.

و منها: أنه بمنزلة الكلب الحاجب يمنع عن وصول غير الأهل الى الحرم الربوبي.

و من ذلك يعرف أنّ كفر إبليس لم يكن حادثا بعد الامتناع عما أمره اللّه تعالى، و تركه للسجود، فإنّ ظاهر قوله تعالى: كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ و المستفاد من كيفية مخاطبته مع اللّه تعالى أنّه كان كافرا أظهر الإيمان للملائكة فاعتبروه منهم، إذ كان مدة من عمره من المتعبدين الساجدين، كما شرحه أمير المؤمنين (عليه السّلام) في بعض خطبه في نهج البلاغة.

و عليه هل يكون كفره كفر جحود، أو كفر عصيان؟ ظاهر قوله تعالى: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [سورة الأعراف، الآية: 12] فإنه أعجب بنفسه و أظهر كبره، و ظاهر حلفه في قوله تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص، الآية: 82] أنّ كفره كفر عصيان، لا جحود إلاّ أن يقال: إنه لا اعتبار بقول من كان ذاته الكذب و الخديعة، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك كله.

ثم إنّ الأمر بالسجود في هذه الآية المباركة مطلق، و في آية أخرى معلق على النفخ، كما قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [سورة ص، الآية: 72]، و المستفاد من مجموع الآيات و الروايات أنه لا بد من حمل المطلق على المقيد، كما هو الشأن في جميع المحاورات، فلا يكون هنا أمران أحدهما قبل النفخ، و الآخر بعده و يأتي في البحث الروائي ما يناسب ذلك.

و هل كان سجودهم في السموات أو في الأرض؟

يظهر من قول علي (عليه السّلام) أنه كان في الأرض فإنه قال: «أول بقعة عبد اللّه عليها ظهر الكوفة لما أمر اللّه الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة»، و ذلك لا ينافي كون موضع الكعبة مطاف الملائكة من بدء خلقها، لأنّ الكلام في خصوص السجود.

ص: 170

بحث روائي:

في قصص الأنبياء عن أبي بصير قال: «قلت لأبى عبد اللّه (عليه السلام) سجدت الملائكة و وضعوا جباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من اللّه تعالى».

أقول: هذا يختص بملائكة الأرض، و أما ملائكة السماء و حملة العرش فلا يعلم كيفية سجودهم، و لا يستفاد من هذا الحديث ذلك.

و في تحف العقول عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ السجود من الملائكة لآدم إنّما كان ذلك طاعة للّه، و محبة منهم لآدم».

أقول: تقدم وجه ذلك.

و في الإحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام): «إنّ يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن معجزات النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في مقابلة معجزات الأنبياء (عليهم السّلام) فقال: هذا آدم أسجد اللّه له الملائكة فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي (عليه السّلام): لقد كان ذلك، و لكن أسجد اللّه لآدم الملائكة، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة، و رحمة من اللّه له».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في أنّ السجود كان للّه تعالى، و محبة لآدم (عليه السّلام) كسابقه

فقوله (عليه السّلام): «أنّهم عبدوا آدم» مدخول النفي أي لم يكونوا كذلك.

العياشي عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن إبليس أ كان من الملائكة، أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال (عليه السّلام): لم يكن من الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها، و كان اللّه يعلم أنه ليس منها، و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء، و لا كرامة، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر. و قال كيف لا يكون من الملائكة؟ و اللّه يقول للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ . فدخل عليه الطيار فسأله و أنا

ص: 171

عنده فقال له: جعلت فداك قول اللّه عزّ و جل: يا أيّها الذين آمنوا في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أ يدخل في هذه المنافقون؟ فقال (عليه السّلام):

نعم يدخلون في هذه المنافقون و الضلاّل، و كل من أقر بالدعوة الظاهرة».

أقول: تقدم ما يتعلق به، و هذا الحديث شاهد للجمع بين ما يظهر منه أن إبليس كان من الملائكة، و ما يكون ظاهرا أنه ليس منهم.

و فيه أيضا عن جميل بن دراج عن الصادق (عليه السّلام) قال: «سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من أمر السماء؟ قال (عليه السّلام): لم يكن من الملائكة، و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء، و كان مع الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها، و كان اللّه يعلم أنّه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان».

و في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث «فقيل له: كيف وقع الأمر على إبليس، و إنما أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال (عليه السّلام): كان إبليس منهم بالولاء، و لم يكن من جنس الملائكة، و ذلك أنّ اللّه خلق خلقا قبل آدم و كان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا و أفسدوا و سفكوا الدماء فبعث اللّه الملائكة فقتلوهم و أسروا إبليس و رفعوه إلى السماء و كان مع الملائكة يعبد اللّه إلى أن خلق اللّه تبارك و تعالى آدم».

و في الكافي سئل أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «عن الكفر و الشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه السّلام) الكفر أقدم، و ذلك أن إبليس أول من كفر و كان كفره غير شرك، لأنه لم يدع إلى عبادة غير اللّه، و إنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك».

و فيه أيضا عن موسى بن بكر الواسطي قال: «سألت أبا الحسن موسى (عليه السّلام) عن الكفر و الشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه السّلام): ما عهدي بك تخاصم الناس؟! قلت: أمرني هشام بن الحكم أن أسألك عن ذلك. فقال لي: الكفر أقدم و هو الجحود، قال اللّه تعالى لإبليس: أبى و استكبر و كان من الكافرين».

أقول: تقدم ما يصلح لشرح ذلك، و المراد من

قوله: «و هو الجحود» لا بد

ص: 172

و أن يحمل على جحود الطاعة، لا جحود أصل الذات.

و فيه أيضا عن أبي بصير قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «إن أول من كفر باللّه حيث خلق اللّه آدم كفر إبليس حيث رد على اللّه أمره - الحديث -» أقول: هذا شاهد لما قلناه آنفا.

القمي: «خلق اللّه آدم فبقي سنة مصورا، و كان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر مّا خلقت. فقال العالم (عليه السّلام): فقال إبليس: لئن أمرني اللّه بالسجود لهذا لعصيته - إلى ان قال - ثم قال اللّه تعالى للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ، فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد».

أقول: هذا ظاهر في أمرين: أحدهما: أنه كان بانيا على معصية اللّه في هذا الموضوع.

الثاني: أنّ السجود لآدم (عليه السّلام) كان كالمغروس في أذهانهم قبل خلقه في الجملة.

و عنه أيضا عن الصادق (عليه السّلام): «الاستكبار هو أول معصية عصي اللّه بها. قال (عليه السّلام) فقال إبليس: رب اعفني من السجود لآدم و أنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب، و لا نبي مرسل، فقال جلّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك؛ إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد».

أقول: قد دلت الأدلة العقلية و النقلية على أن عبادة المعبود لا بد و أن تكون من حيث ما أراده المعبود دون ما يريده العابد، فالعبادة: هي فعل ما عيّنه المعبود فقط. و أما ما يخترعه العابد من عند نفسه، أو لا يعلم أنها مجعولة من قبل المعبود، فمقتضى القاعدة العقلية - و هي قاعدة وجوب دفع الضرر، خصوصا إذا كان عقابا - هو بطلان العبادة، و عدم صحة نسبة العبادة المشكوكة اليه. فما ذكره إبليس في الحديث باطل من حيث حكم العقل أيضا كسائر خطواته.

في المعاني عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام): «كان اسمه الحارث

ص: 173

سمي إبليس، لأنه أبلس من رحمة اللّه».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه السّلام) في حديث: «إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فزعه أمر فأنزل اللّه تعالى قرآنا يتأسى به، و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى، ثم أوحى اللّه يا محمد إني أمرت فلم أطع فلا تجزع أنت أمرت فلم تطع».

أقول: هذا من الحكم في خلق إبليس، و قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك.

وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِم

اشارة

وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) بعد أن فرغ اللّه تبارك و تعالى عن بيان بعض الجهات النوعية لخلق الإنسان حيث جعل الخلافة الإلهية فيهم، و علّم الخليفة الأسماء كلها و جعله معلما لملائكته شرع عزّ و جل في بيان بعض الجهات الشخصية لآدم (عليه السّلام) فأسكنه الجنّة إجلالا له و راحة و امتحنه ببعض التكاليف.

التفسير

قوله تعالى: وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ .

السكون: مقابل الحركة. و هو من الأمور الإضافية، فتارة: سكون عن مطلق الحركة و لو في محل نفس الشيء، فيقال: سكن الماء عن الجريان، و سكنت النفس عن الحركة، قال تعالى: وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً

ص: 174

[سورة الأنعام، الآية: 96]. و أخرى: في مقابل الحركة عن محل إلى آخر، و منه المسكن فإن الساكن له الحركة في مسكنه و التردد في حوائجه، فيطلق على محله المسكن و الإسكان، و ثالثة: يراد ترك حركات خاصة، من التكبر، و التجبر، و الترف و نحوها،

و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين» فذات المعنى في الجميع واحدة، و الاختلاف يحصل من أطوار الاستعمالات، و قد استعملت في القرآن و يأتي نقلها إن شاء اللّه تعالى.

و المستفاد من هذه الآية و سائر الآيات المتضمنة لهذه القصة أن خلق زوجة آدم (عليه السّلام) كان قبل دخول الجنّة فدخلاها معا إتماما للنعمة التي منها الأنس و الاستيناس لا سيما في الجنّة التي أعدت للترفه بكل لذة.

ثم إنّ في المقام بحثين:

الأول قد فصل خلق آدم (عليه السّلام) في الكتاب و السنة بما لا مزيد عليه و أوضح في الجملة أيضا بما لا يبقى معه محل للارتياب و لكن لم يرد في الكتاب العزيز ما يستفاد منه كيفية خلق زوجته حواء إلاّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها [سورة النساء، الآية: 1]؛ و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [سورة الأعراف، الآية: 189]. و لعل السر في ذلك أن من أدب القرآن الستر في النساء، مع أنه يكفي بيان خلق آدم عن ذلك.

و كيف كان فالآيات المتقدمة: مجملة لا يعلم المراد منها. نعم ورد في بعض الأخبار أنها خلقت من ضلع آدم (عليه السّلام)،

و قد ورد في الحديث: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج»، و سيأتي نقل الأخبار في البحث الروائي.

و الوجوه المتصورة في هذه الأخبار ثلاثة: الأول: قطع عضو من آدم (عليه السّلام) و هو الضلع الأيسر بعد إتمام خلقته، و نفخ الروح فيه، و خلق زوجته من هذا العضو المقتطع.

ص: 175

الثاني: نفس الوجه السابق قبل نفخ الروح فيه، فإنه بعد تمامية الهيئة و المادة قطع العضو و خلق منه زوجته. و هذان الوجهان بعيدان جدا، و فيهما من القبح ما لا يخفى.

الثالث: أنه بعد خلق آدم (عليه السّلام) من الطينة فضل منها شيء بحيث لو استعملت في آدم (عليه السّلام) لكان استعمالها في ضلعه الأيسر، فكان خلق زوجته من هذه الفضالة فالطينة واحدة فيهما و التبعية متحققة.

و الوجه الأخير هو المتحصل مما وصل إلينا من الأخبار في تفسير الآيات الشريفة، و هو الموافق للذوق السليم، و العقل المستقيم. و يمكن أن يراد من قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها [سورة الأعراف، الآية: 189] ذلك و لا ينافي ما اخترناه في الآيتين المتقدمتين، لأن المستفاد مطلق المشابهة الجنسية بعد ملاحظة جميع الآيات، فإن قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [سورة الروم، الآية: 21] قرينة لما ذكرناه و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع في المقام.

البحث الثاني: في جنة آدم (عليه السّلام) و قد اختلفت آراء العلماء و المفسرين فيها، و عمدة الأقوال ثلاثة:

القول الأول: إنّها جنّة الخلد التي أعدها اللّه للمؤمنين في الآخرة و استدلوا بأنها ذكرت في الآيات السابقة، و ظواهر بعض الأخبار.

و هذا القول ممتنع، لأنه من قبيل تقديم المعلول على العلة، لأن نعيم الجنة، و عذاب الجحيم إنما يحصلان بالعمل كما هو ظاهر الآيات و الأحاديث، بل إن الجنّة و النار قيعان محض و إنما تعمران بالأعمال كما في الحديث، و لم يصدر من آدم (عليه السّلام) و حواء عمل بعد حتّى تكون لهما جنة الآخرة. مع أن مجرد الإطلاق لا يكفي في الانطباق على جنة الخلد ما لم تكن قرينة على الخلاف إلاّ إذا أرادوا من جنّة الخلد ما يأتي بيانه.

القول الثاني: إنّها من جنان البرزخ و ادعي الكشف لإثباته بل عن

ص: 176

بعض من يدعيه أنه دخلها و لم يزل يدخلها.

و هذا باطل لما ثبت في محله من أن دعوى الكشف لا تستقيم إلاّ بأمرين: الأول: كون من يدعيه كاملا من حيث العلم بالفلسفة الإلهية، و العمل بالأحكام الشرعية. و الثاني: ورود تقرير من الشرع لما كشف. و كل ذلك ممنوع في من يدعي الكشف في المقام. نعم لا ريب في وجود أصل عالم البرزخ بنصوص متواترة يأتي نقلها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

القول الثالث: إنّها جنة من جنان الدنيا خلقها اللّه تعالى لإسكان آدم (عليه السّلام) و حواء. و هذا هو المتعين بل منصوص عليه في الجملة كما يأتي في البحث الروائي.

و قد أيد هذا القول بأمور:

أحدها - أنها لو كانت جنة الخلد لما وقع فيها تكليف، لأنها دار النعيم و الراحة لا دار التكليف.

الثاني: أنّها لو كانت جنة الخلد لما خرج منها آدم (عليه السّلام) و حواء لفرض أنها دار الخلد.

الثالث: أنّ الجنّة الموعود بها لا يدخلها إلاّ المؤمنون المتقون فكيف يدخلها إبليس.

الرابع: أنّها لو كانت جنّة الخلد كيف يقول الشيطان لآدم (عليه السّلام): «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى» [سورة طه، الآية: 120]، فإنّه ليس له أن يقول ذلك.

و لكن يمكن المناقشة في هذه الأمور بأن ذلك كله صحيح إذا كان المراد من جنّة الخلد هي التي أعدت للمتقين بعد الحشر و النشر و الفراغ من الحساب. و أما قبل وقوع ذلك و كون المورد من مادة الجنّة فقط فلا دليل على امتناع ما ذكروه من عقل أو نقل، فيكون نظير

ما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما بين قبري و منبري روضة من رياض الجنّة»

و قوله

ص: 177

(صلّى اللّه عليه و آله): «منبري على ترعة من ترع الجنّة»، مع أنه يحضر في تلك الروضة المقدسة البر و الفاجر.

و كيف كان فالجنّة هي من جنان الدنيا أعدها اللّه تعالى لآدم (عليه السّلام) و حواء إجلالا لهما و لاحتياجهما إلى الغذاء و الراحة، و يرشد الى ذلك ما ذكرناه سابقا من أن آدم (عليه السّلام) خلق من الأرض و في الأرض و للأرض، و قد سخر اللّه تعالى له الأرض و السماء بعد تعليمه الأسماء كلها و جعله خليفة فيها. نعم وقع الكلام في محل هذه الجنّة، و يأتي بعد ذلك بيانه إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يكون المراد من جنة الخلد ما ذكرناه، و من جنة البرزخ ما ذكره الفلاسفة: من أن لجميع الموجودات نحو وجود برزخي في مقابل سائر أنحاء وجوده قد يظهر ذلك لأهله، كما يظهر جملة من الموجودات في عالم النوم للنائم.

قوله تعالى: وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما . الأكل معروف، و يعبر عنه بمطلق الصرف و الإنفاق أيضا كقوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [سورة النساء، الآية: 29] و يمكن تأييد هذا ببعض الأخبار الواردة في المقام. و الرغد: الطيب الواسع الهنيء، و يمكن أن يكون قوله تعالى: حَيْثُ شِئْتُما تأكيدا لمعنى الرغد إذا لوحظ الرغد بالمعنى الأعم من السعة في المكان و الزمان، و سائر الخصوصيات و الجهات، فتدل على الإباحة المطلقة إلاّ الشجرة الخاصة؛ و أن ذلك هو معنى رغد العيش لغة، فيستفاد منه التوسعة في جميع وسائل النعمة و الراحة لهما.

قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ . القرب المنهي عنه في المقام كناية عن كثرة الاهتمام بترك المنهي عنه، فكأنه تعالى نهى عن الاقتراب منه فضلا عن ارتكابه و هو كثير في القرآن الكريم و المحاورات الصحيحة قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ [سورة الأنعام، الآية: 151]، و قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى [سورة الإسراء، الآية: 32]، و قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ [سورة الإسراء، الآية: 34] فيكون محصل المعنى التأكيد

ص: 178

و المبالغة في ترك الأكل من الشجرة، و يشهد لذلك قوله تعالى: فَلَمّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ [سورة الأعراف، الآية: 22].

و يمكن أن يكون النهي عن نفس القرب موضوعية خاصة، لأن من يقترب إلى المبغوض يوشك أن يقع فيه

كما قال علي (عليه السّلام) «المعاصي حمى اللّه و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».

و لم يبين سبحانه الشجرة التي نهى آدم (عليه السّلام) عنها، و قد اختلفت الروايات في تعيينها، و تفاوتت أقوال المفسرين فيها بين الإفراط و التفريط، فعن بعض أنها شجرة الكافور، و عن آخر أنها السنبلة، و عن ثالث أن البحث عنها لغو لا فائدة فيه. فإن كان مستند هذه الأقوال الروايات الواردة في المقام فهي قاصرة سندا، و لم يحرز كونها لبيان الواقع، و إن كان غيرها فلم يعلم حجيته.

نعم، في بعض الأخبار أنّها من شجرة الخلد، و هو مخالف لما في أخبار أخرى تدل على أنّ الجنّة من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر - كما سيأتي - و تقدم شرح ذلك.

و يمكن أن يقال: إنّها كانت مثالا لحقيقة الدنيا، فإنّها تظهر لأنبياء اللّه تعالى و أوليائه بأشكال مختلفة، فتارة: في صورة الامرأة كما ظهرت لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ليلة المعراج و ظهرت لعلي (عليه السّلام)، و أخرى: ظهرت لآدم (عليه السّلام) و حواء في صورة الشجرة و قد نهى اللّه عن قربها، و يشهد لذلك قوله تعالى: فَتَشْقى [سورة طه، الآية: 117] أي تقع في تعب الدنيا، كما أن التأمل في مجموع الآيات و الروايات الواصلة إلينا في قصة آدم (عليه السّلام) تدل على أن النهي عن الدنو إلى الدنيا و الاقتراب منها لذلك لا سيما لمن اتصف بالخلافة الإلهية، و سيأتي في البحث الروائي تتمة الكلام.

و كيف كان فإن النهي كان لمصالح كثيرة منها: الإشارة إلى أن الإنسان لم يخلق للبقاء في تلك الجنة، بل خلق للأرض، و في الأرض و منها، كما عرفت، فلا بد و أن تقع هذه المخالفة و كم كانت لها فوائد و آثار لآدم

ص: 179

(عليه السّلام) و ذريته فلولاها لما حظي بمقام الاصطفاء و لما ظهرت آثار حكمته البالغة في خلق الإنسان و غير ذلك من الحكم و المصالح.

قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ . الظلم هو عدم النور و للظلمة مراتب كثيرة فهي تتحقق بإتيان الكبيرة، أو الصغيرة، أو ترك الأولى و ربما تتحقق في الغفلة عن اللّه تعالى. و المراد به في المقام الظلم على النفس، لأن ارتكاب ما لا يرتضيه المعبود و لو على نحو التنزه بالنسبة إلى بعض لا يناسب العبودية المحضة، فيستفاد من ذلك أن النهي كان من مجرد الإرشاد إلى ما يترتب على ارتكابه من آثار، كما هي مذكورة في قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى [سورة طه، 118].

فيكون المعنى إنك إن خرجت منها تمنع نفسك من الكرامة و النعيم، و تلقى هذه المصاعب و هي عبارة أخرى عن الشقاء و التعب الملازم لدار الدنيا، كما قاله تعالى في آية أخرى، فلا يكون الارتكاب موجبا لترتب العقاب الأخروي.

قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها . مادة (ز ل ل) تدل على الاسترسال في الشيء بلا تعمد و قصد و لو كان بسبب الترغيب من الغير مكرا و خديعة، كما في المقام، فإن الشيطان حملهما على الأكل من الشجرة بما وسوس لهما في قوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى [سورة طه، الآية: 120]، و قوله: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ [سورة الأعراف، الآية: 20] و قسمه لهما: إِنِّي لَكُما لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ [سورة الأعراف، الآية: 21].

ثم إن الآيات الواردة في المقام ثلاث:

الأولى: هذه الآية و هي لا تدل على وقوع مكروه منهما عن عمد و اختيار حتّى يبحث عن أنه كبيرة أو صغيرة، أو من مجرد ترك الأولى. فهي إرشاد محض إلى ترتب أثر الارتكاب عليه ترتب اللازم على الملزوم. و أما أن هذا اللازم مكروه له تعالى أو غيره فلا يستفاد ذلك منها.

الثانية: قوله تعالى:

ص: 180

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه، الآية: 115] و هي أصرح في عدم صحة نسبة العمد اليه، فيكون نظير قصة ذي الشمالين مع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) التي رواها الفريقان الدالة على نسيان النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الصلاة المحمول على الإنساء، لمصالح كثيرة.

الثالثة: قوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى [سورة طه، الآية: 121].

و الحق إن لنفس استعمال هذه العناوين موضوعية خاصة في آدم لمصالح كثيرة، منها أن لا يخطر في قلب آدم الكبر، لأنه خليفة اللّه تعالى، و أنه خلقه بيده و نفخ فيه من روحه و علمه الأسماء، و أسجد الملائكة له، فيكون استعمال العناوين المتقدمة في الآيات المباركة من اللّه تعالى في آدم (عليه السلام) نحو إصلاح تربوي و معنوي له، لا أن يكون المراد الواقعي منها بقرينة سائر الآيات و الروايات.

قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ . أي من النّعم التي شرحها اللّه عزّ و جل في قوله تعالى: وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما ، و تدل الآية المباركة على أنه لم يخرج عما أعده اللّه تعالى له من مقام خلافته، و تعليم الأسماء، و هذه قرينة أخرى على أن الصادر منهما لم يكن معصية. ثم إن الآية المباركة مترتبة على سابقتها ترتب المسبب على السبب.

قوله تعالى: وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ . الهبوط: النزول من العلو إلى ما دونه، و المراد به هنا النزول من المحل الذي لا عناء فيه إلى دار التعب و الفناء، و الكدورة و الشقاء، و لا اختصاص لذلك بآدم (عليه السلام) و حواء، بل هو جار في مطلق الإنسان، و قد أثبت ذلك علماء الأخلاق و الفلسفة و العرفان.

و ربما يتوهم: أنّ الآية تدل على أنّ الخلق كان في السماء فنزل آدم (عليه السلام) منها إلى الأرض. و لكنه مردود بأنّ الهبوط أعم من ذلك فإن معناه النزول من محل مرتفع مطلقا كما في قوله تعالى: يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ [سورة هود، الآية: 48]، و قوله تعالى: اِهْبِطُوا مِصْراً

ص: 181

[سورة البقرة، الآية: 61]. و أما الأخبار فيأتي ما يتعلق بها عند نقلها.

و الأمر بالهبوط هنا تكويني، كما في قوله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [سورة الأنبياء، الآية: 69]، و قوله تعالى: يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي [سورة هود، الآية: 44]، و قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل، الآية: 40] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و يصح أن يكون تشريعيا لوجوب الهجرة عقلا و شرعا لإعلاء كلمة اللّه تعالى كما كان شأن جميع الأنبياء و الرسل و الأولياء، فكما أنّ للهبوط دخلا في نظام التكوين تكون للهجرة دخل في نظام التشريع فهذا الأمر تكويني من جهة و تشريعي من جهة أخرى.

و مورد الخطاب إما آدم (عليه السلام) و إبليس، و إتيان الإثنين بلفظ الجمع شائع، و يشهد له قوله تعالى: قالَ اِهْبِطا مِنْها [سورة طه، الآية:

123]، أو هما مع حواء، أو الذرية، و قد وردت بالنسبة إلى بعضها روايات، و لا فائدة في البحث عن ذلك بعد تحقق المقصود و هو الهبوط بالنسبة إلى الجميع و المعاداة بينهم.

و هذه العداوة تكوينية اقتضائية حاصلة من التنافي و التباين بين الأنواع المختلفة، و الصفات المتغائرة، و ما الدنيا إلاّ جمع المتخالفات و تفريق المجتمعات، و هي دار الكون و الفساد.

قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ . هذا بيان حكمة ارشاد آدم (عليه السلام) الى ترك الأكل، و هناك حكم أخرى تأتي في الآيات المناسبة لها.

و المستفاد من هذه الآية المباركة أن الأرض هي الغاية من حياة الإنسان فقط فقد خلق آدم (عليه السلام) للأرض للتمتع بخيراتها و البقاء فيها إلى وقت محدود. و أنها دار الأضداد و العداوة و الشقاء تكوينا، لكونها دار الكون و الفساد، و هداية خلفاء اللّه تعالى و إغواء الشياطين.

ص: 182

كما أنّ هذه الآيات و غيرها مما ورد في قصة آدم (عليه السلام) تدل على أن هؤلاء الثلاثة كان يرى أحدهم الآخر قبل الهبوط قال تعالى: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ [سورة طه، الآية: 117]، و قال تعالى: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ [سورة الأعراف، الآية: 21]، و قال تعالى: قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ [سورة طه، الآية: 120] و غير ذلك من الآيات و الروايات، و أما بعد الهبوط فلا يراه إلاّ بعض أنبياء اللّه تعالى و أوليائه.

قوله تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ . التلقّي: القبول و الأخذ بعد البيان و الذكر. و المراد بالكلمات هنا كل ما يكون له أثر في رفع الحزازة الحاصلة من المخالفة، فهي راجعة إلى إظهار توبته، و ندامته، و استغفاره، و يمكن تطبيقها على الدعوات التي ألهمها اللّه تعالى لآدم (عليه السلام)، كقوله عزّ و جل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 23] و غير ذلك مما يأتي في الروايات، فإنه يكون من باب التطبيق أيضا.

قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ .

التوب: هو الرجوع. فإذا وصف به اللّه تعالى يكون إما بمعنى إلهام التوبة إلى العبد و توفيقه لها، أو بمعنى رجوع اللّه و إقباله على العبد بعد مخالفته و عصيانه. و إذا وصف به العبد يكون بمعنى الندم عما فعل،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة» و لا يلزم أن تكون التوبة من الذنب، بل تصح عن التوجه إلى غير اللّه تعالى و لو كان مباحا فإن «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

و كل توبة من العبد تلازم أمورا ثلاثة: الأول - توفيق اللّه عبده للتوبة برجوعه تعالى عليه بعد العصيان، قال تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ [سورة التوبة، الآية: 118].

الثاني: توبة العبد و ندمه عن المعصية.

الثالث: قبوله تعالى توبة العبد، و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها.

ص: 183

و التواب إما بمعنى قبول التوبة عن عباده كثيرا بحسب كثرة التائبين أو أنه عزّ و جل يقبل توبة العبد الواحد و إن صدر الذنب عنه متعددا، أو يكون بمعنى كل منهما، و جميع ذلك صحيح.

و الجمع بين وصفي التواب و الرحيم فيه إيماء إلى أنه تعالى يتفضل على التائب، مضافا إلى العفو و المغفرة بالإحسان إليه.

و في مثل هذه الآية المباركة دلالة واضحة على أن اللّه تعالى هو الذي يلهم عباده التوبة و يقبلها، و أن بابها مفتوح من حين هبوط آدم (عليه السلام) إلى انقراض العالم، بل التوبة من أهم ما انتفع به الإنسان من الهبوط إلى الأرض، فإنه تعالى جعل من حكمته التوبة و العصيان قريني الإنسان كفرسي الرهان، فهذه الآية المباركة في مقام بيان بعض حكم الهبوط و في الآية التالية البعض الآخر.

قوله تعالى: قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً . قد ذكر سبحانه و تعالى الهبوط مرتين:

الأولى - لبيان أصل الهبوط من الجنّة إلى دار الشقاء و العناء و العداء، كما عرفت.

و الثانية: لبيان الغاية من هذا الهبوط و هي ظهور سعادة السعداء، و شقاوة الأشقياء فالآية تبين الغرض من الخلق، و أنّه كان في الأرض، و الخطاب هنا ظاهر في الجميع أي: آدم (عليه السلام) و ذريته.

و يمكن أن يقال: إنّ الهبوط الأول من حيث الجهات المادية الجسمانية أي الدنيوية. و الهبوط الثاني من حيث الاستكمالات المعنوية في سلسلة الصعود إلى المقامات العالية الإنسانية، و لذا ذكره تعالى بعد التوبة و الرجوع إلى اللّه عزّ و جل، و أنه الغاية القصوى من الهبوط، و ذكر قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . بعنوان مستقل لئلا يتوهم أحد أنه غاية الهبوط أيضا، بل هو أمر اختياري حاصل لمن اختار ذلك بعمده و اختياره.

ص: 184

قوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

جملة خبرية في مقام الإنشاء، يعني أنّ من اتبع هدى اللّه تعالى ينبغي أن لا يخاف من غيره، و لا يحزن لما فات عنه، لأنّ متابعة العبد لهداية اللّه تعالى توجب انقطاعه اليه و هو يستلزم نفي الحزن و الخوف عنه في الدارين، و يشهد لذلك قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآية: 277]، و كذا قوله تعالى: فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأنعام، الآية: 48] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، هذا من جهة المتابعة. و أما من جهة العبودية فيعرضه الحزن، لأنه ما بين الخوف و الرجاء، كما في كثير من الروايات.

و المراد بالهداية في هذه الآية المباركة جميع الشرائع السماوية كل بحسب زمانه و عصره. و المراد من المتابعة هنا الالتزام بها عملا و اعتقادا.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . مادة كفر في مطلق استعمالاتها تدل على الستر - كما تقدم - سواء أ كان متعلقه أصل الإيمان أم الطاعة فيساوق الفسق من هذه الناحية، أم عن الشكر فيساوق الكفران. و التكذيب خلاف التصديق، و كل منهما أعم من القول و الفعل. و آيات اللّه علاماته كتوحيده و عبادته و معاده من حيث الثواب و العقاب فيثبت بتكذيب كل واحد منها كفر الجحود. و إنما ذكر تعالى الكفر الخاص أي التكذيب بعد العام أي مطلق الكفر، لينبه على الجحود الذي هو موجب للخلود في النار.

ثم إنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في خلق آدم (عليه السلام) هنا، و في سورة الأعراف، و سورة طه أن له مراحل عشرة و لا تخلو ذريته عنها أيضا.

الأولى: مرحلة ما قبل نفخ الروح و هي بمنزلة الجنين في سائر أفراد الإنسان.

الثانية: مرحلة نفخ الروح و هي بمنزلة تكريم المولود و هي حالة اعتناء

ص: 185

اللّه تعالى بآدم (عليه السلام) و تعظيمه و أمره بسجود الملائكة له.

الثالثة: مرحلة التربية، و هي تعليم اللّه تعالى الأسماء كلها لآدم (عليه السلام)، و هي بمنزلة تعليم الوالدين و تربيتهما للولد.

الرابعة: مرحلة بيان الفضل و هي مرحلة السجود لآدم (عليه السلام) و إظهار فضل المسجود له على الساجد، و هذه المرحلة توجد في ذريته، و هي حياة التفاضل و التفاخر.

الخامسة: مرحلة التمتع و اللعب و هي مرحلة إسكان آدم (عليه السلام) الجنة.

السادسة: مرحلة تزاحم الأهواء، و الأفكار، و الآمال و هي مرحلة ارشاد آدم (عليه السلام) إلى ترك الأكل من الشجرة التي قلنا إنها بمنزلة الوجود المثالي للدنيا لئلا يقع في متاعبها و مشاقها، و هي مرحلة التميز في أفراد الإنسان.

السابعة: مرحلة التمايل الجنسي و توليد المثل، و هي مرحلة ظهور السوأة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما [سورة طه، الآية: 121]، و هي ظاهرة في أفراد الإنسان.

الثامنة: مرحلة العيش و البقاء الدائمي المستفاد من تعليق قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى [سورة طه، الآية: 118] على ترك الأكل من الشجرة، و العيش و البقاء غير الدائمي المستفاد من قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [سورة البقرة، الآية: 36].

التاسعة: مرحلة التكليف و العمل إما في طريق الهداية و الإيمان أو الكفر و الخسران.

العاشرة: مرحلة النتائج إما الثواب، أو العقاب.

هذه هي المراحل التي يمر بها الإنسان كما مرت على آدم (عليه السلام) أول خليقته، و يمكن إرجاعها إلى ثلاث مراحل: مرحلة

ص: 186

الأجنة، مرحلة الطفولة، مرحلة الرشد و الكمال، و تنطوي في كل مرحلة سائر الحالات المتقدمة و تجري هذه المراحل في النوع البشري و أصول المجتمعات أيضا.

بحوث المقام

بحث روائي:

في الكافي و العلل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن جنة آدم؟ فقال: من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا».

أقول: لا يستفاد من هذه الرواية مكانها و إنما يستفاد انها كانت من جنات الدنيا، و لا بد من التأمل في ذيل هذه الرواية: «و لو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا» لأن جنات الآخرة لا يخرج أهلها منها بعد عملهم و عمرانهم لها، و أما أن الحكم كذلك قبل العمل و قبل كل شيء ففيه بحث و تفصيل.

في تفسير القمي: «سئل الصادق (عليه السلام) عن جنّة آدم من جنات الدنيا أم من جنات الآخرة؟ فقال: كانت من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنات الآخرة ما أخرج منها أبدا».

أقول: تقدم ما يتعلق بها في سابقها.

العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ يعني: لا تأكلا منها».

أقول: قد مر أنه يمكن إرادة نفس القرب أيضا اهتماما بالنهي فيكون ذكر الأكل من باب ذكر النتيجة.

تفسير العسكري في قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ . شجرة العلم شجرة علم محمد و آل محمد (صلّى اللّه عليه و آله) الذين آثرهم اللّه عزّ و جل به دون سائر خلقه، فقال تعالى: لا تقربا هذه الشجرة؛ شجرة العلم، فإنها لمحمد و آله خاصة، دون غيرهم و لا يتناول منها بأمر اللّه إلاّ

ص: 187

هم - ثم قال (عليه السلام) - و كانت هذه الشجرة و جنسها تحمل البر، و العنب، و التين، و العناب و سائر أنواع الثمار و الفواكه و الأطعمة. فلذلك اختلف الحاكمون لذكر الشجرة، فقال بعضهم: هي برة، و قال آخرون: هي عنبة، و قال آخرون: هي تينة، و قال آخرون: هي عنابة».

أقول: أما ذيل الحديث فيؤيد ما قلناه: من أن الشجرة كانت مثالا للدنيا و ما فيها بحسب الوجود المثالي. و أما صدره فيمكن حمله على أن لبعض تلك الأشجار نحو أثر خاص لم يظهر ذلك إلاّ لبعض أولياء اللّه تعالى، كما يدل عليه ما ورد في بعض أخبار الطينات.

في العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي: «قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي أنها الحنطة، و منهم من يروي أنها العنب و منهم من يروي أنها شجرة الحسد؟ فقال (عليه السلام): كل ذلك حق. قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال يا ابن الصلت: إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا».

أقول: لا ريب في أن تلك الجنّة و لو كانت من الدنيا لها خصوصية ليست تلك الخصوصية في جميع جنات الدنيا، و من جهة قلة التزاحم و التنافي في تلك الجنّة أو عدمهما، فيصح أن تحمل شجرة منها أنواعا من الثمار، فلا تنافي بين هذه الرواية و بين ما قلناه سابقا، و قد دلت روايات أخرى متعددة على أنها شجرة الحنطة، و لا تنافي ما تقدم.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه السلام): «إن للّه إرادتين و مشيتين: إرادة حتم و إرادة عزم، ينهى و هو يشاء، و يأمر و هو لا يشاء. أو ما رأيت أنه نهى آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و شاء ذلك، و لو لم يشأ أن يأكلا لما غلب مشيتهما مشية اللّه؟!! و أمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل و لم يشأ أن يذبحه و لو شاء لما غلبت مشية إبراهيم مشية اللّه».

و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أمر اللّه و لم يشأ و شاء و لم

ص: 188

يأمر. أمر إبليس أن يسجد لآدم و شاء أن لا يسجد؛ و نهى آدم عن أكل الشجرة و شاء أن يأكل منها و لو لم يشأ لم يأكل».

أقول: بيان مثل هذه الأخبار يحتاج إلى شيء من الشرح و التفصيل موكول إلى محله. المعروف بين العلماء أن الإرادة إنما هي الشوق المؤكد الحاصل بعد التصور و التصديق، و هذا في إرادة المخلوق واضح لا ريب فيه؛ و حيث إن هذا المعنى في الذات الأقدس الربوبي يستلزم كون الذات محل الحوادث و هو ممتنع، و لذا جعل الأئمة الهداة (عليهم السلام) الإرادة بجميع مقدماتها من صفات الفعل لا الذات و صرحوا بأن المشية و الإرادة محدثة، و بذلك تنحل جميع الإشكالات الواردة على إرادته تعالى التي وقع الفلاسفة في اضطراب عظيم في الجواب عنها، لأنهم ذهبوا إلى أن الإرادة في مرتبة ذاته الأقدس و الاختلاف بين الصفات إنما يكون في المفهوم دون المصداق. و لعلنا نتعرض لمذهبهم و الجواب عنه في الموضع المناسب.

و عن جمع من أكابر المحققين إرجاع الإرادة فيه عزّ و جل إلى الرضاء، و ابتهاج الذات بالذات، و فصل القول في ذلك، و هذا القول و إن كان حسنا ثبوتا، و لكن لا ربط له بالإرادة، و يحتاج إلى تكلف و عناية.

ثم إنّ الإرادة إما تكوينية أو تشريعية، فإن تعلقت بفعل ذات المريد فهي تكوينية، و إن تعلقت بفعل الغير و كانت كإيجاد الداعي لأن يفعل الغير ذلك الفعل بحيث لو لا هذا الداعي لا يفعله تكون تشريعية. فتكون إرادته تعالى بالنسبة إلى النظام الأتم الأكمل من الأولى، و بالنسبة إلى إنزال الكتب و إرسال الرسل من الثانية، هذا بحسب الظاهر، و أما بحسب الواقع و الحقيقة فالثانية ترجع إلى الأولى، فإن من أحسن النظام و أتمه و أكمله في عالم التكوين إنزال الكتب و إرسال الرسل.

و أما قوله (عليه السلام): «أمر اللّه و لم يشأ» فالمراد بالأمر الأمر التشريعي الظاهري، و المراد بمشية العدم المشية التكوينية الاقتضائية كما أن المراد بنهي آدم (عليه السلام) النهي الإرشادي الظاهري و المراد بمشية الأكل المشية التكوينية الاقتضائية، و في كل ذلك مصالح لا تعد و لا تحصى.

ص: 189

و عليه يحمل ما

في الرواية الأخرى: «إن للّه إرادتين و مشيئتين» و هذه الروايات صريحة في أن ما صدر من آدم (عليه السلام) لم تكن من المعصية، كما عرفت. و المراد من

قوله «و نهى آدم عن أكل الشجرة» أي القرب منها، كما تقدم، و سيأتي في بعض الروايات التصريح بذلك.

و في العلل عن الباقر (عليه السلام): «و اللّه لقد خلق اللّه آدم للدنيا، و أسكنه الجنّة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه».

أقول: و هذه الرواية نحو شرح و بيان لجميع الأخبار الواردة في المقام و هي دليل على ما قلناه مرارا: من أن آدم (عليه السلام) من الأرض و للأرض.

في إكمال الدين عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ و جل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها نسي فأكل منها، و هو قول اللّه عزّ و جل: و لقد عهدنا إلى آدم فنسي و لم نجد له عزما».

أقول: يصح أن يراد بالنسيان الإنساء يعني: أنساه اللّه تعالى لتجري مقاديره الأزلية، كما مر في حديث ذي الشمالين في صلاة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

العياشي في تفسيره عن أحدهما (عليهما السلام) «و قد سئل كيف أخذ اللّه آدم بالنسيان»؟ فقال: «إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكره و يقول له إبليس: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين».

أقول: هذا الحديث قرينة واضحة - لما تقدم من الأخبار - على أن المراد بالنسيان الإنساء.

في العيون عن علي بن محمد بن الجهم قال: «حضرت مجلس المأمون و عنده علي بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟

ص: 190

فقال: بلى. قال: فما معنى قول اللّه تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ؟ قال: إن اللّه تعالى قال لآدم: اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ . و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، و لم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة، و لا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة، و لم يأكلا منها، و إنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما، و قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة. و إنما نهاكما أن تقربا غيرها، و لم ينهكما أن تأكلا منها إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين، و لم يكن آدم و حواء شاهدين قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا، فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه، و كان ذلك من آدم قبل النبوة، و لم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، و إنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما اجتباه اللّه و جعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة، قال اللّه عزّ و جل: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى ، و قال عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

أقول: مثل هذه الروايات الواردة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) خصوصا مولانا الرضا (عليه السلام) في الجواب عن الإشكالات التي أوردت على عصمة الأنبياء (صلوات اللّه عليهم) لا يختص بأن يجيب بها الإمام (عليه السلام)، بل يمكن أن يجاب بكل وجه صحيح يجمع به بين الأدلة الدالة على العصمة، و مثل هذه الآيات الموهمة للتنافي بينها و بين العصمة، و لنا أن نجيب عن الإشكال في هذا المجال بكل ما يقبله الطبع السليم و الذهن المستقيم. و لكن في رواية ابن الجهم جهات من البحث:

(الأولى): في سند الحديث علي بن محمد بن الجهم و قد ضعفه كل من تعرض له فلا اعتبار بمثل هذا الحديث، و سياق المتن يدل على أنه ليس من الإمام (عليه السلام)، خصوصا من مثل مولانا الرضا (عليه السلام)، بل هو من المفتعلات عليه.

(الثانية):

قوله: «و إنما أكلا من غيرها» مخالف لصريح الآية المباركة

ص: 191

الدالة على أن الأكل كان من نفس الشجرة المنهي عنها، كما تقدم.

(الثالثة):

قوله: «و كان ذلك قبل النبوة» مخالف لإجماع أهل البيت و الإمامية من عصمة الأنبياء مطلقا، كما سيأتي في البحث الكلامي فلا بد من طرح الحديث.

و عن أبي الصلت الهروي في الأمالي قال: «لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات من اليهود، و النصارى، و المجوس، و الصابئين و سائر أهل المقالات، فلم يقم أحد حتّى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا، فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى. قال: فما تعمل بقول اللّه عزّ و جل: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى - إلى أن قال - فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق اللّه، و لا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش، و لا تتأول كتاب اللّه عزّ و جل برأيك، فإن اللّه عزّ و جل يقول: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ . أما قوله عزّ و جل في آدم: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فإن اللّه عزّ و جل خلق آدم حجة في أرضه، و خليفته في بلاده لم يخلقه للجنة، و كانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتم مقادير أمر اللّه عزّ و جل، فلما أهبط إلى الأرض و جعل حجة و خليفة عصم بقوله عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

أقول: و هذا الحديث شاهد لما قلنا في الحديث السابق و

قوله: «فإن اللّه عزّ و جل خلق آدم حجة في أرضه و خليفته في بلاده» ظاهر بل ناص في عدم صدور المعصية منه من حين نفخ الروح فيه كما تدل عليه نصوص مستفيضة أن أول ما خلقه اللّه عزّ و جل هو الحجة، و آخر من يذهب من الدنيا هو الحجة.

و أما

قوله: «و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض» تقدم ما يتعلق به من أنه ليس من النهي الموجب للمعصية الاصطلاحية و إنما هو ارشاد إلى عدم وقوعه في متاعب الدنيا و مشاقها، كما مر.

ص: 192

علي بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أن موسى سأل ربه أن يجمع بينه و بين آدم (عليه السلام) فجمع، فقال له موسى (عليه السلام): يا أبت ألم يخلقك اللّه بيده، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك الملائكة، و أمرك ان لا تأكل من الشجرة، فلم عصيته؟ فقال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي؟ قال: بثلاثين ألف سنة. فقال: هو ذاك. قال الصادق (عليه السلام): فحج آدم موسى».

أقول: رواه الفريقان، كما في كنز العمال عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و معنى الرواية احتج آدم على موسى و غلب عليه، و المراد بوجدان خطيئة آدم قبل خلقه التقدير الاقتضائي للّه تبارك و تعالى باختيار آدم (عليه السلام).

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) و أنا حاضر: كم لبث آدم و زوجته في الجنّة حتّى أخرجهما منها خطيئتهما؟ فقال: إن اللّه تبارك و تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته و أسكنه جنته من يومه ذلك، فو اللّه ما استقر فيها إلاّ ست ساعات من يومه ذلك حتّى عصى اللّه تعالى، فأخرجهما اللّه منها بعد غروب الشمس و صيرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا فبدت لهما سوآتهما و ناداهما ربهما: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ . فاستحى آدم فخضع و قال: ربنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال اللّه لهما: اهبطا من سماواتي الى الأرض فإنه لا يجاورني في جنتي عاص و لا في سماواتي».

أقول: تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم (عليه السلام)، و

قوله:

«و صيرا بفناء الجنة» يستفاد من هذه الجملة أمران: الأول: تكرر الهبوط - كما في غيرها من الروايات - الأول إلى فناء الجنّة، و الثاني منها إلى الأرض.

الثاني: يمكن أن يستفاد منه أن الشيطان لم يدخل الجنّة بعد ترك السجود، بل كان في فناء الجنّة فحصلت مكالمة بينه و بين آدم في هذا المكان.

ص: 193

روى الصدوق عن أبي جعفر عن آبائه عن علي (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنما كان لبث آدم و حواء في الجنّة حتّى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتّى أهبطهما اللّه من يومهما».

أقول: تقدم في الحديث السابق أن زمان الاستقرار في الجنّة كان ست ساعات، و لا تنافي بينهما إذ الحصر ليس حقيقيا حتّى يحصل التنافي، بل هو إضافي و تقريبي.

في تفسير العسكري: «كان إبليس بين لحيي الحية أدخلته الجنّة و كان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه و لم يعلم أن إبليس قد اختفى بين لحييها، فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس - الحديث -».

أقول: و في رواية أخرى الطاووس، و كيف كان فقد ذكر الثعبان من حيوانات جنّة آدم في التوراة في قضية الهبوط، و لعل هذا الحديث و أمثاله مع هذا التعبير مأخوذ منها. و قد ذكرنا سابقا أن إبليس كان يرى آدم و يتكلمان مشافهة فلا معنى للاختفاء و الاستتار.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «اهبطوا بعضكم لبعض عدو فهبط آدم على الصفا، و إنما سميت الصفا، لأن صفوة اللّه نزل عليها و نزلت حواء على المروة، و إنما سميت المروة لأن المرأة نزلت عليها».

أقول: الروايات مختلفة في محل هبوط آدم و حواء و لا ريب و لا إشكال في أن بعد الهبوط الأول كانت منازل متعددة، فيمكن الجمع بين تلك الروايات بجعل كل منزل مهبطا له فيكون الهبوط طوليا لا عرضيا.

و في الإحتجاج: «في احتجاج علي (عليه السلام) مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال: واد يقال له سرنديب سقط فيه آدم (عليه السلام) من السماء».

أقول: ظهر وجهه مما تقدم في الحديث السابق.

ص: 194

في الكافي عن أحدهما (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل «فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قال: لا إله إلاّ أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين. لا إله إلاّ أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني و أنت خير الراحمين. لا إله إلاّ أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم».

أقول: و في مثل هذا المعنى روايات أخرى مستفيضة عن الخاصة و العامة، و جميع ذلك من باب التطبيق للآية المباركة، و لقوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها .

و روى الصدوق في قول اللّه عزّ و جل: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ . قال:

«سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين».

أقول: و نحو ذلك أخبار أخرى كثيرة، و تقدم أنه من باب التطبيق على كل ما يمكن أن يتقرب به إلى اللّه تعالى.

و عن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: «سألت النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال: سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين إلاّ تبت عليّ فتاب عليه».

و في الدر المنثور عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه الى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلاّ غفرت لي، فأوحى اللّه اليه و من محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى اللّه اليه: يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك و لولاه ما خلقتك».

أقول: ذيل الحديث منقول من الفريقين، و مر في روايات كثيرة كما تقدم بعضها.

ص: 195

بحث كلامي:

أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) من الكفر مطلقا، و لكنهم اختلفوا في بعض الصغريات. و عمدة الأقوال ثلاثة:

الأول: القول بالعصمة مطلقا من جميع الذنوب، و في جميع الحالات و هذا هو مذهب الإمامية.

الثاني: القول بالعصمة من الكبائر مطلقا، و أما الصغائر فإنها جائزة عليهم سهوا. و هذا هو مذهب المعتزلة.

الثالث: القول بالعصمة عن الكبائر عمدا، و لكنها جائزة عليهم سهوا، و هذا هو مذهب الأشاعرة. و هناك أقوال أخرى نادرة أجمع المسلمون على بطلانها.

و لم يستدل أصحاب هذين القولين بدليل يصح الاعتماد عليه إلاّ ما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ظاهره نسبة الظلم و المعصية إلى بعض الأنبياء (عليهم السلام)، و سيأتي أنه ليس على ظاهره و لا بد من تأويله.

و الرأي المناسب لمقام النبوة و الرسالة هو القول بعصمتهم مطلقا - كما ذهب اليه الإمامية - من جميع الذنوب كبائرها و صغائرها، عمدا و سهوا قبل البعثة و بعدها. و قبل أن نذكر الأدلة لا بد من بيان معنى العصمة على سبيل الإيجاز، و التفصيل موكول الى محله.

العصمة: بمعنى المنع و الإمساك يقال: عصم عن الشيء أي منعه و أمسكه. و منه قوله تعالى حكاية عن ابن نوح: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْماءِ قالَ لا عاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ [سورة هود، الآية: 43] أي: يمنعني منه. و المعصوم هو الممنوع عن فعل المعصية بلا إلجاء و اضطرار حتّى ينافي الإختيار، و إلاّ كان العادل أحسن من المعصوم و بعبارة أخرى: إنها عناية خاصة، و توفيق من اللّه تعالى لبعض عباده، لعلمه الأزلي بصفاء طينتهم و جوهرهم من دون أن يكون ذلك من العلة التامة كسائر عناياته و توفيقاته عزّ و جل بالنسبة إلى عباده، فقد يوفق عبدا لصلاة الليل مثلا، أو فعل

ص: 196

الخيرات، و قضاء الحاجات أو الاتصاف بالأخلاق الفاضلة و نحو ذلك، لا على وجه القهر و الإلجاء و الضرورة، بل على نحو إيجاد الداعي إليها.

ثم إنهم استدلوا بأدلة كثيرة على عصمتهم مطلقا لا يخلو بعضها عن المناقشة، أو رجوع بعضها إلى الآخر. و أحسن تلك الأدلة أمران:

(الأول): أن حجية القول و الفعل و التقرير - كما هو المفروض - تنافي ارتكاب المنهي عنه عند اللّه تعالى و عند العباد فيكون ذلك خلقا باطلا بالضرورة.

بيان ذلك: إن العبد إذا كان يرى نفسه حاضرا بين يدي المولى و يحس بشهوده ظاهرا و باطنا كيف تصدر عنه المعصية و هو في هذه الحالة في غيبة منه؟! و رسل اللّه تعالى يدركون بصفاء طينتهم أنّهم دائما في حضرة القدس يرون مظاهر جماله و جلاله و آثار حكمته و رحمته فلا يخطر في بالهم حالة أنهم في غيبة عن اللّه تعالى فيها. و هذا معنى

ما ورد في أحاديثنا: «إن المعصوم مع القرآن و القرآن معه» فإن المراد بالمعية هي المعية الحضورية الالتفاتية العملية. كما أن المراد بالقرآن جميع الشرائع الإلهية بالنسبة إلى الأنبياء السابقين.

هذا مضافا إلى أن صدور المعصية يوجب تنفر الطباع منهم، و يصغر شأنهم في أعين الناس، و يسهل اعتراضهم عليهم مما ينافي حكمة بعث الأنبياء و الرسل (عليهم السلام)، بلا فرق بين صدور المعصية قبل البعثة أو بعدها، كما هو المشاهد في من وصل إلى مرتبة من العدالة.

(الثاني): الآيات القرآنية الدالة على طهرهم و قداستهم و تأييدهم بروح القدس، و اتصافهم بجميع الأخلاق الفاضلة مما يجعلهم القدوة الحسنة و المثل الأعلى لجميع الناس، قال تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ [سورة الأنعام، الآية: 90]، و قال تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 72]، و قال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً [سورة الأنبياء، الآية: 90] إلى غير ذلك من

ص: 197

الآيات المباركة.

و بناء على ما تقدم لا بد من تأويل ما ورد في القرآن الكريم و السنة الشريفة مما يوهم ظاهره خلاف العصمة، و سيأتي ذلك في مواضعه.

فقد ذكرنا أن ما ورد في آدم (عليه السلام) كقوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ لا يدل على صدور المعصية منه، كما أن قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ ظاهره الظلم على نفسه بوقوعه في مشقة الدنيا لا الدخول في النار.

و أما قوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [سورة طه، الآية: 121] فإنه ليس المراد منه صدور العصيان و الغواية منه (عليه السلام)، بل إن لنفس استعمال هذه الألفاظ موضوعية خاصة، فإن مقام آدم (عليه السلام) الذي خلقه اللّه بيده و نفخ فيه من روحه و علّمه الأسماء و أسجد له الملائكة و أسكنه الجنّة ربما يوجب في نفسه بعض الخطرات المنافية لمقامه (عليه السلام) فعصمه اللّه تعالى بذلك، و قد يوجب ذلك كله غلو ذريته فيه فيعبدونه فأذهب اللّه تعالى عنهم ذلك الغلو بما تقدم من الألفاظ.

و كذا قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه، الآية: 115]، فإن عهود اللّه تعالى و مواثيقه على الأنبياء و المرسلين على قسمين: عهد عام بالنسبة إلى جميع الأنبياء و المرسلين، قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ [سورة آل عمران، الآية: 81]، و كذا قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [سورة الأحزاب، الآية:

7]. و عهد خاص بكل نبي حسب الظروف و الخصوصيات الزمانية و المكانية التي تحيط بذلك النبي، و المائز بين القسمين هو القرائن و ما يستفاد من السنّة المعتبرة الواردة في حالات الأنبياء (عليهم السلام).

و الظاهر في المقام هو الثاني، لأنّ ترك العزم بالنسبة إلى الميثاق العام لا يعقل، فإنه خلف مع فرض النبوة. نعم هو معقول بالنسبة إلى العهود الخاصة

ص: 198

الظاهرة في الإرشاد، كما في المقام.

بحث فلسفي

صريح الكتب السماوية و في مقدمتها القرآن العظيم و جميع الفلاسفة الإلهيين من المسلمين و غيرهم على بديع صنع اللّه في الإنسان و أنه مخلوق حادث خلقه اللّه تعالى من الطين بهذه الهيئة المتميزة عن سائر المخلوقات استقلالا من دون أن يكون مرتقيا من مخلوق آخر - نباتا أو حيوانا - و تقتضي ذلك قاعدة «إمكان الأشرف» التي أسسها الفلاسفة في سلسلة الخليقة، فإن أقرب الموجودات إليه تعالى و أشرفها لديه لا بد و أن يقع في سلسلة الفيوضات الإلهية الأول فالأول عند نزول الفيض منه عزّ و جل حتّى يصل المستفيض إلى أدنى مرتبة الحضيض، إذ لا ريب في أنه تعالى كامل بذاته و صفاته و فعله فلا يتصور نقص في جهة من جهاته عزّ و جل.

و ما يتوهم من النقص في الأفعال يرجع إلى أمرين:

أحدهما - عام للجميع، و هو الإمكان، و الاحتياج، فإنّ ما سواه ممكن محتاج إليه عزّ و جل.

و الثاني: من خصوصيات أفراد الممكنات، و مقتضى تمامية فعله تعالى أن يكون أول مخلوقاته أشرفها ثم بعد ذلك الأشرف فالأشرف في سلسلة الأنواع الكلية التي يكون نوعها منحصرا في الفرد حتّى يصل الخلق إلى الماديات التي هي منشأ التكثر و الانتشار.

إن قلت: نعم قاعدة «إمكان الأشرف» متفق عليها بين الفلاسفة - المسلمين منهم و اليونانيين - و تقتضيها جملة من الأدلة النقلية أيضا و لكنها مخالفة لظاهر الآية المباركة وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها [سورة البقرة، الآية:

31]، و ظاهر جميع الكتب السماوية من خلق الدنيا - و المسميات - في الجملة قبل خلق آدم (عليه السلام) كما عرفت في البحث الروائي السابق.

قلت: مورد القاعدة إنما هو فيما إذا كانت السلسلة واحدة ففي سلسلة

ص: 199

المجردات و الروحانيين أول ما خلق اللّه العقل، ثم الأشرف فالأشرف حتّى يصل إلى آدم (عليه السلام)، و في سلسلة الماديات و الأعراض يكون الأشرف فالأشرف أشياء أخرى تقدم بعضها في تفسير سورة الحمد في قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ . و يمكن أن تكون السلسلة الأخيرة متقدمة من بعض الجهات على بعض أفراد السلسلة الأولى، إذ لا تنافي في ذلك.

و توهم: أن أصل القاعدة إنما يتم بناء على لزوم السنخية بينه جل شأنه و بين خلقه، و قد أبطلتها الشرائع المقدسة فلا موضوع لقاعدة «إمكان الأشرف» أصلا.

غير صحيح، لأنه لا ربط للسنخية بهذه القاعدة أبدا لما أثبتناه في الفلسفة الإلهية من أنّ السنخية على فرض اعتبارها إنما هي في الفاعل الموجب لا في الفاعل المختار، و الأئمة الهداة (عليهم السلام) جعلوا إرادته تعالى عين فعله حتّى لا يلزم توهم هذه المحاذير.

فاحتمال تطور الإنسان عن ذي حياة آخر فاسد كما عرفت، هذا كله في فعل اللّه عزّ و جل.

و أما فعل المخلوق أي سلسلة استكمال المفاض عليه، يكون الأمر بالعكس فيتعلق الخلق بالداني أولا ثم يترقى إلى مرتبة الكمال لفرض أنه مستكمل بغيره مطلقا، قال تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14] و للبحث تتميم يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

و لكن ذكر بعض الفلاسفة الطبيعيين استنادا الى قانون العلية في الأمور الطبيعية، و أنّ كل حادث طبيعي لا بد أن يستند إلى سبب طبيعي كذلك، و قد تفرع عن هذا القانون الأصل المنسوب إلى داروين القائل بالنشوء و الارتقاء و التكامل و بقاء الأصلح، فقد ذكر أن الإنسان لم يصل إلى هذه المرحلة الفعلية من الكمال إلاّ بانتقاله من المراتب الدانية، و أنّ في مسيره هذا قد رأى من التحولات و التبدلات الكثيرة التي نتج منها القضاء على الفرد

ص: 200

الضعيف، و بقاء الفرد المستعد للكمال.

و المسلمون بل جميع المليين في غنى عن هذا القول بعد تصريح كتبهم المقدسة باستقلالية خلق الإنسان، بل إنّ الطبيعة من جميع جهاتها مقهورة تحت إرادته و هو بديع السموات و الأرض.

مع أن هؤلاء الفلاسفة أثبتوا للطبيعة اتفاقيات و نوادر فليكن هذا الخلق منها، و لا محذور فيه كما في سائر الاتفاقيات.

كما أنّ داروين و أنصاره لم يبينوا لنا متى حصل هذا التحول في الإنسان، و ما هي الحلقة التي انتقل منها إلى الفرد الكامل.

مع أنّ لنا أن نتسائل منهم هل أن ذلك كان بحسب نظام الطبيعة فقط مع قطع النظر عن المدبر الحكيم و الخالق العليم؟ و هذا محال، لأن انقلاب نوع بعد تعينه النوعي - روحا و جسما - إلى نوع آخر مستحيل إلاّ بالاستحالة، و لا يقولون بها. أو بالتناسخ الذي أثبت الكل بطلانه.

إن قيل: إنّ مسألة النشوء و الارتقاء لا تخرج عن مسألة الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أكابر محققي الفلاسفة.

يقال: بين المسألتين فرق كبير لا ربط لإحديهما بالأخرى، كما يظهر بالتأمل و سيأتي شرح الأخيرة في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

إن قلت: إنّهم يدعون العثور على جماجم و عظام مضى عليها أكثر من مائة الف سنة الدالة على التطور في بعضها، و هذا لا يناسب ما ضبطه أهل التواريخ و السير من جميع الفرق من المدة القليلة الماضية على هبوط آدم (عليه السلام) إلى الأرض.

أقول: إنه لا بد و أن يتأمل في أصل الدعوى؛ و على فرض الصحة يمكن أن يكون ما عثروا عليه من تلك الجماجم و العظام من الآدميين ما قبل خلق آدم (عليه السلام) فإنه آخر الآدميين في العوالم الدنيوية و قبله آدم الى سبعين آدم كما في الحديث، و لا يعلم مقدار تلك الأزمنة و لا مقدار الفاصل بين الآدميين، و لا كيفيتهم إلاّ اللّه تعالى.

ص: 201

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا ب

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّاكِعِينَ (43) بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان و حالاته و أطواره خاطب طائفة خاصة و هم اليهود - و بدأ بذكرهم، لأنهم أقدم الطوائف التي أرسل فيهم الأنبياء و الرسل، و أنزل فيهم الكتب، و هم أول طائفة من الأمم هبطوا من ذروة المقام الإنساني الى درك حضيض البهيمية، و هم السابقون في نقض عهد اللّه، مصرين على ذلك، و ملتزمين بغيهم و جحودهم لا يرتدعون برادع أرضي أو سماوي أتعبوا أنبياء اللّه بغيهم و لجاجهم و شق على سيد المرسلين فسادهم و إفسادهم، و هم أشد الناس عداء للمؤمنين، و من سنة اللّه تعالى المداراة مع العصاة بكل ما أمكن - كما سيأتي في الآيات الشريفة - فقد تكرر ذكرهم في القرآن لعلهم يرشدون.

التفسير

قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ .

إسرائيل مركب من كلمتين [إسراء] بمعنى العبد، أو الصفوة، أو القوة - على ما يأتي في البحث الروائي - و [ائيل] بمعنى اللّه تعالى و معناه عبد اللّه أو صفي اللّه، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن مكررا. و إنما ذكرهم سبحانه بهذا التعبير تحريضا لهم بالتحلي بمكارم الأخلاق و نبذ مساويها، لأنهم يرون أنفسهم من أهل صفوة اللّه و العبودية له عزّ و جل، فلا ينبغي لهم هذا النحو من اللجاج و العناد و الفساد، كما في قوله تعالى: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة الأحزاب، الآية: 32].

و (الذكر) بمعنى الاستحضار سواء كان باللسان أو القلب أو هما معا، فمن الأول قوله تعالى: وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [سورة الأنبياء

ص: 202

، الآية: 50]، و من الثاني قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 152]، و من الأخير قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 200]، و كذا قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً [سورة النساء، الآية: 103]،

و في الحديث: «كانت الأنبياء إذا حزبهم أمر فزعوا الى الذكر» و في بعض الأخبار «الصلاة» بدل الذكر، و يشهد له قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 45].

و الآية لم تعين هذه النعمة التي اختصهم اللّه تعالى بها و لكنه عزّ و جل كرّم بني إسرائيل بأعظم أنحاء النعم كما قال تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ [سورة البقرة، الآية: 211] فجعلهم من أولاد الأنبياء و وسمهم بالوسام الجليل حيث جعلهم من ذرية إبراهيم الخليل و فضلهم على الأمم، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ [سورة المائدة، الآية: 20]، و اصطفاهم بالنبوة زمنا طويلا و فيهم من أنبياء أولي العزم موسى و عيسى (عليهما السلام)، و أنزل فيهم التوراة التي هي أقدم الكتب السماوية و أعظمها بعد القرآن الكريم قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة الجاثية، الآية: 16]. و بالجملة فقد أعطاهم اللّه تعالى من كل ما سألوه فلا بد أن يذكروا هذه النعم التي اختصوا بها، و لكنهم قابلوا ذلك بالكفران و الإساءة و أعرضوا عما أمروا به فكفروا بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) بعد ما جائتهم البينات.

قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ . الوفاء ضد الغدر، و هو الحفظ و الإتمام و عدم النقض، و كثيرا ما يستعمل في القرآن متعديا من باب الإفعال كما في المقام، و قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [سورة البقرة، الآية: 177]، و يستعمل من باب التفعيل أيضا، و قال تعالى في شأن خليله: وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفّى [سورة النجم، الآية: 37] أي بذل غاية جهده في جميع ما طولب به من اللّه تعالى، و هو من أجل مقامات الخلة.

ص: 203

و العهد: حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال و الاهتمام به، و هو من الصفات الإضافية، له تعلق بالعاهد و المعهود اليه و المعهود به إلاّ أن في الأول يكون من الإضافة الى الفاعل، و في الثاني كذلك إذا كان مع العوض، كما يكون من الإضافة الى المفعول أيضا.

و الفرق بين العهد و الميثاق هو أن الثاني أخص من الأول، لأنه العهد المؤكد بأنحاء التأكيدات و التوثيقات، سواء أ كان بين اللّه تعالى و بين خلقه أم بين خلقه بعضهم مع بعض، و مادة (و ث ق) تدل على كمال التثبت.

و المعنى: أوفوا بعهدي الذي أبلغته إليكم بواسطة الأنبياء و الرسل من المواثيق و الطاعات و العبودية، و هي كثيرة يأتي في الآيات التالية تعداد أصولها، و من جملة ما عهد إليهم الإيمان بشريعة خاتم المرسلين كما يستفاد من قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ . و الوفاء بالعهد مطلقا سواء أ كان من النّاس ام من اللّه تعالى يرجع إلى مصلحة النّاس أنفسهم.

و إنما سمى سبحانه ذلك عهدا و أوجب وفاءه على نفسه، تحننا منه و ترغيبا لعباده إلى الطاعة حيث يكون لهم حق مطالبة الجزاء مع الشرط فيصير المقام نظير آية الاشتراء: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111] مع أن السلعة و المشتري و قدرته و ارادته من اللّه تعالى و لذلك نظائر كثيرة يأتي التعرض لها. و يمكن أن يكون الترتيب في قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ من قبيل ترتب المعلول على العلة، لا من ترتب وفاء أحد المتعاوضين على وفاء الآخر.

قوله تعالى: وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ . الرهب هو الخوف المشوب بالاضطراب. و تقديم الضمير المنفصل يفيد الحصر، أي لا بد أن يكون الخوف من اللّه تعالى الذي هو على كل شيء قدير، و المطلع على الضمائر و الظواهر، فإن الرهبة إن كانت لأجل عظمة المرهوب منه و جلاله فلا نهاية لهما فيه عزّ و جل، و إن كانت لأجل علمه بموجبات السخط و العقاب فلا يعزب عن علمه شيء في السموات و الأرض، و إن كانت لأجل قهاريته التامة فهي من أخص صفاته، و عهوده هبات منه عزّ و جل فيكون نقضها عظيما.

ص: 204

ثم إنّه شرع في بيان جملة من عهوده المباركة على بني إسرائيل و هي الإيمان باللّه تعالى و القرآن المشتمل على تصديق سائر الكتب السماوية، و عدم الكفر، و المحافظة على آيات اللّه تعالى و عدم تبديلها، و تقوى اللّه، و عدم كتمان الحق، و عدم خلطه بالباطل. و هذه هي من أهم العهود الإلهية و أصولها على عباده، و لا اختصاص لها بطائفة دون أخرى، و إن كانت تختص ببعض الأحكام الفرعية.

و العهود الإلهية و إن كانت تعد من الأمور التشريعية لكن كل تشريع له دخل في نظام التكوين، لأن جميع جهات التشريع ترجع إلى تربية الإنسان الذي هو المقصد الأقصى من نظام التكوين فيرجع التشريع اليه.

قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ .

تفصيل بعد إجمال، فإن قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي يشمل الإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلاّ أنه تعالى ذكره بالخصوص تنبيها لهم و تعظيما لأمره، و هذه الآية المباركة تدل بالدلالة الالتزامية العادية على إخبار موسى (عليه السلام) بشريعة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، لأن كل شريعة سابقة لا بد أن تخبر بالشريعة اللاحقة كما أخبر تعالى عن الشرائع السابقة في القرآن، و قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يدل على تصديق هذه الشريعة لما تقدم من الشرائع، و قد ذكرنا في ما سبق أن الشرائع الإلهية و إن تعددت بحسب الظاهر إلاّ أنها متحدة في أصول العقائد و الأحكام التي ترجع إلى تربية الإنسان و سعادته في الدارين.

قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ . لأنكم أعرف بحقيقة هذا الدين بعد أن كان الإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) مذكورا في التوراة - كما سيأتي - و أن هذا القرآن مصدق لما معكم فمن بادر منكم إلى الكفر يكون أشد خزيا و منقصة، و يكون من أئمة الكفر في ملته، كما أنّ من بادر من أهل الكتاب الى الإيمان باللّه و الرسول يكون أول مؤمن به.

قوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً . المراد بالاشتراء هنا مطلق المبادلة، و الثمن القليل هو الدنيا و ما فيها، لأنها تنفذ و آيات اللّه تعالى

ص: 205

لا تنفذ، و كل من قدّم هوى نفسه على رضاء اللّه تعالى فقد اشترى بآيات اللّه ثمنا قليلا، لأنه خسر رضوان اللّه تعالى،

و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «من أصغى الى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق نطق عن اللّه فقد عبد اللّه، و إن كان الناطق نطق عن الشيطان فقد عبده» و تشمل مثل هذه الأخبار تبديل آيات اللّه بجميع الأغراض الدنيوية. و المراد بآيات اللّه تعالى مطلق تشريعاته في معارف الدين و أحكامه.

قوله تعالى: وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ . بوفاء العهد و اتباع الهدى و ترك الركون الى الدنيا. و هو يدل على وجوب التقوى و انحصارها بالنسبة إليه تعالى المستفاد من تقديم الضمير المنفصل.

و قوله تعالى: وَ لا تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

اللبس هو الخلط و التغطية، أي لا تخلطوا الحق الذي أنزلناه بالباطل الذي تفعلونه. و لبس الحق بالباطل يستلزم كتمان الحق لا محالة، و قد أفرده تعالى بالذكر، اهتماما به و تبيينا لكل واحد من المتلازمين بالذكر، و لا تكتموا الحق بعدم بيانه مع الحاجة الى البيان، و ذلك يتصور على وجوه: إظهار الحق في صورة الباطل و بالعكس، كتمان الحق مع الحاجة إلى بيانه، الافتراء على اللّه تعالى، و الجميع من القبائح و من شعب النفاق، مع أنكم تعلمون الحق و ما تعلمون من لبس الحق بالباطل و كتمانه و الافتراء على اللّه.

قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّاكِعِينَ . بعد أن أمرهم اللّه تعالى بالإيمان أمرهم بأهم وظائف العبودية و هي الصلاة على ما قررتها الشريعة، ثم أمرهم بأهم الوظائف الاجتماعية و هي الزكاة بما قررتها الشريعة من بذل المال و السعي في الحوائج، بل زكاة الجاه. ثم أمرهم بالركوع مع الراكعين، لأن العبادة الاجتماعية أهم من العبادة الفردية لما فيها من المصالح الكثيرة. و المراد بالركوع إما الركعة و يكنى به عن الصلاة، لأنه أهم أركانها أو لأجل أنّ الركوع كان أشق عليهم من السجود فذكره تبارك و تعالى بالخصوص، أو للإشارة إلى نبذ عبادتهم و الإتيان بهذه العبادة الجديدة.

ص: 206

بحث روائي:

عن ابن بابويه في العلل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «و يعقوب إسرائيل و معنى إسرائيل عبد اللّه لأن أسراء هو عبد و ئيل هو اللّه عزّ و جل»

و روى في خبر آخر: «إن أسراء هو القوة و ايل هو اللّه فمعنى إسرائيل قوة اللّه عزّ و جل».

أقول: قد ورد في التوراة الوجه الأخير و المراد بالقوة هنا قوة يعقوب من حيث اعتماده على ربه فيرجع إلى المعنى الأول لأن عبودية الأنبياء (عليهم السلام) تكون عن اعتمادهم من كل جهة على اللّه تبارك و تعالى مطلقا و ذلك يستلزم لهم القوة.

و عن القمي عن جميل عن الصادق (عليه السلام): «قال له رجل: جعلت فداك إن اللّه تعالى يقول أدعوني أستجب لكم و إنّا ندعوا فلا يستجاب لنا قال (عليه السلام) لأنكم لا توفون بعهد اللّه لو وفيتم للّه لوفى اللّه لكم».

أقول: يظهر منها و من سائر الروايات المتواترة أن لاستجابة الدعاء شروطا كثيرة سيأتي بيانها في قوله تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [سورة المؤمن، الآية: 60].

و عن العياشي عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جل: و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة قال: هي الفطرة التي افترض اللّه على المؤمنين».

أقول: قريب منه روايات أخرى، و هذا كله من باب التطبيق.

و عن ابن عباس في قول اللّه تعالى: وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّاكِعِينَ : «نزل في رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هما أول من صلّى و ركع».

أقول: في ذلك روايات أخرى مستفيضة من الفريقين.

ص: 207

أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44) وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلص

اشارة

أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44) وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ (45) اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) ذكر سبحانه في هذه الآيات من أفعال اليهود و فسادها أنهم كانوا يدعون الى الإيمان و تلاوة الكتاب، و قد وصفوا أنفسهم بالعدل، و خالفوا إلى غيره، و وبّخهم على هذا الفعل توبيخا شديدا، و الخطاب و إن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام إلى جميع من يأمر بالحق و لا يعمل به، و هو من أعظم القبائح النظامية في الاجتماع، ثم أمرهم سبحانه بالرجوع إليه و الاستعانة بالصبر و الصّلاة و نبذ ذلك العمل الشنيع.

التفسير

قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . البر: هو سعة الخير، و يطلق على كل خير من الإحسان. و النسيان غيبة الشيء عن النفس بعد حضوره فيها و منه قوله تعالى: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم، الآية: 64]، إذ لا يعقل النسيان ممن كان ما سواه حاضرا لديه. و يستعمل بمعنى مطلق الترك أيضا، قال تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19]. و هو أخص من السهو و الغفلة.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ . التلاوة: القراءة لكن لوحظ في الأولى معنى المتابعة، لأن الحروف المقروءة تتتابع بعضا بعضا، و في الثانية لوحظ معنى الجمع، لأن القراءة تستلزم جمع الحروف.

و العقل من العقال، لأنه يربط صاحبه عن ارتكاب القبائح. و يحرّضه على إتيان المحاسن، و هو ضد الجهل، و له إطلاقات كثيرة في السنّة بل و اصطلاح الفلاسفة، و يأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة.

و مفهوم العقل من أبده الأشياء و لكن كنهه في غاية الخفاء، فهل هو جوهر مجرد روحاني متعدد الأفراد حسب تعدد أفراد العقلاء يقبل الشدة

ص: 208

و الضعف. أو أنه عرض قائم بالغير. أو أنه من مراتب وجود النفس الإنساني. أو أن له وجودا واحدا فرديا كالشمس إلاّ أن له إشراقات على النفوس. أو أنه إشراق حاصل للنفس من عالم آخر غير عالم الجواهر و الأعراض. أو أن جميع ذلك صحيح بحسب اختلاف النفوس و مراتبها. أو أن الكل باطل و لا يحيط به الناس، بل العلم به منحصر باللّه تعالى؟ و غاية ما يدرك أنّه القوة المميزة بين الحسن و القبح و لم يزل الموضوع مورد البحث منذ وجود العاقل على وجه البسيطة و لا يزال كذلك و القدر المسلّم به أنه موجود و متعقل خارجي وقع مورد جعل اللّه تبارك و تعالى و إرادته و خطابه، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

و الخطاب و إن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام يشمل الجميع و أشد معاتبة الآمرون بالمعروف التاركون له، و الناهون عن المنكر الفاعلون له حتّى نفى اللّه تعالى عنهم العقل بلسان التوبيخ و التأنيب، و هو كذلك لأن من أول مرتبة العقل و الكمال العقلي هو مطابقة القول للفعل، بل يعد ذلك من الأمور النظامية الاجتماعية فإن نظام المجتمع يقوم بالقانون و العمل به و بدونه يكون خرقا للنظام و إشاعة للفساد. كما أنّ الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر أحق باتباع ما يأمرونه، و الانتهاء عما ينهون عنه، لأن الحجة عليهم أتم، فإن من لم ينسلخ عن شهوة نفسه كيف يتمكن من إزالة الشهوة عن غيره، و لذا ورد التأكيد

عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) بقولهم: «كونوا دعاة الى اللّه بغير ألسنتكم». و قد ثبت في الفلسفة، و في الأحاديث الكثيرة على أن للحركات القلبية و الجذبات النفسية آثارا خاصة في النفوس، بل قد يكون الشخص في عين أنه ينهى بلسانه مثلا يكون تأثيراته النفسية أقوى من النهي اللساني على النفوس.

و هذه الآيات تتضمن قاعدة محاورية من صحة خطاب الأبناء بما يفعل الآباء، أو خطاب الآباء بما يفعل الأبناء، أو خطاب الجميع بما يفعل البعض.

قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ . بعد أن ذكر سبحانه من سوء أفعالهم و نفى العقل عنهم فلم تنفعهم تلاوة الكتاب أرشدهم إلى استكمال أنفسهم بالكمالات الظاهرية و الواقعية بالاستعانة بالصبر و الصّلاة و حيث إن بني إسرائيل كانوا مسبوقين بالصبر على المتاعب و الشدائد، و ظهر لهم أثر صبرهم في الاستيلاء على عدوهم (فرعون و قومه)، قال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ [سورة الأعراف، الآية: 137]. و كذا في الصّلاة التي اعتادوا عليها فظهر لهم بعض آثارها، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87] فحثهم اللّه تعالى على ما وجدوا أثره بأنفسهم من إدمان الاستعانة بالصبر و الصّلاة، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 153].

ص: 209

قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ . بعد أن ذكر سبحانه من سوء أفعالهم و نفى العقل عنهم فلم تنفعهم تلاوة الكتاب أرشدهم إلى استكمال أنفسهم بالكمالات الظاهرية و الواقعية بالاستعانة بالصبر و الصّلاة و حيث إن بني إسرائيل كانوا مسبوقين بالصبر على المتاعب و الشدائد، و ظهر لهم أثر صبرهم في الاستيلاء على عدوهم (فرعون و قومه)، قال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ [سورة الأعراف، الآية: 137]. و كذا في الصّلاة التي اعتادوا عليها فظهر لهم بعض آثارها، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87] فحثهم اللّه تعالى على ما وجدوا أثره بأنفسهم من إدمان الاستعانة بالصبر و الصّلاة، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 153].

و الاستعانة: طلب العون كما تقدم في سورة الحمد وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ . و المراد هنا جعل الصبر و الصّلاة وسيلة لإفاضة اللّه تعالى عليهم ما يهمهم من المقاصد و تدل الآية المباركة على أن الاستعانة بهما توصل إلى كل خير نوعيا كان أو شخصيا كليا أو جزئيا.

و الصبر هو كف النفس عن الهوى مع مراعات تكليف المولى، و هو من أهم مكارم الأخلاق، بل لا فضيلة إلاّ و للصبر فيها دخل.

ثم إنّ استعانة الإنسان إما أن تكون من نفسه بنفسه، أو من نفسه بغيره، و الأول هو الصبر، و من الثاني الصّلاة. و الاستعانة بالصبر هي فعل الطاعات و ترك المحرمات، و قد يراد منه الصوم لأنه الإمساك و كف النفس عن المفطرات فيكون من صغريات المعنى اللغوي

ففي الحديث: «إنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كان إذا حزبه أمر استعان بالصوم و الصّلاة»،

و عن الصادق (عليه السلام): «الصبر الصيام و إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم، فإن اللّه تعالى يقول: و استعينوا بالصبر و الصلاة».

و الاستعانة بالصّلاة استعانة باللّه تعالى، لأنها تنهى عن الفحشاء

ص: 210

و المنكر، و أنها من أقوى الأسباب و أشدها تأثيرا في قضاء الحوائج و تيسير الأمور.

و إنما قدم تعالى الصبر على الصّلاة، لأنها لا تقبل إلاّ بالتقوى، و هي لا تحصل إلاّ بالصبر على ترك المحرمات، فيكون من تقديم المقتضي [بالكسر] على المقتضى [بالفتح].

ص: 211

بالنسبة إلى المؤمنين الخاشعين و إنذار للعاصين المذنبين.

و أنهم اليه راجعون لتوفية جزاء أعمالهم بما قدموه من صالح الأعمال. و التعبير بالرجوع من حيث كونه تعالى مبدأ الكل فيكون منتهاه أيضا.

و الظن: مرتبة من الإعتقاد، و هو مما يضعف و يشتد، و يعبر عن الثانية ب (اليقين) و المائز بينهما القرائن الخارجية أو الداخلية، قال تعالى: وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ [سورة الحشر، الآية: 2] أي حصل لهم اليقين بذلك و كذا في المقام فإن مقام الخشوع لا يناسب إلاّ مع اليقين فلا تنافي بينه و بين قوله تعالى: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 4].

و لعل في التعبير بالظن إشارة إلى أن الخاشعين اكتفوا بالظن فاشتد خوفهم منه و هانت عليهم مشاق الدنيا فكيف بمن تيقن بالملاقاة، و توبيخ منه بالنسبة إلى هؤلاء الآمرين بالبر الذين ينسون أنفسهم بأنهم لم يتمكنوا من تحصيل الظن من تلاوة الكتاب ليحملهم على العمل الصالح، أو لأن لشدة كونهم في مقام الخوف و الرجاء لا يعتمدون على يقينهم لما يرد عليهم، فعبر تعالى بالظن سوقا للكلام على مراد المخاطب، و يشهد لذلك

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة و لا يتيقن الوصول إلى رضوان اللّه تعالى حتّى يكون وقت نزع روحه - الحديث -». و يصح أن يراد بكلام واحد وجوه متعددة باعتبارات مختلفة.

إن قيل: اللقاء و الملاقاة من صفات الأجسام الخارجية و هو تعالى منزه عنها، فلا يناسب الإطلاق عليه عزّ و جل.

يقال: إن اختصاص اللقاء بالأجسام أول الكلام فقد ورد في قوله تعالى: حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [سورة الطور، الآية: 45] مع أن اليوم ليس بجسم، و مع ورود التنصيص بذلك في الكتاب الكريم فلا وجه لهذا الإشكال، و إنما حصل الإشكال من كثرة الأنس بالماديات و إلاّ فالتلاقي في عالم الرؤيا و عالم البرزخ واقع حقيقة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ [سورة الأعراف، الآية: 147] و قال تعالى: قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ [سورة الأنعام، الآية 31] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و الأولى الحمل على العموم بحسب مراتب الإيمان و درجاته، فالتلاقي تلاصق اثنين سواء كانا من الجواهر أو الأعراض أو المجردات، مع سبق البعد ظاهريا أو معنويا أو منهما معا، و سواء كان البعد من جهة أو من جهات، و التلاصق كذلك.

ص: 212

يقال: إن اختصاص اللقاء بالأجسام أول الكلام فقد ورد في قوله تعالى: حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [سورة الطور، الآية: 45] مع أن اليوم ليس بجسم، و مع ورود التنصيص بذلك في الكتاب الكريم فلا وجه لهذا الإشكال، و إنما حصل الإشكال من كثرة الأنس بالماديات و إلاّ فالتلاقي في عالم الرؤيا و عالم البرزخ واقع حقيقة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ [سورة الأعراف، الآية: 147] و قال تعالى: قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ [سورة الأنعام، الآية 31] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و الأولى الحمل على العموم بحسب مراتب الإيمان و درجاته، فالتلاقي تلاصق اثنين سواء كانا من الجواهر أو الأعراض أو المجردات، مع سبق البعد ظاهريا أو معنويا أو منهما معا، و سواء كان البعد من جهة أو من جهات، و التلاصق كذلك.

بحث روائي:

القمي في الآية: «نزلت في القصّاص و الخطّاب،

و هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): و على كل منبر منهم خطيب مصقع يكذب على اللّه، و على رسوله، و على كتابه».

أقول: هذا من باب التطبيق على أحد الموارد لا التخصيص.

و في مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام): «من لم ينسلخ عن هواجسه و لم يتخلص من آفات نفسه و شهواتها، و لم يهزم الشيطان، و لم يدخل في كنف اللّه و أمان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لأنه إذا لم يكن بهذه الصّفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه، و لا ينتفع الناس به، قال تعالى: أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . و يقال له: يا خائن أ تطالب خلقي بما خنت به نفسك و أرخيت عنه عنانك».

أقول: ما ذكره (عليه السلام) مطابق للوجدان، كما لا يخفى على أهله.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كان علي (عليه السلام) إذا أهاله أمر فزع؛ قام إلى الصّلاة، ثم تلا هذه الآية و استعينوا بالصبر و الصّلاة».

و في الفقيه عنه (عليه السلام) أيضا في الآية: الصبر الصيام، و إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة، فليصم فإن اللّه تعالى يقول: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ ، يعني الصيام».

و عن العياشي عن الصادق (عليه السلام): «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو اللّه

ص: 213

فيهما، أما سمعت اللّه يقول: و استعينوا بالصبر و الصّلاة».

أقول: أما الاستعانة بالصبر في الأمور الدنيوية و الأخروية فلها أثر في الأمور التكوينية، فضلا عن الاختيارية، و الصوم من أحد تلك المصاديق. و أما الاستعانة بالصّلاة فهي استعانة و توجه إلى مسبب الأسباب و مسهل الأمور الصعاب، و بذلك يحصل تكميل النفس فضلا عن حصول المراد.

و عن ابن بابويه عن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، يعني يوقنون أنهم يبعثون و يحشرون و يحاسبون و يجزون بالثواب و العقاب، و الظن هاهنا اليقين».

و عن العياشي عن الصادق (عليه السلام): «اللقاء البعث و الظن هاهنا اليقين».

أقول: لا ينافي تفسير الظن باليقين من جهة و بقائه على معناه الحقيقي من جهة أخرى، كما استظهرناه من الآية المباركة.

و في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): «يقدرون و يتوقعون أنهم يلقون ربهم اللقاء الذي هو أعظم كرامته لعباده».

أقول: تقدم أن ملاقاة العبد لربه أرفع المقامات و أجلها، و هي من حدود وجوب الوجود.

و عن ابن عباس: «أنّ الآية نزلت في علي (عليه السلام) و عثمان بن مظعون، و عمار بن ياسر، و أصحاب لهم».

أقول: هم من صغريات موارد تطبيق الآية.

بحث أخلاقي:

الصبر هو أم الفضائل، و أصل مكارم الأخلاق، و منه تتفرع كل موهبة و مكرمة؛ فكما أن الحي القيوم أم الأسماء الحسنى و منهما تتفرع سائرها، كذلك يكون الصبر، فهو حقيقة المقاومة مع المكاره و الشهوات و المشتهيات، و الاستقامة مع ما يرتضيه العقل و الشرع من محاسن

ص: 214

الأخلاق، و الوصول إلى المعارف و الكمالات، و المواظبة على الواجبات و ترك المحرمات.

و قد اعتنى اللّه تعالى به اعتناء بليغا، فقد وردت مادة (ص ب ر) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة موضع، و لم يرد فضيلة أكثر ذكرا منه فيه، و قد تكرر الأمر به، قال تعالى: وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة هود، الآية: 115]، و قال جل شأنه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200]، و قال عزّ و جل: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ [سورة غافر، الآية: 55]. و ورد الأمر بالاستعانة به في قوله تعالى: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 153].

و الاستعانة بالصبر في الأمور التكوينية استعانة بأسبابها الظاهرية و المعنوية، و كلها ترجع إلى مراعاة حصول المسببات عند حصول أسبابها المقتضية لها، و استنتاج النتائج من المقدمات المعدة لها، و ترك المبادرة الى نقض هذا الأمر العقلي النظامي، فإنه يؤدي إلى خلاف المطلوب.

و في الأمور الاختيارية فهو إما على ما تكره النفس، أو على ما تحبه، و الأول عبارة عن مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها و ثباتها في مقابلها، و عدم تأثرها، و عدم انفعالها، و قد يعبر عن ذلك بالشجاعة وسعة الصدر أيضا. و الثاني عبارة عن مقاومة النفس لمدافعة القوى الشهوانية و الغلبة عليها بالعقل و الفكر، و كل ذلك من الحكمة العملية التي اهتم الفلاسفة، و علماء الأخلاق بشرحها،

فما ورد في السنة المقدسة من «أن الصبر مفتاح الفرج» مطابق للقاعدة العقلية، لأنه دخول في الشيء من أحسن أبوابه.

و قد أشار نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الى عظيم منزلته لما

سئل عن الإيمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «هو الصبر»، كما جعله جزء الإيمان،

فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «الإيمان نصفان فنصف صبر، و نصف شكر»،

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما أعطي أحد عطاء خيرا له و أوسع من

ص: 215

الصبر».

و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له».

و الصبر من صفات الأنبياء و المرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بفعلهم و الاهتداء بهديهم، قال تعالى مخاطبا للرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 35]، و قال جلّ شأنه: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا [سورة الأنعام، الآية: 34]، و قال تعالى:

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصّابِرِينَ [سورة الأنبياء، الآية:

85]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [سورة السجدة، الآية: 24]، فكما أن الصبر من أهم مقومات حياتهم (عليهم السلام) فهو من أقوى محققات شؤونهم، فما بعث اللّه تعالى نبيا و لا أرسل رسولا، بل و لم يفض علما على عالم إلاّ و كان الصبر أليفه حتّى صار النصر حليفه، و قد تحمل من المشاق حتّى صار شهير الآفاق، و ذلك من سنة اللّه: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّهِ تَبْدِيلاً [سورة الفتح، الآية: 23].

و قد عدّ الصبر في السنّة المقدسة من جنود العقل و ضده من جنود الجهل، فهو من حيث كونه من جنود العقل له دخل في نظام التكوين، و من حيث إنه الإيمان، أو جزء الإيمان له دخل في نظام التشريع فهو جامع للمنزلتين، و حائز للدرجتين، فله دخل في الأمور الطبيعية فإن مراتب استكمالها لا تتم إلاّ بالتدرج و عدم العجلة - و إن لم يصح إطلاق الصبر بالمعنى المعهود عليها - و لذلك ترى أن بذور النباتات و الأشجار لا تصل إلى مرتبة الكمال إلاّ بالتدرج،

و قد ورد في الحديث: أن ذكر ستة أيام في خلق السموات و الأرض إنما كان لتعليم العباد التأني و الصبر، و إلاّ فهو قادر على خلقهنّ في أقل من ذلك.

فهو من أهم موجبات تحقق المقاصد و الظفر بالمطلوب إن توفرت بقية الشرائط،

قال علي (عليه السلام): «لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به

ص: 216

الزمان» فليس للصابر إلاّ أن يظفر بالمقصود، أو بما أعدّه اللّه تعالى له من الأجر المحمود.

و تقدم في تعريف الصبر أنه: حبس النفس عن الهوى مع مراعاة تكليف المولى، بل يمكن تعريفه بالمعنى العام ليشمل صبر الواجب و الممكن، و أنواعه و أقسامه، بأن يقال: «هو تقدير الشيء بالنحو الأتم على ما يناسب النظام الأحسن نوعيا كان أو شخصيا» فيشمل صبر الواجب، حيث أطلق الصبور عليه تعالى في الأسماء الحسنى على ما روي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و ما ورد في الحديث القدسي،

و في الحديث: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللّه عزّ و جل»، و في دعاء المجير و غيره «يا صابر»، فإنه يتفرع منه الحلم و العفو، و الرفق و المداراة كل ذلك متشعب عن الصبر المختلف باختلاف الخصوصيات و الجهات، فيختلف معناه كذلك فلا نحتاج إلى تفسير الصبر فيه تعالى بالمعنى العدمي، أي عدم التعجيل في عقوبة العصاة، كما عن جمع من المفسرين و اللغويين.

و الصبر في الإنسان قد يكون من طبيعته و جبلته فإننا نرى أن بعض الأفراد يصبر على ما يرد عليه من المكاره و يتحمل من المشاق ما لا يقدر غيره على تحملها. و قد يكون بالاكتساب و المصابرة، و هذا أفضل من القسم الأول، و هو موضوع منازل السائرين إلى اللّه تعالى في سيرهم و سلوكهم، و أهم عمادهم في التخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل و التجلية بالتخلق بأخلاق اللّه تعالى، و بقية الدرجات من الفناء و الطمس، و المحو، و المحق و غيرها مما شرحه أهل الفلسفة العملية و العرفاء.

كما أن الصبر عن الشيء تارة يكون مع وجود المقتضي و فقد المانع خارجا، و أخرى مع الميل النفساني و عدم المقتضي، و ثالثة مع الميل و وجود المانع، و تختلف مراتب فضل الصبر باختلاف هذه المراتب.

و للصبر أنواع و أفراد كثيرة كلها من الفضائل، و لكل فرد اسم خاص به، و ضد مختص به، فيسمى الصبر في الحرب شجاعة و ضده الجبن. و في المصيبة الصبر - بقول مطلق - و ضده الجزع، و في الحوادث المضجرة رحابة

ص: 217

الصدر و ضده الضجر، و في الكلام كتمانا و ضده الإذاعة و الإفشاء، و إن كان الصبر عن المفطرات سمي صوما و ضده الإفطار، و عن شهوة البطن و الفرج سمي عفة و ضده التهتك، و إن كان في كظم الغيظ و الغضب سمي حلما و يضاده التذمر، و إن كان عن حطام الدنيا سمي زهدا و ضده الحرص، و في المأكل و المشرب سمي قناعة و ضده الشره، و قد سمّى اللّه تعالى كل ذلك صبرا، و أشار إليه سبحانه في قوله: وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية:

177].

و الصبر لا يتحقق إلاّ مع عقد القلب عليه و العزيمة على الاستمرار عليه، و إلاّ فإن صرف وجود الشيء لا أثر له، و إنما الأثر يترتب على البقاء و هو يحصل بالصبر و المصابرة و الاستقامة على تحمل المكاره و لذلك كان الصبر من عزائم الأمور فقال تعالى: يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ [سورة لقمان، الآية: 17]

و عن علي (عليه السلام): «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، عوّد نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر».

ثم إنّ الصبر تارة: يكون بتوفيق من اللّه و للتقرب اليه، و في مرضاته كصبر الأنبياء و المرسلين و لا سيما سيدهم (صلّى اللّه عليه و آله)، و هذه أعلى درجات الصبر، و يترتب عليه الثواب العظيم المعد للصابرين، و أخرى: يكون بتوفيقه تعالى، و ليس للّه تعالى. بل لأجل أغراض صحيحة أخرى، و ثالثة: لا يكون بتوفيقه أيضا و إن كان لأجل أغراض صحيحة أخرى و الغفلة عنه عزّ و جل، و الثواب يتحقق في الجميع لأن الصبر بنفسه محبوب له تعالى.

و ربما يكون اختلاف الثواب و الجزاء عليه في القرآن الكريم لأجل اختلاف درجات الصبر، فهو تعالى يخبر تارة: بأنه: يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 146]، و محبته تعالى لشيء من أعلى المقامات و أجلها، و أنه مع الصابرين، فقال تعالى: إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ [سورة الأنفال، الآية: 46]، و أنه بشر الصابرين، فقال تعالى: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ

ص: 218

[سورة البقرة، الآية: 155]. و أنه خير لهم، فقال تعالى: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ [سورة النحل، الآية: 126].

و أخرى: يخبر بأن لهم الثواب الجزيل قال تعالى فيهم: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة، الآية: 157].

و يخبر ثالثة بمضاعفة الأجر لهم، قال تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [سورة القصص، الآية: 54].

و رابعة: أنّ لهم الأجر بلا حساب، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة الزمر، الآية: 10]،

و عن الصادق (عليه السلام) قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إني لأصبر من غلامي هذا، و من أهلي على ما هو أمر من الحنظل، إنه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم و درجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلّى اللّه عليه و آله)».

و الصبر من الصفات ذات الإضافة، فإذا لوحظ بالنسبة إليه تبارك و تعالى يكون محبوبه و مورد بشارته، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الصابر يكون من جهات كماله و مكرمة له، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الاجتماع يكون مورد التحبب و التودد و العناية. و هو في كل شيء بحسبه بشرط أن لا يصل إلى مرتبة يقبح الصبر فيها شرعا أو عرفا و عقلا، و إلاّ فلا يكون صبرا مرغوبا، كالصبر على هتك العرض، أو المال، أو النفس و هو قادر على دفع المظالم. و عليه ينقسم الصبر حسب الأحكام التكليفية الخمسة.

و قد ورد في الشرع موارد يستحب التعجيل فيها،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خير الخير ما كان عاجله»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «عجلوا بموتاكم إلى مضاجعهم»، و في نصوص كثيرة التعجيل في تزويج الأبكار بالكفؤ؛ و التعجيل بإتيان الصّلاة في أول وقتها، إلى غير ذلك من الموارد التي تستحب العجلة فيها.

ثم إنّ في الصبر عن الشهوات النفسانية فضلا كبيرا،

فعن الباقر

ص: 219

(عليه السلام): «الصبر صبران، صبر على البلاء حسن جميل و أفضل الصبر الورع عن محارم اللّه» سواء أ كان الصبر فيها مع تهيئة أسبابها، أو مع إمكان التهيئة، أو مع عدمهما معا، و الصبر عنها يدور مدار زوال حب النفس و الهوى و ترك متابعة الدنيا، و الأولان يرجعان في الحقيقة إلى ترك حب الدنيا، بل يدور جميع مكارم الأخلاق مدار التجنب عنها، و مذام الأخلاق مدار التقرب منها،

و قد تواتر عن نبينا الأعظم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» و علامة تقوية الصبر و تضعيف حب الدنيا هي كثرة التفكر في الدنيا و فنائها و انها أقوى الحجب عن الوصول إلى المعنويات، بل أصل الحجب الظلمانية عن المعارف الربوبية، و الأخلاق الإلهية.

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (47) وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي ن

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (47) وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) كرر سبحانه و تعالى تذكيرهم بالنّعم عليهم، إتماما للحجة، و إثباتا لاستحقاقهم الطعن و اللوم، فإنهم مع كثرة نعم اللّه تعالى عليهم بالغوا في الجحود بالإسلام و إنكار ما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قد اقترن في الآية السابقة الوعد بوفاء العهد لهم إن هم وفوا بعهده تعالى، و في هذه الآية قرنه سبحانه بالخوف عن عذاب الآخرة، فجمع سبحانه بين الرجاء و الخوف.

التفسير

قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ . تقدم معناه، و هو تأكيد لما سبق و تمهيد لما يأتي، و مثل هذه الآيات تدل على وجوب شكر المنعم، و تحقق العصيان في كفران النعمة و كتمانها، و خصوصية المورد لا توجب تخصيص الحكم العام، فإن القرآن:

«نزل على طريقة إياك أعني و اسمعي يا جارة». كما قال علي (عليه السلام).

قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ . ذكّرهم سبحانه بهذه

ص: 220

النعمة بالخصوص لينبههم على أنهم أولى بالإيمان بالإسلام. و العالمين و إن كان مطلقا، و لكن يراد به خصوص عالمهم فإنّه فضّلهم على غيرهم بكثرة الأنبياء منهم، و كثرة المعجزات فيهم و نزول التوراة عليهم، و لكن ذلك لا يمنع أفضلية غيرهم عليهم، فإن الأدلة العقلية و النقلية دلت على أفضلية خاتم الأنبياء على جميعهم و أفضلية أمته على سائر الأمم، إذ السير التكاملي في كل شيء خصوصا في البشر يقتضي فضيلة الأمة اللاحقة على السابقة، و لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ [سورة آل عمران، الآية: 110] و السنّة المستفيضة الدالة على ذلك، و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً . أي: و اخشوا ذلك اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب، فتكون نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [سورة لقمان، الآية: 33]، فيكون سياق هذه الآيات سياق القضايا المنتفية بانتفاء الموضوع. و العوالم الاستكمالية التي ترد على الإنسان أنواعها على قسمين:

الأول - ما يكون الاستكمال و الكمال فيه فرديا فقط، من دون دخل للأسباب الاختيارية فيه، كالعوالم التي ترد على الإنسان قبل وروده إلى الدنيا - كالنطفة، و العلقة، و المضغة، و الجنين في عالم الرحم - فهو يسير فيه بالسير الطبيعي منفردا، قال تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام، الآية: 94].

الثاني: ما يكون اختياريا بجميع أطوارها - من جمعها، و كثرتها و قلتها، و فقدانها - دخل في الاستكمال و الكمال، فيكون دار الأسباب من جميع الجهات، و قد جرى علم اللّه تعالى الأزلي و قضاؤه و قدره في ذلك

«و أبى اللّه أن لا يجري الأمور إلاّ بأسبابها» كما في الحديث فكم من شجاع يغلب غيره بسلاحه، و كم من صانع يقهر غيره بصنعه إلى غير ذلك مما لا يحصى.

و يختلف عالم الآخرة عن ما يتقدمه من العوالم بوجهين:

ص: 221

الأول: أنّ الكمال في الآخرة و عدمه فردي فقط، فصاحب العمل الصالح له مقام خاص به يختلف باختلاف مراتب العمل من دون أن يكون في البين تسبب أسباب، و تهيئة أمور فيها، لكونهما في الدنيا، و يظهر أثرها في الآخرة.

الثاني: أنّ فيها تنحصر الملكية و المالكية و الملك في اللّه تعالى فلا ملك إلاّ له، و لا مالك إلاّ هو، و لا ملك إلاّ و هو قائم به عزّ و جل فتنقطع بذلك الأسباب و المسببات الاختيارية و غيرها، بل هو تعالى كذلك في جميع العوالم، إلاّ أنه جرت إرادته الكاملة على تسبب الأسباب الظاهرية، ليجري النظام الأحسن على أكمل الوجه، و أتم الحكمة. نعم باب الشفاعة مفتوح، لكنه محدود بحدود خاصة، كما ستعرف فلا حكم إلاّ حكمه و لا ملك إلاّ ملكه، فقياس الآخرة على الدنيا كما تراه بعض الأمم - منهم اليهود - حيث يتوهمون دفع المكروه و العذاب عن النفس بالفداء، أو الشفاعة، أو مناصرة بعض له، أو دفن بعض الأثاث لينتفع بها في مهماته الأخروية كما كان ينتفع بها في الدنيا، كل ذلك باطل، فإن في الآخرة تنقطع الأسباب إلاّ سبب واحد و هو العمل الصالح في الدنيا، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 88].

(إن قيل): تدل الأخبار الكثيرة على أنه يلحق بالميت كل خير يهدى اليه من دار الدنيا حتّى أنه قد يكون في ضيق فيوسع اللّه عليه بذلك كما يأتي.

(قلت): فرق واضح بينهما، فإن ما يلحق بالميت من الصدقات و الخيرات إنما يصرف في سبيل اللّه تعالى فيصل ثوابها اليه لا محالة لا أن ينتقل نفس المال إلى الميت، و دفن المال و السلاح لا يستفيد منه الميت على فرض أن اللّه تعالى يعيده في الآخرة.

نعم، ورد في بعض الروايات أن الشهيد يدفن بثيابه و لا ينتزع منه شيء،

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في شهداء بدر: «زمّلوهم بدمائهم فإنهم يبعثون معها يوم القيامة» و ذلك لأنه رمز الحياة الأبدية و النعمة السرمدية فلا تزال تبقى معه أبدا.

ص: 222

فالأقسام المتصورة في عمل الإنسان في الدنيا و الآخرة أربعة:

الأول: تأثير عمل كل فرد يعمله في الدنيا لنفسه في الآخرة - إن خيرا فخير، و إن شرا فشر - و هذا كثير، و هو الذي تدل عليه الكتب السماوية، و يكون المناط عليه في المعاد.

الثاني: تأثير عمل الشخص في الآخرة لنفسه فيها. و هذا غير صحيح كما عرفت، فإن الآخرة دار الجزاء، لا دار الأعمال إلاّ ما ورد بالنسبة إلى بعض الأعمال،

ففي الحديث: أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: «اقرأ و ارق»، بناء على أن قرائته للقرآن سبب لارتقاء درجاته فيها، و ما

ورد في من مات في حال تعلمه للقرآن فإنه «يبعث اللّه تعالى من يعلّمه القرآن في قبره».

الثالث: أن يؤثر عمل شخص في الدنيا لشخص في الآخرة و هو كثير، و قد دلت الأدلة الكثيرة على انتفاع الأموات بما يهدي إليهم الأحياء من الخيرات و التبرعات و لا سيما الأرحام فيهم حتّى

ورد أنه: «ربما يكون في ضيق فيوسع اللّه تعالى عليه بذلك الخير الذي يوصل اليه من الدنيا» خصوصا إذا كان بتسبب من نفس الميت،

ففي الحديث المعروف بين الفريقين: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، و مصحف يقرأ فيه، و ولد صالح يستغفر له».

الرابع: تأثير دعاء الميت لأحد في دار الدنيا، و هذا القسم أيضا واقع،

و قد ورد في الأولاد: «أنّ الولد ربما يكون بارا لوالديه و يصير عاقا بعد موته». فيدعو الميت على الولد في عالم البرزخ فيصير بها عاقا. هذا إجمال الأقسام و يأتي تفصيلها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

و الحاصل: أنّ ارتباط العوالم بعضها مع بعض ثابت عقلا و نقلا و إن كان خصوصيات هذا الارتباط غير معلومة إلاّ لعلام الغيوب، و قد يفيض اللّه تعالى لمعة من إشراقاته الى بعض أوليائه فيتعلم أسرار التكوين بقدر ما يفاض عليه من المبدأ الفياض و يستفيض من فيض وجوده حتّى مراتب الانبساط و الانقباض.

ص: 223

قوله تعالى: وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ . لأنّ أصل الشفاعة منوطة بإذن اللّه تعالى، و قبولها إنما يكون منه تعالى، قال عزّ و جل: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ [سورة طه، الآية: 109]، لأن جميع موجبات الشفاعة التي فصلت في الكتاب و السنة الشريفة من مظاهر إرادته و رضاه. فيظهر التوحيد العملي حينئذ بجميع مظاهره و شؤونه و يضمحل الشرك بجميع معانيه. و لا منافاة بين نفي الشفاعة في مورد و إثباتها في آخر لأن في القيامة مواقف، و عقبات، و حالات، و يأتي البحث عن الشفاعة في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [سورة البقرة، الآية: 255].

قوله تعالى: وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ . العدل: بمعنى الاستواء و المماثلة و يختلف باختلاف الجهات، فيقال: هذا عادل: أي: متشبث بدينه. و هذا عدله أي مثله في جهة من الجهات، سواء من جنسه أو من غير جنسه، و قد يفترق بفتح العين في الأول و كسره في الثاني قال تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [سورة المائدة، الآية: 95] أي ما يساويه في جهة التكليف،

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «بالعدل قامت السموات و الأرض» أي بالتساوي في الجهات التكوينية التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى و الجهات الاختيارية التي أمر اللّه تعالى بها عباده.

و المراد بالعدل هنا الفدية، قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ اَلنّارُ [سورة الحديد، الآية: 15] أي لا فداء من أحد لأحد يوم القيامة إن استطاع أن يأتي بالفدية، و كذا لا توبة هناك، قال تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً [سورة الفرقان، الآية: 19] و الصرف هو التوبة.

قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ . النصرة بمعنى المعونة و التقوية أي: لا أحد يمنعهم من العذاب، لأن النصرة منحصرة باللّه تعالى و بالعمل الصالح و هما خالصان للمؤمنين، لانقطاع النصرة عن جميع الممكنات و انحصارها في الواجب بالذات، قال تعالى: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم، الآية: 47] و من بعد عنه تعالى فقد حرم نفسه عن

ص: 224

نصرته مطلقا، قال تعالى: وَ ما لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [سورة التوبة، الآية: 74]، و قال تعالى: ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [سورة الشورى، الآية: 8].

و بعبارة أخرى: إنّ النصرة متوقفة على القدرة عليها و لا قدرة كذلك إلاّ للّه تعالى في ذلك اليوم.

و هذه الآيات رد على مزاعم اليهود من أنهم أحباء اللّه تعالى، و أنهم شعبه المختار و أبناؤه، و أنّ اللّه تعالى يشفع لنا يوم القيامة و ينصرنا من العذاب، فنفى اللّه عنهم ذلك قال تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [سورة المائدة، الآية: 18].

بحث روائي:

في تفسير العسكري في قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ أي فعلته بأسلافكم فضلتهم دينا و دنيا».

أقول: سيأتي بيان ذلك.

و في تفسير القمي في قوله تعالى في ما تقدم من الآية «و إنما فضلهم على عالمي زمانهم بأشياء خصهم».

و عن ابن بابويه «قيل لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): ما العدل؟ قال: الفدية. قيل: ما الصرف يا رسول اللّه؟ قال: (صلّى اللّه عليه و آله): التوبة».

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ ر

اشارة

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ اَلْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى بعض نعمه العامة على بني إسرائيل مقرونا ببيان بعض إرشاداته لهم ذكر سبحانه في هذه الآيات المباركة جملة من نعمه

اشارة

ص: 225

الخاصة - منا عليهم - و لا ريب في أن ذلك من موجبات الرغبة لو كان المنعم عليه من أهل الرغبة إلى نعم اللّه تعالى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ . مادة (ن ج و) تدل على الانفصال و الانقطاع عن الشيء و الخلاص منه. و قد استعملت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة جامعها يرجع إلى ما ذكرناه.

و الآل و الأهل بمعنى واحد إلاّ أن الأول أخص من الثاني، لأنه لا يضاف إلاّ لذوي القدر و الشرف، بخلاف الثاني فإنه يضاف إلى كل شيء وضيعا كان أو شريفا، زمانا كان أو مكانا أو شيئا آخر. و الجامع القريب بينهما هو الرجوع، فآل الرجل من يرجع إليه في قرابة، أو رأي، أو نحو ذلك.

و فرعون لقب كان يطلق على كل من ملك مصر - كقيصر لملك الروم، و تبّع لملك اليمن، و خاقان لملك الترك، و كسرى لملك الفرس - و فرعون كلمة غير عربية مركبة من لفظين مصريين (ير) و (عون): أي البيت الأعظم، فصارت علما لملوك مصر قبل الميلاد بأكثر من ألف سنة، و هو مثل (الباب العالي) المستعمل في سلاطين آل عثمان، و قد ورد هذا اللفظ في الكتب المقدسة كثيرا، كما ورد في القرآن العظيم في ما يزيد على سبعين موضعا، و قد ضبط التاريخ أسماءهم و صفاتهم، و أعمالهم إلى أن ذهب اللّه تعالى بهم، كما قال عزّ و جل: وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف، الآية: 137].

قوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ . السوم هنا الكلفة و المشقة، فسامه أي: كلفه. و سوء العذاب؛ أي أشقه و أذله و المعنى: أنّهم كانوا يذيقونكم كل ما يتصورون من المشاق و المتاعب الشديدة.

و قد وصف سبحانه و تعالى هذا العذاب تارة: بالبلاء العظيم فقال جلّ شأنه: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة

ص: 226

الأعراف، الآية: 141]. و أخرى: بالعذاب المهين، فقال تعالى: وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ [سورة الدخان، الآية: 30]،

و شرحه علي (عليه السلام) في خطبته فقال:

«فاعتبروا بحال ولد إسماعيل، و بني إسحاق، و بني إسرائيل (عليه السلام) فما أشد اعتدال الأحوال و أقرب اشتباه الأمثال تأملوا أمرهم في حال تشتتهم و تفرقهم ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم يجتازونهم عن ريف الآفاق، و بحر العراق، و خضرة الدنيا إلى منابت الشيح، و مهافي الريح، و نكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر أذل الأمم دارا، و أجدبهم قرارا لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، و لا ظل ألفة يعتمدون على غيرها، فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرقة، في بلاء أزل (أي شدة) و إطباق جهل».

ثم بين سبحانه بعض ذلك العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ .

الاستحياء الاستبقاء،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في وقعة بدر «اقتلوا المشركين و استحيوا شراخهم» أو «شرخهم»، أي شبابهم الذين ينتفع بهم في الخدمة يعني: أنهم كانوا يقتلون الذكور، و يستبقون النساء، و كان قصدهم من ذلك إذلالهم و إبادتهم بقطع نسلهم، أو إبقاء النساء للانتفاع بهنّ بكل ما أمكن من أنحاء الاستمتاعات. و أدب القرآن اقتضى التعبير بلفظ جامع و إلاّ لأحد لظلم هذا المتجبر المدعي للألوهية المتسلط على بني نوعه، و قد قال تعالى عن ظلم فرعون و جبروته في آية أخرى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ [سورة القصص، الآية: 4] و من ذلك يعلم أنه لا وجه لحصر بعض المفسرين ظلمه في شيء محسوس.

و إنّما ذكر تعالى النساء بدل البنات في مقابل الأبناء للتغليب و مجاز المشارفة، و قد يقال: إن معنى استحياء النساء أي يطلبون فروجهنّ لأن الحياء الفرج. و فيه: أن الحياء بهذا الإطلاق يختص بالفرج من ذوات الخف

ص: 227

و الظلف - كما صرح به ابن الأثير - فلا يشمل الإنسان.

و لكن كل ما قيل من هذه الاحتمالات في قصة فرعون و بني إسرائيل يناسب ما نسب إليهم من السيئات.

قوله تعالى: وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ . البلاء الإختيار و الامتحان، و يستعمل في الخير و الشر، قال سبحانه: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: 35]، و قال تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ اَلْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [سورة محمد، الآية: 31]، فهو إما إنعام أو انتقام، و ربما يكون إنعاما لقوم، و انتقاما من آخرين و هو كثير في سنة اللّه الجارية في هذا العالم، و لذا عبّر تبارك و تعالى بكلمة (ربكم) لأن الربوبية العظمى تقتضي ذلك.

قوله تعالى: وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ اَلْبَحْرَ . الفرق و الفلق هو الانفراج، و لكن الأول مع الفصل، و الثاني مع الإنشقاق. و فرق البحر انفصال بعضه عن بعض مع بقاء الجسم السيال على سيلانه، و هو من أعظم المعجزات لموسى (عليه السلام) كما شرحه اللّه تبارك و تعالى بقوله جلّ شأنه: فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ [سورة الشعراء، الآية: 63] و الطود هو الجبل.

و البحر هو الاتساع و الانبساط، و منه سمي البحر بحرا، و هو من الموضوعات الإضافية التشكيكية، فالبحر المحيط بالدنيا بحر، و دجلة و الفرات أيضا بحر بالنسبة إلى السواقي، و المراد به هنا هو بحر القلزم [البحر الأحمر] على المعروف.

و الباء في قوله تعالى: بِكُمُ اَلْبَحْرَ للسببية، لأن عبورهم في البحر بإعجاز منه جل شأنه صار سببا لفرق البحر، فلا تنافي بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ [سورة الشعراء، الآية: 63] لأنه أيضا سبب منه تبارك و تعالى ظهر في عصا موسى، فهم كانوا السبب الغائي لفرق البحر، و العصا كانت بمنزلة السبب الفاعلي، و الكل منه تبارك و تعالى.

ص: 228

و أما احتمال أن فرق البحر و هذه الآيات الباهرة كانت من مجرد مجاري الطبيعة من المد و الجزر و نحوهما، كما عن بعض المفسرين المنكر للمعجزات و خوارق العادات. فهو ساقط مطلقا، لكونه مخالفا لنص الآيات القرآنية، و ما ذكر مفصلا في التوراة، كما لا يخفى على من راجعها.

قوله تعالى: فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ . النجاة هي الانفصال و الخلاص، و استعمل هنا في مقابل الغرق. و أصل الغرق هو التجاوز عن الحد المعتبر في الشيء و غالب استعمالاته في القرآن إنما هو بالنسبة إلى فرعون و آله، و قوم نوح؛ و الأول إضافي، و الثاني كلي عالمي؛ و النظر: هو الإقبال إلى الشيء فإن كان بالقلب يسمى فكرا و اعتبارا، و ان كان بالعين يسمى نظرا و رؤية، و إن كان باليد سمي لمسا إلى غير ذلك من مصاديق معنى الإقبال و التوجه بالمعنى العام.

و إنما ذكر تعالى آل فرعون و لم يذكر غرق نفسه، لأن المراد من الآية هو استيصالهم رأسا فيشمل غرق نفسه أيضا، مع أن ذكره في آيات أخرى يغني عن ذكره هنا، قال تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ [سورة يونس، الآية: 90].

و إنما ذكر سبحانه و تعالى (النظر) لأنه بالنسبة إلى هلاك العدو و غرقه سرور عظيم لبني إسرائيل فتكون النعمة عليهم أتم و أعظم.

و في هذه الآيات المباركة اعتبار عجيب لمن اعتبر، فإن فرعون افتخر بملك مصر، و جريان الأنهار من تحته فأغرقه تعالى و أهلكه في ما افتخر به، و هذه هي سنة اللّه تعالى في كل من غفل عنه و جعل همه في غيره جل شأنه،

قال تعالى: «و عزتي و جلالي و علو شأني، و ارتفاع مكاني لأقطعن أمل كل مؤمل غيري، و لأكسونه ثوب المذلة و الأياس».

بحث اجتماعي:

ثم إنّ هنا بحثا اجتماعيا، و حاصله أنه يمكن إرجاع كل اختلاف واقع بين أفراد الإنسان - و منه الاختلاف بين بني إسرائيل و قوم فرعون - إلى أحد

ص: 229

أمور:

الأول: السبب الاجتماعي، كالاختلاف في العادات و التقاليد و الأخلاق و الحضارات.

الثاني: السبب الاقتصادي، فإن الاختلاف في مراتب الغنى و الفقر يوجب التعاند و التنازع بين أفرادها.

الثالث: السبب العقائدي، فإن لكل قوم دينا و معتقدا يغائر ما لقوم آخرين و كل يريد بسط عقيدته على الآخرين. و هناك بعض الأسباب الخفية - شخصية أو نوعية - لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى. و جميع هذه الأسباب من أطوار المجتمع البشري التي أشار إليها تعالى في قوله: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [سورة نوح، الآية: 14] فجعل جل شأنه ذلك من أبرز علامات وجوده و أظهر آيات ثبوته. و هذه الأسباب جميعها اجتمعت بالنسبة إلى بني إسرائيل و الطواغيت الفرعونية، فإن بني إسرائيل كانوا مقهورين تحت ظلم الفراعنة و عبيدا لهم.

بحث تاريخي:

تعبر التوراة عن الإسرائيليين ب (العبريين) و ترجع كلمة (عبري) إلى عهد إبراهيم الخليل (عليه السلام)، فقد أطلق الكنعانيون هذه التسمية على إبراهيم، ثم اتسعت فشملت جميع أسرته فصاروا يعرفون بالعبريين.

و غير خفي أن هذه التسمية لم تكن تختص باليهود، بل كانت تطلق على القبائل التي عبرت الأنهار إلى أرض كنعان، فالعبريون هم الأقوام الدخيلة على الكنعانيين الذين كانوا في حرب معهم و لأجل ذلك لم يرد في القرآن الكريم اطلاق العبريين على اليهود.

و قد عاش هؤلاء مع الكنعانيين زمنا طويلا و أخذوا من الأخيرة عاداتهم و تقاليدهم حتّى كانوا لا يختلفون عنهم كثيرا إلاّ في العقيدة فإنهم كانوا يعبدون الإله الواحد دون الأصنام، بخلاف الكنعانيين و لم يمض من الوقت كثير حتّى أصبح العبريون قبيلة كبيرة يمتهنون الرعي ينتقلون من مكان إلى

ص: 230

مكان يبحثون عن المراعي الخصبة حتّى حل الجدب و المجاعة في أرض كنعان و ما جاورها، فكان لا بد لهم من الهجرة إلى مصر التي عرفت بوفور نعمها و كثرة مياهها، و لم تكن مصر غريبة عنهم فقد دخلها أبوهم إبراهيم من قبل.

و أول من دخل مصر من بني إسرائيل هو يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) و انضم اليه إخوته و عشيرته كما بيّن سبحانه و تعالى قصتهم في سورة يوسف. و عاشوا فيها زمنا طويلا، فتكاثر نسلهم و ازداد عددهم عاما بعد عام. و المذكور في التوراة أنّ ذرية هذه الجماعة هي التي خرجت من مصر بعد مرور أكثر من أربعة قرون بسبب اضطهاد فرعون و قومه لهم.

و الإسرائيليون في مصر كانوا في عزلة تامة عن المصريين لا يختلطون معهم، و لذلك لم يتعرض لهم المصريون بسوء حتّى ازداد نسلهم و كثرت أموالهم فأصبحوا مصدر قلق لملوك مصر و اشتد هذا القلق في عهد رمسيس (1300-1233 قبل الميلاد) الذي يعد من أعظم الفراعنة قدرة و منعة، فقد تغلب على أعداء مصر و جلب منهم عددا كبيرا إليها، و أسرف في البناء فكان من نتائجه أن نصف ما بقي من العمائر المصرية تعزى إلى أيام حكمه، و راجت التجارة في عهده و ازدادت ثروة المصريين، و قد أظهر العداء لبني إسرائيل و كان لذلك أسباب عديدة كان من أهمها أنهم عرفوا بخيانتهم للعهد و الإفساد لدى المصريين و كان ذلك نتيجة انعزالهم و ابتعادهم عنهم و امتناعهم عن قبول عقيدتهم.

و قد نقل التاريخ أنّ هذا الملك جمع قومه و سألهم عما يفعله ببني إسرائيل فنصحوه باستعبادهم حتّى يتغيروا عما هم عليه، فإن للعبودية أثرا كبيرا في إذلال النفس و تغييرها. و قد أخذ بنصيحتهم فاستعبدهم إلاّ أنه لم يتحقق له ما يريده، و استبطأ أثر الاستدلال فعمل على انقراضهم حتّى نمى اليه أنهم يريدون التآمر عليه فازداد قسوة عليهم فأذلهم و سخرهم في الأعمال الشاقة كالبناء و حصرهم في ساحات العمل و وكل بهم من يتبعهم حتّى لا يجدوا فسحة للراحة، فقد عانوا من هذا الوضع أشد العذاب و انتشرت فيهم

ص: 231

الأوبئة و الأمراض، و لكنه لم يكتف بذلك لما رأى ازدياد نسلهم فسنّ قانونا يقضي بقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل و استبقاء نسائهم،

كما ورد في الحديث أيضا: «إنّ فرعون لما بلغه أنّ بني إسرائيل يقولون يولد فينا رجل يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده كان يقتل أولادهم الذكور، و يدع الإناث» و كان قصده من ذلك تزويج المصريين بهنّ و نقض كيانهم المستقل بانقراضهم، أو أن يفعل بهنّ ما يشاء لاذهاب حيائهنّ كما حكى عنه عزّ و جل في القرآن العظيم، و كان موسى (عليه السلام) من مواليد هذا العهد فبعثه اللّه تعالى نبيا إلى فرعون و قومه يدعوهم إلى الإيمان و إطلاق الإسرائيليين ليعبدوا إلههم فأبى و لم يستجب له كما قال تعالى: وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ [سورة الأعراف: الآية: 104-105].

و لكن فرعون شدد عليهم الأمر فازداد ظلمه بهم، و يشير إلى ذلك ما ورد في سفر الخروج من التوراة: إن اللّه تعالى انبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل، و يزيد النكال بهم، و قد تبرم بنو إسرائيل من هذا الوضع الجديد، كما قال تعالى: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا [سورة الأعراف، الآية: 129] فتهيأ موسى للخروج من مصر.

و قد قيل في سبب الخروج أمور كثيرة، فقيل: إن فرعون أذن لهم بالخروج بعد أن شكى قومه إليه من الوباء المتفشي بينهم، ثم ندم فرعون على ذلك فأتبعهم - و قيل إن موسى أمر نساء بني إسرائيل أن يأخذن حلي نساء القبط، كما ورد في التوراة فأمرهم بالخروج فأتبعهم فرعون.

و كيف كان فقد سار بهم موسى حين بلغ ساحل البحر الأحمر عند خليج السويس، و لكن فرعون اتبعهم حتّى طلع عليهم عند شروق الشمس فأيقن بنو إسرائيل بالهلاك، قال تعالى: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [سورة الشعراء، الآية: 60] و قاد موسى جيشه و عبر بهم إلى الشاطئ الشرقي بعد أن ضرب بعصاه البحر فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ [سورة

ص: 232

الشعراء، الآية: 63] و أبى فرعون إلاّ متابعتهم فعند ما توسط البحر هو و جنوده انطبق عليهم البحر فغرقوا جميعا و خرجت جثة فرعون لتكون لمن بعده عبرة، كما حكى تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [سورة يونس، الآية: 92] و هي محفوظة إلى الآن في مقبرة الفراعنة (الأهرام) في المتحف المصري. و كان خروجهم من مصر حوالي سنة 1213 قبل الميلاد - بعد أن أقاموا فيها من عهد يوسف 430 - في شهر أبيب [الشهر الحادي عشر من السنة القبطية] كما هو المذكور في التوراة.

و كان بنو إسرائيل الذين انطلقوا مع موسى جيشا كبيرا، و قد ذكر في التوراة أن عددهم كان يقارب 600/000 نسمة - و إن كان في هذا العدد شيء من المبالغة.

و قد اختلف المؤرخون في فرعون الذي خرج في عهده الإسرائيليون فقيل: إنه رمسيس الثاني، و قيل: إنه منفتاح. و الصحيح أنّ عهد الاضطهاد كان في ملك رمسيس الثاني، و عهد الخروج كان في ملك منفتاح، و سيأتي بقية قصصهم في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِك

اشارة

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ اَلْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (54) هذه الآيات كسابقتها في مقام تعداد النّعم على بني إسرائيل و هي تشتمل على نزول التوراة التي هي من أعظم النّعم عليهم، لأنها من أهم الكتب السماوية بعد القرآن و ان قوبلت منهم بالرد و الكفران، و عبادة العجل.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً .

الوعد: معروف، و قد استعملت مادة (و ع د) بجميع هيئاتها في القرآن

ص: 233

الكريم، و تستعمل في الخير تارة: و هو كثير، قال تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ [سورة المائدة، الآية: 9] و قال تعالى: وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى [سورة النساء، الآية: 95]. و في الشر أخرى: كقوله تعالى: اَلنّارُ وَعَدَهَا اَللّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ [سورة الحج، الآية: 72]. و فيهما معا ثالثة: كقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ [سورة فاطر، الآية: 5].

و الإيعاد و الوعيد يستعملان في الشر، قال تعالى: وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [سورة ق، الآية: 28]، و قال تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [سورة ق، الآية: 14]. و خلف الوعد بالخير قبيح و لكن لا قبح في خلف الوعيد.

و المعروف بين الأدباء و تبعهم المفسرون ان كل واحد من الوعد و خلفه خير يتصف بالصدق و الكذب و هو بالنسبة إلى خلف الوعد باطل، لأنه من مقولة الفعل و العمل لا من مقولة اللفظ و القول إلاّ أن يريدوا الإلحاق الحكمي لا الموضوعي. و كذا بالنسبة إلى نفس الوعد فإنه قد يستعمل في مقام الإنشاء لا الإخبار.

ثم إنّ المفسرين ذكروا تبعا لأهل اللغة أنّ المواعدة من الطرفين فلا بد من قيام المصدر بهما، و قد ذكرنا في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ [سورة البقرة، الآية: 9] أنّ أصل المفاعلة لا تدل إلاّ لإنهاء المصدر إلى الغير سواء قام الغير بهذا الفعل أو لا، و لا بد في تعيين ذلك من التماس القرينة.

و لما اجتاز بنو إسرائيل البحر - كما تقدم - سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم فواعده ربه فضرب له ميقاتا، و قد ذكر الميعاد في القرآن الكريم في موارد ثلاثة هنا، و في آية 142 من سورة الأعراف، و في آية 80 من سورة طه.

و كان مكان الميعاد هو الجانب الأيمن من طور سيناء قال تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى [سورة طه، الآية: 80].

ص: 234

و أما زمان الميعاد فهو ذو القعدة و العشرة الأولى من ذي الحجة كما يستفاد ذلك من الروايات الواردة على ما يأتي، و يقتضيه الإعتبار أيضا، لأنه زمان قبول توبة آدم (عليه السلام)، و من أشهر الحج و من أشهر الحرم، و زمان ورود وفد اللّه تعالى من أطراف الأرض الى المواقيت المكانية فاتحد الميقاتان: المكاني، و الزماني، و هما مقام تجلي عظمة اللّه تعالى لأمة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) كما تجلى لموسى بن عمران، و قد أدرك (عليه السلام) الميقاتين أحدهما جانب الطور الأيمن و ثانيهما

ما حكاه أبو جعفر الباقر (عليه السلام): «أحرم موسى من رملة، و مر بصفائح الروحاء محرما يقود ناقته بخطام من ليف عليه عباءتان تطوانيتان يلبّي و تجيبه الجبال».

و الأربعون هي مجموع المدة، و يمكن أن يكون في أصل التشريع ثلاثين ليلة فزيد عليه إتمام العشرة، لأن أفعاله جلّت عظمته تتغير بتغير المصالح و المقتضيات، و لذلك تقع مورد البداء و النسخ، كما يأتي تفصيله، و يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف، الآية: 142] فذكر تعالى هنا الأربعين باعتبار مجموع الوعدين.

و كانت الغاية المطلوبة من هذا الميقات هي الانقطاع عن جميع العلائق و التوجه التام إلى رب الخلائق ليستعد بذلك للاستشراق و التجلي و تلقي المعارف و التوراة، و عن جمع كثير من العرفاء أنه قد كان لكل نبي ميقات زماني و مكاني مع ربه يختلف ذلك باختلاف حالاتهم و درجاتهم و منهم من ذكره اللّه تعالى في القرآن الكريم بإشارات مختلفة، و منهم من لم يذكره.

و إنّما خص سبحانه و تعالى الليالي بالذكر دون الأيام إما لأن الليالي أولى و اجمع للمناجاة معه جل شأنه، أو لأن الليل أسبق من اليوم لأنها غرر شهور العرب التي وضعت على سير القمر و ظهور الهلال، أو لأن الليل يشتمل تمام اليوم دون العكس.

و يمكن أن يكون ذكر الليالي لأجل بيان أن موسى (عليه السلام) كان يوصل صومه بالليل و لو اقتصر على ذكر خصوص اليوم لما أفاد هذا المعنى

ص: 235

و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): «ان موسى (عليه السلام) كان حين ذهابه إلى المناجاة يمضغ ورق شجرة و يطرحه تحرزا عن رائحة فمه حين مناجاته مع ربه، فأوحى اللّه تعالى اليه: يا موسى لخلوق فم الصائم أحب إليّ من ريح المسك».

و لكن عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) النهي عن صوم الوصال، مع

أنه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصوم صوم الوصال، فقيل له: «كيف ذلك يا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)؟! فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي فيطعمني و يسقيني ربي».

و (موسى) اسم غير عربي مركب من لفظين: [مو] و هو الماء و [شا] و هو الشجر، سمي بذلك لأن التابوت الذي وضعته أمه فيه و ألقته في البحر امتثالا لوحي اللّه تعالى إليها: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي [سورة القصص، الآية: 7] وجد عند الشجر فسمي باسم الماء و الشجر.

و عن جمع من المفسرين و اللغويين إبدال الشين بالسين المعجمة، و يشهد لهم بعض اللغات العبرية، و هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام).

و قد ورد اسمه (عليه السلام) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة و ست و ثلاثين موضعا، و شرح اللّه تعالى حالاته بالتفصيل من ولادته الى هجرته من مصر و نشر دعوته بما لم يشرح حال نبي من أنبيائه بمثل ذلك.

و أما جعل الميعاد في الأربعين فلأن الإخلاص للّه عزّ و جل في هذا المقدار من الزمان له موضوعية خاصة، و لهذا العدد آثار معينة كما يشهد به وجدان أهل الحال، و ثبت ذلك في الفلسفة العملية و علم الأخلاق،

و قد قرره نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بقوله: «من أخلص للّه أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه و أنطق بها لسانه».

و أما ذكره بعنوانين ثلاثين، و الإتمام بالعشر في آية أخرى، قال تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف، الآية: 142] فلأجل أن للعشر الأخير من الأربعين الإخلاصية آثارا خاصة لا تحصل في سائر عشراتها السابقة، و تأتي تتمة الكلام في البحث الفلسفي الأخلاقي.

ص: 236

و أما ذكره بعنوانين ثلاثين، و الإتمام بالعشر في آية أخرى، قال تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف، الآية: 142] فلأجل أن للعشر الأخير من الأربعين الإخلاصية آثارا خاصة لا تحصل في سائر عشراتها السابقة، و تأتي تتمة الكلام في البحث الفلسفي الأخلاقي.

قوله تعالى: ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ .

الاتخاذ: الافتعال و الجعل، سواء كان بمعنى عبادتهم للعجل أم جعله إلها: و العجل: ولد البقر، و إنما عبر به إما لعجلة السامري اتخاذه إلها و عبادته له، أو لعجلة موسى في إفنائه دفعا للشر؛ كما قال تعالى: لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً [سورة طه، الآية: 97] فكان جعله إلها و افناؤه بالتعجيل.

و المعنى: اتخذتم العجل إلها بعد غياب موسى عنكم، و ذهابه إلى الميعاد لأخذ التوراة، و هذا من عجيب حالهم حيث قابلوا النعمة بأقبح أنواع الخيانة للعهد و أشد أفراد الجناية على النفس، لأنهم استبدلوا التراب برب الأرباب، و ما رأوه في العجل من الخوار بالعزيز الجبار و سيأتي تفصيل قصة العجل و عبادته في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

العفو: إنما يصدق بالنسبة إلى استحقاق العقاب أيضا، و لكنه لم يصل إلى الفعلية إمهالا منه في عقوبة عباده، فلا بد و أن تشكروا على هذه النعمة، أي عدم العجلة في العقوبة حتّى تختاروا إما البقاء على الكفر أو الاهتداء فتتحقق العقوبة بالنسبة إلى الأول، دون الأخير.

قوله تعالى: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ اَلْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .

أي: اذكر نعمة أخرى لبني إسرائيل و هي من أهم النّعم، المعنوية و الظاهرية، الفردية و النوعية و هي نزول التوراة كتاب يفرق بين الحقّ و الباطل، فيه تفصيل كل شيء، و سبب للاهتداء الى الحق المبين و الصراط المستقيم، كما قال تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ اَلْفاسِقِينَ [سورة الأعراف، الآية: 145] فقد حصل من الميعاد

ص: 237

أمران: أحدهما خير الأمور، و هو من اللّه تعالى، و الثاني شر الأمور و هو عبادة العجل و كان من الشيطان، لقانون مقابلة كل حق بباطل حسب ما اقتضته المقادير الإلهية في الأمور النوعية، بل الشخصية أيضا.

و الفرقان هو ما يفرق بين الحق و الباطل. و هذا وصف لكل كتاب سماوي، و شريعة إلهية، قال تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ [سورة آل عمران، الآية: 3]. و يمكن أن يكون المراد بالفرقان المعنى الوصفي الشامل للجميع لا خصوص المعنى العلمي للقرآن.

كما يمكن أن يراد من الفرقان هنا المعنى الجامع لكل ما يفرق بين الحق و الباطل من التوراة، و فرق البحر، و سائر الآيات و المعجزات التي فرق بها بين الحق و الباطل.

و كلمة (لعل) إذا استعملت في كلامه تعالى تكون بداعي محبته تعالى لمدخولها و رضائه و اشفاقه بالنسبة إليه، لا بمعنى الترجي الحقيقي لاستحالته بالنسبة إليه عزّ و جل، إذ كيف يتصور فيه ذلك و هو عالم الغيب و الشهادة من جميع الخصوصيات مما هو موجود و ما مضى و ما هو آت، فكل شيء حاضر لديه، و عن جمع من المفسرين أنها بمعنى «كي» التعليلية.

و في هذه الآيات المباركة تعجيب منهم فإنّه مع ظهور الآيات الكثيرة لبني إسرائيل، ليتدبروا فيها، و يعتبروا منها، و يعملوا بما أمرهم اللّه تعالى به، لكنهم قابلوا تلك بالكفران، و نقض ما أمرهم اللّه تعالى فكفروا برسالة خاتم النبيين.

و لعل السبب في ذلك يرجع إلى أمر مركوز في أنفسهم و هو انهم كانوا يتوقعون أن يكون خاتم النبيين من بني إسرائيل، لتتم لهم الحركة الدينية ابتداؤها و انتهاؤها لكن جعلها اللّه تعالى في بني إسماعيل فحصلت المعاداة الفطرية بينهم.

و على أية حال ففي هذه الآيات إشارة إلى بعدهم أيضا عن مقام الشكر و الاهتداء، لإفراطهم في اللجاجة و العصيان.

ص: 238

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ اَلْعِجْلَ . أي اذكر لبني إسرائيل ما فاله موسى لهم. و الظلم الحاصل من عبادة العجل عظيم بتمام معنى العظمة، لأنه شرك و قد وقع بعد الآيات الكثيرة الواقعة من اللّه تعالى، فكأنهم سقطوا من السماء إلى الأرض بظلمهم هذا، و من درجات المقربين إلى أسفل السافلين. و لذلك كان ظلما عظيما على أنفسهم بعد تمامية الحجة عليهم حيث صاروا كفارا جاحدين، و حكمهم شديد في شريعة التوراة و القرآن، فقول موسى (عليه السلام): «إنكم ظلمتم» إخبار لهم عن كفرهم و جحودهم و هم اعترفوا بذلك و لم يحك القرآن الاعتراض منهم على موسى (عليه السلام) في ذلك، مع بنائهم على الاعتراض و اللجاج.

و القوم اسم جمع لا واحد له من لفظه و واحده [امرؤ] و المعروف بين أهل اللغة اختصاصه بالرجال، دون النساء، قال تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [سورة الحجرات، الآية:

11]، و قال زهير:

و ما أدري و سوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء

و قد يراد من القوم النساء أيضا، لقرينة تدل عليه قال تعالى:

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ [سورة الأعراف، الآية: 59]، و قال تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [سورة الأنعام، الآية: 83] و معلوم أن الرسالة تعم الرجال و النساء.

و هو في المقام منادى مضاف حذف منه الياء و أصله يا قومي. و خطاب موسى لقومه إنما كان بأمر منه تعالى، و إنما فعل ذلك إجلالا لشأن موسى (عليه السلام)، و أن خطابه كخطاب اللّه تعالى معهم، و لا بد و ان يكون كذلك، لأن كلام النبي (عليه السلام) في جهات التشريع و تربية أمته نفس كلام المنبأ عنه و إلاّ لغي التشريع المبني على النبوءة الإلهية، فقد ورد في حق نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى » [سورة النجم، الآية: 4] و هذا الحكم يجري فى جميع أنبياء اللّه

ص: 239

تعالى كل في أمته و مورد نبوته.

قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ . البارئ مثل الخالق لفظا و معنى، لكنه أخص من الثاني من جهات ثلاث:

الأولى: اختصاصه بالإطلاق على اللّه عزّ و جل، و لا يطلق على غيره إلاّ بالعناية.

الثانية: اختصاصه في كون متعلقه الحيوان، يقال: خالق الخلق و بارئ النسمات.

الثالثة: اختصاص مورده بالأمور الدقيقة التي لا يحيط بها إلاّ علاّم الغيوب. فهو أخص من الخالق و المصور، قال تعالى: هُوَ اَللّهُ اَلْخالِقُ اَلْبارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الحشر، الآية: 24].

و البارئ من الأسماء الحسنى. و التعبير به في هذه الآية المباركة إشارة إلى نهاية جهلهم، حيث اختاروا عبادة الحيوان المعروف بالغباوة في مقابل من هو بارئ لذاته و من ذاته، و تقدم معنى التوبة في آية: 37.

قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ . بيان للتوبة، أي: ليقتل من لم يعبد العجل من عبده، و لعل التعبير ب «أنفسكم» اشارة الى ملاحظة التراحم بينهم لئلا يتسرعوا الى القتل، لأن بينهم كانت وحدة القرابة و الدين، و ليس المراد قتل الإنسان نفسه [الانتحار] كما في بعض التفاسير، بل قتل بعضهم بعضا لما قلنا من وجود الوحدة بينهم - هذا في شريعة موسى (عليه السلام)، و أما في الشريعة المقدسة السمحاء

فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما أنعم اللّه على عبده بعد الإسلام أفضل من التوبة»،

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة»، أو:

«إن الإسلام يجبّ ما قبله».

و الأمر بالقتل في الآية المباركة يتصور على وجوه:

الأول: القتل العشوائي - كالسباع الضارية التي يتكالب بعضهنّ على بعض - بلا فرق فيه بين البر، و الفاجر - أي عابد العجل - كما في جملة من

ص: 240

التفاسير؛ و هذا و إن أمكن ثبوتا، بل ورد نظيره في شمول العذاب للمذنبين و غيرهم بتركهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و لكنه بعيد عن حالتهم، فإنها كانت حالة بدائية أي أول دخولهم في شريعة موسى (عليه السلام)، فهي تقتضي الجلب و المداراة، لا الدفع و التضييق.

الثاني: نفس القسم الأول مع اقتضائهم ذلك بأنفسهم لا بإيجاب من اللّه تعالى عليهم ابتداء - فيكون الأمر تقريرا لما سألوه - و هو غير بعيد، خصوصا من الإسرائيليين الذين ينسب إليهم كل غث و سمين، كما عن جمع.

الثالث: إنّ الأمر من اللّه تعالى كان امتحانيا، كما في قضية إبراهيم خليل اللّه و ذبح ابنه إسماعيل فلم يقع قتل في البين، و إنّما وقع الاستسلام و الامتحان موقعه.

الرابع: ما تقدم منا من قتل الأبرياء لعبدة العجل، و سيأتي في البحث الروائي ذلك أيضا.

قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ . أي توبتكم بقتلكم لأنفسكم طاعة للّه، و مطهرة لكم، و كفارة لذنبكم فيرتفع العقاب الأخروي بذلك، و في تكرار لفظ البارئ اشارة إلى أنه جل شأنه يتدارك هذا القتل بلطفه و عنايته.

قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ . لأنّ ذلك مقتضى كونه بارئا و محيطا بدقائق الأمور و أسرارها و منعما عليهم، و قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ عام لجميع المذنبين و لجميع الشرائع الإلهية، فقد وردت هذه الجملة في أغلب قصص الأنبياء (عليهم السلام) بل جميعها، فيستفاد أنه لم يجعل اللّه تعالى دينا إلاّ و قرنه بقبول توبة المذنبين، و هذا هو النظام الأحسن الذي يرتضيه العقل، و يدل عليه النقل أيضا.

بقي شيء: و هو أن عبادة العجل كانت شركا باللّه تعالى، و قد قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 48]. و يمكن الجواب عنه: بأن تحمل الآية على ما إذا مات

ص: 241

مشركا، لا ما إذا تاب و ندم كما في عبدة العجل، فإنّهم بقتل أنفسهم و تسليمهم لذلك، و قبول توبتهم لم يبق موضوع للسؤال بعد ذلك لا في الدنيا و لا في الآخرة.

و ربما يقال: إن بين قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . و بين قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ تهافتا فإنه بعد عفوه تعالى عنهم لا يبقى مجال للتوبة. نقول: يؤخذ بكل منهما من جهة لا من جميع الجهات، فإن كل مجتمع يقع فيه المنكرات - أصولا أو فروعا - أو هما معا - تتحقق أصناف ثلاثة: الأول: من يردع المنكر و يحاربه.

الثاني: من يفعل المنكر و يأتي به. الثالث: من يهم بفعل المنكر و لم يفعله. و الأول في هذه القضية كان منحصرا في موسى و هارون، و الثاني من اتخذ العجل إلها، و الثالث من همّ بالاتخاذ و لم يتخذه. و الأخير مورد العفو، و الثاني مورد التوبة، و الأول هو الرادع الإلهي.

بحث روائي:

عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً قال (عليه السلام): «كان في العلم و التقدير ثلاثين ليلة، ثم بدا للّه فزاد عشرا، فتم ميقات ربه الأول و الآخر أربعين ليلة».

أقول: يأتي ما يتعلق بالنسخ و البداء تفصيلا إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير العسكري: «لما فرج اللّه عن بني إسرائيل أمره اللّه عزّ و جل أن يأتي للميعاد و يصوم ثلاثين يوما، فلما كان في آخر الأيام استاك قبل الفطر، فأوحى اللّه عزّ و جل اليه: يا موسى أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك صم عشرا أخر و لا تستك عند الإفطار، ففعل ذلك موسى، فكان وعد اللّه عزّ و جل أن يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة».

أقول: هذا نحو تحبّب و احترام بالنسبة إلى الصائم لئلا يشمئز أحد من خلوق فمه.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ : «أن موسى

ص: 242

(عليه السلام) لما خرج الى الميقات و رجع إلى قومه و قد عبدوا العجل قال لهم: «يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، فقالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ فقال لهم موسى: اغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس و معه سكين، أو حديدة، أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم متلثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا. فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كانوا عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلّى بهم موسى (عليه السلام) و صعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتّى نزل جبرائيل، فقال قل لهم يا موسى ارفعوا القتل، فقد تاب اللّه عليكم فقتل عشرة آلاف و أنزل اللّه تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ .

أقول: و قريب منه ما في تفسير العسكري، و قد وقع القتل من غير العابدين للعجل على العابدين له بأمر من موسى (عليه السلام)، و يجوز للنبي أن يوكل بعض مقدمات القتل إلى من يشاء، و كان ذلك توبة منهم. و الحصر في العدد غير حقيقي فلا ينافي الحديث الآتي.

و في الدر المنثور عن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية - قال (عليه السلام): «قالوا لموسى:

ما توبتنا؟ قال موسى (عليه السلام): يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه و أباه و ابنه و اللّه لا يبالي من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى اللّه إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم و قد غفر لمن قتل، و تيب على من بقي».

أقول: تقدم في الرواية السابقة وجه ذلك.

بحث فلسفي (عملي):

لا ريب في أنّ إفاضاته تعالى غير متناهية، و ليست هي محدودة بحد خاص، و التحديد إنما هو في المفاض عليه فإن العطيات بقدر القابليات و الإفاضات إنما هي محدودة بحدود الاستعدادات. و على هذا فإن المستفيض قد يشمله الفيض العام (مطلق الوجود) و قد يشمله الفيض الخاص، كما أنه

ص: 243

ربما يستفيد من الفيض الأخص، و الأخير يتوقف على أمور خاصة شرعية - كالرياضات و العبادات - توجب تهيئة النفس للإفاضة بالفيض الأخص، بلا فرق بين الأنبياء و المرسلين و غيرهم، فإن خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) مع أنّه من أكمل النفوس و أتمها و أقربها إلى ربّ العالمين تحصل من عباداته للّه تعالى و مجاهداته فيه جل شأنه حالات لم تكن له قبل ذلك.

و القابلية للاستفاضة إنما تحصل بانقلاع النفس عن العلائق الجسمانية و الحواجب الظلمانية، و انقطاعها إلى اللّه تعالى و تصفية مرآتها عن الغبار و محو جميع الأنداد و الأغيار، فإن لذلك الأثر العظيم في حصول الانس و تجلي القلب بأنوار القدس فيتجلى اللّه تعالى على قلبه بنور عظمته، و إليه

أشار نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «من أخلص للّه أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه و أنطق بها لسانه».

و الغرض من الميقات و الميعاد هو ذلك، و قد تقدم أنه قال جمع من العرفاء: إن لكل نبي و ولي ميقاتا مخصوصا.

و إنّما ذكر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الرواية الصباح ليلازم العبد على الصمت و السكوت إلاّ عن الحق، لأن اليوم و الصباح مظنة الخلطة مع النّاس و التكلم معهم في أمور الدنيا،

و في الحديث: «من رأيتموه سكوتا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة».

ثم إنّ للميقات و الميعاد مظاهر مختلفة فقد كان ميقات موسى في أربعين ليلة و في جانب الطور الأيمن كما عرفت، و أما مواقيت خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) فقد جعل لأمته مواقيت خمسة مكانية كمواقيت الحج و العمرة و زمانية كأشهر الحج أو هما معا فيما إذا اتفقتا معا، و هي من علامات رسالته و معجزات نبوته؛ و فيها يتبرأ كل مسلم من الشرك و الأنداد و يطرح الأغيار و الأضداد و يتهيأ تهيئة الأسير الذليل بين يدي الرب العظيم ليتجلى اللّه تعالى عليهم عشية عرفات فيحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم فكان من إحدى مظاهر تجليات اللّه تعالى لعباده يوم القيامة؛ و آخر

كلام موسى (عليه السلام) مع ربه في الميقات «سبحانك تبت إليك».

ص: 244

و أما أول كلام أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و آخر كلامهم إنما هو تبشيرات الوصول و المواجهة:

«لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك».

و يفترق ميقات موسى بن عمران عن ميقات أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أن الأول شخصي و الآخر نوعي، و أنّ الثاني كان ميقاتا قبل خلق الخلق، و لكن الأول صار ميقاتا بورود موسى (عليه السلام) اليه.

و من المواقيت أيضا لأمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) مواقيت الصلاة التي يحضرون فيها لدى اللّه تعالى في أوقات صلواتهم و توجهاتهم إليه بقلوبهم و أبدانهم كما يشير إليه

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «الصّلاة معراج المؤمن» كما أن الاعتكاف الحاصل لهم في المساجد كذلك بل اجتمع فيه الميقات الزماني و المكاني و الحالي أيضا.

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ ب

اشارة

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَ إِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى بعض نعمه على بني إسرائيل مع كفرانهم لها ذكر جل شأنه في هذه الآيات المباركة بعضها الآخر، و بيّن فيها بعض الوقائع التي وقعت عليهم أيضا، كما ذكر فيها ما ينفعهم في صلاح حالهم.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً . أي: اذكروا ما قلتم لموسى (عليه السلام) لن نصدقك حتّى نرى

ص: 245

اللّه جهرة، و هذا بيان لقصة أخرى من قصصهم و هي من أعظم مظاهر جهلهم، و كانت عقوبة هذا الجهل من أعجل العقوبات التي حلت بهم.

و الإيمان بمعنى التصديق يتعدى باللام، كما في المقام، و بالباء كما في قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ [سورة الأعراف، الآية: 123]. و الرؤية هنا الإدراك بالقوة الحسية البصرية، و تستعمل بمعنى العلم و ما يدرك في عالم الرؤيا أيضا، و الجهر معناه العلانية، و المراد به ظهور المدرك (بالفتح) معاينة في القوة الحسية إما في البصر، كقول القائل: رأيته جهارا، أو السمع كقوله تعالى: وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى [سورة طه، الآية: 7]، و أكد بالجهر للفرق بين رؤية العيان و غيرها.

قوله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ . تقدم في قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اَلصَّواعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ [سورة البقرة، الآية: 19] معنى الصاعقة، و هي النار المحرقة، قال تعالى: وَ يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [سورة الرعد، الآية: 13]، و قد يراد بها الصوت الشديد الموجب للموت، قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة الزمر، الآية: 68]، و تأتي بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ [سورة فصلت، الآية: 13].

و احتمالات الصاعقة في هذه الآية المباركة هي: إما أن تكون من العذاب الأخروي جزاء لغيّهم و لجاجهم. و فيه: أنه خلاف ما في الكتب السماوية من أن العذاب الأخروي متوقف على أمور معينة يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى، أو تكون نحو عذاب دنيوي، جزاء لعنادهم و لجاجهم. و فيه: أنه خلاف ما جرت عليه عادة اللّه تعالى من التأني و الإمهال في التعذيب و التأخير فيه إلاّ ان يخصص المقام، أو أن الصاعقة حصلت من آثار عظمته و جلاله و كبريائه جل شأنه فتكون من سنخ قوله تعالى: تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [سورة مريم، الآية: 91] فهي أمر وضعي تكويني، و تأثير الأقوال، و الأفعال غير

ص: 246

المرضية للّه تعالى في عالم التكوين يستفاد من الكتاب العزيز و السنة المستفيضة كما يأتي، بل تدل عليه الأدلة العقلية أيضا على ما يأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

و النظر فيها تقليب البصر أو البصيرة لإدراك الشيء. و استعماله في الأول أكثر عند العامة، و في الثاني أكثر عند الخاصة. و قد ورد في القرآن الكريم ما يدل على كل منهما فمن الثاني قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: 185] و من الأول قوله تعالى: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [سورة التوبة، الآية:

127] و قد استعمل في المقام بمعنى مطلق الإدراك الشامل لكل من المعنيين بحسب شعورهم و إدراكهم فيكون نحو تخويف و تشديد لما سألوه من موسى (عليه السلام).

و قصة سؤال بني إسرائيل رؤية اللّه تعالى مذكورة في التوراة، و هي أن طائفة من بني إسرائيل اعترضوا على موسى و هارون و قالوا لماذا اختصا بالكلام مع اللّه تعالى مع أنهما إنما حظيا هذه المنزلة، لكونهما من ولد إبراهيم (عليه السلام) و هذه النعمة تعم بني إسرائيل كلهم فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة فأخذهم الى خيمة العهد، و هي خيمة نصبها موسى لنفسه و أمر بتقديسها و سميت بخيمة الزمان أيضا، فانشقت الأرض و ابتلعت قسما منهم و أحرقت الناس القسم الآخر.

و لكن نقل ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه السلام): «أن بني إسرائيل قالوا لن نؤمن لك بأنّ اللّه أرسلك و كلمك حتّى نسمع كلام اللّه تعالى فاختار منهم سبعين رجلا فلما سمعوا كلام اللّه قالوا لن نؤمن بأنه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا»، و سيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.

و يستفاد من الجمع بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف، الآية: 143] أن سؤال موسى لرؤية اللّه تعالى لم يكن لنفسه و من عند نفسه، بل كان لبني إسرائيل، و لذا لم يكن مشمولا

ص: 247

للصاعقة الموجبة للموت و البعث بعده، بل قال تعالى في حقه (عليه السلام) وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 143]، و سيأتي التفصيل في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . البعث بمعنى الإثارة و الإرسال و التوجيه. و قد استعملت مادته في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و يجمع جميع هذه الاستعمالات أحد أمور ثلاثة:

أحدها: الإيجاد من العدم إلى عالم الدنيا، كقوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 31]، بناء على أنه أول غراب بعث من العدم إلى الوجود، كما هو الظاهر.

ثانيها: الإحياء بعد الإماتة، كقوله تعالى: وَ أَنَّ اَللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ [سورة الحج، الآية: 7].

ثالثها: البعث إلى المقاصد الصحيحة كبعث الرسل، قال تعالى:

وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 129].

و المعروف بين المفسرين أن الأول مختص باللّه تعالى، و يستعمل الأخيران في غيره أيضا، لأن بعض أولياء اللّه تعالى يحيي الموتى، و أما البعث في الحوائج فهو شايع عند الناس.

أقول: إن اختصاص الأول باللّه تعالى منصوص في قوله عزّ و جل لعيسى (عليه السلام): وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110] إلاّ أن يقال: إنه من تبديل الصورة، لا الإيجاد من العدم المحض.

و المراد بالبعث هنا المعنى الثاني أي بعثوا بعد الموت لعلهم يشكرون هذه النعمة عليهم، و لكنهم قابلوها بالكفران.

ص: 248

و هذه الآية المباركة دليل على مذهب الإمامية من الرجعة، و استدلوا بجملة من الآيات المباركة هذه إحداها، و يأتي تفصيل ما ذهبوا اليه إن شاء اللّه تعالى.

و في هذه الآيات إيماء إلى النهي عن التعمق في ذات اللّه جلت عظمته بل استحقاق العقاب عليه، و قد وردت عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) في النهي عن التعمق في ذاته عزّ و جل روايات كثيرة،

فعن أبي جعفر (عليه السلام): «تكلموا في خلق اللّه و لا تتكلموا في اللّه فإن الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلاّ تحيرا»،

و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى فإذا انتهى الكلام إلى اللّه تعالى فأمسكوا».

قوله تعالى: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْغَمامَ . ذكر سبحانه و تعالى بعض نعمه التي منّ بها على بني إسرائيل و هي نعمة التظليل، و ذلك أنهم لما خرجوا من مصر و أرادوا الأرض المقدسة اجتازوا صحراء لا ظل فيها و لا شجر فكان يصيبهم حر شديد فشكوا إلى موسى (عليه السلام) فأرسل اللّه تعالى إليهم الغمام لتظلّهم عن حر الشمس، كما هو مذكور في التوراة.

و الظل هو الستر و كلما يستر عن الضياء يسمى ظلا، قال تعالى في وصف أهل الجنّة: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ [سورة المرسلات، الآية:

41] و الفيء أخص منه، لاختصاص إطلاقه بما زالت عنه الشمس فقط، و ليس كل ظل هو فيئا. و الغمام هو السحاب و القطعة منه غمامة، و إنما سمي غماما، لأنها تستر السماء فيصير معنى الغمام و الظل و الستر واحدا و يفرّق بالاعتبار، و تظليل الغمام لهم إنما وقع في التيه.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى . هذه نعمة اخرى من النّعم التي منّ بها على بني إسرائيل. و المنّ هو الإحسان و الخير، و يقع تارة، بالفعل، و هو حسن و كثير في القرآن، و أخرى بالقول و هو مستقبح عند الناس إلاّ عند كفران النعمة، و لذا قالوا: «إذا كفرت النعمة حسنت المنة». و السلوى هو كلما يتسلى به الإنسان و منه التسلي في المصيبة، و فلان

ص: 249

في سلوة من العيش أي: في رغده. و الإنزال بمعنى الخلق و الإيجاد، و حيث يصدر كل منهما من مبدأ عال بكل معنى العلو يصح إطلاق الإنزال عليه، كما في قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ [سورة الحديد، الآية: 25].

و المعنى: أنزلنا عليكم الخيرات و البركات، و ما يوجب رغد العيش و يشهد لهذا التعميم ذيل الآية الشريفة كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ فإنها في مقام الامتنان.

و قد فسر المنّ بعض المفسرين بأنه مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر و ورق الشجر مائعة ثم تجمد و تجف فيجمعها الناس لأجل الاستفادة منها، و السلوى: بالسمانى و هو طائر معروف. و هذا يكون من باب التطبيق، لا بيان المعنى الحقيقي، و يأتي شرح ذلك في قصة التيه في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ . الطيب ما تستطيبه النفس، و هو من الأمور الإضافية فرب طيب يستطيبه قوم دون آخرين، و ذكر كلمة «من» في الآية الشريفة لهذه الجهة.

أي: ليأكل كل منكم ما يشاء و يستطيبه. و سياقها يدل على وفور النعم و كثرتها، و لكنهم قابلوها بالكفران و المعاصي كما أشارت إليه الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . في هذه الآية الشريفة إشارة إلى أمر وجداني و هو كل من كفر بنعمة أسديت اليه فقد ظلم نفسه، لأن ذلك سبب لانقطاع تلك النعمة و زوالها، أو يستوجب عذاب اللّه تعالى، و مما ظلموا به أنفسهم جحودهم للّه تعالى الذي هو من أعظم الظلم.

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ . مادة (ق ر ي) تأتي بمعنى الجمع فيصح إطلاقها على كل مجمع إطلاقا حقيقيا.

و روي أنّ بعض القضاة دخل على علي بن الحسين (عليه السلام) فقال (عليه السلام): «أخبرني عن قول اللّه تعالى: «وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً» ما يقول فيه علماؤكم؟ قال: يقولون إنها مكة فقال (عليه السلام) و هل رأيت سرق

ص: 250

في موضع أكثر منه بمكة؟ قال: فما هو؟ قال (عليه السلام) إنما عني الرجال.

قلت: فأين ذلك من كتاب اللّه؟ فقال (عليه السلام): ألم تسمع قول اللّه تعالى: فكأين من قرية عتت عن أمر ربها و رسله».

أقول: و على هذا لا داعي إلى الحذف و الإضمار كما عليه الأدباء و تبعهم جمع من المفسرين، لأنه مع صحة المعنى الحقيقي لا تصل النوبة إلى المجاز و الحذف.

ثم إنّ المراد بالقرية هنا مطلق المدينة، و هما و البلد نظائر لغة و إن كان قد يفرق بين القرية و البلد عرفا، فيقال: القرية للمجمع الصغير من الناس، و القصبة لما هو أكبر منها، و البلد لما هو أكبر منهما.

و لم يعين القرآن هذه القرية إلاّ أن المعروف بين المفسرين أنها كانت بيت المقدس، و هو المروي عن ابن عباس. و عن بعض أنها أريحا، و هي من حدود بيت المقدس فيرجع إلى الأول، و يشهد له قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة، الآية: 21]. و هذه نعمة أخرى منّ بها اللّه عليهم حيث أباح لهم دخول القرية بعد زوال التيه عنهم، فيكون الأمر إرشاديا لا تكليفيا و سيأتي تتمة الكلام بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً . الرغد هو السعة و الكثرة، و إطلاقه يشمل السعة في كل شيء كالرغد في أنواع النّعم و الرغد في المكان و الزمان و غير ذلك في مقابل كل ضيق يفترض.

و حيث إنّ دأب القرآن أنّ آياته المباركة يبين بعضها بعضا فلفظ الرغد و إن ذكر في هذه الآية الشريفة و لم يذكر في سورة الأعراف آية 161 و لكن إذا لا حظنا الآيتين معا يكون كأنه ذكر فيهما معا.

قوله تعالى: وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً . لما أمرهم سبحانه و تعالى بالدخول إلى القرية المقدسة بيّن لهم كيفية الدخول و آدابه، و لأجل هذا قدم قوله تعالى: وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً على قوله تعالى: وَ قُولُوا حِطَّةٌ

ص: 251

بخلاف ما ورد في سورة الأعراف.

و السجود هنا بمعنى الخضوع و الخشوع المناسب لمن يدخل الأرض المقدسة، و هو تأديب إلهي في كيفية دخول بيت المقدس، و يصح تعديه الى كل بيت من بيوت اللّه تعالى، و قد وردت في السنة المقدسة أمور كثيرة في آداب دخول المسجد الحرام و الكعبة المقدسة تعرّض لها فقهاء الفريقين في الكتب الفقهية.

و المعروف في الباب أنّها من أبواب بيت المقدس يسمى بباب حطة (باب التوبة) و يمكن أن يراد بالباب مطلق مدخل الشيء سواء كان من الأبواب المعهودة المادية أم المعنوية، أي: أبواب استكمالات النفس الإنسانية مطلقا - و إطلاق الباب على هذا المعنى شايع كثير

فقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنا مدينة العلم و علي بابها، و من أراد العلم فليأت الباب» فالأنبياء و الأوصياء و العلماء باللّه العاملون أبواب معرفة اللّه تعالى، و طرق الهداية إليه، و لا بد من الخضوع لهم لاستكمال النفوس الناقصة و هذا ما تقتضيه الفطرة فليس ما في هذه الآية المباركة أمرا خارجا عن حكم الفطرة

و عن أبي جعفر (عليه السلام): «نحن باب حطتكم» و هذا مطابق لما تقدم فباب الحطة و العلم الإلهي واحد.

و لم يعلم أن هذا الأمر في الآية المباركة كان في شرع موسى (عليه السلام) على نحو الندب كما في شرعنا أو على نحو الوجوب، و ظاهر الأمر يقتضي الأخير لو لا سياق الأدبية، و ترتب العقاب على خصوص الذين بدّلوا القول.

قوله تعالى: وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ . يعني: قولوا - عند دخولكم الباب خاشعين متواضعين للّه تعالى - اللهم حط عنا ذنوبنا بتشرفنا ببيتك، و سلكنا مسلك أهل عبادتك فإذا فعلتم ذلك بدخول الباب و التوبة نغفر لكم خطاياكم الكثيرة و قد وعدهم بمزيد الإحسان و هذا من سنته عزّ و جل، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ [سورة يونس، الآية: 26] فلا تختص الآية الكريمة بموردها، بل

ص: 252

تشمل كل من ترك ما لا يرتضيه تعالى و دخل في ما يرضاه عزّ و جل.

قوله تعالى: فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ التبديل: التغيير سواء كان في أصل المادة أم في الهيئة أم في بعض جهاتهما. و سواء كان في الإعتقاد أم في مجرد اللفظ أم فيهما معا، و تبديل ما أنزله اللّه تعالى حرام بحكم الفطرة، و قد أجمع المسلمون على عدم صحته في ما يتعلق بالشريعة الإسلامية، و منه تبديل ألفاظ القرآن الكريم و لو حرفا واحدا، فإنه لا يجوز بلا ريب و لا إشكال.

و المعنى: أنهم غيروا ما أمروا به فخالفوه و لم يتبعوه و كان لهذا التبديل مصاديق مختلفة عند اليهود فإنهم خالفوا الأمر بالاستغفار و التوبة و السجود في بيت المقدس و بدلوه إلى شيء آخر.

و للمفسرين في تعيين المبدل إليه في السجود و الحطة أقوال: فذكر بعضهم أنهم قالوا بدل «حطة» حنطة في شعرة، و قال آخر انه بهاطا، أو بحاطا، أو هطا سمهاثا إلى غير ذلك. و بدلوا الأمر بالسجود أنهم زحفوا على أستاههم، و كيف كان فقد وقع التبديل و المخالفة في ما أمروا به فشملهم العذاب، و هذا جزاء كل مستهزئ بآيات اللّه و أحكامه.

قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ . يستعمل الرجز بمعنى الاضطراب الموجب للعذاب،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الطاعون رجز عذّب به بعض الأمم»، و عن بعض اللغويين الرجز و الرجس متقاربان كالبزاق و البصاق. و الرجز (بالضم) عبادة الأوثان و هو يناسب المعنى الأول. و لم يذكر سبحانه و تعالى نوع العذاب، و إنما ذكر بعض المفسرين أنه الطاعون فمات منهم أربعة و عشرون ألفا من كبارهم و شيوخهم و بقي الأبناء فانتقل عنهم العلم و العمل فمات الكبراء و الشيوخ بالطاعون و مات الباقون بالجهل المركب الذي هو أشد من الطاعون، و إنما كرر الظالمين في الآية المباركة إما لأجل تخصيص الرجز بالظالمين، أو تعظيما للأمر و إظهار قبح ظلمهم.

قوله تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ . ابتلى اليهود بأنواع من العذاب

ص: 253

جزاء بما كانوا يفسقون بمخالفة الأوامر الإلهية، و سيأتي في سورة الأعراف تمام قصتهم إن شاء اللّه تعالى.

بحث دلالي:

يمكن أن يكون تظليل الغمام إشارة إلى مقام تجلّي صفاته المقدسة جلت عظمته لخلّص عباده، و إنزال المن و السلوى إشارة إلى المقامات الحاصلة لهم من التخلي عن الرذائل و التحلي بالفضائل. و كلوا من طيبات ما رزقناكم إشارة إلى

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «للّه في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها»، و في قوله تعالى: وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ إشارة إلى

قوله تعالى: «من دنا إليّ شبرا دنوت إليه ذراعا و من دنا إليّ ذراعا دنوت منه باعا، و من دنا إليّ باعا دنوت إليه هرولة»، و قوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْبابَ إشارة إلى باب الرضا بالقضاء الذي هو باب اللّه الأعظم، و قوله تعالى: سُجَّداً إشارة إلى ظهور التجليات من عالم الغيب. و القرآن ذو وجوه و المطلوب هو عدم الجزم بما ظهر من الاحتمال و إيكال العلم إلى العليم المتعال.

ثم إنّ ذكر حالات بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين آية من سورة البقرة، و ذكر قصصهم في القرآن الكريم، و بيان لجاجهم و عنادهم مع أنبيائهم، و تعذيبهم بأنواع العذاب لما في ذلك من التسلية للنبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بما كان يلقاه من مشركي العرب، و إيماء إلى أن من أصرّ على جهله و عناده في إنكار الحق بعد ظهوره يرى ما رآه بنو إسرائيل من العذاب، لوجود التشابه بينهما، فلا بد من العبرة بما جرى عليهم، و نبذ مساوي الأخلاق و الاهتمام بإصلاح النفوس فإن اللّه تعالى لم يحك لنا قصص الماضين إلاّ للاعتبار بها.

بحث روائي:

في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً : «هم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه السلام)

ص: 254

ليسمعوا كلام اللّه تعالى فلما سمعوا الكلام قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتّى نرى اللّه جهرة. فبعث اللّه عليهم صاعقة فاحترقوا ثم أحياهم اللّه بعد ذلك و بعثهم أنبياء، فهذا دليل على الرجعة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فإنه قال: لم يكن في بني إسرائيل شيء إلاّ و في أمتي مثله».

أقول: يظهر من الحديث - على فرض صحته - أنّ هؤلاء السبعين كانوا من خواص أصحاب موسى «عليه السلام» لاختياره لهم، كما يأتي في الرواية اللاحقة و كانوا عالمين بشريعته، و إصرارهم على الرؤية إنما كان لأجل أن يصلوا الى هذا المقام الرفيع أي الرؤية و ترفع درجتهم عند الناس في ترويجهم لشريعة موسى (عليه السلام)، و نزول الصاعقة عليهم و احتراقهم نحو تأديب إلهي لهم لإصرارهم في سؤالهم، فليست الصاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود، بل انها تأديبية و إحيائهم و بعثهم أنبياء، لأجل أنهم كانوا عارفين بخصوصيات شريعة موسى (عليه السلام) و الظاهر أنهم كانوا جميعا أنبياء في عصر واحد كجمع من علماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) في عصر واحد لأنهم كانوا يبلّغون أحكام التوراة.

و اما ذيل الحديث فيدل عليه روايات كثيرة من الفريقين على أن كل ما وقع في بني إسرائيل يقع في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و يشهد لذلك قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ قَبِيلاً [سورة الإسراء، الآية: 92] و هذا شأن جميع ذوي العقول التي انحصرت إدراكاتهم على الحس و المحسوسات، و تأتي الإشارة إلى الآيات الدالة على الرجعة و الأخبار الدالة عليها.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «إنهم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه السلام) و صاروا معه إلى الجبل، فقالوا له: إنك قد رأيت اللّه فأرناه كما رأيته. فقال لهم: إني لم أره. فقالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً ».

أقول: تقدم في الرواية السابقة ما يتعلق بهذه الرواية.

ص: 255

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْغَمامَ - الآية - لما عبر بهم موسى البحر نزلوا في مفازة، فقالوا: يا موسى أهلكتنا و أخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل فيها، و لا شجر، و لا ماء فكانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس، و ينزل عليهم بالليل المنّ فيأكلونه، و بالعشي يجيء طائر مشوي فيقع على موائدهم فإذا أكلوا و شبعوا طار عنهم».

أقول: على فرض صحة الحديث يكون هذا من سنخ أطعمة الجنة التي تكون لها حياة خاصة.

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عزّ و جل وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . قال (عليه السلام): «إنّ اللّه أعظم و أعز و أجل و أمنع من أن يظلم و لكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه، و ولايتنا ولايته، حيث يقول: إنما وليكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا يعني الأئمة». و قريب منه ما عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام).

أقول:

أما قوله (عليه السلام) إنّ اللّه أعظم و أعز و أجل و أمنع من أن يظلم، فإن الظلم بمعنى المظلومية من صفات الممكن و هو تعالى منزه عن ذلك.

و أما الظلم بمعنى الفاعل فهو مضافا إلى أنه من صفات الممكن أيضا متقوم بالاحتياج و هو تعالى منزه عنهما.

و أما قوله خلطنا بنفسه يعني: جعلنا من مظاهره تعالى على العباد، لأن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه أدلاء عليه و كل دليل مظهر لمدلوله فيكون الخلط بهذا المعنى.

و أما قوله (عليه السلام) فجعل ظلمنا ظلمه و ولايتنا ولايته، إذ لا معنى لولاية اللّه تعالى من كل جهة و إطاعته إلاّ أن يكون الظلم عليهم ظلما على اللّه تعالى.

و عن ابن بابويه عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): الكمأة من المنّ الذي نزل على بني

ص: 256

إسرائيل - الحديث -»، و مثله ما رواه البرقي عن الصادق (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: هذا من باب التطبيق، و يظهر أن للمنّ مصاديق منها ما ورد في الحديث. و الكمأة شحم الأرض.

و في تفسير العياشي عن الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ . قال (عليه السلام): «قال أبو جعفر (عليه السلام): نحن باب حطتكم».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك، و قريب منه ما ورد عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في حق علي.

وَ إِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَه

اشارة

وَ إِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ اَلَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61) ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة بعض القضايا المهمة الواقعة في بني إسرائيل في عهد موسى (عليه السلام) تذكيرا بنعمه عليهم فقابلوا ذلك بالكفران و العناد للحق فعوقبوا بالذلة و المسكنة و غضب من اللّه تعالى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ . الاستسقاء طلب الماء و ذلك أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وقعوا في صحراء قفر فأصابهم ظمأ

ص: 257

شديد فاستعانوا بموسى (عليه السلام) فطلب من اللّه تعالى أن يسقيهم، كما سبق أنهم طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يظلّهم من حر الشمس فظلل عليهم الغمام، و طلبوا الطعام فأنزل اللّه تعالى عليهم المن و السلوى، و جميع هذه الآيات وقعت في التيه، و سيأتي تفصيل قصتهم في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ . أي أمرنا موسى (عليه السلام) أن يضرب الحجر بعصاه.

و قد ذكر بعض المفسرين أنّ هذا الحجر لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه (عليه السلام) انفجر منه الماء، و لكنه مخالف لظاهر الآية المباركة بل كان حجرا معينا من أحجار الجنّة على ما

روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، فإنه قال: «ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود». و هو موجود لدى خاتم الأوصياء (عليه السلام) و سيكون لهذا الحجر شأن من الشأن عند ظهوره (عليه السلام)، و يشهد له ما في التوراة فإنه عبر عنه في سفر الخروج ب (الصخرة)، و ستأتي تتمة الكلام في البحث الروائي.

و عصا موسى (عليه السلام) معروفة في الكتب السماوية و قد كانت مظهرا لمعجزات كثيرة و أصلها من آس الجنّة كان آدم (عليه السلام) حملها معه من الجنّة إلى الأرض، كان طولها عشرة أذرع على طول موسى (عليه السلام) و لها شعبتان تتوقدان نورا في الظلمة و كانت تتوارث مع الأنبياء و أوصيائهم حتّى دفعها شعيب إلى موسى بن عمران (عليه السلام) و هي موجودة الآن، و ستظهر حتّى تلقف أساس الظلم و العدوان على يد خليفة من خلفاء الرحمن إن شاء اللّه تعالى و في جميع ذلك روايات معتبرة يأتي التعرض لها.

قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً . الإنفجار: الإنشقاق و كل انفجار مسبوق بالانبجاس و لا عكس. و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية أخرى الانبجاس، فقال جل شأنه: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة الأعراف، الآية: 160] و يمكن الجمع بينه و بين المقام باختلاف المراتب شدة و ضعفا، لأجل القرائن المحفوفة بالموضوع. و كانت عدد العيون المنفجرة بعدد الأسباط لكل سبط مشرب معين لا يتعداه إلى غيره، كما في الآية المباركة.

ص: 258

قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً . الإنفجار: الإنشقاق و كل انفجار مسبوق بالانبجاس و لا عكس. و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية أخرى الانبجاس، فقال جل شأنه: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة الأعراف، الآية: 160] و يمكن الجمع بينه و بين المقام باختلاف المراتب شدة و ضعفا، لأجل القرائن المحفوفة بالموضوع. و كانت عدد العيون المنفجرة بعدد الأسباط لكل سبط مشرب معين لا يتعداه إلى غيره، كما في الآية المباركة.

قوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ . العلم إما بإلهام منه عزّ و جل ذلك لهم، أو بجعل من موسى (عليه السلام) أو بالتباني على ذلك ليختار كل أناس مشربهم فلا يقعوا في التنافس و التزاحم.

قوله تعالى: كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّهِ . المراد من الرزق هنا هو الحاصل من عالم الغيب كما مر أي: كلوا مما رزقكم اللّه من المن و السلوى و اشربوا مما فجرناه من الصخرة. و قد تقدم في أول السورة معنى الرزق.

قوله تعالى: وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ . العيث: شدة الفساد، أي: لا تبالغوا في الفساد في الأرض. و في الآية المباركة إيماء الى أن كل فساد في الأرض عظيم و شديد، أو أن الفساد يجب أن يتحرز حتّى عن موهومه فضلا عن مظنونه و معلومه.

و ورود النهي عقيب الإنعام فيه إيماء أيضا إلى أن النعمة يجب أن لا تكون سببا لفسادهم؛ فلا يقابلوها بالغي و الكفران. و يعرف من ذلك أن فساد بني إسرائيل و تبديلهم نعم اللّه تعالى بالكفران لا ينفك عنهم و قد طبعوا على ذلك، كما شاهد ذلك نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في مشركي قريش و يهود عصر التنزيل.

ثم إنّ حكم الآية عام لا يختص بخصوص المورد كما في كثير من الآيات، و لعله لذلك التفت من سياق الكلام السابق إلى سياق آخر.

و الأمر بالأكل و الشرب للإباحة لجميع ما لم ينه الشارع عن أكله و شربه، و لعامة أفراد الناس.

و ظهور الماء من الحجارة بعصا موسى (عليه السلام) مذكور في التوراة

ص: 259

و القرآن الكريم، كما أن ظهور الماء من أنامل نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مذكور في كتب الفريقين، و من الواضح أن الثاني أشد معجزة من الأول.

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ أي: و اذكر ما قاله بنو إسرائيل لموسى: إننا لن نصبر على المنّ و السلوى حيث لم يجدوا بديلا عنهما. و هذا يدل على قصور هممهم و انها مقتصرة على الماديات و عدم قابليتهم لنعم عالم الغيب فقد استولى على طباعهم السخرية و العناد فكان هذا السؤال منبعثا عن طبيعتهم.

و الطعام: كل ما يتغذى به و غلّب استعماله في الحنطة لأجل الغلبة الاستعمالية و إلاّ فقد يستعمل في الماء أيضا، قال تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة، الآية: 249]، و عن نبينا (صلّى اللّه عليه و آله) في وصف ماء زمزم: «طعام طعم و شفاء سقم».

و الطعام اسم يطلق على ما يؤكل و يشرب و قد وردت مادة (ط ع م) في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، قال تعالى: هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ [سورة الأنعام، الآية: 14] و قال تعالى: لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [سورة المائدة، الآية: 93]، و قال جلّ شأنه في وصف النار: وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً [سورة المزمل، الآية: 13]. و الطعم (بالفتح) هو ما يؤديه الذوق، قال تعالى في وصف الجنّة:

وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [سورة محمد، الآية: 15]، فهذه المادة قرينة الإنسان في جميع نشآته إلى الخلود؛ و ربما يستعمل في المعنويات أيضا، قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [سورة عبس، الآية: 24] و فسر في الأخبار إلى علمه الذي يتعلّمه الإنسان. فالطعم (بالضم) الأكل، و (بالفتح) عرض قائم بالقوة الذائقة.

و المراد بالواحد الوحدة النوعية، فإن الطعام كان مركبا من المنّ و السلوى و أنه يتكرر كل يوم فذلك ينافي الوحدة الشخصية.

و في عدم صبرهم على طعام واحد يحتمل وجهان: الأول: ملالة الذوق

ص: 260

لأن لكل جديد لذة. الثاني: المراد الوحدة في الآكلين مع أن فيهم الأغنياء و الفقراء و من هو أدون، و هذا لا يناسب مقامهم الدنيوي، و كل ذلك يرجع إلى قصور عقولهم، كما ذكرناه.

قوله تعالى: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها .

الدعاء هنا بمعنى السؤال من اللّه تعالى و الطلب منه و إفراد الخطاب في قوله تعالى: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ لما علموا من أنس موسى (عليه السلام) بربه، و رأفته تعالى بموسى (عليه السلام) فكانوا يعلمون الاستجابة منه، و تحريضا لموسى (عليه السلام) للتأكيد في السؤال.

و البقل: كل نبات لا ينبت أصله و فرعه في الشتاء و المراد به ما يطعمه الإنسان من طيب الخضروات.

قوله تعالى: وَ قِثّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها .

القثاء نبات معروف و هو الخيار، كما أن العدس و البصل معروفان.

و الفوم هو الحنطة، روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام)، و هو قول أكثر المفسرين. و قال جمع إنه الثوم أبدلت الثاء فاء، و هو المشاكل للبصل.

قوله تعالى: قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ اَلَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ .

الاستبدال طلب شيء بدلا من آخر، أي: أ تستبدلون الذي هو خسيس بالمن و السلوى الذي هو خير منه؟! و استبدالهم الدنيء بالخير واضح، لأن المن و السلوى ينزلان عليهم من عالم الغيب من غير تعب و عناء، و جميع ما سألوه إنما كان يخرج من الأرض بالتعب و المشقة و بذل الجهد حتّى يتغذوا به، و انهما كانا أطيب و ألذ مما سألوه.

قوله تعالى: اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ .

قد تقدم معنى المصر و هو في الأصل بمعنى الانقطاع و الفصل لأن المحل صار منقطعا و منفصلا عن غيره بالعمارة و السكنى.

و المراد بها مصر من الأمصار، و قيل: إنها مصر المعروفة، و يجوز تنوينها لصرفها، و لا دليل على كلا القولين.

ص: 261

و كيف كان فالأمر للتعجيز، لأنه لا يمكنهم الدخول في مصر من الأمصار، لأن اللّه تبارك و تعالى كتب عليهم التيه و لا يمكنهم القتال لضعف عزائمهم و جبن نفوسهم، و أن الأرض التي هم فيها جدباء لا ينبت فيها البقل و الزرع.

قوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ . الضرب يأتي لمعان كثيرة تتميز بالقرائن، و المراد به في المقام هو اللزوم و الإلزام من قولهم: «ضرب المولى الخراج على عبيده» أي ألزمهم، و ذلك أحسن الاستعمالات. و الذلة: الصغار و الهوان، و المسكنة: الخضوع الشديد و فقر النفس، لأن الفقر أسكن الشخص و قلل حركته. و هما أعم مما إذا كانتا في النفس، أو في المال، أو في سائر الجهات.

و اللّه جل شأنه عاقبهم بالذلة و المسكنة، لأنهم كفروا بأنعم اللّه فقد أذلهم اللّه تعالى باستيلاء سائر الأمم عليهم.

و المتيقن من الضمير في (عليهم) اليهود في عصر موسى (عليه السلام) الذين آذوه، و من آذوا منهم نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و يمكن إرجاعه إلى جميع الأعصار، كما دلت عليه التواريخ و يأتي في الآيات المناسبة بيان ذلك.

قوله تعالى: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ . البوء بمعنى الرجوع، و باءوا أي رجعوا و انقلبوا، و يستعمل في القرآن غالبا في الشر، قال تعالى: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ [سورة البقرة، الآية: 90]، و قال تعالى: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 162].

و الغضب إن أضيف اليه سبحانه و تعالى فهو عقابه بالنسبة إلى من عضب عليه، و إن أضيف الى الخلق فهو حالة توجب الإضرار و هي من الحالات المذمومة،

ص: 262

و قد بين تعالى السبب في إذلالهم و مسكنتهم و غضبه عليهم بقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ فرجعوا بكفرهم و عصيانهم إلى غضبه تعالى رجوعا دائميا، فإن كل غضب لا بد له من سبب بخلاف الرحمة،

فقد تواتر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أن رحمته سبقت غضبه» و ليس المراد بالسبق الزماني منه، بل السبق الإيجادي التكويني، فإن ما سواه منه عزّ و جل و من رحمته، فكل من يعصي اللّه سبحانه و تعالى فقد رجع من رحمته إلى غضبه و عقابه بعمده و اختياره بعد فتح جميع أبواب الرحمة على الفاعل المختار، فيستحق الخزي و العار في حكم العقل، و حكم الشرع.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

أي: أنّ ما حل بهم من الذل و المسكنة، و استحقاق غضب اللّه تعالى كان بسبب كفرهم و تكذيبهم لآياته جلّ شأنه. و المراد بآيات اللّه تعالى المعجزات الباهرات التي شاهدوها من موسى (عليه السلام) و الكفر بها رجوع بغضب على غضب، لأن كفران كل آية من آياته يوجب غضبا منه عزّ و جل؛ و يجوز أن يكون المراد الكفر بالمعجزات و قتل النبيين أو إنكار الإنجيل و القرآن.

و الأولى إرادة العموم ليشمل جميع ما ذكر مع ترك الواجبات و فعل المحرمات، و تشهد لذلك الروايات الدالة على أن الإصرار على المعاصي الصغيرة من الكبائر، و لا اختصاص لذلك ببني إسرائيل فقط، بل يشمل أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم التخصيص بالمورد كما هو المتعارف.

قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ . الأنبياء جمع النبي، كالأقوياء جمع القوي. و النبأ هو الخبر، و لكنّه أخص من مطلق الخبر، لاختصاصه بالإخبار عن الغيب بواسطة إنسان رفيع الشأن و عظيم المنزلة.

و المشهور بين اللغويين و تبعهم المفسرون أنّ مبدأ اشتقاق النبي مهموز.

و عن بعض اشتقاقه من النبوة من غير همز، و هي الارتفاع لأن مقام النبي رفيع جدا، و لا ينافي ذلك لزومه الإخبار عن اللّه تعالى فبعض عبّروا بنفس اللازم و هو الاخبار، و البعض الآخر عبروا بالملزوم و هو رفعة المقام، و يمكن تأييده

ص: 263

بثقل الهمزة في كلام العرب حتّى

نسب إليهم (عليهم السلام): «لو لا أن جبرائيل نزل القرآن بالهمزة ما همّزنا أهل البيت»، و منه يظهر حكم تخفيف الهمزة في القرآن كله، و عليه كلما دار بين قراءة شيء بالهمزة أو بغيرها تكون القراءة بغيرها أولى.

و روي أنّ رجلا جاء إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «يا نبيء اللّه - بالهمزة - فقال: لست بنبيء اللّه - و همز - و لكني نبيّ اللّه - بغير همز -». و يأتي النبي بمعنى الطريق، و سمي الرسول به، لاهتداء الخلق به كالطريق.

و على أية حال النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بلا واسطة بشر، سواء كانت له شريعة كموسى و عيسى و محمد (صلّى اللّه عليهم)، أم لم تكن له شريعة كيحيى مثلا. و الرسول هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى و كانت له شريعة، سواء كانت مبتدأة كآدم (عليه السلام) أم ناسخة كشريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة.

و إنّما وصف اللّه سبحانه قتل النبيين بغير الحق، و هو كذلك إذ لا يعقل أن يكون قتل الأنبياء بالحق، فالقيد ليس باحترازي فهو إما لأجل تعظيم الذنب الذي اقترفوه، و زيادة الشنعة عليهم. أو من باب تقرير زعمهم و اعتقادهم، يعني مع أنكم تعتقدون ان هذا القتل كان بغير حق فكيف تقدمون عليه مع هذا الاعتقاد، و قد قتلوا من أنبياء اللّه تعالى أشعيا و زكريا و يحيى و غيرهم.

قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ . العصيان معروف و هو خلاف الطاعة. و الاعتداء تجاوز كل شيء، و يحتمل أن يكون لفظ الإشارة الثانية في الآية المباركة تأكيدا للأولى فيها، أي ذلك الذل و المسكنة و الغضب كان بسبب عصيانهم لأوامر اللّه تعالى و خروجهم عن حدود ما أنزله اللّه تعالى.

و يحتمل أن ترجع الإشارة إلى الأخير، أي أن قتلهم الأنبياء كان بسبب عصيانهم و اعتدائهم.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أن الاعتداء صار عادة لهم و طبعا و خلقا لديهم، و هذا أمر لا يختص باليهود بل كل من استولى عليه العصيان و المخالفة و الاعتداء على حدود اللّه تعالى يستحق غضب اللّه تعالى

ص: 264

و اذلاله فيكون ذيل الآية الشريفة حكما عقليا لا يختص بأمة دون أخرى.

بحوث المقام

بحث روائي:

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ قال (عليه السلام): «و اللّه ما قتلوهم بأيديهم، و لا ضربوهم بأسيافهم، و لكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها و صار قتلا و اعتداء و معصية».

أقول: المراد من القتل أعم من المباشر و التسبيب، و في ذلك روايات كثيرة، بل يستفاد ذلك من نفس الآية المباركة، و ربما يكون السبب أقوى.

و عن القمي: «كان مع موسى حجر يضعه في وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فينفجر منه اثنتا عشرة عينا - كما حكى اللّه تعالى - فيذهب كل سبط في رحله و كانوا اثني عشر سبطا».

أقول: تعبير القرآن المبين و هذا الخبر بالحجر أولى من تعبير التوراة بالصخرة لأن الحجر يمكن حمله معهم - كما في هذه الرواية - دون الصخرة فإنها تطلق على الحجارة الكبيرة التي لا تحمل إلاّ مع المشقة.

و في تفسير العسكري عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «احذروا الانهماك في المعاصي، و التهاون بها، فإن المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتّى توقعه في ما هو أعظم منها، فلا يزال يعصي و يتهاون و يخذل و يوقع في ما هو أعظم مما جنى».

أقول: ما ورد في هذه الرواية وجداني لكل من أرخى عنان النفس في المعاصي، و سلك في أي مسلك شاء و أراد، و تدل عليه الروايات الكثيرة، و استفاد (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك من قوله تعالى: وَ كانُوا يَعْتَدُونَ .

ص: 265

بحث فقهي و كلامي:

قد استدل بالآية الشريفة كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّهِ على إباحة الأشياء و حليتها و جعلوها أصلا عبروا عنه بأصالة الإباحة العقلية و النقلية و قد حررنا البحث عنه في كتابنا [تهذيب الأصول] فلا وجه للتعرض هنا بعد ذلك.

كما استدل بها على أنّ الرزق يطلق على الحلال فقط لأن الأمر يدل على الإباحة في المقام، و حيث لا يتصور الإباحة في الحرام فلا يصدق عليه الرزق.

و لكن يرد عليه أنّ من شرط ظهور اللفظ في شيء إحراز كون المتكلم في مقام بيان ذلك الشيء و إقامة الحجة عليه، و هو غير محرز في المقام، و يكفي في عدم صحة التمسك بالإطلاق الشك في ذلك على ما هو المتعارف في المحاورات، و قد حررنا ذلك في أصول الفقه، و يأتي في الآيات المناسبة ما يتعلق بالرزق إن شاء اللّه تعالى.

بحث فلسفي:

ذكر اللّه سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة جملة من المعجزات التي صدرت من موسى (عليه السلام) و هي كلها من صنع اللّه تعالى و إذا نسبت اليه تعالى لا يتصور فيها التحديد و التقييد بوجه من الوجوه لعموم قدرته، فالحد بالنسبة إلى الكمال الأتم المطلق من كل جهة - من ذاته و بذاته و لذاته - لا يتصور له معنى معقول، و لكن إذا لوحظ ذلك كله بالنسبة إلى المورد و المتعلق لا بد أن يحد بحد الإمكان الذاتي إذ المستحيل بالذات يقصر عن أن يقع مورد المعجزات و خوارق العادات، لقصور في المتعلق لا أن يكون القصور في القدرة،

و قد سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام): «هل يقدر اللّه على أن يجعل الدنيا في بيضة بحيث لا تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة؟ فقال (عليه السلام) إن اللّه قادر، و لكن هذا لا يكون»، فاتفق العقل و النقل على خروج الممتنعات عن مورد المعجزات و خوارق العادات، و إنما يكون موردها الممكنات الذاتية، و إن كانت ممتنعة عادة بالأسباب العادية لكنها ممكنة

ص: 266

بالقدرة القاهرة الربوبية. و منه يعلم الوجه في المعجزات الصادرة عن الأنبياء لا سيما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

و هذا مراد جمع من الفلاسفة و المتكلمين و تبعهم بعض المفسرين القدماء من أن المعجزة تجري بأسبابها الطبيعية، أي أنها تجري في الممكنات الذاتية، لا الممتنعات بأسبابها الطبيعية الظاهرة لمن جرت على يده المعجزات الخفية على غيره بل غير القابلة للظهور له.

و مع ذلك إنّه تبارك و تعالى سلك في جريان الإعجاز مسلك الأسباب الظاهرية، حفظا للنظام الأحسن الجاري في الأسباب و المسببات، فإنه تعالى أبى أن تجري الأمور إلاّ بأسبابها، و لذا كان جريان الماء بضرب الحجر بالعصا، و حمل مريم ابنة عمران بتمثل الروح الأمين لها و تسبيح الحصى في يدي نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، مع أنه تبارك و تعالى قادر على إيجاد هذه الأمور بغير تلك الأسباب أيضا.

و مما ذكرنا يظهر أنّ جميع القوانين العلمية، و المخترعات الحديثة و ما يلحقها بعد ذلك لا ربط لها بالمعجزة و خارق العادة أصلا، لأنها تجري وفق قوانين علمية، أو عملية ثابتة مطردة حاصلة من التجربة بخلاف المعجزة فإنها سنة جديدة لم يألفها الإنسان، و لا يعرف لها قاعدة مطردة، و إنما تكون بإذن اللّه تبارك و تعالى.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُ

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) بعد أن ذكر تعالى بعض أحوال اليهود و تعداد النّعم عليهم و كفرهم و عنادهم عن الحق شرع في بيان أحوال المؤمنين من اليهود و النصارى و الصابئين الذين عملوا الصالحات، و ما وعدهم بجزيل الأجر.

اشارة

ص: 267

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا . المراد بالذين آمنوا من اتخذ الدين القيم كما قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة الأنعام، الآية: 161] و ليس المراد به خصوص المسلمين الذين صدقوا محمدا (صلّى اللّه عليه و آله)، و يدل على التعميم ذيل الآية الشريفة فيكون ذكر الأصناف الثلاثة تخصيصا بعد التعميم، و تفصيلا بعد الإجمال.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ هادُوا . أي الذين صاروا يهودا نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب، و أبدلت الذال دالا تخفيفا في الاستعمال، و هو اسم جمع واحده يهودي، كالروم و الرومي. و قد استعملت مادة (ه و د) بهيئاتها في القرآن الكريم، فقال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة الحج، الآية: 17]، و قال تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [سورة البقرة، الآية: 135]، و قال تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة، الآية: 64] و هذه المادة تأتي بمعنى الرجوع و التوبة، قال تعالى: إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ [سورة الأعراف، الآية: 156] أي: تبنا. سميت اليهود بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل، أو الرجوع عن شريعة موسى (عليه السلام) أو الرجوع عن الإسلام، و الكل صحيح في الجملة بالنسبة إليهم حسب الاختلاف الواقع بينهم،

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) انه قال: «اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة و اختلفوا بعد عيسى بمأتي سنة». و تأتي بمعنى السكون و الموادعة و التأني في الحركة.

و يستفاد من قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ [سورة المائدة، الآية: 44] أن الإيمان بتوراة موسى (عليه السلام) و التسليم بشريعته أخص من مطلق التهود في تلك الأعصار القديمة فضلا عن هذه الأعصار، و يشهد لذلك ما نقل في التاريخ أن بني إسرائيل ارتد أكثر أسباطهم إلى الشرك و عبادة الأوثان من بعد سليمان، ثم بادوا بالقتل و الأسر فلم يبق منهم اسم و لا رسم. و الذين بقوا على صورة التوحيد و الشريعة على

ص: 268

تقلب في ذلك أيضا هم الموسوية و هم أسباط يهوذا أو من تبعهم كسبط بنيامين، فصار عنوان اليهود علما لمن ينتمي إلى الملة الموسوية.

قوله تعالى: وَ اَلنَّصارى . جمع نصراني أو نصران كسكارى و سكران. و اشتقاقه إما نسبته إلى قرية «الناصرة» كان ينزلها عيسى (عليه السلام). أو من تناصرهم. أو من قول الحواريين نحن أنصار اللّه كما حكى عنهم تبارك و تعالى: قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ [سورة الصّف، الآية: 14].

قوله تعالى: وَ اَلصّابِئِينَ . ورد لفظ الصابئين في القرآن الكريم في موارد ثلاثة هنا، و في سورة المائدة قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ وَ اَلنَّصارى [الآية: 69]، و في سورة الحج قال تعالى: وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى [الآية: 17] و يمكن أن يكون تقديمهم بلحاظ تقدم زمانهم على النصارى، و التأخير عنهم بلحاظ أخذ جملة من أحكامهم من النصارى.

و مادة (ص ب ا) تأتي بمعنى الميل، فالصابي من خرج و مال من دين إلى دين آخر، و لذا كان المشركون يقولون لمن أسلم: قد صبا. و الصابئون هم الذين خرجوا من أهل الكتاب.

و قد اختلف المفسرون و الفقهاء في الصابئين هل أنهم من أهل الكتاب أم لا؟ و على الثاني هل هم من المشركين أم لا؟ و يمكن أن يستظهر من ذكرهم في القرآن في سياق أهل الكتاب أنهم منهم موضوعا أو حكما، و يستفاد من إجماع الفقهاء على صحة أخذ الجزية من الصابئة - فإن تم هذا الإجماع - يدل على أنهم من أهل الكتاب لعدم جواز أخذ الجزية من غير أهل الكتاب.

و قيل: إنّ كل يهودي ترك دينه و أراد أن يتنصر، أو كل نصراني ترك دينه و أراد أن يتهود سمي صابئيا. و هذا القول مردود فإن للصابئين دينهم و عقائدهم و عاداتهم المتميزة عن غيرهم. و الحق أن يقال: إن الدين إما سماوي، أو وضعي افتعالي محض، أو مركب منهما و الصابئة اسم نوعي للأخير، و سيأتي مزيد بيان في البحث الروائي و البحث التاريخي العقائدي.

ص: 269

قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً . بيان لمعنى الإيمان، و حقيقته هي الإيمان بالمبدأ و المعاد و يلزمهما الإيمان بالرسالات السماوية أيضا، و العمل الصالح على طبق الشريعة المقدسة فيكون العمل الصالح من لوازم الإيمان بالرسالة، فإن العمل الصالح لا يعرف إلاّ من قبل أنبياء اللّه و بأمر منه عزّ و جل كل في ظرفه ما لم ينسخ بغيره.

و هذه الآية و ما في سياقها ظاهرة في أمرين:

أحدهما: ما ذهب إليه أصحابنا و دلت عليه النصوص من أن العمل الصالح جزء الإيمان.

ثانيهما: أن المناط كله في الإيمان - الذي تترتب عليه الآثار الدنيوية و الاخروية - إنما هو الإيمان باللّه و اليوم الآخر و العمل الصالح، فإن من كان كذلك لم يتعد حدود اللّه، و لم يتوان في طلب الحق و مرضات اللّه و لا تأخذه لومة لائم أو نزعة باطل، فلا أثر لقولهم: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [سورة البقرة، الآية: 135] كما لا أثر لقول اليهود: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18] و لا لقول النصارى كذلك، و قد تقدم بعض الكلام في معنى الإيمان في أول سورة البقرة فراجع.

قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ . أي إنّ جزاء إيمانهم، و ثواب عملهم الصالح معدّ عند ربهم، و هذا من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة. و ذكر عِنْدَ رَبِّهِمْ لبيان أنه يستحيل أن يتغير و يتبدل للأدلة العقلية و النقلية الدالة على أن ما عنده تعالى غير قابل للتغيير و التبديل و كفى بذلك فخرا لأهل الإيمان أن يكون لهم ذخيرة باقية عند ربهم، فيكون لذاته تعالى معية قيومية مع عباده قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4] و بعناياته الخاصة توفيقات و تأييدات لهم، و في جزائه لأعمالهم خزائن يضاعف لمن يشاء.

قوله تعالى: وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ . أي لا خوف عليهم من المتوقع، و لا حزن على الواقع، و نفي ذاتهما يقتضي نفي جميع ما يتصور

ص: 270

فيهما من الأفراد أبدا بجميع مراتبهما من الخارجية و العقلية و الخيالية، فإن الحضور المطلق المستفاد من قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يقتضي نفي الخوف و الحزن بالنسبة إليه، فالنفي نفي موضوعي و هي من القضايا التي قياساتها معها، فإن الوصول إلى مرتبة الكمال التام و المستغرق في فيوضات الكمال المطلق بالذات لا يتصور فيه نقص حتّى يتعلق به الخوف و الحزن، و لا ريب أن منشأهما وجود النقص في الجملة.

إن قيل: إنّ المراتب متفاوتة فالنقص حاصل و لو بالنسبة إليها. (يقال) هذا من قبيل لوازم الذات غير الملتفت إليها فلا يتعلق بها الحزن، لأن مورده الالتفات و القصد.

بحث روائي:

عن ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه السلام) في النصارى:

«أنّهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلها مريم و عيسى بعد رجوعهما من مصر».

أقول: تقدم وجه اشتقاق ذلك أيضا.

و في المعاني عنه (عليه السلام): «إن اليهود سمي باليهود، لأنهم من ولد يهوذا بن يعقوب».

و في تفسير القمي: «الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود و لا نصارى و لا مسلمون، و هم قوم يعبدون الكواكب و النجوم».

أقول: يأتي بيان مذهبهم.

و في الدر المنثور عن سلمان الفارسي قال: «سألت النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم و عبادتهم فنزلت إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا - الآية -.

بحث تاريخي عقائدي

الصابئة - كما في جملة من التواريخ - قوم يدينون بالإله الواحد يتعصبون للروحانيات لتقربهم إلى اللّه يعبدون الكواكب، و بعضهم يعبدون

ص: 271

التماثيل، و يقال: إن بيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئة و تبعه على ذلك الذين أرسل إليهم النبي نوح (عليه السلام)، و يدّعي الصابئون أن من أنبيائهم عاذيمون، و هرمس. و قيل: إن عاذيمون هو شيث، و هرمس هو إدريس. و قيل: إن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري (ص ب ع) أي غطس ثم أسقطت العين و يشير بذلك الى فرقة المعمدانيين - كما ستعرف - و قيل: إنه كان لإدريس - و هو أخنوخ على ما في التوراة - ابن كان يسمى (صاب) و اليه تنسب الصابئة. و قد كان هذا الدين منتشرا في بلاد كثيرة و بعث اللّه فيهم الأنبياء و الرسل، و قد أخذ هذا الدين أمورا كثيرة من الأديان الإلهية و تأثر بالمعتقدات الوثنية.

و هم على فرقتين متميزتين:

الأولى: الفرقة المنديائية، و هي فرقة يهودية نصرانية أخذت من تعاليم اليهودية و المسيحية، فأخذت شعيرة التعميد من نصارى يوحنا المعمدان، و تأثرت بالمجوسية، و أخيرا أخذت بعض تعاليم الإسلام. و الظاهر أن الصابئة الذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن في مواضع ثلاثة هي هذه الفرقة.

الثانية: الفرقة الحرانية نسبة إلى صابئة حران، و هم فرقة وثنية انتحلت بعض أحكام أهل الكتاب ليمكنهم العيش في بلاد الإسلام و ينعموا بالسماحة التي أظهرها القرآن لأهل الكتاب، و قد تفرقت هاتان الفرقتان إلى فرق متعددة لا حاجة إلى ذكرها.

و تتميز الصابئة عن سائر المذاهب بشدة أحكامهم و قسوة تعاليمهم و لأجل ذلك أعرض الناس عن الدخول فيها، و انكمشت على نفسها فلم يبق منهم إلاّ القليل، و يتركب دين الصابئة من أمرين:

الأول: الإيمان بالإله الواحد صانع العالم و هو رب الأرباب و إله الآلهة، مدبر، حكيم، قادر، و مقدس عن جميع صفات مخلوقاته يعجز الخلق عن الوصول إلى جلاله، و إنما يتقرب إليه بالوسائط المقربين و هم الروحانيون المطهرون المنزهون عن المادة و الماديات، فهم مبرأون عن القوى الجسدانية و الحركات المكانية و التغييرات الزمانية، قد جبلوا على التقديس و التسبيح،

ص: 272

و يقولون: إنهم المتوسطون في الاختراع و قالوا: إنه لا يمكن أن يكون الإنسان مورد فيض الروحانيات و عنايتهم إلاّ بحصول المناسبة بينه و بينها، و لا تتحقق هذه المناسبة إلاّ بتطهير النفس عن الرذائل و تهذيبها عن العلائق الشهوية و الغضبية و التحلي بالكمالات. و بعبارة أخرى: تحلي النفس بالكمالات و تخليها عن الرذائل و الشهوات، و لا يحصل ذلك إلاّ بالعمل الشاق، و سيأتي بعض تلك الأعمال.

و بعض الصابئة يقولون بوحدة الوجود فقالوا: إن الخالق واحد كثير أما الواحد ففي الذات و أما الكثير فلأنه يحل في مخلوقاته و يتكثر بالأشخاص، و قالت الصابئة إنّ اللّه أجل من أن يخلق الشر و القبائح و الأقذار و المخلوقات الحقيرة المؤذية - كالعقارب و الخنافس و الحيات - بل هي كلها واقعة ضرورة اتصال الكواكب سعادة و نحوسة و اجتماعات العناصر صفوة و كدورة، فما كان من سعد و خير فهو الصفوة و تنسب إليه عزّ و جل، و ما كان من نحس و كدر و شر فلا ينسب إليه بل هي حاصلة إما اتفاقا أو ضرورة.

و الروحانيات كثيرة عند الصابئين فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها و هياكلها فإنها مدبرات هذا العالم، و حيث لم يتمكنوا من معاينة هذه المدبرات السبعة صنعوا لها هياكل و تقربوا إليها، و منها الجواهر العقلية الروحانية، و قد بنوا لكل من هذه الأسماء و الأفلاك السبعة هياكل و اشكالا تقربوا إليها، فمنها هيكل العلة الأولى، و دونها هيكل العقل، و هيكل الضرورة، و هيكل النفس كلها بأشكال خاصة مختلفة كما صنعوا كذلك هياكل الكواكب السبعة. و قالوا: إن نسبة الروحاني إلى الهيكل نسبة الروح إلى الجسد و فعل الروحانيات إنما هو تحريك تلك الهياكل لتحصل من تحريكها انفعالات في الطبايع و العناصر، و الروحانيات إما كلية فيكون تأثيرها كليا أو جزئية فالتأثير جزئي، و يقولون: إن لكل ظاهرة طبيعية ملكا يكون مدبرا لها.

ثم إنّ بعض الصابئين لما رأوا أن هياكل الأفلاك السبع دائمة التغير تطلع و تغرب، ترى ليلا و لا ترى نهارا، وضعوا لتلك الهياكل اشخاصا و تماثيل لتكون نصب أعينهم، و يتوسلون بها إلى الهياكل و هي إلى الروحانيين و هم

ص: 273

إلى صانع العالم، و هذه هي الفرقة الوثنية من الصابئة و قد بقيت إلى العصور المتأخرة كما تقدم. و من هنا جاء اختلاف المفسرين و العلماء فخلطوا هذه الفرقة بالفرقة الأولى التي تنفي الوثنية و الروايات الواردة في أنها يهودية أو نصرانية مجوسية مسلمة كما مر في البحث الروائي تشير إلى هذه الفرقة التي هي من أهل الكتاب دون الفرقة الوثنية.

الأمر الثاني: الأعمال. و قد تقدم أنّ الصابئة قالوا إنه لا يمكن التوسل بالروحانيات إلاّ بالتخلية و التحلية، و لا تحصلان إلاّ بالأعمال، و هي مختلفة عند فرقهم و شاقة، فالصابئة كلهم يصومون، و يصلون ثلاث صلوات: أولها عند طلوع الشمس ثمان ركعات، و الثانية عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات في كل ركعة ثلاث سجدات و يتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، و أخرى: في التاسعة. و الثالثة في الساعة الثالثة من الليل، كما يصلون على طهر و وضوء خاص و هم يغتسلون من الجنابة، و مس الميت، و يحرمون أكل لحم الخنزير و الكلاب، و الطيور ذوات المخالب، و الحمام، و نهوا عن السكر و الشراب و عن الاختتان، و أمروا بالتزويج بولي و شهود، و نهوا عن تعدد الزوجات، و لا يبيحون الطلاق إلاّ بحكم الحاكم، و قد حرم بعضهم أكل البصل و الجريث و الباقلاء.

و قد أمروا جميعا بتقريب القرابين متعلقه بالكواكب و أجناسها و هياكلها، و اختلفوا في طبيعة الأضاحي حتّى وصل عند بعضهم التضحية بالبشر.

و الحاصل مما وصل إلينا من حالاتهم أن الصابئة فرق مختلفة فبعضهم أخذوا بشريعة موسى، و بعضهم أخذوا بشريعة عيسى، و بعضهم وثنيون و الكل يظهرون الإسلام و التغييرات و التبدلات كثيرة في دينهم مع صعوبات كثيرة تنافي سائر الأديان، و لذا قلّ الدخول في دينهم فصار عرضة للزوال و الانحلال. هذا ما ضبطته التواريخ بعد رد بعضها إلى بعض. و أما الصابئون حين نزول القرآن فيستظهر من الآيات ترددهم أيضا بين الأديان الثلاثة اليهودية و المسيحية و الإسلام و اللّه العالم بالحقائق.

ص: 274

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَل

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (64) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (67) قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ اَلنّاظِرِينَ (69) قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اَللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اَللّهُ اَلْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (74) ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة احتجاجاته بنعمه المترادفة على بني إسرائيل، و ذمائم أخلاق بني إسرائيل مثل نكثهم لعهود اللّه تعالى، و مواثيقه، و تعنتهم في إتيان أوامر اللّه تعالى كما فعلوا في ذبح البقرة، ثم وصفهم جل شأنه بضعف الإيمان و القساوة بعد ما رأوا من الآيات و المعجزات، و قد أورد سبحانه و تعالى هذه القصص و أحوال بني إسرائيل ليذكّرنا بما جرى فيهم فنعتبر بها، و يثير اليهود للإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله).

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ . الميثاق هو العهد المؤكد، و مواثيق اللّه تعالى عهوده مع عباده المؤكدة بحكم العقل

ص: 275

الفطري الدال على لزوم شكر المنعم، و قد تقدم في قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 40] بعض الكلام فراجع.

و المراد بالطور هو طور سيناء الجبل المعروف الذي كلم اللّه عليه موسى (عليه السلام).

و هذه الآية المباركة تفسير لقوله تعالى: وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [سورة الأعراف، الآية: 171]. و النتق هو الجذب أو القلع، و هو يتصور على وجهين: الأول: أن يكون بسبب الزلزلة الحادثة في الأرض.

الثاني: أن يكون ذلك بنفسه معجزة من اللّه تعالى بلا واسطة سبب طبيعي من زلزلة و نحوها، و يمكن تأييد الثاني بظهور كونه معجزة مستقلة، و تأتي في سورة الأعراف بقية الكلام.

و ما يقال: من أن رفع الجبل نحو إكراه لهم على الإيمان و العمل بالتوراة، و هذا باطل عقلا و شرعا.

غير صحيح لأنهم علموا أن هذا نحو إعجاز من اللّه تعالى، لا أن يكون إكراها على الإيمان به، لفرض بقاء اختيارهم بعد ذلك و أمرهم بالأخذ بالتوراة بقوة، و يستفاد ذلك من سياق الآية.

و هذه الآية الشريفة كانت بعد نزول التوراة، و أخذ الميثاق منهم لكي يعملوا بها بقوة و اجتهاد.

قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ . أي: خذوا الكتاب الذي أنزلناه إليكم بعزيمة وجد و اجتهاد. و المراد بالقوة الأعم من الظاهرية الجسمانية و القوة النفسانية المعنوية بقرينة ذيل الآية الشريفة و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك، و المورد و ان كان خاصا لكن الحكم عام لجميع أمم الأنبياء، و لا سيما خاتمهم الذي يكون دينه مبتنيا على الدوام و التأبيد.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . المراد بالذكر هو حفظه علما و عملا لا مجرد الذكر اللساني، فإنه لا ينفع ما لم يكن مقرونا بالعمل كما في الروايات المستفيضة، و يدل على ذلك قوله تعالى فيها: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذ التقوى لا تترتب إلاّ على العمل بما يحصل منه التقوى، لا على مجرد التلاوة فقط، فيكون المقام من باب ترتب المعلول على العلة يعني: أن العمل به يوجب التقوى. و من جملة ما أمروا بتذكيره وصف النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الإيمان به.

ص: 276

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . المراد بالذكر هو حفظه علما و عملا لا مجرد الذكر اللساني، فإنه لا ينفع ما لم يكن مقرونا بالعمل كما في الروايات المستفيضة، و يدل على ذلك قوله تعالى فيها: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذ التقوى لا تترتب إلاّ على العمل بما يحصل منه التقوى، لا على مجرد التلاوة فقط، فيكون المقام من باب ترتب المعلول على العلة يعني: أن العمل به يوجب التقوى. و من جملة ما أمروا بتذكيره وصف النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الإيمان به.

و كلمة الترجي تدل على إيكال الموضوع إلى اختيارهم و محبوبية التقوى عند اللّه تعالى، لما مر مكررا من أن الترجي المستعمل في القرآن يؤتى به بداعي محبوبية متعلقه.

قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ . التولي: هو الإعراض و الإدبار عن الشيء أي: أنهم أعرضوا عن التوراة من بعد ما أخذ منهم الميثاق على العمل بها.

قوله تعالى: فَلَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

المراد من فضله تبارك و تعالى هو الإمهال، و عدم التعجيل في العقوبة، و الرحمة هي الإلهام بالتوبة و قبولها. و الخسران هو ذهاب رأس المال، و هو في الإنسان عبارة عن الحقيقة الإنسانية الجامعة لجميع الكمالات.

و المعنى: أنه لو لا إمهال اللّه تبارك و تعالى لكم، و جريان سنته على عدم التعجيل في الأخذ بالمعاصي، و قبول توبتكم بعد ذلك لكنتم من الخاسرين، أما الخسران بالنسبة إلى أصل الإيمان باللّه تعالى فمعلوم أنه مستند إلى اختياركم، و أما الخسران بالنسبة إلى أصل الإنسانية فلأنها متقومة بالإيمان به جلّ شأنه، فالخسران يتحقق حينئذ فيهم بالنسبة إلى النشأتين.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ . العلم هنا عبارة عن المعرفة الشخصية. و الاعتداء هو التجاوز عن الحد اللازم، فيشمل ارتكاب المحرمات العقلية - كأنحاء الظلم - و الشرعية كارتكاب المناهي الإلهية. و مادة (س ب ت) تدل على القطع، قال تعالى: وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [سورة النبأ، الآية: 9] أي: جعلنا النوم قطعا للحركات، و سببا للراحة و السكون. و يوم السبت معروف في أيام الأسبوع و هو عيد اليهود،

ص: 277

و الأحد عيد النصارى، و الجمعة عيد المسلمين فذات هذه الأيام أعياد لهؤلاء، سواء قلنا بكونها اسماء لها من العهد القديم - كما يظهر من بعض الآثار - أو أنها حدثت بعد قرون كثيرة كما عن جمع.

و المعنى: و لقد عرفتم الذين تجاوزوا عما أمرهم اللّه تعالى و ارتكبوا ما نهاهم عنه في يوم السبت، و ذلك أن اللّه تعالى جعل لهم وظائف في هذا اليوم بالنسبة إلى الصيد وجهات أخرى فلم يعملوا بها، و سيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف.

قوله تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ . القردة جمع قرد و هو حيوان معروف. و خسأ بمعنى الطرد و الإبعاد عن مذلة و حقارة، و لذا يستعمل في طرد الكلب، و من يراد إهانته كقوله تعالى للمجرمين في جهنم: اِخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون، الآية: 108] أي: ابتعدوا عن مذلة و سخط. و الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82].

و صيرورتهم قردة بحسب القلب معلوم لا إشكال فيه، لأنه المتيقن من جميع ما ورد في المقام من النصوص و التفاسير إنما البحث في أنهم هل مسخوا إلى صورة القردة أيضا أولا؟ نسب الأول إلى جمهور المفسرين، و لا بأس به، لأن اللّه تعالى قادر على كل شيء.

إن قلت: صيرورتهم بحسب الصورة قردة مخالفة لسنة اللّه تعالى في عباده لابتنائها على الإمهال في الأخذ بالعقوبة، مع أنه لو مسخوا قردة كيف يكون ذلك عبرة لغيرهم؟ قلت: أما الأول فلإمكان أن تكون المعصية على حد لا تليق بالإمهال فحكمته تعالى اقتضت الأخذ بها و هي غير معلومة لغيره عزّ و جل.

و أما الثاني: فلفرض بقاء التعرف الإجمالي بين الممسوخين و غيرهم فيصير ذلك عبرة للآخرين.

قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ . النكال: بمعنى المنع، و تسمى العقوبة نكالا لأنها تمنع النّاس عن ارتكاب ما يوجبها. و المراد بما بين يديها الأقوام المحاذون لها الذين لم يعاقبوا بعقوبتهم. و ما خلفها الأمم اللاحقة لهم. و الوعظ التخويف بكل ما يفعل اللّه تعالى بالعصاة.

ص: 278

قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ . النكال: بمعنى المنع، و تسمى العقوبة نكالا لأنها تمنع النّاس عن ارتكاب ما يوجبها. و المراد بما بين يديها الأقوام المحاذون لها الذين لم يعاقبوا بعقوبتهم. و ما خلفها الأمم اللاحقة لهم. و الوعظ التخويف بكل ما يفعل اللّه تعالى بالعصاة.

و إنما خص اللّه تعالى المتقين إما لأجل أنهم يعلمون بأن اللّه لا يفعل ذلك إلاّ مع الحكمة و الاستحقاق. أو لأجل أن الموعظة تزيدهم بصيرة و ايمانا و تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: 2].

و في سنخ هذه الآيات تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عما كان يقاسيه من رذائل أخلاق أمته في زمان حياته و ما يعانيه بعد ارتحاله فإنه (صلّى اللّه عليه و آله) شاهد يعلم بما يجري في أمته، و حكم هذه الآية عام فإنها تشتمل على ترتب سخط اللّه تعالى بمخالفته في الدنيا، و حصول المسخ و تعقيب ذلك بالنكال و الموعظة، ففيها دلالة واضحة على تعميم الحكم لجميع الأزمان و الأمم و لا تختص بأمة دون أخرى، لما ذكرنا غير مرة أن المورد لا يكون مخصصا. نعم إنّ اللّه تعالى قد يمهل لمصالح كثيرة و لكنه لا يهمل، و مسخ الصورة و إن لم يكن له موضوع في أمة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) إجلالا له (صلّى اللّه عليه و آله) و لكن حكم مسخ القلوب ممكن بحسب الأخبار الكثيرة و البراهين العقلية، و سيأتي البحث في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن بعض المفسرين استدل بهذه الآية المباركة على عدم جواز الحيلة في الأحكام الشرعية الإلهية مطلقا، لأن اليهود إنما استحقوا هذه العقوبة لأجل احتيالهم في الحكم الإلهي. و المناقشة في هذا الاستدلال واضحة، لأن معنى الحيلة الشرعية: اجتهاد الفقهاء في إخراج الموضوع المحرم عن انطباق عنوان الحرام عليه إما تخصيصا أو تخصصا إلى عنوان محلل يدل على حليته الدليل الشرعي، و هذا معنى

قول أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «نعمت الحيلة الفرار من الحرام إلى الحلال»

و قول الصادق (عليه السلام): «ما أعاد الصلاة قط فقيه يحتال فيها و يدبرها حتّى يصححها» و ذكرنا تفصيل البحث في موارد من الفقه.

ص: 279

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . شروع في بيان قصة البقرة، و بها سميت هذه السورة. البقرة واحدة البقر اسم جنس، الأنثى و الذكر فيه سواء. و قيل البقرة اسم للأنثى و الثور اسم للذكر، كالرجل و المرأة، و الجمل و الناقة. و مادة (بقر) تأتي بمعنى الشق و التوسع لأنه يشق الأرض و يوسعها للزراعة. و سمي الرابع من أولاد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) باقرا لأنه يشق العلم شقا،

و في الحديث: «نهى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن التبقر في المال» أي التوسع فيه.

و المنساق من مجموع الآيات المباركة أن قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها [سورة البقرة، الآية: 72] مقدم على قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تقدم العلة على المعلول، و إنما أخّر في ظاهر الكلام لمراعاة الفنون الأدبية المحاورية التي منها: الاهتمام بذكر المقدم و تهيئة النفوس للإصغاء اليه فيكون أدعى للبحث عن معرفة السبب، و جعله كلاما مستقلا في توجيه الأسماع و الأذهان، و اشتياق السامع اليه و مثل ذلك في القرآن كثير.

و منها: توجيه الخطاب ابتداء إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم ذكر البقرة في التوراة فلم يكونوا مأنوسين به.

قوله تعالى: قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً . الهزء: السخرية و اللعب و الاستخفاف - و هذا القول دليل على جهلهم بقدرة اللّه تعالى، و عدم درك عقولهم بحياة المقتول بضرب بعض البقرة به - و فسقهم بعدم الاعتناء بأحكام اللّه تعالى فإن الواجب عليهم تنفيذ أوامره جل شأنه.

و هيئة الهزء كهيئة الكفؤ تقرأ بوجوه أربعة: بضم الوسط، أو سكونه، و كل منهما إما مع الهمز أو بدونه، و جميعها لغات صحيحة تصح القراءة بها، لكن الأرجح أن يقرأ بالهمزة مع ضم الوسط، و الأدون مع الواو و إسكان الوسط، و المعروف ترك الهمزة مهما أمكن كما تقدم. و المسألة فقهية مذكورة في بحث القراءة من الصّلاة فراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

قوله تعالى: قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ . العوذ و العياذ هو الالتجاء عما يخاف من شرّه و استعمال هذا اللفظ في القرآن كثير، و هو إما

ص: 280

قولي أو حالي أو عملي أو بالجميع، و التجاء الأنبياء و الأولياء من القسم الأخير، لشدة انقطاعهم اليه عزّ و جل، و لعل من أشده قول مريم ابنة عمران: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 18]، و قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ [سورة الفلق، الآية: 1] إلى غير ذلك من الآيات المباركة فالالتجاء إلى اللّه تعالى لا بد أن يكون حاليا و عمليا، لا أن يكون من مجرد القول فقط.

و الجهل تارة يطلق على ما يقابل العقل، و أخرى: على فعل ما لا ينبغي فعله إلاّ من الصغير و بعض مراتب الشبان، و منه قوله تعالى: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [سورة يوسف، الآية: 89] و هو ملازم للمعنى الأول.

و يمكن أن يستدل بمثل هذه الآية المباركة على عصمة الأنبياء لأن الاستهزاء و السخرية قبيحان لا ينبغي صدورهما منهم خصوصا إذا كانا في مورد أحكام اللّه تعالى.

قوله تعالى: قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ . الدعاء في هذه الآيات بمعنى طلب الحاجة و يجوز في ضمير البقرة كل من التذكير و التأنيث.

و قد سألوا من موسى (عليه السلام) ان يسأل ربه ان يبين صفات البقرة.

قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ . الفارض المسنة. و البكر ما لم يستفحله الفحل، و ضربة بكر أي قاطعة.

و عن ابن فارس: «كانت ضربات علي (عليه السلام) أبكارا إذا اعتلى قد، و إذا اعترض قط». و العوان النصف و هو التوسط بين السنين أي: ان البقرة متوسطة في السن ليست بكبيرة لا تحمل، و لا صغيرة لم تحمل.

و قوله تعالى: فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ . تأكيدا للأمر الأول و فيه من التنبيه على ترك التعنت.

قوله تعالى: قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ اَلنّاظِرِينَ . الفاقع صفة كمال للصفرة كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة أي: خلصت صفرته يقال: أسود حالك، و أحمر قانئ،

ص: 281

و أبيض ناصع، و أخضر ناضر، و أصفر فاقع. و كلها صفات مبالغة لهذه الألوان. و قد نقل أن الصفرة الشديدة توجب السرور، و تجلي البصر،

و عن الصادق (عليه السلام): «من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتّى يبليها».

قوله تعالى: قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ . تشديد آخر منهم على أنفسهم،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنهم أمروا بأدنى بقرة، و لكن شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم و ايم اللّه لو لم يستثنوا ما اهتدوا إليها أبدا». و المنساق من هذه الآية المباركة أنها في مقام بيان صفات فعلها، و الآية السابقة في مقام بيان صفات جسمها.

و المعنى: إنّ وجوه البقرة تتشابه فأرادوا زيادة التمييز، و قوله تعالى: إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ استثناء منهم، و هذا هو المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لم يستثنوا و يقولوا إن شاء اللّه لما تبينت لهم إلى آخر الأبد».

قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها . الذلول من البهيمة ما كانت منقادة و معتادة للعمل أي: صعبة ليست معتادة لعمل إثارة الأرض، و لا تطاوع لأن يسقى بها الزرع أو يستقى عليها و المراد بالمسلّمة أي: سلمها اللّه تعالى من العيوب. و «لا شِيَةَ فِيها» أي لونها متحد ليس فيه اختلاف و تعدد كما في بعض الأبقار و أصله من الوشي و هو خلط اللون باللون.

قوله تعالى: قالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ . أي: إنك بينت الحق، لظهور الأوصاف التي بيّنها موسى (عليه السلام) في ما وجدوها من البقرة.

قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ . لكثرة ثقل ذلك التكليف عليهم بما شددوا على أنفسهم، أو لغلاء ثمنها - كما في بعض الروايات على ما يأتي في البحث الروائي - أو خوفا للفضيحة و كيف كان فهو يدل على امتهانهم لأوامر اللّه تعالى، و إنما أمروا بالذبح دون ضرب الحي لئلا يقعوا في الضلالة أكثر.

ص: 282

قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها . هذه الآية المباركة مقدمة معنى و إن تأخرت في اللفظ لما عرفت و «ادّارأتم» أصله تدارأتم أي: اختلفتم و تنازعتم، فأدغمت الياء في الدال، لأنهما من مخرج واحد، و زيدت الف الوصل حذرا من الابتداء بالساكن كقوله تعالى: حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا فِيها [سورة الأعراف، الآية: 38]، و كذا قوله تعالى: إِذا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ اِثّاقَلْتُمْ [سورة التوبة، الآية: 38]، و قوله تعالى: وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ [سورة يس، الآية: 49].

و مادة درأ تأتي بمعنى الدفع، و منه قوله تعالى: وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ [سورة القصص، الآية: 54]، و تأتي بمعنى الجلب و الملائمة،

و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رأس العقل بعد الإيمان باللّه مداراة الناس»،

و كذا قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أمرت بمداراة النّاس كما أمرت بأداء الفرائض». و يمكن أن يكون من الدرء بمعنى الدفع أي: يدفع الإنسان عن أخيه ظلما يوجب التفرقة بينهما و يحمله على الإلفة و الموافقة.

و معنى الآية المباركة: إنّ بعضكم قتل نفسا فتخاصمتم و تدافعتم في شأنه فصار كل واحد يدفع عن نفسه التهمة. و قد نسب القتل إلى اليهود في عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لأنهم من نسلهم، و تصح في المحاورات النسبة إلى اللاحقين بفعل السابقين.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . أي: أنه تعالى يظهر جميع ما تكتمونه من أسراركم و تهمة بعضكم لبعض.

قوله تعالى: فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها . يعني: اضربوا المقتول ببعض البقرة المذبوحة. و لم يعين سبحانه و تعالى هذا البعض فيكتفى بضرب أي جزء كان، و لكن للمفسرين في تعيينه تفاصيل غير مستندة إلى مدرك صحيح، و لا دليل صريح، فالأولى الإغماض عن التعرض لها.

و إنما أمرهم بالضرب من دون أن يضرب موسى (عليه السلام) بنفسه، لأن الفعل إذ كان صادرا منهم فهو أبين لقطع النزاع كما يظهر من ذيل الآية الشريفة.

ص: 283

قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اَللّهُ اَلْمَوْتى . أي: كما أنه أحيى المقتول بعد موته كذلك يحيي كل ميت. و هذا من تنظير الكلي المعقول على الجزئي المحسوس، و إثبات للمدعى الكلي بإحساس بعض جزئياته، إذ الكليات إنما تستكشف عند عامة النّاس من الجزئيات، و لذا اشتهر «من فقد حسا فقد علما».

قوله تعالى: وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . أي: أنه فعل ذلك من الاحياء بعد الإماتة، و ما ترتب على ذلك من فصل الخصومة و إظهار القاتل لعلكم تفقهون و تدركون أنّ اللّه تعالى قادر على إحياء مطلق الأموات حيوانا كان أو نباتا كما قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [سورة الحديد، الآية: 17] فتدبروا في آيات اللّه تعالى فاعتبروا بها و امنعوا أنفسكم من العصيان، و اتباع الأهواء و الشهوات.

قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ القسوة الصلابة و الشدة و الرداءة و الغلظة، و لم تستعمل في القرآن الكريم غالبا إلاّ مضافة إلى القلب، فيكون المعنى الغلظة و الصلابة عما من شأنه أن يكون رقيقا، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ [سورة الزمر، الآية: 22].

و قسوة القلب من أشد الأمراض النفسية الروحية بل أصلها و أمها،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإن كثرة الكلام لغير ذكر اللّه تقسي القلب، و إنّ أبعد الناس من اللّه القلب القاسي»، و القلب المتصف بالقساوة كمرآة عليها حجاب غليظ لا يرى فيها صورة أصلا، و سيأتي تفصيل المقال فيه إن شاء اللّه تعالى.

و قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد أن رأيتم الآيات و المعجزات و دلائل التوحيد و الرسالة و عرفتم الحق.

قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً . كلمة «أو أشد» يصح أن تكون بمعنى التنويع أي: أن بعض القلوب كالحجارة و بعضها الآخر أشد منها، أو باعتبار الحالات ففي بعض الحالات يكون القلب كالحجارة، و في بعضها الأخرى يكون أشد فحينئذ يصح الكلام بالنسبة إلى المتكلم و السامع.

ص: 284

كما يجوز أن تكون بمعنى الترديد، أو بمعنى بل، و الكلام حينئذ سيق مساق فهم السامع.

قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ . الأنهار جمع نهر بسكون الهاء و فتحه كما في قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ [سورة القمر، الآية: 54] و الفتح أفصح، و لذا لم يستعمل في القرآن مفرد الأنهار إلاّ مفتوحة العين، و لم يرد بسكونها فيه. و تقدم معنى الإنفجار في قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة البقرة، الآية: 60] و «يشقق» أصله (يتشقق) أدغمت التاء في الشين.

ذكر سبحانه و تعالى أنّ الحجارة ينفجر منها الأنهار كالعيون في الجبال فتعود منفعته على الحيوان و النبات. و أن بعض الحجارة يتشقق فيخرج منها الماء، كالأحجار التي ينبع منها الماء قليلا كان أو كثيرا، و أن منها لما يهبط من خشية اللّه تعالى، لأن جميع الموجودات مسخرة تحت إرادته و قدرته عزّ و جل، قال تعالى: يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة الجمعة، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [سورة الرعد، الآية: 13].

و الخشية هي الخوف و لكنها أعم منه موردا، لاطلاقها على الجمادات أيضا، و أخص منه مفهوما لأنها الخوف المشوب بالتعظيم، بخلاف مطلق الخوف. و للخشية و الخوف منه تعالى مراتب كثيرة جدا و بعض مراتبها يختص بالعلماء باللّه تعالى

قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ : «يعني بذلك من يصدّق فعله قوله، و من لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم و إن شق الشعر في المتشابهات» هذا بالنسبة إلى الفاعل المختار، و أما بالنسبة إلى سائر الموجودات من الجماد و النبات و الحيوان فحيث أن الخشية منه عزّ و جل من لوازم ربوبيته العظمى و قيمومته فتتصف جميع تلك الموجودات بالخشية منه تعالى، قال جلّ شأنه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا اَلْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ [سورة

ص: 285

الحشر، الآية: 21] و لم يدل دليل عقلي أو نقلي على أن مفاهيم الألفاظ لا بد و ان تختص بعالم الإنسان و بما نتعقله من المعاني، بل هي عامة لجميع العوالم كل على حسب وجوده، بل الأدلة العقلية و النقلية تدل على الخلاف، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و قد حدث في بني إسرائيل جميع ما تقدم من الآيات فقد انفجر الماء من الحجارة و اندك الجبل و رفع فوقهم كأنه ظلة. و في ذلك كله توبيخ و تحقير عجيب لهم و لمن يكون قاسي القلب، فإنه مع رؤية جميع تلك الآيات الباهرات و دلائل الحق و التوحيد لا تؤثر في قلبه فقد جعلوا القلب الذي له المحل الأعلى في مصاف أخسّ الأشياء بمساوئ الأخلاق و رذائلها فلا تجدي فيه المواعظ و الحكم.

إن قيل: بعد قدرة اللّه تعالى على تسخير الحجارة و ما هو أصلب منها فهو قادر على تسخير القلوب أيضا. (يقال): تسخير القلوب تكوينا تحت إرادته تعالى بلا إشكال، و لكن اختياره لا بد و أن يكون تحت إرادة صاحب القلب ليتم بذلك نظام التشريع و الجزاء كما تقدم.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . مادة (غ ف ل) تأتي بمعنى ذهاب التوجه الفعلي الحاصل للنفس عن الشيء بعد حصول العلم به في الجملة، و تستعمل في مورد السهو و النسيان أيضا، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة، و قد ورد في آيات كثيرة قال تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: 132]، و قال جلّ شأنه: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ [سورة إبراهيم، الآية: 42].

و الغفلة إما من الخلق عن اللّه تعالى، أو عنه تعالى عن خلقه. و الثاني مستحيل إذ كيف تعقل الغفلة عمن كان ذاته بذاته العلم و الحياة، و القيمومة المطلقة على ما سواه، إلاّ إذا رجعت الغفلة فيه تعالى إلى عدم التعجيل في الجزاء و إمهاله في العقاب، و هذا صحيح و قد دلت الأدلة العقلية و النقلية عليه، و قد اشتهر: «إن من أفضل أخلاق الكرام تغافلهم عما يعلمون من مساوئ

ص: 286

غيرهم» فهذا تغافل ممدوح. و لكن إطلاقه على اللّه تعالى غير مأذون فيه شرعا.

و أما الأول و هو غفلة النّاس عن اللّه تعالى، و هذا القسم معلوم لكل من رجع إلى نفسه، بل يمكن أن يرجع بعض مراتبها إلى الكفر.

ثم إنّه لا ريب في اتصاف الإنسان بالسهو و النسيان و الغفلة، و لكن هل يتصف الحيوان بها؟ فيه بحث عند الفلاسفة و العلماء و لنا فيه كلام سيأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

فالاعتقاد بحضوره تعالى و شهوده مع عمل كل عامل و علمه الأزلي بجميع الخصوصيات يقتضي أن تكون الحالة غير ما نرى و العمل غير ما نعمل.

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من مجموع هذه الآيات المباركة الواردة في قصة البقرة أمور:

الأول: استهزاؤهم بأوامر اللّه تعالى، و امتهانهم لما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) و لقد كان الواجب عليهم التسليم بما جاء به موسى (عليه السلام) و كان جزاؤهم أن شدد اللّه تعالى عليهم و نسبهم إلى الجهل و شبّه قلوبهم بالحجارة.

الثاني: مرجوحية كثرة السؤال و المداقة بالنسبة إلى الأحكام، بل إنها توجب التشديد في الأحكام، و قد يوجب العقاب و غضب اللّه تعالى، قال عزّ من قائل: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 101]،

و ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إن اللّه كره لكم قيل و قال، و إضاعة المال، و كثرة السؤال» و غير ذلك من الروايات.

الثالث: إنّما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من الأنعام و الحيوان إما

ص: 287

اختبارا لهم ببقاء حب العجل و تعظيمهم له، أو تحقيرا لهذه الدابة لأن البقرة كانت من جنس معبودهم فأراد سبحانه و تعالى أن يبين أنها لا تقدر أن تدفع عنها السوء فضلا عن العابدين لها، أو لأجل أنهم كانوا يعدون البقرة من أعظم القربات حتّى أنهم جعلوا لها بيتا لا يدخله إلاّ خيارهم بكيفية خاصة فأمرهم اللّه تعالى بذلك تقريرا لعادتهم في ما يتقربون عند حوائجهم اليه تعالى.

الرابع: إن ما ورد من التخصيصات في البقرة كما تقدم في الآية الشريفة لأجل أن منشأ الحياة - و لو كان جسمانيا - لا بد أن لا يتخصص سوى الإضافة إلى اللّه تعالى، و أن لا يدعي أحد في القرون التالية أن ما يملكه من البقرة من نسل تلك البقرة التي أحيي بها الموتى فهذه البقرة كانت منفية الصفات و الخصوصيات كما تقدم.

الخامس: التنبيه على تمام قدرته تعالى، فإن من أوضح الواضحات أنه لا يمكن إحياء ميت بتلاقي جسمين لا حياة فيهما، فلا بد و أن تكون الحياة في القتيل بعد ضربه ببعض البقرة من عالم الغيب المحيط بعالم الشهادة، كما يدل عليه قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اَللّهُ اَلْمَوْتى في ذيل الآية المباركة، حيث حصر الإحياء بذاته الأقدس فكان الإحياء من المعجزات.

السادس: ما ورد من الآيات المباركة في هذه القصة الإعتبار العظيم، و التسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لما كان يلقاه من يهود عصره (صلّى اللّه عليه و آله) و مشركي قريش، و تكفي في إتمام الحجة عليهم لنبوة خاتم الأنبياء لاعترافهم بأنها ليست من تعليم بشري و إنما هي من وحي سماوي. و لكن جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً [سورة النحل، الآية:

14] فاستحقوا بذلك العذاب الأليم.

ثم إنه يمكن أن يكون في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إشارة إلى العزوف عن حطام الدنيا و زخارفها، و لا يتحقق ذلك إلاّ بالاستيلاء على الشهوات النفسانية التي هي أقوى من البقرة، و لا تصل النفس الإنسانية إلى أسرار عالم الغيب و الشهادة إلاّ بإماتة تلك الشهوات، و كيف يعقل أن تنكشف الأسرار و تتجلى الأنوار مع وجود تلك الحجب،

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه

ص: 288

عليه و آله): «لو لا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» و ستأتي بقية البحث في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

العياشي عن إسحاق بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أ قوة في الأبدان أم قوة في القلوب؟ قال (عليه السلام): فيهما جميعا».

أقول: المراد بالقوة في القلوب رسوخ ملكة الإيمان في قلبه بحيث تمنعه عن المحارم، و قد تقدم ما يتعلق بالرواية أيضا.

عن القمي في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ قال: «ان موسى (عليه السلام) لما رجع إلى بني إسرائيل و معه التوراة لم يقبلوا منه فرفع اللّه جبل طور سيناء عليهم و قال لهم موسى: لئن لم تقبلوا ليقعن الجبل عليكم و ليقتلنكم فنكّسوا رؤوسكم».

أقول: لا يخفى انه معجزة من معاجزه (عليه السلام) و هي في مقام تخويفهم، و لا ينافي ذلك بقاء اختيارهم في الإيمان فاستسلموا اختيارا.

عن العياشي عن الحلبي في قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ قال (عليه السلام) «اذكروا ما فيه و اذكروا ما في تركه من العقوبة».

أقول: في الحديث اشارة إلى ما في الامتثال من الثواب، و في المخالفة من العقاب.

عن زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام) في قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ قال (عليه السلام): «لما معها، ينظر إليها من أهل القرى. و لما خلفها، قال (عليه السلام): و نحن، و لنا فيها موعظة».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام): «و نحن، و لنا» ليس خصوص الإمام (عليه السلام)، بل جميع من تتلى عليه هذه الآيات.

ص: 289

و عن العياشي عن ابن فضال قال سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول. «إنّ اللّه أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، و إنما كانوا يحتاجون الى ذنبها فشدد اللّه عليهم».

أقول: هذا مطابق للقاعدة و هي تحقق الإجزاء بمطلق الامتثال للمأمور به، و يأتي في الرواية الثانية ما يؤيده. و أما تعيين الذنب فلأنه من أجزاء البقرة، و لكن الظاهر من الحديث أن فيه موضوعية خاصة.

و في الدر المنثور قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لا أنّ بني إسرائيل قالوا: و إنا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ ما أعطوا أبدا و لو انهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت منهم و لكنهم شددوا فشدد اللّه عليهم».

و روى العياشي عن أحمد بن أبي نصر البزنطي قال: «سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: «إنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى (عليه السلام): إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله؟ قال: ايتوني ببقرة قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ . و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد اللّه عليهم قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ يعني: لا صغيرة و لا كبيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ . و لو أنهم عمدوا إلى أي بقرة أجزأتهم، و لكن شددوا فشدد اللّه عليهم، قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ اَلنّاظِرِينَ ، و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد اللّه عليهم قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيع إلاّ بملء مسك ذهبا، فجاؤا إلى موسى (عليه السلام)، و قالوا له ذلك، فقال: اشتروها، فاشتروها و جاؤا بها فأمر بذبحها، ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها، فلما فعلوا ذلك حيي المقتول، و قال: يا رسول اللّه إن ابن عمي قتلني

ص: 290

دون من يدّعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله، فقال لرسول اللّه موسى (عليه السلام) بعض أصحابه: إن هذه البقرة لها نبأ، فقال (عليه السلام) ما هو؟ قالوا: إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و إنه اشترى بيعا فجاؤا إلى أبيه و الأقاليد (مقاليد) تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره، فقال له أحسنت هذه البقرة فهي لك عوضا لما فاتك، قال: فقال له رسول اللّه موسى (عليه السلام): «أنظر إلى البر ما بلغ لأهله».

أقول: مقتضى إطلاق الآية المباركة - كما هو صريح الأخبار - و إن كان هو الاكتفاء في ذبح البقرة بكل ما يسمى بقرة كما هو مقتضى القاعدة في مطلق الخطابات التي سيقت هذا المساق. و لكنه مشكل بل ممنوع إلاّ فيما إذا أحرز أن المتكلم في مقام بيان ماله دخل في مراده من كل جهة، و لا وجه لاحراز ذلك في المقام، بل هو محرز العدم أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فلعلمه جل شأنه بأنه سترد على هذه البقرة قيود تصيّرها منحصرة في الفرد و أما بالنسبة إلى المخاطبين فلبنائهم على التشكيك و التدقيق في مطلق أمورهم العادية فكيف بمثل هذا الأمر الذي هو من أهم الأمور الخارقة للعادة و القاطعة للخصومة فالتقييد و الانحصار في الفرد ظاهر من سياق حال أصل التكليف و أحوال المكلفين و التمسك بالإطلاق في مثل هذا النحو من البيان غير مأنوس في المحاورات العقلائية بل مأنوس العدم.

إن قيل: كيف و هذا مصرح به في الروايات من أنهم لو عمدوا إلى ذبح أي بقرة لكفى؟ (يقال): أولا: إنّها غير نقية السند. و ثانيا: إنّها ليست في مقام بيان خصوصيات القضية، بل في مقام بيان مذمة التعمق و المداقة في خصوصيات التكليف، و يأتي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 101].

و يمكن الجمع بين الأخبار و رفع المنافاة بينها أنهم لو عمدوا و ذبحوا مطلق البقرة نسخ الحكم الأول عنهم لمصلحة المبادرة إلى الامتثال و ترك المداقة، و منه يظهر ما في جملة من التفاسير من التطويل.

و في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن رجلا من خيار

ص: 291

بني إسرائيل و علمائهم خطب امرأة فيهم فأنعمت له و خطبها ابن عم لذلك الرجل و كان فاسقا رديا فلم ينعموا له فحسد ابن عمه الذي أنعموا له فقعد له فقتله غيلة، ثم حمله إلى موسى (عليه السلام) فقال: يا نبي اللّه هذا ابن عمي قد قتل قال موسى: من قتله؟ قال: لا أدري و كان القتل في بني إسرائيل عظيما جدا فعظم ذلك على موسى (عليه السلام) فاجتمع اليه بنو إسرائيل فقال: ما ترى يا نبي اللّه؟ و كان في بني إسرائيل رجل له بقرة، و كان له ابن بار و كان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته و كان مفتاح بيته تحت رأس أبيه و كان نائما و كره ابنه أن ينبهه و ينغّص عليه نومه، فانصرف القوم و لم يشتروا سلعته، فلما انتبه أبوه قال له: يا بني ماذا صنعت في سلعتك؟ قال:

هي قائمة لم أبعها، لأن المفتاح كان تحت رأسك فكرهت أن أنبهك و انغص عليك نومك، قال له أبوه: قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك و شكر اللّه لابنه ما فعل لأبيه، و أمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة» أقول تقدم البحث عنه في الخبر السابق.

بحث تاريخي:

لم ترد قصة البقرة بهذا التفصيل في التوراة و إنما ورد فيها حكم كلي فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الحادي و العشرين ما هذا لفظه: «إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك و قضاتك و يقيسون إلى المدن التي حول القتيل، فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير، و ينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه و لم يزرع، و يكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه و يباركوا باسم الرب و حسب قولهم تكون كل خصومة، و كل ضربة و يغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي و يصرحون و يقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، و أعيننا لم تبصر به اغفر لشعبك بني إسرائيل الذي فديت يا رب، و لا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل

ص: 292

فيغفر لهم الدم فتنزع الدم البري من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب» و الظاهر من ذلك أنه كان من بقايا قصة معلومة مبينة عندهم دخلتها يد التحريف و التضييع و كم لهم من هذه التحريفات و قد صحح القرآن هذه القصة بالكيفية المذكورة ثم شرحتها الأخبار الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) كما تقدم في البحث الروائي.

بحث فلسفي:

تضمنت الآية الشريفة عقوبة من العقوبات التي حلت على بني إسرائيل فقد مسخهم اللّه تعالى على صورة القردة و الخنازير، و تقدم ما يتعلق بها.

و المسخ هو من أقسام التناسخ الذي كان مورد البحث بين الفلاسفة امتناعا و جوازا منذ القدم. و قد أثبت الممتنعون - و هم أكابر الفلاسفة - استحالته، سواء كان صعوديا [من مطلق الحيوان إلى الإنسان] أو نزوليا أو عرضيا، و لكن استدل المجوزون بأدلة عقلية و نقلية من الكتاب الكريم و السنة الشريفة، فاستدلوا بمثل هذه الآية المباركة فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ و ما سيقت مساقها كقوله تعالى: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ [سورة المائدة، الآية: 60] و النصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة، مثل

ما ورد في صلاة الجماعة: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول اللّه تعالى رأسه رأس حمار» بل قيل إنه ما من مذهب إلاّ و للتناسخ فيه قدم راسخ.

و الحق أن يقال: إنّ هنا موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر أحدها:

التناسخ و هو عبارة عن انتقال نفس من بدن - كان بينهما اتحاد في مدة من الزمان، قليلة كانت أو كثيرة - إلى بدن آخر و حصول الاتحاد بينهما. و له أقسام صعودي و نزولي و عرضي كما مر.

الثاني: تجسم الملكات و ظهورها عن كل نفس في بدن يناسب تلك الملكات، و الصفات النفسانية في الخارج بصور تناسبها. و لا ربط لأحد الموضوعين بالآخر.

و الذي ينفيه أكابر الفلاسفة و أجمع المسلمون على نفيه إنما هو التناسخ

ص: 293

لا تجسم الملكات، و ما أثبته جمع بالبرهان إنما هو الثاني و ادعى أهل العرفان فيه الشهود و العيان، و السنة المقدسة مشحونة به لا سيما في أبواب المعاد، فقوله تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أو قوله تعالى: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ [سورة المائدة، الآية: 60] قول و جعل تكويني في جعل ملكاتهم و صفاتهم السيئة التي تكون في نفوسهم، و نشأت عليها أبدانهم في قالب هذه الحيوانات المناسبة لفعالهم و ملكاتهم، فالروح و الملكات عين ما كانت في السابق لكن اقتضت الحكمة الإلهية ظهورها في قالب الإنسان مدة ثم ظهورها في قالب يناسب تلك الصفات و الملكات في مدة أخرى، فالحقيقة واحدة و المظاهر مختلفة بإرادة اللّه تعالى و جعله.

و من ذلك يظهر أن تجسم النفس بصور صفاتها و أخلاقها لا ربط له بمسألة التناسخ، و بطلان الثاني لا يستلزم بطلان الأول.

ثم إنّ أساس مذهب التناسخ يدور مدار أحد أمور ثلاثة: إما قدم النفوس، أو كون النفوس المجردة كالماديات التي تعتورها التغييرات و التبدلات، أو النقص في قدرة اللّه تعالى و تضييقها بقدر عقولهم. و الكل باطل، فلا تناسخ لا في عالم الدنيا، و لا في عالم الغيب أي دار السعادة و الشقاوة، و لا في عالم العقول المحضة، و يأتي تفصيل ذلك كله إن شاء اللّه تعالى.

و على فرض تحقق المسخ الاصطلاحي فما هو الموجود من القردة و الخنازير ليس من نسل المسوخ لما دل من النصوص على أن المسوخ لا بقاء لها بعد ثلاثة أيام و ما هو الموجود - و يطلق عليه المسوخ - إنما يكون مثلهم لا أن يكون من نسلهم و مما اتفق عليه المسلمون أنه ليس في القردة و الخنازير من هو من أولاد آدم (عليه السلام).

و خلاصة الكلام: المسخ إما في الظاهر أو في الباطن أو فيهما معا و كل هذه الأقسام إما في هذا العالم أو في عالم الآخرة أو فيهما معا و ما كان في الدنيا إما أن يكون نسله مثله بعد المسخ أو يكون مثله قبل المسخ فيكون آدميا أو ينقطع نسله بالمرة بل يهلك نفسه بعد قليل من زمان مسخه و لكل من هذه الأقسام تفصيلات ربما نتعرض لها في ضمن الآيات المستقبلة.

ص: 294

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْل

اشارة

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76) أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77) وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ اَلْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ (79) وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) هذه الآيات المباركة تدل على اخباره جل شأنه للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه باليأس عن إيمان اليهود و عدم أهليتهم للإيمان باللّه و رسوله و لو ظاهرا لما فيهم من الكيد و الخيانة للرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و مكرهم بتحريف كلام اللّه تعالى بكل ما تمكنوا و قد أوعدهم اللّه تعالى بالويل و النار.

التفسير

قوله تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ . الطمع: تعلق النفس بما تعتقد فيه النفع، و بمعناه الأمل و الرجاء إلاّ أن الطمع أقوى منهما. و تستعمل المادة في الخير و الشر، و أكثر استعمالاتها في الثاني و لذا يعد من الصفات الذميمة. و الهمزة للإنكار، و فيه إيماء باستبعاد ايمانهم به (صلّى اللّه عليه و آله) و اليأس منه، و الخطاب للرسول و المؤمنين أي: كيف تطمعون أن يؤمن اليهود و هم من أهل السوء و العناد - و قلوبهم قاسية كالحجارة - و لهم سابقة في الكفر و التحريف لكلام اللّه تعالى. و لقد كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 295

و المؤمنون شديدي الحرص على إيمانهم لأسباب عديدة منها انهم من أهل الكتاب و هم على معرفة برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و دينه لما ذكر في كتابهم.

قوله تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ . الفريق اسم جمع لا واحد له، و المراد به من له القدرة على التحريف سواء كان من الأحبار و العلماء أو من تبعهم في ذلك و إن لم يكن منهم موضوعا، و إن كان ظاهر الآية يختص بالطائفة الأولى.

و المراد بسماع كلام اللّه تعالى ما أدركوه بقوة السمع سواء كان عند خطاب اللّه لموسى (عليه السلام) أو منه إليهم أو من أنبيائهم و كلامه تعالى سواء كان من التوراة أو ما ورد في أوصاف خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله). و التحريف التبديل و التغيير حسب مشتهيات النفس، سواء كان في اللفظ أو في المعنى أو في المحل - بأن ينقل اللفظ من موضعه إلى موضع آخر - و الكل حرام عقلا و شرعا إلاّ إذا ورد إذن من قبل الشارع كما في تغيير القراءة فيه و هو لا يعد من التحريف الاصطلاحي، و يأتي تفصيل ذلك كله إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ . أي: من بعد ما عرفوه و فهموه و تمت الحجة عليهم و هذا معنى قوله تعالى في الآية المباركة: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [سورة المائدة، الآية: 41] أو عن مَواضِعِهِ [سورة المائدة، الآية: 13] و هم يعلمون بأنّهم يحرّفون و يكذبون على اللّه تعالى. و ذلك نص على تعمدهم و سوء قصدهم. و في هذين القيدين من التشنيع لفعلهم ما لا يخفى.

و حكم الآية المباركة عام يجري في كل من يحرّف كلام اللّه حسب مقاصده و إن لم يكن من اليهود فيشمل أهل البدع و الآراء و المقاييس و لو كانوا من المسلمين.

و معنى الآية المباركة أنه كيف تطمعون في إيمانهم و قد كان لهم سلف يفعلون السوء و قد جبلوا على العناد و الإصرار على الضلال و كان من أفعالهم

ص: 296

الشنيعة أنهم كانوا يحرفون كلمات اللّه تعالى هذا حال سلفهم و أما أحوال الحاضرين فهي لا تتخطى عمن تقدمهم كما بيّن ذلك سبحانه و تعالى في الآيات التالية.

قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا . بيّن سبحانه و تعالى صفة أخرى من ذمائم أخلاقهم و شعب نفاقهم أي: إذا واجه اليهود أصحاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) اعترفوا بالإسلام و قالوا: إنا آمنا برسولكم - كما آمنتم به - بحكم التوراة من البشارة ببعثته و لكن قولهم ذلك كان على سبيل النفاق.

قوله تعالى: وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ . الفتح في الأصل إزالة الأغلاق و الأشكال سواء كان ذلك في الأمور المادية أو المعنوية أو الاعتبارية و قد استعمل في القرآن الكريم بجميع مشتقاته، قال تعالى: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتّاحُ اَلْعَلِيمُ [سورة سبأ، الآية: 26] و قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ [سورة الأنعام، الآية: 59] أي: عنده ما يفتح به أبواب الرحمة على الخلق و كل نبي فاتح لامته أبواب المعارف الإلهية و يبين الأحكام للناس، و منه اطلاق الفاتح على الحاكم و الفتح على الحكم و القضاء، و الفتاح على القاضي. و المراد به هنا ما كان مبينا في التوراة. و يستفاد منه انهم كانوا يزعمون أن ذلك سرّ لهم خاصة.

و مادة (ح د ث) تأتي بمعنى الكون بعد العدم، سواء كانت البعدية ذاتية أم زمانية. و الحديث بمعنى الكلام و الخبر، و إنما يفترق بالاعتبار فيسمى حديثا باعتبار حدوثه و تجدده؛ و قد أطلق الحديث على نفس القرآن أيضا، قال تعالى: أَ فَمِنْ هذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ [سورة النجم، الآية: 59]، و قال تعالى: أَ فَبِهذَا اَلْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [سورة الواقعة، الآية: 81].

و المعنى: أنه إذا خلا بعضهم ببعض يذم من أظهر منهم ما كان في التوراة من البشارة بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و صفاته و الأمر باتباعه.

قوله تعالى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ . مادة (ح ج ج) تأتي بمعنى

ص: 297

القصد، و المحاجة أن يقصد كل واحد رد الآخر بدليل معتبر. أي إنكم إذا أظهرتم للمؤمنين ما في التوراة يصير حجة عليكم من المسلمين فيحاجوكم به، و ليس هذا إلاّ النفاق.

قوله تعالى: أَ فَلا تَعْقِلُونَ . يحتمل أن يكون قول الأحبار و الرؤساء لمن أظهر منهم الإيمان أي: أ فلا تعقلون أن هذا الحديث يوجب إتمام الحجة للمسلمين على بني إسرائيل. و يحتمل أن يكون الخطاب من اللّه تعالى للمؤمنين أي: أ فلا تعقلون أنّ بني إسرائيل منافقون في أقوالهم و أعمالهم و أنهم لا يؤمنون فلا تعتمدوا على ما يصدر منهم.

قوله تعالى: أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ .

الإسرار خلاف الإعلان، و للإسرار مراتب كثيرة قال تعالى: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى [سورة طه، الآية: 7]. و عن بعض أهل اللغة - و تبعه بعض المفسرين - أنه من الأضداد لقوله تعالى: وَ أَسَرُّوا اَلنَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ [سورة سبأ، الآية: 33] أي أظهروا الندامة و لكنه مردود لأنه خلاف ظاهر الآية المباركة كما يأتي في محلها. نعم يمكن أن يكون شيء واحد سرا من جهة و إظهارا من جهة أخرى فهو من الصفات ذات الإضافة، قال تعالى: وَ إِذْ أَسَرَّ اَلنَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [سورة التحريم، الآية: 3]، و قال جلّ شأنه: إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً [سورة نوح، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً [سورة الرعد، الآية: 22]. و على أية حال فهذه الآية المباركة من القضايا التي يكون دليلها معها بعد تصورها؛ و فيها توبيخ و تقريع لكل من يعلم بالحق و لا يحقه أو يعلم بالباطل و لا يبطله فضلا عن أن يظهر خلافه في كل منهما، فإنه تعالى حاضر لدى القلوب فلا بد أن تكون القلوب حاضرة لديه حضورا عمليا لا اعتقاديا فقط، إذ لا أثر للاعتقاد بدون العمل.

و هذه الآية المباركة من الآيات التي تدل على إحاطته تعالى بما سواه و هذه الإحاطة واقعية فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة، و لذا عقّب سبحانه و تعالى علمه الإطلاقي بما سواه بالألوهية المطلقة تارة، فقال جل

ص: 298

شأنه: وَ هُوَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 3]. و أخرى: علقه على ذات الألوهية، فقال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ [سورة النحل، الآية: 23] و يأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ اَلْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ . الأمي من لا يكتب و لا يقرأ و هو صفة ذم، و قد تكون من صفات المدح كما في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنه كان أميا و لكن علمه اللّه تعالى من لدنه جميع المعارف و جهات التشريع. و الأماني جمع أمنية: و هي التصورات التي لا حقيقة لها و لا واقع و إن ظن أن لها واقعا و حقيقة.

و هذه الجملة تحتمل معنيين:

الأول: أن كتاب اللّه تعالى يشتمل على أشياء لا حقيقة لها بزعمهم و يشهد له قوله تعالى: وَ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً [سورة الفرقان، الآية: 5].

الثاني: أن يكون المراد أنه لاحظ لهم من معنى الكتاب و مراد كلامه تعالى، و همهم إنما يكون في غير ذلك. و إنما عبر بالامنية لأنه لا يتجاوز الوهم و الخيال الذي هو أنزل العوالم و لا يمكن أن يصل إلى مراده تعالى الذي هو من عالم الغيب، فيكون من أدلة النهي عن تفسير كلام اللّه بالرأي.

و تأتي بمعنى القراءة أيضا أي لا يعلمون الكتاب إلاّ قراءة اللفظ من دون التعدي إلى فهم المعنى الحقيقي. و هؤلاء هم الفريق الثاني من اليهود الذين لاحظ لهم من الكتاب إلاّ الأكاذيب و المفتعلات، و هم المأوّلون لكتاب اللّه على طبق آرائهم و أمنياتهم التي ليس لها أصل صحيح. و أما الفريق الأول فهم المحرفون لكتاب اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ . المراد بالظن الوهم أي ليس حظهم من الكتاب إلاّ ما يتوهمونه من الأغراض الفاسدة كما يأتي في ذيل الآية المباركة.

قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ . ذكر سبحانه و تعالى فريقين من اليهود و هم المحرفون لكتاب اللّه تعالى، و المأوّلون له. و بقي قسم ثالث و هم المفترون على اللّه تعالى.

ص: 299

قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ . ذكر سبحانه و تعالى فريقين من اليهود و هم المحرفون لكتاب اللّه تعالى، و المأوّلون له. و بقي قسم ثالث و هم المفترون على اللّه تعالى.

الويل: لفظ جامد لا تثنية فيه و لا جمع. و الويلات جمع ويلة لا الويل. و معناه شدة الشر و الحزن و العذاب و الهلكة، و قد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعين موضعا كلها مقرونة بما يدل على الذم و الحزن و المكروه،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إن الويل واد في جهنم بين الجبلين» و هذا من باب التطبيق لا بيان المعنى الحقيقي.

و قد كرر اللفظ في المقام ثلاث مرات لشدة عظم المعصية و تغليظا لفعلهم و هو كذلك عقلا، فإن الافتعال و الجعل من غير من له حق الجعل فعل شنيع و فيه خطر عظيم فأفعال هذه الفرق الثلاث و هم: المحرفون، و المأولون، و المفترون، فيها قبح عقلي و كل ذلك داخل في الظلم الذي يحكم بقبحه العقل فلا اختصاص له بقوم دون آخرين.

و إنّما أضاف اللّه تعالى الكتابة إلى اليد مع أنها لا تكون إلاّ بها تبيينا للموضوع كما في قوله تعالى: وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [سورة يس، الآية: 35] و في المحاورات: «رأيته بعيني» و «سمعته باذني». و إشارة إلى تحقير الموضوع يعني أن ما يفعل باليد لا يليق أن ينسب إلى اللّه تعالى فإن ما عنده ليس إلاّ الحقائق الواقعية التي تجل عن تدخل القوى الإمكانية فيها. و يمكن أن يكون فيه إيماء إلى إيكال الأمر إلى أنفسهم اي: أنه مع أنكم تعلمون أنه من مفتعلات أنفسكم كيف تنسبونه إلى اللّه تعالى.

و يراد من الكتاب الذي كتبته أيديهم الأعم مما كتبوه قبل بعثة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أو حينها أو بعدها، و من ذلك ما روي أن أحبارهم عمدوا إلى التوراة و حرفوا ما ورد في صفة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً . ليس المراد بالاشتراء خصوص الشراء مقابل سائر النقل و الانتقال بل المراد به التبديل، و وصف سبحانه و تعالى الثمن بالقلة إما لأجل فنائه و إن كان كثيرا أو لأجل أن الحق لا يقابل بأي ثمن

ص: 300

فإن كل ما في الدنيا إن قوبل بإزالة الحق عن مقره و إظهار الباطل لكان ذلك قليلا في مقابل هذا الذنب العظيم قال تعالى: لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 102] و أنى للنفوس المأنوسة بالماديات معرفة آيات اللّه جلت عظمته و قيمها الواقعية، و هذه الآية المباركة شارحة لقوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ كِتابَ اَللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 101].

و كرر سبحانه و تعالى الوعيد - في هذه الآيات المباركة - ثلاث مرات إما لأجل عظمة الجرم و شناعته كما مر، أو لأجل صدور ثلاث جرائم عظيمة هي أصل التغيير، نشره بين الناس، و أخذ الرشوة و إعمال الأغراض الشريرة في التغيير، فقال سبحانه.

قوله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ . أي:

لهم عذاب شديد لأجل التحريف و لأجل الأغراض الفاسدة و فعل المعاصي.

قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً . ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية المباركة خصلة من خصالهم السيئة و ضربا من غرورهم و ادعائهم أنهم من أبناء اللّه و أحبائه فلا بد و أن تكون مدة العقاب قليلة.

و قيل: إن أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام و قيل: أنها تمسهم أربعين يوما، و هي المدة التي عبدوا فيها العجل. و المس و اللمس بمعنى واحد، إلاّ أن الثاني أعم موردا من الأول، فيصح أن يقال: التمست الكتاب فلم أجده و لا يصح أن يقال: مسست الكتاب فلم أجده، قال تعالى: أَنّا لَمَسْنَا اَلسَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً [سورة الجن، الآية: 8] و لا يصح استعمال مسسنا السماء، لأن المنساق منه اللصوق و المقارنة الحقيقية بين الماس و الممسوس، و أكثر ما تستعمل مادة (م س س) في القرآن إنما هو في السوء و الضر و المكروه، و قد تستعمل في الخير أيضا، قال تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً

ص: 301

[سورة المعارج، الآية: 21].

و ربما تعترض غالب النفوس شبهة دوران مدة العقاب مدار مدة العصيان فإذا كانت مدة العصيان محدودة فلا بد و أن تكون الأولى أيضا محدودة فلا وجه للزيادة فضلا عن الخلود و الأبدية، و قد ذكرت هذه الشبهة في علم الفلسفة و الكلام و الحديث، و دفع عنه بأجوبة متعددة سيأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ . تقدم معنى العهد و هو حفظ الشيء و إحكامه و مراعاته حالا بعد حال، و العهد إما بين اللّه تعالى و بين خلقه و هو كثير و منه قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ [سورة يس، الآية: 60]. و كل ما بيّنه رسوله الباطني - و هو العقل - من حسن الإحسان و قبح الظلم، و جميع ما بيّنه أنبياؤه و رسله الظاهرية بواسطة الوحي السماوي يكون من عهود اللّه تبارك و تعالى على عباده. و إما ما بين العباد بعضهم مع بعض، و هي المعاملات التي يقوم بها النظام و جميع هذه الأقسام واجب الوفاء بها عقلا و شرعا.

و معنى الوجوب على اللّه تعالى حسن فعله و قبح نقضه، و كلما كان كذلك فهو واجب عليه قال تعالى: وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ .

قوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ . مركب من مقدمتين واضحتين يعترف الخصم بإحديهما و تثبت في حقه الأخرى لا محالة أي: إن كان لكم في دعواكم عهد من اللّه تعالى فلن يخلف اللّه عهده و هم يعترفون بعدمه فينسبون إليه ما لم يقله.

قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ . أي: تقولون ما لا دليل لكم عليه، و هذه نتيجة واضحة لعدم إثبات عهد اللّه إليهم، فنفى اللّه تعالى عنهم العلم و المعلوم تنبيها على كمال غباوتهم و لا تختص هذه الآية بقوم دون آخرين بل تجري في كل من تمنى على اللّه أمرا غير مشروع و افترى عليه في ذلك.

ص: 302

قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً . بلى: كلمة تستعمل غالبا مع النفي فتزيله و يثبت نقيضه قال تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [سورة الأعراف، الآية: 172] فأثبتوا الربوبية فكانوا مسلمين - بخلاف نعم فإنه تقرير غالبا - و عليه لو قالوا: نعم لكانوا كافرين، و إذا قيل: ما عندي شيء فقال المخاطب بلى فهو رد لكلامه، و إذا قال: نعم فهو تقرير هذا مع عدم القرينة في البين و إلاّ فتتبع هي لا محالة.

فكلمة «بلى» في المقام رد لما زعموه أي: ليس الأمر كما ذكرتم بل تمسكم النار كما تمس غيركم و تخلدون فيها.

و مادة «كسب» استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فأضيفت تارة إلى القلب فقال تعالى: يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة، الآية: 225]، و الى الأيدي أخرى فقال جل شأنه: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [سورة الشورى، الآية: 30]، و إلى النفس ثالثة قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [سورة المدثر، الآية: 38] و المرجع في الجميع واحد لعدم الفرق بين النسبة إلى الذات أو الى اليد.

و أصل المادة تستعمل في طلب النفع، سواء كان واقعيا أم وهميا أم خياليا، و يعتبر الاستمرار فيه في الجملة، فلا يقال لمن اشترى شيئا لطلب النفع مرة: إنه كاسب إلاّ بالعناية. و هذا من إحدى عناياته تبارك و تعالى في ما استعملت فيه هذه الكلمة في القرآن الكريم فلم يرتب الحكم على صرف الوجود غالبا إلاّ في الشرك.

و السيئة الفعل القبيح و هي ضد الحسنة و تشمل جميع القبائح من الصغائر و الكبائر و الشرك، فإن أريد بها في المقام الشرك - كما عن جمع من المفسرين - يكون قوله تعالى: وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بيانا للشرك الذي يكون خطيئة محيطة بالإنسان. و إن كان المراد بها مطلق السيئة فيكون المراد بالإحاطة اشتدادها حتّى يصير صاحبها من أهل الخلود في النّار.

قوله تعالى: وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . الإحاطة: الغلبة و الاستيلاء. و الخطيئة الحالة الخاصة الحاصلة

ص: 303

من مطلق الذنب الموجبة للخلود أو الشرك - أو ما يكون مثله - بقرينة الإحاطة و الخلود في النار. و ذكر الخطيئة دون السيئة إشارة إلى أن تكرر السيئة يوجب إحاطة الخطيئة و صدورها عنه و لو لم تكن عن التفات تفصيلي حينها بعد أن كان أصل السبب عن عمد و اختيار منه.

و دخول أصحاب الخطايا في النار و الخلود فيها كدخول الذين آمنوا و عملوا الصالحات في الجنّة و الخلود فيها مطابق للبراهين العقلية - كما يأتي - فإن من أحاطت به خطيئته يكون من الأشقياء و من كان كذلك فهو مخلد في النار، كما أن من آمن و عمل صالحا يكون من السعداء و كل من كان كذلك فهو مخلد في الجنّة.

ثم إن إحاطة الخطيئة بالإنسان تكون على أقسام: من أهمها الشرك و الكفر باللّه تعالى فإنهما يحيطان على القلب و الجوارح، قال تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ [سورة المائدة، الآية: 72] و قال جلّ شأنه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة مريم، الآية: 37] و منها متابعة الذنب للذنب بحيث تستولي السيئة على مجامع قلبه فتتبدل فطرته الأولية إلى فطرة أهل الجحيم و النار مع فرض عدم تخلل التوبة و الندم و ما يوجب الكفران في البين و قال تعالى: وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا [سورة الأنعام، الآية: 70]

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما من عبد إلاّ و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول اللّه عزّ و جل: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ . و منها الاستخفاف و الاستهانة بأوامر اللّه تعالى و نواهيه المؤدي إلى الاستهزاء بالدين قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الروم، الآية: 10] و غير ذلك من الأقسام التي يكون المناط فيها كله تبديل الذات المقتضية للسعادة إلى الشقاوة في مرتبة الاقتضاء فتتغير الذات من كثرة مزاولة السيئات و المعاصي، و عدم المبالاة بها، كما يصير الجبان بكثرة مزاولة الحروب شجاعا فمقتضيات

ص: 304

الذات تتغير بالملكات و هي تحصل بتكرر الأفعال.

و ما قيل: إنّ الذاتي لا يتغير و لا يتبدل (مردود) بأن ذلك في الذاتي المنطقي و ما هو لازم الماهية، لا الذاتي في العرف و الشرع اللازم للوجود لجهات خارجة عن الذات و الماهية، و يأتي تفصيل ذلك كله في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . بعد أن ذكر سبحانه و تعالى أصحاب النار ذكر هنا أصحاب الجنّة و هم الّذين آمنوا باللّه و اليوم الآخر و عملوا الصالحات و هذا من سنته تبارك و تعالى فإنه يقرن بين الترهيب و الترغيب و هو من بديع حكمته.

و هاتان الآيتان المباركتان تشبهان الآية السابقة و هي: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآية: 62] في أن كلا منهما في مقام بيان أن الخلود في الجنّة و النار إنما هو للسعداء و الأشقياء دون مجرد التسمية بالأسماء. و الفرق أن الآيتين الأخيرتين في مقام بيان ترتب الخلود في الجنّة على السعداء و الخلود في النّار على الأشقياء و يلزم الأثر للتسمية، و الآيتين الأوليين في مقام بيان عدم الأثر للتسمية أولا فيلزمه الخلود في الجنّة للسعداء و الخلود في النّار للأشقياء.

بحث روائي:

في المجمع عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا قال: «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فنهى كبراؤهم عن ذلك، و قالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فيحاجوهم به عند ربهم؛ فنزلت الآية»، و قريب منه ما رواه القمي.

أقول: تقدم أنّ ذلك تحريف في ما أنزل اللّه و مكر و خديعة.

ص: 305

و عن القمي أيضا في قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً : «قال بنو إسرائيل: لن تمسنا النار، و لن نعذب إلاّ الأيام المعدودات التي عبدنا فيها العجل فرد اللّه عليهم».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في تفسير العسكري في قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال (عليه السلام): «السيئة المحيطة به أن تخرجه عن جملة دين اللّه و تنزعه عن ولاية اللّه تعالى و تؤمنه من سخط اللّه و هي الشرك باللّه، و الكفر به، و بنبوة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و ولاية علي و خلفائه (عليهم السلام)، و كل واحدة من هذه سيئة تحيط به أي تحيط بأعماله فتبطلها و تمحقها».

و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : «إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، و قريب منها ما رواه الشيخ بأسناده عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: في ذلك روايات مستفيضة بل متواترة و كلها من باب المصداق و التطبيق، و تشمل جميع الأعمال الباطلة لفقد شرط من شروطها.

ثم إن الأفعال الصادرة عن الإنسان إما مباشرية له فقط، أو تسبيبية منه، أو مركبة منهما، و الجميع إما من الحسنات و الخيرات أو من الشرور و السيئات، و لا ريب في أنه يجزي جزاء الحسنات على الأفعال الحسنة مطلقا، بل مقتضى قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: 160] تضاعف الجزاء. و أما السيئات فإن كانت فعلا مباشريا فيعاقب عليها ما لم تمح بالتوبة بشروطها. و أما إذا كانت الأفعال تسبيبية منه،

فقد قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ما تواتر عنه: «من سنّ سنّة حسنة فله أجر من عمل بها و من سنّ سنّة سيئة فعليه وزر من عمل بها»، و تشهد لذلك الأدلة العقلية و تحريف كلام اللّه تعالى و آياته و تغيير السنّة المقدسة النبوية هو من القسم الأخير.

ص: 306

بحث فقهي:

قد استدل بالآية المباركة: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ على حرمة أخذ الأجرة على تدوين المصحف الشريف و حرمة بيعه، و أصل المسألة مذكورة في الكتب الفقهية، و قد استدلوا على الحرمة أيضا بأدلة أخرى لكنها قاصرة عن إثباتها فمقتضى الأصول و الأدلة و القواعد الجواز إلاّ أن يدل دليل معتبر بالخصوص على الحرمة و قد ذكرنا التفصيل في الفقه و من أراد المزيد فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ قُ

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أحوال بني إسرائيل و ما أنعم عليهم بأنواع النعم و ما ظهر فيهم من المعجزات الباهرات شرع في تعداد ما أخذ عليهم من العهود و المواثيق و هي أمور عقلية نظامية تنظم شؤونهم الفردية و الاجتماعية الدنيوية و الأخروية، و يترتب على مخالفتها و الاستخفاف بها الأحكام الوضعية و التكليفية. و إنما كرر جل شأنه ميثاق بني إسرائيل لأنهم أول من قامت فيهم الحركة الدينية و لعلهم يشكرون هذه النعمة، و يدينون بما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله) تعظيما لشأنه (صلّى اللّه عليه و آله) و اهتماما باتباعه و تسلية له

اشارة

ص: 307

لئلا يتأثر من لجاجهم و انكارهم، فإنهم جبلوا على ذلك.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ . الأخذ: الاستيلاء و التحصيل و الحيازة، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة جدا بالنسبة إليه تعالى و إلى خلقه، و كذا في السنة المقدسة

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي». و تقدم معنى الميثاق و هو العهد المؤكد و العقد المستحكم. و الموثوق به في الآيات المباركة أمور كلها مما يستقل العقل بحسنها، و اجتمعت الشرايع السماوية عليها.

و المعنى: اذكر ايها الرسول ما أخذناه من المواثيق عليهم، و قد بيّن سبحانه و تعالى هذه المواثيق بما يأتي.

قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ . جملة خبرية في مقام الإنشاء و هذا أبلغ في الطلب و آكد أي: اعبدوا اللّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى:

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 36] و هو غاية كمال العقل و أولى درجة الرقي إلى المقامات العالية التي لا حد لها و لا نهاية.

قوله تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً . أي أمرناهم بالإحسان إلى الوالدين، و هو حكم حسن يحكم به ذوو العقول لو لم يحكم بحسنه كل ذي شعور؛ و قد قرن سبحانه و تعالى الوالدين بالتوحيد في هذه الآية المباركة، و في جملة من الآيات قال تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [سورة الأنعام، الآية: 151]، و قال جلّ شأنه: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [سورة الإسراء، الآية: 23]. و ذلك، لأن النشأة الأولى أو الخلق و إن كان من اللّه تعالى و لكن دوام بقاء عالم الإنسانية بالوالدين، كما أن منشأ التربية الحقيقية من اللّه تعالى، لأنه الرب على الإطلاق و جميع ما سواه مربوب له، ثم بعد ذلك في النظام الأحسن تكون التربية من جهة الوالدين، و لذا قرن الشكر لهما

ص: 308

بشكره تعالى فقال جل شأنه أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14].

و التربية تارة: تكون جسمانية و هي التي يقوم بها الوالدان، و يتم بقاء النوع الإنساني بها. و اخرى: تربية معنوية و هي التي بها تقوم الحياة الأبدية، و يقوم بها الأنبياء و الأولياء و العلماء، و لا ريب في أفضلية الثانية من الأولى و اهميتها.

و إنما اطلق تعالى الإحسان إلى الوالدين، لأنه مما يختلف باختلاف الاعصار و الأمصار و الحالات كما هو معلوم، و يتم الإحسان إليهما بمعاشرتهما بالمعروف، و رعايتهما، و امتثال أوامرهما و التواضع لهما.

و كيف كان فأفعال الإنسان بالنسبة إليهما على أقسام ثلاثة: الأول ما أدرك أنه حسن، و الثاني ما أدرك أنه سيئ، و الثالث ما تردد في انه من الحسن أو السيئ، و يصح الأول بالنسبة إلى الوالدين، و لا يجوز الثاني، و في الأخير تفصيل يطلب من الفقه.

قوله تعالى: وَ ذِي اَلْقُرْبى . القربى هي القرابة أي: امرناهم بالإحسان إلى القرابة و هو مما تحكم به الفطرة أيضا، لأن بحفظ القرابة يتحقق نظام الأسرة، و الاجتماع الذي هو من أهم مقاصد النوع الإنساني فالإحسان إليها يقوي أواصر تلك القرابة و يصلحها.

قوله تعالى: وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ . اليتم هو الانفراد و منه قولهم درة يتيمة،

و قول الصادق (عليه السلام): «و اللّه نحن اليتامى» و اليتيم في الإنسان من فقد الأب، و في البهايم من فقد الأم، و في الطيور فيهما. و تقدم معنى المسكين و هو من أسكنته الحاجة، و أطلق سبحانه و تعالى الإحسان إليهم، لما مر آنفا في الإحسان الى الوالدين، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً . التفات في الكلام و عدول في الخطاب لأهمية المورد بعد أن أمر سبحانه و تعالى بالإحسان الى أفراد مخصوصين - و هم الوالدان و الأقربون، و اليتامى و المساكين - أكد ذلك بحسن

ص: 309

المعاشرة و القول الجميل و كل ما هو حسن للناس و لا بد من تقييد ذلك بأدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو اجمع كلمة لحفظ النظام، و احسن ما يجلب به قلوب الأنام،

فعن أبي جعفر (عليه السلام): «قولوا للنّاس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم» و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق به أيضا.

و هذه المواثيق لم تكن تختص بطائفة خاصة بل هي أمور فطرية حكم بحسنها العقل و حث عليها الشرع، فلو عمل بها النّاس لعمت الإلفة و زالت البغضاء و التنافر بينهم، و انقاد الكل للكل، و اضمحل العدوان بين أفراد الإنسان، و بلغ المجتمع الإنساني إلى ذروة المجد و الشرف، و لكنهم عمدوا إلى الشقاق و النفاق فتولوا عن الحق إعراضا فصاروا لما لا يتوقعون أغراضا.

قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ . بيّن سبحانه و تعالى معنى العبادة التي تقدمت في صدر الآية المباركة ليبطل جل شأنه افتعال المفتعلين لأن العبادة لا بد أن تستند بجميع خصوصياتها إلى الشارع. و الإقامة - كما تقدم - المواظبة على إتيان الصّلاة تامة الأجزاء و جامعة للشرائط، و هي أقوى صلة بين اللّه تعالى و عباده، و من أهم السبل في إصلاح النفس، لما تشتمل على الإخلاص للّه تعالى، و الخشوع لعظمته. كما أن الزكاة أقوى صلة بين الأغنياء و الفقراء ثم بينهم و بين اللّه تعالى، ففيها إصلاح المجتمع. و الزكاة أيضا من الأمور العبادية فلا بد أن تستند خصوصياتها إلى الشرع، و إن كان مطلق الصدقة محبوب بالفطرة لدى الأمم.

قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ . بيان لما وقع منهم من عدم الوفاء بالميثاق و معارضتهم له بالنفاق. و التولي هو الإعراض و المعروف انه إذا عدّي بنفسه يكون بمعنى الولاية و المحبة و الإقبال و إذا عدّي بعن كان بمعنى الإعراض و الإدبار، و القرينة في المقام على الثاني: «وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» . و غالبا ما استعمل لفظ التولي في القرآن الكريم إلاّ و عقّب بالإعراض مبالغة في الترك و التولي، و قد كان لتوليهم مظاهر مختلفة ذكر سبحانه و تعالى جملة منها في الآيات المتقدمة و سيأتي في الآيات اللاحقة بعضها الآخر.

ص: 310

و المراد بالمستثنى في قوله تعالى: إِلاّ قَلِيلاً بعض اليهود الذين أقاموا على دينهم، و هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في حكايته عن الشيطان فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية:

83]

و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «العالمون هالكون إلاّ العاملين، و العاملون هالكون إلاّ المخلصين، و المخلصون على خطر».

ثم إنّ التوجه إلى شيء يلازم الإعراض عما يضاده و ينافيه، فهما من الصّفات ذات الإضافة بينهما التلازم شدة و ضعفا، أو كمالا و نقصا فمن توجه إلى شيء من حيث هو مع قطع النظر عن أنه صنع اللّه تعالى و مظاهر آياته و مورد قضائه و رضائه، فقد أعرض عن اللّه تعالى بقدر ما توجه اليه، و أما إذا كان توجهه اليه من حيث انه مورد رضائه و طلبه لا يعد ذلك إعراضا عنه تعالى، بل توجها إليه تعالى، و هما يتحققان بالقلب، إذ لا يمكن أن يتحقق التوجه إليه تعالى بالجسم لما ثبت في الفلسفة من امتناع الجهة بالنسبة إليه عزّ و جل، قال تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 115]، و قال جلّ شأنه: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]. و الإعراض القلبي عنه عزّ و جل يكون إما بعدم الإعتقاد به، أو عدم سماع أحكامه، أو عدم العمل بها بعد الاستماع، أو الاستهزاء بآياته، أو التولي عن أنبيائه و رسله و القائمين مقامهم في التشريع.

و في الأخير يتحقق الإعراض القلبي و الجسماني معا، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و قد نسب إلى جمع من المفسرين أن هذه الآية المباركة منسوخة و اختلفوا في تعيين الناسخ، فقد ذهب جمع إلى أن قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً منسوخ بآية السيف، و هي قوله تعالى: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة التوبة، الآية: 29] و هو منسوب إلى ابن عباس و قيل غير ذلك.

و الحق أن الآية المباركة في مقام بيان أصل القانون و تشريع الحكم،

ص: 311

و ذكرنا أن مضمونها أحكام فطرية حكم بحسنها العقل إلاّ أن لها قيودا مذكورة في الكتاب، فليست الآية منسوخة و إلاّ لعمّ النسخ كل تقييد لمطلق، أو خاص لعام، و الحديث الوارد في المقام عن الصادق (عليه السلام) كما سيأتي محمول على ما ذكرناه إن تم اعتباره.

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ . ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية المباركة جملة من المنهيات التي أخذ العهد من بني إسرائيل باجتنابها، كما ذكر في سابقها مما أمروا بها. و السفك و الصب و الإهراق بمعنى واحد. و النفس - بالسكون - بمعنى الروح، و هما شيء واحد و إن اختلفا مفهوما، و هي اشرف ما في الإنسان و قد تحيرت العقول فيها و لم تزل مورد بحث العلماء و اجتهادهم، و غاية ما وصل العلم فيها مع بذل الجهود الجبارة أنها مبدأ الحياة و الحركة، و لكنهم لم يقدروا أن يتوصلوا إلى الحقيقة، بل كلما ازداد الجهد فيها في تعاقب القرون ازداد الإنسان بعدا عنها و ازدادت غموضا، و لذا قالوا:

إنّ قوله (عليه السلام): «من عرف نفسه فقد عرف ربه» من التعليق على المحال إن لوحظ بالنسبة إلى الحقيقة، و أما إذا لوحظ باعتبار الآثار فهو متيسر بحسب مراتب الإدراكات و الاستعدادات و النفس - بالفتح - الهواء الداخل في البدن و الخارج منه و به قوام الحياة و تأتي بمعنى الفرج، و منه

ما نسب إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «إني أجد نفس الرحمن من اليمن».

و في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ التفات إلى الحاضرين ترغيبا لهم إلى الإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) الذي يبين ما أخذ عليهم من المواثيق.

و الديار جمع الدار، سميت به لدورها على ساكنها و هي من الأمور التشكيكية الإضافية، فالدنيا مع سعتها دار الفناء، و الآخرة مع عدم انتهائها دار البقاء، و دار المسكين التي لا تسع مدّ رجليه دار أيضا. و الدّيار - بالتشديد - من سكن الدار.

و المعنى: و إذ أخذنا منكم العهد أن لا يسفك بعضكم دم بعض و لا

ص: 312

يخرج بعضكم بعضا من ديارهم بغير الحق مباشريا كان أو بالتسبيب و كل منهما من القبائح العقلية، و لذا اعترفوا و شهدوا بذلك.

و إنّما عبّر سبحانه بالنفس و جعل غير الشخص كأنه نفسه مبالغة في النهي، و تأكيدا في الترك و لأنهم أمّة واحدة بينهم روابط القرابة و المصلحة و الدين، فما يصيب واحدا منهم كأنما يصيب الأمة، و أراد سبحانه و تعالى بذلك تعليم حفظ الوحدة بين الأفراد مهما أمكنهم كقوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [سورة النور، الآية: 61].

قوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . الإقرار هو الإخبار الجازم بما هو لازم. و الشهادة من الشهود و هو الحضور الذي لا شك فيه. و المعنى انكم أقررتم بالميثاق و العهد؛ و تشهدون بما فعلتم به من الهتك و النقض.

قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ . إخبار عن نقضهم للعهد، و الخطاب إلى يهود عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و بيان لما نقضوه من سفك الدم و إخراج صاحب الدار من داره، و فيه إشارة إلى ما كان بين اليهود في عصر النبي من التنافر و التعاند و القتل و الأسر و العدوان و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

قوله تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ . التظاهر التعاون، و هو مشتق من الظهر بمعنى المعين، قال تعالى: وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88]. و الإثم و الوزر و المعصية بمعنى واحد.

و العدوان التجاوز عن الحد، و في المقام هو الإفراط في الظلم. أي أنه كان منكم من يعاون الظالم على إخوانه من اليهود بالإثم و العدوان أي القتل و الأسر و الإخراج من الديار.

قوله تعالى: وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ . أسارى جمع أسير، و هو كل مأخوذ قهرا. و قد يطلق الأسارى على من في الوثاق، و الأسرى على من في اليد بلا وثاق و تفادوهم من الفداء و هو طلب الفدية. و المعنى أنه يفدي كل فريق من اليهود أسرى أهل ملته و إن كان من أعدائه، ثم يعتذرون عن ذلك بأن دينهم أمرهم بفداء الأسرى من

ص: 313

بني إسرائيل. و ليس ذلك إلاّ من الاستهزاء بأحكام اللّه تعالى، و الإيمان ببعض الكتاب و الكفر بالبعض الآخر، فانه لو كان كذلك فلم يقتل بعضكم بعضا و يخرج بعضكم الآخر من دياره و هو محرّم عليهم في دينهم، و قد نهاهم اللّه تعالى عن ذلك كما ذكره تعالى.

قوله تعالى: أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ . توبيخ و تأنيب أي: أنّكم إذا كنتم مؤمنين فما بالكم تؤمنون ببعض الكتاب و هو فداء الأسرى، و تكفرون ببعض و هو حرمة القتل، و إخراج اهل الديار من ديارهم.

و فداء الأسير حسن لا ريب في محبوبيته بشرط أن لا يكون الفادي هو السبب في أسره، و إلاّ كان تبعيضا في الإيمان، و كفرا بأحكام اللّه، و لذا توعّد سبحانه على من كان كذلك بالخزي في الدنيا و العذاب الشديد في الآخرة. و التعبير بالكفر إشارة إلى استهزائهم بحكم اللّه و جحودهم له، و إلاّ فإن مجرد ترك العمل ببعض الأحكام لا يوجب الكفر و إن أوجب الفسق.

قوله تعالى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ . الخزي هو العذاب و الهوان. قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [سورة آل عمران، الآية:

192] و التعبير بالرد إشارة إلى أن مسيرهم في المبدأ و المنتهى واحد، من العذاب إلى العذاب.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . لا تخفى عليه خافية فقد أعد لكل عمل جزاءه، و قد تقدم معنى ذلك، و فيه زجر شديد لهم، و في مثل هذه الآيات تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عمّا كان يلقاه من اليهود، و ارشاد لأمته إلى نبذ ما فعله اليهود و إلاّ أصابهم ما أصاب اليهود.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ . بيان لقبح أفعالهم، و قبحهم في تبديل الحياة الأبدية الشريفة بالحياة الزائلة الخسيسة بتركهم أحكام اللّه تعالى، و استهزائهم بآياته و فسقهم، و مثل هذا التبديل مما حكم العقل بقبحه، و أجمعت الشرايع الإلهية على التنديد به، قال تعالى في شأن الآخرة: وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ [سورة العنكبوت، الآية:

ص: 314

64]، و قال جل شأنه في الدنيا: أَنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ [سورة الحديد، الآية: 20]، و قال تعالى: فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ [سورة التوبة، الآية: 38] و قد وردت أخبار كثيرة عن المعصومين (عليهم السلام) في ذم الدنيا و طالبها و الترغيب إلى الآخرة،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ما اشتهر عنه: «الدنيا ميتة و طالبها كلاب» إلى غير ذلك من الأخبار التي يصعب ضبطها.

إن قيل: إنه كيف تكون الدنيا كذلك و أنها مزرعة الآخرة و لولاها لم تتحقق الجنان العالية و لا الوجوه الناضرة. (يقال): إذا لوحظت الدنيا من حيث نفسها فهي قبيحة مذمومة. و إذا لوحظت من حيث وقوعها في طريق الآخرة بما ارتضاه اللّه تعالى فهي ممدوحة بل هي من بعض مظاهر الآخرة ظهرت في هذا العالم لمصالح كثيرة على ما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ . الخفيف معروف، و هو من المعاني الإضافية فربما يكون شيء واحد خفيفا من جهة و ثقيلا من جهة أخرى،

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «قول لا إله إلاّ اللّه خفيف على اللسان ثقيل في الميزان». و هو في المقام بمعنى التسهيل،

كقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «من استخف بصلاته فلا يرد عليّ الحوض» أي تساهل فيها. و يستعمل في القرآن غالبا مقرونا بالخلود، قال تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 88] و يمكن أن يستفاد الخلود في المقام من قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لأنهم بأعمالهم قد سدوا على أنفسهم أبواب رحمته تعالى فلا ينصرهم ناصر، فيكون عدم النصر مساوقا للخلود في النار، و تقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع أيضا.

و ذكر كلمة الفاء في قوله تعالى فَلا يُخَفَّفُ قرينة على أن مدخولها مترتب على أفعالهم من باب ترتب المعلول على علته، كما في قول القائل تحركت اليد فتحرك المفتاح.

ص: 315

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال: «أن تحسن صحبتهما، و أن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين».

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً : «قولوا للناس حسنا، و لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو».

و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن اللّه يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين، المتفحش، السائل الملحف، و يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف». و مثله ما رواه في الكافي و المعاني:

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً : «نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله عزّ و جل: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ الآية.

و عن العياشي عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «إن اللّه بعث محمدا (صلّى اللّه عليه و آله) بخمسة أسياف: فسيف على أهل الذمة، قال اللّه تعالى: قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً نزلت في أهل الذمة، ثم نسختها أخرى قوله تعالى: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ الآية».

أقول: المراد من النسخ في المقام ليس المعنى المصطلح فيه كما يأتي في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [سورة البقرة، الآية: 106] بل المراد التقييد و التخصيص، كما يقيد بقوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 194]، و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: 40].

و في تفسير العسكري في قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ

ص: 316

«أقيموا الصّلاة بتمام ركوعها و سجودها، و مواقيتها، و أداء حقوقها. و آتوا الزكاة من المال، و الجاه، و قوة البدن».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك في أول سورة البقرة.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في وجوه الكفر في القرآن قال: «الرابع من الكفر: ترك ما أمر اللّه، و هو قول اللّه عزّ و جل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ - الى قوله تعالى - أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكفّرهم بترك ما أمر اللّه، و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده، فقال عزّ و جل: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ - الآية -».

أقول: ترك ما أمر اللّه تعالى له مراتب: مجرد الترك مع الإعتقاد به واقعا، و الترك مع عدم الإعتقاد، و الترك مع الاستهزاء، و الأخيران يوجبان الكفر، و الأول موجب للفسق كما فصلنا ذلك في الفقه فراجع كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام].

بحث دلالي:

هذه الآيات المباركة و غيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم في قصص بني إسرائيل و أحوالهم كلها تشير إلى وحدتهم و ترابطهم حتّى كأن الكلام عن الأبناء و الآباء واحد فيهم، و أن اللاحق نفس السابق في العمل، فاعتبر القرآن أنّ جزاء الجميع واحد و إن كان العمل صادرا عن بعضهم، و ليس ذلك إلاّ لأجل وجود الترابط الوثيق بين أفراد اليهود فلهم وحدتهم في الدين و النسب و الاجتماع و غيرها حتّى ليعدّ الفرد اليهودي عنوانا مشيرا إلى أمته، و له من الأخلاق و العادات ما لغيره من اليهود، فقد اتفقت طباعهم و اتحدت نفوسهم و قلّما تكون هذه الظاهرة الاجتماعية في الأمم و الجماعات.

فكان خطاب القرآن مع اليهود في عصر التنزيل كالخطاب مع اليهود في غير عصرهم.

و لعل السر في إصرار القرآن على استعمال هذا الأسلوب من الخطاب

ص: 317

هو اعتبار هذه الأمة من أحوال الماضين، فإن اللّه تعالى لم يذكر لنا أحوالهم إلاّ للاعتبار بها، أو لأجل بيان أن سنة اللّه تعالى في الاجتماع الإنساني أن تكون متكافلة متعاونة يسعى كل فرد في إسعاد أمته، و يعتبر سعادته بسعادتها، و في ذلك آيات و روايات كثيرة يأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ

اشارة

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) من أهم العهود و المواثيق الإنسانية مع اللّه تبارك و تعالى إرشاده إلى المعارف الإلهية التي فيها الكمال الإنساني و لم يتمكن البشر أن يبلغ ذلك إلاّ بمرشدين من قبله تعالى و هم الرسل و الأنبياء بما أنزل عليهم من الكتب و الأحكام. و قد جرت سنته تبارك و تعالى أن يرسل الرسل بعضهم إثر بعض لئلا ينسى الإنسان ما عهد إليه ربه و لا يكون في حيرة و ضلالة. و مما أنعم تعالى على بني إسرائيل أن أرسل إليهم عددا من الرسل لينبئوهم بما عهد إليهم ربهم و يجددوا المواثيق عليهم، فلم يكن منهم إلاّ الإصرار على الكفر و العصيان ذلك لأنهم اتبعوا الشهوات فقست قلوبهم، فاستحقوا اللعن و العذاب الأليم بما كانوا يفعلون.

اشارة

ص: 318

التفسير

قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ . المراد من الكتاب هو التوراة الكتاب المقدس أول الكتب السماوية. و التقفية هي الارداف و المتابعة كلفظ تترى، قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [سورة المؤمنون، الآية: 44] أي متتابعا. و المعنى: لقد أرسلنا موسى و أعطيناه التوراة ثم أتبعنا بعد موته رسلا على شريعته يجددون العهد يأمرون و ينهون. و عن جمع إن عدد الرسل بين موسى و عيسى اربعة آلاف. و عن آخرين إنهم سبعين ألفا، منهم من ذكرت أسماؤهم في القرآن مثل داود و سليمان. و يونس و الياس و اليسع و ذي الكفل و يحيى. و زكريا (عليهم السلام). و منهم من لم تذكر أسماؤهم منهم يوشع صاحب دعاء السمات المعروف عندنا.

و قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إذا دعوتم اللّه بالأنبياء المستعلنين فادعوه بالأنبياء المستخفين».

قوله تعالى: وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ . البينات: الحجج القيّمة، و البراهين الواضحة، فتشمل الإنجيل و جميع معجزات عيسى (عليه السلام) و هي التي ذكرها اللّه تعالى في سورتي آل عمران و المائدة.

و عيسى بالسريانية أيشوع - بتقديم الهمزة ثم الياء و الشين المعجمة - و معناه السيد أو المبارك، و هو من الأنبياء اولي العزم و صاحب الكتاب المقدس، و شريعته ناسخة لكثير من شريعة موسى (عليه السلام) مصدق للتوراة، و مبشر برسالة احمد (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف، الآية: 6] و لهذا خصه اللّه تعالى بالذكر في المقام بعد موسى (عليه السلام).

قوله تعالى: وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ . التأييد: التقوية و الإعانة.

و القدس - بضم الدال أو سكونه - الطهارة و التطهير عن كل ما يوجب النقص، و يأتي بمعنى الكمال الأتم، و بهذا المعنى يكون من أسمائه الحسنى. فيقال

ص: 319

«يا قدوس». و روح القدس هو جبرائيل الذي ينزل على الأنبياء (عليهم السلام) و منه يستمدون العلوم النازلة من اللّه تعالى على البشر، فتطهر النفوس المستعدة عن أدناس الرذائل و تبلغ إلى ما أعدت لهم من درجات الفضائل.

و تأييد عيسى (عليه السلام) بروح القدس كان من أول حمل امه به إلى أن رفع إلى السماء كما يأتي بعد ذلك. هذا و لكن يظهر من جملة من الأخبار أن روح القدس غير جبرائيل، و هو مع الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) يستمدون منه و أما بالنسبة إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي هو بدء سلسلة النزول و ختم سلسلة الصعود، فمقتضى

المستفيضة عنه (صلّى اللّه عليه و آله) «أول ما خلق اللّه روحي [أو نوري]» أن يكون جبرئيل يخدمه لا أن يكون مؤيّدا بجبرئيل، و في المقام تفصيل نتعرض له في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ .

الهوى: الميل إلى الشيء، سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه الى النار إذ يستعمل غالبا في الشر و فيما ليس بحق. و المعنى: أنكم تتبعون أهواءكم حتّى في اتباع رسل اللّه، فمن كان منهم موافقا لهواكم تتبعونه، و تخالفون من لا يكون كذلك.

قوله تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ . أي أنكم كذبتم فريقا من الرسل، كعيسى (عليه السلام) و محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و تقتلون فريقا آخر منهم كيحيى و زكريا (عليهما السلام) و غيرهما. و من إيراد الفعل بالمضارع يستفاد استمرارهم على هذا الفعل الشنيع فصار العناد و الجحود سجية لهم.

قوله تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ . الغلف - بسكون اللام - جمع الأغلف - و بضمه - جمع غلاف - كحمر و حمار - بمعنى الغطاء. و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلاّ في موردين: أحدهما هنا، و الآخر في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها [سورة النساء، الآية: 155] و كلاهما ورد في شأن اليهود و في مقام ذمهم و الطعن فيهم و المراد به على التقديرين أنهم قالوا قلوبنا مملوءة من علم التوراة فلا نحتاج

ص: 320

إلى شريعة جديدة، أو أن قلوبنا في حجاب و غلاف لا نفهم ما جاء به الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، كما قال تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [سورة فصلت، الآية: 5] استخفافا بما أنزله اللّه تعالى و غرورا بما عندهم. و المعنيان متلازمان كما لا يخفى، و هذا القول - كسائر أقوالهم و أفعالهم القبيحة - من مظاهر استكبارهم. و لا يختص ذلك باليهود بل يصدر من كل من يزعم كمالا لنفسه - و هو فاقد له - فيغتر بما عنده، و قد ردّ اللّه عليهم، و أبطل مزاعمهم.

قوله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ . اللعن: الطرد و المعنى إن سبب نفورهم عن الإيمان ليس ما قالوه بل هو كفرهم و عنادهم كما جبلت عليه نفوسهم مما أوجب طردهم و بعدهم عن كل خير، و منه الإسلام.

قوله تعالى: فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ . قليلا صفة للمصدر أي: إيمانا قليلا، و التنوين فيه للتنكير، و «ما» نكرة تفيد تأكيد الإبهام أو زيادته أي:

يؤمنون ايمانا قليلا يكون بحكم العدم من حيث الكمية و الكيفية. و يستفاد منه أنه لما كان سبب لعنهم و طردهم عن رحمته تعالى هو كفرهم و لجاجهم و عنادهم المنطبعة عليه نفوسهم فهم قوم قد كتب عليهم الشقاء فلا يرجى منهم خير، و لا يؤمل منهم ايمان إلاّ إذا أدركته بركة التوفيق منه عزّ و جل فيفيء الى فطرته، فيؤمن، و إن كان ذلك قليلا جدا.

قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ . بيّن سبحانه و تعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاق بني إسرائيل، و هي من مظاهر استكبارهم و بغيهم، أي لما جاءهم القرآن بما فيه من الدلائل على أنه من عند اللّه تعالى مصدق لما معهم من التوراة المشتملة على التوحيد و المعارف الإلهية، المبشرة بالقرآن و رسالة محمد (صلّى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا . الاستفتاح الإستنصار،

و منه الحديث كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «يستفتح بصعاليك المهاجرين» أي يستنصر بهم

كما ورد في حديث آخر عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أنه قال: «إنما نصر اللّه هذه الأمة

ص: 321

بضعفائها بدعوتهم و صلاتهم و إخلاصهم» و المعنى: يستنصرون بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و شريعته على المشركين، و يأملون لأن يستظهروا به على من سواهم من المشركين.

ص: 322

و يختلف باختلاف المتعلق. و يستعمل في الخير و الشر. و في مورد الإطلاق ينصرف إلى الشر، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة، الآية: 198]، و قال جلّ شأنه: وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة الشورى، الآية: 42] و من مفهومه يستفاد البغي بالحق،

و في الحديث: «إن اللّه يحب بغاة العلم» أي طلاب العلم و رواده.

و في الحديث أيضا: «أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون و تنصرون بضعفائكم».

و جملة «أَنْ يُنَزِّلَ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ» في موضع نصب بيان للبغي أي: أن سبب كفرهم إنما هو البغي الذي جبلت عليه نفوسهم، و كانت له أسباب متعددة منها كراهة أن ينزل اللّه تعالى من فضله على من يشاء من عباده، و قد حملهم الحسد على أن يحتفظوا لأنفسهم الحركة الدينية، و القول بأنهم شعب اللّه المختار بأن لا يعترفوا بنبي في غير ملتهم و حسدهم هذا و كفرهم نظير كفر إبليس باللّه تعالى، و حسده على آدم (عليه السلام) فهو الذي شيد أساس الكفر و الجحود، و تبعه اليهود فالحقيقة واحدة و المظاهر مختلفة.

قوله تعالى: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ . تقدم ما يتعلق به. و المراد انهم رجعوا إلى غضب على غضب بتكرار المعاصي منهم و ان كل سوء اعتقادي يصدر من الإنسان ثم يصدر منه سوء آخر كذلك فهو من الغضب على الغضب، فلا وجه لجعل الغضب الأول هو الذي استوجبوه بالكفر بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الغضب الثاني هو الذي لحقهم من عبادة العجل، أو غضب اللّه عليهم من أجل الكفر مع المعرفة و غضبه الآخر من أجل حسدهم و عنادهم للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) أو غير ذلك من الوجوه التي ذكرها المفسرون، بل يشمل جميع المخالفات الإلهية المتكررة التي توجب الغضب المستمر عليهم، و لذلك مصاديق مختلفة فإن كل من يختار دينا باطلا ثم يتركه و يدخل في دين باطل آخر، أو من يرتكب مخرما تكليفيا ثم يعقبه بمحرم تكليفي آخر يختلف مع الأول في النوع، أو يرتكب محرما تكليفيا آخر متفق مع الأول في النوع من الكبائر، أو كان من الصغائر من دون أن يتخلل بين ارتكاب المحرمات تكفير و توبة، فجميع هذه الصور تكون داخلة في هذه الآية

ص: 323

المباركة، و إن الفاعل يستوجب غضبا على غضب على حسب مراتب الذنب كبيرة أو صغيرة.

قوله تعالى: وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ . الهوان بمعنى الذلة و هو إما ممدوح عند الخالق و المخلوق، و ذلك في ما إذا طرح الإنسان عن نفسه جميع أنحاء الأنانية و التكبر كما قال تعالى: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً [سورة الفرقان، الآية: 63] و هو من الخلق الكريم، و الروايات في مدحه متواترة، و يكفي في حسنه سيرة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين (عليهم السلام)

و قد روى الفريقان عنه (صلّى اللّه عليه و آله) : «المؤمن هيّن ليّن».

و إما مذموم و هو ما إذا حصل عن استخفاف الغير للإنسان و استذلاله له في غير ما اذن فيه الشرع، و لا ريب في أنه مرجوح بل حرام، و أما إذا كان بإذن منه ففيه تفصيلات مذكورة في الفقه.

و المراد به في المقام ذلك الذل و الإهانة الحاصلان للإنسان من ارتكابه المعاصي و المحرمات الإلهية، و الكفر الموجب لخلوده في النار. و في جعل الظاهر موضع المضمر - فلم يقل: و لهم عذاب مهين - إشارة إلى بيان التعليل في خلودهم في النار و هو الكفر.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا . ذكر سبحانه و تعالى مظهرا آخر من مظاهر استكبارهم و غرورهم، و قد سبق أن قالوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ لم نفهم الإيمان، و لا نعقل ما يدعو إليه الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و هنا ذكر تعالى اعتذارا آخر منهم و الرد عليهم.

أي: إذا قيل لليهود آمنوا بالقرآن الذي أنزله اللّه على رسوله الكريم (صلّى اللّه عليه و آله) قالوا بغيا و استكبارا: نؤمن بالذي أنزل علينا من التوراة و لا نؤمن بغيرها، و في قوله تعالى: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ إشارة إلى أن المناط هو الإيمان بالذي أنزله اللّه تعالى سواء كان على موسى (عليه السلام) أو محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ الأنبياء إنما هم مبلغون عن اللّه تعالى. و فيه رد لمزاعم اليهود و غيرهم من أن الإيمان لا بد و أن يكون بالذي أنزل على نبي

ص: 324

معين، كما أن فيه إيماء إلى أن الإيمان بجميع الرسل و الأنبياء أخذ بنحو الوحدة فمن لم يؤمن بواحد منهم فكأنه لم يؤمن بالجميع، و يدل على ذلك قوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية:

136].

قوله تعالى: وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ . مادة (وري) تأتي بمعنى الستر في الجملة سواء دلت عليه بالمطابقة كقوله تعالى: حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [سورة ص، الآية: 32]، و قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [سورة الأعراف، الآية: 26]، أو بالالتزام كما في المقام، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم منها الخلف و الأمام و غيرهما. و الجامع القريب بين تلك الاستعمالات ما ذكرناه.

فما عن بعض اللغويين من أنها من الأضداد تستعمل في الخلف و الأمام خلط بين المفهوم و المصداق، و كم لهم من هذا النحو من الاخلاط في اللغة كما لا يخفى.

و المعنى: إنهم يكفرون بما عدا ما أنزل عليهم من القرآن و هو الحق الذي لا ريب فيه جاء مصدقا لما معهم. و فيه من الإشارة إلى سفاهتهم و خبطهم في دعواهم ما لا يخفى، فإنهم لو كانوا مؤمنين بما أنزل عليهم لاستلزم الإيمان بالقرآن، لأن التوراة تشتمل على البشارة بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و ما أنزل عليه، و أن القرآن مصدق للتوراة في كثير من الأحكام، و أنّهم إذا كانوا مؤمنين كذلك فلما ذا يقتلون أنبياء اللّه تعالى؟! مع أن التوراة تعظّم شأنهم، و تنهى عن مطلق القتل فضلا عن قتل الأنبياء، فإيمانهم بما أنزل عليهم و الكفر بما سواه إن هو إلاّ تناقض في القول و الاعتقاد و اتباع الشهوات.

قوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إلزام لهم بالحجة أي: انكم تتبعون الشهوات و الأهواء، لأنه إذا كنتم صادقين في إيمانكم بما أنزل على الأنبياء فلما ذا تقتلونهم، فإنهم لم يدعوكم إلاّ إلى الإيمان و العمل الصالح، و نهوكم عن القتل مطلقا.

ص: 325

قوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إلزام لهم بالحجة أي: انكم تتبعون الشهوات و الأهواء، لأنه إذا كنتم صادقين في إيمانكم بما أنزل على الأنبياء فلما ذا تقتلونهم، فإنهم لم يدعوكم إلاّ إلى الإيمان و العمل الصالح، و نهوكم عن القتل مطلقا.

و في إسناد القتل الى اليهود في عصر التنزيل، مع أنه وقع من أسلافهم ما تقدم كرارا من أنّهم أمة واحدة، و أنهم في الطباع و العادات و الأخلاق كنفس واحدة فاقتضى صحة خطاب الأبناء بما فعل الآباء.

بحث روائي:

في «الكافي» عن الصادي (عليه السلام) في قول اللّه تعالى:

وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: «كان قوم في ما بين محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و عيسى (عليه السلام)، و كانوا يتوعدون أهل الأصنام، بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و يقولون: ليخرجنّ نبيّ و ليكسرنّ أصنامكم ليفعلنّ بكم ما يفعلنّ، فلما خرج رسول اللّه كفروا به».

أقول: يمكن أن يجمع بين هذه الرواية و الروايات الآتية الظاهرة في اليهود إما بتقييد هذه الرواية بها، أو أنهم قوم آخرون غير اليهود.

و عن القمي: «كانت اليهود يقولون للعرب قبل مجيء النبي (صلّى اللّه عليه و آله): أيها العرب هذا أوان نبي يخرج من مكة و كانت مهاجرته بالمدينة، و هو آخر الأنبياء و أفضلهم، في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة، يلبس الشملة و يجتزي بالكسرة و التميرات، و يركب الحمار العريّ، و هو الضحوك، القتّال يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى، يبلغ سلطانه منقطع الخف و الحافر، لنقتلنكم به يا معشر العرب قتل عاد. فلما بعث اللّه نبيه بهذه الصّفة حسدوه و كفروا به، كما قال اللّه تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا... الآية».

أقول: يمكن أن اليهود قد استظهروا صفاته (صلّى اللّه عليه و آله) و حالاته من التوراة.

ص: 326

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ... الآية قال (عليه السلام): «كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع؛ فمرّوا بجبل يقال له:

حداد، فقالوا: حداد و أحد سواء، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء، و بعضهم بفدك، و بعضهم بخيبر. فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه و قال لهم: أمر بكم ما بين عير و أحد، فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عير و هذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت.

و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر: انا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: إنا قد استقرت بنا الدار، و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ تبّع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه، فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلاّ مقيما فيكم؛ فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي، و ليس ذلك لأحد حتّى يكون ذلك، فقال لهم: فإنّي مخلّف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده. فخلف حيين تراهم: الأوس و الخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم:

أما لو بعث محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لنخرجنّكم من ديارنا و أموالنا، فلما بعث اللّه محمدا آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا و قريب منه ما في الدر المنثور عن ابن عباس.

أقول: «عير و أحد»: جبلان بالمدينة كما ورد في أخبار التقصير في الصّلاة أيضا،

و في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «حرّم ما بين عير و احد».

و نقل الواحدي عن ابن عباس: «كان يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعادت اليهود بهذا الدعاء، و قالت: اللهم إنّا نسألك

ص: 327

بحق النبي الأمي الذي وعدتنا ان تخرجه لنا في آخر الزمان إلاّ نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كفروا به فأنزل اللّه تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي بك يا محمد - الى قوله تعالى - فلعنة اللّه على الكافرين».

و في الدر المنثور عن ابن عباس أنه قال: «كانت يهود بني قريظة و النضير من قبل أن يبعث محمد (صلّى اللّه عليه و آله) يستفتحون اللّه يدعون اللّه على الذين كفروا، و يقولون: اللهم إنّا نستنصرك بحق النبي إلاّ نصرتنا عليهم، فينصرون، فلما جاءهم ما عرفوا: يريد محمدا (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يشكوا فيه كفروا به» و قريب من ذلك روايات أخرى.

أقول: عن بعض المفسرين الإشكال في هذه الروايات الأخيرة أولا: بقصور السند. و ثانيا: بوهن الدلالة، لأنه لا وجه لإقسام اللّه تعالى مع أنه لا حق في البين حتّى يقسم به، لأنّ الكل مخلوقه و مملوكه تعالى.

و لكنه غير صحيح أما الأخبار فلأنها مستفيضة بين الفريقين، بل متواترة معنى كما لا يخفى على الفاحص المتتبع، فلا موضوع لتضعيف السند. و أما إقسام اللّه تعالى فإقسام العظيم بما هو شريف و محترم لديه تعالى، و القسم بالعزيز من العرف المحاوري بين جميع أفراد الإنسان و عليه جرت محاورة الكتاب و السنة، قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الحجر، الآية: 72]، و قال تعالى عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص، الآية: 82]،

و في الحديث إن اللّه تعالى قال: (و عزتي و جلالي لأقطعن أمل كل مؤمل أمل غيري).

و أما أنه لا حق في البين حتّى يقسم اللّه تعالى به فلا وجه له، لأن الحق هو الثابت الواقع المتحقق فاللّه عزّ و جل هو الحق المحض و جميع ما سواه حق له، لأنه مالك كل شيء و خالقه و اليه مرجع الجميع، و أي معنى للحقّية يتصور أشد و أعلى من ذلك؟! و هو تعالى جعل لبعض عباده حقا على نفسه الأقدس تشريفا و تعظيما لهم، قال تعالى: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ

ص: 328

[سورة الروم، الآية: 47]،

و في الحديث: «حقّ على اللّه تعالى أن لا يعصى في مكان إلاّ و أظهرها للشمس ليطّهرها» و الأحاديث في موضوع جعل اللّه تعالى حقا لخلقه على نفسه خصوصا عباده المخلصين كثيرة جدا، و خاتم النبيين من أفضلهم، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام.

العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال: و إنما نزل هذا في قوم اليهود، و كانوا على عهد محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لم يقتلوا أنبياء اللّه بأيديهم، و لا كانوا في زمانهم، و إنما قتل أولياؤهم الذين كانوا من قبلهم، فنزّلوا بهم أولئك القتلة فجعلهم اللّه منهم و أضاف إليهم فعل أوائلهم بما تبعوهم و تولوهم».

أقول: تقدم وجه ذلك في البحوث السابقة فلا وجه للتكرار،

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَو

اشارة

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ اَلنّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ اَلْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) تبين هذه الآيات المباركة أخذ الميثاق و التشديد فيه ثم كفرهم و ارتدادهم، ورد لأمانيّهم الباطلة من أنهم أبناء اللّه تعالى و أن الدار الآخرة لهم دون غيرهم، و الذم بأنهم أحرص النّاس على الحياة الدنيا.

التفسير

قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ . البينات جمع بيّنة، و هي الدليل الواضح. و المراد بها الدلائل الواضحة و البراهين الظاهرة، و هي إما

ص: 329

عقلية، أو حسية، أو هما معا، و بينات موسى (عليه السلام) هي التوراة، و ما ذكره تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [سورة الإسراء، الآية: 101]، و هي العصا، و السنون، و اليد، و الحجر، و الدم، و الطوفان، و القمل، و الضفادع، و فلق البحر و سيأتي التفصيل في سورة الإسراء.

و هي آيات باهرات تدل على وحدانيته تعالى فلا مجال للشك و الريب بعد مجيئها.

قوله تعالى: ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ . أي أنكم بعد أن وضح لكم الحق و ظهر صدق موسى (عليه السلام) في ما يدعيه من توحيد اللّه تعالى، و أنه هو المعبود المطلق عدلتم إلى عبادة العجل و اتخذتموه إلها لكم و أنتم ظالمون، و أي ظلم أعظم من الشرك باللّه تعالى، و الارتداد عن دينه، و فيه من التوبيخ و التقريع العظيم لهم و يستفاد من هذه الآية المباركة أن الظلم الواقع منهم إنما كان بعد الإمهال لهم بالنظر في تلك الآيات البينات، و إتمام الحجة، و حينئذ يكون ظلمهم أعظم.

قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا . تقدم شرح مثله في الآية المباركة - 63 من هذه السورة إلاّ أن في الآية السابقة ذكر سبحانه و تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ و هنا أمرهم بالفهم، و المعنيان متقاربان، فإن المراد من الذكر هو المذاكرة و الحفظ كما أن المراد من السمع هو الفهم و العمل بالمسموع لا خصوص الدرك الظاهري من دون ترتيب الأثر عليه، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ [سورة الأنفال، الآية: 21] فإن السماع الحقيقي الذي يترتب عليه نظام الإفادة و الاستفادة، و التعليم و التعلم، بل جميع الكمالات إنما هو العمل بالمدرك إن كان حقا لا نفس الإدراك من حيث هو، إذ ليس فيه كمال حتّى يذكر، و هذا هو المراد بقوله تعالى: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ [سورة البقرة، الآية: 285] و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [سورة الزمر، الآية: 18] و غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة. و لعل ذكر السمع هنا لصحة إردافه بقوله تعالى: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا و إلاّ فالسمع و الذكر في الحقيقة واحد كما عرفت.

ص: 330

قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا . التفات من الحاضر إلى الغيبة و هذا كقوله تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [سورة البقرة، الآية: 75] إلاّ أن المقام يدل على سرعة النقض. أي: أنهم قبلوا الميثاق و لكنهم خالفوه و لم يعملوا به، و الظاهر أن ذلك كناية عن بيان حالهم و سرعة عصيانهم. و قيل: إنه من ظاهر مقالهم. و على أي تقدير ففيه توبيخ، ورد لمزاعمهم حيث قالوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [سورة البقرة، الآية: 91]، و هذا أيضا من فضائحهم، إذ كيف يقبلون أمرا يعلمون أن فيه سعادتهم، ثم يبادرون إلى إنكاره و عصيانه.

قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ . الإشراب المخالطة و الامتزاج، و هو كناية عن انهماكهم في حب العجل حتّى كأنه خالط قلوبهم كما يخالط الصبغ الثوب، أو كما يدخل المشروب في بدن الإنسان أي أنهم بسبب كفرهم قد انهمكوا في حب العجل، و ذلك لأن كثرة ملازمة الشيء و محبته توجب صيرورة القلب و الإرادة مظهرا من مظاهره، و قد اشتهر: «أنّ حب الشيء يعمي و يصم»،

و في الحديث: «يحشر النّاس على نياتهم يوم القيامة»

و فيه أيضا: «من أحب شيئا حشره اللّه معه» و إشراب القلوب لما هو المحبوب وجداني لكل ذي قلب خولط قلبه بغير ذكر اللّه تعالى.

و يرجع حب بني إسرائيل للعجل إلى ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فانه كان لهذا الحيوان منزلة عظيمة عند المصريين، و سيأتي في سورة الأعراف تفصيل القصّة.

قوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . توبيخ و تقريع عظيم لهم أي بئس الإيمان إيمانكم الذي يأمركم بعبادة الأوثان، و نقض العهود، و قتل الأنبياء، فأعمالكم التي هي أثر الإيمان تدل على نفي الإيمان الذي أمركم اللّه تعالى فإنّه يأمركم بتوحيده تعالى و نبذ الأوثان، و طاعة الأنبياء، و احترام العهود. و قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للتنزيل و المجاراة مع المخاطبين، و إلاّ فلا إيمان لهم حقيقة و هذا الحكم لا يختص باليهود، بل يشمل كل أمة أمرهم اللّه تعالى بالإيمان و العمل الصالح فخالفوا اللّه تعالى

ص: 331

و اتبعوا أهواءهم، فيقال للمسلمين العاملين على غير طريقة القرآن. إنكم آمنتم بالقرآن فبئسما يأمركم به إيمانكم أنكم آمنتم بأهوائكم فلستم بمؤمنين إذ لا بد أن يظهر أثر إيمانكم بالقرآن في أعمالكم.

قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ . الزام لهم بالحجة، فإنهم ادعوا دعاوى باطلة كما حكاها اللّه تعالى في القرآن الكريم كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و أنهم شعب اللّه المختار و ادعاؤهم الإيمان بما أنزل عليهم، فرد اللّه تعالى عليهم و أكذبهم، فقال تعالى: قل لهم إن كانت دعاويكم صادقة و أن الدار الآخرة مع ما فيها من الثواب و النعيم مختصة بكم فتمنوا الموت، لأنه يوصلكم إلى ذلك النعيم، فإن من علم أنه من أهل النعيم كان الموت أحب اليه من الحياة في الدنيا التي لم تبرح عن الشقاء و الأذى، و لم يعقل من الإنسان أن يؤثر الشقاوة على السعادة، مع أنهم يفرون من الموت و يحبون الحياة، و هذا من التناقض بين القول و الفعل الذي لا ينبغي صدوره من العاقل. فإن معيار حب الآخرة حبا صادقا حقيقيا هو التحرز عن جميع العلائق و الانقطاع الى رب الخلائق، كما قال ذلك علي (عليه السلام) في خطبه المباركة لا سيما الخطبة المعروفة في وصف المتقين

و قد نسب إليه (عليه السلام) أنه قال: «و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» و كذلك يكون الذين أماتوا شهواتهم في الدنيا الفانية فأحبوا الحياة الأبدية في الدار الآخرة.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . أي إن كنتم صادقين في دعاويكم، و فيه إيماء إلى كذب دعواهم.

قوله تعالى: وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ . كناية عن مطلق العمل السيئ سواء كان بالجوارح أو الكفر و الضلال. و هذا الاستعمال شايع في المحاورات. أي: إنهم يعرفون مصيرهم بما قدموه من سيئات الأعمال، و ما اجترحوه من موبقات الخطايا و الضلال، فلن يتمنوا الموت

ص: 332

أبدا. و يظهر من ذلك فساد حالهم و بطلان مقالهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ . أي إنّ اللّه يعلم أنهم ظالمون لا تخفى عليه أعمالهم و نواياهم لو جحدوا ذلك، و فيه من التهديد و التوعيد ما لا يخفى.

ص: 333

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا . أي إنّهم أحرص النّاس على الحياة حتّى من المشركين الذين ينكرون المعاد و الحياة بعد الموت سواء كانوا من مشركي العرب أو غيرهم.

و إنما خصهم بالذكر لأنّهم لا يعرفون غير الحياة الدنيا، و لا علم لهم بالبعث و الحساب كما حكى اللّه تعالى عن قولهم: إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 37].

فما عن بعض المفسرين من أن المراد بها المشركون الذين جرت عادتهم على الدعاء للعاطس بقولهم: «عش الف سنة» إنما يكون من باب التطبيق لا التخصيص.

قوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ . مادة (و د د) تستعمل بمعنى المحبة، و تطلق على اللّه تعالى حينئذ قال عزّ و جل: وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلْوَدُودُ [سورة البروج، الآية: 14]، و تستعمل بمعنى التمني و هو كثير في القرآن الكريم و منه المقام.

و مادة (ع م ر) - بسكون الميم أو ضمها. أو فتح العين و سكون الميم، و إن كان هذا الأخير يختص بالقسم قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الحجر، الآية: 72]. مأخوذة من العمارة أي عمارة البدن في الحياة الدنيا، أو عمارة الدنيا للكون فيها، أو عمارة الآخرة للارتحال إليها، أو عمارة الجميع و هي أفضلها. أي: يتمنى كل واحد منهم أن يعمّر في الحياة الدنيا ألف سنة أو أكثر، لأنه يعلم أن البقاء في الدنيا مع الآلام و المشاق خير له من الآخرة فإن فيها العذاب. و لكنه لا يعقل أن هذه المدة القليلة المحدودة لا تنفعه و لا تدفع عنه العذاب، إذ لا بد من الإيمان و العمل الصالح.

و إنما عبّر تعالى بألف سنة إما لأجل أنه مثال لكثرة العمر كما أن لفظ سبعين كان مثالا للكثرة في العشرات مثل قوله تعالى: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 80]، أو لأجل أنه نوع تقبيح لهم في مبالغاتهم و مقترحاتهم

ص: 334

الدائرة بينهم، أو لأن الألف آخر أسماء مراتب الأعداد.

و السنة: مأخوذة من سنه كما عن بعض، و عن آخرين أنها مأخوذة من سنو بالواو بقرينة سنوات، و الظاهر أن هذا خلط بين هاء السكت و مادة أصل الكلمة كما يظهر للمتأمل في استعمالات هذا اللفظ، فلا فرق بين الاستعمالين.

قوله تعالى: وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ اَلْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ . الزحزحة:

الإزالة عن المقر، و التنحية عنه،

و في الحديث: «من صام يوما في سبيل اللّه زحزح اللّه وجهه عن النار سبعين خريفا». أي: ليس طول العمر من حيث هو موجبا للخروج عن العذاب بل المناط كله إنما هو العمل الصالح و اكتساب الحسنات و ترك السيئات.

و إنما كرر تعالى كلمة «أن يعمر» و لم يأت بالضمير لبيان أن مقصوده الأهم وقوع طول العمر خارجا، لا مجرد تمني ذلك و لو أتى بالضمير لم يكن ظاهرا فيه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ . المراد بالبصر عند الإطلاق عليه عزّ و جل العلم، و إنما خصه بالذكر، لبيان كمال الإحاطة بالدقائق التي لا تدرك إلاّ بالبصر. و فيه تهديد عجيب و توعيد غريب لمن هو غافل عن السعادة الأبدية، و لا يتحفظ على عمره و لا يصرفه إلاّ في ما لا يرتضيه تعالى، فإن الإنسان إنما خلق في الدنيا لكي يعيش فيها برهة من الزمن ثم يغادرها إلى دار أخرى هي مقر له فيحصد ما عمله مدة حياته في الدنيا، فإما أن تكون الدار الآخرة هي دار الراحة و السكون و السعادة، أو تكون دار الشقاء و العذاب، فما يحصله الإنسان من خلقه إنما يكون في عمره، فلا بد و أن يبذله في تحصيل السعادة الأبدية و لا يصرف هذه الجوهرة الثمينة في ما لا فائدة فيه، أو تكون الفائدة منحصرة بالدنيا الفانية. و نعم

ما نسب إلى علي (عليه السلام): «بقية عمر المؤمن لا قيمة لها، يدرك بها ما فات و يحيي بها ما أمات» فيكون محبته للحياة لأجل أن يدفع عن نفسه موجبات الشقاوة و يكتسب فيها أسباب السعادة

ص: 335

الأبدية، و كراهته للموت لأنه يوجب فراق الأحباب و الانقطاع عن الأصحاب. و فراق الأليف مما لا يرتضيه بالطبع كل وضيع و شريف، و لذا

ورد كراهة تمني الموت و لا بأس بأن يقول: «اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي و أمتني إذا كان الممات خيرا» كما ذكر في الحديث، و في غير هاتين الصورتين حب الحياة إن رجع إلى حب الدنيا فيكون مذموما و من الأمراض المهلكة، و لا بد من علاجها، و سيأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن القمي في قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ : «أي أحبوه حتّى عبدوه».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى أيضا قال : «فعمد موسى (عليه السلام) فبرد العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ثم أحرقه بالنار فذره في اليم. قال: فكان أحدهم ليقع في الماء و ما به إليه من حاجة فيتعرض بذلك الرماد فيشربه، و هو قول اللّه تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ».

أقول: رواه الفريقان، و لو فرض صحة سنده يكون المراد إن الشرب الظاهري بيان و كاشف عن حبهم للعجل؛ فتتم الحجة عليهم بذلك.

و عن القمي أيضا في قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لأن في التوراة مكتوب إن أولياء اللّه يتمنون الموت و لا يرهبونه».

أقول تقدم مثل ذلك عن علي (عليه السلام).

بحث أدبي:

عن جمع من الأدباء - و تبعهم بعض المفسرين - أنّ كلمة (لو) تستعمل في معان: الأول: للسببية بين الشرط و الجزاء.

ص: 336

الثاني: لامتناع الجواب بدون الشرط.

الثالث: التعليق في المستقبل كقوله تعالى: وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [سورة النساء، الآية: 9].

الرابع: أن تكون مصدرية بمنزلة (إن) المصدرية. و أكثر وقوعها كذلك بعد (ود، و يود) و يفترقان في أن مدخول (لو) بعيد الحصول أو ممتنع إما في نفسه أو بحسب العادة أو إبرازه بصورة البعيد أو الممتنع بخلاف (إن) كقوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة البقرة، الآية: 96]، و قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 68]، و قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [سورة الحجر، الآية: 2] و في غير ذلك تأتي أن المشددة المفتوحة، أو إن الساكنة المصدرية مكانها.

الخامس: للعرض كقولهم: «لو تنزل عندنا فتصيب منا خيرا».

السادس: للتقليل

كقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا النّار و لو بشق تمرة».

السابع: التمني كقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 168]، و قولهم «لو تأتيني فتحدثني» و الفرق بينها و بين (لو) المصدرية التي لم يكن فيها معنى التمني أنّ ما بعد الفاء بعد لو التي للتمني يكون منصوبا بخلاف ما بعد لو المصدرية.

و يستفاد من ذلك أنها من المشترك اللفظي، و لهم في ذلك نظائر كثيرة، و الحق أنّ ذلك من خلط المستعمل فيه بدواعي الاستعمال، فإن شأن أداة الشرط مطلقا إنما هو جعل متلوّها واقعا موقع الفرض و التقدير، و أما الخصوصيات فإنما تستفاد من جهات أخرى. و قد حصل هذا الخلط من الخليل في كتاب العين و من غيره، فتعدد دواعي الاستعمال معلوم و تعدد الوضع و المستعمل فيه مشكوك فيرجع فيه إلى الأصل.

إن قيل: إن هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليها (يقال) تعدد

ص: 337

الدواعي وجداني عند المستعملين و تعدد الوضع و المستعمل فيه يحتاج إلى دليل و هو مفقود بل الأصل ينفيه.

إن قيل: إن باب المجاز واسع و كلما زيد في الكلام مجازاته و استعاراته يزاد في حسنه (يقال): إن رجع ذلك إلى ما قلناه فهو حسن، و إن رجع إلى ما اشتهر بينهم من ملاحظة ما اعتبروه في المحاورات و الاستعارات فالأصل و الوجدان ينفيان ذلك كله، و قد فصلنا القول في علم الأصول فراجع هناك.

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (9

اشارة

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اَللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ اَلْفاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ كِتابَ اَللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) تبين هذه الآيات المباركة جملة أخرى من المساوئ الاعتقادية و الأخلاقية لهم كعداوتهم للملائكة و الرسل بلا سبب معقول لذلك بل بمجرد الأوهام الفاسدة ثم بيان عنايته تبارك و تعالى للنّاس، و أنه لا يكون عدوا إلاّ للكافرين الذين يستحقون تلك العداوة باختيارهم.

التفسير

قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ . العدو ضد الصديق.

و جبرئيل اسم أعجمي ليس من الألفاظ العربية، و لذا كثرت فيه اللغات - كما في غيره من الألفاظ غير العربية التي تكثر فيها اللهجات - حتّى أنهاها بعضهم إلى ثلاث عشرة لغة.

بيّن سبحانه و تعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاقهم فقد افتروا على

ص: 338

أمين وحي اللّه عزّ و جل بأنه ملك ينزل الحرب و الدمار، و الشدة و الفناء، و أنه أنذر بخراب بيت المقدس، و أنه يفعل من عند نفسه بخلاف غيره من الملائكة. فرد سبحانه و تعالى عليهم بأنّ هذا الملك و غيره من الملائكة مسخرون تحت إرادة اللّه تعالى المهيمن على الجميع الفعّال لما يشاء فلا يفعلون إلاّ ما ارتضاه اللّه تعالى، و لا يقضون إلاّ ما أحبه عزّ و جل، قال تعالى: لا يَعْصُونَ اَللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6]. و إذا كانت أفعال جبريل مستندة إليه عزّ و جل فيلزم أن تكون عداوتهم له عداوة اللّه تعالى و يرشد إلى ذلك ذيل الآية المباركة «بإذن اللّه» أي إنّ كل ما ينزله جبريل على رسول اللّه و سائر الأنبياء إنما يكون بإذن من اللّه تعالى لا من عند نفسه.

قوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ . التفات من الغيبة إلى الخطاب، و هو من أحسن بدايع الفصاحة. و الضمير في «نزله» يرجع إلى القرآن المستفاد من قرائن الحال و ذلك يدل على رفيع شأنه فكأنه لشهرته لم يذكره في المقال و فيه من الإيماء إلى شرف جبريل (عليه السلام) و ذم أعدائه. و المراد من «إذن اللّه» علمه و إرادته، و إنما ذكر سبحانه القلب لأنه موضع تلقي العلم و المعارف و الكمالات. و خص قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لأنه خاتم الأنبياء و أشرفهم، بل غاية أصل الخليقة و سيدها و الإشارة إلى أن ما نزل على الأنبياء السابقين كموسى و عيسى (عليهما السلام) من أشعة ما نزل على قلبه و لمعات من هذا النور العظيم، فكما أن ذاته الأقدس غاية الخلق يكون كتابه المقدس غاية الكتب المقدسة السماوية. و الغاية مقدمة في العلم و إن تأخرت في الوجود كما ثبت في الفلسفة.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ . أي: إن القرآن الذي أنزله جبريل على محمد (صلّى اللّه عليه و آله) مصدق لما تقدم من الكتب الإلهية و هدى و بشرى للمؤمنين، و تقدم شرح ذلك في أول هذه السورة.

و نزيد هنا أن الهداية و البشارة متلازمتان في جميع أطوار وجودهما و مراتب ظهورهما في الدنيا و الآخرة و العمل. و سياق الآية المباركة يدل على أن لها شأنا

ص: 339

و سببا لنزولها، و سيأتي في البحث الروائي الكلام عنه.

قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ . مادة (ع د و) تأتي بمعنى التجاوز عن الحد المعين في الشيء، و للتجاوز موارد كثيرة، فإذا كان التجاوز في الميل القلبي يطلق عليه العداوة و المعاداة، و في الاقتصار في المشي يطلق عليه العدو، و في المرض يطلق عليه العدوى و في المعاملات و المجاملات يطلق عليه العدوان و التعدي و الاعتداء، إلى غير ذلك من موارد استعمالاته في المحاورات. و قد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بجملة كثيرة من متفرعاتها، و هي بالمعنى الحقيقي ممتنعة بالنسبة إليه عزّ و جل، إذ لا يعقل التجاوز بالنسبة إلى من هو غير متناه من حيث القدرة و الغلبة و القهارية. نعم يصح بالمعنى الاعتقادي، و هو يرجع إلى مخالفته في الإعتقاد و العمل. هذا و إن أرجعنا عداوته إلى عداوة أنبيائه و أوليائه يصح بالمعنى الحقيقي أيضا، و كذلك إن أرجعناها إلى عقابه.

و إنّما أضاف سبحانه و تعالى العداوة إلى نفسه تشريفا لملائكته و رسله و أوليائه،

و في الحديث: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» و قد وردت آيات و روايات دالة على حسن مخالطته تعالى مع عباده على ما يأتي تفصيلها إن شاء اللّه تعالى، و ليس المراد بالمخالطة ما هو المنساق من ظاهر اللفظ، بل

ما قاله علي (عليه السلام): «داخل لا بالمجانسة، و خارج لا بالمباينة، فبينونته تعالى بينونة صفة لا بينونة عزلة». كما أنّ في ذكر نفسه أولا ثم الملائكة و الرسل إشعارا بعدم الفرق في هذه العداوة بينه تعالى و بينهم، لأنهم مظاهر آياته و أولياء خلقه و وسائط فيضه.

قوله تعالى: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ . تقدم وجه اشتقاقهما. و اتفق جميع الفلاسفة على أنّ الملائكة ذوات مجردة ليست من الماديات إلاّ أنّ فلاسفة المسلمين ذكروا أنّها جواهر مجردة، و المتكلمون منهم يقولون: إنّها أجسام لطيفة لعدم ثبوت الجواهر المجردة عندهم. و شبهوا الأجسام

ص: 340

اللطيفة بالأجسام التي نشاهدها في عالم النوم، و ما يوجد في الذهن. و حيث إن وجود الملائكة لا يتوقف على المادة و تهيئة الأسباب فيكفي في إيجادها مجرد الأمر الإلهي، و هي بجميع أقسامها من عالم الأمر (أي: ما يوجد بمجرد أمره تعالى من غير توقف على المادة و الزمان و نحوهما) فمنها مالها مراتب و منازل كالمدبرات أمرا، و النازعات، و الفارقات و نحو ذلك، و منها ما ليس كذلك و قد اصطلح على تسمية الكل بالملائكة، و على تسمية من له شأن من الشأن بالملك، فكل ملك ملائكة و ليس كل ملائكة ملك فنسبة الملك (بفتح الميم و اللام) إلى البقية كنسبة الملك (بكسر اللام) إلى الرعية، و يأتي تفصيل أحوال الملائكة و شؤونها و أفعالها في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ . إنّما خصهما تعالى بالذكر إعلانا بعلوّ شأنهما و تشريفا لهما، أو لأنّ اليهود إنما خصوصهما بالذكر فقالوا: إنّ جبريل ملك الإنذار و العذاب، و ميكال ملك الرحمة فنزلت الآية ردا عليهم بأن معاداة أحدهما هي معاداة الآخر و محبتهما كذلك. و إلاّ فهما من سادات الملائكة، و هم أربعة: جبريل الذي هو موكل بإفادة العلوم للذوات المستعدة لكل علم و فن و صنعة. و ميكائيل موكل بالأرزاق. و إسرافيل موكل بإفاضة الأرواح لكل ذي روح. و عزرائيل موكل بقبض الأرواح، و لكل من هؤلاء الأربعة أعوان و جنود لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى و هو المهيمن على الجميع.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ . أي: أنّ من كان كذلك لا يكون إلاّ كافرا به تعالى و اللّه عدو للكافرين، و عداوته لهم عبارة عن سخطه تعالى عليهم و عقابه لهم، و هم الظالمون لأنفسهم و كفى بذلك خزيا.

و في الآية إشارة إلى أن عداوة اللّه لا تتحقق إلاّ بسبق عداوة العبد له تعالى، فهو كالموضوع لعداوته عزّ و جل، و الموضوع متقدم على ما يلحقه؛ فبينهما ملازمة الجزاء و الشرط. كما أن في الآية المباركة من الوعيد الشديد و الذم لمعادي الملائكة لا سيما جبرئيل فإن اليهود و إن كانوا لا

ص: 341

يدعون معاداة جميع الملائكة و لكنه في الواقع كذلك فإن عداوة أحدهم تكون عداوة للكل. و في وضع الظاهر موضع الضمير في قوله تعالى:

لِلْكافِرِينَ إشارة إلى أن العلة في العداوة هي الكفر.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ . الآيات البيّنات أي الأدلة الواضحة التي لا ريب فيها على صدق نبوته من القرآن و سائر المعاجز.

قوله تعالى: وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ اَلْفاسِقُونَ . الفسق الخروج يقال: فسق الرطب أي خرج عن قشره، و كل من خرج عن طاعة اللّه تعالى فهو فاسق، و له مراتب كثيرة تتفاوت بين الشدة و الضعف ففسق الكفر مرتبة منه، و فسق الكذب و الغيبة المتداولين بين النّاس فسق أيضا. و هو الجامع بين المعاصي الكبيرة و الصغيرة الواردة في الكتاب و السنة المشروح في علمي الفقه و الأخلاق. بل يمكن القول بأن الفسق حجاب للقلب عن استشراقاته المعنوية من المبدأ القيوم، فإما أن يعم الحجاب جميع القلب أو يكون حجابا عن بعضه فيكون كنقطة سوداء في القلب تتغير زيادة و نقيصة، فإذا صدرت من الكافر معصية. كالكذب مثلا اجتمع فيه قبحان و خطيئتان: قبح الكفر و خطيئته و قبح الكذب و خطيئته، و يأتي التفصيل في المحل المناسب.

و المعنى: إنّ معك أيّها النبي العظيم آيات بينات تدل على صدق دعواك و كل من أنكرها يكون خارجا عن الحق و قد استحب الكفر عنادا، و على هذا يصح أن يراد بالكفر و الفسق العقليان منهما أيضا لا خصوص الشرعي، لأن رد تلك الآيات البينات خروج عن طريقة العقل و العقلاء و نور الفطرة في رد الآيات البينات من غير دليل و حجة بل بمجرد العناد و الجحود و التقليد الأعمى.

قوله تعالى: أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ . الواو في «أو» حرف عطف تصدر بأداة الاستفهام الدالة على التوبيخ و التقريع لعادتهم في نقض العهود. و العهد ما يلزم مراعاته و حفظه و القيام به و المراد

ص: 342

به عهودهم مع الأنبياء و الرسل. و النبذ هو طرح الشيء لقلة الاهتمام و الاعتناء به.

قوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . فيه إيماء إلى ما قد يتبادر من لفظ الفريق القلة منهم، فذكر سبحانه أن أكثرهم لا يؤمنون، و هو في مقام التعليل لما يصدر عنهم من الأفعال القبيحة و نقض العهود، يعني أنهم ينقضون العهد، لأن أكثرهم لا يؤمنون. و يستفاد من هذه الآية المباركة عدم الوثوق بهم لاعتيادهم على نقض العهود، و عدم رجاء الإيمان من أكثرهم.

كما يستفاد منها ذم الكثير و الأكثر، كما ورد في ما يقرب من مأة آية قال تعالى: وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذابُ [سورة الحج، الآية: 18]، و قال تعالى: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ [سورة المائدة، الآية: 49] إلى غير ذلك من الآيات المباركة بخلاف القليل و الأقل، فقد ذكروا بالمدح قال تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ [سورة سبأ، الآية: 13]، و قال تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 46] و لو تأمل شخص في أحوال عامة النّاس رأى أن ذلك حق مطابق للواقع، و تدل على ذلك أقوال الأئمة (عليهم السلام)

ففي الحديث: «المؤمنة أعز من المؤمن، و المؤمن أعز من الكبريت الأحمر؛ و من رأى من أحدكم الكبريت الأحمر؟!».

و في الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و إخبار له بإدبار الأكثر عنه.

قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ . تقدم معناه في الآية 89 أي: لما جاءهم محمد (صلّى اللّه عليه و آله) الرسول من عند اللّه تعالى المصدّق لجميع ما أنزله اللّه تعالى من التوراة و الإنجيل المشتملين على التوحيد و سائر المعارف الإلهية، و الأحكام التشريعية، و صفات الرسول الذي وعدوا و بشّروا به و أنه من آل إسماعيل، فإن أصول الأحكام واحدة و إن ظهرت تارة في صحف إبراهيم، و توراة موسى أخرى، و إنجيل عيسى (عليهم السلام) ثالثة، و قرآن

ص: 343

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) رابعة فمن نبذ واحدا منها فقد نبذ الجميع، فالكل مصدّق للكل، و الجميع شريعة واحدة.

قوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ كِتابَ اَللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ . نبذ الشيء وراء الظهر كناية عن ترك العمل به و كفرهم به. و المراد بكتاب اللّه مطلقه الأعم من التوراة و الإنجيل و القرآن.

قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ . تنزيل لعلمهم منزلة الجاهل المقصّر في العصيان و استحقاق العقاب، و فيه من المبالغة في الترك و الإهمال، ما لا يخفى. يعني أنكم مع علمكم بأنه الحق فقد نبذتموه وراء ظهوركم فلم تحرّموا حرامه و لم تحللوا حلاله، فصار الجحود أشد، و العقاب أكثر.

بحث روائي:

القمي في قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ : «إنما نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ لنا في الملائكة أصدقاء و أعداء فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من صديقكم، و من عدوكم؟ فقالوا: جبرئيل عدونا، لأنه يأتي بالعذاب و لو كان الذي ينزل عليك القرآن ميكائيل لآمنّا بك، فإن ميكائيل صديقنا، و جبريل ملك الفضاضة و العذاب، و ميكائيل ملك الرحمة».

أقول: رواه الفريقان، و في الدر المنثور قريب من ذلك.

و في المجمع في الآية أيضا قال ابن عباس: «كان سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلّى اللّه عليه و آله) المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): تنام عيناي و قلبي يقظان، قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل، و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا

ص: 344

محمد فما بال الولد يشبه أعمامه و ليس فيه من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله) أيهما علا ماؤه كان الشّبه له. قالوا: صدقت يا محمد. فأخبرنا عن ربك فما هو؟ فأنزل اللّه سبحانه و تعالى: قل هو اللّه أحد - إلى آخر السورة - فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك؛ أيّ ملك يأتيك بما ينزل اللّه عليك؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب، و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك».

رواه الطبرسي في الإحتجاج عن جابر بن عبد اللّه. و رواه أيضا في الدر المنثور.

أقول: أما

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): تنام عيني و قلبي يقظان. فقد نقل مستفيضا عنه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو كذلك بحسب ما أثبتوه من حضوره (صلّى اللّه عليه و آله) عند ربه دائما، كما يدل عليه

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) على ما رواه الفريقان: «إني لست كأحدكم أبيت عند ربي فيطعمني ربي و يسقيني ربي» و المراد منهما الإفاضات المعنوية و الجذبات الواقعية الرحمانية، فلا يعقل حجاب لقلبه بمثل النوم و الغفلة و نحوهما، و يشهد له ما هو من خصائصه من أنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه و أنه لا ظل له، و تأتي تتمة الكلام في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و أما

قوله: (صلّى اللّه عليه و آله): «أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل» فقد أثبت العلم الحديث ذلك أيضا كما يأتي مفصلا.

و في الدر المنثور: «وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» قال ابن عباس:

«هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، و ما أنزل عليك من آية بينه فنتبعك بها فأنزل اللّه تعالى الآية».

ص: 345

وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ اَلشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّاسَ اَلسِّحْرَ وَ

اشارة

وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ اَلشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّاسَ اَلسِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) بيّن سبحانه و تعالى بعض أعمالهم الفاسدة، كالافتراء على أنبياء اللّه تعالى، و السحر، ثم أبطل ذلك و حكم بكذبهم و أمر باتباع طريق الحق، و أن التقوى خير لهم مما هم عليه.

التفسير

قوله تعالى: وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ . اختلفت أقوال المفسرين في هذه الآيات المباركة فصارت معترك الآراء و الاحتمالات و قلّما يوجد مثلها في سائر الآيات الشريفة، و مع ذلك فهي على فصاحتها و بلاغتها لم يعترها من تلك الاحتمالات إجمال و لا في حسن نظمها و فصاحتها كلال، و ليس ذلك إلاّ من تقدير العليم الحكيم. و نحن نشير إلى ما يستفاد مما هو الظاهر منها.

فنقول: مادة (ت ب ع) تأتي بمعنى التقفية في الأثر، و الاقتداء و المتابعة سواء كان ذلك في الحق أو الباطل كقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة الجاثية، الآية: 18]. و الضمير يرجع إلى اليهود [الذين عمدوا الى هذه المتابعة سواء كانوا من يهود عهد سليمان أو من غيرهم، بل يشمل غير اليهود أيضا ممن ينطبق عليه عنوان المتابعة]. و تتلوا إن كان بمعنى مطلق القراءة و البيان فالأمر واضح، و إن كان بمعنى قراءة ما نزل من عالم الغيب على حسب دعوى الشياطين و زعمهم بأن ما يقرءون إنما هو من

ص: 346

الغيب، لكن بعد إثبات كفرهم في ذيل الآية الشريفة تكون هذه الدعوى منهم كاذبة لا محالة.

و المراد بالشياطين الأعم من شياطين الإنس و الجن على حد قوله تعالى: شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 72] و يحتمل أن يكون المراد خصوص شياطين الجن، فإن شياطين الانس بمنزلة القوى العاملة لها.

و المراد بملك سليمان عهده و أهل مملكته، و لعل ما في التعبير به إشارة إلى غلبة السحر و الكهانة في ذلك الزمان حتّى استولى على ملك سليمان. و ذلك لأن اليهود زعموا أن ملك سليمان إنما قام على أساس السحر و الكهانة و الطلسمات و نحو ذلك من الحيل التي نسبوها إليه كذبا و افتراء، فغلبت على النّاس و اعتادوا عليها و اتخذوا السحر وسيلة إلى مقاصدهم و أغراضهم، أو ليتوصلوا بها إلى الملك كما توصل سليمان به بزعمهم. و هذا يدل على شدة انغماسهم في الماديات. و إعراضهم عن الحقائق و أحكام اللّه تعالى و أنبيائه و رسله، و هو لا يختص باليهود فإن كل قوم أعرضوا عن آيات اللّه و اتبعوا أهواءهم و لم يقتدوا بالعلماء الداعين إليه تعالى صاروا مرتعا للشياطين و وساوسهم فيعملون كلما يشاءون في إبطال الحق و إفشاء الباطل و ذلك هو الخسران المبين.

و «على» في قوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ تصلح أن تكون بمعنى (في) أي في ملك سليمان أو بمعنى (مع) كما في قوله تعالى:

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [سورة آل عمران، الآية: 194] أي على ألسنة رسلك، أو معهم.

قوله تعالى: وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ اَلشَّياطِينَ كَفَرُوا . لأنّ إفشاء الباطل في عهده أو على ملكه من الشياطين لا دلالة فيه على أن سليمان اعتقد بالباطل بوجه من الوجوه بل إثبات النبوة له يمنع عن ذلك مطلقا، و فيه تبرئة من اللّه لسليمان و إثبات الكفر لمن نسب اليه السحر.

و المراد بالكفر المنسوب إلى الشياطين الكفر المطلق فيصير المقام

ص: 347

بالنسبة إليهم، من باب التطبيق لا التخصيص، أو بيان غاية قبح السحر. ثم بيّن تعالى بعض وجوه كفرهم بما ذكره جل شأنه.

قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ اَلنّاسَ اَلسِّحْرَ . ليفتنوهم عن دينهم و يضلوهم عن سبيل الحق، و في الآية المباركة إشارة إلى قبح السحر بل إيجابه الكفر، و قد عبّر في الأحاديث عن السحر بالكفر،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «السحر و الشرك مقرونان»،

و عن علي (عليه السلام): «من تعلم شيئا من السحر - قليلا أو كثيرا - فقد كفر».

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ . الملكين (بفتح اللام) تثنية الملك [بالفتح]، و هي القراءة المشهورة، و صريح بعض الروايات كما يأتي في البحث الروائي، و قرأ بعضهم ملكين (بكسر اللام) تثنية الملك، و لم يعهد ذلك في التاريخ، و لو كان لشاع و بان، و قد ذكروا في توجيه ذلك أمورا لم يقم عليها دليل من العقل أو النقل فالأولى الإعراض عن ذكرها.

و كيف كان فهما ملكان بعثهما اللّه تعالى لإتمام الحجة على شعب بابل ليعلّموا مضار السحر، و يدفعوا به عن سحر السحرة و كيد الشياطين، و لعل ذلك كان مقدمة لظهور دعوة أنبياء اللّه تعالى، و إيذانا بزوال دعوة الشياطين إلى السحر و الكهانة و نحوهما من الأباطيل، و سيأتي معنى الإنزال.

قوله تعالى: بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ . بابل هي المدينة المعروفة في العراق عاصمة البابليين أعظم مملكة في المعمورة في ذلك الحين.

و قد دلت التواريخ على أنها كانت أقوى مركز للسحر و الكهانة في تلك الأعصار، بل ليس في الحضارات كلها حضارة أغنى في الخرافات من الحضارة البابلية. كما أنها كانت مركزا تجاريا هاما يؤمها التجار فكانت مورد اختلاف النّاس من أطراف العالم لأغراضهم الدنيوية، و لذلك كثر تردد أنبياء اللّه (عليهم السلام) إليها لإظهار الحجة و البيان عليهم في كل فرصة يجدونها، فالقادسية (بانيقا) موجودة حتّى الآن قرب بابل، و هي محل رعي

ص: 348

أغنام إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) كما أن تل نمرود الذي ألقي الخليل منه في النار معروف في هذه المدينة و إنّ مقام إدريس و إبراهيم موجودان في مسجدي الكوفة و السهلة،

و عن أبي جعفر (عليه السلام) في وصف مسجد الكوفة: «إنها سرة بابل»، و قبر هود و صالح (عليهما السلام) مشهوران في ظهر الكوفة.

و عن علي (عليه السلام) في وقعة الخوارج أنه (عليه السلام) لما وصل إلى أرض بابل قال: «هذه أرض ملعونة قد عذّبت في الدهر مرتين و هي تتوقع الثالثة، و هي إحدى المؤتفكات، و هي أول أرض عبد فيها وثن» فاقتضت المصالح التكوينية و التشريعية أن يتم اللّه تعالى الحجة على أهل تلك الديار بما تقتضيه الظروف و أحوال العباد فأراد سبحانه و تعالى أولا أن يميز لهم الإرادة الوهمية الشيطانية و الإرادة الغيبية الإلهية، ثم التدرج في المعارف الإلهية بما تقتضيه الحكمة المتعالية.

و هاروت و ماروت اسمان أعجميان و هما ملكان نزلا من السماء في صورة الإنسان و كانا بين النّاس مدة من الزمان فعلا ذكرهما و شاع أمرهما، و كثرت مراودة النّاس إليهما حتّى صارا بمنزلة ملكين لهم.

و قيل: إنهما من البشر كانا من أهل صمت و وقار. و الظاهر أن أصحاب هذا القول نظروا إلى هذين الملكين بعد تجسمهما بصورة البشر فلا نزاع في البين. و قد أنزل اللّه تعالى هذين الملكين لتعليم الناس السحر و إنذارهم عن مضاره فيحذروا عن سحر السحرة و كيد الشياطين، و كان ذلك لمصالح كثيرة، منها: التمييز بين المعجزة و السحر، و أن الأولى من اللّه تعالى، و الثاني من الشيطان و أعوانه. فالمراد بالإنزال في الآية المباركة إنما هو نحو من الإلهام، و إنما ألهمهما اللّه تعالى ذلك لدفع المفاسد المترتبة على السحر، لا لموضوعية فيه حتّى يكون من الإلهام الفاسد.

قوله تعالى: وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ . مادة (فتن) تأتي بمعنى الاختبار و الامتحان سواء في الخير أو الشر، قال تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: 35].

و المراد بها في المقام مطلق الاختبار، لأنهم إنما نسبوا إلى سليمان (عليه السلام) السحر و افتروا عليه بأن تسخيره للجن و الإنس و غيرهما إنما كان بواسطة السحر

ص: 349

حتّى غلب على أهل عصره، و كاد أن يذهب معجزة أنبياء اللّه تعالى رأسا، فأنزل اللّه الملكين يعلمان النّاس السحر، ليفرقوا بين الحق و الباطل مع تصريحهما لمن كان يتعلمه بأن ما يتعلمه إنما هو لأجل الامتحان و الاختبار، و دفع كيد الشياطين و التفرقة بين الحق و الباطل، و أن السحر كفر فلا تكفر بتعلمك له كما ذكر سبحانه و تعالى بعد ذلك.

قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ .

ذكر سبحانه مصداقا من مصاديق السحر لأجل كونه من أهمها الشايع بينهم.

قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ . لفرض أن جميع الموجودات من خيرها و شرها مورد قضائه و قدره فلا يخرج أثر السحر عن تقديره تعالى و قضائه، لئلا يبطل نظام القضاء و القدر و جعل المسببات مترتبة على أسبابها حسب ما اقتضته الطبيعة، و ما يختاره الفاعل المختار.

قوله تعالى: وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ . النفع ما يتوصل به إلى الخير، فهو خير و ضده الضر. و قد استعمل ذلك في القرآن الكريم كثيرا، قال تعالى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ [سورة الحج، الآية: 12] و هو لفظ عام يشمل جميع موارد النفع في الدنيا و الآخرة، بل يطلق عليه سبحانه و تعالى فمن أسمائه المقدسة (يا ضار يا نافع) قال تعالى: وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ [سورة يس، الآية: 73]، و قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [سورة المائدة، الآية: 119] إلى غير ذلك من موارد الاستعمال في القرآن الكريم، فيطلق على الواجب و الجوهر و العرض في الدنيا أو الآخرة.

ثم إنّ النفع و الضر إما واقعيان حقيقيان، و هما المنساقان منهما في استعمالات القرآن. أو وهميان خياليان قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 216] و غالب أمور الدنيا مبنية على الوهم و الخيال.

ص: 350

و المعنى: إنهم يتعلمون من السحر ما كان فيه ضرر عليهم في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فلعدم إحاطة المعلم بالواقعيات، و لا كون العلم من الوسائل إليها، فإن المنفعة الوقتية الخيالية التي يجلبها من السحر مع ما فيها من الإيذاء لسائر النّاس لا تعد خيرا أصلا لا سيما إذا كان جزاؤه عظيما. و اما في الآخرة فمع كون المعلوم قرين الكفر باللّه تعالى فلا بد و أن يكون إثمه عظيما، فقد أوقعوا أنفسهم في الخسران و النقصان بسوء اختيارهم. و في نفي المنفعة بعد إثبات المضرة إشارة إلى وجود منفعة مّا في السحر و لكنها قليلة.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . اللام للتوكيد و إن كانت في محل القسم. و لفظ (من) موصولة يصلح فيه الجنس و الإفراد و الجمع، و الضمير يعود إلى السحر. و الخلاق النصيب من الخير، يستعمل في القرآن في نصيب الآخرة.

و المعنى: إنّ الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين و اختاروا السحر وسيلة لنيل مقاصدهم، و استبدلوا ما في التوراة بذلك و نبذوه وراء ظهورهم يعلمون أنه ليس لهم في الآخرة نصيب، لفرض وجود العقل فيهم و تمييزهم بين الخير و الشر، و النفع و الضر، و إتمام الحجة عليهم بدعوة الأنبياء و تحريم السحر عليهم فما بذلوه بإزاء تعلمهم السحر و اتّباعه هو دينهم و آخرتهم.

و القضية من القضايا العقلية التي لا اختصاص لها بقوم دون آخرين، و هي استبدال الخير بالشر.

قوله تعالى: وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .

أي: و لبئس ما استبدلوا به أنفسهم، لأنهم عرّضوا أنفسهم للهلاك و العذاب الدائم بما رضوا بالسحر - لو كانوا يعلمون علما فعليا بأنهم باعوا أنفسهم بأخسّ الأثمان و أقبحها. و في الآية المباركة من الفصاحة ما لا يخفى على من تأمل فيها، و تقدم نظيرها في الآية 90 من هذه السورة.

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ خَيْرٌ . مادة

ص: 351

(ث و ب) تأتي بمعنى الرجوع في جميع متفرعاتها، و سمي الجزاء ثوابا لأنه رجوع العمل بوجوده الحقيقي الواقعي إلى العامل. قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8]، و قال تعالى: هَلْ ثُوِّبَ اَلْكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المطففين، الآية: 36] و غلّب استعمالها في مقابل العقاب.

و المعنى: أنهم لو استبدلوا السحر، و اتباع الشياطين بالإيمان و التقوى لكان ثواب اللّه على أفعالهم الصالحة خيرا لهم من جميع ما اكتسبوه من أفعالهم. و تنكير المثوبة لبيان أنّ أقل ما يصدق عليه الثواب هو خير لهم مما عملوه.

قوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ . المراد به العلم الفعلي و لو إجمالا أي: أنّهم لو كانوا يلتفتون إلى أنّ الإيمان باللّه و التقوى أعلى درجات الكمالات في الإنسان، و جزاء ذلك أغلى كل جزاء لعلموا قبح ما بدّلوه.

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات المباركة أمور:

الأول: أنّ اللّه تعالى لم يبين حقيقة السحر في هذه الآية الشريفة، و أجمل الأمر، و إنما وصفه سبحانه في آية أخرى أنه تخييل و ضرب من الخداع النفسي، قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [سورة طه، الآية: 66]، و قال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ [سورة الأعراف، الآية:

116] و لعل الحكمة في ذلك أنه أوكل معرفة الحقائق المكتسبة إلى بحث الإنسان و جهده في تحصيلها، و قد ذكرنا في قصة الخليقة ما يتعلق بالمقام.

الثاني: يستفاد من الآية المباركة أن السحر كان من الأمور العادية يتعلمه النّاس في تلك الأعصار، و هذا من جملة الفروق بينه و بين المعجزة فإنها ليست كذلك، و سيأتي مزيد بيان في البحث الآتي.

ص: 352

الثالث: لعل الوجه في إنزال السحر على الملكين دون الأنبياء (عليهم السلام) إما لأجل أن الملكين كانا محشورين في الناس يعرفان كيد الشياطين و مكر السحرة، أو لجلالة مقام الأنبياء (عليهم السلام) لئلا يتهمهم النّاس بما لا يليق بهم.

الرابع: تدل الآيات المباركة على أن في عمل السحر معرضية للكفر و لا ريب فيه لأن الأنس بما هو من شؤون الشيطان يوجب البعد عن ساحة الرحمن.

الخامس: الآية الشريفة تنص على أن تعليم الملكين للسحر إنما كان لغرض إفساد سحر السحرة، و بيان السحر و المعجزة. و فيها إشارة إلى أن التفريق بين المرء و زوجه و غيره من الأعمال الفاسدة إنما هو من عمل النّاس، و ليس من تعليم الملكين، و أنه كان ذلك من سوء اختيارهم و منه يظهر السر في اختفاء جملة من العلوم، و الاسم الأعظم و بعض الدعوات المستجابة.

السادس: إنّ في قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ من الإيحاء النفسي للإنسان بأن لا يتأثروا بسحر السحرة فإنه ليس لهم تلك القوة الغيبية التي تؤثر على النفوس، بل أعمالهم تستند على ضرب من الخداع و التخييل، فما يحصل من المسببات المستندة إلى أسبابها إنما تكون بإذن من اللّه تعالى و قدره و قضائه.

السابع: يظهر من هذه الآية المباركة و ما في سياقها من الآيات الشريفة أن العلوم التي يتعلمها الإنسان على أقسام، منها ما ينفع لدينه و دنياه، و منها ما يضر بهما، و منها ما ينفع لدنياه و يضر بدينه، و منها ما يكون عكس ذلك، و منها ما لا نفع فيه أصلا و إنما هو من صرف الوقت في ما لا يعنيه و لا يفيده و المائز بين هذه الأقسام هو الكتاب الكريم، و السنة المقدسة، و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين (عليهم السلام) أحاديث كثيرة تعين بعض العلوم النافعة للنّاس، و لعل أجمعها

قول نبينا (صلّى اللّه عليه و آله): «إنما العلم

ص: 353

ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة و ما خلاهنّ فهو فضل» فذكر (صلّى اللّه عليه و آله) علم المبدأ و المعاد من أصول العقائد، و علم التحلي بالفضائل و التخلي عن الرذائل، و علم مسائل الحلال و الحرام، و شرايع الأحكام. فبيّن (صلّى اللّه عليه و آله) العلوم الدخيلة في استكمال الإنسان في عوالمه الثلاثة (عقله و روحه و بدنه) و قد جمعها

علي (عليه السلام) في عبارة موجزة: «العلم أكثر من أن تحيطوا به فخذوا من كل شيء أحسنه» هذا كله في العلم الذي له دخل في الكمال المطلق، و السعادة الأبدية. و أما العلوم و الصنايع و الفنون فالناس بالفطرة يتوجهون نحوها، فإن الدار دار الاستكمال و الخروج من القوة إلى الفعلية فلا يحتاج إلى ترغيب من مرغب إلهي أو غيره، فإن الساكن إنما يتحرك نحو المطلوب بالفطرة، و لذلك لم يعهد تفصيل ذلك في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، نعم أشير إليها في قوله تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا [سورة القصص، الآية: 77]،

و ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا و اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» فالإنسان خلق لأجل الاستكمال و السعادة و لا ينفك عن ذلك، و داعيه و قائده و المرغب إليه إما هو اللّه تعالى و أنبياؤه و أولياؤه، أو يكون هي الفطرة التي هي جزء من السير التكاملي الموجود فيه. و في المقام تفصيل يأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الثامن: ليس في قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ دلالة على أن مطلق السحر مما أوحي الى الملكين حتّى تدل بالملازمة على إباحته، لأن الإنزال من اللّه تعالى أعم من ذلك خصوصا إذا كان من باب دفع الأفسد بالفاسد.

بحث روائي:

الطبرسي في الإحتجاج عن الصادق (عليه السلام) و قد سئل من أين علم الشياطين السحر؟ قال: «من حيث عرف الأطباء الطب بعضه.

تجربة، و بعضه علاج».

ص: 354

أقول: الحديث موافق للاعتبار و هو شارح لجميع أخبار الباب مع غض النظر عن الأسناد.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ عن الباقر (عليه السلام) في حديث: «فلما هلك سليمان (عليه السلام) وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و كتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليعمل كذا و كذا، ثم دفنه تحت سريره ثم استثاره لهم فقرأه، فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلاّ بهذا، و قال المؤمنون: بل هو عبد اللّه و نبيّه، فقال اللّه جلّ ذكره: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان» و رواه القمي أيضا.

أقول: هذا الحديث شاهد على حمل قوله تعالى: ما تَتْلُوا على الافتراء و الافتعال، و هو شايع في الاستعمال، يقال: ما قلت و ما تلوت أي: ما افتريت. و المراد من إبليس كل مصدر للشر و الفساد.

و في العيون في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون: «و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علّما النّاس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة، و يبطلوا كيدهم، و ما علّما أحدا من ذلك شيئا إلاّ قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرقون بما يعلمونه بين المرء و زوجه قال اللّه تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ .

أقول: هذا الحديث أيضا مبيّن و شارح لظاهر الآية المباركة و لجميع ما ورد في الباب من الأخبار، كما أنه ظاهر في الكفر العملي مضافا إلى كفرهم الاعتقادي، و السحر قد يكون من الكفر العملي و قد يكون من الكفر الاعتقادي أيضا و قد فصلنا ذلك في الفقه. و هناك روايات أخرى بين مفصلة و غيرها مروية عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين أعرضنا عن ذكرها لأن سياقها يدل على عدم صدورها عن المعصومين (عليهم السلام) بل هي من المفتعلات كما هو الظاهر منها، و على فرض

ص: 355

صحة بعضها لا بد من رد علمه إلى أهله.

و في العيون أيضا عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال (عليه السلام): «لأنهم يعتقدون أن لا آخرة، فهم يعتقدون أنها إذا لم تكن آخرة فلا خلاق لهم أي لا نصيب لهم في دار بعد الدنيا، فهم مع كفرهم لا خلاق لهم فيها».

أقول: ظاهر الحديث نفي الخلاق بنفي الموضوع أي: لا يعتقدون بأصل الآخرة، و لكنهم على قسمين: قسم يعتقدون بها و ينكرونها عملا، و قسم آخر لا يعتقدون بها أصلا، فنزّل (عليه السلام) الأول منزلة الثاني لعدم الأثر لمجرد الاعتقاد بلا عمل.

بحث علمي:

السحر ضرب من ضروب التأثير النفساني و هو علم كسائر العلوم له قواعده و أحكامه و قد ورد في القرآن الكريم في ما يقرب من ستين موضعا و أكثره ورد في قصص موسى (عليه السلام) و فرعون و لم يبين سبحانه و تعالى حقيقته - كما هو دأبه جلّ شأنه في الحقائق العلمية - ليرجع الإنسان إلى نفسه في البحث عنها و الاجتهاد في تحصيلها و الارتقاء في العلم كما عرفت سابقا و إذا تتبعنا موارد استعمالات لفظ السحر نرى أنه يأتي بمعنى الافتتان و الفتنة،

و في الحديث: «ان من البيان لسحرا». و هذا هو المعنى الدارج عند العامة حينما يتعجبون من شيء و يفتتنون به. يقال: سحرتنا الطبيعة عند مشاهدة بديع صنع اللّه تعالى فيها. و يقال: سحرنا جماله إذا افتتن به و أمثال ذلك.

و أما السحر بالمعنى العلمي فهو ضرب من التأثير النفسي المشوب بالفتنة، و إظهار ما ليس بواقع بصورة الواقع المعبّر عنه في القرآن الكريم بالتخييل و الخداع، قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [سورة طه، الآية: 66]، و قال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ [سورة الأعراف، الآية: 116] فإن الإرهاب المقارن مع

ص: 356

التخييل و الخداع له الأثر النفسي في الإنسان.

و العلوم من ناحية الموضوع تنقسم إلى أقسام:

الأول: ما كان موضوعه المادة و الماديات كالعلوم الطبيعية.

الثاني: ما كان موضوعه الروح و ما وراء المادة و هذا القسم يختلف من حيث تجرد موضوعه عن المادة بالكلية، كالعلوم الإلهية، أو لم يكن كذلك كالعلوم التي تبحث عن الملائكة و الأرواح و نحوهما.

الثالث: ما كان موضوعه مزيجا من المادة و الروح كعلم السحر و الطلسمات، و النيرنجات و أمثال ذلك، فإنها من دون اتصالها بالأرواح لا أثر لها، كما أنها لو لم تستعن بأمور خاصة لم يتأثر الطرف المقابل كحركات في اليد أو في العين أو تحريك في اللسان أو رموز في الكتابة او تدخين و غير ذلك. نعم من شدة اعتماده على الأثر النفسي يمكن لنا أن نقول انه في جوهره عمل نفسي له آثار مادية، و لذا لا يمكن أن يأتي تحت تجربة و إلاّ كان وهما في وهم. و من الواضح أن الأثر النفسي لا يمكن أن يتحقق إلاّ في محل قابل و مستعد لقبول ما يصدر عن الساحر، و لذلك كان تأثيره في الإنسان محدودا بالفرد الناقص من حيث المعرفة و الكمال و أما الإنسان الكامل فلا أثر للسحر فيه، و لم يعهد أن نبيا من أنبياء اللّه تعالى تغلّب عليه السحر و أثّر فيه ما ورد في سحر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فلنا فيه كلام يأتي في محله. و من ذلك يعلم وجه انتشار السحر في الأمم البدائية التي يكثر فيها الجهل و الإعتقاد بالخرافات.

ثم إنّ إنفاذ السحر و تأثيره في النفوس الضعيفة يتوقف على قوة الساحر و ثبات في العزيمة، و أكاذيب يستعين بها على التأثير في وعي المسحور و وهمه يشبه في ذلك بعلم التوهم - علم التنويم المغناطيسي - المبني على التأثر في وهم الأفراد و يستفيد الساحر من الأكاذيب و المفتعلات ما لا يستفيده من غيرها، و هو إنما بلغ إلى هذه المرتبة بفضل ما كان يعتقده النّاس في السحر و السحرة من ان لهم التصرف في كل شيء و تصدر عنهم أعمال عظيمة كإحياء الأموات، أو إصابة الناس

ص: 357

بالأمراض، فكانوا يخافون منهم كخوفهم من اللّه تعالى. و لم تسلم الأمم الراقية في هذه الأعصار عن هذه الخرافات حتّى جعلوا للساحر منزلة اجتماعية عظيمة يتوصلون بهم لإنجاح مقاصدهم. و ساعد ذلك ما يدعيه السحرة من أنهم قادرون على استحضار الأرواح فيسألونها عما يريدونه أو يأمرونها بأعمال خاصة، أو أنهم قادرون على إطلاق الرياح و إنزال الأمطار أو يعرفون حوادث المستقبل و يعلمون مقاصد الإله الى غير ذلك من الأكاذيب فيتأثر النّاس بها فينطبع في نفس الواهم أن الأرواح تستجيب إلى أوامر الساحر و لما كان كل ذلك من الوهم ذهب بعض العلماء إلى أنه ليس للسحر حقيقة إلاّ ما يؤثّر في الوهم و الخيال.

و لقد كان موقف الأديان الإلهية و الأنبياء (عليهم السلام) و الكتب السماوية من السحر واضحا فكان أكبر همهم هو إرجاع الإنسان إلى تمييزه و عقله، و إبطال ما كان يحيط بالسحرة من العظمة و الكبرياء، و أما القرآن الكريم فقد أبطل السحر من جهتين:

الأولى: إزالة الأثر النفسي للسحر و السحرة فقال تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 102] فنفى سبحانه و تعالى عن السحرة القوة الغيبية، و كم لهذا الكلام الشريف من الأثر النفسي المعاكس للسحر، و أباطيل السحرة، فإن الإنسان إذا اعتقد ان جميع الممكنات تحت إرادته تعالى و قضائه و قدره، و هو القيوم المطلق و لا يقدر أحد ان يتصرف في شيء إلاّ بإرادته تعالى كان لهذا الاعتقاد الأثر الكبير في نفسه، فلا يبقى مجال حينئذ لأباطيل السحرة.

و لعل من حكم إنزال الملكين - هاروت و ماروت - هو تعريف الناس بأعمال السحرة، و إبطال ما أثاروه حولهم من الإشاعات، و تهيئة النفوس لتلقي المعارف الإلهية كما عرفت.

الجهة الثانية: هدم صرح السحر حينما قال سبحانه و تعالى بأنه ضرب من الخداع و التخييل، و ان الساحر لا يفلح في أمره مهما حاول إظهار الجد في عمله. و هذا لا ينافي إثبات الحقيقة له في الجملة بل إثبات

ص: 358

الوجود هو إثبات للتحقق له، فإن الوجود مساوق للشيئية و التحقق، قال تعالى: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر، الآية: 24] و المراد من الأثر في الآية المباركة الإتباع على ما سيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى، فإنه مما لا ينكر ظهور بعض الأعمال و خرق العادة على يد الساحر و لو بحسب وجدان المسحورين، و من نفى عنه الحقيقة إنما أراد نفي الحقيقة بالنسبة إلى الواقع كالمعجزة و الكرامة، و هذا مسلّم لا ريب فيه.

ثم إنّ تأثير السحر في الإنسان ضرب من تأثير القوى الفعّالة فيه. كتأثير الكواكب في الأرض بما فيها الإنسان مما لا ينكره أحد، كما أن تأثير الملائكة المقربين أيضا كذلك. و تأثير الأنبياء و الأوصياء و بعض الصالحين بما يصدر منهم المعاجز و خوارق العادات لا يشك فيه عاقل. و منها تأثير العين و الإصابة بها فإنه لا يرتاب فيها أحد و ان اختلف العلماء في كيفية تأثيرها،

و في الحديث: «لو كشف عن القبور لرأيتم أكثر موتاكم من العين»، و سيأتي تفصيل الكلام في سورة القلم إن شاء اللّه تعالى.

نعم الفرق بين ما يصدر من الأنبياء و الأولياء و العلماء الذين حذوا حذوهم و بين ما يصدر من الشياطين و تابعيهم من السحرة و الكهنة واضح، فإن بينهما فرقا بحسب الذات و المنشأ و الغاية.

توضيح ذلك: إنّ الإنسان في عالم الدنيا قائم بالاختيار. و أما عالم الآخرة فهو عالم جزاء الفاعل المختار، فلو لا الاختيار لبطل العالمان و الاختيار بما هو اختيار متعلق بطرفي الفعل - الخير و الشر، أو الهداية و الضلالة - و لكل منهما قائد و دليل. و الأنبياء (عليهم السلام) و من يتلو تلوهم أدلاء الهداية و أئمتها. و الشياطين و من يحذو حذوها قواد الشر و الفساد و أدلاؤهما. و نظر كل واحد من القائدين و الدليلين هو الإنسان لا غير، فالمعجزات و الكرامات و خوارق العادات المنبعثة عن القدرة الإلهية غير المتناهية كلها من الأنبياء و الأوصياء و الأولياء الذين أقدرهم اللّه تعالى على تلك الأمور و هي سلاسل يجرّ بها النّاس إلى الجنّة، و في مثلها

قال نبينا

ص: 359

الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل». و السحر و الكهانة و الشعبذة و أمثالها من الحيل كلها من الشياطين و هي سلاسل يجرّ بها إلى النّار. فذات المعجزة من طرق الهداية و ذات السحر و نحوه من طرق الضلالة. كما أن منشأ الأولى صفاء النفس و ارتباطها مع اللّه تعالى و إفاضته جل شأنه على الفرد، و منشأ الثاني كدورة النفس و خبثها و ارتباطها مع الشياطين. و مع ذلك لم يكن للسحر تأثير إلاّ بإذن اللّه تعالى و قدرته، فإنه القيوم المطلق على جميع الممكنات لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3].

ثم إنّهم ذكروا للسحر أنواعا كثيرة تختلف في التأثير شدة و ضعفا.

و لكن يمكن لنا القول بأن تلك الأنواع خلط بين السحر و غيره، فقد ذكروا منها الاستعانة بالأرواح الطاهرة السماوية، و النفوس الفلكية فإن مثل ذلك لا يعدّ من السحر أبدا. فإن الشخص لا يصل إلى هذه المرتبة إلاّ إذا كانت نفسه طاهرة و كاملة، كما أن الاستعانة بالأدوية أو بعض الآلات، أو الأخذ بالعين فإنها لا تسمى سحرا أيضا و إن اثّرت اثره، كما لا يخفى على من تتبع الكتب، فالسحر كما عرفت هو الاستعانة بالأرواح الأرضية كالشياطين و الأجنّة إما بالتسخير، أو بأفعال خاصة.

كما أنّ تسخير الأرواح - سواء تعلقت بذوات الأرواح أو بالنفوس الفلكية أو غيرها. أو تبديل عنصر إلى عنصر آخر - سواء كان بآلة أو غيرها، كل ذلك ممكن عقلا و واقع خارجا، و إن لم يترتب عليه حرام فهو جائز شرعا، و ليس ذلك من السحر في شيء، بل هي من سبل استكشاف المجهول و لا يمكن ذلك إلاّ بتهيئة النفس و إعدادها بأعمال شاقة. كما أن من طرق استفادة السر المكنون علم الحروف و النجوم و هما ليسا من السحر أيضا، بل نسب الأول إلى الأئمة الهداة (عليهم السلام). و سمي بالجفر، و هو من العلوم الشريفة كثيره لا يدرك، و قليله لا ينفع.

ص: 360

بحث فقهي:

المحرمات في الشريعة المقدسة تارة: تكون المفاسد فيها شخصية فقط كشرب السم مثلا، و أخرى: تكون شخصية و نوعية كالظلم و ثالثة: تكون منهما مضافا إلى معرضية المعارضة مع النبوات السماوية كالسحر، و حيث إن العقل يستقل بقبح الجميع خصوصا الأخيرتين فلا بد و أن تكونا محرمتين في جميع الشرايع الإلهية، فالسحر محرم في شريعتي موسى و عيسى (عليهما السلام). و قد ورد في سفر اللاويّين الإصحاح التاسع عشر من التوراة: «لا تلتفوا إلى الجان و لا تطلبوا التوابع [النفاثات في العقد] فتتنجسوا»، و قال في الإصحاح العشرين منه: «و إذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة، فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه».

ثم إنه قد استدل بعض الفقهاء بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ - الآية على جواز تعليم السحر و تعلّمه، لأن المنزل هو اللّه تعالى، و الملك معصوم، فلا يعقل أن يكون محرما.

و فيه: إن التأمل في مجموع الآية الشريفة صدرها و ذيلها يدل على ان الاستدلال بها على الحرمة أولى من الاستدلال بها على الجواز، فإنها قد عدت السحر في عرض الكفر فكيف يستدل بها على الجواز؟ نعم قد يعرض الجواز لعناوين خارجية، كما تزول حرمة الكذب لعروض عناوين توجب رفع الحرمة. و المسألة محررة فى الكتب الفقهية.

بحث كلامي:

لا ريب في أنّ ما يفاض على الممكنات لا بد أن ينتهي إليه سبحانه و تعالى بنحو الاقتضاء، للأدلة العقلية و النقلية،

ففي الأثر المعروف - المنقول متواترا بين الفريقين - عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا إله إلاّ اللّه وحده وحده وحده» فإن الوحدة الأولى إشارة إلى وحدة الذات، و الثانية تشير إلى وحدة الصفات أي سلب جميع النقائص عنه تعالى، و في الثالثة إشارة إلى وحدة الفعل أي أنه مبدأ الكل، و أنه لا

ص: 361

حول و لا قوة إلاّ به، فهذه الجملة المباركة جامعة لأنحاء التوحيد، و لكن ذلك لا ينافي قانون الأسباب و المسببات فان اللّه تعالى أبى ان يجري الأمور إلاّ بأسبابها و من ذلك يعلم وجه انتساب المعجزة، و خوارق العادات، و الكرامات و السحر و الطلسمات إليه تعالى. و قد فرق الفلاسفة و المتكلمون بين المعجزة و السحر بعد اتحادهما في أنهما صادران من عالم آخر غير عالم المادة: و أنّ هدفهما هو الإنسان لا غير بوجوه عديدة:

الأول: بحسب المنشأ، فإن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير بعد صفائها و ارتباطها مع اللّه تعالى، و الاستفاضة من القدرة الإلهية. و السحر ينبعث عن نفس خبيثة مرتبطة مع الشياطين كما تقدم.

الثاني: الفرق بحسب الذات، فإن المعجزة من طرق الهداية و الصّلاح و الخير و لا تصدر إلاّ من النفوس الخيّرة، بخلاف السحر فإنه من طرق الضلال و الغواية و الشر، و لا يصدر إلاّ من النفوس الشريرة.

الثالث: الفرق بحسب الغاية، فإن الغاية من المعجزة هي الدعوة إلى الحق و تثبيت دعوى الأنبياء، و لذا تكون مقرونة غالبا مع التحدي فلا تصدر من الكاذب. و أما السحر فإن الغاية منه الشر و الإضرار.

الرابع: إن الشخص الذي تجري على يديه المعجزة ذو نفس كاملة قد اجتهد صاحبها في القيام بمراد المحبوب اعتقادا و عملا عن علم بأصول الشريعة و فروعها يدعو إلى الحق، و هو يعمل بما يدعو إليه، فإن لمثل هذه النفوس إرادة قوية و لها خلاقية في الجملة لانبعاث إرادتهم عن إرادة العليم الحكيم، إما مباشرة كالأنبياء و الأوصياء، أو بواسطتهم كعباد اللّه الصالحين. و هذا بخلاف السحر و نحوه فإن صاحبه لا يكون كذلك، بل له نفس شريرة كدرة لا يصدر منها الخير، مرتبطة مع الشياطين و من يحذو حذوها.

الخامس: المعجزة ليست مكتسبة و لم تكن لها قواعد مطردة، بل هي تصدر حسب إرادة اللّه تعالى، فإما أن تكون خارقة للعادة واقعا و ظاهرا، أو بحسب الظاهر و إن كانت في الواقع مطابقة لقانون السببية

ص: 362

و المسببية. و أما السحر فهو علم له قواعده و أحكامه يصدر عن تعلم و تجربة. و هناك فروق أخرى أغمضنا النظر عن ذكرها، فإن الأمر وجداني ظاهر لكل من رجع إلى وجدانه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا اُنْظُرْنا وَ اِسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا اُنْظُرْنا وَ اِسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ لاَ اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اَللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (105) ذكر سبحانه و تعالى جهالة أخرى من جهالات اليهود و هي من مظاهر تحريفهم للكلام عن مواضعه، و سوء أدبهم مع الأنبياء (عليهم السلام) ثم بيّن العلم الحق بعد أن أبطل بعض العلوم في الآيات السابقة و جعله كالكفر و بدأ أولا ببعض آداب التعلم، و وجّه الخطاب للمؤمنين تشريفا لهم و إيذانا بعلو التعليم و التعلم، و لما كان في هذا الأمر ارتباطا بينهم و بين اليهود.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا . ذكر هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يزيد على ثمانين آية نزلت جميعها في المدينة. و في جملة كثيرة من الأحاديث أنه ما أنزلت آية فيها يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ رأسها و أميرها.

و عن علي (عليه السلام) «ليس في القرآن يا أيّها الذين آمنوا إلاّ و في التوراة يا أيها المساكين» و يأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

و يشمل الخطاب كلا من الحاضرين في مجلسه و الغائبين بل المعدومين أيضا، لأنه متعلق بالعنوان من حيث كونه طريقا إلى المعنون.

و إنما ذكر الإيمان في متعلق الخطاب، لأجل الترغيب إليه و تحريض النّاس إلى الاتصاف به ابتداء ثم العمل بما يتعلق به، فيكون مثل هذا الخطاب أشد في جلب القلوب و آكد في الدعوة إلى المطلوب، و له نظائر كثيرة في

ص: 363

كلام الفصحاء من العرب و غيرهم.

قوله تعالى: لا تَقُولُوا راعِنا . لفظ «راعنا» سواء كان من المراعاة أو من الرعونة، أو شيئا آخر، ليس استعماله من الأدب المحاوري، و في خطاب النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بذلك من الجفاء و سوء الأدب لأنه يأتي بالمعنى الذي بيّنه تعالى بقوله جلّ شأنه مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ [سورة النساء، الآية: 46] و ذلك لأن مقام النبي (صلّى اللّه عليه و آله) مقام المعلم الهادي و لا بد للمتعلم من حفظ الأدب معه، و نبذ كل ما هو مشتبه الإهانة و الهتك فضلا عن معلومهما. و يحترز عن إظهار منزلة لنفسه عند المعلم فإنه من الإهانة و الجفاء بمقامه.

و المعروف أنّ هذه الكلمة سب بالعبرانية، كما ورد في بعض الروايات. و قال شيخنا الأستاذ البلاغي (رحمة اللّه عليه): «قد تتبعت العهد القديم فوجدت أن كلمة «راع» - بفتحة مشالة إلى الألف، و تسمى عندهم (قامص) - تكون بمعنى الشر أو القبيح و من ذلك ما في الفصل الثاني و الثالث من السفر الأول من توراتهم. و بمعنى الشرير واحد الأشرار، و من ذلك ما في الفصل الأول من السفر الخامس، و في الرابع و الستين و الثامن و السبعين من مزاميرهم، و في ترجمة الأناجيل بالعبرانية. و «نا» - ضمير المتكلم - في العبرانية تبدل الفها واوا أو تمال إلى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا و نحو ذلك» فتكون الكلمة في لغتهم «راعينو» موافقة للعربية في نبرتها و لهجتها، و يكون النهي عن استعمالها لئلا يتخذها اليهود - الذين عرفوا بسوء الأدب مع أنبيائهم - وسيلة للسب و الطعن في الدين فيقتدون بالمؤمنين في اللفظ، و يقصدون المعنى الفاسد منه.

قوله تعالى: وَ قُولُوا اُنْظُرْنا وَ اِسْمَعُوا . أي: أمهلنا حتّى نفهم ما تقول، أو راقبنا في إدراكنا و أقبل علينا. و هذه الكلمة خير من الكلمة الأولى فإنها تفيد ما كانوا يريدونه، و تنفي ما كانت توهمه الكلمة الأولى. و اسمعوا

ص: 364

أي: افهموا ما يبين لكم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فيتحقق حينئذ حقيقة الاستفادة و التعلم.

قوله تعالى: وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ . أي: أن من فعل ذلك منكم و لم يسمع قوله (صلّى اللّه عليه و آله) و خالف أمره يصير كافرا و للكافرين عذاب اليم بلا فرق بين اليهود و غيرهم فان حكم الآية المباركة عام، إذ هو من الأحكام الفطرية الحسنة التي يحكم بحسنها العقلاء، و لا بد من مراعاة ما ورد فيها من الآداب على جميع المتعلمين و المستفيدين. و تشير الآية المباركة إلى مدح كون المستفيد و المتعلم في مقام الفهم و الإدراك، و حسن التماسه ذلك من المعلم، كما تشير إلى أنّ إفادة المفيد لا بد و أن تكون بقدر استعداد المستفيد و المتعلم و على قدر القابليات، و تدل على ذلك النصوص الكثيرة،

و قد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم النّاس على قدر عقولهم».

قوله تعالى: ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ لاَ اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ . أي: ما يحب الذين كفروا من اليهود و النصارى و لا من المشركين أن ينزل عليكم أيّ خير. و كلمة «من» تفيد الاستغراق لوقوعها في حيّز النفي و في إتيان كلمة «ربكم» إشارة إلى عطفه تعالى على هذه الأمة.

و المراد من الخير في المقام كل خير دنيوي و أخروي فيشمل منصب النبوة و ما يلزمها من المعارف و الكمالات الإنسانية المنبعثة عن هذه الشريعة المقدسة الغراء. و السبب في حسد الكفار و المشركين على المؤمنين هو تمني الكفار أن تكون فيهم الحركة الدينية فلا يتعدى إلى غيرهم. و أما المشركون فلأن الإسلام يهدد كيانهم، و يخيّب آمالهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ . تقدم معنى الرحمة في سورة الحمد، و يراد منها في المقام بقرينة «ب» التبعيضية خصوص تلك الرحمة التي أنزلت على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و من تبعه من

ص: 365

المؤمنين و هي النعمة الكاملة الدائمة الأبدية و الكمال الأتم المطلق، و هي حقيقة الإيمان التي مثلت في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) ثم أشرقت منه (صلّى اللّه عليه و آله) على تابعيه و أمته الجامعة للرحمة الرحمانية و الرحيمية.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ . ذكرت هذه الجملة المباركة في موارد كثيرة من القرآن الكريم، كما وردت مادة (ف ض ل) في مواضع أخرى منه، قال تعالى: وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 153]، و قال جلّ شأنه: وَ لكِنَّ اَللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 251]، و قال تعالى: وَ أَنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ [سورة الحديد، الآية: 29] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، و من أسمائه الحسنى المباركة «يا دائم الفضل».

و أصل هذه المادة تستعمل في الزيادة على ما يلزم على المعطي إعطاؤه، و على ما يستحقه المعطى له، فيكون إحسانا و زيادة فلا تطلق على عوض المال و العمل. نعم إذا أعطي زيادة على المثل أو القيمة أو المسمى كان فضلا. و مواهب اللّه تعالى على جميع خلقه من هذا القبيل على فرض الاستحقاق فضلا عن أنه لا وجه لأصل الاستحقاق، فهي فضل و تفضل منه عزّ و جل سواء كان بالنسبة إلى المعنويات أو الماديات أو بالنسبة إلى النشآت الأخرى.

و في الآية المباركة رد على الكفار و المشركين و على جميع الحاسدين بما يبين جهلهم أي أنه لا يمنعه مانع، و لا يحوله حسد حاسد من اختصاص رحمته بمن يشاء من عباده حسب ما يراه من المصلحة فإنه ذو الفضل العظيم.

بحث روائي:

العياشي عن علي بن الحسين (عليهما السلام): «ليس في القرآن يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و في التوراة يا أيها المساكين» و رواه الصدوق عن علي

ص: 366

(عليه السلام) أيضا.

و عن أحمد بن حنبل في المسند عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما أنزل اللّه آية فيها يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ رأسها و أميرها».

و في ينابيع المودة أخرجه موفق بن احمد عن مجاهد و عكرمة عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و قال موفق في المناقب رواه جماعة من الثقات هم الأعمش و الليث و ابن أبي ليلى و غيرهم عن مجاهد و عكرمة، و عطا عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في الصواعق أخرجه الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما أنزل اللّه آية فيها يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ أميرها و شريفها».

و قال الإربلي في كشف الغمة نقل ذلك عن ابن مردويه بأسانيده عن ابن عباس و حذيفة. و في حلية النعيم إن النّاس يروون هذا الحديث.

أقول: نقل ذلك عن الإمامية بطرق متواترة، و هو حق لا ريب فيه لأن عليا (عليه السلام) أعلم النّاس بالقرآن، و بجهات الإيمان بإجماع المسلمين، فتكون الروايات الواردة في الآيات المتفرقة في حق علي (عليه السلام) من باب الانطباق.

و في ينابيع المودة عن أبي الحسن و الضحاك و علقمة: «ان كل شيء من القرآن يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا فانه نزل بالمدينة».

أقول: مثل هذه الرواية موافقة للاعتبار، لأن مكة المكرمة بدء نزول الوحي كانت بمنزلة المادة للإيمان و في المدينة المنورة تحققت الصورة، فيصح توجيه الخطاب حينئذ.

و عن الشيخ في التبيان عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى «راعنا» إنها كلمة سب.

ص: 367

الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا - الآية و ذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) أعجبهم ذلك.

و كان راعنا في كلام اليهود السب القبيح، فقالوا: إنا كنّا نسب محمدا سرا، فالآن أعلنوا السب لمحمد، فكانوا يأتون نبي اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فيقولون: يا محمد راعنا و يضحكون ففطن بها رجل من الأنصار و هو سعد بن عبادة - أو سعد بن معاذ - و كان عارفا بلغة اليهود، فقال: يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه و الذي نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه. فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا اُنْظُرْنا - الآية.

أقول: الرواية حسب الإعتبار صحيحة و تقدم وجه ذلك كما ذكرنا عن بعض مشايخنا.

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أ

اشارة

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ (108) بعد أن ذكر اللّه سبحانه و تعالى أنه ينزل الرحمة و الوحي على من يشاء من عباده بيّن سبحانه و تعالى استيلاءه على الحكم بكل ما يشاء من النسخ و الإثبات، لأنه مالك السموات و الأرض و على كل شيء قدير، و في الآيات المباركة رد لمزاعم اليهود الذين يحدّدون قدرته تعالى بحد خاص، و قد ذم سبحانه و تعالى أيضا توجيه كل سؤال ينبعث عن قصور العقول إلى رسوله الكريم كما فعلت اليهود بالنسبة إلى موسى (عليه السلام). و هذا في الواقع يكون ذما للتقليد عن الكفار.

اشارة

ص: 368

التفسير

قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ . النسخ يأتي بمعنى إزالة شيء بشيء يتعقبه، يقال نسخت الشمس الظل؛ و نسخ الظل الشمس، و نسخ الشيب الشباب، و يستلزم ذلك أمور:

الأول: النقل كما يقال نسخت الكتاب، و قال تعالى: إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية، الآية: 29] و هو عبارة عن نقله و ضبطه.

الثاني: مجرد الإزالة إذا لوحظ بالنسبة إلى المنسوخ فقط و عن بعض المفسرين أن منه قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اَللّهُ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ [سورة الحج، الآية: 52] أي يزيله فلا يتلى و لا يثبت في المصحف، و الظاهر بطلانه لتذييل الآية المباركة بقوله تعالى: ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي يزيل ما ألقاه الشيطان و هو الباطل و يثبت الحق و أما نسخ التلاوة فسيأتي بطلانه إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: الإثبات إذا لوحظ بالنسبة إلى الناسخ فقط.

الرابع: هما معا إذا لوحظ بالنسبة إليهما معا فيكون بمعنى التبديل أيضا، و منه اصطلاح العلماء في النسخ المبحوث عندهم أي تبديل ما كان ثابتا من الحكم الشرعي بدليل معتبر على خلافه. و التناسخ المعروف عند أهله أيضا من النقل و الإزالة كما لا يخفى.

و من ذلك يعلم أنّ تخصيص العمومات، و تقييد المطلقات، و القرائن العامة أو الخاصة على خلاف الظاهر ليس من النسخ في شيء لا موضوعا و لا حكما.

و الآية هي العلامة، و تطلق على تمام الآية و على الجزء منها، بل قد أطلق القرآن الآية على ما جاء في الكتب الإلهية السابقة قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران، الآية: 113]، و قال تعالى: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ [سورة الزمر، الآية: 71].

ص: 369

و الآية هي العلامة، و تطلق على تمام الآية و على الجزء منها، بل قد أطلق القرآن الآية على ما جاء في الكتب الإلهية السابقة قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران، الآية: 113]، و قال تعالى: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ [سورة الزمر، الآية: 71].

و المراد بها العلامات الدالة على وحدانيته تعالى، و صفاته المقدسة و أفعاله الحسنى، و الأنبياء، و القرآن، و سائر المعجزات فلا تختص بخصوص الآيات المباركة القرآنية، و يستفاد هذا التعميم من قوله تعالى في ذيل الآية المباركة أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، و قال الشاعر:

و في كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

و إن كان شأن النزول - كما في بعض التفاسير - آيات الأحكام الواردة في القرآن، و قد ذكرنا مرارا أن شأن النزول من باب التطبيق لا التخصيص.

فهي قابلة للشدة و الضعف فربما يكون شيء آية له تعالى من جميع جهاته و قد يكون من جهة. و النسخ قد يتعلق بالجميع و قد يتعلق بالبعض.

قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها . من النسيان حذف حرف العلة للجزم بالعطف على «ننسخ» و الفعل «انسى ينسي» بمعنى ترك الحفظ إما لقصور، أو تقصير، أو عن علم و تعمد، لحكم و مصالح تترتب عليه. و من الأول قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [سورة البقرة، الآية: 286]،

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان».

و من الثاني قوله تعالى: وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [سورة الجاثية، الآية: 34]، و قوله تعالى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنّا نَسِيناكُمْ [سورة السجدة، الآية: 14]، و قوله تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19] و التقصير إنما هو من العبد لا منه تعالى، فإنه يجازي المقصرين حسب تقصيرهم.

و من الأخير قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها أي نترك حفظ الآية لمصالح.

و ترك الحفظ تارة: لعدم الوحي مع وجود المقتضي له، لمصالح في الترك تغلب على المقتضي. و أخرى: ترك الحفظ عن قلب نبينا الأعظم

ص: 370

(صلّى اللّه عليه و آله) مع صدور الوحي اليه. و ثالثة: بالإزالة عن قلوب المخاطبين مع صدور الوحي على لسان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله). و يصح الجميع بالنسبة إليه عزّ و جل فان ما سواه تحت إرادته. و استعمال النسيان في ما ينبغي أن ينسى كثير، و في المثل المعروف «احفظوا أنساءكم» أي التزموا بأنسائها و عدم الالتفات إليها و عدم ترتيب الأثر عليها، و هي عبارة عن ذمائم الصفات التي يرتكبها الشخص في المجتمع على الغير أو يرتكبها الغير عليه.

و قال بعض المفسرين إن قوله تعالى: نُنْسِها أي نؤخرها من الإنساء،

و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صلة الرحم مثراة للمال، و منسأة للأجل»، و يقال: نسأ اللّه أجلك، و قد انتسأ القوم إذا تأخروا، أو تباعدوا.

و يمكن المناقشة فيه: بأن الكلمة لو كانت من الإنساء بمعنى التأخير لما جاز حذف الياء، لأنها ليست حرف علة و القراءة المشهورة على خلافه، مضافا إلى أن التأخير ملازم للترك أيضا.

و لا تنافي بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [سورة الأعلى، الآية: 6] لأن الأخير بحسب التأييد الإلهي، و الأول بحسب ذات الطبيعة البشرية. بل يمكن أن يقال: إن الآية المباركة لا تشمل نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى القرآن، لأنه مؤيد بروح القدس و متصل بالمبدأ القيوم. نعم في الموضوعات الخارجية ورد الإنساء بالنسبة إليه (صلّى اللّه عليه و آله) كما تقدم في قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها [سورة البقرة، الآية: 36] فراجع.

قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها . اي نأت بخير من تلك الآية المنسوخة في الأثر، و أنفع منها في الإقناع و الصّلاح وفق المصالح، لأن الدار دار التكامل، و أفعال اللّه تعالى مبتنية على المصالح التكاملية مع اقتضاء علمه الأتم و حكمته البالغة في ذلك أيضا.

قوله تعالى: أَوْ مِثْلِها . في التأثير ليتذكر الإنسان ما قد نسيه

ص: 371

منها.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . هذا بمنزلة التعليل لاستيلائه تعالى على النسخ و الإنساء، فإنّ قدرته التامة غير المحدودة تقتضي ذلك، و هو قرينة على أن المراد من الآية ليس خصوص القرآن، بل تشمل كل آية دالة على وحدانيته و صفاته الحسنى، فتشمل المعجزات الباهرات و منها القرآن الكريم الدالة على نبوة أنبياء اللّه تعالى.

و الخطاب للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) تشريفي، و لأنه (صلّى اللّه عليه و آله) بمفرده بمنزلة الجميع، و لبيان طريق الاستدلال له حتّى يتعلم منه الجميع. و يعتبرونه الواسطة بينهم و بين اللّه تعالى. و الاستفهام تقريري و هو أبين في الإثبات من نفس الاستدلال.

ثم إنه تعالى أراد تثبيت ايمان المؤمنين لئلا يتأثروا بشبهات الكافرين فأقام الدليل الآخر على تمام قدرته.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . أي أنه مالك لهما خلقا و إيجادا، و إرادة و تدبيرا، و النّاس كلهم عبيده يفعل ما يشاء فيهم و يحكم ما يريد لا يعجزه شيء. و الخطاب للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) تشريفا و المراد به غيره.

قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ . التفات في الخطاب من الإفراد إلى الجمع لما ذكرناه و الولي هو القائم بالأمر و مدير الرعية و مدبر أمورها. و النصير من يطلب النصرة و التقوية منه. أي: إنّ وليكم و ناصركم هو اللّه تعالى وحده و هو يفعل فيكم بما تقتضيه حكمته البالغة و لا يفوته أحد، فهو الذي يقدر الإنسان على العمل بنحو الاقتضاء، كما أنه المالك للثواب و العقاب فيكون تعالى مبدأ الكل و منتهاه.

و الآية من الأدلة العقلية على تمام قدرته و كمال إرادته، و كما لها نظير في الآيات القرآنية، و فيها إشارة إلى لزوم انقطاع العباد إليه تعالى لانحصار الولاية فيه و الإعانة منه عزّ و جل فهو مسبب الأسباب بما يشاء و إن كان جعلها تحت اختيار العبد و قدرته فلا بد و أن يكون السعي من العبد و النصرة

ص: 372

منه عزّ و جل، فإن وافقت نصرته تعالى لسعي العبد فذلك هو الفوز العظيم و إن تخلفت فهو الخسران المبين.

قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ . أم هنا منقطعة بمعنى بل، و تتضمن الاستفهام فتكون إضرابا عن عقائدهم الفاسدة بما هو أفسد. و المراد بالسؤال كل سؤال لا يصدر عن فكر و روية بل يصدر عن عناد و لجاج، و يكون منشؤه الجهل المركب. و قد بيّن سبحانه و تعالى بعض تلك الأسئلة في آيات أخرى، فقال تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً [سورة الإسراء، الآية: 90] و المراد بالسائل كل من تصدى له سواء كان من الكفار أو المشركين أو المنافقين.

و السؤال في الآية المباركة عام يشمل ما وقع في عصر البعثة بالنسبة إلى اصل حدوث الشريعة و ما يقع بعدها إلى يوم القيامة كما قال تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 101] و استنكار إرادتهم للسؤال يستلزم استنكار وقوع المراد بالأولى، فهي أشد من تقبيح المراد و الذم عليه، فيصير نظير قوله تعالى: تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة القصص، الآية: 83] فنفى تعالى اصل تحقق المراد منهم بنفي اصل الإرادة.

قوله تعالى: كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ . فقد طلب فرعون و قومه من موسى (عليه السلام) الآيات الواحدة تلو الأخرى و لم يؤمنوا بها استكبارا منهم و عنادا، و كذلك فعل بنو إسرائيل فإنهم سألوا موسى (عليه السلام) أن يريهم اللّه تعالى جهرة كما حكى اللّه تعالى عنهم، فقال عزّ و جل: إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية:

55]، و قال تعالى: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف، الآية:

138] و غير ذلك من اقتراحات بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) من قبل.

و قيل: إن بعضهم سأل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أن يجعل

ص: 373

لهم ذات أنواط كما كان عند أقوام آخرين. فحقيقة الجهل المركب واحدة و ان اختلفت مظاهرها. و قد أخبر نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا. و لا ريب أن تلك الأسئلة لا تصدر إلاّ ممن طبع على اللجاج و العناد، و عدم الإعتقاد بما جاء به الأنبياء، و لذا أنكر عليهم سبحانه و تعالى.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ .

التبديل هو جعل شيء بإزاء شيء آخر بدلا منه. و السواء هو الوسط، و سواء السبيل الصراط المستقيم. أي إن من عاند أنبياء اللّه تعالى و لم يؤمن بما جاؤا به بكثرة السؤال فقد اختار الكفر على الإيمان، و من كان كذلك فقد ضل عن الصراط المستقيم.

و المراد بالتبديل حقيقته الأعم من أن يكونوا قد قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، و هذه العناية لم توجد في التعبير بالشراء و الاشتراء الواقعين في آيات اخرى.

و السرّ في ذلك ما ثبت في الفلسفة العملية من أن أفعال العباد و إن كانت معلولة للإنسان لكنها مع كونها كذلك لها جهة علّية في نفس الفاعل، فتكون مؤثرة فيه بنحو من الأنحاء فيصير علة لعمله، و عمله علة مؤثرة فيه أيضا، فإذا كان العمل الصادر من الإنسان خيرا أثّر فيه و أوجب صفاء نفسه و نورا في قلبه، و إن كان شرا أوجب ظلمة و كدورة فيها حتّى تصل إلى ما قاله تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14] و حينئذ يرى الفاعل أثر فعله في هذه الدنيا فلا اختصاص لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8] بالآخرة بل يعم جميع العوالم، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة التي تأتي الإشارة إليها في محلها. و عليه فإذا لم يسلك الصّراط المستقيم انسلاكا اعتقاديا أو عمليا فقد ضل عن سواء السبيل.

ص: 374

بحوث المقام

بحث روائي:

في تفسير العياشي: «عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «فقال (عليه السلام) الناسخ ما حوّل، و ما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن بعد قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ قال (عليه السلام): فيفعل اللّه ما يشاء، و يحوّل ما يشاء مثل قوم يونس إذ بدا له فرحمهم و مثل قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ قال (عليه السلام) «أدركهم برحمته».

أقول: ما ورد في الأحاديث في أصل النسخ و في الناسخ كمية و كيفية كثير جدا و متواتر بين الفريقين، و ما ذكره (عليه السلام) في هذا الحديث في النسخ بالمعنى العام أي مطلق التحويل و التغيير الشامل للبداء أيضا كما صرح في الرواية التالية صحيح لا إشكال فيه، و تقدم في تفسير الآية ما يدل عليه أيضا.

و أما قوله (عليه السلام): «و ما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن» يحتمل فيه معنيان - الأول: صدور الوحي إلى قلب النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ثم إنساء ما اوحي اليه قبل بيانه لمصالح فيه. الثاني: ثبوت المقتضي في عالم الغيب للوحي ثم ترك الوحي أصلا لمصالح فيه أيضا. و المنساق من الحديث المعنى الأخير، لأنه باق على غيبه المكنون، و عدم صدوره عن مرتبة الغيب إلى مرتبة اخرى من وحي و غير ذلك، و هذا وجه حسن.

و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) أيضا: «إن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ و نجاة قوم يونس».

أقول: كون البداء من النسخ بحسب المعنى اللغوي و هو مطلق التحويل صحيح لا إشكال فيه، لكن المنساق من مجموع الروايات الواصلة

ص: 375

إلينا أن مورد النسخ التشريعيات، و البداء مورده التكوينيات، و هذا الاختلاف بحسب المتعلق لا بحسب الذات.

و روي أيضا: «إن موت إمام و قيام آخر مقامه من النسخ».

أقول: ظهر وجهه مما تقدم من أن النسخ بمعنى مطلق التحويل أي تحويل الامامة من إمام إلى امام آخر.

و في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر عدة آيات من الناسخ و المنسوخ منها قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ نسخه قوله عزّ و جل: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي للرحمة خلقهم.

أقول: إن المراد من النسخ بالمعنى الأعم أي مطلق التحويل و إلاّ فخلق الجن و الإنس ليعبدون أي ليأمرهم بالعبادة كما في جملة من الأخبار، و هو عبارة اخرى عن خلقهم للرحمة بعد امتثال الأمر.

و فيه أيضا قال (عليه السلام): و نسخ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا قوله تعالى: اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ .

أقول: هذا من سنخ التخصص بالنسبة إلى الآية الأولى. و لا ينافي ذلك قوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا لفرض الخروج الموضوعي.

فما في بعض التفاسير من المنافاة بأنه لا وجه لتخصيص القضاء الحتم مغالطة بين التخصيص و التخصص. مع أنه لو كان القضاء الحتم تحت اختياره تعالى من كل جهة حدوثا و بقاء يصح التخصيص بالنسبة إليه أيضا، و إنما أظهره تعالى بصورة التعميم و الحتم لمصالح في ذلك.

و عن الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها - الآية: إن المشركين قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه

ص: 376

بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه، و يقول اليوم قولا و يرجع عنه غدا؟ أما هذا القرآن إلاّ كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه و هو كلام يناقض بعضه بعضا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و نزل أيضا: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ .

أقول: إن ما قاله المشركون نشأ من عدم فهمهم للقواعد العرفية الدائرة بينهم.

و في الدر المنثور عن قتادة: «كانت الآية تنسخ الآية و كان نبي اللّه يقرأ الآية و السورة، و ما يشاء اللّه من السورة ثم ترفع فينسيها اللّه نبيه؛ فقال اللّه تعالى يقص على نبيه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي».

أقول: هذه الرواية لا تناسب مقام النبوة و حفظه لما يوحى اليه كما عرفت سابقا.

و عن الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ - الآية -: «نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي أمية و رهط من قريش، قالوا: يا محمد (صلّى اللّه عليه و آله) اجعل لنا الصفا ذهبا، وسع لنا أرض مكة، و فجر الأنهار خلالها تفجيرا، نؤمن بك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: يدل على ذلك ما تقدم من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا».

بحث كلامي:
اشارة

استدل بعض المفسرين بالآية الشريفة ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها على إمكان النسخ و وقوعه في القرآن الكريم، و ذكرنا ان المراد من النسخ في الآية المباركة غير المعنى المصطلح فيه، بل هو بالمعنى الأعم. و لتوضيح ذلك لا بد من البحث فيه و لو على سبيل الإجمال.

معنى النسخ:

النسخ في اللغة هو الإزالة و يلازمها النقل و الإبطال بالوجوه و الاعتبار

ص: 377

كما ذكرنا سابقا و بهذا المعنى كان معروفا في عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و ما بعده فكانوا يطلقونه على التخصيص و التقييد بل على كل قرينة دلت على الخلاف كما عرفت.

و اما بحسب اصطلاح العلماء فالمشهور بينهم أنه بيان انتهاء أمد الحكم الثابت سابقا. و توضيح ذلك أن كل حكم إذا لوحظ بالنسبة إلى حكم آخر يتصور على وجوه:

الأول: الخروج الموضوعي أي الاختلاف بين الحكمين من ناحية الموضوع، كخروج السؤال و الالتماس عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1] فإنهما ليسا من العقود في شيء و اصطلح العلماء على هذا القسم بالتخصّص.

الثاني: الخروج الحكمي مع بقاء الموضوع كخروج البيع الخياري عن العموم المتقدم فإنه بيع مع أنه لا يجب الوفاء به، و اصطلح عليه بالتخصيص.

الثالث: بقاء الموضوع و الحكم على حالهما، و لكن جعل الحكم كان محدودا بحد معين في عالم الإنشاء، و التشريع، و إنشاء الحكم بصورة الدوام و الاستمرار لمصلحة ما، فإذا انتهت مدة الحكم أقيم حكم آخر مقامه و هذا هو النسخ، و الفرق بين القسمين الأخيرين أن التخصيص خروج فردي و تحديد في الأفراد و الحالات ظاهرا، و النسخ تحديد في الأزمان في الواقع لا ان يكون التحديد في ظاهر الدليل، و إلاّ كان تقييدا أو تخصيصا، بل الحكم أنشئ بصورة الدوام و لكنه في عالم التشريع مقيد إلى وقت معين. و لذا قيد العلماء في التعريف الحكم بالثابت أي: الثابت في الواقع، و أما الثابت في الخارج فلا يرتبط رفعه خارجا بالنسخ، لأن فعلية كل حكم تدور مدار تحقق موضوعه في الخارج فإذا وجد يترتب عليه الحكم لا محالة، و إذا ارتفع يرتفع الحكم الفعلي، و هذا لا ربط له بالنسخ بوجه من الوجوه، و لا إشكال فيه من أحد.

ص: 378

حقيقة النسخ و الحكمة فيه:

لا ريب أن القوانين مطلقا - سواء كانت إلهية أو وضعية - تابعة للمصالح و المفاسد أي: أنها وضعت لتحقيق مصالح الإنسان و درء المفاسد عنه، فقد تقتضي المصلحة جعل القانون ثم تقتضي مصلحة أخرى رفعه أو تغييره، و هذا مما تعارفت عليه القوانين الوضعية، فإذا وضع الحاكم حكما لتنظيم العلاقات الفردية أو الاجتماعية ثم يرى عدم الفائدة في تطبيقه، أو أنه لا يحقق المصالح المتوخاة من جعله يلغي ذلك القانون أو يصلحه بقانون آخر. و لم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف عليه بين الناس، بل لنا أن نقول أن النسخ كسائر ما يعرض على القانون من العموم و الخصوص، و الإطلاق و التقييد. و المجمل و المبين من لوازم جعل القانون بحيث لا يمكن تصويره إلاّ و معه أحد تلك اللوازم.

و النسخ بهذا المعنى معلوم عند كل أحد لا ينبغي الإشكال فيه و هو بالنسبة إلى القوانين الوضعية صحيح، فإن الواضع الجاهل بحقيقة الحال لا يعرف متى ينتهي وقت العمل بالقانون الذي وضعه و متى يتغير، و لكن ذلك لا يصلح في النسخ بالنسبة إلى القوانين الإلهية فإنه يستلزم الجهل بالنسبة إلى الشارع المقدس، و هو مستحيل، فلا بد و أن يستند النسخ إليه سبحانه و تعالى بوجه صحيح، و عمدة الوجوه المحتملة هي:

الأول: إبداء الحكم بصورة الدوام لمحض المصلحة في الإنشاء و التشريع، ثم تتبدل المصلحة الظاهرية إلى مصلحة واقعية في المتعلق و المجعول تقتضي نسخ ما أنشئ أولا، نظير التكاليف الامتحانية.

الثاني: كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحد معين في الواقع و لكن إنشاء الحكم بصورة الدوام لمصلحة في ذلك ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة يقتضيها الوقت. و إنما ظهر من الحكم الثاني ان الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حده، و تبدل الأحكام بتبدل المصالح و المفاسد مما يشهد بصحته الوجدان و البرهان.

الثالث: كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات في الإنشاء

ص: 379

و المتعلق و الدوام، ثم تبدلت تلك المصلحة بأخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول و نسخه، فيكون مثل التخصيص إلاّ أنه تخصيص زماني كما عرفت.

الرابع: كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك و إنما أنشئ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان حكم الناسخ في ظرفه و جميع هذه الوجوه صحيحة في نسخ اللّه تعالى لأحكامه المتعالية، و لا يستلزم منها أي نقص بالنسبة إليه عزّ و جل.

و الحكمة في النسخ واضحة بعد ما عرفت، لأنه من مظاهر ربوبيته تعالى العظمى، فإنه عزّ و جل لم يكلف عباده إلاّ بالتدريج و الإمهال متلطفا بهم، و مراعيا أحوالهم، فكانت الشرايع الإلهية خطوات متصاعدة في رقي الإنسان، و تربيته تربية تدريجية متكاملة، فالنسخ يرجع إلى سياسة العباد و التعهد بهم، كما أنه يظهر مقدار طاعة الإنسان، فهو نوع من الامتحان ليميز الخبيث من الطيب. و هو بالأخرة من مظاهر علمه الأتم و حكمته البالغة، فهو و البداء يتفقان في أنهما يكشفان عن علمه السابق إلاّ أن الثاني مورده التكوينيات، و الأول مورده التشريعيات فهو عالم بحقائق الأمور و محيط بكل شيء و لكن اقتضت حكمته البالغة أن تكون التكاليف على التعاقب و التدريج، و من ذلك يظهر إمكان النسخ ذاتا بالنسبة إليه تعالى، و عدم الإشكال فيه بوجه من الوجوه.

النسخ و وقوعه:

ذكرنا أنّ النسخ واقع في القوانين الوضعية، و أجمع المسلمون على وقوعه شرعا. و أدل دليل على إمكان الشيء ذاتا هو وقوعه، فيمكن ادعاء إجماع العقلاء على جوازه في الجملة، و لكن خالف في ذلك اليهود، و النصارى، و هم بين منكر لأصل جوازه، أو منكر لوقوعه في شريعة من الشرايع، و استدلوا على ذلك بأمرين:

الأول: أن النسخ يستلزم جهل الباري عزّ و جل، أو عدم حكمته لأنّه إن علم سبحانه بأنّ المصلحة في الناسخ و أنّه يرفع المنسوخ فلا وجه

ص: 380

لإظهاره، إذ لا مصلحة فيه، و كل تشريع لم تكن فيه المصلحة يكون منافيا للحكمة. و إن لم يعلم بالناسخ حين إظهار المنسوخ يكون جهلا منه و هو ممتنع بالنسبة إليه.

و الجواب: أنّ اللّه تعالى عالم بالناسخ و المنسوخ و لكن اقتضت المصلحة لإظهار المنسوخ بصورة الدوام، و يكون الناسخ كاشفا عن انتهاء مدة حكم المنسوخ و قيام غيره مقامه، لمصالح في الوضع و الرفع تختلف باختلاف الجهات و المقتضيات كما عرفت.

و الظاهر أنّ الإشكال المزبور نشأ من جعل النسخ من مراتب علمه تبارك و تعالى الذي هو عين الذات الأقدس، و كل تغيير في العلم يستلزم التغيير و التبديل في الذات.

و الحق أنّ النسخ من مراتب الإرادة التي هي عين فعله سبحانه و هو قابل للتغير و التبديل مع علمه تعالى بذلك، و لا يلزم من ذلك أي محذور.

الثاني: إنّ رفع الحكم الواقع و إزالته لا يمكن فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه، كما ثبت في الفلسفة.

و الجواب: أنّ ذلك من قياس الإرادة الإلهية على إرادة الفاعل المختار الممكن، و هو باطل لأن فعل الفاعل المختار إذا صدر عنه خرج عن تحت اختياره فلا يمكن تغييره عما وقع عليه. و أما الإرادة الإلهية فالمراد تحت إرادته حدوثا و بقاء، و إيجادا و إفناء لا سيما بناء على ما ثبت في الفلسفة المتعالية أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، و لعلنا نتعرض لهذه المسألة في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و هناك وجوه أخرى استدلوا بها على إنكار النسخ إمكانا و وقوعا أغمضنا النظر عنها لوضوح بطلانها.

و يمكن أن نقول: إنّ الغاية من إنكار النسخ هي رد الشرايع السماوية لا سيما شريعة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) و الاحتفاظ لأنفسهم بالحركة الدينية، و هذا ضرب من غرورهم و جهلهم، و الإيمان

ص: 381

ببعض الكتاب و الكفر ببعضه الآخر، كما حكى اللّه تعالى في كتابه المجيد. و كيف يحق لهم الإنكار و هم يذعنون بأن شريعتهم نسخت الشرايع السابقة، ثم كيف يمكن لهم ادعاء استحالة النسخ مع وقوعه في كتب العهدين و هو كثير نذكر منه موردين. أحدهما من العهد القديم، و الثاني من العهد الجديد.

الأول: ورد في الباب الثاني و العشرين من سفر التكوين أن اللّه تعالى أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح إسحاق (عليه السلام) ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل، فقد ورد فيه: «ثم مد إبراهيم يده و أخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء و قال: ابراهيم ابراهيم فقال: ها أنا ذا.

فقال: لا تمد يدك إلى الغلام، و لا تفعل به شيئا، لأني الآن علمت أنك خائف اللّه، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضا عن ابنه». و كذلك ورد في الإصحاح التاسع من سفر التكوين: أن كل دابة كانت مباحا في شريعة نوح ثم نسخت في شريعة موسى، فقد ورد فيه: «كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع».

الثاني: ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثامن من الرسالة العبرانية «فإذا قال جديدا عتق الأول، و أما ما عتق و شاخ فهو قريب من الاضمحلال». و ذكر ياييل في تفسير هذه الآية: «هذا ظاهر جدا أنّ اللّه يريد أن ينسخ العتيق بالرسالة الجديدة الحسنى فلذلك يرفع المذهب الموسوي اليهودي و يقوم المذهب المسيحي مقامه» إلى غير ذلك مما ذكروا من موارد النسخ التي تزيد عن ثلاثين موردا و إنما لم نتعرض لها خوفا من الإطالة.

شرائط النسخ:

يظهر من ما تقدم شروط النسخ: و هي ثلاثة:

الأول: أن يكون النسخ في الأحكام الشرعية، فلا يقع في غيرها إلاّ

ص: 382

بالعناية و المجاز، كما سيأتي.

الثاني: أن يكون النسخ بدليل شرعي سواء كان من القرآن أو السنة أو الإجماع القطعي. فلا يكون من النسخ موارد ارتفاع الموضوع أو انتفاء الشرط.

الثالث: أن يكون دليل الناسخ ناظرا إلى الحكم المنسوخ و معارضا له تعارضا حقيقيا لا يمكن الجمع بينهما، فيكون كاشفا عن رفعه، فليس كل تناف بين الدليلين أو الحكمين من النسخ، و لذا وقع الخلاف في كثير من الآيات المباركة التي ادعي النسخ فيها، و هي ليست كذلك بل من التقييد أو التخصيص، و سيأتي البحث عن كل آية في محلها إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ الناسخ و المنسوخ يتصوران بحسب الاحتمالات العقلية ثلاثة أقسام: تقارنهما زمانا، تقدم الناسخ على المنسوخ، تقدم المنسوخ على الناسخ، و المتعارف من النسخ، و المنساق منه في الكتاب و السنة هو الأخير. و الأولان من مجرد الإمكان الذاتي.

نسخ الشرايع:

ذكرنا أنّ النسخ - في الجملة - من لوازم جعل القانون، سواء كان إلهيا أو وضعيا، فلا يختص بشريعة دون أخرى فهو واقع في الشرايع السابقة كشريعة موسى (عليه السلام)، و شريعة عيسى (عليه السلام) بلا فرق بين أن يكون في شريعة واحدة أو في لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة، راجع كتب العهدين تجد الأمثلة على كلا القسمين، و قد ذكرنا سابقا ما يدل على ذلك.

و أما بالنسبة إلى شريعة الإسلام فقد دلت الأدلة العقلية على أنها خاتمة الشرايع الإلهية، و ناسخة لجميعها، و لا خلاف بين المسلمين في ذلك قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19] و قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 85] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

ص: 383

و أما بالنسبة إلى شريعة الإسلام فقد دلت الأدلة العقلية على أنها خاتمة الشرايع الإلهية، و ناسخة لجميعها، و لا خلاف بين المسلمين في ذلك قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19] و قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 85] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و قد ذكرنا أن الشرايع الإلهية خطوات متكاملة في سبيل رقي الإنسان، و أنها مدارج كماله، فهي تبتدئ من الأمور الفطرية المودعة في الإنسان الذي بها يتميز عن سائر المخلوقات حتّى تصل إلى أقصى درجات الكمال من جميع الجوانب، فكل شريعة من الشرايع الإلهية خطوة من خطوات تلك التربية الحقيقية الإلهية حتّى تصل إلى الصرح الشامخ الإسلامي الذي يكون جامعا لجميع الحقائق و الكمالات، قال تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3]،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه و أجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل النّاس يطوفون به و يعجبون له، و يقولون هلاّ وضعت هذه اللبنة، قال (صلّى اللّه عليه و آله): فانا اللبنة و أنا خاتم الأنبياء»،

و في حديث آخر عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». و لا ينافي ذلك قوله تعالى: وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النساء، الآية:

125] و غيرها من الآيات المرغبة إلى اتباع ملة إبراهيم لأنها كالمادة القريبة للملة الإسلامية و هي متمم صورتها.

و لا بد أن يعلم أنّ النسخ في الشرائع الإلهية يقتصر على تلك الأحكام الشرعية التي تتبدل بحسب المصالح و الظروف، فيكون تبدل الأحكام في الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في شريعة الإسلام من الصحة و المرض، و السفر و الحضر. و فقد بعض الشروط و وجدانه و نحو ذلك.

فلا مجرى للنسخ في أصول الدين، و كذا بالنسبة إلى الأحكام العقلية التي يحكم بحسنها جميع العقلاء و التي كشف عنها الشارع المقدس و كذلك بالنسبة إلى مهمات فروع الدين - كأصل الصّلاة و الصوم و الزكاة

ص: 384

و نحوها - و يدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ [سورة الشورى، الآية: 13].

فما قيل: إنّ الأصل في كل شريعة أن تنسخ ما قبلها،

و قد نقل أنه: «لم تكن نبوة قط إلاّ تناسخت». فإن أريد منه على نحو الجملة أو الإجمال فهو صحيح لا ريب فيه، كما تقدم. و أما إذا أريد منه على نحو الكلية فهو باطل، بل لنا أن نقول إنّ كل شريعة لاحقة مقرّرة للشريعة السابقة إلاّ إذا علم بنسخها أو بطلانها.

أقسام النسخ:

قد ذكر العلماء للنسخ أنواعا و أقساما، و المهم منها ما كان مرتبطا بأركانه و هي: المنسوخ، و الناسخ - و لا يخفى أن الناسخ هو اللّه تعالى و يطلق على الدليل مجازا - و مورد النسخ. و يظهر حكم بقية الأقسام ضمنا.

التقسيم الأول: ينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أنواع ثلاثة:

الأول: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بمثله. و هذا لا إشكال فيه عقلا، و واقع كثيرا، كما يأتي في هذا الكتاب.

الثاني: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بالسنة المعتبرة، او الإجماع القطعي، و هذا القسم أيضا لا إشكال فيه عقلا و نقلا، و خالف في ذلك بعض العلماء فذهب إلى أن نسخ الكتاب الشريف لا يكون إلاّ بمثله، و استدل بقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [سورة البقرة، الآية: 106] بتقريب أن اللّه تعالى أسند إتيان الناسخ إلى نفسه عزّ و جل و ما يأتيه هو القرآن فقط. و هذا الاستدلال موهون جدا، فإن السنة المقدسة أيضا من اللّه تعالى، قال عزّ و جل: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم، الآية: 3].

الثالث: نسخ الحكم الثابت بالقرآن بالخبر الواحد، و في جوازه و عدمه قولان: نسب إلى المشهور الثاني، و المسألة محررة في الأصول.

ص: 385

التقسيم الثاني: باعتبار المنسوخ و ذكروا له حالتين.

الأولى: نسخ الحكم الثابت بعد حضور وقت العمل به، و هو واقع بلا ريب و لا إشكال.

الثانية: نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به و فيه قولان: قول بعدم صحته، لعدم الفائدة و المصلحة فيه، و قول آخر بالصحة، و هو المشهور بين الإمامية.

و أورد على القول الأول بأن المصالح و المفاسد لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى و لا ملزم أن يعلمها كل أحد، مع إمكان دعوى مصلحة الامتحان و الابتلاء فيه. نعم الغالب في النسخ أن يكون بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ، و لكن ليس ذلك من المقومات الذاتية له، فالمدار على وجود المصلحة سواء كان بعد حضور وقت العمل، أو في أثنائه، أو قبله.

ثم إنّهم ذكروا أنّ الحكم الناسخ (تارة) يكون أخف من الحكم المنسوخ مثل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 187] بعد تحريم الجماع، و الأكل و الشرب بعد النوم في ليلة الصيام (و أخرى) يكون مساويا له مثل نسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة المقدسة. (و ثالثة): يكون أشد مثل نسخ حد الزنا بالحبس في البيت، و التعنيف بالحد مائة جلدة و الرجم.

و لا إشكال في الأقسام الثلاثة إمكانا و وقوعا، بل يمكن تحقق النسخ بلا بدل و إيكال الأمر إلى البرائة العقلية. إن قيل: إن هذا مناف لظاهر قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها . يقال: الحكم البتي العقلي يكون من (مثلها) لفرض أنها مقررة بالكتاب و السنة.

التقسيم الثالث: النسخ في القرآن، و هو أنواع ثلاثة:

الأول: نسخ الحكم فقط، و لا إشكال في إمكانه و وقوعه، بل هو المشهور من النسخ إذا أطلق في القرآن الكريم، و هو كثير مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ [سورة المجادلة، الآية: 12] و يأتي التعرض للآيات المتضمنة لذلك في محالّها إن شاء اللّه تعالى. و خالف في ذلك بعض المفسرين، بل قال بعدم وقوع النسخ في القرآن. بل في شريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). و هو مردود عقلا و نقلا.

ص: 386

الأول: نسخ الحكم فقط، و لا إشكال في إمكانه و وقوعه، بل هو المشهور من النسخ إذا أطلق في القرآن الكريم، و هو كثير مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ [سورة المجادلة، الآية: 12] و يأتي التعرض للآيات المتضمنة لذلك في محالّها إن شاء اللّه تعالى. و خالف في ذلك بعض المفسرين، بل قال بعدم وقوع النسخ في القرآن. بل في شريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). و هو مردود عقلا و نقلا.

الثاني: نسخ التلاوة فقط و المشهور بين العامة وقوعه في القرآن الكريم. و استدلوا بآية الرجم «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فقالوا: إن هذه الآية لم يعد لها وجود في القرآن، مع أن حكمها ثابت.

و الحق عدم وقوع هذا النوع من النسخ، بل يعد ذلك من التحريف الذي أجمعت الإمامية على نفيه في القرآن زيادة و نقيصة، و ما استدلوا به أخبار آحاد معارضة بروايات أخرى كثيرة تدل على أن الآية ليست من القرآن، مضافا إلى عدم وجود المصلحة فيه إن لم تكن فيه المفسدة.

الثالث: نسخ الحكم و التلاوة و ذهب جمهور المفسرين إلى إمكانه و استدلوا على وقوعه بما ورد عن عائشة أنها قالت: «كان في ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، و توفي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هن في ما يقرأ من القرآن».

و يرد عليه ما أورد على النوع السابق، مع أنه لا يتصور معنى معقول للنسخ في هذا النوع، و سوف نتعرض لمسألة تحريف القرآن في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن سور القرآن بالنسبة إلى وجود الناسخ فيها، أو المنسوخ أربعة أقسام:

القسم الأول: السور التي لم يدخلها ناسخ و لا منسوخ كسورة الفاتحة، و يوسف، و يس، و الإخلاص و غيرها، و قيل: إنها ثلاث و أربعون سورة.

القسم الثاني: السور التي فيها ناسخ و منسوخ و هي: البقرة، آل عمران،

ص: 387

النساء، المائدة و غيرها من السور التي عدّوها.

القسم الثالث: السور التي فيها ناسخ و ليس فيها منسوخ و هي الفتح، الحشر، المنافقون و غيرها من السور التي ذكروها.

القسم الرابع: السور التي فيها منسوخ، و ليس فيها ناسخ و هي طه و الرعد و غيرهما من السور التي عدّوها.

و لكن في هذا التفصيل خلاف بين المفسرين، و سيأتي تفصيل كل ذلك في محله إن شاء اللّه تعالى.

و قد حصر بعض المفسرين جميع الآيات المنسوخة في عشرين آية و مع ذلك فيه بحث.

بحث دلالي:

قد تكرر قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ * [في آيتي: 106-107] و يمكن أن يكون الوجه في ذلك تعدد منشأ النسخ و الإزالة فأطلق تارة بالنسبة إلى الأعراض و الاعتباريات، و أخرى بالنسبة إلى الجواهر و الذوات كما قالت اليهود بالنسبة إلى كل منهما، فزعموا أن قدرته تعالى محدودة بالإحداث فقط فإذا حدث يخرج عن تحت قدرته جل شأنه، كما حكى اللّه تعالى عنهم وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة، الآية: 64] فأبطل تعالى في المقام كل ذلك، و حكم بأن الأشياء كلها تحت قدرته حدوثا و بقاء أما الحدوث فبقوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و أما البقاء فلقوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

ثم إنّ إطلاق الآية المباركة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يشمل جميع آياته عزّ و جل من حيث أحكامه تعالى، و من جهة جماله و جلاله، فكل شيء له آية من الجواهر و الأعراض في الأرضين و السموات، و له عزّ و جل في ذلك كله إبداع و إنشاء، فهي من الأمور التشكيكية شدة و ضعفا، كمية و كيفية، فنسخه تعالى يشمل جميع ذلك كله

ص: 388

بحيث لأحد للناسخ و لا حد للمنسوخ و لا يحيط بكل واحد منهما إلاّ هو تعالى، و في كل شيء له آية، و كل شيء له فيه نسخ و تغيير و تبديل، و لا معنى لما أثبته أكابر الفلاسفة من أن مناط الحاجة هو الإمكان حدوثا و بقاء إلاّ هذا، كما لا معنى لكونه تعالى مهيمنا على ما سواه، على الإطلاق، و إن عنده خزائن الأشياء كلها و ما ينزلها إلاّ بقدر معلوم إلاّ هذا.

و النسخ قد يتعلق بتمام الآية أو الحكم كله، و أخرى ببعض الجهات دون البعض، و الثاني لا ينافي بقاءها من سائر الجهات، و سيأتي التفصيل في هذه المباحث في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 389

التفسير

قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً . مادة (و د د) تأتي بمعنى المحبة و تستعمل في التمني أيضا، لأنه مشتمل على المحبة و متضمن لها. أي: تمنى كثير من اليهود و النصارى أن يرجعوكم عن دينكم و يردونكم إلى الكفر، كما قال تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 63].

قوله تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ .

الحسد تمني زوال نعمة عمن يستحقها سواء أرادها لنفسه أولا، بخلاف الغبطة التي هي تمني مثل تلك النعمة للنفس من دون إرادة زوالها عن الغير. و الأول مذموم، و الثاني محمود،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «المؤمن يغبط، و المنافق يحسد»

و في الحديث القدسي: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون».

و المعنى: أن حبهم لإضلالكم عن الإيمان، و إرجاعكم إلى الكفر سببه الحسد الكائن في نفوسهم من بعد ظهور الحق بأن محمدا (صلّى اللّه عليه و آله) هو النبي الموعود المبشّر به في كتبهم، و إتمام الحجة عليهم بالآيات التي أتى بها. و في قوله تعالى: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إيماء إلى أن ما يصدر عنهم إنما هو من سوء سرائرهم و فساد أخلاقهم لا أن يكون عن غبطة لحق، أو غيرة عليه، أو شبهة و نحو ذلك.

و الآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي، و هو أن كل طائفة إذا اعتنق أفرادها أمرا و صار ذلك الأمر مألوفا عندهم يحبون أن يكون غيرهم على طريقتهم، لا سيما إذا وجد ما يخالف ذلك القديم فيتصدون له و يعارضونه بكل ما أمكنهم و ينتهي ذلك إلى الحسد الكائن في النفوس فيكون ذلك من عند أنفسهم بعد ظهور الحق.

و في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إشارة إلى هذا الأمر الطبيعي المغروس في الفطرة في بداية ظهوره، كما أن في قوله

ص: 390

تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا [سورة النساء، الآية: 89] إشارة إلى ذلك بنحو مطلق.

قوله تعالى: فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا . العفو: ترك المؤاخذة على الذنب. و الصفح: إزالة أثره عن النفس، و الاعراض عن المذنب بصفحة الوجه، و هما و التجاوز بمعنى واحد، و هي من مكارم الأخلاق. أي عاملوا النّاس بمكارم الأخلاق من العفو و الصفح و الإغماض عنهم و حسن المعاشرة معهم حتّى يشتد أمركم، و تغلب شوكتكم، و يمكّنكم اللّه منهم فتعملوا فيهم بما هو الصّلاح.

و في الآية المباركة إيماء إلى أن المسلمين مع قلتهم حين ذاك هم أصحاب القدرة و المنعة، فإن العفو و الصفح إنما يطلبان من القادر. و فيها البشارة بالغلبة و تأييدهم بالعناية الإلهية.

قوله تعالى: حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ . من القتل، أو الطرد و الجلاء و نحو ذلك. و المراد من الأمر الأعم من التشريعي و هو الجهاد و التكويني.

و فيه البشارة للمؤمنين بوعدهم التأييد و النصر و الغلبة، كما أن فيه التهديد للكافرين على أن لا يتعرضوا للمسلمين بسوء فإنهم في حصن اللّه تعالى.

و السياق يدل على أن الصفح و العفو محدود بزمان خاص بقرينة آيات أخرى وردت في الجهاد و القتال، فهذه الآية المباركة منسوخة بتلك الآيات، بل نفس هذه الآية الشريفة مغياة بغاية خاصة فلا معنى للنسخ الحقيقي حينئذ.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . تأكيد للوعد الذي وعده للمؤمنين.

قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ . بعد أن أمرهم بالعفو و الصفح، و المداراة مع الأعداء ليأمنوا من كيدهم ظاهرا و يجلبوا قلوبهم إلى الإسلام واقعا أمرهم تعالى بأقوى أسباب الاتصال بينهم و بين اللّه عزّ

ص: 391

و جل و التمسك بأوثق عرى الإسلام ليحصل ارتباطهم مع خالقهم و هي الصّلاة، فإنها من أقوى دعائم الدين و أبرز مظاهر إسلام المسلمين، فيتنزه العبد بمناجاة اللّه تعالى عن إتيان الفواحش و المحرمات، و أمرهم بإيتاء الزكاة، و صلة الأغنياء للفقراء، و في ذلك من الوحدة و الايتلاف و رفع التفرق و الاختلاف ما لا يخفى، و قد تقدم تفسير هذه الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ . أي: إنّ ما تعملونه في دار التكليف و العمل محفوظ عند اللّه فلا يرغب عامل عن العمل، و لا يعتريه ريب فكل خير يصدر منكم تجدون جزاءه عند ربكم، فالدعوة عامة، و الرحمة تامة، و الوفاء ثابت، فإنه تعالى هو الذي يأخذ منكم ذلك و لا يتصور أن يضيع ما أخذه كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 8] و هذه الآيات المباركة و ما في سياقها صريحة في ظهور نفس العمل من حيث هو في الدار الآخرة، و فيها تأكيد لتثبيت النفوس على رؤية نفس العمل إلاّ أنه يربّى كما يشاء اللّه تعالى

و في الحديث: «كما يربّي أحدكم فصيله». و سيأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى تفصيل الكلام.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . قد تكررت هذه الآية الشريفة في القرآن كثيرا، و في بعضها بدئت بالإعلام قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة، الآية: 233] و هو يدل على علمه الإحاطي بالجزئيات، و يكفي في ذلك قوله تعالى: عالِمِ اَلْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3] و منه يظهر بطلان ما نسب إلى جمع من الفلاسفة من نفي علمه تعالى بالجزئيات لتوقف العلم بها على الآلات الجسمانية، و هو تعالى منزه عنها فأرادوا التنزيه فوقعوا في التعطيل، و مثل ذلك كثير، و سنعود إلى تفصيل المقال في مباحث العلم إن شاء اللّه تعالى.

و في الآية المباركة من الترغيب على إتيان الأعمال الصالحة، و الترهيب عن

ص: 392

المعصية ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى . عطف على قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ و في الكلام اختصار بديع، و إيجاز حسن. أي: قالت اليهود لن يدخل الجنّة إلاّ من كان يهوديا، و قالت النصارى كذلك في أنفسهم و اشتراكهما في المقول أوجب جمعهما في القول و هذا زعم كل من يدعي الإعتقاد بدين و هو غافل عن أحكامه، أو جاحد معاند.

و إنّما عبر سبحانه و تعالى بكلمة «هود» دون التعبير باليهود، لأن هود قوم منهم يقولون لا يقبل اللّه توبة عبد إلاّ من كان منهم، و لذا خصهم بالذكر، و لكن الظاهر أن جميع اليهود يقولون بذلك، و لعل التعبير كان باعتبار منشأ الحدوث.

و لازم كلام كل من الطائفتين نفي دخول المسلمين الجنّة.

قوله تعالى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ . أي أنّ قولهم ذلك من مجرد أمنياتهم التي لا تتجاوز عن الخيال و لا واقع لها بوجه، و المقام من مصاديق قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ اَلْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ [سورة البقرة، الآية:

78] و هذه من جملة تلك الأماني.

قوله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . تكذيب لهم و مطالبتهم بالبرهان على دعواهم، و هذا شأن كل دعوى فإنّها لا تقبل إلاّ مع إقامة برهان على صدقها، و إلاّ كانت دعوى كاذبة.

قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ . بلى: كلمة رد لما زعموه، و تقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [سورة البقرة، الآية: 82].

مادة (س ل م) تدل على السلامة من العيب و النقص و الخلوص بلا فرق بين كون العيب و النقص من الجسمانيات أو المعنويات، في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: لَهُمْ دارُ اَلسَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة

ص: 393

الأنعام، الآية: 127]، و قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]. و استعمالات هذه المادة كثيرة بهيئات مختلفة، و منها الإسلام لخلوصها، و تخليصه للمعتقد به عن المعايب و النواقص المعنوية.

و المراد بأسلم في المقام التوجه و الخضوع، و الصدق و التخليص

كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في معنى الخلوص: «أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

و الوجه مستقبل كل شيء و أشرفه، و طريق الوصول إليه، و يطلق على الذات أيضا. و المراد هنا عمل الجوانح، و أعمال الجوارح، فيكون المعنى من أخلص دينه للّه تعالى اعتقادا و عملا و هو محسن في عمله، فيكون المناط كله في السعادة الأبدية هو الإيمان و العمل، و قد تكرر ذلك في القرآن الكريم في مواضع متعددة بعبارات مختلفة نفيا و اثباتا و نظير هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة البقرة، الآية: 135].

قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

هذا من قبيل ترتب المعلول على العلة، فإن من أخلص وجهه للّه اعتقادا و عملا و أحسن في عمله له أجره و لا خوف عليهم من المتوقع، و لا يحزنون على الواقع، و ذلك من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع. و في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِ دلالة على أن الأجر محفوظ عن التغيير و التبديل، كقوله تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ باقٍ [سورة النحل، الآية: 96]، مضافا إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك.

ثم إنّ إسلام الوجه للّه عزّ و جل بالتوجه اليه، و سلوك طرق مرضاته و الخضوع و الانقياد له تعالى، و الإقبال عليه، و صرف النظر عن غيره و المواظبة على الإخلاص يجعل الفاعل في المحل الأعلى من الكمالات المعنوية، و يجلو جوهر النفس عن الرين و الفساد، و يمنع عن استيلاء الأغيار عليها، فيفتح له باب إلى الغيب المحجوب فيرى ما في نفسه من

ص: 394

المساوئ و العيوب. و تقدم أن النفس فاعل للعمل، و العمل مؤثر في النفس، و يأتي في آيات أخرى مزيد بيان لذلك.

قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ اَلنَّصارى لَيْسَتِ اَلْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ . أي: ادعى كل فريق أن صاحبه ليس على شيء. و ذلك أن أصحاب كل نحلة و دين لا يرون غيرهم على حق، و هذا الاختلاف قديم جدا يرجع إلى أوائل الخليقة و منذ حدوث الاجتماع الإنساني، فكل طائفة ترمي الطائفة الأخرى بالباطل، بل نرى ذلك بين المذاهب المختلفة من دين واحد فضلا عن الأديان المختلفة، و يدل على ذلك قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ .

و لو تأملنا في المنشأ الحقيقي لذلك فإنه لا يرجع إلاّ إلى الوهم و الخيال، و طرح العقل المؤيد بالشرع، و تغليب الهوى مع أن الحق واحد في جميع الأديان الإلهية التي يجمعها أنها من اللّه الواحد و كتاب منزل منه تعالى، و أنه لا يوجد دين سابق إلاّ و يبشر بالدين اللاحق، كما أن الأخير متمم للسابق، و ما عدا ذلك فهو من الوهم و الخيال، فتراهم يكفرون بأنبياء اللّه تعالى و رسله و كتبه و عليه جرت طريقتهم حتّى صار يعد من الأمور الاجتماعية بين البشر و كم كان جديرا بالإنسان أن يرجع إلى فطرته، و يهتدي بهدي عقله و ينبذ الاختلاف و العناد حتّى يرى ما كان يجلبه من الخير و الصلاح و لم يصل إلى ما وصل إليه من الانحطاط و الإفتراق، و في ذلك عبرة لمن اعتبر.

قوله تعالى: وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتابَ . أي: أنّهم قالوا ذلك و هم يتلون التوراة و الإنجيل و فيهما ما يأمرهم بخلاف ما يقولون فإن أحد الكتابين يدعو إلى الآخر، و كلاهما يدعوان إلى القرآن كما أن الأخير يدعو إليهما، فما بالهم ينقضون كتابهم و لا يعملون بدينهم و في ذلك من التوبيخ ما لا يخفى.

قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ . أي: إنّ

ص: 395

الذين لا يعلمون من الحق شيئا يقولون مثل قولهم سواء كانوا من المشركين أو الكفار، بل يشمل كل من لا يعلم بالحق و لا يعمل به و غلب عليه هواه و لو كان من المسلمين.

إن قيل: إنّ الآية المباركة تدل على ذم التقليد، و قد جرت سيرة المسلمين عليه خلفا عن سلف. (يقال) التقليد تارة يكون عن حجة معتبرة و بحجة كذلك و أخرى لا يكون كذلك و الثاني باطل و مذموم دون الأول.

قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . أي أنّ الجميع يرجع إليه و ينتهي الحكم إليه، فهو الحاكم بينكم في هذا الاختلاف، و يحكم لمن كان منكم على الصراط المستقيم.

بحث روائي:

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ - الآية أنّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا و كان يهجو النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و يحرّض عليه كفار قريش في شعره، و كان المشركون و اليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يؤذون النبي و أصحابه أشد الأذى، فأمر اللّه تعالى نبيّه بالصبر على ذلك و العفو عنهم، و فيهم أنزلت وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ .

و فيه أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصارى عَلى شَيْ ءٍ - الآية «نزلت في يهود أهل المدينة، و نصارى أهل نجران، و ذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، و كفروا بعيسى (عليه السلام) و الإنجيل، و قالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، و كفروا بموسى (عليه السلام) و التوراة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

و قريب من ذلك ما رواه في المجموع عن ابن عباس، و ما روي عن

ص: 396

الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

أقول: مع الغض عن أسانيد الأحاديث لا يمكن الاعتماد على متونها، لأن النصارى مطلقا يعترفون بالتوراة، و نبوة موسى (عليه السلام)، لأنّ الإنجيل متمم للتوراة، و مشتمل على كثير من أحكامها.

بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: العفو و الصفح عن المذنبين و الصبر على أذى الأعداء و انتظار الفرصة لتهيئة العدة للغلبة عليهم.

الثاني: لا يمكن أن تتحقق الغلبة على الأعداء ما لم يوثق عرى الإيمان بين العبد و بين اللّه تعالى، ثم توثيق الروابط بين الأغنياء و الفقراء و تحقق الوحدة الاجتماعية ليكونوا يدا واحدة على الأعداء.

الثالث: العلم بأنّ ما يصدر من العبد من خير مذخور عند اللّه تعالى، و أن جزاء عمله حاضر لديه عزّ و جل، مما يوجب سكون النفس في العزيمة فلا يؤثر فيه تشكيك المبطلين و شبه المفسدين. و يزيد في ذلك شهود اللّه تعالى لأعمال العباد، و مراقبته لعبيده، و ربوبيته العظمى لهم مما يجعل الإنسان مواظبا على ما يصدر منه من الأعمال و الأقوال.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أن المدار في ارتقاء النفس بالمعنويات و الفوز بالدرجات العاليات إنما هي عبادة اللّه تعالى و طاعته عز و جل لا مجرد التسمية بكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، و الآيات المباركة في هذا المعنى كثيرة جدا و السنّة فوق حد التواتر بين المسلمين، فمثل هذه الآيات الشريفة مطابقة للعقل و الفطرة السليمة حيث جعلت المناط على العمل و الحقيقة، دون مجرد التسمية فقط، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 94].

ص: 397

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أن المدار في ارتقاء النفس بالمعنويات و الفوز بالدرجات العاليات إنما هي عبادة اللّه تعالى و طاعته عز و جل لا مجرد التسمية بكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، و الآيات المباركة في هذا المعنى كثيرة جدا و السنّة فوق حد التواتر بين المسلمين، فمثل هذه الآيات الشريفة مطابقة للعقل و الفطرة السليمة حيث جعلت المناط على العمل و الحقيقة، دون مجرد التسمية فقط، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 94].

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ

اشارة

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى مثالب اليهود و النصارى بيّن تعالى في هذه الآية المباركة بعض ما وقع منهم من الظلم النوعي - بأن منعوا المساجد أن يتعبد فيها - ثم أوعدهم اللّه تعالى بالخزي في الحياة الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة، وردّ عليهم بأنه لا يحده مكان و لا جهة فيجوز لكل إنسان أن يعبد اللّه تعالى في أي مكان و اية جهة فإن اللّه تعالى واسع المغفرة عليم بطاعة عباده.

التفسير

قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ . المساجد هي الأماكن المحررة للعبادة و السجود له تعالى، بل يمكن أن يراد بها، مضافا إلى ذلك عباد اللّه المخلصين الذين أفنوا جميع شؤونهم و حيثياتهم في طاعة اللّه تعالى و عبادته بكل معنى العبودية فصاروا من مظاهر آيات اللّه كالمساجد و عبادته، فيكون المراد من منعهم عن ذكر اسم اللّه تعالى السعي في تشتت حالهم، و تفرق بالهم، و هجرانهم الأهل و الديار، و تشديد الرد عليهم ليسكتوا عن إظهار الحق، و إزالة الباطل فتاهوا في الأرض بلا سند و لا ذنب غير أنهم يقولون يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف، الآية: 31] بل لا يبعد التعدي إلى مطلق ما أعد لذلك كعرفات و المشعر الحرام و منى.

و وجه كونه أظلم من غيره، لأنه جمع في المساجد حق اللّه تعالى

ص: 398

و حق الناس، فوقع الظلم بالنسبة إلى الحقين فيكون المنع عن ذكر اسمه فيها ظلما نوعيا، و تترتب عليه المفاسد فيكون أظلم.

و المنع من ذكر اسم اللّه تعالى فيها أعم من أن يكون بالمباشرة أو التسبيب و رب سبب أقوى من المباشر.

و المراد بالذكر الأعم مما كان باللسان، أو القلب، أو الجوارح كالصّلاة مثلا، و يشمل كل عبادة للّه تعالى و لو كانت بمجرد الإمساك كالصوم في المسجد مثلا، فإن الجميع داخل تحت عنوان ذكر اللّه تعالى إلاّ أن ظهوره في البعض أكثر من الآخر، و ذلك لا ينافي ظهور الإطلاق. كما أن المراد من اسمه تعالى الأعم أي كل ما تصح به الإشارة إليه عزّ و جل و كان له تعالى.

قوله تعالى: وَ سَعى فِي خَرابِها . المراد به إما تهديمها كما وقع من بعض العتاة و الجبابرة، أو تعطيلها عن إقامة الشعائر فيها، و حكم الآية المباركة عام لا يختص بفرد خاص. و ما ورد في شأن النزول فقد ذكرنا مرارا أنه من باب التطبيق. و للمفسرين في المقام تفاسير غريبة لا يخفى بطلان بعضها.

قوله تعالى: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ . يمكن أن يراد بدخولهم خائفين الإخبار عن مستقبل حالهم بعد استيلاء المسلمين، و تسلطهم عليهم، و طردهم عنها، كما في فتح مكة، و في الآية المباركة إشارة إلى منعهم عن دخول المساجد. أو أن يراد به الإخبار عن حالهم الفعلي من أنهم في خوف و اضطراب أي: من صدر منه هذا الظلم يخاف على نفسه في الجملة و لو كان كافرا، لأنه يرى نفسه محاربا له تعالى مباشرة. و يحتمل أن يكون تعجيبا منهم، و توبيخا لهم أي: أنه ما كان لهم إلاّ أن يدخلوها خاشعين للّه تعالى خائفين من عقابه تعالى لا أن يدخلوها مفسدين مخربين فانها وضعت لعبادة اللّه تعالى.

قوله تعالى: لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ . الخزي بمعنى الإهانة و الاستخفاف و الانكسار، و قد استعملت

ص: 399

هذه المادة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة قال تعالى:

فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ اَلْخِزْيُ اَلْعَظِيمُ [سورة التوبة، الآية: 63]، و قال تعالى: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزى [سورة فصلت، الآية: 16]، و قال تعالى: لَهُ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَذابَ اَلْحَرِيقِ [سورة الحج، الآية: 9] و قد ظهر خزيهم في عام الفتح بكسر أصنامهم، و خذلانهم، و تسفيه أحلامهم، و تشتت دولتهم، و لحوقهم الذل و الهوان إلى غير ذلك مما أعد اللّه تعالى للظالمين فكيف بمن كان أظلم.

و لهم في الآخرة عذاب عظيم بما أعده اللّه تعالى للمحاربين مع اللّه و رسوله و منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه و ما يترتب عليه من الفساد فالآية من القضايا العقلية.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ . المشرق موضع الشروق، و المغرب موضع الغروب، و هما أمران إضافيان يختلفان باختلاف حركة المنظومة الشمسية، فتحقق المشارق و المغارب لا محالة، و لذا قال تعالى في آية أخرى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشارِقِ وَ اَلْمَغارِبِ [سورة المعارج، الآية: 40]. و أما الاعتدالي منهما اثنان قال تعالى: رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ [سورة الرحمن، الآية: 17]، و الكل ملكه، و من مظاهر آياته تعالى.

و إنما خص جل شأنه المغرب و المشرق بأنهما ملكه عزّ و جل، لأنه يستلزم مالكيته تعالى لجميع الجهات ملكية حقيقية، فإن الكل تحت سلطانه و ربوبيته فالمتوجه إليهما متوجه إليه تعالى.

قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ . المراد بالتولي هنا الإقبال و التوجه اليه عزّ و جل. و قد تقدم معنى الوجه في قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ [سورة البقرة، الآية: 114]. و المراد به في المقام التوجه.

ص: 400

و «ثمّ» تستعمل في المحل البعيد سواء كان بعيدا عن العقول و الأفكار، أو بعيدا مكانيا، و يدل على الأول

قول الصادق (عليه السلام): «من تعاطى ثمّ هلك» حيث يدل على خطر التفكير في ذات اللّه تعالى، و على الثاني قوله تعالى: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً [سورة الإنسان، الآية: 20] و كذا المقام.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ . متعلق وسع يصح أن يكون كل ما يضاف إليه عزّ و جل من ملكه، و علمه، و حكمته، و قدرته و إحاطته و تدبيره، قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [سورة البقرة، الآية: 255]، و قال تعالى: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً [سورة الأنعام، الآية: 80]، و قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 156]، و قد ذكر وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ في عدة آيات، و لعل هذا التعبير في الآيات المباركة عبارة عن عدم التناهي في جميع صفات كماله و جماله كما أثبته الفلاسفة المتألهون. أي: ان اللّه تعالى واسع في رحمته و لطفه بالمتوجه إليه في عبادته.

و مفاد الآية المباركة قاعدة كلية و هي أنّ اللّه تعالى لا يختص بمكان و لا تخصه جهة خاصة و هو منزه عن أي جهة و مكان، فهو واسع لا يحده مكان إلاّ أن حكمته المتعالية اقتضت لمصالح أن يخص بعض الأمكنة بالاستقبال في موارد خاصة في الشريعة المقدسة و في غيرها يرجع إلى عموم هذه الآية الشريفة، فما ورد في تفسير الآية المباركة أنها نزلت في صلاة النافلة إنما هو من باب التطبيق، و مما يدل على ذلك ذيل الآية الشريفة، فإن سياقها يدل على توسيع موضوع التوجه اليه عزّ و جل، و أنه غير محدود بحد، أو مكان خاص بل المناط كله هو التوجه إليه تعالى و أما سائر الخصوصيات - من المكان و الزمان و نحوهما - فهي مطلوب آخر ربما يسقط لعذر أو ضرورة و يظهر من ذلك وجه ارتباطها بالآية السابقة، فإنه تعالى بعد أن ذم من منع المساجد أن يذكر فيها اسمه ذكر تعالى أنه لا يحده مكان وجهة خاصة.

ص: 401

بحث روائي:

عن القمي في قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ إنما نزلت في قريش حين منعوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) «دخول مكة» و رواه في المجمع عن الصادق (عليه السلام).

أقول: هذا الحديث مما يدل على إطلاق المسجد على مكة كما في قوله تعالى: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى [سورة الإسراء، الآية: 1] مع الاتفاق على أن المعراج كان من بيت أم هاني. و الظاهر أنه من باب التطبيق لا التخصيص.

و في المجمع عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم السلام) في قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ قال: «إنه أراد جميع الأرض، لقول النبي (صلّى اللّه عليه و آله): جعلت لي الأرض مسجدا، و ترابها طهورا».

أقول: هذا تنزيل صحيح، لأن كل من منع من طاعة اللّه تعالى و عبادته بأي وجه كان يدخل في حكم الآية و إن لم يكن داخلا في منطوقها.

و عن ابن عباس و مجاهد في الآية المتقدمة أنها «نزلت في الروم لأنهم غزوا بيت المقدس و سعوا في خرابها حتّى كانت أيام عمر فأظهر اللّه عليهم المسلمين، و صاروا لا يدخلونها إلاّ خائفين».

أقول: إن صح الحديث يكون من أحد موارد التطبيق.

و عن قتادة و السدي إنها نزلت في بختنصّر و أصحابه «غزوا اليهود و خربوا بيت المقدس و أعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم».

أقول: على فرض صحة السند يكون متنه مخالفا لما هو المعلوم من التواريخ من تأخر النصارى عن بختنصر بقرون عديدة، فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الأحاديث.

و عن القمي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ «أنها نزلت في صلاة النافلة

ص: 402

تصليها حيث توجهت إذا كنت في سفر. و أما الفرائض فقوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني الفرائض لا يصليها إلاّ إلى القبلة».

أقول: صدر الحديث ورد في بيان بعض المصاديق، كما سيأتي في البحث الفقهي، و أما ذيل الحديث فهو في صلاة الفريضة في حال الإختيار، و أما حال الاضطرار و التحيّر فلها أحكام خاصة مذكورة في الفقه، فلا وجه لاحتمال الناسخية و المنسوخية بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة، الآية: 150]، لاختلاف موردهما بالنصوص المستفيضة، بل المتواترة التي هي شارحة للقرآن.

و في الدر المنثور عن مجاهد لما نزلت وَ قالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر، الآية: 60]. قالوا: إلى أين؟ فأنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ .

أقول: هذا أيضا من أحد موارد التطبيق.

و عن الواحدي عن ابن عباس: «هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ».

أقول: تقدم أنه لا وجه لاحتمال النسخ، لاختلاف المورد فلا بد من طرح هذا الخبر.

بحث فقهي:

قد يستدل بقوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ على عدم جواز دخول الكفار و المشركين في المساجد بتقريب أنه إذا استولى عليها المسلمون و حصلت تحت سلطانهم فلا يمكّنون الكافر حينئذ من دخولها.

و الصحيح أنّ الآية الشريفة لوحدها لا تدل على ذلك إلاّ بضميمة

ص: 403

قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ [سورة التوبة، الآية: 28]

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا لا يحجن بعد العام مشرك و لا يطوفنّ بالبيت عريان» بعد الإجماع على عدم الفرق بين المشرك و غيره من الكافرين و كذا سائر المساجد من هذه الجهة كما يأتي في قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف، الآية: 31].

ثم إنّه قد يتمسك بقوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ على جواز التوجه إلى غير القبلة في عدة موارد و قد ذكرنا ان ذلك من باب التطبيق، و هي:

الأول: جواز صلاة النافلة على الدابة أينما توجهت،

كما في صحيح حريز عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنزل اللّه هذه الآية فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ في التطوع خاصة، و صلّى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إيماء على راحلته أينما توجهت به، حيث خرج إلى خيبر و حين رجع من مكة و جعل الكعبة خلف ظهره».

و روى مسلم عن ابن عمر: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يصلي و هو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه» و رواه في الدر المنثور عن جماعة.

الثاني: صحة صلاة الخوف و التحير،

كما روى زرارة عن الصادق (عليه السلام): «لا يدور إلى القبلة»

و روى الترمذي عن ابن ربيعة: «كنّا مع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة؛ فصلّى كل رجل منّا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ .

الثالث: جواز سجود التلاوة لغير القبلة،

رواه الصدوق في العلل عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): «يسجد حيث توجهت دابته».

الرابع: عدم قضاء صلاة الفريضة إذا صليت خطأ لغير القبلة فقد روى في الفقيه عن الصادق (عليه السلام)، و تمسك الجمهور برواية ابن ربيعة المتقدمة، و فيه تفصيل ذكرناه في الفقه.

ص: 404

و هناك موارد أخرى تعرضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام) و من شاء فليرجع اليه.

وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ

اشارة

وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) ذكر سبحانه و تعالى من قبائح عقائدهم و مساويها حيث نسبوا الولد إليه تعالى و ردّ اللّه عزّ و جل عليهم متدرّجا بحسب فهم المخاطبين فحكم أولا أنه غني مطلق لا يحتاج إلى شيء من خلقه، و ثانيا أن خلقه خاضع لإرادته، و ثالثا أنه خلق الخلق من غير مثال، فلا يعقل نسبة الولد اليه.

التفسير

قوله تعالى: وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً . الاتخاذ من الأخذ، و ضمّن هنا معنى الجعل و الإحداث نظير قوله تعالى: وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ [سورة الأعراف، الآية: 148] و القائل بذلك اليهود و النصارى و بعض مشركي العرب كما حكى اللّه تعالى عنهم في كتابه المجيد، قال تعالى: قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 30]، و قال تعالى: قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قال تعالى: وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنعام، الآية: 100]، بل قد صدر عن غيرهم من أصحاب الديانات، حيث جعلوا زعماء ديانتهم أبناء اللّه تعالى مولودين منه سبحانه و تعالى، و ذلك لأنهم يرون أن ذلك كمال لمن يعظمونه، و هذا من غاية جهلهم حيث يزعمون أن كل ما يكون كمالا لهم يكون كمالا للّه تعالى، كما قال علي (عليه السلام): «و لعل نمل الصفا يزعم أن للّه زبانيتين».

قوله تعالى: سُبْحانَهُ . من التسبيح و هو التنزيه المشوب بالعظمة و التعجب، قولا، و فعلا، قلبا و تسخيرا، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]. و سبحان مصدر كغفران لا يستعمل إلاّ مضافا فإن أصله «سبحته سبحانا» فحذف الفعل و أضيف المصدر إلى ضمير المفعول و قام مقامه. و يستعمل في تنزيهه عن جميع ما لا يليق به عزّ و جل، فيجتمع فيه جميع الصفات السلبية.

ص: 405

قوله تعالى: سُبْحانَهُ . من التسبيح و هو التنزيه المشوب بالعظمة و التعجب، قولا، و فعلا، قلبا و تسخيرا، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]. و سبحان مصدر كغفران لا يستعمل إلاّ مضافا فإن أصله «سبحته سبحانا» فحذف الفعل و أضيف المصدر إلى ضمير المفعول و قام مقامه. و يستعمل في تنزيهه عن جميع ما لا يليق به عزّ و جل، فيجتمع فيه جميع الصفات السلبية.

قوله تعالى: بَلْ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . شروع في الرد عليهم فحكم بأنه غني لا يحتاج إلى أحد، و أنّ كل ما في السموات و الأرض مملوك له بالإيجاد و الاختراع، و من كان كذلك لا يتصور الولد بالنسبة اليه. هذا إذا كان المراد بالولد معناه اللغوي العرفي أي النسبي، منه، و أما إذا كان المراد الاتخاذي منه - كما هو الظاهر من لفظ الاتخاذ في جملة من الآيات المباركة المشتملة على عنوان اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً [سورة يونس، الآية: 68]، و قال تعالى: وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً [سورة الإسراء، الآية: 40] فيكون مثل قوله تعالى: وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 125]، و نظير قوله تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة المجادلة، الآية: 22] - فيمكن أن تصح النسبة حينئذ، إذ يكفي فيها أدنى مناسبة فضلا عن أعلاها. و هو باطل أيضا لأن مناط اتخاذ الولد الحاجة و هو تعالى منزه عنها، لأنه الكمال الأتم و الغني المطلق فلا يعقل الاحتياج بالنسبة إليه، و هذا الوجه يجري في القسم الأول أيضا، مضافا إلى ما سيذكره سبحانه و تعالى في ما بعد.

قوله تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ . القنوت بمعنى الدعاء و العبادة و الخضوع و مرجع الكل إلى الأخير. و لكن للخضوع مظاهر مختلفة أي: ان الكل خاضع لإرادته و منقاد لسلطانه، و ذلك ينافي أن يتخذ ولدا، لأن المعبودية المطلقة مناط للاستغناء المطلق و ولادة شيء من شيء مناط الاحتياج، و هما لا يجتمعان، فجميع ما سواه تعالى يشهد له بتنزهه عن الولد، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44].

ص: 406

قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . بديع مبالغة في الإبداع، و هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة بلا مادة، و لا آلة، و لا مكان و لا سبق مثال و هو مختص به عزّ و جل. و بالنسبة إلى غيره فهو مطلق إحداث الشيء من غير سبق الوجود، فإن كان في الدين فهو البدعة المحرمة،

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كل بدعة ضلالة، و كل ضلالة سبيلها إلى النّار».

ثم إنّ بداعته تعالى و كونه بديع السموات و الأرض لا يختص بنوع دون نوع، بل يشمل جميع الموجودات بأقسام جواهرها - من الأنواع و الأصناف - و أنواع أعراضها و أوصافها، ففي كل ذات من الذوات له تعالى بدائع كثيرة في أصل ذاته، و عوارضها المحفوفة بها التي ربما لا تحصى بعد، و لا حصر لذلك، فيرجع هذا الاسم فيه عزّ و جل إلى ربوبيته العظمى المطلقة في كل ذرات الوجودات، و كلياتها و أجزائها و جزئياتها.

و جملة: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لم تذكر في القرآن إلاّ في موردين، و كلاهما في نفي الولد عنه سبحانه و تعالى، أحدهما هنا، و الثاني قوله تعالى؛ بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 101]، و هو برهان متين جدا، فإنه من كان مبدعا للسموات و الأرض و خالقا لهما و موجدا لجميع ما فيهما يمتنع انتساب الولد اليه، إذ لم يوجد من مخلوقاته مجانس له حتّى ينسب إليه تعالى.

قوله تعالى: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . مادة (ق ض ي) قد ذكر لهما معان، أنهاها بعض اللغويين إلى عشرة، و تبعهم بعض المفسرين. و يمكن إرجاع بعضها إلى بعض، و قد خلط فيها بين الموضوع له و المستعمل فيه، بل خلط بين دواعي الاستعمال و تعدد المستعمل فيه، و لعل المعنى الواحد الساري في الجميع: الفعل، بالمعنى العام الشامل للحتم، و الحكم و نحوهما، فقضاؤه حكم و حتم و فعل، هذا بالنسبة إلى مطلق القضاء الذي هو من فعل اللّه تعالى. و أما ما هو في مقابل

ص: 407

القدر،

فقال الصادق (عليه السلام): «لا يكون شيء في الأرض و لا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة، و إرادة، و قدر، و قضاء، و إذن، و كتاب، و أجل. فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر».

أقول: هذه كلها من فعل اللّه تعالى و مطابقة للبراهين العقلية كما سيأتي التفصيل في محله إن شاء اللّه تعالى.

و الأمر: الشيء كما قال تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82] و جملة كُنْ فَيَكُونُ تامة لا تحتاج إلى الخبر، و هي كناية عن إرادته تعالى و المراد بالأمر «كن» هو الإيجاد، و لا تعبير أليق من هذا التعبير الذي يكون أقرب إلى الفهم، و إلاّ فليس في البين صوت يقرع، و لا نداء يسمع، بل كلامه تعالى عين إرادته و إرادته عين فعله. و السر في هذا التعبير - المعبر عنه في الاصطلاح بالأمر التكويني - هو إعلام النّاس نهاية السرعة في الخلق، و عدم انفكاك المعلول عن العلة التامة من دون تقدم و تأخر، لا زماني - لأن إرادته فعله - و لا رتبي إلاّ في فرض العقل. و قوله تعالى: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ليس من القضايا التعليقية المحضة، بل هي من القضايا التي سيقت لبيان تحقق الموضوع، كقوله «الشمس طالعة فالنهار موجود» فتكون قضية «إذا طلعت الشمس فالنهار موجود» بيانا للقضية الأولى.

و أشار سبحانه في هذه الآية المباركة إلى كفاية الأمر في تحقق شيء، و أنه إذا أراد شيئا يوجد ذلك الشيء من دون تهيئة مقدمات، و تسبيب أسباب فالأشياء طوع إرادته، فالتوالد محال من جانبه.

ثم إنّه قد وقع قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ بعد القضاء تارة قال تعالى: سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة مريم، الآية: 35]، و بعد الإرادة أخرى، قال تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82]، و المراد بالقضاء هو القضاء المبرم، و الإرادة هو الفعل. كما أن المراد بالأمر (كن) هو الإيجاد، كما مر هذا في غير الأمور التي جرت عادته تعالى فيها على تهيئة الأسباب و تقديم

ص: 408

المقدمات التي بينها التقدم و التأخر الزماني، و السبق و اللحوق الذاتي، كنفس الزمان و ما يكون مثله في الحصول التدريجي، إذ كل آن من الزمان الذي هو بين العدمين مورد إرادته تعالى، و مورد قوله كُنْ فَيَكُونُ و كذا جميع الممكنات من المتدرجات و غيرها، بناء على ما هو الحق من أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، ففي كل آن له تعالى شأن جديد، و فعل حادث في جميع مخلوقاته، فلا يشغله شأن عن شأن بل شؤونه غير متناهية بالنسبة إلى خلقه.

بحث روائي:

في الكافي عن هشام الجواليقي: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول سبحان اللّه ما يعني به؟ قال (عليه السلام) تنزيهه».

أقول: أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به، و هذا هو معناه العرفي و اللغوي أيضا.

و في الكافي و بصائر الدرجات عن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، قال (عليه السلام): «إن اللّه ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السموات و الأرضين و لم يكن قبلهنّ سموات و لا أرضون، أما تسمع لقوله تعالى:

وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ .

أقول: يمكن أن يكون الاستدلال كناية عن أنه إذا لم يكن ثمّ شيء غير الماء فلا شيء حتّى يوجد الأشياء على مثاله، مع أن الماء لم يعلم أن المراد به هو الماء الجسم الخارجي، أو أنه كناية عن إظهار ملكه وسعة رحمته بالماء الذي هو مادة الحياة فيعم المجردات، و سيأتي تتمة الكلام عند ذكر الآية الشريفة.

و في الكافي و التوحيد عن صفوان بن يحيى: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ قال (عليه السلام): الإرادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل. و أما

ص: 409

من اللّه تعالى فإرادته للفعل إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروي، و لا يهتم، و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي من صفات الخلق، فإرادة اللّه تعالى هي الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ، و لا نطق بلسان، و لا همهمة، و لا تفكر، و لا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له».

أقول: الروايات في بيان أن الإرادة فيه تعالى صفة الفعل كثيرة جدا. كما أن الفرق بين صفة الفعل، و صفة الذات واضح و قد أشرنا إلى ذلك في سورة الحمد.

و أما

قوله (عليه السلام) «بلا لفظ و لا نطق - إلخ» فهو كناية عن نهاية السرعة في الخلق و الإيجاد

كما ورد في رواية أخرى: «كن منه تعالى صنع و ما يكون منه هو المصنوع».

بحث كلامي:

اتفق المتكلمون على عدم المجانسة بين اللّه تعالى و بين مخلوقاته و استدلوا عليه بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و كما وردت فيه روايات متواترة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام)، و هو المستفاد من أقوال أكابر محققي الفلاسفة الإلهيين. و خلاصة ما ذكروه في ذلك يرجع إلى

ما ورد عن علي (عليه السلام): «بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة» و لا يصح أن ينسب إليهم القول بالسنخية و المجانسة، فإنه لا يمكن أن يلتزموا بلوازمها، مع جلالة مقامهم، و قد تقدم بعض الكلام في آخر سورة الحمد. و على هذا فينتفي موضوع الولد له تعالى رأسا، لأنّه مستلزم للسنخية و المجانسة، و هي ممتنعة بالنسبة إليه.

فالآية المباركة تدل على امتناع المدّعى بوجوه:

الأول: قوله تعالى: سُبْحانَهُ فإنه دليل إجمالي على تنزهه عن جميع ما لا يليق به، فإنه أحدي الذات، واحدي الصفات ليس كمثله شيء. كما ورد في سورة الإخلاص، فقد روي أنه جاء نفر من اليهود إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و قالوا: «انسب لنا ربك؟ فأنزل اللّه

ص: 410

تعالى سورة الإخلاص».

الثاني: قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فإنه يدل على أن مناط اتخاذ الولد هو الحاجة و بعد كون ما سواه ملكا له كيف يعقل الحاجة بالنسبة إليه تعالى حتّى يتخذ ولدا؟!! الثالث: قوله تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي خاضعون لربوبيته و عظمته و لا يعقل نسبة الولد اليه مع شهادة ما سواه على تنزيهه، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44].

الرابع: قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فهذا دليل تفصيلي على نفي المدعى، بيانه: أنه تعالى مبدع الخلق و مبدؤه بلا سبق مثال و نظير، و لا احتياج الى روية و تفكير، و لا تعب، و لا لغوب فهو مستغن عن الغير، فلا يحتاج إلى الولد.

الخامس: قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دليل آخر تفصيلي لنفي الولد شرحه في قوله تعالى: أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [سورة الأنعام، الآية: 101]، و ذلك لأن الولدية بحسب نظام التكوين تتوقف على صاحبة و جرت سنة اللّه تعالى في خلقه على هذا النظام، فإذا لم تكن له صاحبة كيف يعقل الولد له عزّ و جل، فجميع هذه الآية المباركة متدرجة على حسب فهم المخاطبين.

وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اَللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُل

اشارة

وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اَللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ اَلْجَحِيمِ (119) وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120) اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (122) وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ

اشارة

ص: 411

عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) أورد سبحانه و تعالى في ما تقدم من الآيات المباركة بعض شبه الكافرين و المنكرين لوحدانيته و قدرته تعالى، و أقام الحجة على بطلان دعاويهم. و في هذه الآيات المباركة يذكر سبحانه المنكرين لنبوة رسوله (صلّى اللّه عليه و آله) غرورا، و عنادا، و يقيم الحجة عليهم، فذكر أولا من أنكر نبوته بكثرة السؤال عنادا و استخفافا بدين اللّه تعالى، ثم وجّه الكلام إلى الكفار فأمرهم بالإيمان و ان هدى اللّه أحق ان يتبع و ذكر أن طائفة منهم يرجى الإيمان منهم و هم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته، تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) ثم ذكّرهم بنعمه و ما يترتب على أفعالهم في يوم الآخرة.

التفسير

قوله تعالى: قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اَللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ . لو لا كلمة تستعمل على وجهين:

أحدهما: امتناع الشيء لأجل الغير مثل قوله تعالى: لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ [سورة سبأ، الآية: 31] و يلزمه حذف الخبر، لقيام الجواب مقامه.

ص: 412

كانوا من رؤساء القوم و كبرائهم.

و المعنى: هلا يكلمنا اللّه تعالى كما يكلم رسوله أو ينزل علينا الآيات الخاصة التي اقترحناها كما حكاها عنهم في قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً [سورة الإسراء، الآية: 90] و لم يكن ذلك منهم إلاّ للعناد و الجحود، فإن في ما أنزل اللّه تعالى على نبيه دلالات واضحة، و معجزات باهرة.

قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أي: أن مثل هذه الاقتراحات الفاسدة قالها الذين من قبلهم في الأمم الماضية فقد اقترح اليهود و النصارى على أنبياء اللّه تعالى الآيات عتوا و استكبارا. و قد حكى تعالى جملة منها في ما تقدم من الآيات.

قوله تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ . التشابه هو التماثل أي: أن قلوبهم تماثلت في الضلال و الكفر و الجهل فإن الجهل و عدم العلم حقيقة واحدة و إن اختلفت مظاهرها، فإنهم جميعا يتشابهون في مكابرة الحق و إيذاء أنبياء اللّه تعالى.

قوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . اليقين أخص من مطلق العلم، يقال: علم اليقين، و حق اليقين، و عين اليقين،

و في الحديث: «لم يقسّم اللّه شيئا بين الناس أقل من اليقين» و يأتي الفرق بينهما بعد ذلك، و المراد به من يطلب العلم و اليقين مما يوجبه من الآيات و لديهم الاستعداد لذلك.

و المعنى: إنّا أظهرنا الآيات مع رسولنا بدلالات واضحة و كافية بما لا يدع مجالا للشك و الريب إلاّ من كان من أهل الأهواء و العناد و الضلال. و قد أعرض سبحانه و تعالى عن جوابهم إما لأجل أنهم ليسوا من أهل العلم و المعرفة، أو لأجل أن سؤالهم لا يليق بالجواب. و لو فرض أن الآيات جرت على حسب أهوائهم و مقترحاتهم، فإنه مضافا إلى كون بعضها من المستحيلات عقلا كسؤال رؤية اللّه تعالى و نزوله جل شأنه لصارت أمورا عادية ليس فيها أي دلالة على المعجزة و الحجية، فلا بد من مراعاة النظام

ص: 413

الأحسن و التدبير الأتم الأكمل في كل عصر بالنسبة إلى جميع أفراد الإنسان بما يوافق الحكمة البالغة كما أشار اليه سبحانه و تعالى في الآية التالية.

قوله تعالى: إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً . البشير المخبر بالخير و تستعمل المادة في الشر أيضا قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الإنشقاق، الآية: 24]. و النذير المخبر بما فيه خوف، و كلاهما يتحققان في أنبياء اللّه و أوليائه الناطقين عنه سبحانه المبشرين بثوابه و المنذرين عن عقابه.

و المراد بالحق هو القرآن و جميع التشريعات السماوية النازلة على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الموجبة لسعادة الدنيا و الآخرة، و يمكن أن يكون المراد به الأعم من كون نفس الإرسال بالحق و المرسل له أيضا كذلك للملازمة بينهما كما هو المعلوم.

يعني: إنا أرسلنا النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بالحق و في الحق، و الحكمة في هذا الإرسال أن يكون بشيرا بالرحمة و الثواب لمن يتبع الحق و نذيرا بالعقاب لمن خالف.

قوله تعالى: وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ اَلْجَحِيمِ . الجحيم هي النار إذا اضطرمت و شب وقودها و قد أعدها اللّه تعالى في الآخرة للغاوين قال تعالى: وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [سورة الشعراء، الآية: 81] أي لا تسئل عن أصحاب الجحيم الذين استحقوها بسوء اختيارهم لم اختاروا الجحيم؟ و لا يضرك تكذيبهم فلا يضيق صدرك عليهم بعد أن قمت بالوظيفة، و أتممت الحجة عليهم، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ سورة البقرة، الآية: 272] و في ذلك تسلية للنبي (صلّى اللّه عليه و آله).

و هذه الآية الشريفة و ما في سياقها مطابقة للعقل الفطري من تحقق الإختيار في الفاعل المختار، فإن اللّه تعالى إنما بعث رسله مبشرين و منذرين و على الإنسان أن يأخذ العلم الذي يهديه و ماله دخل في استكماله

ص: 414

و ما يوجب سعادته في الدارين، فباختياره يصعد إلى الدرجات كما أن به ينزل إلى الدركات، و المعلم غير مسئول عن ذلك بعد بذل جهده في التربية و التعليم، و هذا أمر قد جرت عليه السيرة العقلائية في التعليم و التعلّم الدائرين بينهم.

قوله تعالى: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ . الرضاء من المبينات العرفية، و يستعمل بين الخالق و المخلوق، و بين المخلوقين بعضهم مع بعض قال اللّه تعالى: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، و قال تعالى: فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ [سورة النساء، الآية: 24] و هو من أهم ما يقوم به النظام.

و مادة (م ل ل) تأتي بمعنى الإملاء و الإثبات، قال تعالى: وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ [سورة البقرة، الآية: 282] فالملة إنما هي الشريعة التي أثبتها اللّه لعباده على ألسنة رسله و أنبيائه، و هي و الشريعة سيان و أما مع الدين فهما واحد مصداقا، و أعم في الاستعمال، يقال: دين اللّه تعالى، و دين محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و دين زيد، و لا يقال في الملة ذلك إلاّ ملة اللّه تعالى، و يصح نسبتها إلى النبي المشرع، قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ و قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة الأنعام، الآية: 161]، و لعل السر في ذلك أنه روعي في إطلاق لفظ الملة إبلاغ التشريعات الإلهية السماوية، و هذا يختص بالنبي دون غيره ثم اتسعت حتّى استعملت في الأديان الباطلة أيضا، و كاد المجاز أن يغلب الحقيقة، فقيل: «الكفر ملة واحدة».

و الآية ظاهرة في اليأس عن إيمانهم بعد أن كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يطمع في إسلامهم، بل كان يرجو مبادرتهم إلى الإيمان، لأن الإسلام دين التوحيد و دين الفطرة فيوافق ما هم عليه في الجملة. و لذلك كبر على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إعراضهم و جحودهم، و كان سبب ذلك أنّهم كانوا يعتبرون دينهم هو الهدى فقط، و ما سواه باطل، فهم أحق بهذا الأمر من غيره فلا بد من اتباع ملتهم، أو كان السبب أنهم كانوا يزعمون أنهم

ص: 415

أبناء اللّه و أحباؤه فلا يعقل اتباع غيرهم مع الاختلاف في الملة، أو أنهم كانوا يرون أنفسهم أصحاب قوة و منعة، و جاه و ثروة و غيرهم على ضعف و رفض القوي لما يدعو إليه الضعيف - و لو كان حقا - أمر مركوز في النفوس، و كل ذلك من مظاهر عتوهم و استكبارهم و لذا رد اللّه تعالى عليهم.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى . لأنّ اللّه تبارك و تعالى هو العالم بالهداية و طرقها و القادر على جزاء متبعيها، و ليست الهداية من المقترحات النفسانية، فلا بد و أن تنتهي اليه تعالى علما و جزاء و تقدم معنى الهداية فراجع سورة الفاتحة.

قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ . قضية شرطية، و من المعلوم أن صدق القضية الشرطية إنما هو بصدق الملازمة، لا بتحقق الموضوع، و انطباق الجزاء على الشرط المذكور فيها بالنسبة إلى مورد الخطاب أو المخاطب، فيكون مفاد القضية أن متابعة الهوى و الآراء الباطلة توجب الخذلان من اللّه تعالى فالآية المباركة نظير قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر، الآية: 65]. أي أن الشرك يوجب حبط العمل، فإتيان الجملة بصورة الشرطية تفيد معنى خاصا.

مادة (ه و ي) تأتي بمعنى السقوط و تستعمل في ميل النفس إلى الأمور و الشهوات الباطلة فتهوي بصاحبها الى كل داهية في الدنيا، و إلى النار في الآخرة، و قد تقدم ما يتعلق بها أيضا.

و المعنى: لئن اتبعت أهواءهم و عقائدهم الفاسدة بعد ما جاءك من العلم بالحق يترتب عليك الجزاء الذي أوعد به اللّه تعالى.

قوله تعالى: ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ . أي: أنه يوجب الخذلان من اللّه تعالى فليس لك ولي يتولى شؤونك في الدنيا و الآخرة و لا نصير ينصرك من عذاب اللّه تعالى كما قال جلّ شأنه في آية أخرى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ

ص: 416

[سورة الرعد، الآية: 37] و الخطاب و إن كان موجها إلى رسوله (صلّى اللّه عليه و آله). و لكن يراد به أمته، لأنه تعالى يعلم بأنه (صلّى اللّه عليه و آله) لا يفعل ذلك فيكون إرشادا للإنسان إلى أن متابعة الهوى توجب الحرمان عن نعمه تعالى و إفاضاته، فلا بد من متابعة الحق و لا تأخذه فيها لومة لائم، لأنه يعلم بأنّ اللّه هو ولي أمره و ناصره، و إلاّ لم يكن لائقا بعبوديته تعالى فيستحق أشد العذاب.

و في الآية المباركة إشارة إلى أن جميع المعارف الحقة - أصولا و فروعا - لا بد أن تستند اليه تعالى و ما سواها يكون من الأهواء الفاسدة و المفسدة فيجب طرحها و عدم متابعتها.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ . مادة (تلى) تأتي بمعنى المتابعة و لها مراتب و درجات ترتقي من القول فقط إلى أقصى درجات المتابعة في القول و الفعل و الوجود و سائر الجهات. و المراد بحق التلاوة هي التي توجب فهم الكتاب و التفقه فيه و اتباع احكامه و قد وردت روايات كثيرة في أن المراد بها ترتيل آياته و التفقه به و العلم بأحكامه» و سيأتي في البحث الروائي ذكرها دون مجرد الترتيل مع المخالفة العملية و إلاّ فهو استهزاء به و استخفاف باللّه تعالى و لذا

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رب تال القرآن و القرآن يلعنه» و الآية تتضمن قاعدتين عقليتين قررتهما الكتب السماوية.

الأولى: أنّ الاعتقاد بالحق، و العمل به يوجبان كمال النفس و ارتقاءها إلى المقامات المعنوية، و الفوز بالدرجات الأخروية.

الثانية: أنّ الكفر بالحق، و ترك العمل به يوجبان الخسران.

و في الآية المباركة إعلام للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) بأنه ربما يكون في أهل الكتاب من يرجى إيمانهم و هم الذين يتلون التوراة و الإنجيل حق التلاوة فيتدبرون آياتهما و يتعلمون أحكامهما.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ . أي: من يكفر بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) من بعد علمه بالحق فهو الذي خسر السعادتين

ص: 417

الدنيوية و الأخروية و ذلك هو الخسران المبين.

قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ . إرجاع ختم الكلام إلى بدئه و هو من محسنات البيان فقد سبق أن ذكّر سبحانه و تعالى بني إسرائيل أنواع نعمه، و هنا ختم بتذكيرهم لها أيضا لتتم الحجة عليهم أو غير ذلك من المصالح، و ما عن بعض المفسرين من إنكار التكرار في القرآن فسيأتي البحث عنه في مستقبل الكلام، و قد تقدم تفسير الآية الشريفة في آيتي 40 و 47 فراجع.

و نزيد هنا أنه قد ورد في قوله تعالى مخاطبا لأمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله): فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة، الآية: 152] و ذكر تعالى في خطابه لبني إسرائيل: اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ فمن اختلاف التعبير يستفاد علوّ منزلة المسلمين عن غيرهم فإن الذكر تعلق بهم بالذات الأقدس الربوبي، و هو أعلى المقامات، بخلاف بني إسرائيل. فإن الذكر تعلق فيهم بالنعمة، و ذلك لكثرة انغمارهم في الجهات المادية، و إعراضهم عن الحق فورد الخطاب على ما ارتكزت عليه نفوسهم، و كم فرق بين من تعلقت نفسه بنعمة المنعم و بين من تعلقت نفسه بذات المنعم.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ . تقدم تفسيرها في آية 48 إلاّ أنّ الأولى مغايرة مع الثانية في تقديم قوله تعالى: وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ . و الوجه في ذلك أن مورد الأولى في مقام تحلية النفس بالفضائل النفسانية أولا ثم أمر الغير بها ثانيا. و مورد الثانية إنكارهم لنبوة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلاّ باتباعه لهم و قد ختم سبحانه و تعالى الكلام مع اليهود بذلك.

بحث روائي:

عن الشيخ الطوسي في قوله تعالى: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى : «إنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كان مجتهدا في طلب ما

ص: 418

يرضيهم ليقبلوا إلى الإسلام و يتركوا القتال. فقال اللّه تعالى له: دع ما يرضيهم فإنهم لن يرضوا عنك».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال (عليه السلام): «الوقوف عند الجنّة و النار».

أقول: و هو حق لا ريب فيه، لأن حق التلاوة عبارة عن العلم بالمتلو و العمل به كما يأتي في الرواية الآتية.

و عن الديلمي في الإرشاد عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال (عليه السلام) يرتلون آياته و يتفقهون به، و يعملون بأحكامه، و يرجون وعده، و يخافون وعيده و يعتبرون بقصصه، و يأتمرون بأوامره، و ينتهون بنواهيه. ما هو و اللّه حفظ آياته و درس حروفه، و تلاوة سوره، و درس أعشاره و أخماسه، حفظوا حروفه، و أضاعوا حدوده.

و إنما هو تدبر آياته و العمل بأحكامه قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ .

و عن الكليني و العياشي عن أبي ولاد عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قال (عليه السلام): «هم الأئمة».

أقول: لأن العلم بحقيقة القرآن و العمل بجميعه إنما يتحقق فيهم و بهم، و هذا من باب التطبيق كما مر.

بحث دلالي:

المستفاد من مجموع الآيات المباركة الواردة في ذم اليهود و النصارى و غيرهما أنه ليس لذاتهم بل لأفعالهم الاختيارية الشنيعة، و قد اتفق جميع الفلاسفة بل و غيرهم على أن السعادة و الشقاوة ليستا ذاتيتين للإنسان كذاتية

ص: 419

النطق له، كما أنهما ليستا من لوازم الذات كذاتية الزوجية للأربعة، بل هما من لوازم وجوده الخارجي التي تحصل بالاختيار. نعم للقضاء و القدر الإلهي دخل فيهما بنحو الاقتضاء لا العلية التامة كدخلهما كذلك في أكثر - بل جميع - ما يتعلق بالإنسان فبالعمل يصير الإنسان سعيدا مستحقا للثواب، كما أن به يصير شقيا مستحقا للعقاب، و هذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في هذا الباب بعد رد بعضه إلى بعض، و سيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

فالشقاوة التي لحقت باليهود و النصارى إنما حصلت من أفعالهم الشنيعة مما أوجبت قساوة قلوبهم كما حكى اللّه تعالى عنهم في الآيات المباركة السابقة و الذم تعلق بهم لأجل هذه الجهة فإذا وجدت في أي طائفة أوجبت شقاوتهم و بعدهم عن ساحة الرحمن بلا فرق بين اليهود و النصارى و المسلمين، بل هي من المسلم أقبح فإن نبيهم (صلّى اللّه عليه و آله) أفضل الأنبياء و أمته أفضل الأمم، و لأنّ السير التكاملي في الإنسان يقضي أن يأخذ بعبر الماضين فلا يفعل ما فعلته الأمم السابقة مما أوجب شقاوتها و هلاكها، و لذا كان جرائم المسلمين و مذام صفاتهم أقبح عند اللّه من جرائم غيرهم من سائر الأمم، كما أن أفعالهم الحسنة أفضل.

و الحمد للّه أولا و آخرا.

ص: 420

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.