موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 2 منهاج الوصول الی علم الاصول المجلد 2

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 2 منهاج الوصول الی علم الاصول المجلد 2/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 334ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

ص: 1

المقدّمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين

وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

وبعد، فلمّا انتهى بحثنا في اُصول الفقه إلى مسألة الطلب والإرادة، المنتهية إلى مسألة الجبر والتفويض، أردنا أن نتركها لأهلها ومحلّها؛ لعدم إمكان أداء حقّها كما هو في هذه المظانّ؛ لكثرة مقدّماتها، ودقّة مطالبها، وبُعدها عن أفهام الأكثر.

إلاّ أنّ إصرار بعض المولَعين بتنقيح المباحث ألجأني إلى التعرّض لبعض أطراف المسألة ممّا يناسب المقام، والإشارة إلى ما هو التحقيق ممّا ساق إليه البرهان، من غير ذكر البراهين غالباً؛ إيكالاً إلى العلم الأعلى المعدّ لتحقيق

هذه المباحث.

ولمّا رأيت أنّ المسألة مع ذلك صارت طويلة الذيل، أفرزتها من بين المباحث رسالة مفردة مشتملة على مقدّمة ومطالب.

ص: 1

اعلم: أنّ مبنى الاختلاف في الطلب والإرادة هو الاختلاف في الكلام النفسي، ومبنى ذلك هو اختلاف أصحاب الكلام في أوصاف الواجب تعالى شأنه. فذهبت الأشاعرة(1) إلى جانب الإفراط بإثبات صفات قديمة زائدة على ذاته تعالى، قائمة بها؛ قياماً حلولياً ثابتة لها في الأزل، والمعتزلة(2) إلى جانب التفريط من نفي الصفات عنه تعالى؛ قائلين: إنّ ذاته نائبة مناب الصفات، من قبيل «خذ الغايات، واترك المبادي».

والقول الفحل الوسط(3) هو إثبات الصفات المتّحدة مع الذات؛ لأنّ صرف الوجود صرف كلّ كمال وجمال، لا تشذّ عنه حيثية كمالية، بل يرجع كلّ كمال

ص: 2


1- المطالب العالية 3: 223 - 224؛ شرح المقاصد 4: 69 - 77؛ اُنظر شرح المواقف 8: 44 - 49.
2- شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبدالجبّار: 80 و118؛ الملل والنحل 1: 49؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 558.
3- الشفاء، الإلهيات: 362؛ الحكمة المتعالية 6: 133؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 552.

وجمال إلى حقيقة الوجود بحسب الخارج، وإلاّ يلزم الأصلان أو الاُصول، والتركيب في ذاته، والخلف في صرافة الوجود، والإمكان في الوجود الواجبي... إلى غير ذلك ممّا يطول ذكرها وذكر البراهين عليها.

ولمّا انتهى بحثهم إلى الكلام طال التشاجر بين الفريقين، ولعلّ تسميتهم بالمتكلّمين لذلك.

فذهبت المعتزلة(1) ومتكلّموا الإمامية(2) إلى أنّ توصيف الباري بالمتكلّم لأجل إيجاده الكلام في شيء مثل شجرة موسى علیه السلام ، أو نفس نبيّ، أو ملك.

وقال بعض أهل التحقيق(3): إنّ إطلاقه عليه لقيام التكلّم به، لا الكلام؛ قياماً صدورياً لا حلولياً، كما أنّ إطلاقه علينا أيضاً كذلك، إلاّ أنّ الفرق: أنّ إيجادنا

بالآلة، دونه تعالى.

وذهبت الأشاعرة(4) إلى أنّ كلامه تعالى ليس من جنس الأصوات والحروف، بل هو معنى قائم بذاته تعالى في الأزل، يسمّى الكلام النفسي، وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الحروف، ومنه الطلب القائم بنفسه، وهو غير الإرادة.

والقول الحقّ الموافق للبرهان: أنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى ليس لذاك ولا لذا.

ص: 3


1- شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبدالجبّار: 365؛ المغني في أبواب التوحيد والعدل 7: 3.
2- كشف المراد: 289؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 208؛ گوهر مراد: 275.
3- الحكمة المتعالية 7: 4؛ نهاية الدراية 1: 261 - 268.
4- المطالب العالية 3: 201؛ شرح المواقف 8: 93؛ شرح المقاصد 4: 147.

أمّا فساد قول المعتزلة: فلأنّ إحداث الكلام المتجدّد والمتصرّم بلا وسط مستلزم لمفاسد كثيرة؛ منها التجدّد في صفاته وذاته، تعالى عنه. وقضيّة إيحاء الوحي وإنزال الكتب إلى الأنبياء والمرسلين علیهم السلام من العلوم العالية الربّانية التي قلّما يتّفق لبشر أن يكشف مغزاها كتكلّمه تعالى مع موسى علیه السلام ، ولقد أشار إلى بعض أسرارها قوله تعالى: )نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ((1) وقوله تعالى: )إِنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ((2) وقوله تعالى: )إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى((3) إلى آخره، فأشار إلى كيفية الوحي ونزول الكتاب بوجه موافق للبرهان، غير منافٍ لتنزيهه تعالى عن شوب التغيّر، ووصمة الحدوث.

ولعمري إنّ الأسرار المودعة في هذا الكلام الإلهي المشير إلى كيفية الوحي، ودنوّ روحانية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى مقام «التدلّي»، والمقام المعبّر عنه ب )قاب قوسين(، وما يشار إليه بقوله: )أَوْ أَدْنَى( ثمّ تحقّق الوحي، ممّا لم يصل إليه فكر البشر إلاّ الأوحدي الراسخ في العلم بقوّة البرهان المشفوع إلى الرياضات ونور الإيمان.

والمقصود: دفع توهّم كونه تعالى متكلّماً بإيجاد الكلام المتصرّم في

ص: 4


1- الشعراء (26): 193 - 194.
2- الواقعة (56): 77 - 79.
3- النجم (53): 4 - 11.

شجرة أو غيرها، أو بقيام التكلّم به قياماً صدورياً، والفرق بيننا وبينه: أنّ إيجادنا بالآلة وإيجاده بغيرها؛ فإنّ ذلك أيضاً ملازم للتصرّم والتغيّر في الصفات والذات.

وما قرع سمعك من بعض أصحاب الحديث(1) اغتراراً بظواهر بعض الأحاديث من غير الغور إلى مغزاها - من كون إرادته تعالى حادثة مع الفعل، ومن صفات الفعل - ممّا يدفعه البرهان المتين، جلّ جنابه تعالى أن يكون في ذاته خلوّاً عن الإرادة التي هي من صفات الكمال للموجود بما أ نّه موجود، وكونه كالطبائع في فعله الصادر من ذاته؛ للزوم التركيب في ذاته، وتصوّر ما هو الأكمل منه، تعالى قدسه.

شكٌّ ودفع: ربّما يقال(2): إنّ إرادته تعالى لا يمكن أن تكون عين علمه تعالى؛ فإنّه يعلم كلّ شيء، ولا يريد شرّاً ولا ظلماً ولا شيئاً من القبائح، فعلمه

متعلّق بكلّ شيء دون إرادته، فعلمه غير إرادته، وعلمه عين ذاته، فيجب أن تكون إرادته غير ذاته، فهو مريدٌ، لا بإرادة ذاتية (أزلية - خ. ل)، وعالم بعلم ذاتي.

فيدفع بما في مسفورات أئمّة الفلسفة(3) بأنّ إفاضة الخيرات غير منافية لذات الجواد المطلق، بل اختيارها لازم ذاته، وكون إفاضة الخيرات مرضيّاً بها بحسب ذاته هو معنى إرادته، ووزان الإرادة المتعلّقة بالخيرات بالإضافة إلى العلم وزان

ص: 5


1- الكافي 1: 111 - 112؛ التوحيد، الصدوق: 148.
2- الكافي 1: 111 - 112.
3- القبسات: 325؛ الحكمة المتعالية 6: 343 - 344.

السمع والبصر؛ فإنّهما عين ذاته تعالى مع أ نّهما متعلّقان بالمسموعات والمبصرات.

فذاته تعالى علم بكلّ معلوم، وسمع بكلّ مسموع، وبصر بكلّ مُبصَر. وكذلك الإرادة الحقّة مع كونها متعلّقة بالخيرات عين ذاته.

ولنا مسلك آخر في دفعه نشير إليه إجمالاً، والتفصيل - كالبرهان عليه - موكول إلى محلّه(1)، وهو: أنّ العلم الذي هو عين ذاته تعالى - وهو كشف

تفصيلي في عين البساطة والوحدة حقيقته حقيقة الوجود الصرف الجامع لكلّ وجود بنحو الوحدة والكشف التامّ المتعلّق بتبع كشفه عن الأشياء - إنّما هو كشف عن الوجود بما هو وجود بالذات.

وجهات الشرور والنقائص الراجعة إلى الأعدام لا يمكن أن يتعلّق بذاتها العلم بالذات؛ لنقص فيها، لا في العلم. وإنّما يتعلّق العلم بها بوجه على جهة التبعية وبالعرض، كما أنّ الإرادة أيضاً متعلّقة بها كذلك، فوزان الإرادة بعينها وزان العلم في التعلّق الذاتي والعرضي.

فما قيل(2): من أنّ العلم يتعلّق بكلّ شيء دون الإرادة، غير تامّ، بل كلُّ ما يتعلّق به العلم بالذات تتعلّق به الإرادة كذلك، وكلُّ ما يتعلّق به بالعرض تتعلّق هي أيضاً به بالعرض.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الإرادة فيه تعالى من صفات الذات. نعم هذه الإرادة

المتصرّمة المتجدّدة التي لنا منفيّة عنه تعالى، كما أنّ سائر الأوصاف بحدودها

ص: 6


1- راجع الحكمة المتعالية 6: 344.
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 5، الهامش 1.

الإمكانية منفيّة عنه. وللأخبار الواردة(1) في المقام، الموهمة خلاف ما ذكرنا توجيه لطيف لا يسع المقام ذلك.

وبالجملة، فلا يمكن إثبات التكلّم له تعالى بما ذكره المعتزلة، وتبعه بعض الإمامية.

كما أنّ ما ذهبت إليه الأشاعرة(2)، من قيام صفات على ذاته - ومنها الكلام - باطل؛ فإنّ القيام الحلولي مستلزمٌ للقوّة والنقص والتركيب، تعالى عنه. كما أنّ خلوّ الذات عن صفات الكمال مستلزم لذلك، ولكونه تعالى ذا ماهية، ولانقلاب الوجوب الذاتي إلى الإمكان، إلى غير ذلك من المفاسد.

نعم، إنّه تعالى متكلّم بوجه آخر - حتّى في مرتبة ذاته - يعرفه الراسخون في الحكمة(3) ولو اُطلق على ذلك، الكلام النفسي لا مشاحّة فيه، لكن الأشعري لا يستشعره، وأفهام أصحاب الكلام من المعتزلة والأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام، والإعراض عنه أولى.

ص: 7


1- الكافي 1: 109 - 110 / 1 - 3 و7؛ التوحيد، الصدوق: 146 - 148 / 15 - 19، و336 - 337 / 1 - 5.
2- المطالب العالية 3: 223؛ شرح المقاصد 4: 69؛ اُنظر شرح المواقف 8: 44.
3- راجع الحكمة المتعالية 7: 4 - 5؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 634.

المطلب الأوّل في المهمّ ممّا استدلّ به الأشعري على مطلوبه

وهو اُمور:

الاستدلال بالأوامر الامتحانية على اختلاف الطلب والإرادة

منها(1): أنّ الطلب اللفظي قد يتحقّق من غير أن تكون الإرادة مبدأً له، كالأوامر الامتحانية والإعذارية، ولا بدّ له من مبدأ، وليس من الصفات النفسانية شيء يصلح للمبدئية له إلاّ الطلب النفساني القائم بالنفس، فإذا ثبت إمكانه في موردٍ فليكن كذلك في سائر الموارد، بل في مطلق الكلام؛ طلباً كان أو لا.

والجواب عنه: أمّا في الأوامر الامتحانية والإعذارية فينا، فالمبدأ هو الإرادة. بيانه: أنّ كلّ فعل اختياري صدر منّا مسبوق بالتصوّر والتصديق بالفائدة بنحو؛ فإن كان موافقاً لتمايلات النفس ومشتهياتها، تشتاق إليه وبحسب اختلاف

ص: 8


1- شرح المقاصد 4: 149؛ شرح المواقف 8: 94.

مراتب الملائمة يشتدّ الاشتياق إليه، ثمّ بعد الاشتياق قد تختاره وتصطفيه فتعزم

على إتيانه وتهمّ إليه فتحرّك الأعضاء التي تحت سلطانها نحوه فتأتي به. وإن لم يكن ملائماً لمشتهاها لكنّ العقل يرى أصلحية تحقّقه وإتيانه يحكم - على رغم مشتهيات النفس - بإتيانه، فتختار النفس وجوده وتعزم عليه وتهمّ وتحرّك الأعضاء، كشرب الدواء النافع وقطع اليد الفاسدة، فإنّ العقل يحمل النفس على الشرب والقطع مع كمال كراهتها.

فما في كلام القوم: من أنّ الإرادة هو الاشتياق الأكيد(1) أو أنّ الاشتياق من مقدّماتها(2) ليس على ما ينبغي، بل ليس التصديق بالفائدة أيضاً من المقدّمات الحتمية، ولا يسع المقام تفصيل ذلك.

ثمّ إنّ الأوامر الصادرة من الإنسان، من جملة أفعاله الاختيارية الصادرة منه بمباديها. والفرق بين الأوامر والنواهي الامتحانية والإعذارية وبين غيرها ليس في المبادي ولا في معاني الأوامر والنواهي؛ فإنّها بما هي أفعال اختيارية محتاجة إلى المبادي من التصوّر إلى تصميم العزم وتحريك عضلة اللسان، والهيئة مستعملة في كليهما استعمالاً إيجادياً؛ أي تكون مستعملة في البعث إلى المتعلّق أو الزجر عنه، وإنّما الفارق بينهما بالدواعي والغايات، فالداعي للأوامر الغير الامتحانية وما يكون باعثاً للآمر وغاية له هي الخاصّية المدركة من

ص: 9


1- راجع شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 647؛ اُنظر كفاية الاُصول: 86؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 132؛ نهاية الدراية 1: 279.
2- راجع كشف المراد: 123؛ گوهر مراد: 250؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 207.

المتعلّقات، فالداعي إلى الأمر بإتيان الماء للشرب هو الوصول إلى الخاصّية المدركة. وأمّا الداعي إلى الأوامر الامتحانية والإعذارية فهو امتحان العبد واختباره أو إعذار نفسه.

فما ذهب إليه الأشعري من أنّ المبدأ لها ليست الإرادة(1)، إن كان مراده إرادة الفعل الصادر من المأمور فهو صحيح، لكن في الأوامر الغير الامتحانية أيضاً لا تتعلّق الإرادة بالفعل الصادر من المأمور؛ لأنّ فعل الغير ليس متعلّقاً لإرادته،

وإن كان مراده إرادة بعث الغير إلى الفعل فهي حاصلة في الأوامر الامتحانية والإعذارية أيضاً، إلاّ أنّ الدواعي مختلفة فيها وفي غيرها، كما أنّ الدواعي في مطلق الأوامر مختلفة.

وبالجملة: ما هو فعل اختياري للآمر هو الأمر الصادر منه وهو مسبوق بالمبادي الاختيارية، سواء فيه الأوامر الامتحانية وغيرها.

هذا كلّه في الأوامر الصادرة من الموالي العرفية.

وأمّا الأوامر والنواهي الإلهية ممّا أوحى الله إلى أنبيائه، فهي ليست كالأوامر الصادرة منّا في كيفية الصدور ولا في المعلّلية بالأغراض والدواعي؛ لأنّ الغايات والأغراض والدواعي كلّها مؤثّرات في الفاعل ويصير هو تحت تأثيرها وهو غير معقول في المبادي العالية الروحانية، فضلاً عن مبدأ المبادي جلّت عظمته؛ لاستلزامه للقوّة التي حاملها الهيولى، وتركّب الذات من الهيولى والصورة والقوّة والفعل والنقص والكمال وهو عين الإمكان والافتقار تعالى عنه،

ص: 10


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 8، الهامش 1.

فما هو المعروف بينهم «أ نّه تعالى يفعل للنفع العائد إلى العباد»(1)، مشترك في الفساد والامتناع مع فعله للنفع العائد إليه.

ولا يلزم ممّا ذكرنا أن يكون فعله لا لغرض وغاية فيكون عبثاً؛ لأنّ الغاية في فعله وهو النظام الأتمّ التابع للنظام الربّاني هو ذاته تعالى، والفاعل والغاية فيه تعالى واحد لا يمكن اختلافهما، لا بمعنى كونه تعالى تحت تأثير ذاته في فعله؛ فإنّه أيضاً مستحيل لوجوه، بل بمعنى أنّ حبّ ذاته مستلزم لحبّ آثاره استجراراً وتبعاً لا استقلالاً واستبداداً، فعلمه بذاته علم بما عداه في مرتبة ذاته،

وعلّة لعلمه بما عداه في مرآة التفصيل، وحبّه بذاته كذلك، وإرادته المتعلّقة بالأشياء على وجه منزّه عن وصمة التغيّر والتصرّم لأجل محبوبية ذاته وكونها مرضيّة، لا محبوبية الأشياء وكونها مرضيّة استقلالاً، وإلى ذلك أشار الحديث القدسي المعروف: «كُنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن اُعرف فخلقتُ الخلقَ لِكي اُعرف»(2) فحُبّ ظهور الذات ومعروفيتها حبّ الذات لا الأشياء.

وليعلم: أنّ إيحاء الوحي وإنزال الكتب وإرسال الرسل جزء من النظام الأتمّ الكياني التابع للنظام الأجمل الربّاني، وكيفية تعلّق الإرادة بها ككيفية تعلّقها بالنظام الكياني بنحو التبعية والاستجرار للنظام الربّاني؛ أي حضرة الأسماء والصفات وهي الكنز المخفيّ المحبوب بالذات، والمحبّ والمحبوب والحبّ عين الذات.

ص: 11


1- كشف المراد: 306؛ نهج الحقّ وكشف الصدق: 89؛ گوهر مراد: 308؛ شرح المواقف 8: 203.
2- جامع الأسرار: 102؛ كلمات مكنونة: 33؛ بحار الأنوار 84: 344.

فتحصّل ممّا ذكرنا وهن تمسّك الأشعري لإثبات مطلوبه بالأوامر الامتحانية؛ فإنّه مع ما عرفت بطلانه لو فرض كلام نفسي وطلب نفسي لنا فيها، لا يمكن تصوّره في ذات القيّوم الواجب جلّ وعلا، وهل هذا إلاّ قياس الحقّ بالخلق، والتراب وربّ الأرباب، ولعلّ النملة ترى أنّ لله تعالى زُبانَيَين(1).

كما اتّضح وهن كلام المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2)؛ من أ نّه ليس في الأوامر الامتحانية إرادة حقيقية ولا طلب حقيقي، بل فيها إرادة إنشائية وطلب إنشائي؛ فإنّه - مضافاً إلى ما عرفت - يرد عليه أ نّه لا معنى محصّل للإرادة الإنشائية، بل لا معنى للوجود الإنشائي والاعتباري للحقايق المتحقّقة كالسماء والأرض والإنسان. نعم، يعتبر العقلاء اُموراً لا حقيقة لها لمسيس الحاجة إليها، كالزوجية والملكية وسائر الاعتباريات، فليس للإرادة والطلب فرد حقيقي وفرد إنشائي.

الاستدلال بتكليف العصاة على اختلاف الطلب والإرادة

ومن متمسّكات الأشاعرة(3) لإثبات اختلاف الطلب والإرادة: أ نّه يلزم بناءً

على اتّحادهما في تكليف الكفّار بالإيمان بل مطلق أهل العصيان: إمّا أن لا يكون تكليف جدّي وهو فاسد بالضرورة، أو تخلّف مراد الله تعالى عن إرادته

ص: 12


1- الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 81؛ القبسات: 343؛ الرواشح السماوية: 206؛ علم اليقين 1: 74.
2- كفاية الاُصول: 86.
3- المحصول في علم اُصول الفقه 1: 252.

وهو أفسد، وحيث لا بدّ في هذه التكاليف من مبدأ ولا يمكن أن يكون الإرادة، وليس شيء آخر مناسباً للمبدئية غير الطلب، فهو مبدأ. وبعبارة اُخرى: لو كانت الإرادة الواجبة مبدأً للطلب اللفظي لزم حصول المطلوب بالضرورة؛ لامتناع تخلّف مراده تعالى عن إرادته. ولمّا رأينا التخلّف علمنا أنّ المبدأ غيرها، ولم يكن غير الطلب صالحاً لها فهو المبدأ، فيكون في سائر الموارد أيضاً كذلك.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1) عنه بكلام مجمل ثمّ أردفه ب- «إن قلت قلت»، حتّى انتهى الأمر إلى عويصة الجبر والتفويض، وأجاب عنها بما يزيد الإشكال، فلا محيص عن طرح المسألة على ما هي عليها وبيان الحقّ فيها إجمالاً.

فيتمّ الكلام في ضمن فصول:

ص: 13


1- كفاية الاُصول: 88 - 89.

فصل : في مسألة الجبر والتفويض

إنّ المسألة بما هي معنونة في مسفورات أهل الكلام فرع من فروع أصل المسألة العقلية ونطاق البحث العقلي أوسع منه بل من بين السماء والأرض كما سيتّضح، ولعلّه إليه الإشارة فيما ورد أنّ بين الجبر والتفويض منزلة أوسع ممّا بين السماء والأرض(1)، تأمّل.

فنقول: هل المعلولات الصادرة من عللها، والآثار والخواصّ المترتّبة على الأشياء، والمسبّبات المربوطة بالأسباب، والأفعال الصادرة عن الفواعل - سواء في عالم الملك أو الملكوت، والمجرّدات أو المادّيات، وسواء صدرت عن الفواعل الطبيعية كإشراق الشمس وإحراق النار، أو الحيوانية والإنسانية، أو الآثار والخواصّ المترتّبة على الأشياء كحلاوة العسل ومرارة الحنظل، وسواء كان الفاعل مختاراً أو لا، وبالجملة: كلّ ما يترتّب على شيء بأيّ نحو كان - هل هو مترتّبٌ عليه وصادر منه على سبيل الاستقلال والاستبداد؛ بحيث لا يكون للحقّ - جلّ شأنه - تأثير فيها، وإنّما شأنه تعالى خلق المبادي فقط، ونسبته إلى العالم كالبنّاء والبناء؛ بحيث يكون بعد الإيجاد منعزلاً عن التأثير والتدبير، ويكون الشمس في إشراقها والنار في إحراقها والإنسان في أفعاله والملائكة في شؤونها مستقلاّت ومستبدّات ويكون وجود الباري وعدمه - العياذ بالله - في

ص: 14


1- الكافي 1: 159 / 9 و11؛ التوحيد، الصدوق: 360 / 3.

فاعلية العبد ومنشئية الموجودات للآثار على السواء، وأ نّه تعالى أوجد العقل مثلاً وفوّض الأمر إليه أو أوجد المكلّف وفوّض أفعاله إليه.

أو أ نّه تعالى كما هو فاعل المبادي فاعل للآثار بلا وسط ولا فاعلية ولا تأثير لشيء من الأشياء، ولا علّية لموجود بالنسبة إلى غيره، ولا خاصّية لموجود، بل الأشياء كلّها منعزلة عن العلّية والتأثير والخواصّ والآثار، ولكن جرت عادة الله بإيجاد أشياء عقيب أشياء كالإشراق عقيب وجود الشمس، والإحراق عقيب النار، والإرادة والقدرة في الإنسان، والفعل عقيب الإرادة، والعلم بالنتائج عقيب الأقيسة، والأشياء كلّها على السواء في عدم التأثير لكن الجاهل بالواقع يرى ترتّب الآثار على المؤثّرات غفلة عن حقيقة الأمر، حتّى أنّ قوله: كلّ إنسان حيوان وكلّ حيوان جسم لا ينتج كلّ إنسان جسم، وكانت نسبتهما إلى النتيجة كنسبة ضَرَبَ فعل ماضٍ ويَضربُ فعل مضارع بالنسبة إليها لكن جرت عادة الله على إيجادها عقيب الاُوليين لا الأخيرتين؟

فالتفويضي يرى انعزاله تعالى عن التأثير مطلقاً إلاّ في المبادي(1)، والجبري يرى انعزال الخلق عنه واستناد الكلّ إليه تعالى بلا وسط وبنحو المباشرة(2).

ص: 15


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل 8: 3؛ اُنظر نقد المحصّل: 325؛ كشف المراد: 308.
2- شرح المقاصد 4: 223؛ اُنظر شرح المواقف 8: 145.

فصل : في إبطال مذهبي التفويض والجبر

أمّا التفويض: فلأنّ استقلال موجود في الإيجاد إنّما يعقل إذا سدّت العلّة جميع الأعدام الممكنة على المعلول وإلاّ لم يكن مستقلاًّ فيه، فإذا توقّف وجود المعلول على ألف شرط وكان في قدرة الفاعل إيجاد ما عدا واحد منها، فسدّ عدم المعلول من ناحية ما عدا الواحد منها، لم يكن علّةً تامّةً مستقلّة ولا فاعلاً بالاستبداد والاستقلال في الإيجاد. وهذه المقدّمة ضرورية لا تحتاج إلى الإثبات. ومن الأعدام الممكنة على المعلول عدمه بعدم فاعله ومقتضيه، وليس في شأن ممكن من الممكنات مجرّداً كان أو مادّياً سدّ هذا العدم وإلاّ انقلب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات.

وأيضاً المعلول بالذات في الفاعل الإلهي؛ أي فاعل الوجود، بتمام هويته وحاقّ حقيقته وذاتيته متعلّق ومفتقر إلى العلّة، ويكون ذاته بذاته عين الافتقار والتعلّق وصرف الربط والاحتياج، ولو كان شيئاً له الافتقار حتّى يكون افتقاره زائداً على ذاته وتعلّقه بالعلّة عارضاً على أصل هويته يلزم أن يكون واجباً في وجوده وجوهره وعَرَضَه المعلولية، وهو واضح الاستحالة.

ومرادنا من المعلول بالذات هو وجود الممكن الذي هو أثر جعل الجاعل، وإلاّ فالماهيات ليست مجعولةً ولا موجودة إلاّ بالعرض؛ لكونها اعتبارات وانتزاعات من حدود الوجود، والوجود المعلولي ذاته الافتقار والتعلّق، ولو

ص: 16

استغنى في حيثية من الحيثيات لانقلب من الإمكان والافتقار الذاتي إلى الوجوب والاستغناء، وهو مستحيل بالضرورة.

وأيضاً المستقلّ في الإيجاد لا بدّ وأن يكون مستقلاًّ في الوجود؛ لأنّ الإيجاد

فرع الوجود، ولا يمكن أشرفيته عنه، فالتفويض بمعنى جعل ممكن مستقلاًّ في الفاعلية مستحيل ومستلزم للانقلاب المستحيل، سواء في ذلك المجرّد والمادّي، والفاعل المختار وغيره، فلا يعقل تفويض الإيجاد والفعل والأثر والخواصّ إلى موجود )إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ((1).

وأمّا إبطال الجبر: فمع أنّ تحقيقه كتحقيق إبطال التفويض على ما هو عليه موكول إلى بيان مقدّمات مبرهنة في العلم الأعلى، لكن لا محيص عن الإشارة إلى بعض الوجوه منه.

منها: أنّ الوجود لمّا كان أصلاً في التحقّق وبسيطاً لا جنس له ولا فصل، ومن ذاته أن يكون ذا مراتب ومشكّكاً بالتشكيك الخاصّ، فلا محالة يتعلّق كلّ مرتبة ناقصة بالمرتبة المتلوّة تعلّقاً ذاتياً غير متجافية عنها؛ بحيث يكون تعلّقها

بمرتبة اُخرى غيرها موجباً ومساوقاً للانقلاب الذاتي المستحيل، ومقدّمات هذا البرهان تطلب من مظانّه(2).

ص: 17


1- الحجّ (22): 73 - 74.
2- راجع الحكمة المتعالية 1: 38 و50 و427؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 64 و105 و179.

ومنها: أ نّه تعالى لمّا كان بسيطاً في غاية البساطة، وجميع صفاته وشؤونه الذاتية يرجع إلى الوجود الصرف البسيط، فلا يتصوّر في ذاته وصفاته التجدّد والتصرّم والتغيّر، وإلاّ لانقلب البسيط مركّباً، والفعلية الصرفة قوّةً، والوجوب بالذات إمكاناً. ولازم بساطة الذات والصفات أنّ ما يصدر منه يكون صادراً من حاقّ ذاته وتمام هويته وصرف حقيقته، فلو صدر المتجدّدات والمتصرّمات عنه تعالى من غير وسط وبالمباشرة والمزاولة يلزم منه التصرّم والتغيّر في ذاته وصفاته التي هي ذاته.

وقد تقدّم(1) فساد كون الإرادة من صفات الفعل لا الذات، فما صدر عنه تعالى لا يمكن أن يصدر من إرادته لا من ذاته، أو من ذاته دونها فإنّها عين ذاته، فإذن صدور المتغيّر والمتصرّم منه تعالى مستلزم لحدوث القديم، أو قدم الحادث بالذات وثبات المتغيّر بالذات.

ومنها: أنّ صدور الكثير بلا وسط عن الواحد البسيط من جميع الجهات مستلزم للتركيب والتكثير فيه وهو خلف.

وما قيل: إنّ ذلك مستحيل في غير الفاعل المختار وأمّا هو فله أن يفعل باختياره كلّ ما أراد(2)، فليس بشيء؛ فإنّ الاختيار والإرادة عين الذات البسيطة

وما صدر عنهما صدر عنها، وتحقّق الكثرة والتجدّد في الإرادة عين تحقّقهما في الذات. وقياس إرادته تعالى وفعله الإرادي وكذا صدور الفعل عنه تعالى على الإنسان مع الفارق. وغالب الاشتباهات منشأه هذا القياس الباطل، فأين

ص: 18


1- تقدّم في الصفحة 5.
2- اُنظر كشف المراد: 116 و178؛ شرح المواقف 4: 125.

الإنسان الناقص الكثير المتكثّر المتغيّر المتصرّم ذاتاً وصفاتاً وربّ الأرباب

البسيط الذات والصفات!؟ وما قد يتوهّم أ نّه يلزم من ذلك قصور في قدرته تعالى ومغلولية يده(1)، فاسد سيأتي ما يدفعه.

ومنها: أنّ حقيقة الوجود ذاتها عين منشأية الآثار، ولا يمكن سلب الأثر مطلقاً عن ذاته لمساوقته لسلب ذاته، فلا يمكن أن يكون موجود مسلوباً عنه الآثار، بل سلب الأثر عن وجود مستلزم لسلبه عن كافّة الوجودات حتّى وجود الواجب لبساطة حقيقة الوجود واشتراكه المعنوي، فتدبّر جيّداً.

ص: 19


1- المطالب العالية 4: 389؛ اُنظر نقد المحصّل: 300؛ كشف المراد: 116 و283؛ شرح المواقف 8: 49 - 61.

فصل : في بيان المذهب الحقّ

وهو الأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين، وفيه طرق:

منها: أ نّه بعد ما علم أنّ التفويض وهو استقلال الممكن في الإيجاد والفاعلية، والجبر وهو سلب التأثير عن الموجود ومزاولته تعالى للأفعال والآثار مباشرة وبلا وسط، مستحيلان، اتّضح سبيل الأمر بين الأمرين وهو كون الموجودات الإمكانية مؤثّرات لكن لا بالاستقلال، وفيها الفاعلية والعلّية والتأثير لكن من غير استقلال واستبداد. وليس في دار التحقّق فاعل مستقلّ سوى الله تعالى.

وسائر الموجودات كما أ نّها موجودات لا بالاستقلال بل روابط محضة ووجودها عين الفقر والتعلّق ومحض الربط والفاقة تكون في الصفات والآثار والأفعال كذلك. فمع أ نّها ذات صفات وآثار وأفعال لم تكن مستقلاّت في شيء منها كما تقدّم برهانه(1).

فمن عرف حقيقة كون الممكن ربطاً محضاً عرف أنّ فعله مع كونه فعله فعل الله سبحانه. فالعالم بما أ نّه ربط صرف وتعلّق محض ظهور قدرة الله وإرادته وعلمه وفعله، وهذا عين المنزلة بين المنزلتين والأمر بين الأمرين.

ولعلّه إليه أشار في قوله - وهو الحقّ - : )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله

ص: 20


1- تقدّم في الصفحة 16.

رَمَى((1) حيث أثبت الرمي من حيث نفاه فقال: «رميت وما رميت»، فإنّ الرمي كونه منه لم يكن بقوّته واستقلاله بل بقوّة الله وحوله، وقوله: )وَمَا تَشَآؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ الله((2) فأثبت المشيّة لله من حيث كونها لهم، لا بأن يكون المؤثّر مشيّتين أو فعلين بالاشتراك بل بما أنّ مشيّة الممكن ظهور مشيّته تعالى وعين الربط والتعلّق بها.

تنبيه: في شرك التفويضي وكفر الجبري

التفويضي أخرج الممكن عن حدّه إلى حدّ الواجب بالذات فهو مشرك، وا لجبري حطّ الواجب تعالى عن علوّ مقامه إلى حدود بقعة الإمكان فهو كافر، ولقد سمّى مولانا عليّ بن موسى الرضاI القائل بالجبر كافراً، والقائل بالتفويض مشركاً على رواية صدوق الطائفة كما عن «عيونه»(3)، والأمر بين الأمرين هو الطريقة الوسطى التي للاُمّة المحمّدية صلی الله علیه و آله وسلم وهي حفظ مقام الربوبية والحدود الإمكانية.

فالجبري ظلم الواجب حقّه بل الممكنات حقّها، والتفويضي كذلك، والقائل بالأمر بين الأمرين أعطى كلّ ذي حقّ حقّه. الجبري عينه اليمنى عمياء فسرى عماه منها إلى اليسرى، والتفويضي عينه اليسرى عمياء فسرى منها إلى اليمنى، والقائل بالمنزلة بين المنزلتين ذو العينين. الجبري مجوس هذه الاُمّة حيث نسب

ص: 21


1- الأنفال (8): 17.
2- الإنسان (76): 30؛ التكوير ((81)): 29.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 124 / 17؛ بحار الأنوار 5: 12 / 18.

الخسائس (الخبائث - خ. ل) والنقائص إلى الله تعالى، والتفويضي يهود هذه الاُمّة حيث جعل يد الله تعالى مغلولة )غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ((1) والقائل بالأمر بين الأمرين على الحنفية الإسلامية.

إرشاد: في استناد الأفعال إلى الله

مع أنّ أثر كلّ ذي أثر وفعل كلّ فاعل منسوب إلى الله تعالى وإليها كما عرفت، لكن خيراتها وحسناتها وكمالاتها وسعاداتها كلّها من الله وهو تعالى أولى بها منها، وشرورها وسيّئاتها ونقائصها وشقاواتها ترجع إلى نفسها وهي أولى بها منه تعالى؛ فإنّه تعالى لمّا كان صرف الوجود فهو صرف كلّ كمال وجمال، وإلاّ يلزم عدم كونه صرفاً وهو يرجع إلى التركيب والإمكان، وأيضاً يلزم منه أن يكون في التحقّق أصلان: الوجود ومقابله، مع أنّ مقابله العدم والماهية، وحالهما معلومة.

فهو تعالى صرف الوجود وصرف كلّ الكمالات، والصادر من صرف الوجود لا يمكن أن يكون غير الوجود والكمال، والنقائص والشرور لوازم ذوات المعاليل من غير تخلّل جعل؛ لعدم إمكان تعلّقه إلاّ بالوجود وهو نفس الكمال والسعادة والخير.

فالخيرات كلّها مجعولات ومبدأ الجعل فيها هو الحقّ تعالى، والشرور التي في دار الطبيعة المظلمة من تصادمات المادّيات وضيق عالم الطبيعة وكلّها ترجع إلى عدم وجود أو عدم كماله. والأعدام مطلقاً غير متعلّقة للجعل، بل المضافة منها من لوازم المجعول، وتضائق دار البوار، وتصادم المسجونين في سجن

ص: 22


1- المائدة (5): 64.

الطبيعة وسلاسل الزمان، فكلّها ترجع إلى الممكن.

فما أصابك من حسنة وخير وسعادة وكمال فمن الله، وما أصابك من سيّئة وشرّ ونقص وشقاء فمن نفسك(1). لكن لمّا كانت النقائص والشرور اللازمة للوجودات الإمكانية من قبيل الأعدام المضافة، والحدود والماهيات كان لها وجود بالعرض، وما كان كذلك فمن عند الله لكن بالعرض، فالخيرات من الله بالذات ومنسوبة إلى الممكنات بالعرض، والشرور من الممكنات بالذات ومنسوبة إليه تعالى بالعرض، فحينئذٍ يصحّ أن يقال: كلٌّ من عند الله، فإنّه لولا الإيجاد والإفاضة وبسط الخيرات لم يكن وجود ولا حدّه ولا طبيعة ولا ضيقها. ولعلّ تغيير الاُسلوب وتخلّل لفظة «عند» في قوله تعالى: )قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ الله((2) للإشارة إلى المجعولية بالعرض.

تمثيل

والمثال يقرّب من وجه لا من جميع الوجوه. إذا أشرقت الشمس على مرآة ووقع النور منها على جدار، فنور الجدار ليس من المرآة بذاتها لعدم نور لها، ولا من الشمس المطلقة أي بلا وسط وبلا قيد، بل هو نور شمس المرآة، فمَن نظر إلى المرآة غافلاً عن الشمس يزعم كونه للمرآة، ومَن نظر إلى الشمس غافلاً عن المرآة يزعم كونه من الشمس بلا وسط، ومَن كان ذا العينين يرى الشمس والمرآة، يرى أنّ النور من شمس المرآة ومع ذلك يحكم بأنّ النور - وما هو من

ص: 23


1- راجع النساء (4): 79.
2- النساء (4): 78.

سنخه - للشمس بالذات وللمرآة بالعرض، ومحدودية النور حسب حدّ المرآة للمرآة بالذات وللنور بالعرض، ومع ذلك لولا الشمس وإشراقها لم يكن نور ولا حدّ، فالنور وحدّه من عند الشمس.

فالأنوار الطالعة من اُفق عالم الغيب إنّما هي لنور الأنوار، )وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ((1). فنور الوجود من حضرة الرحموت وظلّ نور الله تعالى؛ )الله نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ((2)، ولا نور إلاّ نوره ولا ظهور إلاّ ظهوره ولا وجود إلاّ وجوده ولا إرادة إلاّ إرادته ولا حول ولا قوّة إلاّ به وإلاّ بحوله وقوّته، والحدود والتعيّنات والشرور كلّها من حدود الإمكان ومن لوازم الذوات الممكنة وضيق المادّة وتصادم المادّيات.

تمثيل أقرب

فانظر قوى النفس المنبثّة في تلك الصيصية البدنية من غيبها، فإنّها بما هي متعلّقات بذات النفس وروابط محضة بها فعلها فعل النفس، بل هي ظهورها وأسماؤها وصفاتها، فمع صحّة نسبة الرؤية إلى البصر، والسماع إلى السمع وهكذا، تصحّ نسبتها إلى النفس فبالسمع تسمع وبالبصر تبصر، فلا يصحّ سلب الانتساب عن القوى ولا عن النفس؛ لكونها روابطها وظهورها. وليعلم أنّ فناء نور الوجود في نور الأنوار أشدّ من فناء قوى النفس فيها بما لا نسبة بينهما؛ لأنّ النفس بما أ نّها موجودة متعيّنة ذات ماهية وحدٍّ - والماهية من ذاتها التباين

ص: 24


1- النور (24): 40.
2- النور (24): 35.

والغيرية - تُصحّح الغيرية والتباين مع قواها، ومع ذلك تكون النسبة إليهما حقيقية لأجل الحظّ الوجودي الذي لهما، فكيف بموجود بريء من جهات النقص والتعيّن، ومنزّه عن الماهية ولوازمها، ومقدّس عن شوائب الكثرة ومصحّحات الغيرية والتضادّ والتباين؟!

تأييدات نقلية

وهي أكثر من أن يذكر، فالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مشحونة بذكر هذه اللطيفة الربّانية والحقيقة الإلهية تصريحاً وتلويحاً، تنصيصاً وكناية.

فمن الآيات - مضافاً إلى ما قدّمنا من قوله تعالى: )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى((1) وقوله تعالى: )وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله((2) وقوله تعالى: )مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله...((3) الآية - الآيات(4) الواردة في قضيّة خضر وموسى - على نبيّنا وآله وعليهما السلام - فإنّ فيها إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة.

والآيات التي وردت فيها نسبة التوفّي تارة إلى الله تعالى فقال: )الله يَتَوَفَّى

الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا((5)، واُخرى إلى ملك الموت فقال: )قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ

ص: 25


1- الأنفال (8): 17.
2- الإنسان (76): 30؛ التكوير ((81)): 29.
3- النساء (4): 79.
4- الكهف (18): 60 - 82.
5- الزمر (39): 42.

الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ((1)، وثالثة إلى الملائكة فقال: )وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ((2).

والآيات التي تنسب الإضلال تارةً إلى الله تعالى فقال: )وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ((3)، واُخرى إلى إبليس فقال: )إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ((4)، وثالثة إلى العباد فقال: )وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ((5)، وقال: )وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ((6).

وأنت إذا كنت ذا قلب متنوّر بنور فهم القرآن بعد تطهيره من أرجاس التعلّق إلى الطبيعة ف)إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ((7)، لوجدت هذه اللطيفة في آيات لا يمسّها العامّة، فهذا قوله تعالى: )الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ((8) قصّر جميع المحامد عليه تعالى وأرجع كلّ محمدة إليه، فلولا أنّ كلّ كمال وجمال كمالُه وجماله بالذات وبحسب الحقيقة لم يكن وجه لصحّة هذا القصر. ولو أضفت إلى ذلك ما عند أهل المعرفة(9) من

ص: 26


1- السجدة (32): 11.
2- الأنفال (8): 50.
3- إبراهيم (14): 27.
4- القصص (28): 15.
5- طه (20): 79.
6- طه (20): 85.
7- الواقعة (56): 77 - 79.
8- الفاتحة (1): 2.
9- الفتوحات المكّية 1: 422؛ شرح توحيد الصدوق 1: 613.

أنّ قوله: )بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( متعلّق بقوله: )الْحَمْدُ لله(ترى أنّ المحامد من كلّ حامد إنّما يقع باسم الله، فباسمه يكون كلّ حمد لله تعالى، فهو الحامد والمحمود.

هذه شمّةٌ من الآيات ذكرناها اُنموذجة لغير ما ذكر.

وأمّا الروايات من طريق أهل بيت الوحي والتنزيل علیهم السلام فكثيرة جدّاً، جمَع

المحقّق البارع الداماد - جزاه الله عن الحقيقة خيراً - شطراً منها(1)، فقال في آخر الإيقاظ الرابع من «الإيقاظات»: «وإذ أحاديث هذا الباب كثيرة وفيما أوردناه كفاية للمتبصّر، فلنكتف الآن بما حواه هذا الإيقاظ، وذلك اثنان وتسعون حديثاً»(2) انتهى، فمن شاء فليراجع إليها وإلى الكتب الناقلة لأحاديث العترة الطاهرة علیهم السلام .

فالآن نتبرّك بذكر رواية صحيحة منها هي ما رواه الشيخ الكليني في جامعه «الكافي» عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: قال أبوالحسن الرضا علیه السلام : «قال الله: يابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً )مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ( وذلك أ نّي أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيّئاتك منّي، وذاك أ نّني لا اُسئل عمّا أفعل وهم يسألون»(3). ولقد شرحنا هذا

ص: 27


1- مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 227 - 255.
2- مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 255.
3- الكافي 1: 152 / 6.

الحديث شرحاً وافياً في «الأربعين»(1).

وأنت إذا تأمّلت ما تقدّم منّا ترى أنّ الروايات الشريفة متوافقة المضمون غير متعارضة الحقيقة وإن كان الجاهل يزعم الاختلاف، فلا منافاة بين قول أبي عبدالله علیه السلام في رواية أبي بصير «من زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله»(2)، وقوله علیه السلام : «من زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله عن سلطانه»(3)، وكذا بين ما ورد «أنّ الشرّ ليس إليه والخير بيديه»(4) وما ورد من «أنّ الخيرات والشرور كلّها ممّا أجرى الله تعالى على يدي العباد»(5)... إلى غير ذلك.

ص: 28


1- شرح چهل حديث، امام خميني قدّس سرّه : الحديث الخامس والثلاثون.
2- الكافي 1: 156 / 2.
3- الكافي 1: 158 / 6؛ التوحيد، الصدوق: 359 / 2.
4- راجع الكافي 3: 310 / 7؛ كنز العمّال 11: 434 / 32042.
5- راجع الكافي 1: 154، باب الخير والشرّ.

فصل في ذكر بعض الشبهات الواردة وجوابها

شبهة عدم إرادية الإرادة الإنسانية

فمنها - وهي أصعبها -: أنّ الإرادة الإنسانية إن كانت واردة من الخارج بأسباب وعلل منتهية إلى الإرادة القديمة كانت واجبة التحقّق من غير دخالة العبد في ذلك فيكون مضطرّاً وملجأً في إرادته، ولازمه الاضطرار في فعله؛ لأنّ ما يكون علّته التامّة اضطرارية يكون هو أيضاً كذلك. وإن كانت إرادته بإرادته ننقل الكلام إلى إرادة إرادته، فإمّا أن يتسلسل أو يلزم الاضطرار والجبر(1).

ولقد أجاب عنها أساطين الفلسفة وأئمّة الفنّ بما لا يخلو عن التكلّف

والإشكال، فتصدّى السيّد المحقّق الداماد - نضّر الله تربته - لجوابها: «بأنّ الإرادة حالة شوقية إجمالية متأكّدة بحيث إذا ما قيست إلى نفس الفعل وكان هو الملتفت إليه باللحاظ بالذات كانت هي شوقاً وإرادة بالقياس إليه، وإذا ما قيست إلى إرادته والشوق الإجماعي إليه وكان الملتفت إليه باللحاظ بالذات تلك الإرادة والشوق لا نفس الفعل كانت هي شوقاً وإرادة بالقياس إلى الإرادة من غير شوق آخر مستأنف وإرادة اُخرى جديدة، وكذلك الأمر في إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة إلى سائر المراتب. فإذن كلٌّ من تلك الإرادات المفصّلة

ص: 29


1- المطالب العالية 9: 21 - 22؛ نقد المحصّل: 170؛ اُنظر القبسات: 473؛ الحكمة المتعالية 6: 388.

يكون بالإرادة والاختيار، وهي بأسرها مضمّنةٌ في تلك الحالة الشوقية الإجماعية المعبّر عنها بإرادة الفعل واختياره»(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

ثمّ حاول(2) مقايسة الإرادة في ذلك بالعلم بالشيء تارةً، وبالعلم بذواتنا اُخرى، وبالنيّة في العبادة ثالثةً، وباللزوم ولزوم اللزوم رابعةً، وبالإرادة المتعلّقة

بالمسافة القابلة للانقسام إلى غير النهاية خامسةً، ولك قياسها بالإمكان في الممكنات والوجوب في الواجب وضرورة القضايا الضرورية إلى غير ذلك.

وأنت خبير بما فيه وفي مقايساته؛ فإنّ الإرادة بما أ نّها صفة موجودة حقيقية تحتاج إلى علّة موجدة؛ إمّا إرادة اُخرى أو شيء من خارج، فيتسلسل أو يلزم الاضطرار والجبر. ولا يمكن أن يقال: إنّ علّة تحقّق الإرادة نفس ذاتها بالضرورة، كما أنّ العلم بالغير أو بذواتنا ليس معلولاً لنفسه بل لأمر آخر. نعم، إذا لاحظنا علمنا بصورة، يكون معلوماً بواسطة هذا اللحاظ وتنقطع اللحاظات بتركها، وكذا في اللزومات؛ فإنّ اللزوم أمر اعتباري إذا لوحظ طرفاً يعتبر لزوم آخر بينه وبين الموضوع وتنقطع بانقطاع الاعتبار، وأمّا الإرادة المتعلّقة بالشيء فلا تكون اعتبارية وتابعة للحاظ.

وبالجملة: فقياساته مع الفارق خصوصاً بالإرادة المتعلّقة بالمسافة كما لا يخفى. وأمّا القياس بالنيّة في العبادة فغير معلوم الوجه؛ فإنّ النيّة فيها لا تلزم أن تكون منويّة وإلاّ فيرد عين الإشكال فيها أيضاً، ولا يدفع بما ذكر. واتّضح بطلان قياسنا بالإمكان والوجوب والضرورات أيضاً.

ص: 30


1- القبسات: 473؛ مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 209 - 210.
2- راجع القبسات: 474؛ مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 210.

وبالجملة: ما أفاده لا يغني من الجواب عن الشبهة.

وأشكل عليه تلميذه الأكبر رحمه الله علیه : بأنّ لنا أن نأخذ جميع الإرادات بحيث لا يشذّ عنها شيء ونطلب أنّ علّتها أيّ شيء هي ؟ فإن كانت إرادة اُخرى لزم الجبر في الإرادة(1).

أقول: هذا نظير ما يقال في الاستدلال على وجود غنيّ بالذات: إنّه لو فرض سلسلة غير متناهية في الوجود يكون كلّ فرد فرد فيها فقيراً ممكناً لنا أن نحيط بعقلنا على السلسلة إجمالاً، فنقول: السلسلة الغير المتناهية من الفقراء لا يمكن أن تدخل ولا فرد منها في الوجود إلاّ بإفاضة غنيّ بالذات، وإلاّ فالفقير الفاقد للشيء لا يمكن أن يكون معطياً ومغنياً، فكلّ موجود دلّ على الغنيّ بالذات، فسدّ فقر الفقير لا يمكن إلاّ بالغنيّ. والعجب أنّ المحقّق الداماد

كان متنبّهاً على هذا الإشكال في تقريره أصل الشبهة ومع ذلك أجاب بما عرفت.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله علیه عن أصل الشبهة بأنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار إلاّ أنّ بعض مباديه غالباً يكون بالاختيار؛ للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة(2).

وفيه: أنّ الفعل الاختياري على الفرض ما كان مباديه بالاختيار، فحينئذٍ ننقل الكلام إلى تلك المبادي التي ادّعى أ نّها بالاختيار، هل تكون الإرادة المتعلّقة بها بالإرادة واختيارها بالاختيار فيتسلسل أو يلزم المحذور.

ص: 31


1- الحكمة المتعالية 6: 390.
2- كفاية الاُصول: 300.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عمّا ذكره شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من أنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة في نفسها؛ لأ نّا نرى بالوجدان إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في مكان عشرة أيّام ويكون الأثر مترتّباً على القصد لا على البقاء(1)، فإنّه بذلك لا تنحسم مادّة الإشكال؛ فإنّا ننقل الكلام إلى إرادة الإرادة هل هي إرادية أو لا ؟ فيتسلسل أو عاد المحذور. مضافاً إلى امتناع تعلّق الإرادة بالبقاء من غير مصلحة فيه، وفي المثال لا محيص إلاّ من تعلّق رجحان ولو بالعرض والواسطة بالبقاء وإلاّ فتعلّق الإرادة به بلا ترجيح واصطفاء ممّا لا يعقل.

وقد يقال: إنّ إرادية الفعل بالإرادة لكن إرادية الإرادة بنفسها لا بإرادة اُخرى، كموجودية الوجود ومنوّرية النور(2).

وفيه: أنّ ذلك خلط بين الجهات التقييدية والتعليلية؛ فإنّ معنى موجودية الوجود بذاته أ نّه لا يحتاج في صدق المشتقّ عليه إلى حيثية تقييدية وإن احتاج إلى حيثية تعليلية إذا كان ممكناً، وبهذا المعنى لو فرض كونها مرادة بذاتها لا تستغني عن العلّة، والإشكال في أنّ علّتها هل هي إرادة اُخرى منه أو أمر من خارج؟

وأسدّ ما قيل في المقام هو ما أجاب عنه بعض الأكابر(3) وإنّي كنت معتمداً عليه سابقاً، وبيانه بتوضيح منّا: أنّ الإرادة بما هي من الصفات الحقيقية

ص: 32


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري: 338.
2- نهاية الاُصول: 122.
3- راجع الحكمة المتعالية 6: 388.

ذات الإضافة، وزانها وزان سائر الصفات الكذائية، فكما أنّ المعلوم ما تعلّق به العلم لا ما تعلّق بعلمه العلم، والمحبوب ما تعلّق به الحبّ لا ما تعلّق بحبّه الحبّ... وهكذا، كذلك المراد ما تعلّق به الإرادة لا ما تعلّق بإرادته الإرادة، والمختار من يكون فعله بإرادته واختياره لا إرادتُه واختيارُه، والقادر من يكون بحيث إذا أراد الفعل صدر عنه وإلاّ فلا، لا من يكون إذا أراد إرادة الفعل فعل، ولو توقّف الفعل الإرادي على كون الإرادة المتعلّقة به متعلّقة للإرادة لزم أن لا يوجد فعل إرادي قطّ حتّى ما صدر عن الواجب.

إن قلت: هذا مجرّد اصطلاح لا يدفع به الإشكال من عدم صحّة العقوبة على الفعل الإلجائي الاضطراري؛ فإنّ مبدأ الفعل وهو الإرادة إذا لم يكن إرادياً اختيارياً يكون الفعل اضطرارياً ومعه لا تصحّ العقوبة.

قلت: هاهنا مقامان؛ أحدهما: تشخيص الفعل الإرادي من الاضطراري وثانيهما: تشخيص مناط صحّة العقوبة عند العقلاء.

أمّا المقام الأوّل، فلا إشكال في أنّ مناط إرادية الفعل في جميع الأفعال الإرادية الصادرة من الفاعل واجباً كان أو ممكناً في مقابل الاضطراري الإلجائي هو تعلّق الإرادة به لا بإرادته، والاضطراري كحركة المرتعش ما لا تتعلّق به الإرادة، فهذا تمام مناط الإرادية لا غير، كما أنّ تمام مناط المعلومية هو كون الشيء متعلّقاً للعلم لا مباديه ولا العلم المتعلّق به.

وأمّا المقام الثاني، فلا ريب في أنّ العقلاء من كلّ ملّة يفرّقون بين الحركة الارتعاشية والإرادية في صحّة العقوبة على الثانية دون الاُولى، وليس ذلك إلاّ لحكمهم كافّة على أنّ الفعل الاختياري صادر عن إرادته واختياره من

ص: 33

دون إلجاء واضطرار وإجبار، وهذه الشبهات في نظر العقلاء سوفسطائية وفي مقابل البديهة.

تحقيق به يدفع الإشكال

اعلم: أنّ الأفعال الاختيارية الصادرة من النفس على ضربين:

أحدهما: ما يصدر منها بتوسط الآلات الجرمانية كالكتابة والصياغة والبناء، ففي مثلها تكون النفس فاعلة الحركة أوّلاً وللأثر الحاصل منها ثانياً وبالعرض، فالبنّاء إنّما يحرّك الأحجار والأخشاب من محلّ إلى محلّ ويضعها على نظم خاصّ وتحصل منه هيئة خاصّة بنائية وليست الهيئة والنظم من فعل الإنسان إلاّ بالعرض، وما هو فعله بالآلة هو الحركة القائمة بالعضلات أوّلاً وبتوسّطها بالأجسام، وفي هذا الفعل تكون بين النفس المجرّدة والفعل وسائط ومبادٍ من التصوّر إلى العزم وتحريك العضلات.

والضرب الثاني: ما يصدر منها بلا وسط أو بوسط غير جسماني كبعض التصوّرات التي يكون تحقّقها بفعّالية النفس وإيجادها - لو لم نقل جميعها كذلك - مثل كون النفس لأجل الملكة البسيطة الحاصلة لها من ممارسة العلوم خلاّقة للتفاصيل، ومثل اختراع نفس المهندس صورة بدعية (بديعة - خ. ل) هندسية؛ فإنّ النفس مع كونها فعّالة لها بالعلم والإرادة والاختيار لم تكن تلك المبادي حاصلة بنحو التفصيل كالمبادي للأفعال التي بالآلات الجسمانية؛ ضرورة أنّ خلق الصور في النفس لا يحتاج إلى تصوّرها والتصديق بفائدتها والشوق والعزم وتحريك العضلات، بل لا يمكن توسيط تلك الوسائط بينها وبين

ص: 34

النفس؛ بداهة عدم إمكان كون التصوّر مبدأً (مبدئاً - خ. ل) للتصوّر بل نفسه حاصل بخلاّقية النفس وهي بالنسبة إليه فاعلة بالعناية بل بالتجلّي؛ لأنّها مجرّدة والمجرّد واجد لفعليات ما هو معلول له في مرتبة ذاته، فخلاّقيته لا تحتاج إلى تصوّر زائد بل الواجدية الذاتية في مرتبة تجرّدها الذاتي الوجودي تكفي للخلاّقية كما أ نّه لا يحتاج إلى إرادة وعزم وقصد زائد على نفسه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العزم والإرادة والتصميم والقصد من أفعال النفس ولم يكن سبيلها سبيل الشوق والمحبّة من الاُمور الانفعالية، فالنفس مبدأ الإرادة والتصميم ولم تكن مبدئيتها بالآلات الجرمانية بل هي موجدة لها بلا وسط جسماني. وما كان حاله كذلك في صدوره من النفس لا يكون بل لا يمكن أن يكون بينه وبينها إرادة زائدة متعلّقة به، بل هي موجدة له بالعلم والاستشعار الذي في مرتبة ذاتها وبالعزم والإرادة والاختيار الحاصلة في تلك المرتبة؛ لأنّ النفس مبدؤها وفاعل إلهي بالنسبة إليها والفاعل الإلهي واجد لأثره بنحو أعلى وأشرف، فكما أنّ المبدأ للصور العلمية واجد لها في مرتبة ذاته البسيطة بنحو أعلى وأشرف وأكمل فكذا الفاعل للإرادة، لكن لمّا كانت النفس ما دامت متعلّقة بالبدن ومسجونة في الطبيعة غير تامّة التجرّد تجوز عليها التغيّرات والتبدّلات والفاعلية تارةً وعدمها اُخرى، والعزم وعدمه، فلا يجب أن تكون فعّالة بالدوام ولا عالمة (عاملة - خ. ل) وعازمة كذلك. نعم، لو فرض حصول التجرّد التامّ لها تصير مبدأً للصور الملكوتية من غير تخلّف عنها إلاّ بوجه الظهور والبطون ممّا يعرفه الراسخون في العلم.

ص: 35

تنبيه : في عدم تعلّق الإرادة بالإرادة

إنّ هاهنا نكتة لعلّها أقرب إلى بعض الأفهام لدفع الشبهة، وهي أنّ النفس في الأفعال الخارجية الصادرة منها لمّا كان توجّهها الاستقلالي إليها وتكون المبادي من التصوّر إلى العزم والإرادة منظوراً بها؛ أي بنحو التوسّل إلى الغير وبنعت الآلية لم تكن متصوّرة ولا مرادة ولا مشتاقاً إليها بالذات بل المتصوّر والمراد والمشتاق إليه هو الفعل الخارجي الذي يتوسّل بها إليه، فلا معنى لتعلّق الإرادة بالإرادة ولو فرض إمكانه؛ لعدم كونها متصوّرة ولا مشتاقاً إليها ولا معتقداً فيها النفع، فتدبّر.

شبهة استلزام قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» الجبر

ومن الإشكالات في المقام: أ نّه من المقرّر في الفلسفة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»(1) ووجوب الشيء ضرورة تحقّقه وامتناع لا تحقّقه، فحينئذٍ

يكون صدور الفعل عن الفاعل واجب التحقّق، وما كان كذلك يكون الفاعل مضطرّاً في إيجاده ملجأً في فعله.

وقد فصّل جمع من المتكلّمين(2) بين ما يصدر عن الفاعل المختار فمنعوا القاعدة لئلاّ ينسدّ باب إثبات الاختيار للواجب، وبين غيره لئلاّ ينسدّ باب إثبات الصانع تعالى، فكأ نّهم بنوا جريان القاعدة العقلية على أهوائهم لا على ما ساق

ص: 36


1- الحكمة المتعالية 1: 221؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 272.
2- راجع الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 122؛ الحكمة المتعالية 6: 320.

إليه البرهان، فكأنّ النتائج دعتهم إلى قبول البراهين لا هي هدتهم إلى النتائج،

فانظر ماذا ترى!

وكان الأولى والأجدر ترك التعرّض لأقوالهم، لكن لمّا اغترّ بقولهم بعض الأعيان من أهل التحقيق رحمه الله علیه (1) وتبعه غيره(2) من غير تدقيق، دعانا ذلك إلى تعرّض إجمالي لمعنى القاعدة فنقول:

التحقيق: أ نّها قاعدة تامّة مبرهنة مؤسّسة على الأوّليات كلّية عامّة لجميع الممكنات والحوادث الذاتية والزمانية - صدرت من فاعل مختار أو لا - غير مصادمة لاختيار الفاعل المختار.

أمّا كونها تامّة عامّة فيتّضح بعد ذكر اُصول:

الأوّل: إنّ كلّ ما يتعقّل ويتصوّر إمّا ضروري التحقّق، أو ضروري اللا تحقّق،

أو لا ضروري التحقّق واللا تحقّق. الأوّل هو الواجب، والثاني الممتنع، والثالث الممكن. والتقسيم بينها حاصر دائر بين النفي والإثبات، ولا يعقل قسم آخر؛ للزوم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما.

وهذا التقسيم بحسب مقايسة ذات الشيء ومفهومه، وأمّا بحسب نفس الأمر فكلّ شيء ممكن إمّا واجب التحقّق أو ممتنعه؛ لأنّ علّته التامّة إمّا محقّقة فيجب تحقّقه وإلاّ لم تكن تامّة، أو غير محقّقة فيمتنع وإلاّ ما فرض علّة ليس بعلّة وسيأتي بيانه، ولا ثالث لهما بحسب نفس الأمر، فحينئذٍ كلّ ما خرج عن أحد القسمين دخل في القسم الآخر.

ص: 37


1- أجود التقريرات 1: 139.
2- محاضرات في اُصول الفقه 2: 52.

الثاني: إنّ كلّ ممكن بالنظر إلى ذاته وماهيته، نسبة الوجود والعدم إليه على السواء لا يترجّح إحداهما على الاُخرى، ويستحيل ثبوت الأولوية الذاتية لها؛ سواء كانت بالغة حدّ الوجوب كافية في الوجود أو لا. أمّا الاُولى فواضحة؛ للزوم انقلاب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات، وأمّا الثانية فلأنّ الممكن قبل تحقّقه وبالنظر إلى ذاته وماهيته ليس بشيء، بل هو اعتبار محض واختراع عقلي صرف؛ فإنّ ما ليس بموجود ليسٌ محضٌ لا يمكن أن يثبت له شيء حتّى ذاته وذاتياته، والأولوية خصوصية وجودية تجعل الماهية أقرب إلى التحقّق، وما ليس بموجود - أي معدوم صرف - لا يعقل فيه ثبوت أمر عدمي له فضلاً عن ثبوتي ولا يتصوّر فيه اقتضاء رأساً، والماهية من حيث هي ليست إلاّ هي بل في حال العدم ليست هي هي.

الثالث: بعد ما لم يكن للممكن اقتضاء ذاتي مطلقاً وتكون نسبة الوجود والعدم إليه على السواء، لا بدّ في تحقّقه ووجوده من علّة مؤثّرة، وهي إمّا أن تسدّ جميع الأعدام الممكنة عليه أو لا. فعلى الثاني لا يمكن أن يصير موجوداً للزوم الأولوية الذاتية و موجودية المعلول بلا علّة مؤثرة والترجّح بلا مرجّح وهو اجتماع النقيضين.

وبعبارة اُخرى: لو كان لموجوديته ألف شرط فوجد الجميع إلاّ واحد منها لا يمكن أن يصير موجوداً؛ للزوم الخلف، بل مع عدم واحد من شروطه لا يمكن أن يصير أولى بالوجود؛ لأنّه بَعدُ في حال العدم فلا يعقل اتّصافه بصفة وجودية وجهة اقتضائية ولو غيرية.

وبعد تحقّق جميع ما يحتاج إليه في وجوده وحصول علّته التامّة لا يمكن

ص: 38

عدم تحقّقه؛ للزوم الخلف وسلب الشيء عن نفسه، فلا بدّ أن ينضمّ إليها ما يخرج الممكن عن الامتناع الوقوعي وهو بتمامية علّته. فإذا خرج من الامتناع، ينسلك في الوجوب؛ لامتناع الواسطة بينهما بحسب متن الواقع؛ لأنّه إمّا بقي بَعدُ على حاله الأوّل ولم تؤثّر العلّة فيه وهذا عين الامتناع، وإمّا أثّرت فيه وسدّت الأعدام الممكنة عليه وهذا عين الوجوب الغيري. وهذا الوجوب لمّا لم يكن ذاتياً فلا محالة يكون من قبل العلّة وإيجابه. فإذا اعتبر في جانب العلّة وقيس إليها يكون العلّة فاعلاً موجباً - بالكسر - وهو الوجوب السابق، وإذا اعتبر في جانب المعلول وقيس إليه يكون المعلول واجباً وهو الوجوب اللاحق، فالفاعل أو العلّة أوجب الشيء فأوجده، والفعل أو المعلول وجب فوجد.

إذا عرفت ما ذكر يتّضح لك: أنّ القاعدة تامّة مؤسّسة على الأوّليات وعامّة لجميع الماهيات الممكنة ويكون الممكن - أيّ ممكن كان - من طباع ذاته ذلك سواء كان أثر الجاعل المختار أو لا، ولا يكون موضوع القاعدة المبرهنة ممكناً خاصّاً، وفعل الفاعل المختار ممكن أيضاً يأتي فيه ما ذكر، ولا يعقل تخصيصها إلاّ على أهواء بعض أصحاب الجدل. هذا حال القاعدة.

وأمّا عدم منافاتها لمختارية الفاعل المختار: فهو أيضاً بمكان من الوضوح بعد فهم مفادها؛ فإنّ مقتضى القاعدة أنّ الممكن ما لم يصر واجباً لم يصر موجوداً، والعلّة التامّة باقتضائها أوجب المعلول فأوجده، فأيّة منافاة بين هذا وبين كون الفاعل مختاراً؛ لأنّ الفاعل المختار بإرادته واختياريته وفعّاليته أوجب الفعل فأوجده، وهذا يؤكّد اختيارية الفاعل.

وبعبارة اُخرى: أنّ العلّة موجبة - بالكسر - فإذا كان الموجد فاعلاً مختاراً

ص: 39

يكون موجباً - بالكسر- باختياره. والمتكلّم لعدم استشعاره بموضوع القاعدة وبرهانها ومفادها زعم أنّ الإيجاب والوجوب ينافيان الاختيار مع أنّ الإيجاب بالاختيار لا يعقل أن يصير علّة ومنشأً للاضطرار، والوجوب الإلجائي من قبل العلّة يستحيل أن يؤثّر فيها.

وممّا ذكرنا يعلم: أنّ جواز الترجيح بلا مرجّح أو عدم جوازه غير مربوط بمفاد القاعدة وصحّتها؛ فإنّه لو سلّمنا جوازه أو منعناه، لا تنهدم بهما القاعدة؛ لأنّ معنى جوازه أنّ الفاعل يجوز أن يختار أحد طرفي الفعل من غير أن يكون فيه ترجيح بل يختار أحد المتساويين من جميع الجهات، فإذا اختار أحدهما أراده وأوجده. فالفاعل بعد اختياره أحد المتساويين بلا مرجّح موجب - بالكسر - لوجوده فموجدٌ، فيكون اختيار الفعل بلا ترجيح أو مع ترجيح مقدّماً على الإرادة، وبعد الاختيار تكون النفس فاعلاً موجباً - بالكسر - للإرادة، وبها تكون فاعلاً موجباً - بالكسر - لتحريك العضلات، وبتوسّطها لتحريك الأعيان الخارجة. فامتناع الترجيح بلا مرجّح لا يجعل الفاعل مضطرّاً وموجباً - بالفتح - كما أنّ جوازه لا يجعله مختاراً. فالفاعل المختار علّة باختياره وإرادته للفعل بعد حصول المقدّمات الاُخر، وموجب - بالكسر - للفعل مع كونه مختاراً.

نعم، هنا نكتة اُخرى - قد نبّهنا عليها - ينبغي تذكارها وهو أنّ العلّة المستقلّة التامّة ما تسدّ بذاتها جميع الأعدام الممكنة على المعلول وبهذا المعنى لم يكن ولا يكون في نظام الوجود ما يستقلّ بالعلّية والتأثير إلاّ ذات واجب الوجود - علت قدرته - وغيره تعالى من سكّان بقعة الإمكان ليس له هذا الشأن؛ لكونهم

ص: 40

فقراء إلى الله )وَالله هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ((1) ولعلّ في توصيف الغنيّ بالحميد في المقام في القرآن الكريم إشارة لطيفة إلى ما أشرنا سابقاً(2) من أنّ المحامد كلّها من مختصّات ذات الواجب الغنيّ الذي بغناه الذاتي أعطى كمال كلّ ذي كمال وجمال كلّ ذي جمال. فمبادي المحامد والمدائح منه وإليه ف )هُوَ الْأَوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ((3).

شبهة منافاة الإرادة الأزلية لكون الإنسان مختاراً

ومن الإشكالات(4): أنّ نظام الكيان - بقضّه وقضيضه - تابع إرادة الله تعالى وقضائه، وتنتهي سلسلة الوجود في الغيب والشهود إلى إرادة أزلية واجبة بالذات لا يمكن تخلّف المراد عنها، فيجب صدور ما صدر من العبد بالقضاء السابق الإلهي والإرادة الأزلية، فيكون مضطرّاً في أفعاله في صورة المختار.

وإليه يرجع مغزى قول من يقول(5): إنّ علمه تعالى بالنظام الأتمّ مبدأ له؛ فإنّه تعالى فاعل بالعناية والتجلّي. فنفس تعلّق علمه مبدأ لمعلوماته وهي تابعة لعلمه لا العكس، كما في العلوم الانفعالية، بل العلم والإرادة والقدرة فيه - تعالى شأنه - متحقّقات بحقيقة واحدة بسيطة، والوجود الصرف صرف

ص: 41


1- فاطر (35): 15.
2- تقدّم في الصفحة 26.
3- الحديد (57): 3.
4- راجع المطالب العالية 9: 58؛ شرح المواقف 8: 174؛ القبسات: 471 - 472؛ الحكمة المتعالية 6: 384 - 389.
5- راجع الشفاء، الإلهيات: 414؛ القبسات: 416؛ الحكمة المتعالية 7: 55.

كلّ كمال. وليست القدرة فيه تعالى كقدرة الإنسان تستوي نسبتها إلى الفعل والترك؛ لأنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، واستواء النسبة جهة إمكانية يستحيل تحقّقها في ذاته البسيطة الواجبة، بل قدرتها أحدية التعلّق كإرادته، وهما عين علمه بالنظام الأتمّ، فالنظام الكياني تابع لعلمه العنائي.

وبما قرّرنا يدفع ما قد يقال(1): إنّ العلم تابع للمعلوم ولا يمكن أن يكون علّة له؛ فإنّ ذلك شأن العلوم الانفعالية، لا مثل علمه تعالى الذي هو فعلي وفعل محض.

والتحقيق في الجواب عن الشبهة، ما أسلفناه في تحقيق الأمر بين الأمرين(2) ونزيدك بياناً: أنّ علمه وإرادته تعلّقا بالنظام الكوني على الترتيب العلّي والمعلولي، ولم يتعلّقا بالعلّة في عرض معلوله وبالمعلول بلا وسط حتّى يقال: إنّ الفاعل مضطرّ في فعله. فأوّل ما خلق الله تعالى هو حقيقة بسيطة روحانية بوحدتها كلّ كمال وجمال وجفّ القلم بما هو كائن، وتمّ القضاء الإلهي بوجوده، ومع ذلك لمّا كان نظام الوجود فانياً في ذاته ذاتاً وصفةً وفعلاً، يكون كلّ يوم هو في شأن.

فحقيقة العقل المجرّد والروحانية البسيطة المعبّر عنها بنور نبيّنا صلی الله علیه و آله وسلم (3)

ص: 42


1- شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبدالجبّار: 295 و347؛ المطالب العالية 9: 64؛ وراجع نقد المحصّل: 328؛ القبسات: 471؛ الحكمة المتعالية 6: 384.
2- تقدّم في الصفحة 20.
3- راجع عوالي اللآلي 4: 99 / 140؛ بحار الأنوار 15: 28 / 48، و54: 199 / 145.

والملك الروحاني(1) صادر منه تعالى بلا وسط وهي بما أ نّها صرف التعلّق

والربط ببارئه - تعالى شأنه - تعلّقاً لا يشبه التعلّقات المتصوّرة وربطاً لا

يماثل الروابط المعقولة يكون ما صدر منها صدر منه تعالى بنسبة واحدة؛ لعدم بينونة عزلة بينه تعالى وبين شيء؛ لكونه تعالى صرف الوجود من غير ماهية وهي مناط بينونة عزلة، وسائر الموجودات والعلل المعانقة لها لم تكن مع معاليلها بهذه المثابة، فالحقيقة العقلية ظهور مشيّته وإرادته كما أنّ الطبيعة يد الله المبسوطة: «خمّرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً»(2). فمن عرف كيفية ربط الموجودات على ترتيب سببي ومسبّبي إليه تعالى، يعرف أ نّها مع كونها ظهوره تعالى تكون ذات آثار خاصّة، فيكون الإنسان مع كونه فاعلاً مختاراً ظلّ الفاعل المختار وفاعليته ظلّ فاعليته تعالى )وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله((3).

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ تعلّق إرادته تعالى بالنظام الأتمّ لا ينافي كون الإنسان فاعلاً مختاراً، كما أنّ كون علمه العنائي منشأً للنظام الكياني لا ينافيه بل يؤكّده، هذا.

ص: 43


1- راجع الكافي 1: 21 / 14؛ بحار الأنوار 1: 109 / 7.
2- مرصاد العباد: 65؛ عوالي اللآلي 4: 98 / 138.
3- الإنسان (76): 30؛ التكوير ((81)): 29.

المطلب الثاني في بيان حقيقة السعادة والشقاوة وتوضيح بعض الاشتباهات الواقعة من بعض المحقّقين

ويتمّ ذلك برسم اُمور:

الأمر الأوّل: في المراد من الذاتي في قاعدة «الذاتي لا يعلّل»

إنّ الذاتي الذي يقال: إنّه لا يعلّل(1) هو ما اصطلح عليه في باب البرهان وهو أعمّ من الذاتي في باب إيساغوجي؛ لشموله أجزاء الماهية ولوازمها، وفي مقابله العرضي في ذلك الباب وهو أخصّ من عرضي باب إيساغوجي؛ لاختصاصه بالمفارقات(2).

وسرّ عدم معلّلية الذاتي ومعلّلية العرضي: أنّ مناط الافتقار إلى العلّة هو

ص: 44


1- راجع المباحث المشرقية 1: 55؛ الحكمة المتعالية 1: 398؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 177.
2- راجع الجوهر النضيد: 15 و209؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 177 - 180.

الإمكان، كما أنّ مناط الاستغناء عنها هو الوجوب، فأيّ محمول يلاحظ ويقاس إلى موضوعه فلايخلو من إحدى الجهات الثلاث: الإمكان والوجوب والامتناع.

فإن كانت نسبته إليه بالإمكان ففي اتّصافه به يحتاج إلى العلّة؛ لأنّ ما يمكن أن يتّصف بشيء وأن لا يتّصف لا يمكن أن يتّصف به بلا علّة؛ للزوم الترجيح (الترجّح - خ. ل) بلا مرجّح، وهو يرجع إلى اجتماع النقيضين. فالإنسان لمّا كان ممكن الوجود واجب الحيوانية ممتنع الحجرية، يكون في وجوده مفتقراً إلى العلّة دون حيوانيته وحجريته؛ لتحقّق مناط الافتقار في الأوّل ومناط الاستغناء وهو الوجوب في الأخيرين إن أرجعنا الامتناع إلى الوجوب، وإلاّ فالامتناع أيضاً مناط عدم المجعولية بذاته. والأربعة ممكنة الوجود واجبة الزوجية واللا فردية ممتنعة الفردية، فتعلّل في الأوّل دون الأخيرتين. والجسم ممكن الوجود والأبيضية والأسودية، فيعلّل فيها وهكذا.

ثمّ إنّ عدم معلّلية الممكن في ذاته ولوازمها لا يخرجه عن الإمكان؛ لأنّ الماهية ولوازمها اعتبارية لا حقيقة لها فهي بلوازمها دون الجعل ولا يمكن تعلّق الجعل بالذات بها كما هو المقرّر في محلّه(1).

الأمر الثاني: في فقر وجود الممكنات وعوارضه ولوازمه

إنّ الوجود وعوارضه ولوازمه ليست ذاتية لشيء من الماهيات الإمكانية وإلاّ لانقلب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات واللا مقتضي بالذات إلى

ص: 45


1- راجع الحكمة المتعالية 1: 38 و421؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 64 و221.

المقتضي بالذات. فالماهيات الإمكانية في اتّصافها بالوجود وعوارضه مفتقرة إلى العلّة. كما أنّ في مراتب الوجود ما كان مستغنياً عن العلّة هو الوجود القيّوم بالذات - تعالى شأنه - وسائر الوجودات مفتقرة إليه تعالى بل نفس الفقر والربط إليه بلا وسط أو معه.

فالماهيات الإمكانية في موجوديتها تحتاج إلى حيثية تعليلية وتقييدية؛ لأنّها مجعولة وموجودة بالعرض، والوجودات الإمكانية مستغنية عن التقييدية دون التعليلية؛ لأنّها مجعولات بالذات لا بالعرض ومفتقرات إلى العلّة بذاتها، فنفس ذاتها معلّلة مفتقرة وذاتيتها (ذاتيها - خ. ل) الافتقار

والتعلّق.

فلم يكن شيء متّصفاً بالوجود في نظام التحقّق وكيان التقرّر بلا جهة تعليلية إلاّ الواجب - تعالى شأنه - فالواجب تعالى ذاته الوجوب والوجود، فلم يكن مفتقراً ولا معلّلاً بوجه، والوجودات الإمكانية ذاتها التعلّق والافتقار فلم تكن معلّلة في افتقارها بأن يكون افتقارها لأجل شيء آخر وراء ذاتها. فهي معلّلة بالذات غير معلّلة في المعلّلية، والماهيات غير معلّلة في ذاتها وذاتياتها معلّلة في تحقّقها، ولوازم الماهيات غير معلّلة في لزومها معلّلة في تحقّقها، ولوازم الوجود معلّلة في تحقّقها، فالمعلول بالذات لازم ذات العلّة التامّة بالذات لزوماً بالعلّية والتأثير، فلزوم المعلول لعلّته عين معلوليته ومعلّليته ولم تكن معلّلة في

هذه بمعلّلية اُخرى غير ذاتها.

ص: 46

الأمر الثالث: في استناد الكمالات إلى الوجود

إنّ الماهيات الإمكانية بما أ نّها اُمور اعتبارية لا حقيقة لها، لم تكن ذات أثر واقتضاء بالذات، ولزوم اللوازم لها ليس بمعنى اقتضائها لها، بل بمعنى عدم انفكاكها عنها من غير تأثير وتأثّر. كيف؟! وما ليس بموجود لم يثبت له ذاته وذاتياته فضلاً عن ثبوت اقتضاء وتأثير وتأثّر له ممّا هو من الحيثيات الوجودية، فالماهيات خلوٌ عن كلّ كمال وجمال وخير وسعادة.

فماهية العلم لا تكشف عن الواقع ولم تكن كمالاً، وكذا ماهيات القدرة والحياة وغيرها. وإنّما الكمال والخير والجمال والسعادة كلّها في الوجود وبالوجود، وهو مبدأ كلّ خير وكمال وشرف، والعلم بوجوده شرف وشريف. وكذا سائر الكمالات والفضائل كلّها ترجع إلى الوجود ومبدأ الوجود، وصرفه مبدأ كلّ كمال وصرفه، والوجودات الخاصّة الإمكانية لها آثار وخواصّ وكمال وشرف بقدر حظّها من الوجود، ولماهياتها آثار وخواصّ وكمال بالعرض وبتبع وجوداتها وهذه المذكورات من الاُصول المبرهنة تركنا براهينها حذراً من التطويل.

الأمر الرابع: في معنى السعادة والشقاوة

السعادة لدى العرف والعقلاء عبارة عن جمع (جميع - خ. ل) موجبات اللذّة والراحة وحصول وسائل الشهوات والأميال وتحقّق ملائمات النفس بقواها دائماً أو غالباً، والشقاوة في مقابلها. فمن حصل له موجبات لذّات النفس وكان

ص: 47

في روح وراحة بحسب جميع قوى النفس دائماً يكون سعيداً مطلقاً، وبإزائه الشقيّ المطلق، وإلاّ فسعيد وشقيّ بالإضافة.

ولمّا كان في نظر المؤمنين بعالم الآخرة لذّات الدنيا بحذافيرها ومشتهياتها

بأجمعها بالقياس إلى لذّات الآخرة والجنّة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين دائماً أبداً، تكون شيئاً حقيراً ضعيفاً (طفيفاً - خ. ل) كيفية وكمّية، بل في

الحقيقة لا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي، تكون السعادة لديهم ما يوجب دخول الجنّة، والشقاوة ما يوجب دخول النار )فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ((1) فمن ختم له بالخير وقدّر له الجنّة فهو سعيد ولو كان في الدنيا في تعب ومرض وشدّة وفقر وفاقة، ومن ختم له - والعياذ بالله - بالشرّ وقدّر له النار فهو شقيّ ولو كان

في الدنيا في عيش ولذّة وروح وراحة؛ لعدم النسبة بين لذّات الدنيا والآخرة وعذابهما شدّة وعدّة ومدّة.

وقد تطلق السعادة لدى طائفة على الخير المساوق للوجود(2)، فالوجود خير وسعادة. وتفاوت مراتب السعادات حسب تفاوت كمال الوجود، فالخير المطلق سعادة مطلقة والموجود الكامل سعيد على الإطلاق، وفي مقابله الناقص حسب مراتب نقصه.

ص: 48


1- هود (11): 106 - 108.
2- التحصيل: 832؛ الحكمة المتعالية 9: 121.

ثمّ إنّ السعادة والشقاوة بالمعنى المتقدّم أمران يحصلان للإنسان حسب عمله وكسبه )فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى((1).

التحقيق: كون السعادة والشقاوة غير ذاتيتين

إذا عرفت ما تلوناه عليك: اتّضح لك أنّ السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين غير

معلّلتين؛ لعدم كونهما جزء ذات الإنسان ولا لازم ماهيته، بل هما من الاُمور الوجودية التي تكون معلّلة بل مكسوبة باختيار العبد وإرادته. فمبدأ السعادة هو العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ومبدأ الشقاوة مقابلاتها ممّا يكون لها في النفس آثار وصور، ويرى جزاءها وصورها الغيبية في عالم الآخرة على ما هو المقرّر في لسان الشرع والكتب العقلية المعدّة لتفاصيل ذلك(2).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ السعادة والشقاوة لمّا كانتا منتزعتين من الحيثيات الوجودية وهي كما عرفت معلّلة كلّها، لا سبيل إلى القول بأ نّها من الذاتيات الغير المعلّلة، والمحقّق الخراساني رحمه الله علیه قد أخذ هذه القضيّة من محالّها واستعملها في غير محلّها فصار غرضاً للإشكال(3).

ص: 49


1- النازعات (79): 37 - 41.
2- راجع الحكمة المتعالية 9: 225 و290؛ المبدأ والمعاد: 423؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 5: 352 - 358.
3- راجع كفاية الاُصول: 68.

المطلب الثالث في شمّة من اختلاف خلق الطينات

توهّم كون الجبر مقتضى أخبار الطينة

ربّما يتوهّم: أنّ اختلاف خلق طينة السعيد والشقيّ موجب لاختيار السعيد السعادة والشقيّ الشقاوة كما دلّت عليه الأخبار الكثيرة(1)، فعادت شبهة الجبر.

فلا بأس لدفعه بصرف عنان القلم إلى توضيح ذلك بعد بيان مقدّمة وهي:

موضوع حكم العقلاء في صحّة العقوبة وعدمها

إنّه لا إشكال في أنّ موضوع حكم العقلاء كافّة - من أيّة ملّة ونحلة - في صحّة العقوبة هو المخالفة الاختيارية للقوانين شرعية كانت أو سياسية (أو - خ. ل) مدنية من أرباب السياسات، بعد صحّة التكليف بحصول مقدّماته وشرائطه من العقل والتميّز (التمييز - خ. ل) بين الحَسَن والقبيح ووصول

ص: 50


1- الكافي 1: 152، باب السعادة والشقاوة؛ و2: 1، باب طينة المؤمن والكافر؛ بحار الأنوار 64: 77 - 130.

التكليف إلى المكلّف. فالعقل المميّز بين الإنسان والحيوان شرّفه بالتكليف وبه يعاقب ويثاب؛ لأنّه بالعقل يحكم بوجوب طاعة مولى الموالي وقبح مخالفته، وبه يعرف المولى وحقّه ودار الثواب والعقاب. فإذا خالفه باختياره وإرادته من غير اضطرار وإلجاء، يحكم عقله وعقل كافّة العقلاء بصحّة عقوبته، كما أنّ الأمر كذلك في مخالفة القوانين الجارية في الممالك المتمدّنة. فما هو الملاك في صحّة العقوبة فيها هو الملاك في صحّة العقوبة على مخالفة مولى الموالي. فلا بدّ للناظر في كيفية اختلاف طينة أفراد الإنسان والأخبار الواردة فيه من كون ما ذكر - من ملاك صحّة العقوبة في كلّ ملّة ونحلة - نصب عينيه، فإن اختلّ بواسطة خلق الإنسان من طينة علّيين وسجّين، أحد أركان موضوع حكم العقلاء بصحّة العقوبة، حكم بعدم صحّتها وإلاّ فحكم العقل والعقلاء بحاله.

إفاضة الفيض الوجودي بمقدار قابلية الموادّ

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ واجب الوجود بالذات لمّا كان واجباً من جميع الجهات والحيثيات، يمتنع عليه قبض الفيض عن الموضوع القابل، فإنّ قبضه بعد تمامية الاستعداد وعدم نقص في جانب القابل مستلزم لنقص في الفاعل أو جهة إمكان فيه - تعالى عنه - وهذا اللزوم والوجوب كلزوم عدم صدور القبيح وامتناع صدور الظلم عنه اختياري إرادي لا يضرّ بكونه مريداً مختاراً قادراً، فإذا تمّت الاستعدادات في القوابل اُفيضت الفيوضات والوجودات من المبادي العالية. وإنّما إفاضة الفيض الوجودي بمقدار الاستعداد وقابلية الموادّ؛

ص: 51

للتناسب بين المادّة والصورة للتركيب الطبيعي الاتّحادي بينهما لا يمكن قبولها

صورة ألطف وأكمل من مقتضى استعدادها كما لا يمكن منعها عمّا استعدّت له كما عرفت.

منشأ اختلاف النفوس في الميل إلى الخير أو الشرّ

ثمّ اعلم: أنّ منشأ اختلاف نفوس الإنسان في الحنين إلى الخيرات أو الشرور والميل إلى موجبات السعادة أو الشقاوة اُمور كثيرة نذكر مهمّاتها:

منها: اختلافها في نفسها، ومنشأ اختلافها اختلاف الإفاضة على الموادّ المستعدّة لها، ومنشأ اختلاف الموادّ - أي النطف التي تستعدّ لقبول الصورة الإنسانية - أنّ النطف تحصل من الأغذية الخارجية بعد عمل القوى فيها أعمالها فتفرز القوّة المولّدة من فضول الأغذية أجزاءً لتوليد المثل هي في الحيوان النطفة. ولمّا كانت الأغذية مختلفة غاية الاختلاف في اللطافة والكثافة والصفاء والكدورة، فلا محالة تختلف النطف الحاصلة منها فيها. فإذا حصلت النطفة من أغذية لطيفة صافية يكون لها استعداد خاصّ لقبول الصورة غير ما للموادّ الكثيفة الكدرة أو المختلطة من اللطيفة والكثيفة. ولا يخفى عليك أنّ للاختلاط والتمزيج أنواعاً كثيرة لا يحيط بها إلاّ الله تعالى، وقد عرفت آنفاً أنّ الإفاضات

على الموادّ إنّما هي على مقدار استعداداتها لا تتعدّاها ولا يمكن ذلك كما لا يمكن قصور الإفاضة عليها (عنها - خ. ل).

ومنها: شموخ الأصلاب وعدمه، وطهارة الأرحام وعدمها؛ فإنّ لهما دخالة كاملة في اختلاف الاستعدادات والإفاضات، وقد أشار (اُشير - خ. ل) إلى ما

ص: 52

ذكر في زيارة سيّدنا أبي عبدالله الحسين - صلوات الله وسلامه عليه - حيث تقول: «أشهدُ أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة»(1) فسمّي النطفة لكمال لطافتها وصفائها نوراً.

ومنها: مراعات آداب النكاح والمقاربة وأوقاتها ومراعات آداب زمان الحمل والرضاع وانتخاب الزوجة والمرضعة إلى غير ذلك ممّا له دخالة كاملة في مزاج بدن الطفل وروحه كما أنّ للمحيط والمربّي والمعلّم والصاحب والمعاشر والعلوم المختلفة إلى غير ذلك ممّا يعسر حصرها ويطول ذكرها تأثيرات عجيبة مشاهدة.

وبالجملة: الإنسان بما أ نّه واقع في دار الهيولى من بدو خلقه بل قبله حسب اختلاف الموادّ السابقة إلى زمان انتقاله من هذه النشأة واقع تحت تأثير الكائنات، لكن كلّ ذلك لا يوجب اضطراره وإلجاءه في عمل من أعماله الاختيارية بحيث تعدّ حركاته لدى العقل والعقلاء كحركة المرتعش خارجة عن قدرته واختياره ويكون في أعماله غير مؤاخذ عند العقلاء. فمن حصل له جميع أسباب التوفيق من لطافة المادّة وشموخ الأصلاب وطهارة الأرحام إلى آخر ما عدّدناه وغيرها ممّا لم نحصها مع مَن حصل له مقابلاتها في قوّة العقل والتميّز (التمييز - خ. ل) والاختيار والإرادة وما هو دخيل في صحّة العقوبة لدى العقل والعقلاء على السواء، لا ذلك مضطرّ وملجأ في فعال الخير، ولا ذاك في فعال الشرّ بالضرورة والعيان. فما هو موضوع حكم العقلاء في جميع الأعصار

ص: 53


1- تهذيب الأحكام 6: 114 / 201؛ مصباح المتهجّد: 549؛ بحار الأنوار 98: 200 / 32.

والأمصار في صحّة العقوبة من صدور الفعل عن علمه وإرادته واختياره بلا اضطرار وجهل وإلجاء، حاصل في كليهما بلا تفاوت في ذلك، فباختلاف الطينات لا يختلّ ركن من أركان صحّة العقوبة. وأخبار الطينة(1) على كثرتها تحوم حول هذه الحقائق أو ما يقرب منها ممّا لا يضرّ بما هو موضوع حكم العقل الصريح وكافّة العقلاء، وما يكون ظاهره الجبر لا بدّ من تأويله أو حمله على التقيّة بعد مخالفته لصريح البرهان وصراح الحقّ والأخبار المتظافرة الناصّة على نفي الجبر والتفويض(2)، بل لا يبعد أن يكون الأمر بين الأمرين من الضروريات من مذهب الأئمّة علیهم السلام الغير المحتاجة إلى البرهان.

تنبيه: حول مفاد بعض الأحاديث

وممّا ذكرنا ظهر مغزى قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(3) فإنّه كناية عن اختلاف نفوس البشر في جواهرها (جوهرها - خ. ل) صفاءً وكدورة كاختلاف المعادن في الصور النوعية والخاصّية.

وكذا قوله - صلوات الله وسلامه عليه-: «السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(4)، فإنّ من ينتهي أمره إلى الراحة الدائمة الغير المتناهية

ص: 54


1- الكافي 1: 152، باب السعادة والشقاوة، و2: 1، باب طينة المؤمن والكافر؛ بحار الأنوار 64: 77 - 130.
2- الكافي 1: 155؛ التوحيد، الصدوق: 359.
3- الكافي 8: 177 / 197؛ كنز العمّال 10: 149 / 28761.
4- التوحيد، الصدوق: 356 / 3؛ بحار الأنوار 5: 157 / 10؛ كنز العمّال 1: 107 / 491.

واللذّات الغير المنقطعة والعطاء الغير المجذوذ، فهو سعيد من أوّل أمره وإن كان في أيّام قلائل - لا نسبة بينها وبين الغير المتناهي - في تعب وشدّة، وكذا في جانب الشقاوة.

ويمكن أن يكون المراد منه ما نبّهنا عليه من اختلاف النفوس في بدو النشو؛ فإنّ النفس المفاضة على المادّة اللطيفة لطيفة نورانية تكون ممّن تحنّ إلى الخيرات وموجبات السعادة، فهي سعيدة خيّرة، وعكس ذلك ما يفاض على المادّة الكثيفة. وقد عرفت أنّ هذا الحنين والميل لا يخرج النفوس عن الاختيار والإرادة.

ولا ينافي ما ذكرناه ما عن «التوحيد» للشيخ الصدوق رحمه الله علیه بسنده عن محمّد بن أبي عمير، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفرI عن معنى قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «الشقيّ من شقي في بطن اُمّه والسعيد من سعد في بطن اُمّه». فقال: «الشقيّ من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل عمل الأشقياء، وا لسعيد من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل أعمال السعداء». قلت له: فما معنى قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» فقال: «إنّ الله - عزّ وجلّ - خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله - عزّ وجلّ -: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ((1) فيسّر كلاًّ لما خلق له. فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى»(2).

فإنّ من علم الله أ نّه سيعمل عمل الأشقياء هو الذي ينتهي أمره إلى الشرّ وإلى

ص: 55


1- الذاريات (51): 56.
2- التوحيد، الصدوق: 356 / 3.

النار وهو الذي تكوّن طينته من السجّين والنطفة التي كانت مبدأه القابلي نطفة خبيثة صلبة كدرة، وكذا في جانب السعادة. ولا ينافيان الاختيار والإرادة كما أشار إليه في ذيل الحديث الشريف.

خاتمة: حول فطرة العشق إلى الكمال والتنفّر عن النقص

اعلم: أنّ الله تعالى وإن أفاض على الموادّ القابلة ما هو اللائق بحالها من غير ضنّة وبخل - والعياذ بالله- ولكنّه تعالى فطر النفوس سعيدها وشقيّها، خيّرها وشريرها على فطرة الله؛ أي العشق بالكمال المطلق، فجبلت النفوس بقضّها وقضيضها إلى الحنين إلى كمال لا نقص فيه وخير لا شرّ فيه ونور لا ظلمة فيه وإلى علم لا جهل فيه وقدرة لا عجز فيها.

وبالجملة: الإنسان بفطرته عاشق الكمال المطلق، وتبع هذه الفطرة فطرة اُخرى فيها هي فطرة الانزجار عن النقص؛ أيّ نقص كان.

ومعلوم: أنّ الكمال المطلق والجمال الصرف والعلم والقدرة وسائر الكمالات على نحو الإطلاق بلا شوب نقص وحدّ، لا توجد إلاّ في الله تعالى، فهو هو المطلق وصرف الوجود وصرف كلّ كمال، فالإنسان عاشق جمال الله تعالى ويحنّ إليه وإن كان من الغافلين.

وفي الروايات فسّرت الفطرة بفطرة المعرفة وفطرة التوحيد(1) )أَلاَ بِذِكْرِ الله

ص: 56


1- راجع الكافي 2: 12، باب فطرة الخلق على التوحيد؛ التوحيد، الصدوق: 328، الباب 53.

تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ((1) وإليه المرجع والمآب والمصير وهو تعالى غاية الغايات

ونهاية المآرب، فهو تعالى بلطفه وعنايته فطر الناس على هاتين الفطرتين: الفطرة الأصلية هي فطرة العشق بالكمال المطلق، والفطرة التبعية هي فطرة الانزجار عن النقص؛ لتكونا براق سيره ورفرف معراجه إلى الله تعالى، وهما جناحان بهما يطير إلى وكره وهو فناء الله وجنابه.

وقد فصّلنا أحكام الفطرة في بعض الرسائل والكتب(2) سيّما ما كتبنا سابقاً في «شرح حديث جنود العقل والجهل»(3) ولقد جفّ قلمي في خلال شرحه ولم يشملني إلى الآن التوفيق منه تعالى لإتمامه وابتلاني الله تعالى وله الحمد والشكر بالدخول في أحكام الكثرة وإليه المشتكى وعليه المعوّل.

ثمّ إنّ الله تعالى لم يترك الإنسان بفطرته؛ لعلمه تعالى بأ نّه سيحجب عن الفطرة المخمورة بابتلائه بالقوى الحيوانية الشهوية والغضبية والقوّة الوهمية الشيطانية، وهذه القوى معه منذ فطره؛ لاحتياجه إليها في عيشه وبقاءه شخصاً ونوعاً، وفي رقاه وسيره وسلوكه إلى الله تعالى، لكنّ الحنين الجبلّي إليها حجبه عن فطرته ومنعه عن سيره، فبعث الله تعالى رسلاً مبشّرين ومنذرين

ص: 57


1- الرعد (13): 28.
2- راجع شرح چهل حديث، امام خميني قدّس سرّه ، الحديث الحادي عشر؛ و آداب الصلوة، مقاله دوم، مقصد اول، فصل دوم: «در اشاره به مراتب طهور است» ومقصد پنجم، فصل دوم: «در بعضى از آداب قلبيه استقبال است».
3- راجع شرح حديث جنود عقل وجهل، مقاله ششم، مقصد اول: «در بيان خير و شر»، و مقصد دوم، فصل چهارم: «در بيان آنكه ايمان بر طبق فطرت است و كفر خارج از طريقه فطرت است».

تكون أحكامهم على طبق مقتضى الفطرة لرفع الحجب عنها وإعانتها في سيره وسلوكه.

فأحكامهم: إمّا على مقتضى الفطرة الأصلية ابتداءً أو مع الواسطة كالدعوة إلى الله ومعارفه وأسماءه وصفاته، وإلى فضائل النفس وكمالاتها وكالصلاة التي هي معراج المؤمن إلى الله تعالى والحجّ الذي هو الوفود إليه تعالى وأشباهها.

أو مقتضى الفطرة التابعة كالزجر عن الكفر والشرك وعبادة الأوثان والتوجّه إلى غيره وعن الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة ممّا تمنع النفس عن الوصول إلى الله والأمر بالتقوى والصوم الذي هو تقوى النفس ويكون لله وهو جزاؤه.

وبالجملة: جلّ أحكام الله تعالى مطابق لمقتضى الفطرة؛ أي مربوط برفع حجبها وإحياء مقتضاها. والمقصود الأصلي والمقصد الأسنى هو المعرفة والوصول إلى باب الله تعالى، كلّ ذلك من عناياته تعالى على عباده؛ لتخلّصهم عن سجن الطبيعة وإرجاعهم إلى مأوى المقرّبين ومقرّ المخلصين. فالتكاليف ألطاف إلهية وأدوية ربّانية لعلاج الأرواح المريضة والقلوب العليلة، والأنبياء علیهم السلام أطبّاء النفوس ومربّي الأرواح ومخرجها من الظلمات إلى النور ومن النقص إلى الكمال.

بل البرازخ والمواقف في القيامة من عنايات الله تعالى على العباد؛ لئلاّ ينتهي أمرهم إلى النار. فلا يزال يخرجهم من مستشفىً إلى آخر؛ لشفاء

ص: 58

عللهم الروحية. فإن لم تشف بتلك الأدوية فآخر الدواء الكيّ، فلا بدّ من دخول

النار - والعياذ بالله - للتصفية مع الإمكان، وإلاّ فللقرار فيها. فالنار بالنسبة إلى أهل العصيان من المؤمنين لطف وعناية وطريق إلى جوار الله، وبالنسبة إلى الكفّار وأصحاب النار جزاء وغاية، فهم أصحاب النار ومأويهم النار وهم ناريّون لهَبيّون مصيرهم النار )وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ...((1) الآية.

هذا بعض الكلام في مسألة الجبر والقدر حسبما يناسب المقام.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

وقد وقع الفراغ عن تبييضه يوم الخميس

لخمس بقين من شهر الله المبارك سنة 1371 في مدينة همدان.

ص: 59


1- الأعراف (7): 179.

ص: 60

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 61

ص: 62

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

الفاتحة (1)

(بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) 1 27

(الْحَمْدُ لله) 2 27

(الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) 2 26

النساء (4)

(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ الله) 78 23

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله) 79 25

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا

أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) 79 27

المائدة (5)

(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ

يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) 64 22

ص: 63

الآية رقمها الصفحة

الأعراف (7)

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ

وَالاْءِنْسِ) 179 59

الأنفال (8)

(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى) 17 20، 25

(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا

الْمَلاَئِكَةُ) 50 26

هود (11)

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا

زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا

دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ

رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا

الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ

فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ

مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) 106 - 108 48

الرعد (13)

(أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) 28 56

إبراهيم (14)

(وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ) 27 26

ص: 64

الآية رقمها الصفحة

طه (20)

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) 79 26

(وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ) 85 26

الحجّ (22)

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَنْ

يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ

يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنقِذُوهُ

مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا

قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ

عَزِيزٌ) 73 - 74 17

النور (24)

(الله نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ) 35 24

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ

مِنْ نُورٍ) 40 24

الشعراء (26)

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ

لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) 193 - 194 4

القصص (28)

(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) 15 26

ص: 65

الآية رقمها الصفحة

السجدة (32)

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ

بِكُمْ) 11 25

فاطر (35)

(وَالله هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ) 15 41

الزمر (39)

(الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) 42 25

الذاريات (51)

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاَّ

لِيَعْبُدُونِ) 56 55

النجم (53)

(إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ

شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *

وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى

* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *

فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا

كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) 4 - 11 4

ص: 66

الآية رقمها الصفحة

الواقعة (56)

(إِنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ

مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) 77 - 79 4، 26

الحديد (57)

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ

وَهُوَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ) 3 41

الإنسان (76)

(وَمَا تَشَآؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ الله) 30 21، 25، 43

النازعات (79)

(فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَوةَ

الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْ وَى *

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ

عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى) 37 - 41 49

التكوير (81)

(وَمَا تَشاؤونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله) 29 21، 25، 43

ص: 67

ص: 68

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

أشهدُ أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة 53

اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له 55

إنّ الله - عزّ وجلّ - خلق الجنّ والإنس ليعبدوه 55

خمّرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً 43

السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه 54

الشقيّ من شقي في بطن اُمّه والسعيد من سعد في بطن اُمّه 55

الشقيّ من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل عمل الأشقياء 55

قال الله: يابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء 27

كُنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن اُعرف فخلقتُ الخلقَ لِكي اُعرف 11

من زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله 28

من زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله عن سلطانه 28

الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة 54

والسعيد من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل أعمال السعداء 55

ص: 69

ص: 70

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

رسول الله، نبيّنا، محمّد صلی الله علیه و آله وسلم = محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام 1، 4، 21، 25، 42، 55

أبو عبدالله الحسين علیه السلام= الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث

الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث 53

أبو عبدالله علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 28

أبو الحسن موسى بن جعفر علیه السلام = موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع

موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع 55

أبو الحسن الرضا علیه السلام = علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن

علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن 21، 27

آدم 43

خضر، النبي 25

موسى، نبي اليهود 3، 4، 25

ص: 71

ص: 72

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 12، 13، 31، 49

ابن أبي عمير، محمّد 55

ابن بابويه، محمّد بن علي 21، 55

أبو بصير 28

أحمد بن محمّد بن أبي نصر= البزنطي، أحمد بن محمّد

البزنطي، أحمد بن محمّد 27

الحائري، عبدالكريم 32

الخراساني= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

الداماد، مير محمّد= الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد

شيخنا العلاّمة= الحائري، عبدالكريم

الصدوق= ابن بابويه، محمّد بن علي

العلاّمة الحائري= الحائري، عبدالكريم

الكليني، محمّد بن يعقوب 27

محمّد بن أبي عمير= ابن أبي عمير، محمّد

محمّد بن يحيى العطّار 27

ص: 73

محمّد بن يحيى= محمّد بن يحيى العطّار

الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد 27، 29، 31

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 4، 26، 41

الأربعين للإمام الخميني(سلام الله عليه) 28

الإيقاظات (الإيقاضات) 27

التوحيد للصدوق 55

شرح حديث جنود العقل والجهل للإمام الخميني (سلام الله عليه) 57

العيون= عيون أخبار الرضا علیه السلام

عيون أخبار الرضا علیه السلام 21

الكافي 27

ص: 74

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - آداب الصلاة، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

2 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

3 - الأربعون حديثاً. أبو الفضائل محمّد بن الشيخ حسين الجبعي العاملي المعروف ب«الشيخ البهائي» (953 - 1031)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415 ق.

4 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين. جمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّي (م 826)، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

5 - الإشارات والتنبيهات، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

«ب»

6 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار. العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110)، الطبعة الثانية، إعداد عدّة من العلماء، 110 مجلدٍ (إلاّ

ص: 75

6 مجلّدات، من المجلّد 29 - 34) + المدخل، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403 ق / 1983 م.

7 - بدائع الأفكار في الاُصول (تقريرات المحقّق العراقي). الشيخ هاشم الآملي (1282 - 1371 ش)، الطبعة الاُولى، النجف الأشرف، 1370 ق.

«ت»

8 - التحصيل. بهمنيار بن المرزبان (م 458)، تعليق و تصحيح استاد شهيد مرتضى مطهري، چاپ دوم، تهران، مؤسسه انتشارات دانشگاه تهران، 1375 ش.

9 - التوحيد. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1398 ق.

10 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

«ج»

11 - جامع الأسرار ومنبع الأنوار. سيّد حيدر الآملي (م القرن الثامن)، تحقيق هنري كربن، الطبعة الثانية، طهران، انتشارات علمى و فرهنگى، 1368 ش.

12 - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر (648 - 726)، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق.

«ح»

13 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م. 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«د»

14 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة، جزءان

ص: 76

في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

«ر»

15 - الرواشح السماوية في شرح أحاديث الإمامية. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف ب «الميرداماد» (م 1041)، تحقيق غلامحسين قيصريه ها ونعمة الله الجليلي، الطبعة الاُولى، قم، دار الحديث للطباعة والنشر،

1422 ق / 1380 ش.

«ش»

16 - شرح الاُصول الخمسة. القاضي أبو الحسن عبد الجبّار الأسدآبادي (م 415)، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، الطبعة الاُولى، بيروت، انتشارات دار الإحياء التراث العربي، 1422 ق / 2001 م.

17 - شرح المقاصد. مسعود بن عمر بن عبدالله المعروف ب «سعد الدين التفتازاني» (712 - 793)، تحقيق عبد الرحمان عميرة، الطبعة الاُولى، 5 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1370 - 1371 ش.

18 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

19 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812)، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

20 - شرح توحيد الصدوق. القاضي سعيد محمّد بن محمّد مفيد القمّي (1049 - 1107)، تصحيح الدكتور نجفقلي حبيبي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، طهران، مؤسّسة الطباعة والنشر، 1405 ق.

ص: 77

21 - شرح چهل حديث (أربعين حديث)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة

الإمام الخميني قدّس سرّه .

22 - شرح حديث جنود عقل و جهل، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

23 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، تحقيق عدّة من الأساتذة، 10 مجلّداً (الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

«ع»

24 - علم اليقين في اُصول الدين. محمّد محسن الملقّب بالفيض الكاشاني (م 1091)، مجلّدان، قم، انتشارات بيدار، 1358 ش / 1400 ق.

25 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية. محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403 ق.

26 - عيون أخبار الرضا علیه السلام . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح السيّد مهديّ الحسيني اللاجوردي، الطبعة الثانية، منشورات جهان.

«ف»

27 - الفتوحات المكية. أبو عبدالله محمّد بن علي الحاتمي الطائي المعروف بابن العربي (560 - 638)، 4 مجلّدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

28 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404 ق.

«ق»

29 - القبسات. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف

ص: 78

ب-«الميرداماد» (م 1041)، تحقيق الدكتور مهديّ المحقّق، الطبعة الثانية، طهران،

انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1374 ش.

«ك»

30 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

31 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

32 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

33 - كلمات مكنونة من علوم أهل الحكمة والمعرفة. محمّد محسن الملقّب بالفيض الكاشاني (م 1091)، تصحيح عزيزالله العطاردي، الطبعة الثانية، طهران، انتشارات فراهاني، 1360 ش.

34 - كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال. علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (888 - 975)، إعداد بكري حيّاني وصفوة السقا، الطبعة الثالثة، 16 مجلّداً + الفهرس، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409 ق / 1989 م.

«گ»

35 - گوهر مراد. ملاّ عبدالرزاق فيّاض لاهيجي (م 1072)، الطبعة الاُولى، طهران، سازمان چاپ و انتشارات وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامى، 1372 ش.

«م»

36 - المباحث المشرقية. الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي (م 606)، الطبعة الثانية، قم، مكتبة بيدار، 1411 ق.

37 - المبدأ والمعاد. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، تصحيح السيّد

ص: 79

جلال الدين الآشتياني، طهران، انجمن فلسفه ايران، 1354 ش.

38 - محاضرات في اُصول الفقه (تقريرات المحقّق السيّد الخوئي). محمّد إسحاق الفيّاض، الطبعة الثالثة، 5 مجلّدات ، قم، دار الهادي للمطبوعات، 1410 ق.

39 - المحصول في علم اُصول الفقه. فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606)، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوض، الطبعة الثانية، 4 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

40 - مرصاد العباد من المبدء إلى المعاد. نجم الدين أبو بكر بن محمّد بن شاهاور بن انوشروان رازي معروف به دايه (م 654)، به اهتمام دكتر محمّد امين رياحى، چاپ دوم، طهران، شركت انتشارات علمى و فرهنگى، 1365 ش.

41 - مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، الطبعة الاُولى، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، 1418 ق / 1998 م.

42 - مصنّفات ميرداماد. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف ب- «الميرداماد» (م 1041)، تحقيق عبدالله نوراني، چاپ اول، 2 جلد، طهران، انجمن آثار و مفاخر فرهنگى، 1381 ش.

43 - المطالب العاليه من العلم الإلهي. محمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي (544 - 606)، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقّا، الطبعة الاُولى، 9 أجزاء في 5 مجلّدات، بيروت، دار الكتب العربي، 1407 ق / 1987 م.

44 - المغني في أبواب التوحيد والعدل. القاضي أبو الحسن عبد الجبّار الأسدآبادي (م 415)، إشراف الدكتور طه حسين، الطبعة الاُولى، 20 جزءاً عثر منها حتّى الآن على أربعة عشر جزءاً وطبعت.

45 - الملل والنحل. أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (479 - 548)، تخريج محمّد بن فتح الله بدران، الطبعة الثانية، جزءان في مجلّد واحد، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، 1375 ق / 1956 م.

ص: 80

46 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

47 - نقد المحصّل (تلخيص المحصّل). الخواجه نصير الدين الطوسي (م 672)، الطبعة الثانية، بيروت، دار الأضواء، 1405 ق / 1985 م.

48 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي). الشيخ حسينعلي المنتظري، الطبعة الاُولى، قم، نشر تفكّر، 1415 ق.

49 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

50 - نهج الحقّ وكشف الصدق. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق الشيخ عين الله الحسيني الاُرموي، الطبعة الرابعة، قم، دار الهجرة، 1414 ق.

ص: 81

ص: 82

7 - فهرس الموضوعات

الطلب

والإرادة

المقدّمة ··· 2

المطلب الأوّل: في المهمّ ممّا استدلّ به الأشعري على مطلوبه

منها: الاستدلال بالأوامر الامتحانية على اختلاف الطلب والإرادة ··· 8

منها: الاستدلال بتكليف العصاة على اختلاف الطلب والإرادة ··· 12

فصل: في مسألة الجبر والتفويض ··· 14

فصل: في إبطال مذهبي التفويض والجبر ··· 16

فصل: في بيان المذهب الحقّ ··· 20

تنبيه: في شرك التفويضي وكفر الجبري ··· 21

إرشاد: في استناد الأفعال إلى الله ··· 22

تمثيل ··· 23

تمثيل أقرب ··· 24

تأييدات نقلية ··· 25

فصل: في ذكر بعض الشبهات الواردة وجوابها ··· 29

ص: 83

شبهة عدم إرادية الإرادة الإنسانية ··· 29

تحقيق به يدفع الإشكال ··· 34

تنبيه: في عدم تعلّق الإرادة بالإرادة ··· 36

شبهة استلزام قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» الجبر ··· 36

شبهة منافاة الإرادة الأزلية لكون الإنسان مختاراً ··· 41

المطلب الثاني: في بيان حقيقة السعادة والشقاوة

ويتمّ ذلك برسم اُمور:

الأمر الأوّل: في المراد من الذاتي في قاعدة «الذاتي لا يعلّل» ··· 44

الأمر الثاني: في فقر وجود الممكنات وعوارضه ولوازمه ··· 45

الأمر الثالث: في استناد الكمالات إلى الوجود ··· 47

الأمر الرابع: في معنى السعادة والشقاوة ··· 47

التحقيق: كون السعادة والشقاوة غير ذاتيتين ··· 49

المطلب الثالث: في شمّة من اختلاف خلق الطينات

توهّم كون الجبر مقتضى أخبار الطينة ··· 50

موضوع حكم العقلاء في صحّة العقوبة وعدمها ··· 50

إفاضة الفيض الوجودي بمقدار قابلية الموادّ ··· 51

منشأ اختلاف النفوس في الميل إلى الخير أو الشرّ ··· 52

تنبيه: حول مفاد بعض الأحاديث ··· 54

خاتمة: حول فطرة العشق إلى الكمال والتنفّر عن النقص ··· 56

ص: 84

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 63

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 69

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 71

4 - فهرس الأعلام ··· 73

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 74

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 75

7 - فهرس الموضوعات ··· 83

ص: 85

الفصل الخامس في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه

اشارة

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أم لا ؟ فيه أقوال.

وتحقيق الحال يستدعي رسم اُمور:

الأمر الأوّل: في اُصولية المسألة

جمع بعض الأعاظم بين كون المسألة اُصولية وأ نّها من المسائل العقلية الغير

المستقلّة - أي يكون البحث فيها عن الملازمات - وبين تعميم الاقتضاء في العنوان إلى كونه على نحو العينية، أو التضمّن، أو الالتزام بالمعنى الأخصّ، أو الأعمّ. وعلّل التعميم بأنّ لكلٍّ وجهاً بل قائلاً(1).

ولا يخفى ما فيه من التهافت لو قلنا بأنّ المسائل اللغوية - كالمشتقّ - خارجة عن الاُصولية؛ لأنّ في الجمع بين الاُصولية والتعميم كذلك تهافتاً؛ لأنّ التعميم لأجل إدخال تمام المذاهب والوجوه في العنوان، والقول بالعينية

ص: 1


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 301.

والتضمّن على بعض الوجوه والآراء يرجع إلى الدلالة اللغوية الوضعية، بل الأمر كذلك مع الدلالة الالتزامية بناءً على المشهور من كونها لفظية(1). نعم، لو قلنا بأنّ كون المسألة لغوية لا ينافي الاُصولية مع اختلاف الجهة المبحوث عنها - كما هو الحقّ - فيدخل المشتقّ وبعض المباحث اللغوية - كدلالة الأمر والنهي - في الاُصولية، لم يرد هذا الإشكال.

وكذا في الجمع بين كون المسألة عقلية وبين ذلك التعميم تهافت؛ لأنّ التعميم لأجل إدخال مذهب القائل بإحدى الدلالات اللفظية.

الأمر الثاني : في معنى الاقتضاء في عنوان المسألة

الاقتضاء في عنوان البحث ليس بمعناه الحقيقي في المقام على أيّ حال، ولا جامع بين المعاني التي ذكروها في مقام التعميم(2) حتّى يكون مستعملاً فيه، مضافاً إلى أنّ الاقتضاء بمعنى العينية ممّا لا محصّل له رأساً.

فالأولى إسقاطُ بعض المذاهب والوجوه التي [هي] واضحة البطلان، كالقول بالعينية والتضمّن، وجعلُ المسألة اُصولية عقلية، ومعه يمكن إبقاء الاقتضاء وإرادة الاستلزام منه ولو بنحو من المسامحة، أو تبديله بالاستلزام،

ص: 2


1- الشفاء، قسم المنطق، الفنّ الأوّل 1: 43؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 103؛ الجوهر النضيد: 8.
2- كفاية الاُصول: 160؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 301.

فيقال: هل الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه ؟ أو يقال: هل إرادة الشيء مستلزمة لإرادة ترك ضدّه ؟

الأمر الثالث : في الاستدلال على القول بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ

اشارة

إنّ الأقوال في المسألة كثيرة، لكن ما يعتدّ به من بينها هو القول بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ، والأولى صرف الكلام إليه، فأقول: قد استدلّ عليه بوجهين:

الوجه الأوّل: - وهو العمدة - من جهة المقدّمية

وهي تتمّ بإثبات اُمور:

أحدها: مقدّمية ترك الضدّ لفعل ضدّه.

ثانيها: إثبات وجوب المقدّمة.

ثالثها: إثبات اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه العامّ؛ أي نقيضه، فإنّه المراد بالضدّ العامّ، وجودياً كان أو عدمياً، ولا مشاحّة في الاصطلاح بعد وضوح المراد.

فمع عدم تمامية واحد منها لا يثبت المطلوب.

واستدلّ لإثبات المقدّمية بأنّ الضدّين متمانعان، وعدم المانع من المقدّمات(1).

واُجيب عنه بوجوه:

الأوّل: أنّ التمانع لا يقتضي تقدّم ترك أحدهما على الآخر، وحيث لا منافاة

ص: 3


1- اُنظر هداية المسترشدين 2: 223.

بين أحد العينين ونقيض الآخر وبديله - بل بينهما كمال الملاءمة - كان أحد

العينين مع نقيض الآخر في رتبة واحدة(1).

وأنت خبير بأنّ كمال الملاءمة لا يوجب اتّحاد الرتبة.

ويمكن أن يقال في تقريره: إنّ نقيض أحد العينين يحمل على عين الآخر بالحمل الشائع ولو عرضياً، وهو يقتضي الاتّحاد، ولا يعقل أن يكون المتّحدان مختلفين في الرتبة. بيان صدق أحد النقيضين على عين الآخر: أنّ السواد لا يصدق على البياض، وإلاّ اجتمع الضدّان، ومع عدم صدقه لا بدّ وأن يصدق عليه نقيضه، وإلاّ ارتفع النقيضان، والصدق يقتضي الاتّحاد، وهو ينافي التقدّم والتأخّر رتبةً، فثبت اتّحادهما رتبة.

والجواب: أنّ نقيض صدق البياض على السواد عدم صدقه عليه على أن يكون السلب تحصيلياً، لا صدق عدمه عليه بنحو الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول، فالبياض إذا لم يصدق عليه أ نّه سواد صدق عليه أ نّه ليس بسواد بالسلب التحصيلي، وهو نقيض الإيجاب، لا صدق عدم السواد؛ لأنّ نقيض صدق الشيء عدم صدقه، لا صدق عدمه حتّى يلزم اتّحادهما في الوجود ولو بالعرض. وأمّا توهّم صدق قولنا: «إنّ البياض لاسواد أو عدم سواد» فهو فاسد إن اُريد أنّ الأمر العدمي والباطل المحض ثابت وصادق على شيء ومتّحد معه؛ لأ نّها أوصاف وجودية لا يمكن ثبوتها للعدم.

وما يقال: من أنّ للأعدام المضافة حظّاً من الوجود(2)، كلام مسامحي

ص: 4


1- كفاية الاُصول: 161.
2- راجع الحكمة المتعالية 1: 344؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 152.

لا يعوّل عليه؛ فإنّ حيثية العدم لا يمكن أن تكون ذات حظّ من الوجود، بل الإضافات الواقعة بينها وبين غيرها إنّما هي في الذهن، وفي وعائه تكون الأعدام المطلقة أيضاً موجودة بالحمل الشائع وإن كانت أعداماً بالحمل الأوّلي، فلا حقيقة للعدم - أيّ عدم كان - حتّى يتّصف بوصف وجودي أو اعتباري أو عدمي، فالعدم لا يثبت له العدم أيضاً.

وما يقال: من أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له لا الثابت(1)، ليس المراد منه أنّ الجهات العدمية - بما هي كذلك - يمكن أن تثبت لشيء؛ بحيث يكون التصادق والاتّحاد بينهما كاتّحاد شيء مع شيء، وإلاّ يلزم كذب قاعدة الفرعية أيضاً؛ لأنّ ثبوت الثابت بهذا النحو إثبات صفة ثبوتية له، فيلزم صدق قولنا: العدم ثابت للوجود وصادق عليه، وهو فرع ثبوت المثبت له.

وبالجملة: ليس للعدم حيثية، والقضايا الصادقة في باب الأعدام لا بدّ وأن ترجع إلى السالبات المحصّلات، وإن كانت بحسب الظاهر موجبات.

الثاني من وجوه عدم تقدّم الترك: دعوى وحدة الرتبة بين ترك الضدّ ووجود ضدّه أيضاً(2)؛ بأن يقال: إنّ النقيضين في رتبة واحدة، والضدّين كذلك، ولازم ذلك كون أحد الضدّين مع نقيض الآخر في رتبة واحدة؛ لأنّ ما يتّحد رتبةً مع أحد المتّحدين كذلك يتّحد مع الآخر أيضاً.

أمّا كون النقيضين في رتبة واحدة فلأنّ نقيض الشيء بديله، فنقيض شيء في زمان أو رتبة، عدمه الذي في ذلك الزمان وتلك الرتبة، وإلاّ يلزم اجتماع

ص: 5


1- راجع الحكمة المتعالية 1: 370؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 248.
2- كفاية الاُصول: 161؛ حاشية كفاية الاُصول، المحقّق القوچاني 1: 112.

النقيضين، فالمعلول معدوم في رتبة العلّة وموجود في رتبة متأخّرة، فنقيض الوجود في رتبة العلّة العدمُ في رتبتها، وبهذا البيان يلزم أن يكون الضدّان في رتبة واحدة. وأمّا المقدّمة الثالثة فمرّ بيانها.

والجواب: منع كون النقيضين في رتبة واحدة؛ لأنّ نقيض كلّ شيء رفعه، فنقيض البياض في المرتبة رفعه على أن يكون القيد للمسلوب لا للسلب، فإذا لم يصدق كون المعلول في رتبة علّته، صدق عدم كونه في رتبتها بنحو السلب التحصيلي مفاد الهلية المركّبة أو بنحو السلب المحمولي للمقيّد على أن يكون القيد للمسلوب وإن كذب كون عدمه في رتبتها، فنقيض كون المعلول في رتبة العلّة عدم كونه في رتبتها، لا كون العدم في رتبتها.

وأمّا لزوم كون الضدّين في رتبة واحدة فهو أوضح فساداً؛ لأ نّهما يمتنع اجتماعهما في الوجود الخارجي، ولا ربط للرتبة العقلية في ذلك، فلو فرض أنّ البياض والسواد مختلفا الرتبة عقلاً، كان اجتماعهما الوجودي في موضوع واحد محالاً، فهل ترى إمكان علّية سواد لبياض في الموضوع الذي هو فيه ؟ !

ولو سلّم كون النقيضين والضدّين في رتبة واحدة، فلإنكار لزوم كون أحد العينين في رتبة نقيض الآخر مجال واسع؛ لعدم البرهان على أنّ الرتب العقلية حكمها حكم الزمان في الخارج، بل البرهان على خلافه؛ لأنّ للرتب العقلية ملاكات خاصّة ربّما يكون الملاك موجوداً في الشيء دون متّحده في الرتبة؛ ألا ترى أنّ ما مع علّة شيء لا يكون مقدّماً عليه رتبةً؛ لفقدان ملاك التقدّم فيه، وهو كون وجوب الشيء من وجوبه، ووجوده من وجوده ؟ !

ص: 6

الثالث: أ نّه لو توقّف وجود الضدّ على عدم ضدّه لزم الدور؛ لأنّ التوقّف لأجل التمانع من الطرفين، فعدم أحد الضدّين أيضاً متوقّف على وجود الآخر توقّف العدم على وجود مانعه(1).

وفيه: أنّ التمانع إذا اقتضى توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر توقّف الشيء على عدم المانع، يقتضي - بمقتضى المقابلة - توقّف وجود الضدّ الآخر على عدم ضدّه أيضاً، لا توقّف عدمه على وجوده؛ لأنّ العدم ليس بشيء حتّى يتوقّف تحقّقه على شيء.

والتحقيق: أنّ التوقّف مطلقاً باطل فيهما؛ لأنّ العدم ليس بشيء بل باطل محض، فلا يمكن أن يكون دخيلاً في تحقّق شيء أو متأ ثّراً من شيء، فما لا شيئية له يسلب عنه بالسلب التحصيلي جميع الاُمور الثبوتية، ولا شكّ أنّ التوقّف من طرف الموقوف والموقوف عليه ثبوتي، وثبوته له فرع ثبوت المثبت له، بل ثبوت كلّ شيء لشيء فرع ثبوته، فما لا شيئية له لا تقدّم له ولا تأخّر ولا مقارنة، فكلّ الحيثيات مسلوبة عنه سلباً تحصيلياً، لا بمعنى سلب شيء عن شيء، بل السلب عنه من قبيل الإخبار عن المعدوم المطلق: بأ نّه لا يخبر عنه؛ لأجل التوسّل بالعناوين المتحصّلة في الذهن.

وما في بعض التعليقات: من أنّ عدم الضدّ من مصحّحات قابلية المحلّ لقبول الضدّ؛ لعدم قابلية الأبيض للسواد ولا الأسود للبياض، وأنّ القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات وإن كان لا مطابق لها في الخارج، لكنّها من الاُمور الانتزاعية وحيثيات وشؤون لاُمور خارجية، وثبوت شيء

ص: 7


1- كفاية الاُصول: 161.

لشيء لا يقتضي أزيد من ثبوت المثبت له بنحو يناسب ثبوت الثابت(1).

فيه ما لا يخفى؛ لأنّ قابلية المحلّ من شؤونه في وجوده من غير دخالة عدم شيء فيها، فالجسم قابل للسواد - كان موصوفاً بالبياض أو لا - ولا يتوقّف قابليته له على عدمه، وعدم قبوله في حال اتّصافه به لأجل التمانع بين الوجودين لا لتوقّف القابلية على عدم الضدّ؛ ضرورة أنّ العدم واللا شيء لا يمكن أن يكون مؤثّراً في تصحيح القابلية، بل لا يكون شأن الاُمور الخارجية ولا منتزعاً منها، فما اشتهر بينهم من أنّ للأعدام المضافة حظّاً من الوجود(2)، كلام مسامحي؛ لأنّ العدم لا يمكن أن يكون مضافاً ولا مضافاً إليه، والإضافة بينه وبين الوجود إنّما هي في ظرف الذهن بين عنوان العدم والوجود، لا بين العدم حقيقةً والوجود.

وما هو المعروف في لسان أهل الفنّ [من] أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة(3)، فليس مرادهم منه أنّ العدم حقيقةً علّة وله جزئية لشيء، بل من قبيل التسامح في التعبير بعد وضوح المطلب لديهم، فعبّروا عن مزاحمة المقتضيات والتمانع بين الوجودات بأنّ عدم المانع كذلك، وإلاّ فلا شبهة في أ نّه لا يتّصف بالجزئية، ولا يصير علّة ولا جزءها.

وما في كلام المحشّي المحقّق - من التسوية بين القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات - لم يقع في محلّه، كيف ؟ ! والقابليات

ص: 8


1- نهاية الدراية 2: 183 - 184.
2- الحكمة المتعالية 1: 344؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 152.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 307؛ نهاية الأفكار 1: 361.

والاستعدادات بل والإضافات لها نحو وجود؛ بخلاف أعدام الملكات؛ فإنّ لملكاتها نحو تحقّق، لا لحيثية الأعدام. فتحصّل ممّا ذكرنا: بطلان تقدّم الترك على فعل الضدّ، وكذا فعل الضدّ على الترك.

هذا كلّه حال أوّل الاُمور المتقدّمة، وقد مرّ بطلان الأمر الثاني - أي وجوب المقدّمة - في محلّه.

وأمّا ثالثها: - أي اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن نقيضه - فللمنع فيه مجال:

أمّا مع بقاء البحث على ظاهره فواضح؛ لأنّ البعث لا يكون عين الزجر ولا متضمّناً له.

وأمّا كون النهي عن النقيض لازماً للأمر، كما قد يقال: إنّ نفس تصوّر الوجوب والإلزام يكفي في تصوّر النهي عن الترك والحرمة(1).

ففيه: أ نّه إن اُريد الانتقال التصوّري، فمع ممنوعيته لا يفيد، وإن اُريد اللزوم الواقعي؛ بأن يدّعى أنّ المولى إذا أمر بشيء فلازمه أن ينهى عن نقيضه، فهو واضح الفساد؛ ضرورة أنّ الصادر من المولى ليس إلاّ الأمر.

ومع عدم بقاء البحث على ظاهره؛ بأن يقال: إنّ الإرادة المتعلّقة بشيء مستلزمة للإرادة المتعلّقة بترك تركه، فإن اُريد العينية والتضمّن فهو أيضاً واضح الفساد؛ ضرورة أنّ ترك الترك ليس عين الشيء بالحمل الأوّلي، ولا جزءه المقوّم له، وانطباقه عليه في الخارج - مع فساده في نفسه - لا يفيد.

وأمّا الاستلزام بالمعنى الذي قيل في باب المقدّمة(2)؛ بأ نّه إذا تعلّقت إرادة

ص: 9


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 303.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 262.

تشريعية بشيء، فمع الالتفات إلى تركه تتعلّق إرادة تشريعية بتركه، فهو وإن كان

أسلم من غيره، لكنّه أيضاً غير تامّ؛ لأ نّه بعد تعلّق الإرادة التشريعية الإلزامية

بشيء، لا معنى لتعلّق إرادة اُخرى بترك تركه؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة وغايتها؛ فإنّ غايتها التوصّل إلى المبعوث إليه، ومع إرادة الفعل والبعث إليه لأجله لا معنى لبعث إلزامي آخر لأجله، فلا غاية للإرادة التشريعية.

نعم، بناءً على ما ذكروا في المقدّمة - إنّ تعلّقها بها قهري(1) - فله وجه، لكنّ المبنى فاسد، كما مرّ(2).

فتحصّل ممّا ذكرنا: بطلان اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ من ناحية المقدّمية، واتّضح ضمناً عدم اقتضائه للنهي عن ضدّه العامّ أيضاً.

الوجه الثاني: من جهة الاستلزام

وهو أيضاً يبتني على ثلاث مقدّمات:

إحداها: أنّ وجود كلّ من العينين مع عدم ضدّه متلازمان.

ثانيتها: أنّ المتلازمين محكومان بحكم واحد لا محالة.

ثالثتها: أنّ الأمر بالشيء مقتضٍ للنهي عن ضدّه العامّ.

والدليل على الاُولى: أنّ الضدّ لا يصدق مع ضدّه؛ لبطلان اجتماعهما، فإذا لم يصدق هو، لا بدّ من صدق نقيضه؛ لبطلان ارتفاع النقيضين، ولمّا لم يمكن

ص: 10


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 262؛ بدائع الأفكار ((تقريرات المحقّق العراقي)) الآملي 1: 399.
2- تقدّم في الجزء الأوّل: 342 - 344.

الصدق الذاتي بين الوجود والعدم، فلا بدّ وأن يكون عرضياً بنحو التلازم في الصدق، وهو المطلوب.

والجواب عنه: أنّ نقيض صدق إحدى العينين على الاُخرى، عدم صدقها عليها على نعت السلب التحصيلي، لا الإيجاب العدولي، وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين؛ ضرورة كذب الإيجاب العدولي أيضاً؛ للزوم كون العدم صادقاً على الوجود ومتلازماً معه فيه.

هذا، مع أ نّه لا شيئية له حتّى يكون ملازماً لشيء.

مضافاً إلى أنّ التلازم في الوجود يقتضي عروض الوجود للمتلازمين، فيلزم اجتماع النقيضين، فالغلط ناشٍ من عدم اعتبار الحيثيات وتقديم الحمل على السلب وعدم [التفريق] بين السوالب المحصّلة والموجبات المعدولة، وكم له من نظير.

والدليل على الثانية: أنّ المتلازم مع وجوب ملازمه إن لم يكن واجباً، فلا بدّ وأن يكون محكوماً بحكم آخر؛ لعدم خلوّ الواقعة عن حكم، والجامع بين ما عدا الوجوب هو جواز الترك، ومع جوازه يلزم إمّا خروج الواجب عن كونه واجباً، وإمّا التكليف بما لا يطاق.

والجواب أمّا أوّلاً: أنّ العدم ليس من الوقائع؛ فإنّه بطلان محض لا يمكن أن يكون بما هو محكوماً بحكم، وما ترى من نسبة الحكم إلى بعض الأعدام لا بدّ من إرجاعه إلى مقابلاته، كوجوب تروك الإحرام وتروك المفطرات.

وثانياً: لم يقم دليل على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم، بل الدليل على خلافه؛ فإنّ الواقعة لو لم يكن لها اقتضاء أصلاً، ولم يكن لجعل الإباحة أيضاً

ص: 11

مصلحة، فلا بدّ وأن لا تكون محكومة بحكم، والإباحة العقلية غير الشرعية المدّعاة، ومع خلوّها عن الجواز الشرعي لا يلزم المحذور المتقدّم.

هذا، مع أ نّه لو سلّم فلزوم ما ذكر ممنوع.

وقد مرّ الجواب عن الثالثة(1).

ثمّ إنّه ربّما يفرّق بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما وبين غيرهما؛ بدعوى الاقتضاء فيهما عرفاً؛ لأنّ عدم السكون هو الحركة في الخارج عرفاً وإن لم يكن كذلك عقلاً، ويكون الأمر بأحدهما عين الأمر بالآخر، ولا يرى العرف فرقاً بين «تحرّك» و«لا تسكن»(2).

وفيه: أ نّه إن كان المدّعى أنّ العرف لا يفرّق بين الحركة وعدم السكون؛ بحيث يكون في نظره الحركة حيثيةً عدميةً، أو حيثية العدم عين حيثية الوجود، ولم يفرّق بين الأمر والنهي، ويكون في نظره «تحرّك» عين «لا تسكن»، فهو ظاهر البطلان، مع أ نّه غير منتج.

وإن كان المدّعى أ نّه لا يفرّق بينهما نتيجةً فالعقل أيضاً كذلك، ولكن لا ربط له بما نحن فيه؛ لعدم لزوم ذلك اقتضاء الأمر بالحركة لنهي متعلّق بالسكون لا عرفاً ولا عقلاً.

واعلم أنّ ما ذكرنا من الدليلين وابتناء أوّلهما على ثلاث مقدّمات، إنّما هو بناءً على وجوب المقدّمة المطلقة، وأمّا بناءً على وجوب الموصلة، فلا بدّ من مقدّمة اُخرى في الدليل الأوّل، وهو لزوم كون المتلازمين محكومين بحكم

ص: 12


1- تقدّم في الصفحة 9 - 10.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 304.

واحد؛ لما عرفت في باب المقدّمة(1) من أنّ نقيض الترك الموصل هو ترك هذا الترك المقيّد، فإذا وجب الترك الموصل يحرم تركه بمقتضى المقدّمة الثالثة، ولا يلزم حرمة الفعل إلاّ مع تمامية دليل الاستلزام؛ لأنّ ترك الترك المقيّد ملازم

للوجود، فحينئذٍ لا يتمّ الدليل الأوّل إلاّ بضمّ الثاني إليه، وهو موجب لسقوط أحدهما، فلا يكون في الباب دليلان مستقلاّن.

الأمر الرابع في ثمرة المسألة

اشارة

تظهر الثمرة في أنّ نتيجة المسألة - وهي النهي عن الضدّ بناءً على الاقتضاء - بضميمة أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد، تنتج فساده إذا كان عبادة.

ويمكن إنكارها؛ فإنّ اقتضاء النهي للفساد: إمّا لأجل كشفه عن مفسدة في المتعلّق، أو لأجل أنّ الإتيان بمتعلّق النهي مخالفة للمولى ومبعّد عن ساحته، فلا يمكن أن يقع مقرِّباً، والنهي فيما نحن فيه لا يكشف عن المفسدة، بل العقل يحكم بتحقّق المصلحة الملزمة في الضدّ المزاحم؛ لعدم المزاحمة بين المقتضيات.

وأيضاً النهي الاستلزامي الذي يكون من جهة ملازمة شيء للمأمور به بالأمر المقدّمي، لا يكون موجباً للبعد عن ساحة المولى، فلا يوجب الفساد، فالثمرة ساقطة.

ص: 13


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 334.

مقالة الشيخ البهائي في إنكار الثمرة بعدم الأمر بالمهمّ وما اُجيب عنها

اشارة

وأمّا الشيخ البهائي فأنكرها بدعوى كفاية عدم الأمر للفساد(1).

ورُدّ بوجوه:

الوجه الأوّل: كفاية الرجحان والمحبوبية الذاتية في صحّة العبادة(2).

تصوير المحقّق الثاني الأمر بالمهمّ بالأمر المتعلّق بنفس الطبيعة

الوجه الثاني(3): أنّ ذلك صحيح في المضيّقين، وأمّا إذا كان أحدهما موسّعاً فتظهر الثمرة؛ لإمكان الأمر بالموسّع والمضيّق، فحينئذٍ: إن اقتضى الأمر بالشيء النهي عن الضدّ لا يمكن أن يقع مصداق الموسّع صحيحاً؛ وإلاّ يقع صحيحاً.

وتوضيح الإمكان: أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، والخصوصيات الشخصية كلّها خارجة عن متعلّقها؛ لعدم دخالتها في الغرض، وما هو كذلك لا يمكن أن يؤخذ في المتعلّق ولا يمكن سراية النهي إليه، وما هو مضادّ للمأمور به هو المصداق لا الطبيعة، وما هو المأمور به هي الطبيعة لا المصداق.

وهذا من غير فرق بين الأفراد العرضية والطولية، ولا بين صيرورة الوقت

ص: 14


1- زبدة الاُصول: 117 - 118؛ الاثنا عشرية في الصلاة اليومية: 55، الهامش 193.
2- كفاية الاُصول: 166.
3- جامع المقاصد 5: 13؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 313.

مضيّقاً أو لا؛ فإنّ الأمر لا يتجافى عن متعلّقه بصيرورة الوقت مضيّقاً. نعم، في آخر الوقت ومع انحصار الفرد يحكم العقل بإيجادها فوراً وفي ضمنه من غير تغيير في ناحية الأمر، فيمكن قصد الأمر المتعلِّق بالطبيعة مع الإتيان بالفرد المنحصر وفي الوقت المضيّق ولو زاحم الضدّ الأهمّ.

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ ملاك استحالة الأمر بالضدّين - وهو التكليف بالمحال - موجود مع تضييق الوقت، أو انحصار الفرد، أو كون الأفراد طولية؛ فإنّ معنى تعلّق الأمر بالطبيعة هو البعث إلى إيجادها، والأمر وإن تعلّق بنفس الماهية، لكنّ البعث إليها هو البعث إلى إيجادها، فمع ضيق الوقت إن كان البعث إلى إيجادها فعلياً وكذلك إلى ضدّ مصداقها، ينتهي الأمر إلى التكليف بالمحال؛ لأنّ إيجاد الطبيعة وضدّ المصداق ممّا لا يمكن في الوقت المضيّق، وكذا الحال مع انحصار المصداق، بل مع كون الأفراد طولية؛ فإنّ فعلية الأمر بالطبيعة في وقت يكون فردها مبتلى بالضدّ الواجب لازمها التكليف بالمحال.

هذا، لكن سيأتي تحقيق الحال بما يدفع الإشكال، فانتظر.

التحقيق في تصوير الأمر بالمهمّ بلا تشبّث بالترتّب

الوجه الثالث: ما سلكناه في هذا المضمار، وهو تصوير الأمر بالأهمّ والمهمّ في عرض واحد بلا تشبّث بالترتّب، وهو يبتني على مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: أ نّه سيأتي في محلّه أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، وأنّ الخصوصيات الفردية مطلقاً خارجة عن المتعلّق وإن كانت متّحدة معها خارجاً(1).

ص: 15


1- يأتي في الصفحة 55.

المقدّمة الثانية: أنّ الإطلاق بعد تمامية مقدّماته يباين العموم في أنّ الحكم فيه لم يتعلّق إلاّ بنفس الماهية أو الموضوع من غير دخالة فرد أو حال أو قيد فيه، وليس الحكم متعلِّقاً بالأفراد والحالات والطوارئ، ففي قوله: «اعتق الرقبة» تكون نفس الطبيعة - لا أفرادها أو حالاتها - موضوعاً للحكم؛ فإنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون حاكية ومرآة للأفراد والخصوصيات وإن كانت متّحدة معها خارجاً، وهذا بخلاف العموم؛ فإنّ أداته وضعت لاستغراق أفراد المدخول، فيتعلّق الحكم فيه بالأفراد المحكيّة بعنوان الكلّ والجميع، وسيأتي في محلّه توضيح الحال فيه(1).

المقدّمة الثالثة: أنّ التزاحمات الواقعة بين الأدلّة بالعرض لأجل عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثالها، كالتزاحم بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصلاة، حيث تكون متأخّرة عن تعلّق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة، لم تكن ملحوظة في الأدلّة، ولا تكون الأدلّة متعرّضة لها، فضلاً عن التعرّض لعلاجها، فقوله: «أزل النجاسة عن المسجد» مثلاً، لا يكون ناظراً إلى حالات الموضوع - كما عرفت في المقدّمة المتقدّمة - فضلاً عن أن يكون ناظراً إلى حالاته مع موضوع آخر ومزاحمته معه، فضلاً عن أن يكون ناظراً إلى علاج المزاحمة، فاشتراط المهمّ بعصيان الأهمّ الذي هو من مقدّمات الترتّب، لا يمكن أن يكون مفاد الأدلّة إن كان المراد شرطاً شرعياً مأخوذاً في الأدلّة، ولا يكون بنحو الكشف عن الاشتراط؛ لما سيأتي من عدم

ص: 16


1- يأتي في الصفحة 203.

لزومه بل عدم صحّته(1)، وسيأتي حال حكم العقل.

المقدّمة الرابعة: أنّ الأحكام الشرعية القانونية المترتّبة على موضوعاتها على قسمين:

أحدهما: الأحكام الإنشائية، وهي التي اُنشئت على الموضوعات ولم تبق على ما هي عليه في مقام الإجراء، كالأحكام الكلّية قبل ورود المقيّدات والمخصّصات ومع قطع النظر عنهما، أو لم يأنِ وقت إجرائها، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى وليّ العصر - عجّل الله فرجه - ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره؛ لمصالح [تقتضيها] العناية الإلهية.

ثانيهما: الأحكام الفعلية، وهي التي آنَ وقت إجرائها، وبلغ موقع عملها بعد تمامية قيودها ومخصّصاتها، ف )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((2) بهذا العموم حكم إنشائي، والذي بقي بعد ورود المُخصّصات عليه بلسان الكتاب والسنّة هو الحكم الفعلي، ونجاسة بعض الطوائف المنتحلة للإسلام وكفرهم حكمان إنشائيان في زماننا، وإذا بلغ وقت إجرائهما يصيران فعليين.

وأمّا الفعلية والشأنية بما هو معروف - من أنّ الحكم بالنسبة إلى الجاهل والغافل والساهي والعاجز يكون شأنياً، وبالنسبة إلى مقابليهم يصير فعلياً - فليس لهما وجه معقول؛ لأنّ الاشتراط الشرعي في بعضها غير معقول، مع عدم الدليل عليه في جميعها، والتصرّف العقلي غير معقول، كما سيتّضح لك.

وبالجملة: إنّ الأحكام المضبوطة في الكتاب والسنّة لا يعقل فيها غير هاتين

ص: 17


1- يأتي في الصفحة 22.
2- المائدة (5): 1.

المرتبتين، فقوله: )لله ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ...((1) إلى آخره لا يختلف بالنسبة إلى الجاهل والعالم، ولا معنى للفعلية والشأنية في هذا الحكم المجعول المنضبط، وكذا لا يعقل تغيير إرادة الله - تعالى - الصادع بالشرع؛ لامتناع تغيّرها، كما هو معلوم لدى أهله.

وأمّا الاقتضاء والتنجّز فليسا من مراتب الحكم: أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأ نّه حكم عقلي غير مربوط بمراتب الأحكام المجعولة، ومعنى تنجّزه قطع عذر المكلّف في المخالفة، وعدمه كونه معذوراً فيها، من غير تغيير وتبديل في الحكم ولا في الإرادة.

المقدّمة الخامسة: أنّ الأحكام الكلّية القانونية تفترق عن الأحكام الجزئية من جهات، صار الخلط بينهما منشأً لاشتباهات:

منها: حكمهم بعدم منجّزية العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء؛ بتوهّم أنّ الخطاب بالنسبة إليه مستهجن.

وقد ذكرنا في محلّه: أنّ الاستهجان ليس في الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين، فراجع(2).

ومنها: توهّم أنّ الخطاب لا يعقل أن يتوجّه إلى العاجز والغافل والساهي؛ ضرورة أنّ الخطاب للانبعاث، ولا يعقل انبعاث العاجز ومثله.

وهذا أيضاً من موارد الخلط بين الحكم الكلّي والجزئي؛ فإنّ الخطاب الشخصي إلى العاجز ومثله لغو ممتنع صدوره من الملتفت، وهذا بخلاف

ص: 18


1- آل عمران (3): 97.
2- أنوار الهداية 2: 204.

الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى العناوين الكلّية، كالناس والمؤمنين، فإنّ مثل تلك الخطابات تصحّ من غير استهجان إذا كان فيهم من ينبعث عنها، ولا يلزم أن تكون باعثة أو ممكنة البعث بالنسبة إلى جميعها في رفع الاستهجان.

ألا ترى أنّ الخطاب الشخصي إلى من كان عاصياً، أو الكلّي إلى عنوان العصاة، مستهجن غير ممكن الصدور من العاقل الملتفت، ولكنّ الخطاب العمومي غير مستهجن بل واقع؛ لأنّ الضرورة قائمة على أنّ الخطابات والأوامر الإلهية شاملة للعصاة؛ وأنّ المحقّقين على أ نّها شاملة للكفّار أيضاً، مع أنّ الخطاب الخصوصي إلى الكفّار المعلومي الطغيان من أقبح المستهجنات، بل غير ممكن لغرض الانبعاث، فلو كان حكم الخطاب العامّ كالجزئي فلا بدّ من الالتزام بتقييد الخطابات بغيرهم، وهو كما ترى.

وكذا الحال في الجاهل والغافل والنائم وغيرهم ممّا لا يعقل تخصيصهم بالحكم، ولا يمكن توجّه الخطاب الخصوصي إليهم، وإذا صحّ في مورد فليصحّ فيما هو مشترك معه في المناط، فيصحّ الخطاب العمومي لعامّة الناس من غير تقييد بالقادر، فيعمّ جميعهم، وإن كان العاجز والجاهل والناسي والغافل وأمثالهم معذورين في مخالفته، فمخالفة الحكم الفعلي قد تكون لعذر كما ذكر، وقد لا تكون كذلك.

والسرّ فيما ذكرنا: هو أنّ الخطابات العامّة لا ينحلّ كلّ [منها] إلى خطابات بعدد نفوس المكلّفين؛ بحيث يكون لكلٍّ منهم خطاب متوجّه إليه بالخصوص، بل يكون الخطاب العمومي خطاباً واحداً يخاطب به العموم، وبه يفترق عن الخطاب الخصوصي في كثير من الموارد.

ص: 19

هذا، مضافاً إلى أنّ الإرادة التشريعية ليست إرادة إتيان المكلّف وانبعاثه نحو العمل، وإلاّ يلزم في الإرادة الإلهية عدم انفكاكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحّة العقلائية بملاحظة الجعل العمومي القانوني، ومعلوم أ نّه لا تتوقّف صحّته على صحّة الانبعاث بالنسبة إلى كلّ الأفراد، كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفية.

المقدّمة السادسة: أنّ الأحكام الشرعية غير مقيّدة بالقدرة، لا شرعاً ولا عقلاً:

أمّا شرعاً فظاهر؛ فإنّه ليس في الأدلّة ما يوجب التقييد بالقدرة العقلية، ولو فُرض التقييد الشرعي للزم الالتزام بجواز إيجاد المكلّف العذر لنفسه، ولا أظنّ التزامهم به، وللزم جريان البراءة عند الشكّ في القدرة، ولا يلتزمون به، وليس ذلك إلاّ لعدم تقييد شرعي. ومن ذلك يعلم عدم كشف التقييد الشرعي عقلاً.

وأمّا التقييد العقلي - بمعنى تصرّفه في الأدلّة - فهو لا يرجع إلى محصّل، بل تصرّف العقل في إرادة المولى أو جعله، ممّا لا معنى معقول له، والتقييد والتصرّف لا يمكن إلاّ للجاعل لا لغيره.

نعم، للعقل الحكم في مقام الإطاعة والعصيان، وأنّ مخالفة الحكم في أيّ مورد توجب استحقاق العقوبة، وفي أيّ مورد لا توجب؛ لمعذورية العبد، وليس للعقل إلاّ الحكم بأنّ الجاهل والعاجز ونظيرهما معذورون في ترك الواجب أو إتيان الحرام، من غير تصرّف في الدليل.

المقدّمة السابعة: أنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن، والذي

ص: 20

يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين الإتيان بمتعلّقهما، وهو غير متعلّق للتكليف، فإذا أمر المولى بإزالة النجاسة عن المسجد وأمر بالصلاة، لا يكون له إلاّ أمر بهذه وأمر بتلك، ومجموع الأمرين ليس موجوداً على حدة، والأمر بالجمع أو المجموع غير صادر من المولى، وقد تقدّم(1) أنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بنفس الطبائع، من غير نظر إلى الخصوصيات والحالات الطارئة وجهات التزاحم وعلاجه.

إذا عرفت ما ذكر فاعلم: أنّ متعلّقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة، وقد يكون أحدهما أهمّ.

فعلى الأوّل: لا إشكال في حكم العقل بالتخيير؛ بمعنى أنّ العقل يرى أنّ المكلّف مخيّر في إتيان أيّهما شاء، فإذا اشتغل بأحدهما يكون في مخالفة الأمر الآخر معذوراً عقلاً، من غير أن يكون تقييد واشتراط في التكليف والمكلّف به، ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذوراً في ترك واحد منهما؛ فإنّه قادر على إتيان كلّ واحد منهما، فتركه يكون بلا عذر؛ فإنّ العذر عدم القدرة، والفرض أ نّه قادر على كلّ منهما، وإنّما يصير عاجزاً عن عذر إذا اشتغل بإتيان أحدهما، ومعه معذور في ترك الآخر، وأمّا مع عدم اشتغاله به فلا يكون معذوراً في ترك شيء منهما، والجمع لا يكون مكلّفاً به حتّى يقال: إنّه غير قادر عليه، وهذا واضح بعد التأمّل.

وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ: فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ؛ لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى

ص: 21


1- تقدّم في الصفحة 15.

بالمأمور به الفعلي، لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا أمران:

أحدهما: أنّ الأهمّ والمهمّ كالمتساويين في الأهمّية؛ كلّ منهما مأمور به في عرض الآخر، والأمران العرضيان فعليان متعلّقان بعنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف، والمطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً ولا عقلاً، بل تلك المطاردة لا توجب عقلاً إلاّ المعذورية العقلية عن ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر، وعن ترك المهمّ حال اشتغاله بالأهمّ.

فظهر: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف الكلّية القانونية كما فيما نحن فيه. فما ادّعى شيخنا البهائي(1) ليس على ما ينبغي، كما أنّ ما أجابوا عنه بنحو الترتّب وتصوير الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأهمّ ممّا لا أساس له، كما سيتّضح لك.

وثانيهما: أنّ المكلّف مع ترك الأهمّ والمهمّ يستحقّ عقابين؛ لما تقدّم تفصيله.

ولو تأمّلت فيما تقدّم تأمّلاً صادقاً، وتدبّرت فيه تدبّراً أكيداً، يسهل لك التصديق بما ذكرنا، والله وليّ الأمر.

ص: 22


1- زبدة الاُصول: 117 - 118؛ الاثنا عشرية في الصلاة اليومية: 55، الهامش 193.
تصوير المحقّق النائيني الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب

الوجه الرابع: تصوير الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب؛ ولقد تصدّى الأعاظم لبيانه وتوضيحه، وبالغوا في الفحص والتحقيق حوله بتقديم مقدّمات كثيرة، ونحن نتعرّض لبعضها الذي [هو] أمتن ما في الباب، وهو ما عن السيّد المجدّد الشيرازي - طاب ثراه -(1) وشيّد أركانه سيّد أساتيذنا المحقّق الفشاركي رحمه الله علیه (2)، وبالغ في تنقيحه وتثبيته بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه (3)، ونحن نذكر خلاصة مقدّماته وبعض محالّ الأنظار فيها:

المقدّمة الاُولى: أنّ المحذور إنّما ينشأ من إيجاب الجمع بين الضدّين المستلزم للتكليف بما لا يطاق، ولا بدّ من سقوط ما هو موجب لذلك لا غير، فإذا كان الخطابان طوليين لا يلزم منه ذلك، فيقع الكلام في أنّ الموجب لذلك هو نفس الخطابين حتّى يسقطا، أو إطلاقهما حتّى يسقط إطلاق خطاب المهمّ فقط مشروطاً بعصيان الأهمّ ؟

ثمّ قال: والعجب من الشيخ الأنصاري مع إنكاره الترتّب(4) ذهب في تعارض الخبرين - على السببية - إلى ما يلزم منه الالتزام بخطابين مترتِّب كلّ منهما على

ص: 23


1- تقريرات المجدّد الشيرازي 3: 121 - 123.
2- الرسائل الفشاركية: 187 - 189.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 336 - 357؛ أجود التقريرات 2: 55 - 79.
4- مطارح الأنظار 1: 285 - 286؛ فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 440.

عدم امتثال الآخر(1)، فليت شعري لو امتنع ترتّب أحد الخطابين على عدم امتثال الآخر، فهل ضمّ ترتّب إلى مثله يوجب ارتفاع المحذور ؟ ! إلاّ أنّ الاشتباه من الأساطين غير عزيز(2).

أقول: هذه المقدّمة بصدد بيان محطّ البحث، ولا إشكال فيها من هذه الجهة، إلاّ أنّ الاعتراض على الشيخ الأعظم من أغرب الاُمور، ناشٍ من عدم التأمّل في كلامه، ونحن نذكره لكي يتأمّل فيه:

قال قدّس سرّه بعد إيراد شبهة في وجوب الأخذ بأحد المتعارضين بناءً على السببية: «إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما، ليس لأجل شمول اللفظ لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع؛ لأنّ ذلك غير ممكن، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة، لكن لمّا كان امتثال التكليف [بكلٍّ] منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطاً بالقدرة، والمفروض أنّ كلاًّ منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعيّن فعله، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال والعمل بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة، وهذا ممّا يحكم به بديهة العقل...»(3) إلى آخره، انتهى.

ص: 24


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27: 35.
2- أجود التقريرات 2: 57؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 336 - 339.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27: 35 - 36.

وأنت إذا تأمّلت فيه تجد أنّ مقصوده أنّ العقل يتصرّف في مقام الامتثال، بلا تصرّف في نفس الأدلّة كما عرفت - فيما تقدّم(1) - تحقيقه منّا، وأنّ التقييد العقلي إنّما هو في وجوب الامتثال، وهو حكم عقلي ليس للشارع تصرّف فيه وتعبّد بالنسبة إليه، وهو أجنبيّ عن الترتّب المتقوّم باشتراط التكليف بعصيان الآخر، فضلاً عن الترتّبين ممّا تحكم بديهة العقل بامتناعهما؛ للزوم تقدّم الشيء على نفسه.

هذا، مع أنّ الترتّب يتقوّم باشتراط الأمر بعصيان الآخر، وما ذكره الشيخ لو فرض أنّ نظره التصرّف في الأدلّة، يكون التصرّف بتقييد كلٍّ من الدليلين بعدم إتيان متعلّق الآخر، لا بعصيانه، وفرق بيّن بينهما؛ لأنّ الثاني مناط الترتّب، والأوّل نتيجته التخيير، والعجب من الخلط بينهما، إلاّ أنّ الاشتباه من الأساطين غير عزيز.

المقدّمة الثانية: أنّ الواجب المشروط لا يخرج إلى المطلق بعد حصول شرطه؛ لأنّ شرائط التكليف كلّها ترجع إلى قيود الموضوع، والحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عمّا هو عليه، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعاً.

والسرّ فيه: أنّ القضايا الشرعية على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية، فالقائل بالانقلاب قوله مساوق للقول بأنّ الموضوع بعد وجوده ينسلخ عن موضوعيته، ولا يبعد أن يكون ذلك من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل وعلّة التشريع؛ بتوهّم أنّ شرط التكليف خارج عن موضوعه، بل هو من قبيل

ص: 25


1- تقدّم في الصفحة 20.

الداعي لجعل الحكم على موضوعه، فبعد وجوده يتعلّق الحكم بموضوعه، ولا يبقى للاشتراط مجال.

وقد بيّنّا: أنّ كون شرط الحكم من قبيل دواعي الجعل، يبتني على أن تكون القضايا المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعية من قبيل الإخبار عن إنشاء تكاليف عديدة، يتعلّق كلّ واحد منها بمكلّف خاصّ عند تحقّق شرطه، وهذا الخلط وقع في جملة من المباحث، منها ما نحن فيه؛ فإنّه توهّم فيه أ نّه بعد عصيان الأمر بالأهمّ يكون الأمر بالمهمّ مطلقاً(1).

أقول أوّلاً: عدم خروج الواجب المشروط إلى المطلق حقّ لا يحتاج إلى تبعيد المسافة وإرجاع شرائط الحكم إلى الموضوع، من غير فرق بين حقيقيات القضايا أو خارجياتها؛ لأنّ صيرورة الحكم المشروط مطلقاً: إمّا بتبدّل الإرادة إلى إرادة اُخرى، وذلك مستحيل؛ لامتناع تغيّر إرادته تعالى، بل يمتنع تبدّل إرادة إلى اُخرى مطلقاً؛ فإنّها بسيطة، والبسائط لا يمكن أن يدخلها التبدّل.

وإمّا بأن تتعلّق إرادة جديدة بالحكم رأساً، وهو أيضاً مستحيل؛ لامتناع تجدّد الأحوال فيه تعالى، مع أ نّه خروج عن فرض صيرورة المشروط مطلقاً.

وإمّا بأن تتبدّل إرادة التشريع باُخرى، وذلك أيضاً مستحيل؛ لما ذكر، ولانتهاء أمد التشريع بتحقّقه، فلا تبقى إرادة تشريعية حتّى تتبدّل لو فرض جواز هذه الاُمور في حقّه تعالى.

وإمّا بتبدّل الحكم المنشأ على نحو المشروط إلى الإطلاق، وهو مستحيل أيضاً؛ لأنّ ما شرّع لا ينقلب عمّا هو عليه.

ص: 26


1- أجود التقريرات 2: 58؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 339.

وإمّا بإنشاء حكم آخر مطلق بعد حصول الشرط، وهو خلاف المفروض والواقع.

فخروج الحكم المجعول عمّا هو عليه ممّا لا معنى معقول له. نعم، قبل تحقّق الشرط لم يأنِ آنُ امتثاله، وبعده يصير وقته ويصير حجّة على العبد مع كونه مشروطاً، فعدم صيرورة المشروط مطلقاً لا يتوقّف على ما ذكره.

وثانياً: ما ذكره من رجوع جميع شرائط التكليف إلى الموضوع لم يقم [عليه] دليل بعد اختلاف الواجب المشروط والمطلق ثبوتاً، كما ذكرنا في محلّه(1)، وبعد كون الواجب المشروط من الاعتبارات المعتبرة لدى العقلاء، بل لايجوز الإرجاع بعد كونه معتبراً عقلاً ولدى العقلاء واختلاف الآثار بينهما في الأحكام أحياناً.

وما قيل: من أنّ لازم ذلك كون السبب أو الشرط أمراً تكوينياً مؤثّراً في المسبّب والمشروط تكويناً وخروج زمام أمرهما من يد الشارع، واضح الفساد؛ لأنّ جعل السببية والشرطية تشريعاً لشيء لا يوجب انقلاب التشريع إلى التكوين ولا خروج الأمر عن يد الجاعل، كما هو واضح.

هذا لو قلنا بجعل السببية والشرطية.

وأمّا لو قلنا بجعل الحكم مترتّباً على شيء، فالأمر أوضح.

وبالجملة: لا وجه لرفع اليد عن ظواهر الأدلّة من غير دليل واضح.

وثالثاً: أنّ ما ذكره - من توهّم الخلط بين موضوع الحكم وبين داعي الجعل وعلّة التشريع؛ بتوهّم أنّ شرط التكليف من قبيل الداعي لجعل الحكم - واضح البطلان؛ لأنّ شرط التكليف غير قيود الموضوع وغير دواعي الجعل، بل هو رحمه الله علیه

ص: 27


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 282.

خلط بين شرائط المجعول ودواعي الجعل، مع أ نّهما مفترقان؛ لأنّ دواعي الجعل هي غايات جعل الأحكام، وضعية كانت أو تكليفية، مطلقة أو مشروطة، وشرائط التكليف - أي المجعول - ما يكون الحكم معلّقاً عليه ومنوطاً به، وهي غير مربوطة بقيود الموضوع ودواعي الجعل.

واتّضح ممّا ذكرنا: أنّ ما أتعب نفسه به في هذه المقدّمة غير تامّ في نفسه، وغير محتاج إليه لإثبات المطلوب.

ثمّ إنّ كون القضايا حقيقيةً لا خارجية أجنبيّ عن المطلب، كما أنّ القول بالانقلاب لا يساوق انسلاخ الموضوع عن موضوعيته، وإرجاع الشرائط كلّها إلى قيود الموضوع إنكار للواجب المشروط، والتفصيل يوجب الملال.

المقدّمة الثالثة: التي هي من أهمّ المقدّمات وعليها يدور رحى الترتّب، وإن ظنّ المستدلّ أ نّها غير مهمّة، وهي أنّ الواجب المضيّق على قسمين:

قسم اُخذ فيه الشيء شرطاً للتكليف بلحاظ حال الانقضاء، كالقصاص والحدود، فإنّ القصاص مترتّب على مضيّ القتل وانقضائه ولو آناً ما.

وقسم اُخذ فيه الشيء شرطاً بلحاظ حال وجوده، فيثبت التكليف مقارناً لوجود الشرط، ولا يتوقّف ثبوته على انقضائه، بل يتّحد زمان وجود الشرط وزمان التكليف وزمان الامتثال كأغلب الواجبات المضيّقة كالصوم.

ففي مثله يستحيل تخلّف التكليف عن الشرط ولو آناً ما؛ لما عرفت من رجوع كلّ شرط إلى الموضوع، ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول، فلازم التخلّف: إمّا عدم موضوعية ما فرض موضوعاً للحكم، أو تخلّف الحكم عن موضوعه.

ص: 28

وكذا يستحيل تخلّف زمان الامتثال عن التكليف؛ لأنّ التكليف يقتضي الامتثال، فنسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة اليد لحركة المفتاح.

نعم، الفرق بين المقام والعلل التكوينية هو دخل العلم والإرادة في الامتثال، دون العلل التكوينية.

وبالجملة: مقتضى البرهان هو أن لا يتخلّف التكليف عن الشرط ولا الامتثال عن التكليف زماناً، بل يتقارنان في الزمان وإن كان بينهما تقدّم وتأخّر رتبي(1).

ثمّ شرع في الإشكال والجواب إلى أن قال:

إذا عرفت ذلك: ظهر لك دفع بعض الإشكالات في المقام:

منها: أ نّه يتوقّف صحّة الخطاب الترتّبي على صحّة الواجب المعلّق.

وأجاب عنه: بأنّ ذلك مبنيّ على مبنى فاسد، وهو لزوم تأخّر زمان الامتثال عن الأمر، وقد عرفت فساده.

ومنها: أنّ خطاب المهمّ لو كان مشروطاً بنفس عصيان الأهمّ لزم خروج المقام عن الترتّب، ولو كان مشروطاً بعنوان انتزاعي؛ أي كون المكلّف ممّن يعصي، لزم الأمر بالجمع بين الضدّين، وهو محال.

وأجاب عنه: بأ نّا نختار الشقّ الأوّل، وتوهّم استلزامه تأخّر طلب المهمّ عن عصيان الأمر بالأهمّ زماناً إنّما يتمّ على القول بلزوم تأخّر الخطاب عن شرطه، وأمّا على ما حقّقناه من مقارنة الخطاب لوجود شرطه، فلا بدّ من فعلية خطاب المهمّ في زمان عصيان خطاب الأهمّ بلا تقدّم وتأخّر بينهما خارجاً.

ص: 29


1- أجود التقريرات 2: 60 - 63؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 341 - 343.

أو نختار الشقّ الثاني، ولا يلزم منه طلب الجمع بين الضدّين؛ بداهة أنّ عنوان المتعقّب بالمعصية إنّما ينتزع من المكلّف بلحاظ تحقّق عصيانه في ظرفه المتأخّر، فإذا فرض وجود المعصية في ظرفها وكون التعقّب بها شرطاً لخطاب المهمّ، يكون الحال فيه بعينه الحال في فرض كون نفس العصيان شرطاً لطلب المهمّ.

وبالجملة: فرض تحقّق امتثال طلب الأهمّ في ظرفه هادم لشرط خطاب المهمّ، فكيف يمكن أن يكون المهمّ مطلوباً في ظرف وجود الأهمّ؛ ليرجع الأمر إلى طلب الجمع بين الضدّين(1) ؟ !

أقول: ما ذكره من عدم تأخّر الحكم عن شرطه زماناً متين، سواء رجعت الشرائط إلى قيود الموضوع أو لا، ولو سلّمنا المقدّمة الثانية أيضاً - وهي عدم إمكان تخلّف البعث عن اقتضاء الانبعاث زماناً - وأنكرنا الواجب التعليقي، لَما [أجدَته] المقدّمتان؛ لأنّ كلّ شرط إنّما يتقدّم على مشروطه رتبةً في ظرف تحقّقه، لا حال عدمه.

وبعبارة اُخرى: أنّ وجود الشرط يتقدّم على المشروط تقدّماً رتبياً، فقبل وجود الشرط لا يمكن تحقّق المشروط بالضرورة، فحينئذٍ يلاحظ؛ فإن كان الشرط أمراً زمانياً فلا بدّ من تحقّقه في زمانه حتّى يتحقّق بعده مشروطه بلا تخلّل آنٍ بينهما، وكذا لو كان غير زماني.

فإذا فرضنا واجبين مضيّقين أحدهما أهمّ، كإنقاذ الابن في أوّل الزوال وإنقاذ

ص: 30


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 346 - 348؛ أجود التقريرات 2: 63.

العمّ في أوّله، ويكون ظرف إنقاذ كلّ منهما ساعة بلا نقيصة ولا زيادة، فمع أمر

المولى بإنقاذ الابن مطلقاً لا يعقل تعلّق أمره بإنقاذ العمّ مشروطاً بعصيان أمر الأهمّ؛ لأنّ العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر في مقدار من الوقت يفوت به الإتيان به، ولا محالة يكون ذلك في زمان، ولا يعقل أن يكون الترك في غير الزمان - أي في ظرفه - محقّقاً للمعصية؛ لعدم محقّقية الفوت به، ففوت الأهمّ المحقّق لشرط المهمّ لا يتحقّق إلاّ بمضيّ زمان لا يتمكّن المكلّف من إطاعة أمره، ومضيّ هذا الزمان كما أ نّه محقّق لفوت الأهمّ، محقّق لفوت المهمّ أيضاً، فلا يُعقل تعلّق الأمر بالمهمّ في ظرف فوته، ولو فرض الإتيان به قبل عصيان الأهمّ يكون بلا أمر، وهو خلاف مقصود القائل بالترتّب.

وبالجملة: قد خلط المحقّق المتقدّم بين عدم تخلّف الشرط عن التكليف والتكليف عن اقتضاء البعث، وبين لزوم كون الشرط بوجوده مقدّماً على المشروط، وظنّ أنّ التقدّم الرتبي يدفع الإشكال؛ غفلةً عن أنّ العصيان ما لم يتحقّق لا يعقل تعلّق الأمر بالمهمّ؛ لامتناع تحقّق المشروط قبل شرطه، وبتحقّقه يفوت وقت الأهمّ والمهمّ في المضيّقين، ولو فرض زمان إطاعة المهمّ بعد زمان عصيان الأهمّ يخرج عن فرض الترتّب.

والعجب أ نّه تنبّه للإشكال، وأجاب بما هو أجنبيّ عن دفعه، وتخيّل أنّ التأخّر الرتبي يدفعه، مع أ نّه لا يدفع إلاّ بصيرورة العصيان غير زماني، وأنت خبير بأن لا معنى للعصيان الرتبي؛ لأنّ ترك المأمور به بمقدار يفوت به ذلك من الاُمور الزمانية، لا الرتب العقلية، مع أ نّه لا يعقل بقاء التكليف على فعليته مع عصيانه، وأنّ كونه رتبياً [لا يصحّح المطلب].

ص: 31

وهذا الإشكال يهدم أساس الترتّب، سواء في مضيّقين، أو مضيّق وموسّع:

أمّا الأوّل: فقد عرفت.

وأمّا الثاني: فبعين ما ذكرنا؛ لأ نّه إذا فرض كون أحدهما موسّعاً، لكن يكون أوّل زمانه أوّل الزوال الذي [هو] ظرف إتيان المضيّق، لا يعقل تعلّق الأمر بالموسّع أوّل الزوال مشروطاً بعصيان المضيّق؛ لما عرفت من أنّ العصيان ترك المأمور به في مقدار من الزمان يفوت به الأهمّ، فلا بدّ من تعلّق الأمر بالموسّع بعد مضيّ زمان يتحقّق به العصيان، وهو هدم أساس الترتّب.

وكذا الحال لو فرض أنّ العصيان آنيّ الوجود؛ لأ نّه قبل مضيّ هذا الآن لا يتحقّق شرط المهمّ، فيكون ظرف تحقّق أمر الأهمّ فقط، وبتحقّقه سقط أمر الأهمّ بحصول العصيان ومضيّ أمد اقتضائه، ولا يعقل بقاؤه على فعليته بعد عصيانه ومضيّ وقته، فتفويت متعلّق الأهمّ في رتبة متقدّمة أو آنٍ متقدّم على تعلّق أمر المهمّ، وسقوط أمر الأهمّ وثبوت أمر المهمّ في رتبة واحدة أو آنٍ واحد، فأين اجتماعهما ؟ !

وإن شئت قلت: إنّ اجتماعهما مستلزم لتقدّم المشروط على شرطه، أو بقاء فعلية الأمر بعد عصيانه ومضيّ وقته، وهما باطلان.

هذا كلّه إذا كان العصيان بوجوده الخارجي شرطاً، كما أصرّ عليه المستدلّ.

وأمّا إذا كان العنوان الانتزاعي - ك «الذي يعصي» - شرطاً، فلا إشكال في لزوم مفسدة طلب الجمع؛ لأنّ العنوان الانتزاعي ثابت للمكلّف من أوّل الأمر، ففي أوّل زمان ظرف الامتثال يكون أمر المهمّ فعلياً لحصول شرطه، ولا يكون أمر الأهمّ ساقطاً؛ لعدم الامتثال والعصيان وعدم مضيّ وقته، فلا محالة يتوجّه

ص: 32

إلى المكلّف أمران فعليان: أحدهما: بعنوان «الذي يعصي»، فيأمره بإنقاذ العمّ في أوّل الزوال، وثانيهما: بعنوان آخر، فيأمره بإنقاذ الابن فيه.

ومجرّد أخذ العنوان الانتزاعي من العاصي بلحاظ ظرف العصيان لا يدفع التضادّ؛ لأنّ ملاك دفع التضادّ بين الأمر المشروط بالعصيان وأمر الأهمّ ليس إلاّ عدم اجتماعهما في آنٍ واحد، لا كونهما في رتبتين، كما تخيّل المستدلّ، وسيأتي فساده في المقدّمة الرابعة.

المقدّمة الرابعة: التي عدّها أهمّ المقدّمات وأنّ عليها يبتني أساس الترتّب، وسيتّضح عدم دخالتها في دفع الإشكال، ومحصّلها: أنّ انحفاظ كلّ خطاب بالنسبة إلى ما يتصوّر من التقادير على أنحاء:

النحو الأوّل: ما يكون انحفاظه بالإطلاق والتقييد اللحاظيين؛ وذلك بالنسبة إلى كلّ تقدير يمكن لحاظه عند الخطاب، وهي التقادير المتصوّرة في المتعلّق مع قطع النظر عن الخطاب، كقيام زيد وقعوده؛ حيث يكون الأمر بالصلاة محفوظاً عنده بالإطلاق اللحاظي، وكالوقت؛ حيث يكون الأمر محفوظاً معه بالتقييد اللحاظي.

النحو الثاني: أن يكون الانحفاظ بنتيجة الإطلاق والتقييد، كالتقادير التي تلحق المتعلّق بعد تعلّق الخطاب به، كالجهل والعلم بالخطاب، فلا يمكن فيها الإطلاق والتقييد اللحاظيان، بل لا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق، كما في العلم والجهل بالحكم بعد قيام الضرورة والأدلّة على اشتراك العالم والجاهل بالأحكام وامتناع الإهمال الثبوتي، وإمّا أن يكون الملاك محفوظاً في تقدير خاصّ، فلا بدّ من نتيجة التقييد.

ص: 33

النحو الثالث: ما كان انحفاظ الخطاب لا بالإطلاق والتقييد اللحاظيين ولا بنتيجة الإطلاق والتقييد، وذلك في التقدير الذي يقتضيه نفس الخطاب، وهو الفعل والترك؛ حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه، لا بإطلاقه لحاظاً أو نتيجة؛ إذ لا يعقل الإطلاق والتقييد بالنسبة إليهما، بل يؤخذ المتعلّق معرّى عن حيثيتهما؛ لأ نّه مع التقييد بالفعل يلزم طلب الحاصل، وبالترك طلب الجمع بين النقيضين، ومع الإطلاق كلا المحذورين، فليس في الخطاب بالنسبة إليهما إطلاق وتقييد مطلقاً، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظاً بالاقتضاء الذاتي في كلتا الحالتين ما لم يتحقّق العصيان والطاعة.

والفرق بين هذا القسم والسابقين من وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ نسبة تلك التقادير السابقة إلى الخطاب نسبة العلّة إلى المعلول؛ لمكان رجوعها إلى قيود الموضوع، وهي تتقدّم على الحكم تقدّم العلّة على المعلول، والإطلاق أيضاً يجري مجرى العلّة؛ من حيث إنّ الإطلاق والتقييد في رتبة واحدة، فالإطلاق في رتبة علّة الحكم، وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلّق وتركه، فإنّ التقدير معلول الخطاب؛ لأنّ الخطاب يقتضي فعل المتعلّق وطرد تركه.

الوجه الثاني: أنّ الخطاب في التقادير السابقة يكون متعرّضاً لبيان أمر آخر غير تلك التقادير، غايته أ نّه تعرّض لذلك الأمر عند وجودها، وهذا بخلاف تقديري الفعل والترك، فإنّ الخطاب بنفسه متكفّل لبيان هذا التقدير؛ حيث إنّه يقتضي فعل المتعلّق وعدم تركه.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أ نّه يترتّب على ما ذكرناه طولية الخطابين؛ وذلك لأنّ

ص: 34

خطاب الأهمّ يكون متعرّضاً لموضوع خطاب المهمّ ومقتضياً لهدمه ورفعه تشريعاً؛ لأنّ موضوع خطاب المهمّ هو عصيان خطاب الأهمّ، فالأهمّ يقتضي طرد موضوع المهمّ، والمهمّ لا يتعرّض لموضوعه، وليس بينهما مطاردة، وليسا في رتبة واحدة، بل خطاب الأهمّ مقدّم على خطاب المهمّ برتبتين أو ثلاث، ومع هذا الاختلاف في الرتبة لا يعقل عرضيتهما(1).

أقول: في هذه المقدّمة مواقع للنظر، نذكر مهمّاتها:

الأوّل: ما ذكر من الفرق بين الإطلاق والتقييد اللحاظيين وما هو نتيجتهما - وأنّ الثاني لا يمكن فيه الإطلاق والتقييد، ولا بدّ لإثبات نتيجة الإطلاق من التشبّث بدليل آخر، ولا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الحكم للجاهل والعالم - فمنظور فيه؛ لأنّ معنى الإطلاق ليس إلاّ جعل طبيعة - مثلاً - متعلّقاً أو موضوعاً للحكم من غير تقييدها بقيد، وهو - بما أ نّه فعل اختياري للمتكلّم الملتفت - كاشف عن كونها تمام الموضوع، وهذا ليس من الدلالات اللفظية، ولا يتقوّم باللحاظ وبإمكانه في هذا اللفظ الصادر منه.

فإذا قال: «يجب على المظاهر عتق رقبة» ولم يقيّدها بشيء، يحكم العقلاء بأنّ تمام الموضوع للوجوب على المظاهر عتق الرقبة من غير دخالة شيء فيه، وأنّ الظهار سبب لوجوب العتق من غير قيد، فموضوع احتجاج العقلاء هو أخذ شيء بلا قيد موضوعاً أو متعلَّقاً أو سبباً وهكذا، مع إمكان بيان القيد ولو بدليل آخر، فلو سلّم عدم إمكان تقييد الموضوع أو غيره بما يتأخّر عن الحكم في

ص: 35


1- أجود التقريرات 2: 66 - 73؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 348 - 352.

هذا الكلام لم يضرّ بجواز التمسّك بالإطلاق بعد إمكان بيان القيد بدليل آخر،

فالتمسّك بإطلاق الأدلّة لإثبات الأحكام للعالم والجاهل ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وما قد يقال في بيان الفرق بين ما يمكن التقييد في اللفظ وبين غيره: من أنّ

الأوّل إطلاق لفظي والآخر حالي - مع أ نّه لا يرجع إلى محصّل؛ ضرورة أنّ الإطلاق ليس من المفاهيم الدالّ عليها اللفظ، فليس الإطلاق في كلا القسمين إلاّ معنىً واحداً - لا يضرّ بالمطلوب؛ لجواز التمسّك بالإطلاق الحالي لرفع احتمال القيد.

هذا، مضافاً إلى منع عدم إمكان التقييد في مثل الجهل والعلم بالخطاب؛ فإنّ التقييد غالباً يكون بلحاظ مستقلّ ونظر مستأنف، فإذا قال: «أعتق رقبة مؤمنة» لا تكون إفادة التقييد بنفس الرقبة، بل بقيد المؤمنة، وهو منظور إليه استقلالاً، ولا إشكال في إمكان النظر المستأنف إلى الحكم المجعول في الكلام وتقييده بقيد الجهل والعلم، ولا فرق بين قوله: «أعتق رقبة مؤمنة» و«أعتق رقبة معلومة الحكم» في جواز التقييد ولا جوازه، وقد فرغنا من جواز أخذ ما يأتي من قبل الأمر في متعلّقه في باب التعبّدي والتوصّلي(1)، فهذا التقسيم ممّا لا يترتّب عليه أثر.

نعم، فيما لا يمكن التقييد مطلقاً - مثل الإتيان والترك - لا يجوز التمسّك بالإطلاق والاحتجاج العقلائي، لا من باب أنّ الإطلاق لا يمكن، كما زعم المستدلّ أنّ الإطلاق مستلزم لطلب الحاصل وطلب الجمع بين النقيضين؛

ص: 36


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 209 - 210.

ضرورة بطلان ما ذكر؛ لأنّ الإطلاق ليس الجمع بين التقييدين حتّى يلزم ما ذكر، بل هو عبارة عن عدم التقييد بقيد، أمكن تقييده أم لا.

وأمّا ما تكرّر في كلامهم من أنّ الإطلاق عدم التقييد فيما من شأنه التقييد، فهو صحيح في محلّه؛ لأنّ موضوع كلامهم في باب المطلق والمقيّد هو الإطلاق الذي يحتجّ به على المتكلّم والمخاطب، وقد عرفت أنّ موضوع الاحتجاج إنّما هو قسم من الإطلاقات؛ أي ما يمكن تقييده، وليس المقصود أنّ ما لا يمكن تقييده ليس إطلاقاً، بل هو أيضاً إطلاق ويتقابل مع التقييد تقابل الإيجاب والسلب، لا العدم والملكة.

وبالجملة: لا يلزم من الإطلاق في القسم الثالث شيء من المحذورات المتوهّمة إلاّ أن يرجع الإطلاق إلى التقييدات، وهو كما ترى.

الثاني: أنّ الدافع لطلب الجمع ليس كون أمر الأهمّ والمهمّ في رتبتين، بل الدافع هو سقوط أمر الأهمّ بعصيانه ومضيّ وقته، وعدم ثبوت أمر المهمّ إلاّ بعد سقوط الأهمّ أو مساوقاً له.

ولو كان نفس ترتّب الأمرين دافعاً لذلك لوجب الدفع مع الاشتراط بإطاعة الأهمّ؛ فإنّها متأخّرة عن أمره، ولو جعلت شرطاً تصير مقدّمة على أمر المهمّ تقدّم الموضوع على حكمه، مع أنّ ذلك يقتضي الجمع على مبناه، فيكشف ذلك عن أنّ مناط دفع طلب الضدّين أمر آخر غير نفس الترتّب، وهو ما ذكرنا، وسيأتي مزيد بيان له(1) إن شاء الله.

ص: 37


1- يأتي في الصفحة 43.

الثالث: أنّ العصيان لا يكون متأخّراً رتبةً عن الأمر؛ لعدم ملاك التأخّر الرتبي فيه؛ فإنّه إمّا من ناحية العلّية والمعلولية، أو كون شيء جزءاً للعلّة أو جزءاً للماهية أو شرطاً للتأثير أو التأ ثّر، وكلّها مفقود بالنسبة إلى العصيان.

لا يقال: إنّ إطاعة كلّ أمر متأخّرة عن الأمر رتبة؛ لأ نّها عبارة عن الانبعاث عن البعث، ولا إشكال في تأخّر الانبعاث عن البعث رتبةً تأخّر المعلول عن علّته أو عن جزئها، والعصيان عبارة عن ترك الامتثال بلا عذر، وهو مصداق نقيض الإطاعة، والماهية ومصداقها ليسا في رتبتين؛ لمكان اتّحادهما الذاتي، فالعصيان في رتبة نقيض الإطاعة، ونقيض الإطاعة في رتبتها؛ لأنّ النقيضين في رتبة واحدة، وما مع المتأخّر رتبةً متأخّر كذلك، فينتج أنّ العصيان متأخّر عن الأمر.

وأيضاً: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، فالأمر بالأهمّ دافع للعصيان وعلّة لرفعه، وعلّة الشيء مقدّمة عليه، والعصيان ورفعه في رتبة واحدة؛ لكونهما نقيضين، وما مع المعلول مؤخّر عن العلّة.

فإنّه يقال: كون النقيضين في رتبة واحدة ممنوع، مرّ الكلام فيه(1)، وكون ما مع المتأخّر متأخّراً رتبةً ممنوع أيضاً؛ لأنّ مناط التأخّر الرتبي هو ما قدّمناه، ومع فقدانه لا وجه للتأخّر، وقياس التأخّر الرتبي الذي يدركه العقل لأجل بعض المناطات بالتأخّر الزماني الخارجي، مع الفارق. فاتّضح الجواب عن الشبهتين، وقد أغمضنا عن بعض الشبهات الواردة عليهما.

ص: 38


1- تقدّم في الصفحة 6.

نعم، العصيان يتأخّر عن الأمر زماناً لو اُغمض عن الإشكال الآتي، وهو غير التأخّر الرتبي.

هذا، مضافاً إلى أنّ العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر، وهو معنىً عدمي لا يمكن أن يتّصف بحيثية وجودية مطلقاً، وقد تكرّر منّا(1): أنّ القضايا الصادقة التي موضوعاتها اُمور عدمية لا بدّ وأن تكون من السالبة المحصّلة أو ترجع إليها، والموجبات مطلقاً لا تصدق في الأعدام إلاّ بتأوّل وفي بعض القضايا الغير المعتبرة، كقوله: «العدم عدم»، فالعصيان بما أ نّه عدمي لا يمكن أن يتأخّر عن شيء أو يتقدّم، ولا يمكن أن يكون موضوعاً لحكم ولا شرطاً لشيء أو مانعاً عنه.

وبما ذكرنا ينهدم أساس الترتّب؛ لأ نّه مبنيّ على التقدّم والتأخّر الرتبيين،

وهما بين الأمر وإطاعته - على تأمّل فيه أيضاً - لا بينه وبين عصيانه. اللهمّ إلاّ أن يجعل الموضوع [هو] الذي لا يأتي بالمأمور به بلا عذر، لكن مع ذلك لا يكون التقدّم رتبياً.

المقدّمة الخامسة: الموضوع للحكم إمّا غير قابل للوضع والرفع التشريعيين كالعقل والبلوغ، أو قابل لهما، والثاني إمّا قابل للدفع والرفع أو قابل للدفع فقط، وعلى التقديرين إمّا أن يكون قابلاً للرفع الاختياري للمكلّف أيضاً أو لا، والرفع التشريعي إمّا أن يكون بنفس التكليف أو بامتثاله.

ومحلّ البحث في الأهمّ والمهمّ هو هذا الأخير، وهو ما إذا كان امتثال التكليف رافعاً لموضوع الآخر حيث يتحقّق اجتماع كلّ من الخطابين في

ص: 39


1- تقدّم في الصفحة 5، وفي الجزء الأوّل: 48 - 49.

الفعلية؛ لأ نّه ما لم يتحقّق امتثال أحد الخطابين - الذي فرضنا أ نّه رافع لموضوع الآخر بامتثاله - لا يرتفع الخطاب الآخر، فيجتمع الخطابان في الزمان والفعلية بتحقّق موضوعهما.

والتحقيق: أنّ اجتماع مثل هذين الخطابين لا يوجب إيجاب الجمع، ولا بدّ أوّلاً من معرفة معنى الجمع وما يوجب إيجابه، فنقول:

أمّا الجمع فهو عبارة عن اجتماع كلّ منهما في زمان امتثال الآخر؛ بحيث يكون ظرف امتثالهما واحداً، وأمّا الذي يوجب الجمع فهو أحد أمرين: إمّا تقييد كلّ من المتعلّقين أو أحدهما بحال إتيان الآخر، وإمّا إطلاق كلّ من الخطابين كذلك.

والدليل على عدم إيجاب الجمع اُمور:

الأمر الأوّل: أ نّه لو اقتضيا إيجاب الجمع والحال هذه للزم المحال في طرف المطلوب؛ لأنّ مطلوبية المهمّ إنّما تكون في ظرف عصيان الأهمّ، فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في ظرف امتثاله - كما هو لازم إيجاب الجمع - لزم الجمع بين النقيضين؛ إذ يلزم أن لا يكون مطلوباً قبل العصيان ومطلوباً قبله.

الأمر الثاني: أ نّه يلزم المحال في طرف الطلب؛ لأنّ خطاب الأهمّ يكون من علل عدم خطاب المهمّ؛ لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمع الخطابان في رتبة لزم اجتماع الشيء مع علّة عدمه، أو خروج العلّة عن العلّية، أو خروج العدم عن كونه عدماً، وكلّ ذلك خلف محال.

الأمر الثالث: أنّ البرهان المنطقي أيضاً يقتضي عدم إيجاب الجمع؛ فإنّ الخطاب الترتّبي بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع في النسبة الطلبية في جانب المهمّ

ص: 40

والنسبة التلبّسية في جانب الأهمّ، فصورة القضيّة هكذا: إمّا أن يكون الشخص

فاعلاً للأهمّ، وإمّا أن يجب عليه المهمّ، ومعه كيف يعقل إيجاب الجمع(1) ؟!

أقول: - بعد الغضّ عن الإشكال ببعض ما ذكره - إنّ ما ذكره من عدم اقتضاء هذين الخطابين الجمع، ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في مناط عدم الاقتضاء، فلا بدّ من استقصاء العناوين التي يتصوّر أخذها شرطاً لخطاب المهمّ أو موضوعاً له؛ حتّى يتّضح موارد اقتضاء الجمع وعدم اقتضائه والمناط فيهما، فنقول:

الشرط إمّا أن يكون العصيان الخارجي، أو التلبّس بالعصيان والأخذ والشروع فيه، كما تشبّث به المستدلّ في خلال كلامه، أو العنوان الانتزاعي من العاصي، ك «الذي يعصي» أو «الذي يتعقّبه العصيان». وتلك العناوين إمّا يكون ظرف تحقّقها أو انتزاعها ظرف تحقّق العصيان، أو ظرف الشروع فيه، أو قبلهما:

فإن كان العصيان الخارجي أو ما يساوقه خارجاً - أيّ عنوان كان - يلزم الخروج عن بحث الترتّب وإن لم يلزم إيجاب الجمع؛ وذلك لأ نّه ما دام عدم تحقّق العصيان لا يكون أمر المهمّ فعلياً، وبتحقّق العصيان يسقط أمر الأهمّ بخروج متعلّقه عن إمكان الإتيان به؛ إذ مع إمكانه لا يتحقّق العصيان، ومع عدم إمكانه لا يعقل بقاء الأمر الفعلي، من غير فرق بين كون العصيان زمانيّ التحقّق أو آنيّه، ففي الثاني أيضاً قبل تحقّق الآن ظرف أمر الأهمّ فقط، وبتحقّقه يتحقّق العصيان، ويسقط أمر الأهمّ، ويثبت أمر المهمّ، فأين اجتماعهما ؟ !

فلازم اجتماعهما في الفعلية: إمّا تخلّف المشروط عن شرطه بتقدّمه عليه إن

ص: 41


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 352 - 363؛ أجود التقريرات 2: 73 - 86.

تعلّق أمر المهمّ قبل تحقّق المعصية، أو بقاء أمر الأهمّ مع تحقّق المعصية وعجز المكلّف عن الإتيان به، وهما محالان.

وأمّا توهّم كون العصيان في الرتبة العقلية فواضح الفساد؛ لأنّ العصيان ترك المأمور به بلا عذر خارجاً، ولا ربط له بالرتبة العقلية.

وهذا الإشكال وارد أيضاً على جعل الشرط ما يكون مساوقاً للعصيان خارجاً طابق النعل بالنعل.

وأمّا إن جُعل الشرط التلبّس بالعصيان بمعنى الأخذ والشروع فيه - فمضافاً إلى أنّ العصيان فيما نحن فيه ليس من الاُمور الممتدّة أو المركّبة ممّا يتصوّر فيه

الأخذ والشروع، بل إذا ترك المأمور به إلى حدّ سلب القدرة ينتزع منه العصيان في حين سلب القدرة، ولا ينتزع قبله، فتحقّق العصيان آنيّ وإن كان محتاجاً في بعض الأحيان إلى مضيّ زمان حتّى تسلب القدرة، فالعصيان بنفسه لا يكون متدرّج الوجود حتّى يأتي فيه الشروع والختم - يرد عليه: أنّ الشروع فيه إمّا مُحقِّق العصيان، أو لا، ولا ثالث لهما.

فالأوّل هو القسم الأوّل بعينه، ويرد عليه ما تقدّم، والثاني يأتي حكمه في القسم الآتي.

وإن جعل الشرط أمراً انتزاعياً من العصيان الخارجي فلازمه طلب الجمع؛ لأنّ الأمر الانتزاعي متحقّق قبل وقت امتثال الأهمّ وقبل عصيانه، فأمر المهمّ صار فعلياً باعثاً نحو المأمور به، وأمر الأهمّ لم يسقط وبقي على باعثيته قبل تحقّق العصيان، فهذا باعث نحو إنقاذ الابن - مثلاً - أوّل الزوال بعنوان «المكلّف»، وذاك إلى إنقاذ الأب كذلك بعنوان «الذي يكون عاصياً فيما بعد»،

ص: 42

والمكلّف الذي يكون عاصياً فيما بعد مبعوث فعلاً نحو ذاك وذلك، وغير قادر على ذلك، ومجرّد اختلاف العنوانين وطولية موضوع الأمرين لا يدفع طلب الجمع؛ ألا ترى أنّ عنوان المطيع أيضاً مؤخّر عن الأمر، فلو جعل شرطاً يكون مقدّماً على أمر المهمّ، فيصير أمر الأهمّ مقدّماً عليه برتبتين، ومع ذلك لا يدفع ذلك طلب جمع الضدّين.

وبذلك يتّضح أنّ التقدّم الرتبي ليس مناطاً لدفع التضادّ، والعصيان إذا جعل

شرطاً مع عدم تأخّره عن أمر الأهمّ - كما مرّ - يدفع به التضادّ؛ لا للتقدّم، بل لعدم جمع الأمرين الفعليين؛ لما عرفت من أنّ ثبوت أمر المهمّ مساوق لسقوط أمر الأهمّ، وهذا هو تمام المناط لرفع التضادّ وطلب الجمع، وهو هدم أساس الترتّب، وكذا يتّضح حال سائر العناوين المساوقة لهذا الأمر الانتزاعي.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ ما يدفع به التضادّ وطلب الجمع خارج عن أساس الترتّب رأساً.

وما قد يقال: من أنّ المكلّف لو جمع بين الأهمّ والمهمّ لم يقعا على صفة المطلوبية، وهذا آية عدم الأمر بالجمع(1).

مدفوع: بأنّ الذي يعصي يمتنع عليه الجمع بينهما؛ للزوم اجتماع النقيضين، وإلاّ فلو فرض جواز الجمع - بمعنى أنّ العاصي مع كونه عاصياً أتى بالأهمّ - وقع كلّ منهما على صفة المطلوبية؛ لأنّ الذي يعصي مع كونه عاصياً في ظرفه مطلوب منه الإتيان بالأهمّ؛ لعدم سقوط أمره بالضرورة ما لم يتحقّق العصيان خارجاً، والفرض أنّ شرط المهمّ حاصل أيضاً، فيكون مطلوباً.

ص: 43


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 363.
تمسّك المحقّق النائيني ببعض الفروع الفقهية على الترتّب

إن قلت: أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، وقد وقع في الشرعيات ما لا محيص عن الالتزام به، مع أ نّها من الخطاب الترتّبي:

منها: ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزوال، فلو فرض أ نّه عصى هذا الخطاب وأقام، فلا إشكال في وجوب الصوم عليه، فيكون في الآن الأوّل الحقيقي من الفجر قد توجّه إليه كلّ من حرمة الإقامة ووجوب الصوم، لكن مترتّباً؛ يعني أنّ وجوب الصوم يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة بالخطاب الترتّبي.

ومنها: لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال، فيكون وجوب القصر عليه مترتّباً على عصيان وجوب الإقامة؛ حيث إنّه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجّه إليه خطاب القصر، وكذا لو فرض حرمة الإقامة؛ فإنّ وجوب التمام مترتّب على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها: وجوب الخمس المترتّب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين من عام الربح، إلى غير ذلك(1).

قلت: فيه أوّلاً: أنّ الخطابات التي فرض ترتّبها على عصيان خطابات اُخر تكون فعليتها بعد تحقّق العصيان، وبتحقّق العصيان خارجاً تسقط تلك الخطابات، فلا يمكن اجتماع الخطابين الفعليين في حال من الأحوال،

ص: 44


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 357 - 359.

فلا يعقل تعلّق خطاب الصوم المترتّب على عصيان الإقامة إلى الزوال في الأوّل

الحقيقي من الفجر؛ فإنّ أوّل الفجر لم يكن ظرف العصيان، ومع عدم تحقّقه لا يعقل فعلية المشروط به، وكذا الحال في سائر الفروع المفروضة.

وثانياً: أنّ خطاب الصوم والإتمام والقصر لم يترتّب على عصيان حرمة الإقامة أو وجوبها، بل مترتّب على عزم الإقامة وعدمه، ومع عزمها لا يعقل إيجاب الخروج وإيجاب الصوم عليه؛ للزوم طلب الضدّين، وكذا الأمر بالصلاة فعلاً تماماً والخروج أمر بالضدّين.

وثالثاً: أنّ خطابات الصوم وإتمام الصلاة وقصرها لم تكن مترتّبة على عصيان حرمة الإقامة أو وجوبها، بل على عزم الإقامة - كما تقدّم - أو نفسها فرضاً، وليس شيء منهما متأخّراً عن تلك الخطابات؛ فإنّ المتأخّر عن الأمر أو النهي - بعد التسليم - عصيانهما، دون ذات الإقامة أو عزمها؛ لعدم ملاك التأخّر فيهما، فالعصيان لا ينتزع من نفس الإقامة بما هي، بل من حيثية زائدة عليها، وهي كونها مصداقاً عرضياً لمخالفة المأمور به أو المنهيّ عنه، وهذه الحيثية متأخّرة عن الأمر والنهي، لا ذات الإقامة بما هي أو عزمها بما هو، فالنقوض كلّها أجنبيّة عن باب الترتّب(1).

وأمّا وجوب الخمس فلم يكن مترتّباً على عصيان وجوب الدين في آية أو رواية، بل الخمس إنّما يتعلّق بالغنيمة أو الفائدة الزائدة عن مؤونة السنة، ومع أداء الدين لم تبق فائدة حتّى يتعلّق بها الخمس، من غير أن يكون

ص: 45


1- هذا كلّه مع الغضّ عن أنّ تلك العناوين ليست بذاتها واجبة أو محرّمة، ومع تعلّق النذر وشبهه [بها] لم تصرْ واجبةً أو محرّمةً كما مرّ نظيره. [منه قدّس سرّه ]

خطابه مترتّباً على عصيان خطاب آخر، فإيفاء الدين رافع لموضوع الخمس، لا أنّ خطابه مترتّب على عصيانه.

تقرير الذي أورده المحقّق الأصفهاني لتصحيح الترتّب

وممّا ذكرنا من الإيراد على الترتّب يظهر النظر في تقرير آخر لعدم المطاردة بين الأمرين، وهو: إنّ اقتضاء كلّ أمر لطاعة نفسه في رتبة سابقة على طاعته، وهي مرتبة أثره؛ فإنّ كلّ علّة منعزلة عن التأثير في رتبة أثرها، وإنّما اقتضاؤها في مرتبة ذاتها، ولمّا كان العصيان نقيض الطاعة فيجب أن يكون في رتبتها، فيلزم تأخّره عن الأمر، فإذا اُنيط أمر بعصيان هذا الأمر فلا تعقل المزاحمة بينهما؛ إذ في رتبة تأثير أمر الأهمّ لا وجود لأمر المهمّ، وفي رتبة الأمر بالمهمّ لا يكون اقتضاء للأمر بالأهمّ، فلا يقتضي مثل هذين الأمرين إلقاء المكلّف فيما لا يطاق(1).

وفيه: أنّ الإناطة بالعصيان وإن ترفع التضادّ والمزاحمة بينهما، لكن لا لمناط التقدّم الرتبي، بل لسقوط فعلية الأمر بالأهمّ لأجل العصيان وعدم فعلية أمر المهمّ إلاّ بعد العصيان، فلا يجتمع الأمران في حين من الأحيان، وهذا هدم أساس الترتّب.

هذا، مع ورود ما يرد على التقرير المتقدّم - من عدم تأخّر العصيان عن الأمر - على هذا أيضاً.

ص: 46


1- نهاية الدراية 2: 218.
تقرير المحقّق العراقي لتصحيح الترتّب

وقد قرّر عدم المطاردة بعض مدقّقي العصر رحمه الله علیه بعد الإشارة إلى الترتّب وتصديقه بأ نّه في غاية المتانة والنظر فيه بأنّ ذلك لا يقتضي طولية الأمر واشتراط أحدهما بعصيان الآخر قائلاً بأ نّه: لا إشكال في حكم العقل بالتخيير في صورة تساوي المصلحتين، وليس مرجع التخيير إلى اشتراط وجوب كلّ بعصيان الآخر؛ للزوم تأخّر كلّ عن الآخر رتبةً، وليس مرجعه أيضاً إلى اشتراط كلّ أمر بعدم وجود غيره؛ إذ في مثل ذلك وإن لم يلزم المحذور المتقدّم ولا محذور إيجاب الضدّين بنحو المطاردة في ظرف عدم الضدّين؛ إذ لازم الاشتراط أن لا يقتضي كلّ أمرٍ إيجاد مقتضاه حال وجود الآخر، ولم يخرج الطلب المشروط عن كونه مشروطاً، لكن مع ذلك لا داعي على تقييد الطلب وإناطته بعد إمكان توجّه الطلب الناقص إلى سائر الجهات، الملازم لتحقّق الجهة الملازمة لعدم الآخر من باب الاتّفاق، فيرجع ما ذكرنا إلى أنّ كلّ طلب في ظرف المزاحمة يقتضي المنع عن بعض أنحاء التروك، قبال الطلب التامّ المقتضي لجميع أنحائه، مع اشتراكهما في إطلاق الطلب.

فلنا أن نقول: إنّ الطلب بالنحو المزبور إذا لم يكن بينهما مطاردة لنقص فيهما، كذلك لم يكن بينهما مطاردة لو فرض نقص الطلب من طرف واحد ولو لم يشترط الناقص بعصيان التامّ؛ إذ مقتضى الطلب الناقص حفظ سائر الجهات في ظرف انسداد الباب الملازم لوجود الضدّ، فكيف يقتضي الطلب

ص: 47

التامّ طرد هذا المقتضى ؟! إذ نتيجة طرده منع انسداد تلك الجهة، وفي ظرفه لا اقتضاء للطلب الناقص، فأين المطاردة من طرف واحد، فضلاً عن الطرفين ؟ ! (1)، انتهى.

ولا يخفى: أ نّه يرد عليه ما يرد على الوجهين المتقدّمين؛ لاشتراكه معهما في نقطة الضعف وإن فارقهما في جهة اُخرى، فنقول:

إنّه قبل تحقّق إطاعة الطلب التامّ وعصيانه لا شبهة في اقتضائه البعث نحو متعلّقه فعلاً؛ لعدم سقوطه بهما، فطلب الناقص هل يؤخذ على نحو يكون في هذا الحين باعثاً نحو متعلّقه أو لا ؟

فعلى الأوّل: يلزم طلب الجمع بين الضدّين.

وعلى الثاني: يخرج عن محطّ البحث ويكون باعثية المهمّ بعد سقوط أمر الأهمّ، وأمّا قبله فلمّا لم تكن الجهة الملازمة لعدم الآخر من باب الاتّفاق متحقّقة لم يكن أمر المهمّ فعلياً.

وبعبارة اُخرى: أنّ الطلب الناقص المتوجّه إلى سائر الجهات، الملازم لتحقّق

الجهة الملازمة لعدم الآخر من باب الاتّفاق، قبلَ تحقّق هذه الجهة الملازمة لعدم الآخر لم يكن باعثاً فعلاً، وأمر الأهمّ في هذا الحال باعث فقط، وإذا تحقّقت الجهة الملازمة لعدم الآخر خارجاً - أي صار العصيان متحقّقاً - خرج أمر الأهمّ عن الفعلية، وصار أمر المهمّ فعلياً، وعدم المطاردة بهذا المعنى لا إشكال فيه، لكنّه خارج عن محطّ البحث وهادم لأساس الترتّب.

ص: 48


1- مقالات الاُصول 1: 342 - 343.

ولو اُخذ النقصان لا من هذه الجهة بل من الجهة الملازمة لكون الآخر معدوماً في محلّه؛ أي بعنوان انتزاعي، ورد عليه: لزوم المطاردة، فرفع المطاردة مرهون بتحقّق العصيان خارجاً، وهو ملازم لسقوط أمر الأهمّ، وهادم لأساس الترتّب، وكذا لأساس ما أفاد ذلك المحقّق.

وبالجملة: هذا الوجه عين الوجه الأوّل وجهاً وإيراداً، ومفترق عنه بجهات، منها كون الأوّل مشتملاً على التطويل المملّ، وهو على التقصير المخلّ.

ص: 49

الفصل السادس في جواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ؟

في تقرير محطّ البحث احتمالات، بعضها مناف لعنوان البحث، كاحتمال كون الجواز بمعنى الإمكان الذاتي؛ لأنّ علم الآمر غير ممكن الدخل في الإمكان الذاتي وامتناعه، وبعضها معلوم العدم، كاحتمالٍ ذكره في «الفصول»(1)، وتبعه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) وجعله وجه التصالح بين الفريقين؛ ضرورة أنّ أدلّتهما

تنافي ذلك التصالح، وإن كان بعضها لا يخلو من مناسبة لما ذكر.

ولا يبعد أن يكون هذا البحث من تتمّة بحث الطلب والإرادة؛ فإنّ الإمامية(3) لمّا اختاروا بطلان الكلام النفسي وجعلوا الإرادة مبدأ للطلب - أيّ طلب كان - ذهبوا إلى امتناع توجّه الإرادة إلى ما لا يمكن تحقّقه؛ إمّا لفقدان شرط

ص: 50


1- الفصول الغروية: 109 / السطر 17.
2- كفاية الاُصول: 170.
3- كشف المراد: 289؛ نقد المحصّل: 289 - 292.

المأمور به أو لعدم قدرة المكلّف(1).

والأشاعرة(2) لمّا جعلوا الطلب غير الإرادة ولم يجعلوها من مبادئه جوّزوا ذلك، وقالوا: قد يطلب المولى شيئاً ولا يريده، وقد ينهى عنه وهو يريده(3).

ثمّ إنّ البحث قد يقع في الأوامر الشخصية، كأمره تعالى للخليل علیه السلام وقد يقع

في الأوامر الكلّية القانونية.

فعلى الأوّل: فلا إشكال في امتناع توجّه البعث لغرض الانبعاث إلى من علم الآمر فقدان شرط التكليف فيه، بل لا يمكن ذلك بالنسبة إلى من يعلم أ نّه لا ينبعث ولو عصياناً بل إلى من يعلم أ نّه آتٍ بنفسه بمتعلّق الطلب ولا يكون الطلب مؤثّراً فيه بوجه؛ ضرورة أنّ البعث لغرض الانبعاث إنّما يمكن فيما يحتمل أو يعلم تأثيره فيه، ومع العلم بعدم التأثير لا يمكن البعث لغرض الانبعاث، وكذا الحال في الزجر والنهي.

ولا يخفى: أنّ مناط امتناع إرادة البعث لغاية الانبعاث في هذه الموارد واحد، وهو عدم تحقّق مبادئ الإرادة، من غير فرق بين امتناع الانبعاث ذاتاً أو وقوعاً أو إمكانه مع العلم بعدم وقوعه.

هذا كلّه في الإرادة الشخصية المتوجّهة إلى أشخاص معيّنين.

وأمّا الإرادة التشريعية القانونية فغايتها ليست انبعاث كلّ واحد واحد، بل

ص: 51


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 163؛ نهاية الوصول إلى علم الاُصول 1: 607؛ معالم الدين: 82.
2- شرح المواقف 8: 91 - 92؛ شرح المقاصد 4: 143.
3- راجع المستصفى من علم الاُصول 2: 17؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2: 435.

الغاية فيها - بحيث تصير مبدأ لها - هي أنّ هذا التشريع بما أ نّه تشريع قانوني

لا يكون بلا أثر، فإذا احتمل أو علم تأثيره في أشخاص مختلطة في [المجتمع] في الأعصار والأمصار، تتحقّق الإرادة التشريعية على نعت التقنين، ولا يلزم فيها احتمال التأثير في كلّ واحد؛ لأنّ التشريع القانوني ليس تشريعات مستقلّة بالنسبة إلى كلّ مكلّف؛ حتّى يكون بالنسبة إلى كلّ واحد بعثاً لغرض الانبعاث، بل تشريع واحد متوجّه إلى عنوان منطبق على المكلّفين، وغرض هذا التشريع القانوني لا بدّ وأن يلحظ بالنسبة إليه، لا إلى كلّ واحد مستقلاًّ، وإلاّ لزم عدم تكليف العصاة والكفّار، بل والذي يأتي [بمتعلّق الأمر] ويترك متعلّق النهي بإرادته بلا تأثير لتكليف المولى فيه، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، وقد عرفت أنّ مناط الامتناع في البعث الشخصي في العاجز والقادر العاصي واحد، فإذن ما لا يجوز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط فيه هو الأوامر الشخصية المتوجّهة إلى أشخاص معيّنين، وأمّا الأوامر الكلّية القانونية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين، فلا تجوز مع فقد عامّتهم للشرط، وأمّا مع كون الفاقد والواجد مختلطاً وموجوداً في كلّ عصر ومصر - كما هو الحال خارجاً - فلا يلزم تقييد التكليف بعنوان الواجد مثلاً، وإلاّ يلزم تقييده بعنوان غير العاصي وغير [الجاهل] وغير النائم، وهكذا، وهو كما ترى.

وإن شئت قلت: لا يكون الخطاب العامّ خطابات مستقلّة لكلّ منها غاية مستقلّة، فتدبّر.

ص: 52

الفصل السابع في متعلّق الأوامر والنواهي

اشارة

هل الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع أو الأفراد ؟

تحرير محلّ النزاع

لا تخلو كلمات القوم في تحرير محلّ النزاع من اضطراب، فيظهر من بعضها: أنّ المسألة عقلية صرفة أو مبنيّة عليها، وأنّ الإرادة والاشتياق والطلب لا يمكن أن تتعلّق بما لا يكون منشأً للآثار، فعلى القول بأصالة الوجود لا بدّ من تعلّقها به، وعلى القول بأصالة الماهية لا بدّ أن تتعلّق بها، أو أ نّها مبنيّة على

وجود الطبيعي وعدمه، فعلى الأوّل تتعلّق بها، وعلى الثاني بالفرد؛ لامتناع تعلّقها بما لا وجود له(1).

ويظهر من بعضها: أنّ النزاع في أ نّها تتعلّق بالطبائع أو بالوجود الخارجي؛ حيث أبطل الثاني بأ نّه طلب الحاصل(2).

ص: 53


1- اُنظر نهاية الدراية 2: 253 - 255.
2- الفصول الغروية: 109 / السطر 6؛ اُنظر كفاية الاُصول: 172.

ومن بعضها: أ نّها مسألة لغوية؛ حيث تشبّث بالتبادر في إثبات تعلّقها بالطبائع(1).

ومن بعضها: أنّ النزاع في سراية الإرادة للخصوصيات اللاحقة للطبيعة في الخارج وعدمها(2)... إلى غير ذلك.

والتحقيق: أنّ محطّ البحث ليس في تعلّقها بالكلّي الطبيعي أو أفراده ممّا هو المصطلح في المنطق؛ فإنّ الماهيات الاعتبارية المخترعة كالصلاة والحجّ ليست من الكلّيات الطبيعية، ولا مصاديقها مصاديق الكلّي الطبيعي؛ فإنّ الماهيات المخترعة وكذا أفرادها ليست موجودة في الخارج؛ لأنّ المركّب الاختراعي - كالصلاة والحجّ - لم يكن تحت مقولة واحدة، ولا يكون لمجموع اُمور وجود حتّى يكون مصداقاً لماهية وكلّي طبيعي.

وبه يظهر أنّ المسألة أجنبيّة عن أصالة الوجود والماهية، بل المراد من الطبيعي هاهنا هو العنوان الكلّي، سواء كان من الطبائع الأصيلة أم لا.

ولا يختصّ البحث بصيغة الأمر والنهي، بل الكلام في متعلّق الطلب بأيّ دالّ كان؛ ولو بالجملة الإخبارية في مقام الإنشاء.

ثمّ لا يبعد أن يكون محطّ البحث: أنّ الأمر إذا تعلّق بماهية بالمعنى المتقدّم، هل يسري إلى الأفراد والمصاديق المتصوّرة بنحو الإجمال منها؛ بحيث تكون الطبيعة وسيلة إلى تعلّقه بالمصاديق الملحوظة بنحو الإجمال، لا بما هي ملحوظة ومتصوّرة بل بنفس ذاتها، كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ،

ص: 54


1- الفصول الغروية: 107 / السطر 37.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 417.

فيكون معنى «صلّ»: أوجد فردها ومصداقها، لا الفرد الخارجي ولا الذهني، بل ذاته المتصوّرة إجمالاً؛ فإنّ الأفراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها، كما أنّ الطبيعة قابلة له قبله، وما ذكرنا نزاع معقول.

مقتضى التحقيق: تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع

والتحقيق: أنّ الأوامر والنواهي مطلقاً متعلّقة بالطبائع؛ بمعنى أنّ الآمر قبل تعلّق أمره بشيء يتصوّره بكلّ ما هو دخيل في غرضه، ويبعث المكلّف نحوه ليوجده في الخارج؛ ضرورة أنّ البعث الحقيقي لا يمكن أن يتعلّق بما هو أوسع أو أضيق ممّا هو دخيل في الغرض؛ للزوم تعلّق الإرادة والشوق بغير المقصود أو به مع الزيادة جزافاً، فإذا لم تكن للخصوصيات الفردية دخالة في غرض الآمر لا يمكن أن يبعث نحوها؛ لأنّ البعث تابع للإرادة التشريعية التابعة للمصالح، وتعلّقها بما هو غير دخيل في تحصيلها ممتنع، كتعلّقها ابتداءً بأمر بلا غاية.

وتوهّم تعلّقها تبعاً بما هو من ملازمات المراد باطل؛ لأ نّه مع خروجه عن محطّ البحث - لأنّ الكلام ليس في استلزام إرادة لإرادة اُخرى كباب المقدّمة، بل في متعلّق الأمر - قد فرغنا عن بطلانه.

وإن شئت قلت: إنّ الطبيعة - أيّة طبيعة كانت - لا يعقل أن تكون مرآةً لشيء من الخصوصيات الفردية اللاحقة لها في الخارج، ومجرّد اتّحادها معها خارجاً لا يوجب الكشف والدلالة، فلا يكون نفس تصوّر الماهية كافياً في تصوّر الخصوصيات، فلا بدّ للآمر من تصوّرها مستقلاًّ بصورة أو صور غير صورة الطبيعي ولو بالانتقال من الطبيعي إليها، ثمّ تتعلّق الإرادة بها مستقلاًّ غير الإرادة

ص: 55

المتعلّقة بنفس الطبيعة، وهذه الإرادة جزاف محض.

بل يمكن أن يقال: إنّ تصوّر الأفراد غير تصوّر الطبيعة؛ ضرورة أنّ تصوّر الخاصّ الجزئي من شؤون القوى النازلة للنفس، وتعقّل الطبيعة من شؤون العاقلة بعد تجريد الخصوصيات، فربّما يتصوّر الأفراد مع الغفلة عن نفس الطبيعة وبالعكس.

فالآمر إذا أراد توجيه الأمر إلى الطبيعة لا بدّ من لحاظها في نفسها، وإذا أراد الأمر بالأفراد لا بدّ من لحاظها: إمّا بعنوان إجمالي، وهو مباين

لعنوان الطبيعة في العقل، وإمّا تفصيلاً مع الإمكان، وهو أيضاً غير لحاظ الطبيعة.

فإذا فرض كون الطبيعة ذات مصلحة ولو بوجودها الخارجي فلا بدّ للآمر من تصوّرها وتصوّر البعث إليها وإرادته، ففي هذا اللحاظ لا تكون الأفراد ملحوظة لا إجمالاً ولا تفصيلاً، ولا تكون ملازمة بين اللحاظين، وصرف اتّحاد الخصوصيات الخارجية مع الطبيعة خارجاً لا يوجب الملازمة العقلية، فلا بدّ لتعلّق الأمر بها من لحاظ مستأنف وإرادة مستأنفة جزافاً.

المراد من البعث نحو المأموربه

ثمّ إنّ البعث نحو المأمور به، سواء كان بصيغة الأمر أو بدالّ آخر وكذا الزجر في النهي، هل هو عبارة عن طلب الوجود في الأمر، وطلب تركه أو الزجر عنه في النهي؛ بمعنى وضع الهيئة لطلب الإيجاد أو الوجود مثلاً، أو استعمالها فيه ؟

ص: 56

أو أنّ البعث يتعلّق بوجود الطبيعة؛ بمعنى أنّ الهيئة موضوعة لنفس البعث، ولمّا كان البعث إلى الطبيعة لا معنى له، قُدّر الوجود ؟

أو لا ذا ولا ذاك، بل البعث إلى الطبيعة لازمه العقلي أو العرفي تحصيلها في

الخارج، فقوله: «صلّ» يفيد البعث إلى الطبيعة، ولكن الطبيعة لا تكون طبيعة حقيقة وبالحمل الشائع إلاّ بوجودها الخارجي، فنفس الطبيعة ليست بشيء، وفي الوجود الذهني ليست هي هي حقيقة، فيكون البعث المتعلّق بنفس الطبيعة بعثاً إلى تحصيلها، وهو لا يكون إلاّ بإيجادها خارجاً عقلاً وعرفاً. وبعبارة اُخرى: إنّ إطاعة التحريك نحو الطبيعة والانبعاث عن البعث إليها بإيجادها وتحصيلها خارجاً؟ وجوه:

الظاهر هو الأخير؛ لأنّ الهيئة لم توضع إلاّ لإيقاع البعث نحو المادّة بحكم التبادر، والمادّة هي الطبيعة، والمتفاهم عرفاً من الأمر هو طلب المأمور به؛ أي البعث نحو المادّة؛ ولهذا لا يفهم من مثل «أوجد الصلاة» إيجاد وجود الصلاة، بل يفهم منه البعث إلى الإيجاد.

تنبيه: في تعلّق الأمر بنفس الماهية

هل يتعلّق الأمر بنفس الماهية، أو بما هي ملحوظة مرآةً للخارج باللحاظ التصوّري وإن كان اللاحظ يقطع بخلافه بالنظر التصديقي ؟

قد يقال: إنّ محطّ البحث في تعلّق الأمر بالطبيعة هو الطبيعة على النحو الثاني، وأمّا نفس الطبيعة فلا يعقل تعلّق الأمر بها؛ لأ نّها من حيث هي ليست إلاّ هي؛ لا تكون مطلوبة ولا مأموراً بها، فلا بدّ أن تؤخذ الطبيعة بما هي مرآة

ص: 57

للخارج باللحاظ التصوّري؛ حتّى يمكن تعلّق الأمر بها(1).

ولا يخفى أنّ هذا ناشٍ من الغفلة عن معنى قولهم: «الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي»(2)، ولهذا زعم أنّ الماهية لا يمكن أن يتعلّق بها أمر أو يلحقها شيء آخر، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل معنى هذا أنّ الأشياء كلّها منتفية عن مرتبة ذات الماهية، ولم يكن شيء عيناً لها ولا جزءاً مقوّماً، وأنّ كلّ ما ذكر يلحق بها وخارج عن ذاتها وذاتياتها، وهذا لا ينافي لحوق شيء بها، فالماهية وإن كانت من حيث هي ليست إلاّ هي؛ أي في مرتبة ذاتها لا تكون إلاّ نفس ذاتها، لكن تلحقها الوحدة والكثرة والوجود وغيرها من خارج ذاتها، وكلّ ما يلحقها ليس ذاتاً ولا ذاتياً لها؛ أي ذاتي باب إيساغوجي.

فالأمر إنّما يتعلّق بنفس الماهية من غير لحاظها متّحدة مع الخارج، بل لمّا

رأى المولى أنّ الماهية في الخارج منشأ الآثار - من غير توجّه نوعاً إلى كون الآثار لوجودها أو لنفسها في الخارج - ولم تكن موجودة، يبعث المأمور إلى إيجادها وصيرورتها خارجية، فالمولى يرى أ نّها معدومة، ويريد بالأمر إخراجها من المعدومية إلى الموجودية بوسيلة المكلّف. فلحاظ الاتّحاد التصوّري مع القطع بالخلاف تصديقاً - مع كونه لا محصّل له رأساً - لا يفيد شيئاً، ومع الغفلة عن القطع بالخلاف منافٍ لتعلّق الأمر وتحريك المأمور نحو الإيجاد.

وبالجملة: هذا التكلّف ناشٍ من توهّم عدم إمكان تعلّق الأمر بالماهية؛

ص: 58


1- نهاية الأفكار 1: 380 - 381؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 404 - 405.
2- كشف المراد: 86؛ الحكمة المتعالية 2: 3 - 8؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 333.

لتخيّل منافاة ذلك لما اشتهر بينهم من القول المتقدّم، مع أ نّه أجنبيّ عنه.

فالتحقيق الذي يساعد عليه الوجدان: أنّ الأمر متعلّق بنفس الماهية في حين توجّه الآمر إلى معدوميتها، ويريد بالأمر سدّ باب إعدامها، وإخراجها إلى الوجود بوسيلة المكلّف.

هذا كلّه، مع أنّ مرآتية الماهية للأفراد غير معقولة، كما مرّ مراراً(1).

نقد وتحصيل : في سراية الأمر من العنوان إلى الأفراد والحصص

قد استأنف بعض المحقّقين - بعد بنائه على تعلّق الأمر بالطبيعة - فصلاً محصّله: أ نّه إذا تعلّق الأمر بعنوان على نحو صرف الوجود، فهل يسري إلى أفراده تبادلاً، فتكون الأفراد بخصوصياتها تحت الطلب، أم لا ؟

وعلى الثاني فهل يسري إلى الحصص المقارنة للأفراد كما في الطبيعة السارية، أم لا، بل الطلب يقف على نفس الطبيعة ؟

قال: توضيح المراد يحتاج إلى مقدّمة وهي: أنّ الطبيعي حسب أفراده يتحصّص وكلّ فرد منه مشتمل على حصّة منه مغايرة للحصّة الاُخرى باعتبار محدوديتها بالمشخّصات الفردية، ولا ينافي ذلك اتّحاد تلك الحصص بحسب الذات، وهذا معنى قولهم: إنّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد، وإنّ مع كلّ فرد أباً من الطبيعي غير الآخر، ويكون الآباء مع اختلافها بحسب المرتبة متّحدة ذاتاً.

ص: 59


1- تقدّم في الصفحة 16 و55 - 56.

ثمّ قال: التحقيق يقتضي وقوف الطلب على نفس الطبيعة، وأقام عليه دليلين، ثمّ قال: لا يخفى أنّ عدم سراية الطلب إلى الحصص إنّما هو بالقياس إلى الحيثية التي تمتاز بها الحصص الفردية بعضها عن البعض الآخر المشترك معه في الجنس والفصل القريبين، وأمّا بالنسبة إلى الحيثية الاُخرى التي بها تشترك تلك الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشاركة لها في الجنس القريب، وهي الحيثية التي بها قوام نوعيتها، فلا بأس بدعوى السراية إليها، بل لعلّه لا محيص عنها؛ من جهة أنّ الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقوّمها العالي ليست إلاّ عين الطبيعي، ونتيجة ذلك كون التخيير بين الحصص شرعياً لا عقلياً.

إن قلت: إنّ الطلب تعلّق بالعناوين والصور الذهنية، لا المعنونات الخارجية، فيستحيل سرايته إلى الحصص الفردية؛ حيث إنّها تباين الطبيعي ذهناً، وإن كان كلّ من الحصص والطبيعي ملحوظاً بنحو المرآتية.

قلت: إنّ المدّعى هو تعلّق الطلب بالطبيعي بما هو مرآة للخارج، ولا ريب في أنّ وجود الطبيعي في الخارج لا يمتاز عن وجود الحصص، بل هو الجهة المشتركة الجامعة بين الحصص، والمرئي بالطبيعي الملحوظ مرآةً للخارج ليس إلاّ تلك الجهة الجامعة بين الحصص، وهذا مرادنا من سراية الطلب من الطبيعي إلى حصصه، بل التعبير بها مسامحي؛ إذ بالنظر الدقّي يكون الطلب المتعلّق بالطبيعي الملحوظ مرآةً متوجّهاً إلى الجهة الجامعة بين الحصص، فمتعلّق الطلب في الحقيقة هي تلك الجهة الجامعة بعينها(1)، انتهى بطوله.

ص: 60


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 407 - 410.

الظاهر أ نّه أشار في تحقيق الكلّي الطبيعي إلى ما اشتهر بين تلامذته نقلاً عنه: من أنّ الحصص بالنسبة إلى الأفراد كالآباء والأولاد، والطبيعي هو أب الآباء، وهو الجهة المشتركة بين الحصص، ويكون الطبيعي مرآةً لهذه الجهة المشتركة الخارجية.

وزعم أنّ المراد بقول بعض أهل فنّ المعقول: «إنّ الطبيعي بالنسبة إلى الأفراد

كالآباء والأولاد» هو حصصه، وافترض آباءً هي الحصص، وأب الآباء وهو القدر المشترك بينها الذي يكون الطبيعي مرآةً له، غفلةً عن أنّ ما ذكروا - من أنّ نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء - فرار عن الأب الواحد الذي التزم به الرجل الهمداني الذي صادف الشيخ الرئيس، ففي الحقيقة جمع هذا المحقّق بين الالتزام بمقالة الرجل الهمداني وبين ما ذكر جواباً له؛ غفلةً عن حقيقة الأمر.

ولمّا كان ذلك منشأً لاشتباه كثير منهم في كثير من المباحث، فلا بأس بالإشارة الإجمالية إلى مراد الرجل الهمداني، ومراد القوم في مقابله.

تحقيق: في الكلّي الطبيعي

فنقول: زعم الرجل أنّ معنى وجود الطبيعي في الأعيان هو أنّ ذاتاً واحدة بعينها مقارنة لكلّ واحد من المقارنات المختلفة موجودة بنعت الوحدة في الخارج، وأنّ ما به الاشتراك الذاتي بين الأفراد متحقّق خارجاً بما هو الجهة المشتركة. وكأ نّه توهّم - من قولهم: إنّ الأشخاص تشترك في حقيقة واحدة هي الطبيعي، وقولهم: إنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج - أنّ مقصود القوم

ص: 61

هو موجودية الجهة المشتركة بما هي كذلك في الخارج، قائلاً: هل بلغ من عقل الإنسان أن يظنّ أنّ هذا موضع خلاف بين الحكماء ؟ ! على ما حكي عنه(1).

وربّما يستدلّ(2) لما توهّمه الرجل تارةً: بأنّ الطبيعي معنىً واحد منتزع من الخارج، ولا يمكن أن يكون الكثير بما هو كثير منشأً لانتزاع الواحد، فلا بدّ من جهة اشتراك خارجي بنعت الوحدة؛ حتّى يكون الطبيعي مرآةً لها ومنتزعاً منها.

واُخرى: بأنّ العلل المختلفة إذا فرض اجتماعها على معلول واحد، لا بدّ فيها من جهة وحدة خارجية مُؤثّرة في الواحد بمقتضى قاعدة لزوم صدور الواحد عن الواحد.

وربّما يمثّل لذلك بأمثلة جزئية، كتأثير بندقتين في قتل شخص، وتأثير قوى أشخاص في رفع حجر، وتأثير النار والشمس في حرارة الماء... إلى غير ذلك من هوساتهم.

وهذا معنى كون الطبيعي كأب واحد بالنسبة إلى الأبناء؛ أي يكون بنعت الوحدة والاشتراك موجوداً في الخارج.

وفي مقابله قول المحقّقين(3)، وهو أنّ الطبيعي موجود في الخارج لا بنعت الوحدة والنوعية واشتراك الكثرة فيه، بل من حيث طبيعته وماهيته، وأنّ العموم والاشتراك لاحق له في موطن الذهن، والجهة المشتركة ليس لها موطن إلاّ

ص: 62


1- رسائل ابن سينا 1: 471؛ الحكمة المتعالية 1: 273.
2- مقالات الاُصول 1: 72.
3- رسائل ابن سينا 1: 462؛ اُنظر الحكمة المتعالية 1: 273؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.

العقل، والخارج موطن الكثرة، والطبيعي موجود في الخارج بوجودات متكثّرة، وهي متكثّرة حسب تكثّر الأفراد والوجودات، لا بمعنى تحصّصه بحصص؛ فإنّه لا محصّل له، بل بمعنى أنّ كلّ فرد متّحد في الخارج مع الطبيعي بتمام ذاته؛ لأنّ ذاته غير مرهونة بالوحدة والكثرة، فهو مع الكثير كثير [ومع الواحد واحد].

فزيد إنسان لا حصّة منه، وعمرو إنسان آخر لا حصّة اُخرى منه، وهكذا، وإلاّ لزم كون زيد بعض الإنسان لا الإنسان، وعمرو كذلك، وهو ضروري الفساد.

فلو وجدت الجهة المشتركة في الخارج لزم أن تكون موجودة بنعت الوحدة؛ لأنّ الوجود مساوق للوحدة، فلزم إمّا وحدة جميع الأفراد وجوداً وماهية، أو كون الواحد كثيراً وكون كلّ فرد موجوداً بوجودين: أحدهما بحيثية الجهة المشتركة، فيكون كلّ الأفراد واحداً في الوجود الخارجي من هذه الحيثية، وثانيهما وجوده بالحيثية [المميّزة له عن] قرنائه.

وهذا - أي كون الإنسان غير موجود بنعت الوحدة والاشتراك بل بنعت الكثرة المحضة - مرادهم من أنّ الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد، لا الأب مع الأبناء.

وهذا الفاضل الاُصولي لمّا لم يصل إلى مغزى مرامهم، جمع بين الآباء والأب، فجعل للأفراد أباً وجدّاً هو أب الآباء، ولهذا تراه صرّح في جواب «إن قلت»: بأنّ وجود الطبيعي في الخارج هو الجهة المشتركة، وأنّ المرئي بالطبيعي الملحوظ مرآةً للخارج ليس إلاّ تلك الجهة الجامعة بين الحصص(1)، وهذا بعينه

ص: 63


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 409 - 410.

قول الرجل الهمداني الذي أفرد شيخ المشّائين رسالة لردّه(1).

وقد نقل نصّ الشيخ بأنّ الإنسانية الموجودة كثيرة بالعدد وليست ذاتاً واحدة، وكذلك الحيوانية، لا كثرة باعتبار إضافات مختلفة، بل ذات الإنسانية المقارنة لخواصّ زيد هي غير ذات الإنسانية المقارنة لخواصّ عمرو، فهما إنسانيتان: إنسانية قارنت خواصّ زيد، وإنسانية قارنت خواصّ عمرو، لا غيرية باعتبار المقارنة حتّى تكون حيوانية واحدة تقارن المتقابلات من الفصول(2)، انتهى.

وهذه العبارة - كما ترى - ناصّة على خلاف ما زعم هذا المحقّق، مع أنّ البرهان قائم على خلافه.

وأمّا ما أيّدنا به قول الهمداني: من حديث انتزاع الواحد عن الواحد، فبعد الغضّ عن أنّ الطبيعي ليس من الانتزاعيات - بل من الماهيات المتأصّلة الموجودة في الخارج تبعاً للوجود تحقّقاً وتكثّراً، وأنّ معنى موجوديتها موجوديتها ذاتاً تبعاً للوجود، لا موجودية منشأ انتزاعها، وأنّ كثرة الوجود منشأ تكثّرها خارجاً؛ لأ نّها بذاتها لا كثيرة ولا واحدة، فالكثرة تعرضها خارجاً؛ بمعنى صيرورة ذاتها كثيرة بتبع الوجود خارجاً، والوحدة تعرضها في العقل عند تجريدها عن كافّة اللواحق - أنّ الانتزاع هاهنا ليس إلاّ عبارة عن إدراك النفس من كلّ فرد بعد تجريده عن المميّزات ما تدرك من فرد آخر.

فإذا جرّدت النفس خصوصيات «زيد» تدرك منه معنى الإنسان؛ أي طبيعيّه

ص: 64


1- رسائل ابن سينا 1: 462.
2- الحكمة المتعالية 1: 274.

من غير اتّصافه بنعت الوحدة المشتركة النوعية، وكذا إذا جرّدت خصوصيات «عمرو» تنال منه ما تنال من «زيد» بلا تفاوت، وبعد لحاظ كونه مشتركاً بين الأفراد تحكم بأ نّه الجهة المشتركة، فالوحدة تعرضه في العقل عند التحليل والتجزئة، لا في الخارج ولا في حاقّ الذهن.

وأمّا حديث تأثير الواحد في الواحد ففي غاية السقوط، منشؤه مقايسة الفاعل الإلهي البسيط بالفواعل الطبيعية، مع عدم التأمّل فيها أيضاً؛ ضرورة أنّ العلّة البسيطة الإلهية يكون معلولها عين التعلّق بها، ويكون بتمام هويته وحقيقته ربطاً محضاً بعلّته، لا يمكن أن يكون له حيثية غير مرتبطة بها، وإلاّ لزم الاستغناء الذاتي وهو ينافي الإمكان، وفي مثله لا يمكن أن يجتمع عليه علّتان حتّى يبحث في كيفيته، ولا يعقل تفويض الفاعل الإلهي أثره إلى غيره، أو تعلّق المعلول بالذات بغير علّته الخاصّة به.

وبالجملة: لا يعقل ربط المعلول البسيط تارةً بهذه العلّة واُخرى بهذه وثالثة بالجامع بينهما؛ للزوم الانقلاب الذاتي في البسيط.

وأمّا الفواعل الطبيعية فهي بالنظر إلى شخص الأثر الخاصّ بها كذلك؛ فإنّ شخص الحرارة القائمة بشعاع الشمس لا يمكن أن يكون متعلّقاً بالنار وبالعكس، فإذا اجتمعت الشمس والنار على التأثير في ماء واحد يكون كلّ منهما مؤثّراً فيه بقدر أثره الخاصّ به؛ فإنّ الماء غير بسيط، بل مركّب ذو امتداد يتأ ثّر من هذه وهذه، ولا إشكال في تأ ثّر مثل هذا الواحد الطبيعي القابل للتجزئة والتركيب بعلّتين، فأثر كلّ علّة غير أثر الاُخرى، وتأ ثّر الماء بكلّ غير تأ ثّره بآخر. وهكذا الأمر في اجتماع أشخاص على رفع الحجر؛ فإنّ كلّ واحد يؤثّر

ص: 65

فيه أثراً خاصّاً به، حتّى يحدث في الحجر - بواسطة القواسر العديدة - ما يغلب

على ثقله الطبيعي أو جاذبة الأرض، وهذا واضح جدّاً.

إذا عرفت ذلك: اتّضح لك الخلل فيما زعمه رحمه الله علیه من البناء على هذا المبنى الفاسد.

وأمّا ما ترى في خلال كلامه: من أنّ الحيثية التي تشترك بها هذه الحصص، وتمتاز عن أفراد النوع الآخر، هي الحيثية التي بها قوام نوعيتها، وهي متّحدة مع الطبيعي.

ففيه: أنّ الطبيعي لا يمكن أن يتحصّص بنفس ذاته، بل التحصّص يحصل عن تقيّده بقيود عقلية، مثل الإنسان الأبيض والأسود. وبالجملة: لا يمكن التحصّص - على فرضه - بلا لحوق شيء للطبيعي، فحينئذٍ لا يمكن أن تكون الحصص نفس الطبيعي في اللحاظ العقلي، والاتّحاد الخارجي كما يكون بين الحصص والطبيعي يكون بين الأفراد والطبيعي، والاتّحاد الخارجي لا يوجب سراية الأمر، وما به الامتياز - بين حصص نوع مع حصص نوع آخر - ليس بالفصل المقوّم فقط، بل به وبالتقيّدات الحاصلة من القيود اللاحقة المحصّلة للحصص، والامتياز بالفصل المقوّم فقط إنّما يكون بين نوع ونوع آخر، لا حصصهما.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعي لا يمكن أن يسري إلى الأفراد، ولا إلى الحصص التي تخيّلت للطبيعي.

ص: 66

الفصل الثامن في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب

اشارة

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز ؟ والكلام يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في إمكان بقائه عقلاً

قد يقال بإمكانه؛ بدعوى أنّ الوجوب وإن كان بسيطاً، إلاّ أ نّه يتضمّن مراتب عديدة، وهي: أصل الجواز، والرجحان، والإلزام، فيمكن أن يرتفع بعض المراتب ويبقى الآخر. وبما أنّ الوجوب حقيقة ذات تشكيك فلا حاجة في إثبات مرتبة بعد ارتفاع الاُخرى إلى دليل على الفصل؛ فإنّه بعد ذهاب مرتبة منه يتحدّد قهراً بالاُخرى، نظير الحمرة الشديدة التي تزول مرتبة منها فتبقى مرتبة اُخرى(1).

وفيه أوّلاً: أنّ الوجوب أمر انتزاعي من البعث الناشئ من الإرادة الحتمية، والاُمور الانتزاعية ليست ذات مراتب حتّى يأتي فيها ما ذكر، والتفاوت

ص: 67


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 413.

بين البعث الإلزامي والاستحبابي ليس في نفس البعث، بل في منشئه الذي هو الإرادة.

نعم، لو كان الوجوب هو الإرادة المظهرة(1)، فباعتبار الإرادة يكون ذا مراتب، لكنّ المبنى فاسد.

وثانياً: لو كان بسيطاً وذا مراتب لم يلزم منه إمكان ذهاب مرتبة وبقاء الاُخرى؛ لأنّ معنى كون البسائط ذات مراتب ليس أنّ كلّ مرتبة منها كذلك. مثلاً: أنّ الوجود - عند أهله - حقيقة ذات تشكيك(2)، وليس لازمه أنّ الوجود الواجبي أيضاً ذو مراتب، والوجود العقلي كذلك، بل المراد أنّ نفس الحقيقة تصدق على الواجب - الذي هو مرتبة بسيطة كاملة منها عندهم - وعلى المراتب الاُخر دونه صدقاً مشكّكاً، لا أنّ كلّ هوية ذات مراتب.

فنقول: كون الوجوب في المقام ذا مراتب معناه أنّ مرتبة منه الوجوب، ومرتبة منه الوجوب الأكيد، واُخرى آكد منهما... وهكذا، ومفهوم الوجوب يصدق عليها صدقاً مشكّكاً، لا أنّ كلّ وجوب ذو مراتب.

نعم، ينتزع من الوجوب الجواز بالمعنى الأعمّ والرجحان بمعناه، لا بمعنى وجودهما في ضمنه، بل بمعنى أنّ طبيعي الجواز والرجحان موجود بعين وجود الوجوب، فالوجوب هو الجواز والرجحان، ومع ذهابه يذهبان بعين ذهابه.

وثالثاً: لو فرضنا أنّ المنظور من الوجوب ومراتبه هو الإرادة المظهرة، فهي

ص: 68


1- مقالات الاُصول 1: 98 و311؛ نهاية الأفكار، القسم الأوّل 4: 167.
2- الحكمة المتعالية 1: 433؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 105.

في الحيوان والإنسان وإن يتطرّق إليها الشدّة والضعف؛ لكونها من شؤون المادّة،

لكن لا يمكن ذلك في المبادئ العالية.

فالحقّ: عدم إمكان بقاء الجواز أو الرجحان - أي الاستحباب - مع رفع الوجوب.

المقام الثاني: في مقتضى الأدلّة إثباتاً بعد فرض إمكانه

والحقّ عدم دلالة شيء من الناسخ والمنسوخ عليه؛ لأنّ دليل الوجوب ليس له ظهورات حتّى يبقى بعضها مع سقوط بعض، بل البعث الإلزامي لا يكون له ظهور إلاّ في نفس البعث، ويفهم الإلزام من أمر آخر، كحكم العقلاء بكونه تمام الموضوع لوجوب الطاعة، إلاّ أن يقوم دليل على الترخيص، ولو فرض ظهوره في الوجوب وضعاً لا يكون له إلاّ ظهور واحد، فمع قيام الدليل على النسخ لا يبقى ظهور له.

ولو قيل: إنّ الطلب الإلزامي كما يكشف عن الإرادة الإلزامية يكشف عن الرجحان الفعلي وعن أصل الجواز، فإذا سقطت كاشفيته بالنسبة إلى الإلزام بقيت بالنسبة إلى غيره.

قلت أوّلاً: إنّ الطلب لا يكشف إلاّ عن الإرادة الحتمية، لكن العقل يحكم بأنّ الرجحان والجواز بمعناهما الأعمّ موجودان بوجوده، ومع سقوط كشفه عن الإرادة الحتمية لا يبقى منكشف ولا كاشف.

وثانياً: لو فرضنا كون المنكشف متعدّداً لكنّه طولي لا عرضي؛ لأنّ الطلب الإلزامي يكشف عن الإرادة الحتمية، وهي تكشف عن الرجحان والجواز، ومع الطولية لا يمكن بقاء الكاشفية.

ص: 69

بل لو فرض العرضية لم يمكن ذلك أيضاً؛ لأ نّه مع سقوط الكاشف لا مجال للكشف. نعم، لو كان في المقام كواشف فبسقوط أحدها لا يسقط الآخر، لكنّه كما ترى .

وبما ذكرنا سقط ما قيل: من أنّ القدر المتيقّن من دليل النسخ رفع خصوص الإلزام، وفيما عداه يؤخذ بدليل المنسوخ، نظير ما إذا ورد دليل ظاهر في الوجوب ودليل آخر على عدمه، فيجمع بينهما، ويؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره في الإلزام، فليكن المقام كذلك(1).

ضرورة أنّ الجمع بين الأمر الظاهر في الوجوب والنصّ المرخّص في تركه - بحمل الأمر على الاستحباب - ليس أخذاً ببعض مراتب الظهور وترك بعض مراتبه، بل هو تحكيم النصّ على الظاهر وحمله على خلاف ظاهره. هذا لو فرضنا ظهور الأمر في الوجوب، وإلاّ فالكلام فيه غير ذلك.

وأمّا ما نحن فيه، فبعد العلم بأنّ الأمر للوجوب، والعلم برفع الوجوب، فلا مجال لبقاء الاستحباب، إلاّ إذا فرض مراتب للظهور، وهو بمكان من الفساد، فالقياس مع الفارق، والمقيس عليه ليس كما توهّم.

المقام الثالث: في استصحاب الجواز عند الشكّ في بقائه

لو فرض الشكّ في بقاء الجواز هل يمكن استصحابه ؟ بتقريب: أنّ طبيعي الجواز كان موجوداً بوجود الوجوب، ومع رفعه نشكّ في بقاء أصل الجواز مع مصداق آخر، فيستصحب.

ص: 70


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 413.

قلت: الحقّ عدم جريانه هنا ولو سلّمنا جريانه في القسم الثالث من الكلّي؛ لأنّ من شرائط جريانه أن يكون المستصحب موضوعاً ذا أثر شرعي، أو حكماً مجعولاً كنفس الوجوب والاستحباب، والمقام ليس كذلك:

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فلأنّ الجواز - الجامع بين الوجوب والجواز بالمعنى الأخصّ والاستحباب - ليس مجعولاً وحكماً شرعياً، بل الجعل إنّما تعلّق بكلّ منها، والعقل ينتزع من الجعل المتعلِّق بها الجواز بالمعنى الأعمّ، وهذا الأمر الانتزاعي ليس حكماً شرعياً ومجعولاً شرعاً، فلا مجال لاستصحابه.

ص: 71

الفصل التاسع في الواجب التخييري

اشارة

لا إشكال في وقوع ما هو بظاهره الواجب التخييري في الشرع والعرف، إنّما الكلام في إمكانه ثبوتاً حتّى يؤخذ بظاهر الأدلّة، أو عدمه حتّى يترك ظاهرها ويوجّه بنحو، كالالتزام بتعلّق التكليف بالجامع تعييناً وأنّ التخيير عقلي، أو تعلّقه بالجامع الانتزاعي، أو غيرهما.

مايمكن أن يقال في وجه الامتناع: أنّ الإرادة التكوينية لا يمكن أن تتعلّق بما هو مردّد واقعاً، فكذلك التشريعية. والسرّ في عدم الإمكان: أنّ الوجود - أيّ وجود كان - مساوق للتشخّص والتعيّن الواقعي، والتردّد النفس الأمري مضادّ للموجودية، فلا يمكن أن يكون وجود متردّداً واقعاً بين شيئين ترديداً بحسب نفس الأمر، سواء كان وجوداً خارجياً أو ذهنياً.

ولا إشكال في أنّ الإرادة - سواء كانت تكوينية أو تشريعية - من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، ولا يمكن تحقّقها بلا إضافة إلى شيء، فلا بدّ من مضاف إليه موجود، فلا يعقل أن تكون الإرادة بحسب نفس الأمر مردّدة التعلّق،

ص: 72

ولا متعلّقها كذلك؛ للزوم أن يكون الموجود متردّداً واقعاً، وهو يرجع إلى التردّد

فيما هو بذاته متعيّن متشخّص.

وكذا الكلام في البعث؛ فإنّه يقع بلفظ - كهيئة الأمر - مضاف إلى شيء هو المبعوث إليه، فيكون لكلّ من آلة البعث ومتعلّقها وجود ذهناً أو خارجاً ممّا لا يمكن أن يتطرّق إليه الترديد الواقعي، فالواجب التخييري لازمه التردّد الواقعي في الإرادة التشريعية ومتعلّقها وفي البعث اللازم منه التردّد في آلته ومتعلّقه، وكلّ ذلك محال؛ لاستلزامه الإبهام الواقعي في المتشخّصات والمتعيّنات الواقعية(1).

وفيه: منع لزوم ما ذكر من الإبهام والتردّد الواقعي في شيء من المذكورات؛ لأنّ المولى إذا رأى أنّ في شيئين أو أشياء مصلحة ملزمة وافية كلٌّ منها بغرضه؛ بحيث يكون كلّ من الطرفين أو الأطراف محصّله، ولم يكن جامع بينها قابل لتعلّق الأمر به - على فرض لزوم الجامع على مبنى بعضهم - فلا محالة يتوسّل لتحصيل غرضه بهذا النحو بإرادة بعث متعلّق بهذا وإرادة بعث آخر متعلّق بذاك، مع تخلّل لفظة «أو» وما في معناها بينهما؛ لإفهام أنّ كلّ واحد منهما محصّل لغرضه، ولا يلزم الجمع بينهما.

فهاهنا إرادة متعلّقة بمراد، وبعث متعلّق بمبعوث إليه، كلّها معيّنات مشخّصات لا إبهام في شيءٍ منها، وإرادة اُخرى متعلّقة بمراد آخر، وبعث آخر إلى مبعوث إليه آخر، كلّها معيّنات مشخَّصات، وبتخلّل كلمة «أو» وما يرادفها

ص: 73


1- راجع نهاية الدراية 2: 271.

يرشد المأمور إلى ما هو مراده، وهو إتيان المأمور بهذا أو ذاك، وبالضرورة ليس في شيء من الإرادة والمراد وغيرهما إبهام بحسب الواقع ونفس الأمر.

وأنت إذا راجعت وجدانك في أوامرك التخييرية ترى أنّ الواقع هو ما ذكرنا، فلا تكون الإرادة في الواجب التعييني والتخييري سنخين، ولا البعث والواجب.

لكنّ الفرق بينهما بحسب الثبوت هو كون الواجب التعييني بنفسه محصّلاً للغرض ليس إلاّ، بخلاف التخييري، ويكون البعث في التعييني متعلّقاً بشيء بلا تعلّقه بشيء آخر، وفي التخييري يكون بعثان متعلّقان بشيئين مع تخلّلهما بما يفيد معنى التخيير في إتيانه.

ويمكن أن يكون كلّ من الطرفين في التخييري محصّلاً لغرض غير الآخر، لكن يكون حصول كلّ غرض هادماً لموضوع الآخر، فيتوسّل المولى إلى حصول غرضه بما ذكر.

ثمّ ليعلم: أنّ تقسيم الواجب إلى التعييني والتخييري كتقسيمه إلى النفسي والغيري، إنّما هو بلحاظ البعث المنتزع منه الوجوب، فحديث الأغراض والمصالح الواقعية ومحصّلها ولزوم صدور الواحد عن الواحد - على فرض صحّته في أمثال المقام - أجنبيّ عن محطّ التقسيم، فكما أنّ تقسيمه إلى النفسي والغيري لا ينافي كون الواجبات لمصالح واقعية كما تقدّم(1)، كذلك كون الجامع مؤثّراً في تحصيل الغرض الواحد لا ينافي تقسيمه إلى التعييني والتخييري، فتدبّر.

ص: 74


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 305.

تنبيه : في التخيير بين الأقلّ والأكثر

اشارة

هل يمكن التخيير بين الأقلّ والأكثر أم لا ؟

محطّ البحث والإشكال إنّما هو في الأقلّ الذي اُخذ لا بشرط، وأمّا المأخوذ بشرط لا فهو من قبيل المتباين مع الأكثر، ولا إشكال في جوازه. فحينئذٍ نقول:

قد يقال بامتناعه: أمّا في التدريجيات: فللزوم تحصيل الحاصل. وأمّا في الدفعيات: فلأنّ الزائد يجوز تركه لا إلى بدل، وهو ينافي الوجوب. وبعبارة اُخرى: أنّ الزائد يكون من قبيل إلزام ما لا يلزم، وإيجابه بلا ملاك، وهو محال(1).

أقول: إنّ الأقلّ والأكثر قد يكونان من التدريجيات، وقد يكونان من الدفعيات، وعلى أيّ تقدير قد يكون كلّ منهما محصّلاً لغرض واحد وقد يكون كلّ محصّلاً لغرض غير الآخر، وعلى التقدير [الأخير] قد تكون بين الغرضين مزاحمة بحسب الوجود وقد لا تكون.

التخيير بين الأقلّ والأكثر في التدريجيات

لا إشكال في امتناع التخيير بينهما في التدريجيات؛ لأنّ الأقلّ يتحقّق دائماً قبل الأكثر فيستند إليه الأثر ويسقط الوجوب بوجوده، ولا يعقل إيجاب الأكثر الذي لا يمكن امتثاله.

ص: 75


1- نهاية الدراية 2: 273.

إن قلت: التخيير ممكن إذا كان الأقلّ والأكثر تحت طبيعة واحدة تكون بحسب الوجود مشكّكة، ويكون ما به الاشتراك بين الأفراد عين ما به الامتياز، كالخطّ القصير والطويل؛ لأنّ تعيّن الخطّ لفردية الطبيعة إنّما يكون إذا صار محدوداً، وأمّا مادام الاستمرار التدريجي فلا يتعيّن للفردية، بل كأ نّه مبهم قابل لكلّ تعيّن، فمحصّل الغرض إذا كان فرداً منها، [و]لا يصير القصير فرداً لها إلاّ إذا

صار محدوداً، فالفردان وإن تفاوتا بالأقلّية والأكثرية، لكن صيرورتهما فردين لها ومحصّلين للغرض لا تمكن إلاّ بتحقّق الفردية، وهي متقوّمة بالمحدودية بالحمل الشائع.

وكذا يمكن فيما إذا كانا محصّلين لعنوان آخر يكون ذلك العنوان محصّلاً للغرض، مثلاً: صلاة الحاضر والمسافر مع كونهما مختلفتين بالأقلّية والأكثرية، لكن يكون كلّ منهما محصّلاً لعنوان - كالتخشّع الخاصّ - يكون ذلك العنوان محصّلاً للغرض، ففي مثله يجوز التخيير بينهما(1).

قلت: نعم، هذا ما قرّره بعض سادة العصر - دام بقاه

- لكن فيه خلط نشأ من الخلط بين اللابشرطية والبشرط لائية؛ لأنّ الخطّ الذي لا يتعيّن بالمصداقية للطبيعة هو الخطّ المحدود بحدّ القِصر الذي هو بشرط لا، وأمّا نفس طبيعة الخطّ بمقدار الذراع مثلاً بلا شرط بالمحدودية وغيرها، فلا إشكال في تحقّقها إذا وصل الخطّ المتدرّج إلى مقدار الذراع وإن لم يتوقّف عند ذلك الحدّ؛ ضرورة أنّ الخطّ الموجود في الخارج لا يمكن أن لا تصدق عليه طبيعة الخطّ، وإذا

ص: 76


1- لمحات الاُصول: 152 - 153.

وصل إلى ذراع لا يمكن عدم موجودية الذراع اللا بشرط.

فما هو الموجود يصدق عليه طبيعة الذراع من الخطّ وإن لم يصدق عليه الخطّ المحدود، ومورد الكلام هو الأوّل؛ أي اللا بشرط المتحقّق مع المحدود وغيره.

فقوله: - لا يصير الفرد القصير فرداً لها إلاّ مع محدوديته - إن أراد به أنّ

اللا بشرط لا يتحقّق، فهو مدفوع بما ذكرنا.

وإن أراد أنّ المحدود بالقصر لا يتحقّق، فهو خارج عن محطّ البحث.

وممّا ذكرنا يتّضح النظر في الفرض الثاني؛ لأنّ الأقلّ اللا بشرط إذا وجد يكون محصّلاً للعنوان الذي هو محصّل للغرض، فلا يبقى مجال لتحصيل الأكثر ذلك العنوان المحصِّل له.

هذا كلّه في التدريجيات.

التخيير بين الأقلّ والأكثر في الدفعيات

وأمّا الدفعيات: فإن كان هنا غرض واحد يحصل بكلّ منهما، فلا يعقل التخيير بينهما أيضاً؛ لأنّ الغرض إذا حصل بنفس ذراع من الخطّ بلا شرط، كان التكليف بالزيادة بلا ملاك، فتعلّق الإرادة والبعث بها لغو ممتنع، ومجرّد وحدة وجود الأقلّ بلا شرط مع الأكثر خارجاً لا يدفع الامتناع بعد كون محطّ تعلّق الأمر هو الذهن [الذي هو] محلّ تجريد طبيعة المطلوب عن غيره من اللواحق الزائدة.

وإن كان لكلّ منهما غرض غير ما للآخر: فإن كان بين الغرضين تدافع في

ص: 77

الوجود لا يمكن اجتماعهما أو يكون اجتماعهما مبغوضاً للآمر، فلا يعقل التخيير أيضاً؛ لأنّ الأقلّ بلا شرط موجود مع الأكثر، فإذا وجدا دفعةً لا يمكن وجود أثريهما للتزاحم، أو يكون اجتماعهما مبغوضاً، فلا يعقل تعلّق الأمر بشيء لأجل غرض لا يمكن تحصيله أو يكون مبغوضاً.

وأمّا إذا كان الغرضان قابلين للاجتماع، ولا يكون اجتماعهما مبغوضاً وإن لم يكن مراداً أيضاً، فالتخيير بينهما جائز؛ لأنّ الأقلّ مشتمل على غرض مطلوب، والأكثر على غرض آخر مطلوب، فإذا وجد متعلّق الغرضين كان للمولى أن يختار منهما ما يشاء.

ص: 78

الفصل العاشر في الواجب العيني والكفائي

ينقسم الواجب إلى عيني وكفائي، وهذا ممّا لا إشكال فيه. إنّما الكلام في الفرق بينهما:

فقيل: لا فرق بينهما إلاّ في المكلّف به؛ فإنّ الكفائي متعلّقه نفس الطبيعة، والعيني [الطبيعة] مقيّدةً بمباشرة كلّ مكلّف بالخصوص(1).

وقيل: إنّ الفرق في المكلّف - بالفتح - فإنّه في العيني كلّ الآحاد مستغرقاً، وفي الكفائي صرف وجود المكلّف(2).

والتحقيق: أنّ للكفائي صوراً:

منها: ما لا يمكن له إلاّ فرد واحد، كقتل المرتدّ.

ومنها: ما يمكن، وحينئذٍ: تارةً: يكون المطلوب فيه فرداً من الطبيعة، واُخرى: يكون صرف وجودها.

ص: 79


1- لمحات الاُصول: 155.
2- أجود التقريرات 1: 271.

فعلى الأوّل: إمّا أن يكون الفرد الآخر مبغوضاً، أو لا يكون مبغوضاً ولا مطلوباً.

لا يمكن أن يكون المكلّف جميع المكلّفين في الصورة الاُولى؛ فإنّ التكليف المطلق لهم في عرض واحد بالنسبة إلى ما لا يمكن فيه كثرة التحقّق لغرض انبعاثهم، ممّا لا يمكن. وهذا واضح.

وكذا الحال في الثانية والثالثة؛ فإنّ انبعاثهم وإن كان ممكناً، لكن مع مبغوضية الزائد من الفرد الواحد أو عدم مطلوبيته، لا يمكن بعثهم إليه؛ لأدائه إلى البعث إلى المبغوض في الاُولى، وإلى غير المطلوب في الثانية.

وأمّا الصورة الرابعة: فلازم بعثهم إليه بنحو الإطلاق هو اجتماعهم في إيجاد الصرف، وكون المتخلّف عاصياً.

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ التكليف بصرف وجود المكلّف غير جائز في بعض الصور، فلا بدّ من القول بتعلّق التكليف فيه بفرد من المكلّفين بشرط لا في بعض الصور، ولا بشرط في الاُخرى.

وما قيل: - من أنّ الفرد الغير المعيّن لا وجود له(1) - حقّ لو قيّد بعنوان غير المعيّن، وأمّا عنوان فرد من المكلّفين فممّا له وجود في الخارج؛ فإنّ كلّ واحد منهم مصداقه، ومع ذلك لا يلزم بعث الجميع في عرض واحد؛ حتّى يلزم المحذور المتقدّم.

وكذا يجوز التكليف بالفرد المردّد بنحو التخيير، كالتخيير في المكلّف به.

ص: 80


1- نهاية الدراية 2: 271 و277، الهامش 2.

وما قيل: من أنّ المردّد لا وجود له ولا يجوز البعث التخييري(1)، لا يصغى إليه؛ ضرورة صحّة التكليف التخييري بين الفردين فصاعداً، ولم يكن عنوان الترديد قيداً؛ حتّى يقال: لا وجود له، والإشكال العقلي في الواجب التخييري مرّ دفعه(2).

ويمكن في بعض الصور أن يكون المكلّف به صرف الوجود، وكذا المكلّف، ولازمه عصيان الجميع مع الترك، وإطاعتهم مع إتيانهم عرضاً، والسقوط عن الغير مع إتيان البعض.

ص: 81


1- نهاية الدراية 2: 271 - 273.
2- تقدّم في الصفحة 73.

الفصل الحادي عشر في الواجب المطلق والموقّت

اشارة

وينقسم الواجب إلى المطلق والموقّت؛ لأنّ الزمان: إمّا غير دخيل في المتعلّق ويكون المأمور به نفس الطبيعة، وإمّا دخيل، وهو يتصوّر على وجهين؛ فإنّ الغرض: إمّا يحصل من وقوع الطبيعة في الزمان مطلقاً، أو في زمان معيّن، فالأوّل منهما لا يكون موقّتاً وإن كان للزمان دخالة في حصول الغرض، لكن لا يلزم بل لا يجوز للمولى توقيت المتعلّق؛ للزوم اللغوية، فالموقّت ما عيّن له وقت، والمطلق بخلافه.

ثمّ إنّ تقسيم الموقّت إلى الموسّع والمضيّق ممّا لا إشكال فيه.

والإشكال في الموسّع: بأنّ لازمه ترك الواجب في أوّل وقته بلا بدل، وهو ينافي الوجوب(1).

مدفوع: بأنّ ترك الواجب الموسّع، بتركه في تمام الوقت، وأمّا تركه في بعض الوقت فلا ينافي وجوبه.

ص: 82


1- اُنظر معالم الدين: 73؛ قوانين الاُصول 1: 118 / السطر 5.

وفي المضيّق: بأنّ الانبعاث لا بدّ وأن يكون متأخّراً عن البعث، فلا بدّ من فرض زمان يسع البعث والانبعاث، ولازمه زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب(1).

مدفوع أوّلاً: بأنّ الانبعاث لا يلزم أن يتأخّر زماناً عن البعث، بل تأخّره عنه طبعي، لا زماني.

وثانياً: لو فرض لزوم تأخّره زماناً أمكن تصوّر المضيّق بنحو الوجوب التعليقي، فيكون البعث قبل زمان الواجب.

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ التخيير في الواجب الموسّع بين الأفراد الطولية يكون عقلياً، ولا يمكن التخيير الشرعي؛ لأنّ ما هو دخيل في تحصيل الغرض في الموسّع هو حصول الطبيعة بين المبدأ والمنتهى، فلا بدّ وأن يتعلّق الأمر بما هو محصّل للغرض، ولايجوز تعلّقه بالزائد، فتعلّق الأمر بالخصوصيات لغو جزاف.

ومن هنا يعلم: أ نّه لا يتضيّق بتضييق وقته؛ لأنّ الأمر المتعلّق بطبيعة لا يمكن أن يتخلّف إلى موضوع آخر، فالواجب لا يخرج عن كونه موسّعاً بتضييق وقته، وإن حكم العقل بلزوم إتيانه في آخر الوقت.

تتميم: في عدم كون القضاء بالأمر الأوّل

لا دلالة للأمر بالموقّت على وجوب الإتيان في خارج الوقت، كما أنّ الأمر كذلك في سائر التقييدات؛ لأنّ كلّ أمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، فبعد خروج

ص: 83


1- اُنظر أجود التقريرات 1: 275.

الوقت لا داعوية للأمر؛ لأنّ الدعوة إلى الموقّت بعد خروج الوقت محال؛ لامتناع إتيانه، وإلى غير الموقّت كذلك؛ لعدم كونه متعلّقاً له، ودعوة الأمر إلى الطبيعة في ضمن المقيّد لا توجب دعوته إليها مطلقاً ولو مع [الخلوّ عن] القيد.

وأمّا التفصيل الذي أفاده المحقّق الخراساني - من أنّ التوقيت إذا كان بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق يؤخذ بإطلاقه ويتقيّد بمقدار المتيقّن(1) - فخروج عن محطّ البحث؛ فإنّ محطّه هو دلالة الموقّت بعد كونه موقّتاً.

ثمّ إنّه لو شككنا بعد الوقت في وجوب الطبيعة، فلا مجال للاستصحاب؛ لعدم وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها، وذلك لأنّ العناوين الكلّية كلّها مختلفة مع الآخر - مطلقها ومقيّدها، ومقيّدها مع مقيّد آخر أو مجرّد عنه - فالرقبة عنوان، والرقبة المؤمنة عنوان آخر، والصلاة الموقّتة غير نفس الصلاة وغير الصلاة الغير الموقّتة؛ فالقضيّة المتيقّنة هي وجوب الصلاة الموقّتة، والمشكوك فيها هي نفس الصلاة أو الصلاة خارج الوقت، فإسراء الحكم من المتقيّدة إلى [الخالية من القيد] في القضايا الكلّية إسراء من موضوع إلى موضوع آخر.

لا يقال: إنّ المقيّد إذا وجب ينسب الوجوب إلى المهملة، فتكون نفس الطبيعة واجبة، فشكَّ في بقائه.

ص: 84


1- كفاية الاُصول: 178.

فإنّه يقال: متعلّق الوجوب إذا كان مقيّداً أو مركّباً يكون واحداً لوجوب واحد، فالواجب هو المقيّد بما هو كذلك، وليس للمهملة وجوب حتّى يستصحب.

وما قيل من الوجوب الضمني(1) فلا أصل له، ولا ينحلّ الوجوب إلى وجوب متعلّق بنفس الطبيعة ووجوب متعلّق بقيدها كما اشتهر في الألسن، فالمتيقّن هو وجوب المقيّد، وهو ليس بمشكوك فيه، فلا يجري الاستصحاب.

ص: 85


1- أجود التقريرات 1: 349؛ نهاية الأفكار 3: 376.

ص: 86

المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول:

اشارة

ص: 87

ص: 88

الفصل الأوّل في مفاد هيئة النهي

متعلّق الطلب في النهي

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ النهي كالأمر في دلالته على الطلب، إلاّ أنّ

متعلّق الطلب فيه العدم(1).

والتحقيق: امتناع ذلك ثبوتاً ومخالفته للظواهر إثباتاً؛ ضرورة أنّ العدم ليس بشيء، ولا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلّق به إرادة واشتياق ولا بعث وتحريك وطلب.

وما قيل: من أنّ للأعدام المضافة حظّاً من الوجود(2)، ليس على ما ينبغي.

وما يتوهّم: من تعلّق الطلب ببعض الأعدام وجداناً، خطاء لدى التفتيش، فليس للعدم شيئية، ولا يمكن أن يتّصف بصفة، وأن يصير متعلّقاً لشيء. نعم قد يكون وجود شيء مبغوضاً لفساد فيه، فتنسب المحبوبية إلى عدمه عرضاً بعد تصوّره بالحمل الأوّلي.

ص: 89


1- كفاية الاُصول: 182.
2- الحكمة المتعالية 1: 345 - 352؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 192.

هذا، مع أنّ النهي كالأمر ينحلّ إلى مادّة وهيئة، والمادّة نفس الماهية كمادّة الأمر، ومفاد الهيئة هو الزجر عنها أو عن وجودها بالمعنى الحرفي، كما سبق في الأمر، فالبعث والزجر متعلّقان بالماهية، وليس في النهي ما يدلّ على العدم لا اسماً ولا حرفاً، فقوله: «لا تضرب» كمرادفه في الفارسية «نزن» ليس مفاده عرفاً وتبادراً إلاّ ما ذكر، مع أ نّه لو صرّح بطلب العدم لا بدّ من تأويله؛ لما تقدّم.

وبما ذكرنا - من أنّ متعلّق النهي كالأمر هو الماهية أو وجودها، وأنّ النهي زجر لا طلب - يسقط النزاع في أنّ متعلّق الطلب فيه الكفّ أو نفس أن لا تفعل.

دلالة النهي على التكرار

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ مقتضى النهي لدى العرف والعقلاء يخالف مقتضى الأمر(1)؛ بأنّ الأمر إذا تعلّق بطبيعة يسقط بأوّل مصداقها، بخلاف النهي؛ فإنّ مقتضاه ترك جميع الأفراد، فهل ذلك من ناحية اللغة، أو حكم العقل، أو العرف ؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ مقتضى العقل أنّ الطبيعي يوجد بوجود فردٍ ما، وينعدم بعدم جميع الأفراد(2).

وفيه منع؛ فإنّ مقتضى وجود الطبيعي بوجود فردٍ ما هو تكثّر الطبيعي بكثرة

ص: 90


1- تعرّض له الأراكي في المرّة والتكرارأ. [منه قدّس سرّه ] أ - مقالات الاُصول 1: 251؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 255.
2- كفاية الاُصول: 182 - 183.

الأفراد، فيكون له وجودات، ومعه لا يعقل أن يكون له عدم واحد؛ لأنّ لكلّ وجود عدماً بديله، فإذا عدم الفرد عدم الطبيعي بعدمه، فيكون الطبيعي موجوداً ومعدوماً، وذلك جائز في الواحد النوعي.

هذا حكم العقل.

وأمّا اللغة: فلا دلالة وضعاً للنهي بمادّته وهيئته عليه؛ ضرورة أنّ ما تعلّقت

به هيئة الأمر عين ما تعلّقت به هيئة النهي، وهو نفس الطبيعة لا بشرط، والهيئة لا تدلّ إلاّ على الزجر مقابل البعث، وليس للمجموع وضع على حدة.

نعم، الظاهر أنّ ذلك حكم العرف؛ لأنّ الطبيعة لدى العرف العامّ توجد بوجود فرد، وتنعدم بعدم جميع الأفراد، و[عليه] تحمل المحاورات العرفية، فإذا تعلّق نهي بطبيعة، يكون حكمه العقلائي أنّ امتثاله بترك جميع الأفراد.

لكن لازم ذلك أن يكون للنهي امتثال واحد ومعصية واحدة؛ لعدم انحلاله إلى النواهي، مع أنّ العرف لا يساعد عليه كما ترى أ نّه لو خولف يرى العرف أنّ النهي بحاله.

ويمكن أن يقال: إنّ الانحلال إلى النواهي أيضاً من الأحكام العرفية، وهو قريب.

وقد يقال: إنّ المُنشأ حقيقةً ليس شخص الطلب المتعلّق بعدم الطبيعة كذلك، بل سنخه الذي لازمه تعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من طبيعة العدم عقلاً؛ بمعنى أنّ المولى ينشئ النهي بداعي المنع نوعاً عن الطبيعة بحدّها الذي لازمه إبقاء العدم بحدّه على حاله، فتعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من العدم - تارةً بلحاظ الحاكم واُخرى بحكم العقل - لأجل جعل الملازمة بين

ص: 91

سنخ الطلب وطبيعي العدم بحدّه(1)، انتهى.

وفيه: - بعد الغضّ عن أنّ النهي ليس طلباً، والمتعلّق ليس عدماً - أنّ ما يدّعي من إنشاء سنخ الطلب إن كان لأجل اتّحاد السنخ والطبيعي مع الشخص، فبجعله يصير مجعولاً، ففيه: أ نّه لا يفيد؛ لأنّ الطبيعي في الخارج ليس إلاّ الفرد، فلا يكون قابلاً للانحلال.

وإن كان لأجل جعل طبيعي الطلب القابل للكثرة ملازماً لطبيعي العدم؛ بحيث يصير قابلاً للانحلال، ففيه: أنّ هذا يحتاج إلى لحاظ غير إنشاء الطلب، ويحتاج إلى قرينة تجوّز.

ومع الالتزام به فالأهون ما ذهب إليه بعض الأعاظم(2): من الالتزام بالعموم الاستغراقي في جانب المتعلّق؛ حتّى ينحلّ النهي بتبعه، وإن كان خلاف التحقيق؛ لعدم استعمال المادّة في الأفراد وجداناً، كما لم تستعمل الهيئة في الطبيعي على ما ادّعاه المدّعي.

وقد يقال: إنّ النهي لمّا تعلّق بالطبيعة بلا شرط، ويكون مفاده الزجر لا الطلب، فلازمه العرفي ترك جميع الأفراد كما تقدّم، وكذا عدم سقوطه بالمعصية؛ لأنّ السقوط أينما كان إنّما هو لأجل حصول تمام المطلوب، ففي الأمر لمّا كان تمام المطلوب هو نفس الطبيعة لا بدّ من سقوطه بحصولها؛ لحصول تمام المطلوب، وأمّا النهي فلا معنى لسقوطه، لا بترك المنهيّ عنه في زمان، ولا بمخالفته:

ص: 92


1- نهاية الدراية 2: 291.
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 395.

أمّا في جانب الترك: فلأنّ إطاعة النهي، بترك جميع الأفراد مطلقاً بعد إطلاق الطبيعة وكونها لا بشرط.

وأمّا في ناحية المخالفة: فلأ نّها لا يعقل أن تكون مسقطة، إلاّ أن تتقيّد الطبيعة

بأوّل فرد، ويكون المنهيّ عنه ذلك؛ فإنّ لازمه سقوط النهي لأجل عدم الموضوع، فالسقوط لا يكون في شيء من الموارد - حتّى في الأوامر - بالمخالفة، ولا بالموافقة بما هي، بل بحصول تمام المطلوب، فمخالفة المنهيّ عنه في زمان لا توجب سقوط النهي بعد مبغوضية نفس الطبيعة بنحو الإطلاق.

وبعبارة اُخرى: إنّ لازم مبغوضية الطبيعة بلا شرط هو مبغوضيتها أينما تحقّقت، ونتيجة ذلك هو العموم الاستغراقي وإن لم يكن نفسه(1).

وفيه: أنّ ذلك دعوى فهم العرف، وهو مسلّم، ولكنّ المنظور سرّ ذلك.

وما ذكر من أنّ الافتراق لأجل كون مفاد النهي هو الزجر والمنع لا الطلب، مدفوع: بأنّ المولى لو صرّح بطلب ترك شرب الخمر كان الحكم العقلائي والعرفي عيناً كالزجر عن الشرب، بل لو فرض تعلّق الزجر بصرف الوجود - أي ناقض العدم - لسقط النهي مع العصيان، لانتهاء اقتضائه، كما لو نهاه عن ذكر اسمه في الملأ لغرض عدم معروفيته، فمع ذكره يسقط؛ لا لأجل تعلّقه بأوّل الوجود كما اُفيد، بل لأجل تعلّقه بصرف الوجود.

فالأولى أن يتشبّث في مثل المقام بذيل فهم العرف ولو مع عدم كشف سرّه.

ص: 93


1- لمحات الاُصول: 170 - 171.

الفصل الثاني في جواز اجتماع الأمر والنهي

اشارة

اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في تحرير محلّ النزاع

محطّ البحث في الباب هو أ نّه هل يجوز تعلّق الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على واحد ؟

فحينئذٍ يكون المراد بالواحد هو الواحد الشخصي؛ لأ نّه الذي تتصادق عليه العناوين، وأمّا الواحد الجنسي فلا تتصادق عليه، بل يكون جنساً لها، مع أنّ النزاع في الواحد الجنسي مع قطع النظر عن التصادق على الواحد الشخصي ممّا لا معنى له؛ ضرورة أنّ الحركة في ضمن الصلاة يمكن أن يتعلّق بها الأمر، وفي ضمن الغصب أن يتعلّق بها النهي مع قطع النظر عن تصادقهما خارجاً على الواحد الشخصي، ومعه يكون محطّ البحث هو ما ذكرنا؛ لأ نّه المنشأ لقول الامتناعي.

ص: 94

وممّا ذكرنا يتّضح: أنّ الأولى في عقد البحث أن يقال: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد، أو لا ؟ ويكون حينئذٍ النزاع كبروياً، لا صغروياً كما زعموا(1).

وأمّا إبقاء العنوان على ظاهره فممّا لا يمكن، سواء اُريد ب «الواحد» الشخصي، أو الجنسي، أو الأعمّ؛ أمّا الجنسي فلما عرفت، وأمّا الشخصي فلأنّ الأمر والنهي لا يتعلّقان به؛ لأنّ الخارج لا يمكن أن يكون ظرف ثبوت التكاليف، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممّا لا معنى له.

الأمر الثاني: في الفرق بين المقام وبين النهي في العبادة

بناءً على ما ذكرنا - من عقد البحث - يكون الفرق بينه وبين النهي في العبادة

في غاية الوضوح؛ لاختلاف موضوعهما ومحمولهما، واختلاف المسائل إنّما هو بهما أو بأحدهما؛ لأنّ ذات المسائل متقوّمة بهما، والاختلاف بالذاتي هو المميّز بين الشيئين في المرتبة المتقدّمة على الاختلاف بالعرضي، فضلاً عن الاختلاف بالأغراض، والجهات التعليلية - على فرض رجوعها إلى التقييدية عقلاً - متأخّرة عن مقام الذات، فيكون الاختلاف بالذات مميّزاً قبلها.

وأمّا ما أفاد المحقّق الخراساني: من أنّ الاختلاف بالجهة المبحوث عنها - وهي تعدّد الوجه في الواحد - يوجب تعدّد المتعلّق أو لا(2) ؟

ص: 95


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 396 - 397؛ نهاية الأفكار 1: 408 - 409؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 151.
2- كفاية الاُصول: 184.

ففيه: أنّ الجهة المبحوث عنها ليس ما ذكر كما تقدّم، فلا وجه للعدول عن جواز الاجتماع ولا جوازه إلى شيء آخر هو من مبادئ إثبات المحمول للموضوع وبرهان المسألة، حتّى يلجأ إلى إرجاع البحث من الكبروية إلى الصغروية، ويحتاج إلى التكلّفات الباردة. هذا إذا أراد بالجهة المبحوث عنها محطّ البحث ومورد النزاع، كما هو الظاهر.

وإن أراد علل ثبوت المحمول للموضوع أو الغاية للبحث، فلا إشكال في أنّ اختلاف المسائل ليس بهما كما تقدّم.

الأمر الثالث: في اُصولية مسألة جواز الاجتماع

إنّ المسألة بما هي معنونة - أي جواز الاجتماع - لا يمكن أن تكون فقهية، وذلك واضح، وتغييرها إلى قضيّة اُخرى - أي صحّة الصلاة في الدار المغصوبة - غير مربوطة بهذه المسألة، ممّا لا وجه له.

وكذا لا تكون كلامية؛ [لأ نّه ليس كلّ مسألةٍ عقليةٍ] كلاميةً، وإلاّ كانت مسائل المنطق وكلّيات الطبّ كلامية، وتغييرها إلى الحسن والقبح [بالنسبة له] تعالى قد عرفت حاله.

وليست من المبادئ التصديقية؛ لأ نّها البراهين القائمة في كلّ فنّ لإثبات المحمولات للموضوعات أو نفيها [عنها] أو لإثبات وجود الموضوعات على إشكال في الأخير، وهذه المسألة ليست كذلك.

وما يظهر من بعض الأعاظم: من كونها من المبادئ التصديقية؛ لرجوع البحث فيها إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض

ص: 96

والتزاحم(1)، ليس على ما ينبغي؛ لأنّ كون بحثٍ محقّقاً لموضوع بحث آخر لا يوجب أن يكون من المبادئ التصديقية، وبراهين إثبات وجود الموضوع لو سلّم كونها من المبادئ، غير علل وجوده، والله تعالى علّه وجود الموضوعات ومحقّقها، وليس من المبادئ التصديقية لشيء من العلوم، مع أنّ في كون المسألة محقّقة لوجود الموضوع لمسألة التعارض كلاماً وإشكالاً سيأتي في خلال المباحث الآتية التعرّض له(2).

فالتحقيق: أنّ المسألة - بما حرّرناها - اُصولية؛ لصحّة وقوعها في طريق الاستنباط، وإن جعلنا موضوع علم الاُصول الحجّة في الفقه؛ لأنّ جعل موضوعه كذلك لا يستلزم البحث عن عوارض العنوان بالحمل الأوّلي، بل المراد من كون مسألة حجّة في الفقه أ نّها حجّة بالحمل الشائع؛ أي يستنتج منها نتيجة فقهية، وهي كذلك.

الأمر الرابع: في اعتبار قيد المندوحة

لا إشكال في عدم اعتبار قيد «المندوحة» بناءً على كون البحث صغروياً، وأنّ الجهة المبحوث عنها هي أنّ تعدّد الوجه يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو لا؛ فإنّ البحث حينئذٍ يصير جهتياً، والبحث من هذه الحيثية لا يتوقّف على قيدها.

وأمّا على ما حرّرناه من كبروية النزاع، وأنّ محطّ البحث هو جواز اجتماع

ص: 97


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 400.
2- يأتي في الصفحة 100 - 102.

الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على موضوع واحد، فقد يقال: إنّ قيد «المندوحة» معتبر؛ لأنّ النزاع في اجتماع الحكمين الفعليين لا الإنشائيين؛ ضرورة عدم التنافي في الإنشائيات، فمحطّ البحث جواز اجتماع الفعليين وامتناعه، كان الامتناع لأجل التكليف المحال أو التكليف بالمحال، ومع عدم المندوحة لا ريب في كون التكليف بهما تكليفاً بالمحال.

هذا، لكن لأحد أن يقول: إنّه إن اُريد بقيد «المندوحة» حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم؛ لأنّ الكلام في جواز تعلّق الحكمين الفعليين بعنوانين، ولا يتوقّف ذلك على المندوحة لكلّ واحد منهم؛ فإنّ الأحكام المتعلّقة بالعناوين لا تنحلّ إلى إنشاءات كثيرة ومجعولات متعدّدة حسب تعدّد المكلّفين كما سبق في بعض المباحث السالفة(1)، فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدّم فعلي على عنوانه وإن كان بعض المكلّفين معذوراً في امتثاله وإتيانه لعجز أو جهل أو ابتلاء الحكم بمزاحم أقوى.

وإن اُريد بقيد «المندوحة» كون العنوانين ممّا ينفكّان بحسب المصداق وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلّفين؛ أي لم يكن عنوان المأمور به ملازماً للمنهيّ عنه، فاعتبار «المندوحة» لازم البحث من غير احتياج إلى التقييد به؛ فإنّ تعلّق الحكم الفعلي بعنوان ملازم للمنهيّ عنه فعلاً ممّا لا يمكن؛ للغوية الجعل على العنوانين، بل لا بدّ للجاعل من ملاحظة ترجيح أحد الحكمين على الآخر، أو الحكم بالتخيير مع عدم الرجحان.

فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على التقديرين.

ص: 98


1- تقدّم في الصفحة 18 - 20.

الأمر الخامس: في عدم ابتناء النزاع على تعلّق الأحكام بالطبائع

الظاهر أنّ النزاع لا يبتني على تعلّق الأمر والنهي بالطبائع، بل يجري في بعض فروض تعلّقهما بالأفراد.

كأن يراد بتعلّقهما بها تعلّقهما بالعنوان الإجمالي منها؛ بأن يقال: معنى «صلّ» أوجد فرد الصلاة، فيكون عنوان فرد الصلاة غير عنوان فرد الغصب، فيجري النزاع فيهما.

أو يراد به تعلّقهما بالطبيعة الملازمة للعناوين المشخّصة، أو أمارات التشخّص، كطبيعي الأين، والمتى، والوضع، وهكذا، فيجري النزاع لاختلاف العنوانين.

أو يراد به تعلّقهما بعنوان وجودات الصلاة والغصب في مقابل الوجود السعي؛ فإنّه لا يخرج به عن العنوانين المختلفين.

نعم، لو اُريد من الفرد هو الخارجي منه فلا إشكال في عدم جريانه فيه، لكنّه بديهي البطلان، وإن يظهر من بعضهم أ نّه مراد القائل به(1).

وكذا لو اُريد به الطبيعة مع كلّ ما يلازمها ويقارنها حتّى الاتّفاقيات منها، كما قيل: إنّ الأمر متعلّق بالصلاة المقارنة لكلّ ما يشخّصها ويقارنها حتّى وقوعها في محلّ مغصوب، واُخذت هذه العناوين في الموضوع، فلا يجري النزاع فيه أيضاً، لكنّه بمكان من الفساد.

ص: 99


1- لمحات الاُصول: 177.

فتحصّل: أنّ النزاع جارٍ على القول بتعلّقهما بالأفراد على الفروض التي تصحّ أن تكون محلّ النزاع.

الأمر السادس: في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط

لا إشكال في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط في متعلّقي الإيجاب والتحريم، سواء حرّر محلّ النزاع بما اختاره المحقّق الخراساني(1) وهو واضح؛ لأنّ النزاع حيثي، أو كما حرّرناه؛ لأنّ النزاع في إمكان تعلّق الحكمين بعنوانين كذائيين لا في وقوعه، ولا يبتني هذا النزاع الكبروي على إحراز المناط.

والظاهر: أنّ مراد المحقّق الخراساني ممّا أفاد في الأمر الثامن والتاسع ليس ذلك، ولعلّ مراده التفرقة بين ما كان من باب اجتماع الأمر والنهي واقعاً وبين ما كان من باب التعارض؛ دفعاً لإشكال ربما يرد على القوم، وهو أ نّهم عنونوا مسألة جواز الاجتماع ومثّلوا له بالعامّين من وجه، واختار جمع الجواز وأ نّه لا تعارض بين الأمر والنهي في محلّ التصادق، وفي باب تعارض الأدلّة جعلوا تعارض العامّين من وجه أحد وجوه التعارض، ولم يجمع بينهما أحد بجواز الاجتماع.

فأجاب عنه: بأنّ الميزان الكلّي في باب الاجتماع هو إحراز المناطين حتّى في مورد التصادق، فكلّما كان هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين

ص: 100


1- كفاية الاُصول: 184.

كان من مسألة الاجتماع، وإلاّ فهو من باب التعارض(1).

وأنت خبير: بأنّ موضوع باب التعارض هو الخبران المختلفان، والمناط في الاختلاف هو الفهم العرفي، والجمع هناك عرفي لا عقلي؛ بخلافه هاهنا، فإنّ المسألة عقلية صرفة، فلا ربط بين البابين رأساً.

فما ادّعى من المناط غير تامّ طرداً وعكساً؛ لأنّ الخبرين إذا كانا مختلفين عرفاً ولم يكن بينهما جمع عرفي، يندرجان تحت أخبار التعارض، ولا بدّ من معاملة التعارض بينهما مطلقاً، والجمع العقلي في باب الاجتماع ليس من وجوه الجمع في باب التعارض.

والسرّ فيه: أنّ رحى باب التعارض تدور على العمل بالأخبار الواردة فيه، وموضوعها مأخوذ من العرف، كموضوع سائر ما ورد في الكتاب والسنّة، فكلّما يحكم العرف باختلاف الخبرين وتعارضهما يعمل بالمرجّحات، وكلّما يحكم بعدمه لأجل الجمع العرفي أو عدم التناسب بين الدليلين لا يكون من بابه، فقوله: «صلّ» و«لا تغصب» غير متعارضين عرفاً؛ لأنّ الحكم على العنوانين، وهما غير مرتبطين، فليس بينهما اختلاف عرفاً ولو لم نحرز المناطين، كما أنّ قوله: «أكرم كلّ عالم» معارض عرفاً - في الجملة - لقوله: «لا تكرم الفسّاق»؛ بناءً على كون العامّين من وجه من وجوه التعارض؛ لأ نّهما يدلاّن على إكرام المجمع وعدم إكرامه؛ لأنّ الحكم فيهما على الأفراد، وليس بينهما جمع عرفي ولو فرض حصول المناطين في مورد الاجتماع وقلنا بجواز الاجتماع حتّى في مثله.

ص: 101


1- كفاية الاُصول: 189 - 190.

وبالجملة: الجمع والتعارض في باب تعارض الأدلّة عرفيان لا عقليان، فجمع باب الاجتماع الذي هو بحكم البرهان العقلي غير مربوط به، كما أنّ التزاحم في نظر العقل لا ينافي التعارض العرفي المناط في بابه، فلا تغفل.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما قال بعض الأعاظم: من أنّ هذه المسألة محقّقة لموضوع مسألة التعارض(1)؛ لما عرفت من أ نّها أجنبيّة عن تلك المسألة، كما

يظهر النظر فيما ادّعى: - من أنّ المائز بين البابين: أنّ التركيب في باب الاجتماع

انضمامي، وفي باب التعارض اتّحادي(2) - فإنّه لا يرجع إلى محصّل لو لم يرجع إلى ما ذكرنا.

الأمر السابع: في ثمرة النزاع على القول بالجواز

قد يقال: إنّه لا ملازمة بين القول بالجواز والقول بصحّة العبادة مع الإتيان بالمجمع؛ لوجود ملاك آخر للبطلان في بعض الموارد، كالصلاة في الدار المغصوبة؛ لأنّ التصرّف في مال الغير بلا إذنه في الخارج عين الحركة الصلاتية، والمبعّد عن ساحة المولى لا يمكن أن يكون مقرّباً، نعم مع جهله بالموضوع أو الحكم قصوراً تصحّ صلاته بلا إشكال.

والمعيار الكلّي في الحكم بالصحّة والفساد: هو أ نّه كلّما كانت الخصوصية العبادية في المصداق غير الخصوصية المحرّمة وجوداً وإن جمعهما موضوع واحد تصحّ العبادة من غير إشكال؛ لأنّ المكلّف يتقرّب بالجهة المحسّنة،

ص: 102


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 400.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 427 - 428.

وليست فيها جهة مقبّحة على الفرض وإن قارنتها ولازمتها؛ لأ نّهما لا يضرّان

بعباديتها، وكلّما كان العنوانان موجودين بوجود واحد وخصوصية فاردة، لا يمكن التقرّب به وإن جاز الاجتماع؛ فإنّ التقرّب بما هو مبعّد فعلاً غير ممكن(1).

هذا، لكن سيأتي تحقيق المقام(2)، فانتظر.

وقد يقال - في الصلاة في الدار المغصوبة - : إنّها من قبيل الفرض الأوّل، وإنّ الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية خارجاً؛ لأنّ الغصب من مقولة الأين، والصلاة من مقولة الوضع وإن قلنا بأنّ الركوع - مثلاً - هو فعل المكلّف ويكون الهويّ إليه داخلاً في الصلاة؛ فإنّ الهويّ عبارة عن أوضاع متلاصقة، والمقولات متباينات وبسائط، يكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك، وإنّ الحركة لم تكن من المقولات، بل هي مع كلّ مقولة عينها، ولم تكن الحركة جنساً للمقولتين، وإلاّ يلزم تفصّل الواحد بالفصلين المتباينين في عرض واحد، ويلزم التركيب فيهما، ولا معروضاً لهما، وإلاّ يلزم قيام العرض بالعرض، وهو محال.

فالحركة الغصبية تكون من مقولة متباينة للحركة الصلاتية، وليس المراد من الحركة هو رفع اليد أو وضعها أو رفع الرأس أو وضعه، بل المراد الحركة الصلاتية والغصبية، وهما حركتان كما عرفت، فتكون حيثية الصلاتية غير حيثية الغصبية وجوداً وماهيةً، فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما ويكون المقرّب غير المبعّد.

والشاهد على ما ذكرنا من اختلافهما وجوداً: أنّ نسبة المكان إلى المكين

ص: 103


1- لمحات الاُصول: 186.
2- يأتي في الصفحة 106.

والإضافة الحاصلة بين المكين والمكان لا يعقل أن تختلف في الجوهر والعرض، فكما أنّ كون زيد في الدار المغصوبة لا يوجب كونه غصباً، فكذلك كون الصلاة فيها، فالتركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه موارد كثيرة للنظر نعدّ مهمّاتها:

منها: أنّ عدّ الصلاة من مقولة الوضع واضح الفساد؛ لأ نّها من الماهيات الاختراعية المركّبة من عدّة اُمور اعتبارية ومقولية، ومثل ذلك لا يمكن أن يندرج تحت مقولة، ولا يكون من الماهيات الأصيلة. هذا إن اُريد بالصلاة نفسها.

وإن اُريد أجزاؤها فهي لا تكون من مقولة الوضع فقط، بل الركوع - مثلاً - إذا

كان من فعل المكلّف، ويكون الهويّ جزءه، فلا محالة يكون عبارة عن الحركة من الاستقامة إلى انحناء خاصّ تعظيماً، ويكون نفس الانحناء بالمعنى المصدري من قبيل الحركة في الأين، ويكون من مقولته؛ بناءً على كون الحركة في كلّ مقولة من هذه المقولة.

فماهية الركوع إذا كانت الانحناء الخاصّ تعظيماً، لا تندرج تحت مقولة؛ لأنّ كونه تعظيماً من مقوّماتها، وهو خارج عن ماهية المقولة، وجزؤها من مقولة الأين.

وبالجملة: الفعل الصادر من المكلّف هو الحركة من الاستقامة إلى الانحناء، وتبديل الأوضاع لازمه، وما هو جزء الصلاة - على الفرض - هو الفعل الصادر منه، لا الأوضاع المتلاصقة على زعمه، مع ما في تلاصق الأوضاع من المفاسد.

ومنها: أنّ الغصب ليس من المقولات؛ لأ نّه هو الاستيلاء على مال الغير

ص: 104


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 424 - 427.

عدواناً، وهو من الاُمور الاعتبارية، ولا يكون عبارة عن الكون في المكان، بل

استقلال اليد عليه غصب، سواء كان الغاصب فيه أو لا، وهذا واضح.

مع أ نّه لو سلّم أ نّه الكون في المكان الذي للغير عدواناً، لم يصر من مقولة الأين:

أمّا أوّلاً: فلأنّ المقولة ليست نفس الكون في المكان، بل هيئة حاصلة منه.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ماهية الغصب متقوّمة بكون المكان للغير، وبكون إشغاله عدواناً، وهما غير دخيلين في ماهية المقولة، فعلى هذا الفرض الباطل تكون المقولة جزء ماهية الغصب.

ومنها: أنّ عدم صحّة الصلاة ليس لأجل الغصب، بل لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذنه، وهو عنوان آخر غير الغصب؛ لأ نّه قد يكون التصرّف في ماله بلا إذن ولا يتحقّق عنوان الغصب؛ أي استقلال اليد عليه، وقد يتحقّق الغصب بلا تصرّف خارجي في ماله، فبطلان الصلاة في الدار المغصوبة - على فرضه - ليس لأجل استقلال اليد على ملك الغير؛ لأ نّه اعتباري لا ينطبق على الصلاة، بل لأجل التصرّف فيه؛ لأنّ الحركة الركوعية والسجودية عين التصرّف فيه، بل السجود على سبعةٍ أعظم، والكون الركوعي والقيامي وغيرهما تصرّف ومبعّد، فلا يجوز التقرّب به على الفرض، قيل بجواز الاجتماع أو لا، وسيأتي أنّ جواز الاجتماع لا يتوقّف على كون الحيثيات تقييدية والتركيب انضمامياً(1)، كما بنى عليه هذا القائل.

وممّا ذكرنا يعلم حال ما ذكره من قياس كون «زيد في الدار» بكون «الصلاة

ص: 105


1- يأتي في الصفحة 110.

في الدار»؛ فإنّ الصلاة لمّا كانت فعل المكلّف يكون الإتيان بها تصرّفاً في مال الغير، بخلاف «زيد»؛ فإنّه ليس فعلاً حتّى يكون تصرّفاً.

نعم، كونه في الدار غصب على فرضه، وتصرّف على ما ذكرنا، وزيد غاصب ومتصرّف، كما أنّ صلاته باعتبار كونها من أفعاله وأكوانه غصب وتصرّف، وهو غاصب ومتصرّف، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

الأمر الثامن: في ثمرة النزاع على القول بالامتناع

بناءً على الامتناع وترجيح جانب الأمر تصحّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا لم تكن مندوحة، وأمّا معها فلا ملاك لتقييد النهي بلغ ملاك الصلاة ما بلغ؛ لعدم دوران الأمر بينهما، بل مقتضى الجمع بين الفرضين تقييد الصلاة عقلاً أو شرعاً بغير محلّ الغصب، فإطلاق كلام المحقّق الخراساني(1) مخدوش.

وأمّا بناءً على ترجيح جانب النهي، فمع العمد والعلم أو الجهل بالحكم تقصيراً لا تصحّ.

وأمّا مع القصور فصحّتها تتوقّف على أمرين:

أحدهما: إثبات وجدانها في مورد الاجتماع للملاك التامّ.

وثانيهما: كون الملاك المرجوح قابلاً للتقرّب.

والأمر الأوّل محلّ إشكال بناءً على كون الامتناع لأجل التكليف المحال؛ وذلك للتضادّ بين ملاكي الغصب والصلاة، فإن رفع تضادّهما باختلاف الحيثيتين رفع التضادّ بين الحكمين أيضاً، فلا محيص عن القول بالجواز، فالقائل بالامتناع

ص: 106


1- كفاية الاُصول: 191.

لا بدّ له من الالتزام بأنّ الحيثية التي تعلّق بها الأمر عين ما تعلّق به النهي؛ حتّى يحصل التضادّ، ومع وحدة الحيثية لا يمكن تحقّق الملاكين، فلا بدّ وأن يكون المرجوح بلا ملاك، فعدم صحّتها لأجل فقدانه، ومعه لا دخالة للعلم والجهل في البطلان والصحّة.

وبالجملة: متعلّق الأمر والنهي بالذات عين حامل الملاك، وهو مع وحدته غير معقول لحمل الملاكين، ومع كثرته يوجب جواز الاجتماع ولو قيل بتعلّقهما بما هو فعل المكلّف خارجاً، فتصوّر الحيثيتين الحاملتين للملاك الرافعتين للتضادّ يناقض القول بالامتناع من جهة التكليف المحال.

وأمّا الأمر الثاني - بعد تصوير الملاك - فلا إشكال فيه؛ لأنّ الحيثية الحاملة

لملاك الصلاة غير الحيثية الحاملة لملاك الغصب، فأتمّية ملاكه من ملاكها وترجيح مقتضاه على مقتضاها لا يوجب تنقيصاً في ملاكها، فملاكها تامّ، لكن عدم إنشاء الحكم على طبقه لأجل المانع، وهو أتمّية ملاك الغصب، وفي مثله لا مانع من صحّتها بعد عدم تأثير النهي للجهل قصوراً؛ لكفاية الملاك التامّ في صحّتها مع قصد التقرّب وكون الموضوع ممّا يمكن التقرّب به.

بل يمكن أن يقال بصحّتها حينئذٍ مع العلم والعمد أيضاً؛ لعين ما ذكر وإمكان التقرّب بها مع تمامية الملاك، فعدم الأمر هاهنا كعدم الأمر في باب الضدّين المتزاحمين.

وربما يقال بالفرق بين البابين؛ لأنّ باب الضدّين من قبيل تزاحم الحكمين في مقام الامتثال بعد إنشاء الحكمين على الموضوعين، وباب الاجتماع من قبيل تزاحم المقتضيين لدى المولى، فلا تأثير لعلم المكلّف وجهله هاهنا،

ص: 107

بخلافه هناك. وبالجملة: يكون المقام من صغريات باب التعارض، ومع ترجيح جانب النهي ينشأ الأمر على الصلاة في غير المغصوب، والتقييد هاهنا كسائر التقييدات، فالصلاة في المغصوب ليست بمأمور بها(1).

وفيه - مضافاً إلى ما عرفت من عدم انسلاك المقام في صغريات باب التعارض(2) - أنّ الكلام هاهنا في صحّة الصلاة بحسب القواعد، وهي غير منوطة بالأمر الفعلي، وإلاّ تبطل في المقامين، والملاك التامّ الموجب لصحّتها موجود فيهما، ومجرّد عدم إنشاء الحكم هاهنا لأجل المانع وإنشائه هناك - لو سلّم - لا يوجب الفرق بعد تمامية الملاك وعدم الاحتياج إلى الأمر بعد إحرازها.

ودعوى عدم تماميته هاهنا؛ لأنّ الملاك مكسور بالتزاحم(3) ممنوعة؛ لأنّ مقتضى أتمّية ملاك الغصب وإن كان عدم جعل الحكم على الصلاة، لكن ليس مقتضاها صيرورة ملاكها ناقصاً.

فإن اُريد بمكسورية الملاك صيرورته ناقصاً فهو ممنوع؛ لأنّ الملاكين القائمين بحيثيتين لا معنى لانكسار أحدهما بالآخر، وأرجحية أحدهما غير مكسورية الآخر.

وإن اُريد بها أنّ الحكم بعد تزاحمهما يصير تابعاً للأقوى، فهذا مسلّم، لكن لا يوجب نقصاً في ملاك المهمّ، فهو على ملاكه مطلقاً، فلا مانع من الصحّة وجواز التقرّب به بعد كفاية الملاك التامّ، فتدبّر.

ص: 108


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 431.
2- تقدّم في الصفحة 101 - 102.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 431.

الأمر التاسع: في شروط جريان النزاع في المقام

لا كلام في عدم جريان النزاع في المتباينين والمتساويين، والظاهر جريانه في الأعمّ والأخصّ المطلقين إذا كان المنهيّ عنه أخصّ، ولم يؤخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ، وتكون الأعمّية بحسب المورد لا المفهوم، وذلك لأنّ المناط - وهو اختلاف العنوانين - متحقّق.

وأمّا العامّ والخاصّ بحسب المفهوم ففي جريانه فيهما إشكال؛ من حيث إنّ المطلق عين ما اُخذ في المقيّد، ووصف الإطلاق ليس بشيء، بل المطلق عبارة عن نفس الطبيعة بلا شرط، والمقيّد هو هذه مع قيد، فلا يمكن أن تكون الطبيعة مورداً لحكمين مختلفين، فلا يجري فيهما، ومن حيث إنّ المقيّد بما هو كذلك عنوان غير المطلق، وليس الحكم فيه على المطلق مع قيده، بل على المقيّد بما هو كذلك، وهو غير المطلق، والأمر الضمني لا أساس له، فيجري فيهما.

والمسألة محلّ إشكال وتأمّل، وإن كان عدم جريانه أشبه.

وأمّا العامّان من وجه فلا إشكال في جريانه فيهما، إلاّ إذا اُخذ مفهوم أحدهما في الآخر، كقوله: «صلّ الصبح» و«لا تصلّ في الدار المغصوبة» فيأتي فيه الإشكال المتقدّم.

وقد يقال: إنّ جريان النزاع في العامّين من وجه يتوقّف على اُمور:

منها: أن تكون النسبة بين نفس الفعلين الصادرين من المكلّف بإرادة واختيار، كما في الصلاة والغصب، وأمّا إذا كانت بين الموضوعين، كما في العالم والفاسق، فهو خارج عن محلّ النزاع؛ لأنّ التركيب بينهما اتّحادي لا انضمامي،

ص: 109

ولازمه تعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النهي، فلا بدّ فيهما من إجراء قواعد التعارض.

وممّا ذكرنا علم عدم جريانه فيما إذا كان للفعل عنوانان توليديان تكون النسبة بينهما العموم من وجه، كما لو أمر بإكرام زيد، ونهى عن إكرام عمرو، فقام المكلّف لأجل إكرامهما تعظيماً؛ فإنّ القيام يتولّد منه التعظيمان، وهما وإن كانا بحيثيتين انضماميتين، لكن الأمر بهما أمر بالسبب، فينجرّ إلى تعلّقه بشيء واحد وجوداً وإيجاداً.

ومنها: أن يكون بين الفعلين تركيب انضمامي لا اتّحادي، فيخرج مثل: «اشرب» و«لا تغصب» إذا كان الماء مغصوباً؛ فإنّ نفس الشرب هو الغصب، فالتركيب اتّحادي لا يجري فيه النزاع(1)، انتهى.

وفيه: أنّ قضيّة التركيب الانضمامي والاتّحادي أجنبيّة عن مسألة اجتماع الأمر والنهي، ولا يبتني الجواز على التركيب الانضمامي؛ فإنّ التركيب الخارجي - اتّحادياً أو انضمامياً - غير مربوط بمقام متعلّقات الأوامر والنواهي التي هي العناوين على ما سيأتي بيانه، فيجري النزاع في مثل: «أكرم العالم» و«لا تكرم الفاسق»، وكذا في مثل: «اشرب» و«لا تغصب» مع كون الماء غصباً.

وكذا في الأفعال التوليدية وإن قلنا بتعلّق الأمر بالأسباب؛ فإنّ قوله: «أكرم

زيداً» و«لا تكرم عمراً»، كقوله: «قم لزيد» و«لا تقم لعمرو» عنوانان مختلفان يجوز تعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر، سواء في ذلك السبب والمسبّب [التوليديان]، مع أنّ المبنى؛ أي رجوع الأمر إلى السبب التوليدي، محلّ منع.

ص: 110


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 410 - 412.

مقتضى التحقيق هو القول بجواز الاجتماع

اشارة

إذا عرفت ذلك فالتحقيق: هو الجواز، ويتّضح بتقديم اُمور:

الأوّل: أنّ كلّ حكم - أمراً كان أو نهياً - إذا تعلّق بعنوان، لا يمكن أن يتخلّف

عنه ويتجاوز إلى ما ليس بمتعلّقه؛ فإنّ تجاوزه عنه إلى ما لا دخالة له في تحصيل غرضه جزاف بلا ملاك.

فتعلّق الأمر بطبيعة الصلاة - مثلاً - لا يمكن إلاّ إذا كانت بجميع الخصوصيات

المأخوذة فيها دخيلة في تحصيل المصلحة، فكما لا يمكن تعلّقه بالفاقد لها لا يمكن تعلّقه بالخصوصية الغير الدخيلة في تحصيلها، كانت مقارنة أو ملازمة للمأمور به في الوجود الخارجي أو الذهني، فلا يتعدّى الأمر عن عنوان الصلاة إلى عنوان آخر، ولا النهي عن عنوان الغصب أو التصرّف في مال الغير بلا إذنه إلى غيره مطلقاً، فوزان الإرادة التشريعية كوزان التكوينية فيه، فكما أنّ الثانية تابعة لإدراك الصلاح فكذلك الاُولى.

الثاني: المراد بالإطلاق المقابل للتقييد هو كون الماهية تمام الموضوع للحكم؛ بحيث لا يكون شيء آخر دخيلاً في الموضوع، كان متّحداً معه في الخارج أو لا، ملازماً له أو مقارناً أو لا.

فالرقبة في قوله: «إن ظاهرت أعتق رقبة» مطلقة بمعنى أ نّها تمام الموضوع لوجوب العتق من غير دخالة قيد فيها، وليس معنى الإطلاق كون شيء بتمام حالاته ولواحقه موضوعاً للحكم؛ حتّى يكون معنى «أعتق رقبة»: أعتقها سواء كانت عادلة أو فاسقة، عالمة أو جاهلة... وهكذا؛ لعدم دخالة هذه

ص: 111

القيود في موضوع الحكم أوّلاً، وعدم إمكان كون الماهية آلة للحاظ تلك الخصوصيات ثانياً، فلا بدّ للحاظها من دالّ آخر، والفرض عدمه، ومعه يكون عموماً لا إطلاقاً.

فإطلاق الصلاة عبارة عن تعلّق الحكم بها بلا دخالة شيء آخر في الموضوع، وإطلاق قوله: «لا يجوز التصرّف في مال الغير بلا إذنه»(1) عبارة عن كون ذاك العنوان تمام الموضوع للحرمة، فلا يمكن أن يكون الأوّل ناظراً إلى الصلاة في الدار المغصوبة، ولا الثاني إلى التصرّف الصلاتي.

الثالث: الماهية اللا بشرط وإن تتّحد مع ألف شرط في الوجود الخارجي ممّا هو خارج عن ذاتها ولاحق بها، لكن لا تكون كاشفة ودالّة عليه وآلة للحاظه؛ لأنّ الشيء لا يمكن أن يكون كاشفاً عن مخالفاته بحسب الذات والمفهوم، وإن اتّحد معها وجوداً.

فالأبيض والبياض لا يمكن أن يكونا كاشفين عن الإنسان والمتكمّم وإن اتّحدا معهما وجوداً، كما أنّ الماهية لا تكشف عن الوجود وإن اتّحدا خارجاً.

فالصلاة وإن اتّحدت أحياناً مع التصرّف في مال الغير بلا إذنه، لكن لا يمكن أن تكون مرآة له وكاشفة عنه، فالاتّحاد في الوجود غير الكشف عمّا يتّحد به، وهو واضح.

الرابع: - وهو العمدة في هذا الباب - أنّ متعلّق الأحكام ليس الوجود الخارجي؛ لأنّ تعلّق الحكم بالوجود الخارجي أو الإيجاد بالحمل الشائع

ص: 112


1- راجع وسائل الشيعة 25: 386، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 4.

لا يمكن إلاّ في ظرف تحقّقه، والبعث إلى إيجاد المتحقّق تحصيل للحاصل، كما

أنّ الزجر عمّا وجد خارجاً ممتنع، ولا الوجود الذهني بما هو كذلك؛ لأ نّه غير ممكن الانطباق على الخارج، فلا محالة يكون المتعلّق نفس الطبيعة، لكن لمّا كانت الطبيعة لا يمكن أن تصير متعلّقة لحكم إلاّ أن تصير متصوّرة، والتصوّر هو الوجود الذهني، فلا محالة يكون ظرف تعلّق الحكم بها هو الذهن، فالطبيعة متعلّقة للحكم في الذهن، لا بما هي موجودة فيه، ولا بما هي موجودة في الخارج، ولا بما هي مرآة للوجود الخارجي، بل بما هي هي.

فمتعلّق الهيئة في قوله: «صلّ» هو الماهية اللا بشرط، ومفاد الهيئة هو البعث والتحريك إلى تحصيلها، ولازم امتثاله إيجادها، كما مرّ الكلام فيه سالفاً وقلنا: إنّ تعلّق البعث بنفس الطبيعة لا ينافي قولهم: الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي، ولا يلزم من ذلك كونها بما هي مؤثّرة في تحصيل الغرض، بل المولى لمّا رأى أنّ إتيان الصلاة ووجودها خارجاً محصّل لغرض، فلا محالة يتوسّل إليه بوسيلة، ولا يكون ذلك إلاّ بالتشبّث بالأمر بالطبيعة؛ ليبعث العبد إلى إيجادها، فمتعلّق الأمر هو الطبيعة، والهيئة باعثة نحو إيجادها؛ إمّا لأجل دلالتها على طلب الوجود؛ أي العنواني، ليحصل الخارجي، أو لأجل حكم العقل به كما عرفت(1).

وما قد يقال: من أنّ التكليف يتعلّق بالطبيعة باعتبار مرآتيتها عن الوجود(2)،

ص: 113


1- تقدّم في الصفحة 57 - 59.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 401.

غير تامّ؛ لأنّ المقصود من هذا التكلّف إن كان إثبات تعلّقه بالمرئي فهو مستلزم

لتحصيل الحاصل، مضافاً إلى أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة للوجود؛ لما عرفت من أنّ الاتّحاد في الوجود غير الكاشفية.

إذا عرفت ما تقدّم: يسهل لك تصديق المدّعى؛ أي جواز تعلّق الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على واحد شخصي خارجي؛ لأنّ الأمر متعلّق بعنوان الصلاة مثلاً، ولا يمكن تجاوزه عن متعلّقه إلى ما يلحقه أو يلازمه أو يتّحد به في الخارج، وكذا النهي بحكم المقدّمة الاُولى.

ولا يكون معنى الإطلاق إلاّ كون الطبيعة تمام الموضوع، ولا تكون الملحقات والمتّحدات معها ملحوظة ومتعلّقة للحكم بحكم الثانية.

والطبيعة اللا بشرط وإن اتّحدت مع العناوين الاُخر في الخارج، لكن لا تكون كاشفة عنها، ولا يكون الحكم المتعلّق بها سارياً إلى غيرها بحكم الثالثة.

ومتعلّق الحكم في الأمر والنهي هو نفس الطبيعة، لا الوجود الخارجي ولا الذهني بحكم الرابعة.

فكيف يمكن أن يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر، مع أنّ في مقام ثبوت الحكمين يكون العنوانان متعدّدين ومتخالفين، فعنوان الصلاة غير عنوان الغصب مفهوماً وذاتاً ؟ ! فلا يمكن أن يسري حكم أحدهما إلى الآخر، والخارج - الذي هو ظرف اتّحادهما - لم يكن ظرف ثبوت الحكم كما تقدّم، فظرف الاتّحاد غير ظرف المتعلّق، وفي ظرف المتعلّق لا يمكن الاتّحاد، فأين اجتمع الحكمان ؟ !

ص: 114

دفع الإشكالات الواردة على القول بالجواز

ومن هنا يتّضح الجواب عن سائر إشكالات الباب، كلزوم كون شيء واحد متعلّقاً للإرادة والكراهة، وكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً، وذا صلاح وفساد، ومقرّباً ومبعّداً.

أمّا بالنسبة إلى المراحل المتقدّمة على الأمر والنهي - أي مبادئهما الموجودة في نفس المولى - فواضح؛ لأنّ المتصوّر من كلّ من طبيعة الغصب والصلاة، وكذا الوجود العنواني منهما، غير المتصوّر من الآخر، ومورد تصديق المصلحة غير مورد تصديق المفسدة، ومورد تعلّق إرادة البعث غير مورد تعلّق إرادة الزجر، فصورة الصلاة وعنوانها في تمام المراحل غير الغصب، فلا تتّحد معه، وإنّما الاتّحاد في خارج الذهن الذي ليس ظرف تعلّق الأمر والنهي، ولا ظرف تحقّق مبادئهما، وكذا الوجود العنواني من كلٍّ غير الآخر لو فرض تعلّقهما به.

وأمّا لزوم كون الموجود الخارجي محبوباً ومبغوضاً فلا محذور فيه؛ لأنّ المحبوبية والمبغوضية ليستا من الصفات القائمة بالموضوع خارجاً، كالسواد والبياض؛ حتّى يكون المحبوب متّصفاً بصفات خارجية بعدد المحبّين، والله تعالى محبوب الأولياء، ولا يمكن حدوث صفة حالّة فيه بعددهم، فالمحبوبية والمبغوضية من الصفات الانتزاعية التي يكون لهما منشأ انتزاع، فلا بدّ من لحاظ المنشأ؛ فإنّ المنتزع تابع لمنشئه في الوحدة والكثرة.

ص: 115

فنقول: منشأ انتزاع المحبوبية هو الحبّ القائم بالنفس المتعلّق بالطبيعة التي

[هي] وجه الخارج، أو الوجود العنواني كذلك، أو الصورة التي في الذهن كذلك؛ لأنّ الحبّ من الصفات الإضافية، ولا بدّ في تشخّصه وتحقّقه من متعلّق، ولا يمكن أن يكون الموجود الخارجي مشخّصاً له؛ لأ نّه من الكيفيات النفسانية، فلا بدّ من أن يتشخّص بما هو حاضر لدى النفس بالذات، وهو الصورة الحاصلة فيها، ولمّا كانت الصورة وجهاً وعنواناً للخارج تضاف المحبوبية إليه، ولهذا قد تنسب المحبوبية إلى ما ليس موجوداً في الخارج، مع امتناعه لو كان مناط الانتساب قيام صفة خارجية بالموضوع، كما أنّ الأمر كذلك في العلم والقدرة، فيصير الشيء قبل تحقّقه معلوماً ومقدوراً.

فإذا كان الأمر كذلك يمكن أن يتعلّق الحبّ بعنوان والبغض بآخر، فيكون الموجود الخارجي محبوباً ومبغوضاً، مع كون العنوانين موجودين بوجود واحد، ألا ترى أنّ البسائط الحقيقية معلومة لله تعالى ومقدورة ومرضية ومعلولة له،... وهكذا.

بل يمكن أن يكون شيء بسيط معلوماً ومجهولاً بجهتين، كالحركة الخاصّة الركوعية في الدار المجهول غصبيتها؛ فإنّها مع وحدتها معلومة أ نّها ركوع، ومجهولة أ نّها تصرّف في مال الغير، فلو كانت المعلومية والمجهولية كالبياض والسواد من الصفات الخارجية لامتنع اجتماعهما في واحد، فسرّ اجتماعهما أ نّهما من الانتزاعيات كما عرفت.

فتحقّق ممّا ذكرناه: أنّ الشيء الواحد بحسب الوجود الخارجي يمكن

ص: 116

أن يكون محبوباً ومبغوضاً.

وأمّا حديث قيام المصلحة والمفسدة بشيء واحد فهو أيضاً لا محذور فيه؛ لأ نّهما أيضاً لا يجب أن يكونا من الأعراض الخارجية القائمة بفعل المكلّف. مثلاً: التصرّف [في] مال الغير بغير إذنه ظلم قبيح له مفسدة؛ لأنّ ذلك موجب للهرج والمرج والفساد من غير أن تكون هذه العناوين أوصافاً خارجية قائمة بالموضوع، والخضوع لله تعالى والركوع له قيام بأمر العبودية، وله حسن ومصلحة وموجب لأداء حقّ العبودية من غير أن تكون هذه العناوين أعراضاً خارجية، بل هي ومقابلاتها من الوجوه والاعتبارات التي يمكن أن يتّصف شيء واحد بهما.

فمسّ رأس اليتيم في الدار المغصوبة من جهة أ نّه رحمة به حسن ذو مصلحة، ومن جهة أ نّه تصرّف في مال الغير قبيح ذو مفسدة، من غير أن يكون ذلك من اجتماع الضدّين بالضرورة.

وممّا ذكرنا يتّضح: إمكان أن يكون شيء واحد مقرّباً ومبعّداً؛ لأ نّهما أيضاً من الوجوه والاعتبارات التي يمكن اجتماعها في شيء واحد بجهات مختلفة؛ ضرورة أنّ العقل يدرك الفرق بين من ضرب ابن المولى في الدار المغصوبة ومن أكرمه فيها، فحركة اليد لإكرام ابن المولى من جهة أ نّها إكرام محبوبة وصالحة للمقرّبية، ومن جهة أ نّها تصرّف في مال الغير عدواناً، مبغوضة ومبعّدة، فالحركة الصلاتية في الدار المغصوبة من جهة أ نّها مصداق الصلاة محبوبة ومقرّبة، ومن جهة أ نّها مصداق الغصب مبغوضة مبعّدة.

ص: 117

وقد عرفت: أنّ الشيء الواحد يمكن أن يتّصف بمثل هذه الانتزاعيات، فإذا أمكن أن يكون شيء واحد محبوباً من جهة ومبغوضاً من جهة اُخرى، أمكن أن يكون مقرّباً ومبعّداً من غير لزوم تضادّ وامتناع، ولا يلزم أن تكون الجهتان موجودتين بوجودين، ويكون التركيب بينهما انضمامياً.

وممّا ذكرنا: يظهر النظر فيما تكلّفه بعض الأعاظم في تصوير التركيب الانضمامي بين الصلاة والغصب ومبادئ المشتقّات، وبنى جواز الاجتماع وعدمه على التركيب الانضمامي والاتّحادي(1)؛ فإنّه أجنبيّ عن المسألة؛ بل هي مبتنية على ما تقدّم.

نعم، بناءً على تعلّق الأحكام بالوجود الخارجي وما هو فعل المكلّف بالحمل الشائع كان لتكلّفه وجه، لكن مع بطلان هذا البناء لا محيص له عن القول بالامتناع؛ كان التركيب انضمامياً أو لا، مع أنّ التركيب الانضمامي بين الصلاة والغصب أو التصرّف العدواني لا وجه صحّة له كما تقدّم.

ثمّ إنّ تسمية ما ذكر بالتركيب الانضمامي والاتّحادي مجرّد اصطلاح، وإلاّ فليس انطباق العناوين على شيء من قبيل التركيب.

ص: 118


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 406 - 407.
تنبيه : في التضادّ بين الأحكام الخمسة

وبما ذكرنا في وجه الجواز تحسم مادّة الإشكال، كان بين الأحكام تضادّ أو لا، لكن لمّا كان التضادّ بينها معروفاً بينهم(1) وإن خالفهم بعض مدقّقي المتأخّرين(2) فلا بأس بتحقيق المقام:

فنقول: عرّف الضدّان: «بأ نّهما أمران وجوديان لا يتوقّف تعقّل أحدهما على الآخر، بينهما غاية الخلاف، يتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصوّر اجتماعهما فيه»، قالوا: «ومن شرط التضادّ أن تكون الأنواع الأخيرة التي توصف به داخلة تحت جنس واحد قريب، فلا يكون بين الأجناس ولا بين صنفين من نوع واحد ولا شخصين منه تضادّ»(3).

وهذا التعريف لا يصدق على الأحكام الخمسة، سواء جعلت الإرادات المظهرة(4) أو نفس البعث والزجر(5)؛ لأ نّه إن جعلت الإرادات فلم تكن الأحكام أنواعاً مختلفة تحت جنس قريب: أمّا الواجب والمستحبّ وكذا الحرام

ص: 119


1- قوانين الاُصول 1: 142 / السطر 14؛ مطارح الأنظار 1: 625؛ كفاية الاُصول: 193؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 396.
2- نهاية الدراية 2: 308.
3- التحصيل: 37؛ الحكمة المتعالية 2: 113؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 174.
4- مقالات الاُصول 1: 310 - 311.
5- راجع ما تقدّم في الجزء الأوّل: 288.

والمكروه فواضح؛ لأنّ الإرادة الوجوبية والاستحبابية مشتركتان في حقيقة الإرادة، وممتازتان بالشدّة والضعف، وكذا الحال في الحرمة والكراهة؛ لأنّ المبدأ القريب للزجر - تحريمياً كان أو تنزيهياً - هو الإرادة، فإذا أدرك المولى مفسدة شرب الخمر يتوسّل إلى سدّ بابه بزجر العبيد تشريعاً، فيريد الزجر التشريعي، فيزجرهم عنه، فإرادة الزجر المظهرة إذا كانت إلزامية ينتزع منها التحريم على هذا المبنى، وإذا كانت غير إلزامية ينتزع منها الكراهة، فالإرادة مبدأ الزجر والبعث والإباحة الشرعية.

وما اشتهر بينهم: من تقابل الإرادة والكراهة، وجعلوا الكراهة مبدأ للنهي والإرادة للأمر، ليس على ما ينبغي؛ لأنّ الكراهة لصدور الفعل من المكلّف ليست في مقابل إرادة البعث، بل مقابلة للاشتياق إلى صدوره منه، فكما أنّ استحسان عمل والاشتياق إلى صدوره من المكلّف صارا مبدأ لإرادة بعثه نحو الفعل، فكذا استقباح عمل وكراهة صدوره منه صارا مبدأ لإرادة الزجر التشريعي والنهي عنه، فنفس الكراهة ليست بمبدأ قريب للنهي؛ ضرورة مبدئية الإرادة لصدور جميع الأفعال.

فبناءً على انتزاع الحكم من الإرادة المظهرة لا فرق بين الوجوب وغيره في كون مبدئها الإرادة، فلا تكون الأحكام أنواعاً مختلفة مندرجة تحت جنس قريب، فلا تضادّ بينها، ومطلق عدم الاجتماع لا يوجب الاندراج تحت تقابل التضادّ، مع أنّ غاية الخلاف - لو اعتبرت فيه - لا تتحقّق في جميع الأحكام، بل التعاقب على موضوع واحد - المراد به الموضوع الشخصي لا الماهية النوعية -

ص: 120

ممّا لا معنى له فيها؛ لأنّ متعلّقاتها لا يمكن أن تكون الموجود الخارجي، فلا معنى للتعاقب وعدم الاجتماع فيه.

وبهذا يظهر عدم التضادّ بينها؛ بناءً على أنّ الأحكام عبارة عن البعث والزجر المنشأين بوسيلة الآلات الموضوعة لذلك، كهيئة الأمر والنهي وغيرهما، ولا شكّ في أ نّهما حينئذٍ من الاُمور الاعتبارية، فلم تكن وجودية ولا حالّة في الموضوع الخارجي، بل قائمة بنفس المعتبر قياماً صدورياً، فالتضادّ بين الأحكام ممّا لا أساس له، فتدبّر.

ص: 121

استدلال المجوّزين بوقوع العبادات المكروهة

ثمّ إنّ المجوّزين استدلّوا بوقوع نظيره في الشرع، كالواجبات المكروهة أو المستحبّة، مع أنّ التضادّ بين جميع الأحكام(1)، وهذا الاستدلال ضعيف، لكن لا بأس بالتعرّض إلى كيفية العبادات المكروهة.

كيفية العبادات المكروهة

فنقول: أمّا ما تعلّق الأمر والنهي [فيه] بعنوانين مجتمعين في الوجود بينهما

عموم من وجه، فنحن في فُسحة منه، وكذا في العامّين المطلقين بناءً على دخولهما في محلّ البحث والقول بالجواز.

فالعمدة: هو الجواب عمّا تعلّق النهي بذاتها ولا بدل لها كصوم يوم العاشور والصلوات المبتدأة عند غروب الشمس وطلوعها، فلا يبعد فيها أن يكون النهي متعلّقاً بعنوان آخر منطبق على الصوم، كالتشبّه ببني اُميّة وبني مرجانة - لعنهم الله - فالمأمور به هو ذات الصوم والمنهيّ عنه التشبّه بهم، ولمّا انطبق العنوان عليه

وكان ترك التشبّه أهمّ من الصوم المستحبّ، نهى عنه إرشاداً إلى ترك التشبّه.

هذا لو قلنا بصحّة الصوم يوم العاشور كما نسب إلى المشهور، وإلاّ فللإشكال فيها مجال بالنظر إلى الأخبار.

ونسب إلى المشهور في الجمع بين الأخبار بأنّ الصوم حزناً مستحبّ، وشكراً مكروه، وفيه ما فيه.

ص: 122


1- قوانين الاُصول 1: 142 / السطر 13.

وجَمَعَ جمعٌ بينها باستحباب الصوم الناقص؛ أي صورة الصوم إلى العصر، وبطلان التامّ(1)، وللكلام فيه محلّ آخر.

وكذا الحال في الصلوات في أوقات خاصّة، كقبل طلوع الشمس وغروبها على فرض كراهتها؛ فإنّها أيضاً محلّ مناقشة، لكن يمكن أن يكون لانطباق عنوان آخر مكروه عليها، كالتشبّه بعبدة الأوثان على ما قيل(2).

وأمّا ما ذكره المحقّق الخراساني: من انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، يكون أرجح من الفعل، أو ملازمة الترك لعنوان كذائي(3).

ففيه: أنّ الترك عدمي [لا يمكن انطباق] عنوان وجودي عليه، ولا يمكن أن يكون ملازماً لشيء؛ فإنّ الانطباق والملازمة من الوجوديات التي لا بدّ في ثبوتها لشيء من ثبوت ذلك الشيء، نعم يمكن اعتبار شيء من بعض الأعدام الخاصّة المتصوّرة بنحو من التصوّر.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قد تصدّى للجواب عن هذا القسم بتقديم مقدّمة نافعة على زعمه، وهي: أنّ النذر إذا تعلّق بعبادة مستحبّة يندكّ الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي من قِبل النذر؛ لوحدة متعلّقهما، فيكتسب الأمر النذري الوجوبي التعبّدية من الاستحبابي، والأمر الاستحبابي يكتسب اللزوم من الوجوبي، فيتولّد منهما أمر وجوبي عبادي.

وأمّا إذا كانت العبادة المستحبّة متعلّقة للإجارة، كان متعلّق الأمر الاستحبابي

ص: 123


1- جامع المقاصد 3: 86؛ مسالك الأفهام 2: 78؛ رياض المسائل 5: 463.
2- لمحات الاُصول: 196.
3- كفاية الاُصول: 198 - 199.

مغايراً لما تعلّق به الأمر الوجوبي؛ لأنّ متعلّق الأوّل ذات العبادة، ومتعلّق الثاني إتيان العبادة بداعي الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه وبوصف كونه مستحبّاً على الغير؛ لأنّ الشخص صار أجيراً لتفريغ ذمّة الغير، فلا تكون العبادة من دون قصد النيابة تحت الإجارة، فلا يلزم اجتماع الضدّين، ولا يندكّ أحدهما في الآخر، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الأمر تعلّق بذات العبادة، والنهي التنزيهي تعلّق بالتعبّد بها؛ لما فيه من المشابهة بالأعداء(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمر في النذر إنّما تعلّق بعنوان الوفاء به، وهو عنوان مغاير لعنوان الصلاة والصوم وغيرهما، وإنّما يجتمع معها في الخارج الذي لم يكن ظرف تعلّق الأمر، فإذا نذر أن يأتي بصلاة الليل يجب عليه الوفاء بالنذر، فالإتيان بالصلاة [المستحبّة] مصداق لوفاء النذر في الخارج وللصلاة، وهما عنوانان منطبقان على الخارج كما تقدّم، وكذا الكلام في الإجارة؛ فإنّ الأمر الوجوبي تعلّق بعنوان الوفاء بالعقد، والاستحبابي بالصلاة المستحبّة، أو أمر وجوبي آخر بالصلاة الواجبة على الولي أو الميّت، فافتراق موضوعهما يكون من هذه الجهة.

وثانياً: لا معنى معقول لهذا الاكتساب والتولّد المذكورين، فبأيّ دليل وأيّة جهة يكتسب الأمر الغير العبادي العبادية والغير الوجوبي الوجوب ؟ ! وما معنى هذه الولادة والوراثة ؟ ! بل لا يعقل تغيير الأمر عمّا هو عليه لو فرض وحدة متعلّقه مع الآخر، ولعمري إنّ هذا أشبه بالشعر منه بالبرهان.

ص: 124


1- أجود التقريرات 2: 174 - 176.

وثالثاً: أنّ الأمر فيما نحن فيه وكذا في باب العبادات الاستئجارية، لم يتعلّق بذات الصلاة والصوم، وإلاّ يلزم أن يكون توصّلياً، بل تعلّق بها بقيد التعبّد ولو بدليل آخر، فلا يكون موضوعهما شيئين.

ورابعاً: بعد تسليم جميع ما ذكر لا ينفع ذلك للتخلّص عن الإشكال؛ لأنّ حاصله يرجع إلى أنّ الأمر الاستحبابي تعلّق بصوم يوم العاشور، وصومه بما هو مستحبّ مكروه، وهذا واضح البطلان؛ لأ نّه يلزم منه أن يكون موضوع الحكم مضادّاً لحكمه.

وما قال في خلال كلامه: - من أنّ التعبّد بالصوم مكروه لأجل التشبّه بالأعداء - إن رجع إلى ما ذكرنا لا يحتاج فيه إلى تلك التكلّفات.

ص: 125

تنبيه : في توسّط الأرض المغصوبة

قد وقع الخلاف في أنّ المتوسّط في أرض مغصوبة إذا كان دخوله غصباً ويكون التخلّص منحصراً بالتصرّف فيها بغير إذن صاحبها، هل يكون ذلك التصرّف منه واجباً وحراماً(1)، أو واجباً مع جريان حكم المعصية عليه(2)، أو بدونه(3)، أو حراماً فعلياً(4)، أو لا يكون حراماً ولا واجباً مع جريان حكم المعصية عليه(5) ؟ على أقوال:

أقواها: أ نّه حرام فعلي، ولا يكون واجباً:

أمّا عدم الوجوب: فلعدم دليل عليه بعنوان الخروج من الأرض المغصوبة، أو التخلّص عن الغصب، أو ردّ المال إلى صاحبه، أو ترك التصرّف في مال الغير. نعم دلّ الدليل على حرمة الغصب وحرمة التصرّف في مال الغير بلا إذنه، والعناوين الاُخر لا دليل على تعلّق الوجوب بها، وما في بعض الروايات من أنّ «المغصوب كلّه مردود»(6) لا يدلّ على وجوب الردّ بعنوانه، بل لمّا كان الغصب

ص: 126


1- قوانين الاُصول 1: 153 / السطر 21؛ اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن حاجب: 94.
2- الفصول الغروية: 138 / السطر 25.
3- مطارح الأنظار 1: 708.
4- إشارات الاُصول 1: 221؛ اُنظر مطارح الأنظار 1: 713.
5- كفاية الاُصول: 204.
6- الكافي 1: 542 / 4؛ وسائل الشيعة 25: 386، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 3.

حراماً يردّ المغصوب تخلّصاً عن الحرام عقلاً، فهو إرشاد إليه.

نعم، بناءً على أنّ النهي عن الشيء مقتضٍ للأمر بضدّه العامّ، ووجوب مقدّمة

الواجب، يمكن القول بوجوب بعض تلك العناوين؛ لأنّ التصرّف في مال الغير إذا كان حراماً يكون ترك التصرّف واجباً، والخروج عن الدار مقدّمة لتركه على إشكال، لكنّ المقدّمتين ممنوعتان كما سبق في محلّه(1)، وسيأتي الكلام بناءً على تسليمهما.

وأمّا حرمة التصرّف الخروجي فعلاً: فلما تكرّر منّا(2) من أنّ الأحكام المتعلّقة بالعناوين الكلّية - كقوله: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(3) - فعلية على عناوينها من غير لحاظ حالات كلّ واحد من المكلّفين، وصحّة الخطاب العمومي لا تتوقّف على صحّة الباعثية بالنسبة إلى جميع الأفراد، وأنّ الخطابات لم تكن مقيّدة بالقادر العالم الملتفت، لا من ناحية الحاكم، ولا من ناحية العقل كشفاً أو حكومةً، لكن العقل يحكم بمعذورية المكلّف في بعض الأحيان.

فالحكم بعدم جواز التصرّف في مال الغير فعلي على عنوانه غير مقيّد بحال من الأحوال، لكن العقل يحكم بمعذورية العاجز إذا طرأ [عليه لا بسوء] اختياره، وأمّا معه فلا يراه معذوراً في المخالفة.

ص: 127


1- تقدّم في الصفحة 9 - 10، وفي الجزء الأوّل: 342.
2- تقدّم في الصفحة 18 - 20 و98.
3- كمال الدين: 521 / 49؛ وسائل الشيعة 25: 386، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 4.

فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدّم قد يخالف بلا عذر، وقد يخالف معه، وما نحن فيه من قبيل الأوّل، وإن حكم العقل بلزوم التخلّص لكونه أقلّ المحذورين، وهكذا الحال في جميع الموارد التي سلب المكلّف قدرته اختياراً.

فإذا أمر المولى بإنقاذ الغريق، فسلب العبد عن نفسه القدرة، لا يكون معذوراً لدى العقل والعقلاء، ولو ساعدناهم في سقوط الأمر لم تمكن المساعدة في عدم إجراء حكم المعصية بشهادة الوجدان والعقل.

ثمّ إنّه لو سلّم بوجوب ردّ المال إلى صاحبه، أو وجوب التخلّص عن التصرّف، أو ترك التصرّف، وكون التصرّف الخارجي مقدّمة للواجب، فإن قلنا بجواز تعلّق النهي بالتصرّف - كما عرفت - فيقوى قول أبي هاشم(1)، وإلاّ فقول صاحب «الفصول»(2).

وما قيل: من لزوم تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد(3) ممنوع؛ لأنّ النهي متعلّق بعنوان التصرّف في مال الغير، والأمر المقدّمي بحيثية ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة، أو ما يتوصّل به إليه، وهما بما لهما من العنوان قابلان لتعلّق الأمر والنهي بهما، لا

بما هما كذلك بالحمل الشائع؛ لأ نّهما بالحمل الشائع - أي الوجود الخارجي - لا يمكن تعلّق الأمر والنهي بهما، فاتّحاد مقدّمة الواجب مع التصرّف في مال الغير في الوجود الخارجي دون وعاء تعلّق التكليف، فحينئذٍ: إن قلنا بأنّ قيد

ص: 128


1- اُنظر قوانين الاُصول 1: 153 / السطر 22؛ شرح العضدي على مختصر ابن حاجب: 94.
2- الفصول الغروية: 138 / السطر 25.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 448.

«المندوحة» لا يعتبر في باب اجتماع الأمر والنهي، فلا محيص عن قول

أبي هاشم، وإلاّ فعن قول صاحب «الفصول».

ثمّ إنّ بعض الأعاظم(1) اختار ما نسب إلى الشيخ الأعظم(2): من وجوب الخروج وعدم الحرمة لا خطاباً ولا عقاباً، وبنى المسألة على دخول المقام في كبرى قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» وعدمه، واختار العدم، واستدلّ عليه باُمور غير خالية عن الخلل.

مع أنّ القاعدة أجنبيّة عمّا نحن فيه؛ لأ نّها في مقابل قول من توهّم أنّ قاعدة

«الشيء ما لم يجب لم يوجد، وما لم يمتنع لم يعدم» منافية للاختيار في الأفعال، فيلزم أن يكون الواجب تعالى فاعلاً موجباً - بالفتح - فإنّ الواجب والممتنع خارجان عن [دائرة] الاختيار. فأجابوا عنه: بأنّ الإيجاب السابق من ناحية العلّة وباختياره لا ينافي الاختيار، وأ نّه تعالى فاعل موجب - بالكسر - والإيجاب بالاختيار كالامتناع بالاختيار - أي جعل الشيء ممتنعاً بالاختيار - لا ينافي الاختيار، بل يؤكّده(3)، وما نحن فيه غير مرتبط بهذه القاعدة.

هذا، مضافاً إلى أنّ الامتناع الحاصل بترك المقدّمة - كترك المسير إلى الحجّ إلى وقت يمتنع إدراكه - ينافي الاختيار بالضرورة. وإن شئت قلت: إنّ الإيجاب والامتناع السابقين الحاصلين بإرادة الفاعل لا ينافيان الاختيار، بخلاف ما هو

ص: 129


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 447 - 451.
2- مطارح الأنظار 1: 708.
3- راجع الحكمة المتعالية 2: 131 - 132 و 6: 349؛ شوارق الإلهام 1: 378؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 614.

اللاحق له باعتبار تحقّقه ولا تحقّقه، وفقدان مقدّمات وجوده، فإنّه ينافي الاختيار.

ثمّ إنّ ما نحن فيه تحت قاعدة اُخرى، وهي أنّ الاضطرار إلى فعل الحرام أو ترك الواجب إذا كان بسوء الاختيار هل هو عذر عند العقلاء ولدى العقل، ويقبح العقاب عليه، أو ليس بعذر ويصحّ ؟

الأقوى هو الثاني، فمن ترك المسير إلى الحجّ بسوء اختياره حتّى عجز عنه، يصحّ عقابه وإن كان ينافي الاختيار، وكذا من اضطرّ نفسه إلى التصرّف في مال الغير بلا إذنه - كالتصرّف الخروجي المضطرّ إليه بحكم العقل - لا يكون معذوراً عقلاً، كمن سلب قدرته عمداً عن إنقاذ الغريق، فتدبّر.

هذا حال الحكم التكليفي.

وأمّا الوضعي - أي صحّة الصلاة حال الخروج - فقد تقدّم(1) شطر من الكلام فيه في الصلاة في الدار المغصوبة، وشطر منه مربوط بالفقه، وهو حال الصلاة في ضيق الوقت وكيفيتها.

ص: 130


1- تقدّم في الصفحة 102 - 106.

الفصل الثالث في أنّ النهي عن الشيء هل يكشف عن فساده ؟

اشارة

وقبل تحقيق المقام يقدّم اُمور:

الأمر الأوّل: في الاختلاف في عنوان البحث

تختلف تعبيرات القوم في عقد المسألة:

فقد يقال: إنّ النهي عن الشيء هل يقتضي الفساد(1) ؟ وقد يقال: إنّ النهي عنه هل يدلّ عليه(2) ؟

ولا يخلو كلا التعبيرين عن المسامحة؛ فإنّ الاقتضاء بالمعنى المتفاهم به عرفاً لا يناسب المقام؛ لأنّ النهي لا يكون موجباً ومؤثّراً في الفساد، بل إمّا أن يكون دالاًّ عليه كما يدّعي بعضهم(3)، أو كاشفاً عن مبغوضية متعلّقه، وهي تنافي

ص: 131


1- كفاية الاُصول: 217؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 454.
2- قوانين الاُصول 1: 154 / السطر 21؛ الفصول الغروية: 139 / السطر 28.
3- كفاية الاُصول: 217.

الصحّة، كما يدّعي الآخر(1)، من دون أن يكون النهي بما له من المعنى مقتضياً لذلك، اللهمّ إلاّ أن يراد بالاقتضاء معنىً آخر.

وكذا لا يناسب التعبير بالدلالة؛ لأنّ الدلالة اللفظية - كما هو ظاهر العنوان - ولو بنحو الالتزام على فرض كون الدلالة الالتزامية لفظية، لا تشمل الملازمات الخفية العقلية، بل لا بدّ في الالتزام من اللزوم الذهني. مضافاً إلى أنّ المدّعى في

اقتضاء النهي ليس مقصوراً على الدلالة اللفظية.

اللهمّ إلاّ أن يراد بها مطلق الكشف ولو بنحو اللزوم الخفي؛ ولهذا غيّرنا عنوان البحث إلى الكشف؛ حتّى يعمّ الدلالات اللفظية واللوازم العقلية الخفية، والأمر سهل.

الأمر الثاني: في كون المسألة عقلية لفظية

الأولى تعميم عنوان البحث بحيث يشمل العقلي واللفظي؛ حتّى يناسب استدلالات القوم؛ فإنّهم تشبّثوا: تارةً بالدلالة العرفية، واُخرى بالعقلية، فجعله ممحّضاً في أحدهما(2) غير مناسب، بل مع جعله كذلك يبقى [في عهدة الاُصولي] بحث آخر، فلو تمحّض في العقلية لبقي البحث عن الدلالة اللفظية وبالعكس، فالمسألة ليست عقلية محضة، ولا لفظية كذلك.

ثمّ إنّ المسألة اُصولية تقع الكبرى لاستنتاج الفرعية الكلّية، وقد أشرنا(3) إلى الفرق بينها وبين المسألة المتقدّمة هناك.

ص: 132


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 455.
2- كفاية الاُصول: 217؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 455.
3- تقدّم في الصفحة 95.

الأمر الثالث: في تحرير محلّ النزاع

الظاهر أنّ محطّ البحث أعمّ من النهي التحريمي والتنزيهي، والنفسي والغيري، والأصلي والتبعي، ولا وجه لاختصاصه(1) بأحدها؛ لأنّ كلّها محلّ النزاع ولو عند من ادّعى أنّ عدم الأمر يكفي في الفساد، وينكر الأمر الترتّبي، ومجرّد كون قوله خلاف التحقيق عند آخر لا يوجب خروجه عن محطّ البحث.

ودعوى تعلّق النهي التنزيهي في الشريعة بالخصوصيات اللاحقة بالعبادات لا بنفسها، أجنبيّة عمّا نحن بصدده على فرض صحّتها؛ لأنّ الكلام في فرض تعلّقه بها، كما أنّ تأويل الكراهة بأقلّية الثواب لا يوجب الخروج عن محطّ البحث، فدعوى خروج النهي الغيري والتنزيهي عنه ضعيفة.

نعم، النهي الإرشادي المسوق لبيان المانعية خارج؛ لأ نّه بعد إحرازه لا يبقى مجال للنزاع، لكن كون النواهي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات إرشاديةً محلّ النزاع.

الأمر الرابع: في المراد من العبادات والمعاملات

المراد بالعبادات هو العناوين الواردة في الشريعة ممّا لا يسقط أمرها -

على فرض تعلّقه بها - إلاّ إذا اُتيت بوجه قربي، أو كان عنوانها عبادة ذاتاً، وبالجملة:

مطلق القربيات مع قطع النظر عن النهي.

وأمّا المعاملات: فمطلق ما يتّصف بالصحّة تارةً وبالفساد اُخرى، لا ما يترتّب عليه أثر على وجه ولا يترتّب على آخر؛ لأنّ القتل قد يترتّب عليه القصاص،

ص: 133


1- أجود التقريرات 2: 200 - 201.

وقد لا يترتّب كقتل الأب ابنه، ولا يتّصف بالصحّة والفساد، ومثله خارج عن البحث، والظاهر أنّ أبواب الضمان من هذا القبيل، ولو فرض انفكاك الأثر عن أسبابه أحياناً.

الأمر الخامس: في مساوقة الصحّة والفساد للنقص والتمام

اشارة

قالوا: الصحّة والفساد أمران إضافيان، بينهما تقابل العدم والملكة، مساوقان معنى للتمام والنقص لغة وعرفاً، وكذا في نظر الفقهاء والمتكلّمين، واختلاف تعبير الفريقين لأجل ما هو المهمّ في نظرهما(1).

أقول: أمّا مساوقتهما للتمام والنقص عرفاً ولغة فهو واضح الفساد؛ لاختلاف مفهومهما وموارد استعمالهما، فلا يقال لإنسان فاقد لبعض الأعضاء: إنّه فاسد، ويقال: ناقص، والدار التي بعض مرافقها ناقصة لا يقال: إنّها فاسدة، ولا لما تمّت مرافقها: إنّها صحيحة بهذا الاعتبار.

فالتمام والصحّة عنوانان بينهما عموم من وجه بحسب المورد، فالنقص بحسب الأجزاء غالباً، والتمام مقابله.

وأمّا الصحّة فغالب استعمالها في الكيفيات المزاجية أو الشبيهة بها، ومقابلها الفساد، وهو كيفية وجودية عارضة للشيء منافرة لمزاجه ومخالفة لطبيعته النوعية، فالفاكهة الفاسدة ما عرضتها كيفية وجودية منافرة لمزاجها تتنفّر عنها الطباع غالباً، فبين الصحّة والفساد تقابل التضادّ لو سلّم كون الصحّة وجودية، وبين النقص والتمام تقابل العدم والملكة.

ص: 134


1- كفاية الاُصول: 220.

هذا بحسب اللغة والعرف.

وأمّا في العبادات والمعاملات؛ فلا إشكال في استعمال الصحّة والفساد فيهما مع فقد جزء أو شرط أو وجود مانع، فكأ نّهما مساوقان للتمام والنقص أو قريبان منهما، لكن يمكن أن يكون بوضع جديد، وهو بعيد عن الصواب، ويمكن أن يكون باستعمالهما مجازاً ثمّ بلغا إلى حدّ الحقيقة.

فالصحّة في الماهيات المخترعة صفة لمصداق جامع لجميع الأجزاء والشرائط، مطابق للمخترع والقانون، والفساد مقابلها، وبينهما في هذا المورد تقابل العدم والملكة، وبهذا المعنى يمكن أن يقال: إنّهما أمران إضافيان؛ لإمكان أن يكون عبادة تامّة الأجزاء ناقصة الشرائط، وبالعكس.

وأمّا الصحّة بالمعنى المتعارف فليست كذلك، إلاّ بالإضافة إلى حالات المكلّفين.

وأمّا اختلاف الأنظار في صحّة عبادة وعدمها فلا يوجب إضافيتهما؛ لأنّ الأنظار طريق إلى تشخيص الواقع، فكلٌّ يخطّئ الآخر، فما في كلام المحقّق الخراساني(1) من إثبات إضافيتهما بذلك، غير تامّ.

تنبيه: في مجعولية الصحّة والفساد

هل الصحّة والفساد مجعولتان مطلقاً أو لا؛ أو مجعولتان في المعاملات دون العبادات، أو الصحّة الظاهرية مجعولة دون الواقعية ؟ فيه أقوال:

أقواها عدم إمكان مجعوليتهما مطلقاً، وذلك لأنّ الصحّة - سواء كانت منتزعة

ص: 135


1- كفاية الاُصول: 220.

من مطابقة الخارج للمخترع أو للأمر، أو بمعنى التمامية - أمر تكويني عقلي لا ينالها الجعل.

ومجرّد جعل الآثار في المعاملات(1) - على فرض صحّته - لا يوجب كونهما مجعولين فيها؛ لعدم اتّصاف الماهيات المخترعة بالصحّة والفساد، كما هو واضح، بل المتّصف بهما هو الموجود الخارجي أو الاعتباري بلحاظ انطباق الماهيات عليه ولا انطباقها، وهما عقليان لا يتطرّق الجعل بالنسبة إليهما.

وكذا جعل الصحّة الظاهرية بنفسها(2) لا معنى له؛ لأنّ جعل مطابقة المأتيّ به للمأمور به بلا تصرّف في منشأ الانتزاع غير معقول ولو في ظرف الشكّ وبحسب الظاهر.

نعم، جواز ترتيب أثر الصحّة أو وجوبه قابلان للجعل، لكنّه غير جعل الصحّة بنفسها، بل الظاهر أنّ جواز ذلك أو إيجابه بدون رفع اليد عن الشرط أو الجزء غير ممكن، ومعه يكون التطبيق قهرياً، ولعلّ القائل بالجعل هاهنا خلط بين الأمرين.

الأمر السادس: في تحقيق الأصل في المقام

لا أصل في المسألة الاُصولية لدى الشكّ في دلالة النهي على الفساد لفظاً أو كشفه عنه عقلاً؛ لعدم العلم بالحالة السابقة، لا في الدلالة، ولا في الملازمة:

أمّا الاُولى: فلأنّ اللفظ قبل وضعه وإن لم يكن دالاًّ، لكن في هذه الحالة

ص: 136


1- كفاية الاُصول: 222.
2- أجود التقريرات 2: 209.

لم يكن إلاّ الحروف المقطّعة، وعند عروض التركيب له إمّا وضع لما يستفاد منه

الفساد أو لغيره، فلا حالة سابقة له بنحو الكون الناقص، إلاّ أن يقال: عروض التركيب لطبيعي اللفظ في ذهن الواضع كان قبل الدلالة والوضع زماناً، أو يقال: إنّ الدلالة تحقّقت بعد الوضع زماناً.

وأمّا الملازمات: فليست لها حالة سابقة مفيدة، سواء قلنا بأ نّها أزلية كما قيل(1)، وهو واضح، أو قلنا بأنّ تحقّقها عند تحقّق المتلازمين؛ لأنّ قبل تحقّقهما وإن لم تكن الملازمة بنحو الكون التامّ متحقّقة، لكنّه لا يفيد استصحابها إلاّ على الأصل المثبت، وبنحو الكون الناقص لا حالة سابقة حتّى يستصحب.

ثمّ إنّه لو سلّم تحقّق الحالة السابقة في المقامين لم يجر الاستصحاب؛ لأجل عدم أثر شرعي للمستصحب؛ لعدم كون الدلالة أو الملازمة موضوعاً لحكم شرعي، وصحّة الصلاة لدى تحقّق المقتضيات وعدم الموانع عقلية لا شرعية.

هذا حال الأصل في المسألة الاُصولية.

وأمّا حاله في الفرعية، فلا بدّ أوّلاً من فرض الكلام في مورد تعلّق النهي بالعبادة أو المعاملة وشكّ في اقتضائهما الفساد، فإجراء القواعد الاُخر(2) مثل: رجوع الشكّ إلى الأقلّ والأكثر - إن كان المراد منه رجوع الشكّ إلى تعلّقه بها أو بالخصوصية ككونها في مكان كذا - أو إجراء قاعدة التجاوز، أجنبيّ عن المقام؛ فإنّ الكلام ليس في مانعية شيء عن الصلاة أو شرطيته لها، بل الكلام في الشكّ في اقتضاء النهي الفساد.

ص: 137


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 462.
2- راجع أجود التقريرات 2: 212.

والتحقيق أن يقال: أمّا في المعاملات فمقتضى الأصل الفساد، وأمّا في العبادات فإن كان الشكّ في فسادها بعد الفراغ عن إحراز الملاك كما في النهي عن الضدّ، فالأصل يقتضي الصحّة؛ لأنّ الملاك كافٍ فيها، فيرجع الشكّ إلى كون النهي إرشاداً إلى الفساد لأجل أمر آخر غير فقدان الملاك، فيرجع بالأخرة إلى الشكّ في مانعية النهي عن العبادة، وهو مجرى البراءة.

ولا يخفى عليك الفرق بين ما تقدّم آنفاً - من أنّ إجراء البراءة أجنبيّ عن

المقام - وبين المقام من إجراء البراءة، فلا تغفل.

وأمّا إذا كان الشكّ في تحقّق الملاك أيضاً فالأصل يقتضي الفساد؛ لأنّ صحّة الصلاة تتوقّف إمّا على إحراز الأمر أو الملاك، والأمر لا يجتمع مع النهي في عنوان واحد، ومع عدمه لا طريق لإحراز الملاك.

التحقيق في دلالة النهي على الفساد

اشارة

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام: تارةً في دلالة النهي عرفاً إذا تعلّق بعبادة أو معاملة مع عدم إحراز كونه للتحريم أو التنزيه أو غيرهما، واُخرى في الاقتضاء عقلاً إذا اُحرز التحريم أو غيره.

دلالة النهي على الفساد عرفاً مع عدم إحراز حال النهي

أمّا المقام الأوّل: فلا ينبغي الإشكال في ظهوره عرفاً إذا تعلّق بالمعاملات في الإرشاد إلى الفساد لا تحريم السبب؛ فإنّ الأسباب آلات لتحقّق المسبّبات، ولا نفسية لها حتّى يتعلّق بها النهي، مضافاً إلى بُعد تعلّق النهي والحرمة بالتلفّظ

ص: 138

بألفاظ الأسباب. وأمّا المسبّب فهو اعتبار شرعي أو عقلائي لا معنى لتعلّقه به.

وأمّا الآثار المترتّبة عليها فتعلّقه بها ذاتاً بعيد؛ لأ نّه مع تأثير السبب لا معنى للنهي، ومع عدمه يكون التصرّف في مال الغير ووط ء الأجنبيّة وأمثالهما محرّمة لا تحتاج إلى تعلّقه بها، فلا بدّ من حمله على الإرشاد، وأنّ الزجر عن الإيقاع لأجل عدم الوقوع.

وبالجملة: المتفاهم به عرفاً في النهي عن معاملة خاصّة أو إيقاعها على نحو خاصّ، هو الإرشاد إلى أنّ الأثر المتوقّع منها لا يترتّب عليها، فتكون فاسدة.

وأمّا ما يقال: من أنّ النهي فيها منصرف إلى ترتيب الآثار، فقوله: «لا تبع المجهول» مثلاً، منصرف إلى حرمة ترتيب الآثار على بيعه، ومنه يستفاد الوضع.

فغير سديد؛ لمنع الانصراف، ولا داعي لرفع اليد عن ظاهر العنوان، بل الظاهر أنّ النهي متعلّق بإيقاع الأسباب، لكن لا إلى ذاتها بما هي، بل بداعي الإرشاد إلى عدم التأثير.

وأمّا العبادات: فلا يبعد دعوى ذلك فيها أيضاً؛ لأنّ المكلّفين بحسب النوع إنّما يأتون بالعبادات لأجل إسقاط الأمر والإعادة والقضاء، فإذا ورد من المقنّن نهي عن كيفية خاصّة، تنصرف الأذهان إلى أنّ الإتيان بها مع هذه الكيفية غير مسقط للأمر، وأ نّه لأجل الإرشاد إلى فسادها.

فقوله: «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه»(1) ظاهر - في نظر العرف - في أنّ الطبيعة المتعلّقة للأمر لا تتحقّق بهذه الكيفية، وأنّ الصلاة كذلك لا يترتّب

ص: 139


1- راجع وسائل الشيعة 4: 347، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 2.

عليها الأثر المتوقّع؛ أي سقوط القضاء والإعادة وسقوط الأمر لأجل الأمن

من العقاب.

وكذا الحال لو تعلّق بصنف خاصّ كصلاة الأعرابي، أو في حال خاصّ كالصلاة أيّام الأقراء، أو مكان خاصّ كالحمّام، فمع عدم الدليل تحمل تلك النواهي على الإرشاد، كالأوامر الواردة في الأجزاء والشرائط، وهذه الدعوى قريبة.

في اقتضاء النهي الفساد عقلاً مع إحراز حال النهي

وأمّا المقام الثاني؛ أي إذا أحرزنا حال النهي:

فتارةً يكون تحريمياً نفسياً متعلّقاً بعبادة: فلا شبهة في اقتضائه الفساد عقلاً؛ فإنّه كاشف عن المبغوضية والمفسدة، ومعهما كيف يمكن صلاحيته للتقرّب والتعبّد ؟ !

وأمّا إتعاب شيخنا العلاّمة - طاب ثراه - نفسه الشريفة في تصوير تعلّق النهي

بأمر خارج، وإدراج المسألة تحت اجتماع الأمر والنهي(1)، فلا يخلو من غرابة؛ لأنّ الكلام هاهنا بعد الفراغ عن تعلّقه بنفس العبادة.

وأمّا النهي التنزيهي: فمع بقائه على تنزيهيته ودلالته على مرجوحية متعلّقه، فلا يجتمع مع الصحّة، لكن يقع البحث حينئذٍ في أنّ النهي التنزيهي ملازم للترخيص، وكيف يمكن الترخيص في التعبّد بأمر مرجوح ؟ ! وهل هذا إلاّ الترخيص بالتشريع ؟ !

ص: 140


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 187 - 188.

فلا بدّ بعد إحراز المرجوحية من التخلّص عن هذا الإشكال؛ بأن يقال: إنّ الترخيص حيثي، مفاده عدم كون عنوان العبادة محرّماً ذاتاً، ولا يتنافى ذلك مع الحرمة من قبل التشريع على فرضها.

وأمّا النهي الغيري: - كالنهي عن الضدّ بناءً على القول به - فلا يقتضي الفساد عقلاً؛ لعدم دلالته على مبغوضية المتعلّق؛ لأ نّه لم يكن إلاّ للإلزام بإتيان غيره، كما أنّ الأمر المقدّمي لا يكشف عن المحبوبية؛ لأ نّه إلزام لأجل غيره، فمع القول بكفاية الملاك في صحّة العبادة لا إشكال فيها.

وما قيل: من أنّ إتيان الفعل المنهيّ عنه تجرٍّ على المولى، فيكون الفاعل بعيداً عن ساحته به، فلا يمكن التقرّب به(1)، بعيد عن الصواب:

أمّا أوّلاً: فلأنّ فاعل الضدّ عاص بترك الضدّ الأهمّ لا فعل المهمّ، فليس في فعله تجرٍّ.

وأمّا ثانياً: فعلى فرضه لا دليل على أنّ التجرّي موجب لفساد العمل؛ لأنّ المبغوضية لا تسري إليه، وكون الفاعل جريئاً على المولى لا يوجب بُعده بعمله، بل بجرأته وجسارته، وهو عنوان آخر لا تسري المبغوضية منه إلى الفعل.

هذا حال العبادات.

وأمّا المعاملات: فلا إشكال في عدم دلالة النهي التنزيهي والغيري فيها على الفساد.

وأمّا النهي التحريمي: فإن تعلّق بالفعل المباشري - أي صدور هذا اللفظ

ص: 141


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 185، الهامش 1؛ غرر العوائد من درر الفوائد: 71.

بنفسه أو صدوره بعنوان إيقاع المعاملة - فلا يدلّ على الفساد؛ لعدم المنافاة بين مبغوضيتهما والتأثير في المسبّب والصحّة، وكذا لو تعلّق بها لأجل مبغوضية مسبّبها، كبيع المسلم من الكافر إذا كان المبغوض مملوكيته له؛ لعدم المنافاة أيضاً.

ويظهر من الشيخ الأعظم: التفصيل بين كون الأسباب عقلية كشف عنها الشارع، فتصحّ المعاملة، وإن اُجبر الكافر على إخراجه عن ملكه، وبين كون الأسباب شرعية، فيبعد جعله السبب مع مبغوضية مسبّبه(1).

أقول: الظاهر أنّ الأسباب نوعاً عقلائية، لا عقلية ولا شرعية، والظاهر أنّ مراده من العقلية ما ذكر، تأمّل.

فيقع الكلام: في أنّ النهي عن السبب لأجل مبغوضية المسبّب، هل يكون رادعاً عن المعاملة العقلائية أم لا ؟

الأقوى هو الثاني؛ لعدم المنافاة بينهما، بل لو فرض مجعولية السبب شرعاً لم يرفع اليد عن أدلّة السببية لأجل مبغوضية المسبّب، وما استبعده ليس ببعيد؛ لأنّ جعل القانون الكلّي الذي يشمل المورد لا بعد فيه وإن كان اختصاص المورد بالجعل بعيداً، وليس الأمر كذلك.

وكذا الكلام لو تعلّق النهي بالتسبّب بسبب خاصّ إلى المسبّب بحيث لا يكون المسبّب مبغوضاً، بل التوسّل إليه بذاك السبب مبغوضاً؛ فإنّه أيضاً لا يدلّ على الفساد؛ لعدم المنافاة كما مرّ.

ص: 142


1- مطارح الأنظار 1: 752.

وما قيل: - من أ نّه مع مبغوضية حصول الأثر بذاك السبب لا يمكن إمضاء المعاملة، وهو مساوق للفساد(1) - فيه منع، كالحيازة بالآلة الغصبية - تأمّل - فأيّة منافاة بين تحقّق الوضع والحرمة التكليفية ؟ !

مضافاً إلى أنّ المعاملات عقلائية، لا بدّ فيها من الردع، ومجرّد ذلك لا يكون رادعاً، كما لا يكون مخصّصاً أو مقيّداً لما دلّ على تنفيذ الأسباب.

نعم، لو تعلّق النهي بالمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها لفهم منه الفساد عرفاً؛ لأنّ حرمة ترتيب الأثر على معاملة مساوقة لفسادها عرفاً.

هذا كلّه لو اُحرز تعلّقه بأحد العناوين، ومع عدمه فلا ينبغي الإشكال في ظهوره في النحو الأخير.

فإذا ورد «لا تبع ما ليس عندك»(2) واُحرزت حرمة النهي، يفهم منه أ نّها متعلّقة بالبيع باعتبار ترتيب الآثار، والمبغوض هو العمل على طبقه، كسائر معاملاته، ولا ينقدح في ذهن العرف حرمة التلفّظ بالألفاظ الخاصّة؛ لأ نّها آلات لا ينظر إليها، ولا حرمة المسبّب الذي هو أمر اعتباري لا يكون مبغوضاً نوعاً، ولا التسبّب بها إلى المسبّب، بل ما ينقدح في أذهانهم هو الزجر عن المعاملة على نحو سائر المعاملات من ترتيب الأثر عليها، فالنهي متوجّه إلى المعاملة باعتبار ترتيب الآثار، وهو مساوق للفساد.

ص: 143


1- لمحات الاُصول: 214.
2- المسند، أحمد بن حنبل 12: 129 / 15249؛ سنن الترمذي 2: 350 / 1250.

ومنه يظهر ما في كلام الشيخ الأعظم: من دعوى ظهور تعلّقه بصدور الفعل المباشري(1)، مع أ نّه أبعد الاحتمالات لدى العرف والعقلاء، فتدبّر.

في التمسّك بالروايات على فساد المعاملة المنهيّ عنها

ثمّ إنّه قد يتمسّك(2) بروايات لإثبات الفساد لو تعلّق النهي بعنوان المعاملة:

منها: صحيحة زرارة المرويّة في نكاح العبيد والإماء عن أبي جعفر علیه السلام

قال: سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: «ذاك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما» قلت: أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، ولا يحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر: «إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز»(3).

ومنها: ما عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل تزوّج عبده امرأةً بغير إذنه، فدخل بها، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه، قال: «ذاك لمولاه، إن شاء فرّق بينهما...» إلى أن قال: فقلت لأبي جعفر: فإنّه في أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر: «إنّما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاصٍ لله، إنّما عصى سيّده، ولم يعص الله، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه»(4).

ص: 144


1- مطارح الأنظار 1: 753 - 754.
2- الوافية في اُصول الفقه: 104.
3- الكافي 5: 478/3؛ وسائل الشيعة 21: 114، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1.
4- الكافي 5: 478 / 2؛ وسائل الشيعة 21: 115، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 2.

بتقريب: أنّ الظاهر منهما أنّ النكاح لو كان معصية الله لكان باطلاً، وإنّما نفى الصغرى.

وربّما يستشكل(1) بأنّ عصيان السيّد عصيان الله؛ لحرمة مخالفته شرعاً، فكيف قال: «إنّما عصى سيّده ولم يعص الله» ؟

فهرب كلٌّ مهرباً، ولم يأتوا بشيء مقنع غير مخالف للظاهر.

والتحقيق أن يقال: إنّ مورد السؤال والجواب النكاح بما له من المعنى المتعارف؛ أي ما صنعه العبد بلا إذن مولاه، ومع ذلك أ نّه عصيان سيّده، وليس بعصيان الله: أمّا عصيان السيّد، فلأنّ ارتكابه هذا الأمر المهمّ بلا إذنه مخالفة لسيّده، وخروج عن رسم العبودية، وأمّا عدم كون النكاح عصيان الله تعالى، فلأنّ ما حرّم الله تعالى على العبد هو عنوان مخالفته لمولاه، ومتعلّق النهي هذا العنوان، ولا يكاد يتجاوز عنه إلى عنوان آخر كالنكاح والطلاق.

فالتزويج الخارجي مصداق لعنوان محرّم هو مخالفة المولى، وعنوان غير محرّم بل محلّل هو النكاح، فالتزويج بعنوانه حلال ليس بمحرّم، ولا تسري حرمة مخالفة المولى إلى ذلك العنوان في وعاء من الأوعية، وإنّما يتّحد مصداق النكاح مع مصداق المخالفة في الخارج الذي لم يكن ظرف تعلّق الحكم، كما مرّ الكلام فيه(2) في باب الاجتماع وفي النذر المتعلّق بالنافلة.

ويشهد على ذلك قوله في الرواية الثانية: فقلت لأبي جعفر علیه السلام : فإنّه في

ص: 145


1- الفوائد الحائرية: 176؛ قوانين الاُصول 1: 162 / السطر 4؛ مطارح الأنظار 1: 757.
2- تقدّم في الصفحة 94 - 95.

أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر: «إنّما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاصٍ لله، إنّما عصى سيّده»، ترى كيف صرّح بأنّ أصل النكاح شيء حلال ليس بمعصية الله، ومع ذلك عصى سيّده؛ أي في النكاح، فالتزويج عصيان السيّد، ومخالفة السيّد عصيان لله، وهي بعنوانها غير النكاح، وإن اتّحدا خارجاً.

ويشهد له أيضاً تعليله بأنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه ممّا تعلّق الحرمة بنفس الطبيعة، ووجه الافتراق ليس إلاّ ما ذكرنا.

ويشهد أيضاً له صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه، أعاصٍ لله ؟ قال: «عاصٍ لمولاه». قلت: حرام هو ؟ قال: «ما أزعم أ نّه حرام، وقل له: أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه»(1). ترى كيف صرّح بعدم حرمة التزويج، ومع ذلك نهاه عن إتيانه بلا إذن مولاه، وليس له وجه إلاّ ما تقدّم من أنّ النكاح ليس بحرام، لكن إتيانه منطبق عنوان آخر محرّم؛ هو مخالفة المولى.

تذنيب: في دعوى دلالة النهي على الصحّة

حُكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحّة(2)؛ لأنّ النهي زجر عن إتيان المبغوض، ومع عدم قدرة المكلّف يكون لغواً، فالنكاح في العدّة

ص: 146


1- الكافي 5: 478 / 5؛ وسائل الشيعة 21: 113، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 23، الحديث 2.
2- اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 2: 456؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 211 - 212.

وصوم يوم النحر ممّا لا يمكن للمكلّف إتيانهما، يكون النهي عنهما لغواً؛ لتعلّقه

بأمر غير مقدور.

فأجاب عنه المحقّق الخراساني في المعاملات: بأنّ النهي عن المسبّب أو التسبّب يدلّ على الصحّة؛ لاعتبار القدرة في متعلّقه، وأمّا إذا كان عن السبب فلا؛ لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً(1)، انتهى.

ولا يخفى: أنّ نظرهما إلى المعاملات العقلائية على ما هي رائجة بينهم لولا نهي الشارع، فإيقاع السبب - بما أ نّه فعل مباشري - ليس معاملة، ولا مورد نظرهما، ولا متعلّقاً لنهي في الشريعة في مورد من الموارد.

وادّعى بعض المدقّقين سقوط قولهما على جميع التقادير بما محصّله: أنّ ذات العقد الإنشائي غير ملازم للصحّة، فمقدوريته لذاته لا ربط لها بمقدوريته من حيث هو مؤثّر فعلي، وإيجاد الملكية عين وجودها حقيقةً، غيرها اعتباراً، والنهي عنه وإن دلّ عقلاً على مقدوريته لكن لا يتّصف هو بالصحّة؛ لأنّ الاتّصاف إن كان بلحاظ حصول الملكية فهي ليست أثراً له؛ لأنّ الشيء ليس أثراً لنفسه، وإن كان بلحاظ الأحكام المترتّبة على الملكية المعبّر عنها بآثارها، فنسبتها إليها نسبة الحكم إلى موضوعه، لا المسبّب إلى سببه ليتّصف بلحاظه بالصحّة(2)، انتهى.

وأنت خبير بأنّ محطّ نظرهما هو النهي المتعلّق بالمعاملة على نحو

ص: 147


1- كفاية الاُصول: 228.
2- نهاية الدراية 2: 407 - 408.

أوجدها العقلاء - أي العقد المتوقّع ترتّب المسبّب عليه - فلا يرد عليهما

هذا الإشكال.

ولو سلّم تعلّق النهي بإيجاد الملكية فلا محالة يكون إيجادها مقدوراً، كما اعترف به المستشكل. فمقدوريته كاشفة عن صحّة المعاملة، لا عن صحّة الإيجاد حتّى يقال: إنّه لا يتّصف بها، فالحقّ معهما إذا اُحرز أنّ النهي تكليفي لا إرشادي، وإلاّ فظهوره في الفساد لا ينبغي أن ينكر.

هذا إذا لم نقل بأنّ النهي إذا تعلّق بمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها يدلّ على الفساد في نظر العقلاء، وإلاّ فيصير نظير الإرشاد إلى الفساد، تدبّر.

وأمّا العبادات: فكلامهما فيها خالٍ عن التحصيل على أيّ تقدير:

أمّا على قول الأعمّي، فواضح.

وأمّا على الصحيحي فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ الصحيحي لم يكن قائلاً بالصحيح حتّى من قبل الشرائط الآتية من قبل الأمر على ما قيل.

وأمّا لو قلنا بالصحّة الفعلية؛ فلأنّ العبادة تتقوّم بالأمر أو الملاك، وشيء منهما لا يتعقّل مع النهي: أمّا الأمر فواضح؛ لأنّ العنوان واحد، [وأمّا الملاك] فلا

يمكن أن يكون عنوان واحد مبغوضاً ومحبوباً وذا صلاح وفساد، فلا يجتمع النهي مع الصحّة الفعلية مطلقاً.

ص: 148

تنبيه في حكم تعلّق النهي بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها

قد مرّ الكلام في تعلّق النهي بنفس العبادة كائنة ما كانت(1)، فبعد البناء على فسادها بتعلّقه بها، فهل يوجب تعلّقه بجزئها أو شرطها أو وصفها اللازم أو المفارق فسادها أم لا ؟

ومحطّ البحث: هو اقتضاء الفساد من هذه الحيثية لا الحيثيات الاُخر، مثل تحقّق الزيادة في المكتوبة، أو كون الزائد المحرّم من الكلام الآدمي، إلى غير ذلك ممّا هو أجنبيّ عن محلّ الكلام.

ولا يخفى أنّ كلام المحقّق الخراساني في الأمر الثامن من المقدّمات(2) لا يخلو من اضطراب.

والتحقيق: عدم إيجاب الفساد مطلقاً:

أمّا الجزء: فلأنّ حرمته لا توجب حرمة العبادة المشتملة عليه ولا أجزائها الاُخر بالضرورة، ومحلّ الكلام ما إذا تعلّق بالجزء، لا ما إذا تعلّق لأجله بالكلّ. وما يقال: من أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا(3)، ممنوع؛ لعدم [قيام] دليل عليه، مع أ نّه خارج عن محلّ البحث.

وأمّا الوصف اللازم كالإجهار بالقراءة، فلأنّ عنوان الصلاة مع القراءة يخالف

ص: 149


1- أي: ولو كانت جزءاً أو شرطاً أو غيرهما. [منه قدّس سرّه ]
2- كفاية الاُصول: 222.
3- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 465.

عنوان الإجهار بها، ومعلوم أنّ الإجهار بها غير القراءة جهراً، ومحطّ البحث هو الأوّل، ولا مانع من تعلّق الأمر بعنوان القراءة أو الصلاة مع القراءة، وتعلّق النهي

بإجهارها في الصلاة؛ فإنّهما عنوانان غير مأخوذ أحدهما في الآخر، وإضافة الإجهار إلى القراءة من قبيل زيادة الحدّ على المحدود، واتّحادهما خارجاً غير مضرّ، كما مرّ في باب الاجتماع(1).

ولا يخفى: أنّ المراد بالوصف اللازم ليس بوجه لا تكون مندوحة في البين؛ ضرورة امتناع تعلّق الأمر بشيء والنهي بلازمه الغير المنفكّ عنه، بل المراد منه كلزوم الجهر للقراءة؛ حيث لا يمكن سلبه عنها مع بقائها، وإن أمكن إيجادها في ضمن صنف آخر.

وممّا ذكرنا ظهر حال الوصف الغير اللازم.

وأمّا الشرط: كما لو تعلّق الأمر بالصلاة متستّراً، وتعلّق النهي بالتستّر في

الصلاة بوجه خاصّ أو شيء خاصّ، لا النهي عن التستّر فيها مطلقاً؛ فإنّه ممتنع مع الأمر بها متستّراً، وكيف كان، فلا يلزم من النهي عن التستّر الخاصّ مبغوضية الصلاة، ومبغوضية التستّر بنحو خاصّ لا تنافي محبوبية الصلاة متستّراً، فإنّ التقيّد بالتستّر المأخوذ فيها أمر عقلي ليس كالأجزاء، فيمكن أن يتقرّب بالصلاة مع التستّر بستر منهيّ عنه، ولا يلزم اجتماع المبغوض والمحبوب.

هذا كلّه بحسب حكم العقل دون الاستظهار من الأدلّة، فلا مضايقة في دلالتها على الفساد أحياناً.

ص: 150


1- تقدّم في الصفحة 111.

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

وفيه مقدّمة وفصول:

ص: 151

ص: 152

مقدّمة في تعريف المفهوم

قد عرّف المفهوم بتعاريف لا داعي لذكرها والنقض والإبرام في أطرافها، لكن لا بدّ من التنبيه على أمر: وهو أنّ المفهوم على بعض الوجوه من مسلك المتأخّرين(1) القائلين باستفادته من دلالة أداة الشرط أو القضيّة الشرطية وضعاً أو إطلاقاً على العلّية المنحصرة، يكون من اللوازم البيّنة للمعنى الموضوع له أو المفهوم من القضيّة المنطوقة؛ لأنّ العلّية المنحصرة وإن لم تكن بمفهومها الاسمي مدلولاً عليها في القضيّة؛ ضرورة أنّ معاني الأداة حرفية، لكن دلّت أداة الشرط - على فرض إفادة المفهوم - على تعليق الجزاء على العلّة المنحصرة، ولازمه الانتفاء عند الانتفاء، فتكون الدلالة على الحصر لفظية بناءً على الوضع له، وعلى المفهوم دلالة التزامية.

وأمّا على مسلك القدماء - على ما نسب إليهم بعض أجلّة العصر(2) - من أنّ

ص: 153


1- يأتي في الصفحة 159.
2- لمحات الاُصول: 225 - 226.

المفهوم مستفاد من وجود القيد، وأنّ الظاهر من إتيان القيد بما أ نّه فعل اختياري

للمتكلّم دخالته في الموضوع، وأ نّه مع انتفائه ينتفي الحكم؛ فتكون دلالته عليه بغير الدلالات اللفظية الالتزامية، كما هو كذلك عند المتأخّرين بناءً على استفادة الحصر من الإطلاق، وسيتّضح الفرق بينهما.

ويمكن انطباق تعريف الحاجبي على كلّ من المسلكين، فإنّه عرّف المنطوق بما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق، والمفهومَ بما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق(1).

فيمكن أن يقال: أراد من دلالته في محلّ النطق دلالة المطابقة، أو هي مع التضمّن، ومن دلالته لا في محلّه دلالة الالتزام؛ حيث إنّ اللفظ دالّ على اللازم بواسطة دلالته على المعنى المطابقي، مع عدم كون الدلالة عليه في محلّ النطق، فإذا أخبر المتكلّم بأنّ الشمس طالعة، دلّ لفظه على طلوع الشمس في محلّ النطق؛ أي كان لفظه قالباً للمعنى المطابقي، ودلّ على وجود النهار مع عدم النطق به.

أو يقال: أراد من محلّ النطق الدلالات اللفظية مطلقاً، ومن غيره دلالة اللفظ بما أ نّه فعل اختياري للمتكلّم على دخالته في موضوع الحكم، فدلّ على الانتفاء عند الانتفاء.

وأنت خبير بأنّ ظاهر الحاجبي هو الأوّل، ولهذا يمكن أن يكون مراد القدماء أيضاً موافقاً للمتأخّرين، مضافاً إلى بعد دعواهم استفادة المفهوم من صرف وجود القيد، مع كونه ظاهر الفساد.

ص: 154


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 306.

وبالجملة: في صحّة النسبة المتقدّمة إلى القدماء تردّد.

وكيف كان، فالمفهوم هو قضيّة غير مذكورة مستفادة من المذكورة، وهذا ينطبق على المسلكين؛ فإنّ طريق الاستفادة قد يكون بدلالة اللفظ، وقد يكون بأصل عقلائي كما سيجيء(1).

ثمّ إنّ كون المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول ربّما يكون بحسب الاعتبار والإضافة، فالدلالة على المعنى المطابقي دلالة منطوقية، وعلى الالتزامي مفهومية، وكذا في جانب المدلول؛ فإنّه إمّا منطوق يفهم من محلّ النطق أو مفهوم، وإن كان الأشبه كونه من صفات المدلول.

ثمّ إنّ النزاع صغروي على كلا المسلكين:

أمّا على مسلك المتأخّرين: فلأنّ النزاع في أنّ القضيّة الشرطية مثلاً، هل تدلّ على المفهوم لأجل دلالتها على انحصار العلّة أم لا ؟ وأمّا بعد فرض الدلالة فلا إشكال في حجّيته.

وأمّا على المسلك المنسوب إلى القدماء: فقد يقال: إنّه كبروي؛ فإنّ المفهوم

على هذا لمّا لم يكن في محلّ النطق وليس من المدلولات اللفظية، يقع النزاع في أ نّه هل يمكن الاحتجاج عليه أو لا يمكن؛ لأجل عدم النطق به، فإذا قال: «إذا جاءك زيد فأكرمه» يفهم منه: أ نّه إذا لم يجئ لا يجب الإكرام، لكن لا يمكن الاحتجاج على المتكلّم بأ نّك قلت كذا، وإذا قيل له: ما فائدة القيد ؟ له أن يعتذر بأعذار(2).

ص: 155


1- يأتي في الصفحة 157.
2- لمحات الاُصول: 224 و225.

أقول: النزاع عليه صغروي أيضاً؛ لأنّ القائل بالمفهوم يدّعي أنّ إتيان القيد الزائد يدلّ بما أ نّه فعل اختياري على كون القيد ليس إلاّ موضوع الحكم، ومع عدمه لا ينوب منابه شيء، والمنكر إنّما ينكر هذه الدلالة لا حجّيتها بعد تسليم الدلالة، كما هو ظاهر استدلال النافين من نفي الدلالات، بل ظاهر كلام السيّد المرتضى أيضاً؛ فإنّ قوله: «إنّ تأثير الشرط إنّما هو تعليق الحكم به وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر»(1) ظاهر في أنّ المستفاد من الشرط دخالته، لا عدم دخالة شرط آخر حتّى يفيد المفهوم، فهو ينكر المفهوم لا حجّيته بعد ثبوته، كما يظهر منه: أنّ مدّعي المفهوم يدّعي دلالة الكلام على عدم نيابة قيد آخر مناب القيد المذكور، وهو عين مسلك المتأخّرين، فتدبّر.

ص: 156


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 406.

الفصل الأوّل في دلالة الجمل الشرطية على المفهوم

اشارة

هل الجمل الشرطية تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء مع الخلوّ عن القرينة ؟ فيها خلاف:

قد نسب إلى المتقدّمين: أنّ النكتة الوحيدة في دلالة القضايا على المفهوم شرطية كانت أو وصفية أو غيرهما، هي شيء واحد غير مربوط بالدلالات اللفظية كما تقدّم(1)، مع الترديد في صحّة النسبة.

وتوضيحه: أنّ الأصل العقلائي في كلّ فعل صادر من شاعر مختار - ومنه الكلام بما أ نّه فعله - الحمل على أ نّه صدر لغرض لا لغواً.

ثمّ في الكلام أصل آخر وهو صدوره للتفهيم لا لغرض آخر؛ لأ نّه آلته، واستعماله لغيره خلاف الأصل، ثمّ بعد ذلك لو شكّ في الاستعمال الحقيقي يحمل عليه.

ولا إشكال في جريان الأصل العقلائي في القيود الزائدة في الكلام، فإذا شكّ في قيد أ نّه اُتي به لغواً أو لغرض يحمل على الثاني، وإذا شكّ أ نّه للتفهيم أو غيره

ص: 157


1- تقدّم في الصفحة 154.

حمل على الأوّل. وما يكون القيود آلة لتفهيمه هو دخالتها في الموضوع، وأنّ جعله مقيّداً لأجل كون الموضوع هو الذات مع القيد، وهذا ليس من قبيل الدلالات اللفظية كما مرّ، فتحصّل من ذلك: أنّ إتيان القيد يدلّ على دخالته في الحكم، فينتفي عند انتفائه، من غير فرق بين الشرط والوصف وغيرهما. هذا حاصل ما قرّر بعض الأجلّة(1).

وأنت خبير بأنّ ذلك لا يفيد ما لم يضمّ إليه شيء آخر، وهو أنّ عدم الإتيان بشيء آخر في مقام البيان يدلّ على عدم القرين له، وبه يتمّ المطلوب، وإلاّ فصرف عدم لغوية القيود لا يدلّ على المفهوم ما لم تفد الحصر. فإثبات المفهوم إنّما هو بإطلاق الكلام، وهو أحد الطرق التي تشبّث بها المتأخّرون ممّا يأتي تقريره والجواب عنه، ومحصّله:

أنّ غاية ما يقتضي الدليل المذكور أنّ القيد دخيل في الحكم، وليس الحكم متعلّقاً بذات الموضوع بلا قيد، وإلاّ لزم اللغوية، وأنّ الموضوع مع هذا القيد تمام

الموضوع للحكم، فيترتّب على المقيّد به الحكم بلا انتظار قيد آخر، وهو مقتضى الإطلاق؛ أي عدم التقيّد بقيد آخر.

وأمّا عدم تعلّق سنخ هذا الحكم بموضوع آخر - وهو ذات الموضوع مع قيد آخر - فلا يكون مقتضى إتيان القيد، ولا إطلاق الموضوع.

مثلاً: قوله: «إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء»(2) يدلّ باعتبار التقييد

ص: 158


1- لمحات الاُصول: 228.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و2 و5 و6.

بالكرّ [على] أنّ ذات الماء ليست موضوعة للحكم، وإلاّ لكان القيد لغواً، وأنّ

هذا الموضوع المقيّد تمام الموضوع للحكم، ولا يكون قيد آخر دخيلاً فيه، وإلاّ كان عليه البيان.

وأمّا عدم نيابة قيد آخر عن هذا القيد، وعدم صدور حكم آخر سنخه متعلّقاً بالجاري أو النابع، فلا يكون مقتضى التقييد، ولا مقتضى الإطلاق. وسيأتي تتمّة له عن قريب إن شاء الله.

وأمّا المتأخّرون فقد ذكروا وجوهاً كلّها مخدوشة، مثل التبادر(1)، والانصراف(2). ولا يخفى ما فيهما.

ومثل التمسّك بإطلاق أداة الشرط لإثبات الانحصار، كإطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب النفسي التعييني(3).

وقد مرّ الإشكال في المقيس عليه(4)، ويرد نظيره هاهنا، مع أنّ القياس مع الفارق.

والتمسّك بإطلاق الشرط؛ بتقريب: أ نّه لو لم يكن بمنحصر لزم تقييده؛ ضرورة أ نّه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثّر وحده أو مطلقاً، وقضيّة إطلاقه أ نّه يؤثّر كذلك مطلقاً(5).

وفيه: أنّ ذلك ليس قضيّة الإطلاق؛ فإنّها - كما مرّ - ليست إلاّ أنّ ما جعل

ص: 159


1- الفصول الغروية: 147 / السطر 27؛ اُنظر كفاية الاُصول: 232.
2- معالم الدين: 78؛ قوانين الاُصول 1: 175 / السطر 15.
3- اُنظر كفاية الاُصول: 232 - 233.
4- تقدّم في الجزء الأوّل: 223.
5- اُنظر مطارح الأنظار 2: 26؛ كفاية الاُصول: 233.

شرطاً هو تمام الموضوع لإناطة الجزاء به، وإلاّ لكان عليه بيانه، كما هو الحال

في جميع موارد الإطلاق.

وبعبارة اُخرى: أنّ الإطلاق في مقابل التقييد، ودخالة شيء آخر في موضوع الحكم وكون شيء آخر موضوعاً للحكم أيضاً، لا يوجب تقييداً في الموضوع بوجه.

وأمّا قضيّة الاستناد الفعلي إلى الموضوع مع عدم كون قرين له قبله وبعده فهو شيء غير راجع إلى الإطلاق والتقييد؛ فإنّ الاستناد واللا استناد في الوجود الخارجي بالنسبة إلى المقارنات الخارجية، غير مربوط بمقام جعل الأحكام على العناوين؛ فإنّ في ذلك المقام لم يكن الدليل ناظراً إلى كيفية الاستناد في الوجود، فضلاً عن النظر إلى مزاحماته فيه.

وكيف كان، فالإطلاق غير متكفّل بإحراز عدم النائب، وإن كان كفيلاً بإحراز عدم الشريك؛ أي القيد الآخر.

ولو فرض إحراز كون المتكلّم بصدد بيان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر، فهو غير مربوط بمفهوم الشرط، بل مع هذا يفهم الحصر مع اللقب أيضاً، لكنّه لأجل القرينة لا لأجل المفهوم المورد للنزاع.

وممّا ذكرنا يظهر الإشكال فيما تمسّك به بعض الأعاظم، وهو إطلاق الجزاء - بعد الإشكال على جواز التمسّك بإطلاق الشرط، تارةً: بأنّ مقدّمات الحكمة إنّما تجري في المجعولات الشرعية، والعلّية والسببية غير مجعولة. واُخرى: بما استشكل غيره أيضاً - فقال ما حاصله:

إنّ مقدّمات الحكمة تجري في ناحية الجزاء من حيث عدم تقييده بغير ما

ص: 160

جعل في القضيّة من الشرط مع كونه في مقام البيان، ويحرز كونه في مقامه من تقييد الجزاء بالشرط. ودعوى كونه من هذه الجهة في مقام البيان لا تسمع، وإلاّ لانسدّ باب التمسّك بالإطلاق. ومقتضى كونه في مقامه، وعدم تقييد الجزاء بقيد آخر، هو أنّ الجزاء مترتّب على ذلك الشرط فقط من دون أن يشاركه شرط آخر، أو ينوب عنه(1)، انتهى.

وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما تقدّم آنفاً، فلا نعيده.

وأمّا الإشكال في إطلاق الشرط من أجل انحصار جريان المقدّمات بالمجعولات الشرعية، ففيه: - مضافاً إلى منع عدم مجعولية السببية والعلّية على ما حقّقنا في محلّه(2) - أنّ إجراءها لا ينحصر بها، بل الغالب جريانها في غيرها ممّا له أثر شرعي؛ مثلاً: إذا قال: «إن ظاهرت فأعتق رقبة»، وشكّ في اعتبار قيد في الرقبة، تجري المقدّمات في نفس الرقبة التي جعلت موضوع الحكم، وكذا لو شكّ في كيفية العتق يتمسّك بإطلاق المادّة لرفع الشكّ، مع عدم كونهما مجعولين شرعاً.

فكما يقال في مثل ما ذكر: إنّ ما جعل موضوعاً أو متعلّقاً هو تمامهما، وإلاّ لكان عليه البيان، فكذا يقال في المقام: لو كان شيء آخر دخيلاً في الشرط لكان عليه البيان، وهذا غير مربوط بجعل العلّية والسببية.

وهنا وجه آخر لإثبات الانحصار تمسّك به بعضهم، وهو: أنّ مقتضى

ظاهر الشرطية أن يكون المقدّم - بعنوانه الخاصّ - علّة، ولو لم تكن العلّة

ص: 161


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 481 - 484.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 75.

منحصرة لزم استناد التالي إلى الجامع بينهما، وهو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه(1).

وفيه أوّلاً: أنّ استفادة العلّية من القضيّة الشرطية في محلّ المنع، بل لا يستفاد منها إلاّ نحو ارتباط بين المقدّم والتالي ولو كان على نحو الاتّفاق؛ مثلاً: لو فرض مصاحبة الصديقين غالباً في الذهاب والإياب، صحّ أن يقال: «إن جاء أحدهما يجيء الآخر» من غير ارتكاب تجوّز وتأوّل بلا إشكال. نعم لا يصحّ استعمال الشرطية فيما لا ربط بينهما بلا تأوّل، مثل ناهقية الحمار وناطقية الإنسان، فلا تستفاد العلّية حتّى يقال ذلك.

وثانياً: أنّ العلّية والمعلولية في المجعولات الشرعية ليست على حذو التكوين؛ من صدور أحدهما من الآخر؛ حتّى يأتي فيها القاعدة المعروفة، فيجوز أن يكون الكرّ بعنوانه دخيلاً في عدم الانفعال، والجاري والمطر بعنوانهما، كما هو كذلك. فقياس التشريع بالتكوين باطل ومنشأ لاشتباهات كثيرة.

وثالثاً: أنّ لجريان القاعدة مورداً خاصّاً وشرائط، وما نحن فيه ليس بمورده.

ورابعاً: أنّ طريق استفادة الأحكام من القضايا هو الاستظهارات العرفية، لا الدقائق الحكمية.

بقي اُمور:

ص: 162


1- نهاية الدراية 2: 416؛ لمحات الاُصول: 236.

الأمر الأوّل في الإشكال فيما إذا كان مفاد الجزاء معنىً حرفياً

لا إشكال في انتفاء شخص الحكم بانتفاء شرطه أو قيده عقلاً، من غير أن يكون لأجل المفهوم. فإذا وقف على أولاده العدول، أو إن كانوا عدولاً، فانتفاؤه مع سلب العدالة ليس للمفهوم، بل لعدم الجعل لغير مورده.

كما أ نّه لا إشكال - فيما إذا كان مفاد الجزاء حكماً كلّياً، كقوله: «إذا

جاء زيد يكون إكرامه واجباً» ممّا عبِّر عنه بالمعنى الاسمي - في أنّ انتفاءه لأجل المفهوم.

لكن وقع الإشكال في مثل: «إذا جاء فأكرمه» ممّا يكون الجزاء معنىً حرفياً، فقيل بعدم دخوله في محلّ النزاع؛ لأنّ انتفاء الإنشاء الخاصّ بانتفاء بعض القيود عقلي(1).

ودفعه المحقّق الخراساني: بأنّ معاني الحروف كلّيات(2). وقد سبق في بابها أنّ الموضوع له في مطلق الحروف خاصّ(3).

ولكن مع ذلك يمكن دفع الإشكال: بأنّ ظاهر القضايا بدواً وإن كان تعليق الوجوب على الشرط، لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك القضايا أنّ لطبيعة المادّة مناسبة مع الشرط تكون سبباً لتعلّق الهيئة بها، فيكون الإيجاب المتعلّق

ص: 163


1- اُنظر مطارح الأنظار 2: 38.
2- كفاية الاُصول: 237.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 40.

بالمادّة في الجزاء متفرّعاً على التناسب الحاصل بينها وما يتلو أداة الشرط، فإذا قال: «إن أكرمك زيد أكرمه» يفهم العرف والعقلاء منه أنّ التناسب الواقعي بين إكرام زيد إيّاه وإكرامه دعا المولى لإيجابه عند تحقّقه، فالإيجاب متفرّع على التناسب الواقعي، وإلاّ كان لغواً، فإذا فرض دلالة الأداة على انحصار العلّة تدلّ على أنّ التناسب بينهما يكون بنحو العلّية المنحصرة، ففي الحقيقة يكون التناسب بين طبيعة ما يتلو أداة الشرط ومادّة الهيئة، فإذا دلّت الأداة على الانحصار تتمّ الدلالة على المفهوم، وإن كان مفادها جزئياً.

ولك أن تقول: إنّ الهيئة وإن كانت جزئية، لكن تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصية، وجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعيه، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب.

ص: 164

الأمر الثاني في تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، فبناءً على ظهور الشرطية في المفهوم يقع التعارض بينهما إجمالاً، فهل التعارض بين المنطوقين أوّلاً وبالذات، أو بين مفهوم كلّ منهما ومنطوق الآخر ؟

الظاهر هو الأوّل، سواء قلنا بأنّ المتبادر من الشرطية هو العلّية المنحصرة، أو قلنا بانصرافها إليها، أو بأنّ ذلك مقتضى الإطلاق:

أمّا على الأوّل: فلأنّ حصر العلّية بشيء ينافي إثباتها لشيء آخر، فضلاً عن حصرها به؛ ضرورة التنافي بين قوله: «العلّة المنحصرة للقصر خفاء الأذان»، وقوله: «العلّة المنحصرة له خفاء الجدران».

وكذا لو قلنا بانصرافها إلى العلّة المنحصرة، فيقع التعارض بينهما لأجله.

وكذا على الأخير؛ لوقوع التعارض بين أصالتي الإطلاق في الجملتين.

ثمّ بعد وقوع التنافي بينهما يقع الكلام في التوفيق بينهما:

فنقول: تختلف كيفية التوفيق باختلاف المباني في استفادة المفهوم:

فلو قلنا: بأنّ استفادة الحصر تكون لأجل الوضع، فيقع التعارض بين أصالتي الحقيقة في الجملتين، ومع عدم الترجيح - كما هو المفروض - تصيران مجملتين؛ لعدم ترجيح بين المجازات. وكون العلّة التامّة أقرب إلى المنحصرة واقعاً، لا يكون مرجّحاً في تعيينه؛ لأنّ المعيّن له هو الاُنس الذهني بحيث يرجع إلى الظهور العرفي.

ص: 165

وإن قلنا: بأنّ استفادته لأجل الانصراف، فحينئذٍ إن قلنا: بأنّ الأداة موضوعة للعلّة التامّة ومنصرفة إلى المنحصرة، فمع تعارض الانصرافين تكون أصالة الحقيقة في كلّ منهما محكّمة بلا تعارض بينهما. وكذا لو قلنا بوضعها لمطلق اللزوم، أو الترتّب، أو غيرهما.

وإن قلنا: بأنّ استفادته مقتضى الإطلاق، فحينئذٍ إن قلنا: بأنّ الأداة موضوعة للعلّة التامّة، فمع تعارض أصالتي الإطلاق يؤخذ بأصالة الحقيقة بلا تعارض بينهما. وإن قلنا: بأنّ العلّية التامّة أيضاً مستفادة من الإطلاق، فمقتضى إطلاق قوله: «إذا خفي الأذان فقصّر»(1) هو عدم الشريك وعدم العديل، فإذا ورد: «إذا خفي الجدران فقصّر»(2)، فكما يحتمل أن يكون خفاء الجدران قيداً لخفاء الأذان، يحتمل أن يكون عدلاً له، فيقع التعارض بين أصالتي الإطلاق؛ أي من جهة نفي الشريك ومن جهة نفي العديل، ومع عدم المرجّح يرجع إلى الاُصول العملية.

لكن لأحد أن يقول: إنّ العلم الإجمالي بورود قيد - إمّا على الإطلاق من جهة نفي الشريك، وإمّا عليه من جهة نفي البديل - منحلّ بالعلم التفصيلي بعدم انحصار العلّة، إمّا لأجل تقييد الإطلاق من جهة البديل، وإمّا من جهة تقييده لأجل الشريك الرافع لموضوع الإطلاق من جهة البديل، فيشكّ في تقييد الإطلاق من جهة الشريك بدواً، فيتمسّك بأصالة الإطلاق.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ العلم الإجمالي بورود قيد - إمّا على الإطلاق من جهة

ص: 166


1- راجع وسائل الشيعة 8: 470، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، الباب 6.
2- نفس المصدر.

الشريك، أو من جهة العديل - مولّد للعلم التفصيلي بعنوان الآخر، وهو عدم انحصار العلّة، وفي مثله لا يعقل الانحلال؛ لأنّ العلم التفصيلي معلول للعلم الإجمالي الفعلي، فكيف يمكن أن يكون رافعاً له ؟ !

وإن شئت قلت: إنّ الانحلال - أينما كان - يتقوّم بالعلم التفصيلي بأحد الأطراف والشكّ في الآخر، كما في الأقلّ والأكثر، وفيما نحن فيه لا يكون كذلك؛ لأنّ العلم الإجمالي محفوظ، ومنه يتولّد علم تفصيلي آخر، وفي مثله يكون الانحلال محالاً، فيجب الرجوع إلى قواعد اُخر.

هذا حال كلّ من الدليلين مع صاحبه، فهل يدلاّن على عدم مدخلية شيء آخر شريكاً معهما، أو عديلاً لهما ؟

الظاهر ذلك لو قلنا: بأنّ الدلالة على المفهوم وكذا الدلالة على الاستقلال بالإطلاق؛ للزوم رفع اليد عن أصالة الإطلاق بمقدار الدلالة على القيد، بخلاف ما لو قلنا: إنّها بالوضع أو الانصراف؛ لعدم الدليل عليه بعد رفع اليد عن المعنى الحقيقي والانصرافي.

ص: 167

الأمر الثالث في تداخل الأسباب والمسبّبات

اشارة

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، فهل [يلزم] الإتيان بالجزاء متعدّداً حسب تعدّد الشرط، أو يكتفى بإتيانه دفعة واحدة ؟

ينبغي تقديم مقدّمات:

الاُولى: في تحرير محلّ النزاع

إنّ البحث قد يقع قبل الفراغ عن إحراز استقلال الشروط، كما إذا احتمل أنّ الشروط ترجع إلى شرط واحد، ويكون كلٌّ جزءاً للسبب. وهذا ليس محطّ البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات.

وقد يقع بعد الفراغ عن إحراز أنّ كلّ شرط مستقلّ لو لم يكن معه غيره، وشكّ في حال اجتماعها في التداخل وعدمه، كالجنابة والحيض والنفاس؛ فإنّ كلاًّ منها سبب مستقلاًّ، ويقع البحث في حال اجتماعها في كفاية غسل واحد. وهذا هو محطّ الكلام في باب التداخل.

الثانية: في المراد من تداخل الأسباب والمسبّبات

المراد من تداخل الأسباب هو عدم اقتضائها إلاّ جزاءً واحداً حال اجتماعها، فإذا اجتمع الجنابة والحيض وغيرهما لا تقتضي إلاّ غسلاً واحداً، فلا تكون تكاليف متعدّدة مجتمعة في مصداق واحد، بل يكون تكليف واحد وإن تعدّدت الأسباب؛ ولهذا يكون التداخل عزيمة لا رخصة.

ص: 168

والمراد من تداخل المسبّبات - بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب وأنّ كلّ سبب يقتضي مسبّباً - أنّ الاكتفاء بمصداق واحد جائز في مقام الامتثال لإسقاط التكاليف العديدة. فحينئذٍ إن كانت العناوين المكلّف بها قهرية الانطباق على المصداق وتكون من التوصّلي، يكون التداخل عزيمة، وإلاّ فرخصة.

الثالثة: في اختصاص النزاع بالماهية القابلة للتكثّر

محطّ البحث ما إذا كان الجزاء ماهية قابلة للتكثّر كماهية الغسل والوضوء، وأمّا مع عدم قبول التكثّر فلا محيص عن التداخل، كقتل زيد، ومثله خارج عن محلّ النزاع.

وقد يقال: إنّ الجزاء الغير القابل للتكثّر إن كان قابلاً للتقييد يكون داخلاً في النزاع، كالخيار القابل للتقيّد بالسبب، كالتقيّد بالمجلس والحيوان والعيب وغيرها، مع أ نّه أمر واحد هو ملك فسخ العقد وإقراره، ومعنى تقيّده بالسبب هو أ نّه يلاحظ الخيار المستند إلى المجلس فيسقطه، أو يصالح عليه، ويبقى له الخيار المستند إلى الحيوان، وكالقتل لأجل حقوق الناس، فلو قتل زيد عمراً وبكراً وخالداً، فقتله قصاصاً وإن لم يقبل التعدّد إلاّ أ نّه قابل للتقيّد بالسبب؛ أي يلاحظ استحقاق زيد للقتل باعتبار قتله لعمرو، فلو أسقط ورثة عمرو حقّ القَود لم يسقط حقّ ورثة بكر وخالد(1)، انتهى.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ الخيار إذا كان واحداً غير قابل للتكثّر مع اجتماع الأسباب عليه، فلا يمكن إسقاطه من قِبل أحدها وإبقاؤه من قِبل غيره؛ لأنّ

ص: 169


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 491.

الإسقاط لا بدّ وأن يتعلّق بالخيار الجائي من قِبل كذا، ومع الوحدة لم يكن ذلك

غير الجائي من قِبل غيره.

وإن كان الخيار متعدّداً بالعنوان - بحيث يكون خيار المجلس شيئاً غير خيار

العيب - فيخرج عن محلّ البحث؛ أي تداخل الأسباب، وإن كان كلّياً قابلاً للتكثّر فيرجع إلى الفرض الأوّل.

وكذا الحال في القتل؛ فإنّ حقّ القود إمّا واحد، فلا يمكن إسقاطه من قِبل سبب وإبقاؤه من قِبل الآخر، أو متعدّد عنواناً فيخرج عن محطّ البحث، أو كلّي قابل للتكثّر فيدخل في الفرض الأوّل.

ثمّ لا يخفى: أنّ عدم قبول القتل للتكثّر غير مربوط بعدم قبول حقّ القود له، والقائل خلط بينهما.

الرابعة: في إمكان التداخل وعدمه

لا بدّ قبل الدخول في المقصود من إثبات إمكان التداخل وعدمه:

أمّا إمكان التداخل - بمعنى اجتماع أسباب متعدّدة شرعية على مسبّب واحد - فلا إشكال فيه؛ لأنّ الأسباب الشرعية ليست من قبيل العلل التكوينية، فللشارع جعل إيجاب الوضوء عقيب النوم في صورة انفراده، وعقيب البول والنوم في صورة اجتماعهما، أو جعل السبب بناءً على جوازه.

والمعروف جواز اجتماع العلل التكوينية على معلول واحد بتأثير الجامع بينها فيه، وربّما يمثّل له بأمثلة عرفية، والتحقيق امتناعه، وفي الأمثلة خلط، وتحقيقه موكول إلى محلّه.

ص: 170

وأمّا عدم التداخل فقد يقال بامتناعه؛ لانّ تعلّق الوجوبين بالطبيعة المطلقة غير معقول، وتعلّق الوجوب بفردين من الطبيعة تعاقباً غير معقول أيضاً، مثل: «إذا بلت فتوضّأ» و«إذا نمت فتوضّأ»؛ لأنّ تعلّق الوجوب في الشرطية الاُولى بالطبيعة، وفي الثانية بالطبيعة الاُخرى، أو بالعكس، أو في الاُولى بفرد منها، وفي الثانية بفرد آخر، أو بالعكس، ممتنع؛ لأنّ النوم قد يكون مقدّماً على البول وقد يكون مؤخّراً عنه، وليست القضيتان ناظرتين إلى حال الاجتماع، ولا يكون في البين قيد صالح لتقييد الطبيعة، ومعه لا محيص عن التداخل(1).

وفيه: أ نّه إذا فرض ظهور القضيّتين الشرطيتين في عدم التداخل، واُريد رفع اليد عنه لأجل عدم معقولية تقييد الجزاء بما ذكر، فلنا تصوير قيد آخر ولو لم يكن في الكلام؛ مثل التقييد بالوضوء من قِبل النوم، ومن قِبل البول، أو قيد آخر. وبالجملة: لا يجوز رفع اليد عن الظاهر حتّى يثبت امتناع كافّة القيود، وهو بمكان من المنع، فلا يجوز الالتزام بالتداخل لأجل هذه الشبهة.

وممّا ذكرنا يظهر: أ نّه مع ظهور الدليل لا يلزم إثبات الإمكان، بل مع عدم ثبوت الامتناع يؤخذ به.

الخامسة: في أنحاء تعدّد الشرط
اشارة

إنّ الشرط قد يكون متعدّداً نوعاً ومختلفاً ماهية، مثل البول والنوم، فيقع البحث في أ نّه مع تقارنهما أو تعاقبهما مع عدم تخلّل المسبّب بينهما، يتداخل الأسباب أو لا ؟

ص: 171


1- لمحات الاُصول: 245.

وقد تكون ماهية واحدة ذات أفراد، فيقع البحث في أ نّه مع تعدّد الفرد يتعدّد الجزاء أم لا ؟

والأقوال في المسألة ثلاثة: التداخل مطلقاً(1)، وعدمه كذلك(2)، والتفصيل بين تعدّد الماهية نوعاً وتعدّد الفرد مع وحدتها(3).

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في مقامين:

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب نوعاً

المقام الأوّل: فيما إذا تعدّدت الأسباب نوعاً، كقوله: «إذا بلت فتوضّأ» و«إذا نمت فتوضّأ».

الاستدلال على عدم تداخل الأسباب

فعن العلاّمة في «المختلف» الاستدلال لعدم التداخل ب «أ نّه إذا تعاقب السببان

أو اقترنا، فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين، أو مسبّباً واحداً، أو لا يقتضيا شيئاً،

أو يقتضي أحدهما شيئاً دون الآخر، والثلاثة الأخيرة باطلة، فتعيّن الأوّل»(4).

وقال الشيخ الأعظم - على ما في تقريراته - : إنّ محصّل الوجه المذكور ينحلّ إلى مقدّمات ثلاث:

إحداها: دعوى تأثير السبب الثاني.

ص: 172


1- مشارق الشموس: 61 / السطر 31.
2- كفاية الاُصول: 239 - 242.
3- السرائر 1: 258.
4- اُنظر مطارح الأنظار 2: 58؛ مختلف الشيعة 2: 423 - 425.

الثانية: أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة: أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

ثمّ أطال النقض والإبرام بالنسبة إلى كلّ مقدّمة، ويظهر منه وجوه من البيان

لإثبات كون السبب الثاني مستقلاًّ(1).

وقد أخذ المتأخّرون كلٌّ طرفاً من كلامه لإثبات المطلوب:

كالمحقّق الخراساني؛ حيث تشبّث بأنّ ظهور الجملة الشرطية في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عنه، بيان لما هو المراد من الإطلاق، ولا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق؛ ضرورة أنّ ظهور الإطلاق معلّق على عدم البيان، وظهور الشرطية في ذلك بيان، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً(2).

نعم، قد أعرض عن هذا في هامش «الكفاية»(3)، وجعل الوجه تقديم العرف ظهور الشرطية على الإطلاق، وهو وجيه.

وكالمحقّق النائيني؛ حيث تمسّك بأنّ ظهور الجملة الشرطية وارد على الجزاء؛ لأنّ صيغة الأمر وضعت لطلب إيجاد الطبيعة، وأمّا الوحدة والكثرة فلا تكونان بدلالة لفظية أو عقلية، وإنّما يحكم العقل بالاكتفاء بواحد من الطبيعة؛ لأ نّها تتحقّق بإتيانها، فلا موجب لإتيانها ثانياً، وهذا لا ينافي أن يكون المطلوب إيجادها مرّتين؛ أي لو دلّ دليل على أنّ المطلوب متعدّد

ص: 173


1- مطارح الأنظار 2: 59.
2- كفاية الاُصول: 242.
3- كفاية الاُصول: 242، الهامش 3.

لم يعارضه حكم العقل بأنّ امتثال الطبيعة يحصل بإتيانها مرّة، فظهور القضيّة

الشرطية في تأثير الشرط مستقلاًّ رافع لموضوع حكم العقل حقيقةً، فيكون وارداً عليه(1).

وقريب منه ما في تعليقات بعض المدقّقين على «الكفاية»: من أنّ البعث المتعلّق بشيء يقتضي وجوداً واحداً منه، ولا يقتضي عدم البعث إلى وجود آخر، بل هو بالنسبة إلى وجود آخر بوجوب آخر لا اقتضاء، والبعث الآخر مقتضٍ لوجود آخر بنفسه، فلا تعارض بين المقتضي واللا مقتضي(2).

وكالمحقّق الهمداني؛ حيث قال: إنّ مقتضى القواعد اللفظية سببية كلّ شرط للجزاء مستقلاًّ، ومقتضاه تعدّد اشتغال الذمّة بفعل الجزاء، ولا يعقل تعدّد الاشتغال إلاّ مع تعدّد المشتغل به؛ فإنّ السبب الأوّل سبب تامّ في اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء، والسبب الثاني إن أثّر ثانياً وجب أن يكون أثره اشتغالاً آخر؛ لأنّ تأثير المتأخّر في المتقدّم غير معقول، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتاً ووجوداً غير معقول، وإن لم يؤثّر يجب أن يستند إمّا إلى فقد المقتضي أو وجود المانع، والكلّ منتفٍ؛ لأنّ ظاهر القضيّة الشرطية سببية الشرط مطلقاً، والمحلّ قابل للتأثير، والمكلّف قادر على الامتثال، فأيّ مانع من التنجّز ؟ !

وقال أيضاً: ليس حال الأسباب الشرعية إلاّ كالأسباب العقلية، فكما أ نّه يمتنع عدم تحقّق الطبيعة في ضمن فردين على تقدير تكرّر علّة وجودها

ص: 174


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 493.
2- نهاية الدراية 2: 427.

بشرط قابليتها للتكرار، فكذا يتعدّد اشتغال الذمّة بتعدّد أسبابه(1).

وقريب منه ما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في أواخر عمره، بعد بنائه على التداخل سالفاً(2).

هذه جملة من مهمّات كلماتهم؛ ممّا هي مذكورة في خلال كلمات الشيخ الأعظم(3).

والعمدة في المقام: النظر إلى أنّ ظهور القضيّة الشرطية في السببية المستقلّة أو الحدوث عند الحدوث، هل هو بالوضع أو بواسطة الإطلاق، وأنّ جعل ماهية تلو أداة الشرط بلا تقيّدها بقيد كما يكشف بالأصل العقلائي عن أ نّها تمام الموضوع لترتّب الجزاء عليه ولا يكون له شريك، كذلك يدلّ على أ نّها مستقلّة في السببية؛ أي كان قبلها أو مقارنها شيء أو لا، تكون تلك الماهية مؤثّرة ؟ وهذا هو المراد بالاستقلال والحدوث عند الحدوث هاهنا.

فإن قلنا بالأوّل فلما ذكروه وجه، خصوصاً على مذهب الشيخ من أنّ الإطلاق معلّق على عدم البيان مطلقاً(4). لكن لا أظنّ ارتضاءهم به، بل صريح بعضهم(5) كون دلالة الشرطية على العلّية المستقلّة بالإطلاق، ولو ادّعى مدّعٍ كونها بالوضع فهو بلا بيّنة.

ص: 175


1- مصباح الفقيه، الطهارة 2: 258 - 261.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 174، الهامش 1؛ الصلاة، المحقّق الحائري: 573.
3- تقدّم في الصفحة 172 - 173.
4- مطارح الأنظار 2: 67.
5- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 488 - 489.

فحينئذٍ نقول: كما أنّ مقتضى إطلاق الشرطية في كلّ من القضيّتين هو كون الشرط مستقلاًّ علّةً للجزاء، كذلك إطلاق الجزاء يقتضي أن تكون الماهية المأخوذة فيه - كالوضوء في المثال - تمام الموضوع لتعلّق الإيجاب بها، فيكون الموضوع في القضيّتين نفس طبيعة الوضوء، فحينئذٍ يقع التعارض بين إطلاق الجزاء في القضيّتين مع إطلاق الشرط فيهما، وبتبعه يقع التعارض بين إطلاق الشرطيتين، فيدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الشرط - ويقال: إنّ كلّ شرط مع عدم تقدّم شرط آخر عليه أو تقارنه به، مستقلّ أو مؤثّر - وحفظ إطلاق الجزاء، وبين رفع اليد عن إطلاق الجزاء بتقييد ماهية الوضوء وحفظ إطلاق الشرط، ولا ترجيح بينهما؛ لأنّ ظهور الإطلاقين على حدّ سواء، فلا يمكن أن يكون أحدهما بياناً للآخر.

وتوهّم تقديم ظهور الصدر على الذيل فاسد؛ لأ نّه لو سلّم فإنّما هو بين صدر كلّ قضيّة وذيلها، لا ذيل قضيّة اُخرى، ونحن الآن في بيان تعارض القضيّتين.

وأمّا الكلام في سببية أفراد ماهية واحدة ممّا يجيء فيها ذلك فسيأتي عن قريب.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في جلّ كلماتهم:

أمّا قضيّة تحكيم ظهور الشرط على إطلاق الجزاء فلما مرّ، سواء قلنا بأنّ الإطلاق معلّق على عدم البيان، أو لا.

وأمّا قضيّة ورود ظهور الشرطية على حكم العقل؛ فلأنّ المعارضة كما عرفت إنّما هي بين إطلاق الجزاء وإطلاق الشرط؛ فإنّ الشرط كما يقتضي بإطلاقه أن يكون مستقلاًّ، كذلك الجزاء يقتضي بإطلاقه أن يكون متعلّق الوجوب نفس الماهية بلا قيد.

ص: 176

ومنه يظهر: أنّ التعارض بين المقتضيين، فقول القائل: إنّ اللامقتضي لا يتعارض مع المقتضي، كما ترى.

وكذا يظهر: أنّ ظهور القضيّة في اشتغال ذمّة جديدة ظهوراً إطلاقياً، فرع تحكيمه على إطلاق الجزاء، وهو ممنوع.

ففي جواب المحقّق الهمداني: أنّ عدم الاشتغال إمّا لعدم المقتضي، أو لوجود المانع، وكلٌّ منتفٍ.

قلنا: إنّه لوجود المانع، وهو إطلاق الجزاء المعارض مع إطلاق الشرط.

والعجب منه حيث تنبّه لذلك، وأجاب بما هو غير مقنع، فقال: «إنّ تقييد الجزاء إنّما نشأ من حكم العقل بعد استفادة السببية من الدليل، فإطلاق السبب منضمّاً إلى حكم العقل بأنّ تعدّد المؤثّر يستلزم تعدّد الأثر بيان للجزاء، ومعه لا مجال للتمسّك بإطلاقه، وليس المقام من قبيل تحكيم أحد الظاهرين على الآخر؛ حتّى يطالب بالدليل، بل لأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني يتوقّف على إطلاق سببيته، ومعه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم العقل، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه»(1)، انتهى.

وأنت خبير بما فيه؛ فإنّه مع اعترافه بأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني إنّما هو بالإطلاق لا بالدلالة اللغوية، فأيّ معنىً لتحكيم أحد الإطلاقين على الآخر ؟ !

والتخلّص من امتناع تعدّد المؤثّر مع وحدة الأثر - بعد الغضّ عن عدم كون حكم العقل الدقيق مناطاً للجمع بين الأدلّة، وبعد الغضّ عن أنّ مثل ما نحن فيه ليس من قبيل التأثير التكويني - كما يمكن بما ذكره، يمكن برفع اليد عن إطلاق

ص: 177


1- مصباح الفقيه، الطهارة 2: 261.

الشرط عند اجتماعه مع شرط آخر، فالعقل إنّما يحكم باستحالة وحدة الأثر مع تعدّد المؤثّر، وحفظ إطلاق الشرطيتين وإطلاق الجزاء مستلزم للامتناع، فلا بدّ من التخلّص منه، وهو إمّا بتقييد الشرط، أو بتقييد الجزاء، ولا ترجيح بينهما.

وأمّا مقايسة العلل التشريعية بالتكوينية ففيها ما لا يخفى؛ لأنّ المعلول التكويني في تشخّصه ووجوده تابع لعلّته، فلا محالة يكون في وحدته وكثرته كذلك، وأمّا الأسباب الشرعية فلم تكن بهذه المثابة؛ ضرورة أنّ النوم والبول لم يكونا مؤثّرين في الإيجاب والوجوب، ولا في الوضوء، فالقياس مع الفارق، ولا بدّ من ملاحظة ظهور الأدلّة، ومجرّد هذه المقايسة لا يوجب تقديم أحدهما على الآخر، بعد إمكان كون الوضوء مثلاً بلا قيد مأخوذاً في الجزاء، أو مقيّداً.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما قيل: «إنّ المحرّك الواحد يقتضي التحريك الواحد، والمتعدّد المتعدّد، كالعلل التكوينية»(1)؛ فإنّ ذلك بمكان من الضعف؛ فإنّ المحرّك - أي البعث والأمر - إذا تعلّق بماهية بلا قيد فمع تعدّده لا يعقل التكثّر، بل لا توجب المحرّكات الكثيرة [نحو] ماهية واحدة إلاّ التأكيد، فقياس التشريع بالتكوين موجب لكثير من الاشتباهات، فلا تغفل.

لكن بعد اللتيّا والتي لا شبهة في أنّ فهم العرف مساعد على عدم التداخل، وأنّ الشرطيات المتعدّدة مقتضية للجزاء متعدّداً. ولعلّ هذا من جهة ارتكاز مقايسة التشريع بالتكوين - وإن أبطلناها، لكن إذا كان هذا الارتكاز منشأً للظهور العرفي وتحكيم ظهور على آخر فلا بدّ من اتّباعه - أو من جهة ارتكاز تناسب الشرط مع متعلّق الأمر في الجزاء؛ لحكم العرف بأنّ لوقوع الفأرة

ص: 178


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 174، الهامش 1؛ الصلاة، المحقّق الحائري: 573.

- مثلاً - في البئر تناسباً مع نزح سبع دلاء، ولوقوع الوزغة تناسباً معه، وأنّ الأمر إنّما تعلّق به لأجل التناسب بينهما، وإلاّ كان جزافاً، فيرى بعد ذلك أنّ لوقوع كلّ منهما اقتضاءً خاصّاً بها، وارتباطاً مستقلاًّ لا يكون في الاُخرى، وهو يوجب تعدّد وجوب نزح المقدّر أو استحبابه، وهذا يوجب تحكيم ظهور الشرطية على إطلاق الجزاء ؟

ثمّ إنّه على فرض استقلال كلّ شرط في التأثير لا بدّ من إثبات المقدّمة الثانية؛ أي كون أثر الثاني غير أثر الأوّل.

ويمكن منع ذلك بأن يقال: إنّ الأسباب الشرعية علل للأحكام، لا لأفعال المكلّفين، فتعدّدها لا يوجب إلاّ تعدّد المعلول؛ أي الوجوب مثلاً، فينتج التأكيد.

وبعبارة اُخرى: مع حمل الأمر على التأكيد يحفظ إطلاق الشرطيتين والجزاء فيهما، ولا يوجب تجوّزاً في صيغة الأمر على فرض وضعها للوجوب؛ فإنّ معنى وضعها له ليس وضعها لهذا المفهوم الاسمي، بل معناه أ نّها وضعت لإيجاد بعث ناشٍ من الإرادة الحتمية، والأوامر التأكيدية كلّها مستعملة كذلك؛ ضرورة أنّ المطلوب إذا كان مهمّاً في نظر الآمر ربّما لا يكتفي بأمر واحد، ويأتي به متعدّداً، وكلّ منها بعث ناشٍ من الإرادة الأكيدة، ولا معنى للتأكيد إلاّ ذلك، لا أنّ

الثاني مستعمل في عنوان التأكيد، أو في الاستحباب، أو الإرشاد، أو غير ذلك؛ فإنّها لا ترجع إلى محصّل.

وأنت إذا راجعت وجدانك في أوامرك التأكيدية ترى أنّ كلّها مستعملة في البعث استعمالاً إيجادياً، وكلّها صادرة عن إرادة إلزامية، وغاية كلّ منها انبعاث المأمور، وإنّما تأتي بها مكرّراً إذا كان المطلوب مهمّاً.

ص: 179

نعم، إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس لا يبعد الحمل على التأسيس، لكنّه لا يعارض إطلاق المادّة والشرطية، فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ورفع اليد عن التأسيس، فلا ريب في أولوية الثاني، وفيما نحن فيه إذا حمل الأمر على التأكيد يرفع التعارض بين الإطلاقين.

وبما قرّرنا يدفع ما في مقالات بعض المحقّقين: من أنّ تأكّد الوجوب في ظرف تكرّر الشرط يوجب عدم استقلال الشرط في التأثير؛ لبداهة استناد الوجوب الواحد المتأكّد إليهما، لا إلى كلّ منهما(1)؛ وذلك لأنّ البعث الإلزامي الناشئ من الإرادة الإلزامية متعدّد، وكلّ منهما معلول لواحد من الشرطيتين، لا أ نّهما يؤثّران في وجوب واحد متأكّد؛ لأنّ التأكيد منتزع من تكرار البعثين، وكذا الوجوب المتأكّد أمر انتزاعي منه، لا أ نّه معلول للشرطيتين.

كما يدفع به ما في تقريرات الشيخ الأعظم؛ من أنّ الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية، فحينئذٍ لو كانت الأسباب الشرعية سبباً لنفس الأحكام وجب تعدّد إيجاد الفعل؛ فإنّ المسبّب يكون هو اشتغال الذمّة بإيجاده، والسبب الثاني لو لم يقتض اشتغالاً آخر، فإمّا أن يكون لنقص في السبب، أو المسبّب، وليس شيء منهما:

أمّا الأوّل فمفروض، وأمّا الثاني فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد تابع لقبول الفعل

المتعلّق له، والمفروض قبوله للتعدّد، واحتمال التأكيد مدفوع بعد ملاحظة الأسباب العقلية(2)، انتهى.

ص: 180


1- مقالات الاُصول 1: 407.
2- مطارح الأنظار 2: 70.

وفيه أوّلاً: أنّ قياس الأسباب الشرعية بالعقلية مع الفارق كما مرّ(1).

وثانياً: أنّ اشتغال الذمّة بإيجاد الفعل ليس إلاّ الوجوب على المكلّف، وليس هاهنا شيء غير البعث المتعلّق بالطبيعة المتوجّه إلى المكلّف المنتزع منه الوجوب، فحينئذٍ تحقّق اشتغال آخر من السبب الثاني فرع تقديم الظهور التأسيسي على إطلاق الجزاء، وهو ممنوع، بل لو فرض معنىً آخر لاشتغال الذمّة فتعدّده فرع هذا التقديم الممنوع.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تشبّث بوجه آخر ولم يعتمد عليه(2)، وإنّما اعتمد عليه بعض المحقّقين في «مقالاته»، وحاصله: الالتزام بأنّ الأسباب أسباب لنفس الأفعال لا للأحكام، ولا يلزم منه الانفكاك بين العلّة والمعلول؛ لأ نّها أسباب جعلية، لا عقلية وعادية. ومعنى السبب الجعلي: أنّ لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل بالنسبة إلى المعلول.

وبعبارة اُخرى: إنّ ظاهر الشرطية كونه مقتضياً لوجود المسبّب، وإنّ اقتضاءه

لوجوبه من تبعات اقتضائه لوجوده، وحيث إنّ اقتضاءه التشريعي لوجود شيء كونه موجباً لوجوبه، وحينئذٍ لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثّرية المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ(3).

وفيه: أ نّه بعد الاعتراف بأنّ معنى السببية الجعلية هو الاقتضاء، لا المؤثّرية الفعلية؛ فراراً عن انفكاك العلّة عن معلولها، لا منافاة بين استقلال الاقتضاء

ص: 181


1- تقدّم في الصفحة 178.
2- مطارح الأنظار 2: 71.
3- مقالات الاُصول 1: 407.

وعدم تعدّد الوجود؛ لأنّ معنى استقلاله أنّ كلّ سبب بنفسه تمام المقتضي لا

جزؤه، ولا يتنافى الاستقلال في الاقتضاء والاشتراك في التأثير الفعلي، كالعلل العقلية إذا فرض اجتماعها على معلول واحد، فحينئذٍ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال الشرطيتين في الاقتضاء صارت النتيجة التداخل.

وأمّا قوله: «لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثّرية المستقلّة» فرجوع عن أنّ السببية الجعلية عبارة عن نحو اقتضاء بالنسبة إلى المعلول، لا المؤثّرية الفعلية الاستقلالية.

فالأولى في هذا المقام أيضاً التشبّث بذيل فهم العرف تعدّد الجزاء لأجل مناسبات مغروسة في ذهنه كما تقدّم(1)، ولهذا لا ينقدح في ذهنه التعارض بين إطلاق الجزاء وظهور الشرطية في التعدّد، فتدبّر جيّداً.

الاستدلال على تداخل المسبّبات ثبوتاً وإثباتاً

ثمّ إنّه بعد تسليم المقدّمتين - أي ظهور الشرطية في استقلال التأثير وكون أثر الثاني غير الأوّل - فهل يمكن تداخل المسبّبين ثبوتاً أو لا ؟ وعلى الأوّل فما حال مقام الإثبات ؟

قد منع الشيخ الأعظم إمكان التداخل، قال: «قد قرّرنا في المقدّمة السابقة أنّ متعلّق التكاليف حينئذٍ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل، ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير، إلاّ أن يكون ناسخاً لحكم السببية»(2)، انتهى.

ص: 182


1- تقدّم في الصفحة 178 - 179.
2- مطارح الأنظار 2: 73.

وفيه: أ نّه إن كان مراده من الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل هو الفرد الخارجي كما هو الظاهر، فتداخل الفردين غير معقول بلا إشكال، لكن تعلّق الحكم بالفرد الخارجي ممتنع.

وإن كان المراد هو العنوان القابل للانطباق على الخارج وإنّما سمّاه فرداً لكونه تحت العنوان العامّ، فعدم إمكان تداخل العنوانين من ماهية واحدة غير مسلّم، بل القيود الواردة على ماهية مختلفة، فقد تكون موجبة لصيرورة المقيّدين متباينين، كالإنسان الأبيض والأسود، وقد لا تكون كذلك، كالإنسان الأبيض والعالم؛ ممّا بينهما عموم من وجه.

فالوضوء في قوله: «إذا نمت فتوضّأ»، و«إذا بلت فتوضّأ»، ماهية واحدة، ولأجل تسليم المقدّمتين لا بدّ من كونها مقيّدة بقيدين؛ حتّى يكون كلّ سبب علّة مستقلّة للإيجاب على أحد العنوانين، لكن لا يجب أن يكون بين العنوانين التباين؛ حتّى يمتنع تصادقهما على الفرد الخارجي، فمع عدم قيام دليل على امتناعه لا يجوز رفع اليد عن الدليل الدالّ على التداخل فرضاً، فقوله: «لا يعقل ورود دليل على التداخل» فرع إثبات الامتناع، وهو مفقود.

بل لنا أن نقول: لازم ظهور الشرطيتين فيما ذكر، وورود الدليل على التداخل، كون المقيّدين قابلين للتصادق. هذا حال مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات: فما لم يدلّ دليل على التداخل لا مجال للقول به، فلا بدّ في مقام العمل من الإتيان بفردين حتّى يتيقّن بالبراءة؛ للعلم بالاشتغال بعد استقلال الشرطيتين في التأثير، وكون أثر كلّ غير الآخر، كما هو المفروض.

ص: 183

وأمّا دعوى [فهم] العرف تكرار الوضوء من الشرطيتين فعهدتها على مدّعيها؛ لأ نّها ترجع إلى دعوى استظهار كون كلّ عنوان مبايناً للآخر، وهي بمكان من البعد. هذا كلّه حال المقام الأوّل.

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب شخصاً

وأمّا المقام الثاني: أي إذا تعدّدت الأسباب شخصاً لا نوعاً، كما لو قال: «إذا نمت فتوضّأ» وشكّ في أنّ المصداقين منه يتداخلان في إيجاب الوضوء أم لا ؟ فلا بدّ أوّلاً من فرض الكلام بعد الفراغ عن سببية كلّ مصداق مستقلاًّ لو وجد منفرداً، وإلاّ فمع احتمال كون الطبيعة سبباً لا مصاديقها، يخرج النزاع عن باب تداخل الأسباب؛ لأ نّه نزاع في تعدّد الأسباب وعدمه، لا في تداخلها.

فكلام بعض الأعاظم، وإتعاب نفسه لاستظهار انحلالية القضيّة الشرطية، وتقديم ظهورها في الانحلال على ظهور الجزاء في الاتّحاد(1) مع عدم خلوّه عن الإشكال، أجنبيّ عن محطّ النزاع. نعم هو بحث برأسه ومن مبادئ هذه المسألة.

وكيف كان لو فرض ظهور الشرطية في الانحلال، كما في قوله: «كلّما بلت فتوضّأ» بناءً على دلالته على كون كلّ بول علّة للوضوء، يقع التعارض بين صدر القضيّة الدالّة على علّية مستقلّة لكلّ فرد للوجوب وبين إطلاق ذيلها، ولا ريب في تحكيم ظهور الصدر على إطلاق الذيل عرفاً؛ بمعنى أ نّه إذا سمع المخاطب

ص: 184


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 494.

أنّ كلّ فرد من البول علّة مستقلّة لوجوب الوضوء، لا ينظر إلى إطلاق الذيل، بل يحكم بأنّ كلّ مصداق منه علّة لوجوب خاصّ به بلا تداخل الأسباب.

والكلام في تداخل المسبّبات هو ما تقدّم.

تتمّة الإشكال في العامّ الاستغراقي في المقام

لا إشكال في لزوم تطابق المنطوق والمفهوم في جميع القيود المعتبرة في الكلام، فمفهوم قوله: «إن جاءك زيد يوم الجمعة عند الزوال اضربه ضرباً شديداً»: «إن لم يجئك يوم الجمعة عند الزوال لا يجب أن تضربه ضرباً شديداً»؛ إذ هو مقتضى تبعية المفهوم للمنطوق.

كما لا إشكال في العامّ المجموعي أيضاً، فمفهوم قوله: «إن جاءك زيد أكرم مجموع العلماء»: «إن لم يجئك لا يجب إكرام مجموعهم»، وهو لا ينافي وجوب إكرام بعضهم.

إنّما الإشكال في العامّ الاستغراقي، سواء استفيد العموم بالوضع اللغوي، مثل: كلّ والجمع المحلّى، أو مثل النكرة في سياق النفي، كقوله: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1)، بناءً على استفادة العموم منها، فهل المفهوم فيه العموم أو لا ؟

ص: 185


1- راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و2 و5 و6.

جعل الشيخ الأعظم مبنى الخلاف على أنّ العموم الملحوظ في المنطوق هل يعتبر آلة لملاحظة حال الأفراد على وجه الشمول والاستغراق، فلا يتوجّه النفي إليه في المفهوم، فيكون الاختلاف بين المنطوق والمفهوم في الكيف فقط دون الكمّ، أو يعتبر على وجه الموضوعية، فيتوجّه إليه النفي، فالاختلاف بينهما ثابت كمّاً وكيفاً على قياس النقيض المأخوذ عند أهل الميزان ؟ ثمّ رجّح الأوّل بدعوى أنّ العرف قاضٍ بذلك(1).

أقول: إن كان مراده من كون المذكور في القضيّة آلة ومرآة للأفراد أنّ عنوان الكلّ والشيء غير منظورين، ويكون المجعول أوّلاً وبلا واسطة الحكم على الكثرة التفصيلية، فهو واضح المنع؛ ضرورة ملحوظية عنوان الكلّ في قوله: «أكرم كلّ عالم»، وعنوان الشيء في قوله: «لا ينجّسه شيء».

وإن كان المراد أنّ إثبات الحكم لعنوانهما ليس بما هما كذلك، بل هما وسيلتان إلى إسراء الحكم إلى الأفراد أو العناوين الواقعية، فهو حقّ، لكن في طرف المفهوم لا بدّ وأن ينفى الحكم عنهما كذلك، فمفهوم قوله: «إذا جاءك زيد فأكرم كلّ عالم»: «إذا لم يجئك لا يجب إكرام كلّ عالم»، ولا إشكال في إفادته قضيّة جزئية، مع أنّ فهم العرف أقوى شاهد له.

بل لنا أن نقول: لو كان المراد من المرآتية هو المعنى الأوّل بل لو ذكر الأفراد تفصيلاً في القضيّة، لا يستفاد منه إلاّ الجزئية؛ لأنّ المفهوم من قوله: «إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء» هو إذا لم يبلغ قدر كُرّ ليس لا ينجّسه شيء؛ لأنّ

ص: 186


1- مطارح الأنظار 2: 43.

المفهوم نفي الحكم الثابت للمنطوق، لا إثبات حكم مخالف له، فليس مفهوم القضيّة: إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه شيء.

فحينئذٍ نقول: مفهوم قوله: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه البول والدم والكلب والخنزير»: «إذا لم يبلغ قدر كرّ ليس لا ينجّسه البول والدم والكلب والخنزير»، وهو لا ينافي تنجيس بعضها.

نعم، لو انحلّت القضيّة إلى تعليقات عديدة، أو الجزاء إلى كثرة تفصيلية حكماً وموضوعاً، كان لما ذكره وجه، لكنّ الانحلالين ممنوعان.

إن قلت: مبنى المفهوم على استفادة العلّية المنحصرة من الشرطية، فحينئذٍ لو كان لبعض الأفراد علّة اُخرى غير ما ذكر في الشرطية، كان مخالفاً لظهورها، ومع انحصار العلّة في جميع الأفراد أو العناوين يستفاد العموم من المفهوم.

قلت: ما يستفاد من الشرطية في مثل تلك القضايا - بعد تسليم المفهوم - هو كون الشرط علّة منحصرة للعموم، فلا ينافي عدم الانحصار بالنسبة إلى البعض، فبلوغ الكرّ علّة منحصرة لعدم تنجّسه بكلّ نجاسة، لا أ نّه علّة منحصرة لعدم تنجّسه بالبول، وعلّة منحصرة لعدم تنجّسه بالدم... وهكذا. والعمدة هو فهم العرف وهو مساعد على ما ذكرنا.

ص: 187

الفصل الثاني في مفهوم الوصف

ولا بدّ فيه من ذكر مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: الظاهر أنّ محطّ الكلام أعمّ ممّا اعتمد الوصف على موصوفه أو لا، كما صرّح به بعض أئمّة الفنّ(1).

والشاهد عليه: أنّ المثبِت تمسّك بفهم أبي عبيدة في قوله: «مَطْلُ الغنيّ ظلم»(2)، و«لَيّ الواجد يُحِلّ عقوبَتَهُ وعِرضَه»(3)، ولم يردّه النافي بأنّ هذا من قبيل مفهوم اللقب، لا الوصف، بل ردّه بغيره(4). مع أ نّه لا وجه لإخراجه؛ لجريان جميع الأدلّة فيه، حتّى لغوية القيد الزائد.

ص: 188


1- مطارح الأنظار 2: 79؛ الفصول الغروية: 151 / السطر 36؛ كفاية الاُصول: 244.
2- الفقيه 4: 272 / 828؛ وسائل الشيعة 18: 333، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 3؛ صحيح مسلم 3: 383 / 33.
3- الأمالي، الطوسي: 520 / 53؛ وسائل الشيعة 18: 333، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 4؛ سنن النسائي 7: 317.
4- اُنظر قوانين الاُصول 1: 178 / السطر 12؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 311.

وما في تقريرات بعض الأعاظم: من أنّ الالتزام بالمفهوم فيما إذا ذكر الموصوف صريحاً، إنّما هو لخروج الكلام عن اللغوية، وهذا لا يجري في مثل «أكرم عالماً»؛ فإنّ ذكر الموضوع لا يحتاج إلى نكتة غير إثبات الحكم له، لا إثباته له ونفيه عن غيره(1)، منظور فيه؛ لأنّ تقريب اللغوية يأتي في الثاني أيضاً؛ فإنّ الموضوع لو كان فاقد الوصف، وكان الحكم ثابتاً للموصوف وغيره، لما كان لذكر الموصوف بما هو موصوف وجه، والصون عن اللغوية لو تمّ في الأوّل لتمّ في الثاني.

المقدّمة الثانية: لا ينبغي الإشكال في أنّ محطّ البحث فيما إذا كان الوصف أخصّ مطلقاً من الموصوف، أو أعمّ من وجه في مورد الافتراق من جانب الموصوف، مثل «الغنم السائمة» في مقابل «الغير السائمة»؛ ضرورة أنّ حفظ الموضوع في المنطوق والمفهوم ممّا لا بدّ منه، وإنّما الاختلاف بينهما في تحقّق الوصف في أحدهما دون الآخر بعد حفظه، فلا معنى لنفي الحكم عن موضوع أجنبيّ وعدّه مفهوماً للكلام. فقول بعض الشافعية(2): إنّ قوله: «في الغنم السائمة زكاة»(3) يدلّ على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة، فاسد.

إذا عرفت ذلك: فالحقّ عدم المفهوم للوصف لا وضعاً، وهو واضح. والتشبّث بقول أبي عبيدة لا يسمن؛ ضرورة عدم حجّية فهمه، وعدم معلومية دعواه الوضع، بل لعلّ فهمه لأجل القرينة في المقام.

ص: 189


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 501.
2- اُنظر مطارح الأنظار 2: 80 - 81؛ المنخول: 291 - 292 و307.
3- راجع عوالي اللآلي 1: 399 / 50.

ولا إطلاقاً، بأن يقال: إنّ إطلاق قوله: «في الغنم السائمة زكاة» بلا توصيفها بوصف آخر، كما يدلّ على كونها تمام الموضوع بلا شريك، يدلّ على عدم العديل للوصف، وإلاّ لم يكن هو في جميع الحالات موضوعاً، كما مرّ نظيره في الشرط، فإنّه قد مرّ جوابه فيه(1).

كما مرّ الجواب عن نظير ما قيل في المقام هناك أيضاً، وحاصله: أ نّه بعد إحراز أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً، أنّ معنى قيدية شيء لموضوع حكم حقيقةً، أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّقه بها إلاّ بعد اتّصافها بهذا الوصف، فالوصف متمّم قابلية القابل، وهو معنى الشرط حقيقةً. وحيث إنّ الظاهر دخله بعنوانه الخاصّ، إذ مع تعدّد العلّة يكون بعنوان جامع علّةً، وهو خلاف الظاهر، فلا محالة ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء قيد الموضوع(2).

وفيه: ما تقدّم(3) من أنّ قياس التشريع بالتكوين باطل، وأ نّه يمكن جعل أشياء بعناوينها موضوعاً لحكم، وأنّ مناط القاعدة المعروفة في الفلسفة ليس في مثل ما نحن فيه، وأنّ تأثير الجامع ليس له أصل مطلقاً، وأ نّه بعد تسليم ما ذكر أنّ الميزان في مثل المقام فهم العرف، لا دقائق الفلسفة، فتذكّر.

ص: 190


1- تقدّم في الصفحة 159 - 160.
2- نهاية الدراية 2: 435 - 436.
3- تقدّم في الصفحة 162.

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

اشارة

والبحث فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في دلالة الغاية على ارتفاع الحكم بعدها

نسب إلى المشهور - خلافاً لجماعة: منهم السيّد(1) والشيخ(2) - دلالة الغاية المذكورة في القضيّة على ارتفاع الحكم عمّا بعدها(3).

وفصّل جمع من المحقّقين(4) بين الغاية المجعولة للموضوع بحسب اللبّ وبين المجعولة للحكم، واختاروا في الأوّل عدم الدلالة؛ لأنّ حالها حال الوصف، بل الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم(5): أنّ البحث في مفهوم الوصف

ص: 191


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 407.
2- العدّة في اُصول الفقه 2: 478.
3- مطارح الأنظار 2: 98.
4- كفاية الاُصول: 246؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 504 - 505؛ نهاية الدراية 2: 439.
5- مطارح الأنظار 2: 98؛ وقاية الأذهان: 426

أعمّ من الوصف النحوي، فالقيود الراجعة إلى الموضوع كلّها داخلة فيه، وفي الثاني رجّحوا الدلالة.

وإليه ذهب شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في كتابه، وإن رجع عنه أخيراً،

قال ما حاصله:

إن جعلت الغاية غاية للحكم فالظاهر الدلالة؛ لأنّ مفاد الهيئة إنشاء حقيقة الطلب، لا الطلب الجزئي، فتكون الغاية غاية لحقيقة الطلب، ولازمه ارتفاع حقيقته عند وجود الغاية. نعم لو قلنا بأنّ مفاد الهيئة الطلب الجزئي فالغاية لا تدلّ على ارتفاع سنخ الوجوب(1).

ثمّ رجع عنه، فقال - على ما حرّرته - : لا دلالة لها مطلقاً؛ لأنّ الطلب مسبّب

عن سبب بحسب الواقع وإن لم يذكر في القضيّة، وليس فيها دلالة على حصره حتّى تدلّ على المفهوم. وما ذكرنا في المتن غير وجيه؛ لأنّ الطلب المعلول لعلّة لا إطلاق له بالنسبة إلى غير موردها، وإن كان لا تقييد له أيضاً.

هذا، لكن قرّر وجه رجوعه في النسخة المطبوعة أخيراً بما حاصله:

دعوى مساعدة الوجدان في مثل «اجلس من الصبح إلى الزوال» لعدم المفهوم؛ لأ نّه لو قال المتكلّم بعده: «وإن جاء زيد فاجلس من الزوال إلى الغروب» لم يكن مخالفاً لظاهر كلامه، وهذا يكشف عن أنّ المغيّا ليس سنخ الحكم من أيّ علّة تحقّق، بل السنخ المعلول لعلّة خاصّة، سواء كانت مذكورة أو لا(2)، انتهى.

ص: 192


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 204.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 204، الهامش 1.

والحقّ عدم ورود الإشكال على ما حقّقه أوّلاً بعد تسليم وضع الهيئة لحقيقة الطلب واستعمالها فيها:

أمّا على ما حرّرناه فلأنّ المفهوم فيها لا يتوقّف على العلّية المنحصرة كما قيل في الشرطية، بل على تحديد حقيقة الحكم بلا تقييدها بقيد خاصّ إلى غاية، فكأ نّه قال: «حقيقة وجوب الجلوس تكون إلى الزوال»، فحينئذٍ يكون الوجوب بعد الزوال مناقضاً له. والعرف يفهم المفهوم بعد ثبوت كون الغاية للحكم، وثبوت أنّ الهيئة ظاهرة في حقيقة الطلب من غير توجّه إلى علّة الحكم، فضلاً عن انحصارها، ولو فرض توجّهه إليها كشف من هذا الظهور المتّبع انحصارها.

وأمّا على ما قرّر في الطبعة الأخيرة؛ فلأنّ الظاهر من قوله: «اجلس من الصبح إلى الزوال» رجوع الغاية إلى المادّة، ولعلّ عدم فهم المخالفة لذلك، وإلاّ فلا نسلّم عدم ذلك بعد تسليم رجوع الغاية إلى الحكم، وكون المغيّا حقيقته.

هذا، لكن مرّ الإشكال في كون الهيئة موضوعة لكلّي الطلب ومستعملة فيه في محلّه(1)، إلاّ أ نّه مع جزئية معنى الهيئة لا يبعد دعوى المفهوم؛ لمساعدة العرف عليه.

ويمكن أن يقال: إنّ الهيئة وإن وضعت لإيقاع البعث ولا يكون إلاّ جزئياً حقيقياً، لكن لمّا كانت آلة محضة للبعث والإغراء لا ينتزع منه العرف إلاّ نفس الوجوب من غير توجّه إلى الجزئية والكلّية، فيفهم من قوله: «اجلس إلى

ص: 193


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 187.

الزوال» وجوبه إلى هذا الحدّ، من غير توجّه إلى أنّ إيقاع الوجوب لا يكون إلاّ

جزئياً، فحينئذٍ يفهم من القضيّة المغيّاة انتفاء سنخ الحكم بعد الغاية.

هذا بحسب الثبوت.

وأمّا كون الغاية للموضوع أو الحكم أو المتعلّق إثباتاً، فهو مختلف بحسب المقامات والتراكيب ومناسبة الغايات لها.

المقام الثاني: في أنّ الغاية داخلة في المغيّا أو لا ؟

ومحطّ البحث هاهنا هو ما إذا كان مدخول «إلى» و«حتّى» - مثلاً - شيئاً ذا أجزاء أو امتداد، كالكوفة في مثل: «سر من البصرة إلى الكوفة»، والمرفق في قوله: )وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ((1) بناءً على كون المرفق محلّ رفق العظمين ممّا له امتداد، فيقع البحث في أنّ الغاية داخلة، أو لا ؟

وأمّا البحث العقلي عن أنّ غايات الأجسام داخلة فيها أو لا، وابتناء الكلام

على امتناع الجزء الذي لا يتجزّأ وعدمه(2)، فهو بمعزل عن البحث الاُصولي.

كما أ نّه لو كان المدخول لهما غير قابل للتجزئة والامتداد كالفصل المشترك، فلا ينتج البحث النتيجة المطلوبة، لكن تعميمه بالنسبة إلى مطلق مدخولهما ممّا لا مانع منه، وإن لم تترتّب الثمرة إلاّ على بعض التقادير، كما في كثير من المسائل الاُصولية.

ثمّ إنّ النزاع يجري في غاية الحكم كما يجري في غاية الموضوع والمتعلّق،

ص: 194


1- المائدة (5): 6.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 205.

فيقال: إنّ وجوب الصوم في قوله: «صم إلى الليل» هل ينقطع بانتهاء اليوم، أو يبقى إلى دخول مقدار من الليل، أو إلى انقضائه ؟ فلا يختصّ النزاع بغاية الموضوع.

ولا يخفى أنّ النزاع مختصّ بما دلّ على الغاية، كقوله: )كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ(، وقوله: )ثُمَّ أَتِمُّوا

الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ((1)، فيخرج مثل: «أكلت السمكة حتّى رأسها» و«قدم الحاجّ

حتّى المشاة» ممّا لم تستعمل الكلمة في الغاية وتكون عاطفة.

فما في «مقالات» بعض المحقّقين من ظهور دخول مدخول «حتّى» في المغيّا في مثل: «أكلت السمكة حتّى رأسها»(2) خلط بين العاطفة والخافضة.

وكيف كان قد فصّل شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - بين كون الغاية قيداً

للفعل كقوله: «سر من البصرة إلى الكوفة»، فاختار دخولها فيه، وبين كونها غاية للحكم، فاختار عدمه(3).

والظاهر عدم الدخول مطلقاً؛ ضرورة أ نّه إذا قال: «سر من البصرة إلى الكوفة»، وكانت الكوفة اسماً للمحصور بجدار، فسار إلى جدارها ولم يدخل فيها، يصدق أ نّه أتى بالمأمور به، فإذا أخبر ب «إنّي قرأت القرآن إلى سورة يس» لا يفهم منه إلاّ انتهاؤه إليها، لا قراءتها.

والظاهر أ نّه كذلك في «حتّى» المستعملة في انتهاء الغاية، فإذا قلت: «نمت

ص: 195


1- البقرة (2): 187.
2- مقالات الاُصول 1: 415.
3- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 205.

البارحة حتّى الصباح» بالجرّ لا يفهم منه إلاّ ما فهم من «نمت البارحة إلى الصباح»، كما هو كذلك في قوله: )كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ...( إلى آخره.

نعم استعمالها في غير الغاية كثير، ولعلّه صار منشأً للاشتباه حتّى ادّعى بعضهم فيها الإجماع على الدخول(1).

ص: 196


1- اُنظر مغني اللبيب 1: 168؛ مطارح الأنظار 2: 96.

الفصل الرابع في مفهوم الاستثناء

ولا ينبغي الإشكال في أنّ الاستثناء من النفي يفيد الإثبات وبالعكس، فقوله: «ما جاءني أحد إلاّ زيداً» يدلّ على مجيء زيد.

وحكي عن أبي حنيفة عدم الدلالة، واحتجّ بمثل قوله: «لا صلاة إلاّ بطهور» فإنّه على تقدير الدلالة يلزم أن تكون الصلاة المقرونة بها مع فقد شرائطها صلاة تامّة(1).

وهذا الاستدلال ضعيف؛ ضرورة أنّ مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بطهور»(2) و«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(3) كان في مقام الإرشاد إلى اشتراط الصلاة بالطهارة،

ص: 197


1- اُنظر مطارح الأنظار 2: 105؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 265؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2: 548.
2- تهذيب الأحكام 1: 49 / 144؛ وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
3- عوالي اللآلي 3: 82 / 65؛ مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 1، الحديث 5 و8.

وأنّ فاتحة الكتاب جزؤها، لا بصدد الإخبار عن العقد السلبي والإيجابي، وفي مثله لا مفهوم للاستثناء. فمعنى قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» أ نّها جزؤها، ولا تكون الصلاة بدونها صلاة، لا أ نّها تمام الصلاة، أو إذا اشتملت عليها لا يضرّها شيء، وأين هذا من مثل: «جاءني القوم إلاّ زيداً» ؟ !

ثمّ استدلّ المدّعي لاختصاص الحكم بالمستثنى منه، وكون الاستثناء من النفي إثباتاً، وبالعكس، بقبول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إسلام من قال: «لا إله إلاّ الله»، ولو لا دلالته على إثبات الاُلوهية لله تعالى لما كان مفيداً للاعتراف

بوجود الباري(1).

ويمكن أن يقال: إنّ عبدة الأوثان في زمانه كانوا معتقدين بالله تعالى، لكن جعلوا الأوثان وسائط له، وكانوا يعبدونها لتقرّبوهم إلى الله تعالى، فقبول كلمة التوحيد إنّما هو لأجل نفي الآلهة - أي المعبودين - لا إثبات وجود الباري تعالى؛ فإنّه كان مفروغاً عنه.

وبهذا يجاب عن الإشكال المعروف في كلمة التوحيد(2).

وأمّا الأجوبة الدقيقة الفلسفية وإن كانت صحيحة، لكنّها بعيدة عن أذهان العامّة، فابتناء قبوله على تلك الدقائق التي قصرت أفهام الناس عنها مقطوع العدم.

ص: 198


1- مطارح الأنظار 2: 106؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 264 - 265؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2: 548.
2- راجع كفاية الاُصول: 248.

المقصد الرابع فيالعامّ والخاصّ

اشارة

وقبل الخوض في المقصود لا بأس بذكر اُمور:

ص: 199

ص: 200

الأمر الأوّل في تعريف العامّ

لا ينبغي صرف الوقت في تعاريفهما، والنقض والإبرام فيها، لكن ينبغي التنبيه لشيء يتّضح من خلاله تعريف العامّ:

وهو أ نّه لا إشكال في أنّ الألفاظ الموضوعة للطبائع بلا شرط كأسماء الأجناس وغيرها لا تكون حاكية إلاّ عن نفس الطبائع الموضوعة لها، فالإنسان لا يدلّ إلاّ على الطبيعة بلا شرط، وخصوصيات المصاديق لا تكون محكية به، واتّحاد الإنسان خارجاً مع الأفراد لا يقتضي حكايتها؛ لأنّ مقام الدلالة التابعة للوضع غير مقام الاتّحاد خارجاً.

وكذا نفس الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة وكاشفة عن الأفراد، سواء كان التشخّص بالوجود والعوارض أماراته، أو بالعوارض؛ ضرورة أنّ نفس الطبيعة تخالف الوجود والتشخّص وسائر [عوارضها] خارجاً أو ذهناً، ولا يمكن كاشفية الشيء عمّا يخالفه، فالماهية لا تكون مرآة للوجود الخارجي والعوارض الحافّة به.

ص: 201

فحينئذٍ نقول: إنّ العموم والشمول إنّما يستفاد من دوالّ اُخر مثل: الكلّ، والجميع، والجمع المحلّى ممّا وضعت للكثرات، أو تستفاد الكثرة منه بجهة اُخرى، فإذا اُضيفت هذه المذكورات إلى الطبائع تستفاد كثرتها بتعدّد الدالّ والمدلول. فقوله: «كلّ إنسان حيوان» يدلّ على أنّ كلّ مصداق من الإنسان حيوان، لكن الإنسان لا يدلّ إلاّ على نفس الطبيعة من غير أن يكون لفظه حاكياً عن الأفراد أو الطبيعة المحكيّة به مرآةً لها، وكلمة «كلّ» تدلّ على الكثرة، وإضافتها إلى الإنسان تدلّ على أنّ الكثرة كثرة الإنسان، وهي الأفراد بالحمل الشائع.

فما اشتهر في الألسن من أنّ الطبيعة في العامّ تكون حاكية عن الأفراد، ليس على ما ينبغي؛ لأنّ العموم مستفاد من كلمة «كلّ» و«جميع» وغيرهما، فهي ألفاظ العموم، وبإضافتها إلى مدخولاتها يستفاد عموم أفرادها بالكيفية التي ذكرناها.

وعلى هذا يصحّ أن يعرّف العامّ بما دلّ على تمام مصاديق مدخوله ممّا يصحّ أن ينطبق عليه.

وأمّا تعريفه: بأ نّه ما دلّ على شمول مفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه(1)، فلا يخلو من مسامحة؛ ضرورة أنّ الكلّ لا يدلّ على شمول الإنسان لجميع أفراده، والأمر سهل.

ص: 202


1- لمحات الاُصول: 254.

الأمر الثاني في الفرق بين المطلق والعامّ

صرّح شيخنا العلاّمة(1) وبعض الأعاظم(2): بأنّ العموم قد يستفاد من دليل لفظي كلفظة «كلّ»، وقد يستفاد من مقدّمات الحكمة، والمقصود بالبحث في العامّ والخاصّ هو الأوّل، والمتكفّل للثاني هو مبحث المطلق والمقيّد.

ومحصّله: أنّ العامّ على قسمين: قسم يسمّى عامّاً، وفي مقابله الخاصّ ويبحث عنه في هذا الباب، وقسم يسمّى مطلقاً، ومقابله المقيّد، ويبحث عنه في باب المطلق والمقيّد.

وهذا بمكان من الغرابة؛ ضرورة أنّ المطلق والمقيّد عنوانان غير مربوطين بالعامّ والخاصّ؛ لأنّ العامّ هو ما عرفت، وأمّا المطلق فبعد جريان مقدّمات الحكمة لايدلّ على العموم والأفراد بوجه، بل بعد تمامية المقدّمات يستكشف بأنّ نفس الطبيعة بلا قيد تمام الموضوع للحكم، فموضوع الحكم في العامّ هو أفراد الطبيعة، وفي المطلق هو نفسها بلا قيد، ولم تكن الأفراد بما هي موضوعة له.

ف )أَوْفُوا بِالعُقُودِ((3) دلّ على وجوب الوفاء بكلّ مصداق من مصاديق العقد، و)أَحَلَّ الله البَيْعَ((4) بناءً على الإطلاق وتمامية المقدّمات يثبت النفوذ

ص: 203


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 210.
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 511.
3- المائدة (5): 1.
4- البقرة (2): 275.

والحلّية لنفس طبيعة البيع من غير أن يكون للموضوع كثرة، وإنّما يثبت نفوذ البيع الخارجي لأجل تحقّق الطبيعة التي هي موضوع الحكم به. وسيأتي مزيد بيان لذلك.

الأمر الثالث في عدم احتياج العامّ إلى مقدّمات الحكمة

قد يقال: إنّ العامّ لا يدلّ على العموم إلاّ بعد جريان مقدّمات الحكمة؛ لأنّ الطبيعة المدخولة لألفاظ العموم موضوعة للمهملة غير الآبية للإطلاق والتقييد، وألفاظ العموم تستغرق مدخولها، إن مطلقاً فمطلق، وإن مقيّداً فكذلك، فهي تابعة له، ومع احتمال القيد لا رافع له إلاّ مقدّمات الحكمة(1).

والتحقيق خلافه: أمّا أوّلاً: فلأنّ موضوع الإطلاق هو الطبيعة، ومع جريان المقدّمات يستكشف أنّ موضوع الحكم نفس الطبيعة بلا دخالة شيء آخر، بخلاف العامّ؛ فإنّ موضوع الحكم فيه أفراد الطبيعة، لا نفسها. فموضوع وجوب الوفاء في قوله: )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((2) أفرادها، وجريان المقدّمات إنّما هو بعد تعلّق الحكم، وهو متعلّق بالأفراد بعد دلالة الألفاظ على استغراق المدخول، فهي دالّة عليه جرت المقدّمات أم لا. نعم جريان المقدّمات يفيد بالنسبة إلى حالات الأفراد.

ص: 204


1- أجود التقريرات 1: 237 - 238 و2: 291 - 292؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 210 - 211؛ نهاية الدراية 2: 446.
2- المائدة (5): 1.

وإن شئت قلت: إنّ ألفاظ العموم مثل: «كلّ» و«جميع» موضوعة للكثرة لغةً، وإضافتها إلى الطبيعة تفيد الاستغراق، وتعلّق الحكم متأخّر عنه، وجريان المقدّمات متأخّر عنه برتبتين، فلا يعقل توقّفه عليه.

وأمّا ثانياً: فلأنّ المتكلّم في العموم متعرّض لمصاديق الطبيعة، ومعه لا معنى لعدم كونه في مقام بيان تمام الأفراد، بخلاف باب الإطلاق؛ لإمكان أن لا يكون المتكلّم فيه بصدد بيان حكم الطبيعة، بل يكون بصدد بيان حكم آخر، فلا بدّ من جريان المقدّمات.

وبالجملة: دخول ألفاظ العموم على نفس الطبيعة المهملة يدلّ على استغراق أفرادها.

ويشهد لما ذكر: قضاء العرف به. وأنت إذا تفحّصت جميع أبواب الفقه وفنون المحاورات، لم تجد مورداً توقّف العرف في استفادة العموم من القضايا المسوّرة بألفاظه من جهة عدم كون المتكلّم في مقام البيان، كما ترى في المطلقات إلى ما شاء الله.

ولعلّ هذه الشبهة نشأت من الخلط بين المطلق والعامّ.

والعجب ممّن يرى أنّ الإطلاق بعد جريان المقدّمات يفيد العموم، ومعه ذهب إلى لزوم جريانها في العموم(1)، مع أنّ لازمه لَغوية الإتيان بألفاظ العموم.

ص: 205


1- أجود التقريرات 1: 237 - 238، و2: 291 - 292.

الأمر الرابع في أقسام العموم

اشارة

ينقسم العموم إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي؛ لأنّ اللفظ الدالّ على العموم إن دلّ على مصاديق الطبيعة عرضاً بلا اعتبار الاجتماع بينها مثل: «كلّ» و«جميع» و«تمام» وأشباهها يكون العامّ استغراقياً، ف «كلّ عالم» دالّ بالدوالّ الثلاثة على أفراد طبيعة العالم من غير اعتبار اجتماعها وصيرورتها موضوعاً واحداً، مع كون شموله لها عرضياً.

فإذا اعتبرت الوحدة والاجتماع في الأفراد؛ بحيث عرضتها الوحدة الاعتبارية، وصارت الأفراد بمنزلة الأجزاء، كان العامّ مجموعياً. ولا يبعد أن يكون لفظ المجموع مفيداً له عرفاً، ولذا اختصّ هذا اللفظ ارتكازاً به، فلفظ «مجموع العلماء» يشمل الأفراد مع صيرورتها واحدة اعتباراً.

وإذا دلّ اللفظ على الأفراد لا في عرض واحد يكون بدلياً؛ مثل: «أيّ» الاستفهامية، كقوله: )فَأَىَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ((1)، وقوله: )أَيُّكُمْ يَأتِينِى بِعَرْشِهَا((2). وقد يكون البدلي في غير الاستفهامية، مثل: «زكّ مالك من أيّ مصداق شئت»، و«اذهب من أيّ طريق أردت»؛ فإنّها تدلّ بالدلالة الوضعية على العموم البدلي.

ص: 206


1- غافر (40): 81.
2- النمل (27): 38.

ولا يخفى: أنّ تلك الأقسام مخصوصة بالعموم، وأمّا الإطلاق فلا تأتي فيه، ومقدّمات الحكمة لا تثبت في مورد أحدَها.

وقد خلط كثير من الأعاظم هاهنا أيضاً، وتوهّموا جريان التقسيم في المطلقات.

قال المحقّق الخراساني في باب المطلق والمقيّد: «إنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات؛ فإنّها تارةً يكون حملها على العموم البدلي واُخرى على العموم الاستيعابي»(1).

وعلى منواله نسج غيره كصاحب «المقالات» حيث قال: «إنّما الامتياز بين البدلي وغيره بلحاظ خصوصية مدخوله من كونه نكرة أو جنساً؛ فإنّ في النكارة اعتبرت جهة البدلية دون الجنس»(2)، انتهى.

ولا يخفى: أنّ النكرة تدلّ بمادّتها على نفس الطبيعة بلا شرط، وتنوين التنكير الداخل عليها يدلّ على الوحدة، ف «رجل» يدلّ - بتعدّد الدالّ - على واحد غير معيّن من الطبيعة، ولا تكون فيه دلالة على البدلية بلا ريب، وإنّما يحكم العقل بتخيير المكلّف في الإتيان بأيّ فرد شاء في مورد التكاليف.

فقوله: «أعتق رقبة» يدلّ بعد تمامية المقدّمات على وجوب عتق رقبة واحدة من غير دلالة على التبادل، والتخيير فيه عقلي، بخلاف قوله: «أعتق أيّة رقبة شئت»؛ فإنّ التخيير فيه شرعي مستفاد من اللفظ.

ص: 207


1- كفاية الاُصول: 292.
2- مقالات الاُصول 1: 430.

وقد عرفت فيما تقدّم حال الجنس في سياق الإثبات بعد تمامية المقدّمات، وأ نّها أجنبيّة عن إفادة العموم.

وبالجملة: لا يستفاد من المقدّمات إلاّ كون ما جعل موضوعاً بنفسه تمامه بلا دخالة شيء آخر، وهذا معنىً واحد في جميع الموارد. نعم، حكم العقل والعقلاء فيها مختلف، وهو غير دلالة اللفظ.

تنبيه: في نقد كلام المحقّق الخراساني في وجه انقسام العموم

قد ظهر ممّا ذكرنا من دلالة بعض الألفاظ على العامّ الاستغراقي أو المجموعي أو البدلي أنّ هذا التقسيم إنّما هو قبل تعلّق الحكم؛ فإنّ الدلالات اللفظية لا تتوقّف على تعلّق الأحكام بالموضوعات، ف «كلّ» و«جميع» يدلاّن على استغراق أفراد مدخولهما قبل تعلّق الحكم، وكذا لفظ «مجموع» و«أيّ» دالاّن على ما ذكرناه قبله. ولهذا لا يتوقّف أحد من أهل المحاورة في دلالة «أكرم كلّ عالم» على الاستغراق مع عدم القرينة، بل يفهمون ذلك لأجل التبادر، وكذا الحال في قوله: «أعتق أيّة رقبة شئت» في دلالته على العامّ البدلي، بل لا يبعد ذلك في لفظ «مجموع» على العامّ المجموعي.

فلا يكون هذا التقسيم بلحاظ تعلّق الحكم.

بل لا يعقل ذلك مع قطع النظر عمّا ذكرنا؛ ضرورة أنّ الحكم تابع لموضوعه، ولا يعقل تعلّق الحكم الوحداني بالموضوعات الكثيرة المأخوذة بنحو الاستغراق، كذا لا يعقل تعلّق الحكم الاستغراقي بالموضوع المأخوذ بنحو

ص: 208

الوحدة، والإهمال الثبوتي في موضوع الحكم لا يعقل.

فما ادّعى المحقّق الخراساني(1) وتبعه عليه بعضهم(2)، ممّا لا يمكن تصديقه.

الأمر الخامس في الألفاظ الدالّة على العموم

عدّ النكرة واسم الجنس في سياق النفي أو النهي من ألفاظ العموم وضعاً، ممّا لا مجال له؛ فإنّ اسم الجنس موضوع لنفس الطبيعة بلا شرط، وتنوين التنكير لتقييدها بقيد الوحدة الغير المعيّنة، لكن بالمعنى الحرفي لا الاسمي، وألفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها أو الزجر عنه، فلا دلالة فيها على نفي الأفراد، ولا وضع على حدة للمركّب، فحينئذٍ تكون حالها حال سائر المطلقات في احتياجها إلى مقدّمات الحكمة. فلا فرق بين «أعتق رقبة» و«لا تعتق رقبة» في أنّ الماهية متعلّقة للحكم، وفي عدم الدلالة على الأفراد، وفي الاحتياج إلى المقدّمات.

نعم، بعد تماميتها قد تكون نتيجتها في النفي والإثبات مختلفة عرفاً؛ لما تقدّم

من حكمه بأنّ المهملة توجد بوجود فرد ما، وتنعدم بعدم جميع الأفراد، وإن كان حكم العقل البرهاني على خلافه(3).

ص: 209


1- كفاية الاُصول: 253.
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 514 - 515؛ نهاية الأفكار 1: 505.
3- تقدّم في الصفحة 90 - 91.

وما ذكرنا من الاحتياج إلى المقدّمات يجري في المفرد المحلّى باللام؛ لعدم استفادة العموم منه، بخلاف الجمع المحلّى الظاهر في العموم الاستغراقي.

ولعلّ الاستغراق فيه يستفاد من تعريف الجمع، لا من اللام ولا من نفس الجمع، ولهذا لا يستفاد من المفرد المحلّى ولا من الجمع الغير المحلّى. ووجه استفادته من تعريفه - على ما قيل(1) - أنّ أقصى مراتب الجمع معيّن معرّف، وأمّا غيره فلا تعيين فيه حتّى أدنى المراتب.

وكيف كان فلا مجال للتشكيك في دلالته على العموم، فلا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة، فالميزان في الاحتياج إليها وعدمه دلالة اللفظ على العموم الأفرادي وعدمها.

ص: 210


1- أجود التقريرات 2: 296؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 516.

الفصل الأوّل في حجّية العامّ المخصّص في الباقي

لا شبهة في حجّية العامّ المخصّص في الباقي متّصلاً كان المخصّص أو منفصلاً لدى العقلاء.

والقول بإجماله لتعدّد المجازات وعدم ترجيح لتعيّن الباقي(1) ساقط؛ لأنّ المجاز كما عرفت في محلّه(2) ليس استعمال اللفظ في غير ما وضع له، بل يكون استعماله فيما وضع له، وتطبيق المعنى الموضوع له على المعنى المجازي ادّعاءً، سواء في ذلك الاستعارة وغيرها.

فحينئذٍ نقول: إنّ العامّ المخصّص لا يجوز أن يكون من قبيل المجاز؛

ضرورة عدم ادّعاء وتأوّل فيه، فليس في قوله: )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((3) ادّعاء كون جميع العقود هي العقود التي لم تخرج من تحته، ولا في )أَحَلَّ الله

ص: 211


1- اُنظر معالم الدين: 117.
2- تقدّم في الجزء الأوّل: 62 - 63.
3- المائدة (5): 1.

الْبَيْعَ((1)، في المطلق الوارد عليه التقييد ذلك، كما تكون تلك الدعوى في قوله:

جدّدت يوم الأربعين عزائي

والنوح نوحي والبكاء بكائي

حيث ادّعى أنّ حقيقة النوح والبكاء هي نوحه وبكاؤه، وليس غيرهما نوحاً وبكاء.

فلا محالة أنّ مثل: «أكرم العلماء» و)أَوْفُوا بِالعُقُودِ( استعملت جميع ألفاظه فيما وضعت له، لكن البعث المدلول عليه بالهيئة لم يكن في مورد التخصيص لداعي الانبعاث، بل إنّما إنشاؤه كلّياً وقانونياً بداعي الانبعاث إلى غير مورد التخصيص، والجعل الكلّي إنّما هو بداع آخر. فالإرادة الاستعمالية في مقابل الجدّية هي بالنسبة إلى الحكم؛ فإنّه قد يكون إنشائياً، وقد يكون جدّياً لغرض الانبعاث.

ف )أَوْفُوا بِالعُقُودِ( إنشاء البعث على جميع العقود، وهو حجّة ما لم تدفعها حجّة أقوى منها، فإذا ورد مخصّص يكشف عن عدم مطابقة الجدّ للاستعمال في مورده، ولا ترفع اليد عن العامّ في غير مورده؛ لظهور الكلام وعدم انثلامه بورود المخصّص، وأصالة الجدّ التي هي من الاُصول العقلائية حجّة في غير ما قامت الحجّة على خلافه.

إن قلت: لازم تعلّق البعث الجدّي ببعض الأفراد والبعث الإنشائي بالآخر، أن يكون الواحد صادراً عن داعيين، وإنشاء البعث بالنحو الكلّي أمر واحد لا يمكن صدوره عن داعيين بلا جهة جامعة.

ص: 212


1- البقرة (2): 275.

قلت: - مضافاً إلى عدم جريان برهان امتناع صدور الواحد عن الكثير في مثل المقام، وإلى أنّ الوجدان حاكم بأنّ الدواعي المختلفة قد تجتمع على فعل واحد - إنّ الدواعي ليست علّة فاعلية لشيء، بل الدواعي غايات لصدور الأفعال، وكون الغايات علل فاعلية الفاعل ليس معناه أ نّها مصدر فاعليته؛ بحيث تكون علّة فاعلية لها، كما لا يخفى.

وبما ذكرنا في بيان المراد من الإرادة الاستعمالية والجدّية، يدفع إشكال بعض الأعاظم؛ حيث يظهر من تقريرات بحثه: توهّم أنّ مراد القوم من الإرادة الاستعمالية والجدّية هو بالنسبة إلى لفظ العامّ، وأنّ المراد الاستعمالي منه جميع العلماء والجدّي بعضهم.

فأورد عليهم: بأنّ حقيقة الاستعمال ليس إلاّ إلقاء المعنى بلفظه، والألفاظ مغفول عنها حينه؛ لأ نّها قنطرة ومرآة إلى المعاني، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي، فالمستعمل إن أراد المعنى الواقعي فهو، وإلاّ كان هازلاً(1).

وقد عرفت: أنّ الاستعمالية والجدّية إنّما هي بالنسبة إلى الحكم، فما ذكره أجنبيّ عن مقصودهم.

ثمّ إنّ صاحب «المقالات» أجاب عن الإشكال: بأنّ دلالة العامّ وإن كانت واحدة، لكن هذه الدلالة الواحدة إذا كانت حاكية عن مصاديق متعدّدة، فلا شبهة في أنّ هذه الحكاية بملاحظة تعدّد محكيّها بمنزلة حكايات متعدّدة؛ نظراً إلى أنّ شأن الحكاية والمرآة جذب لون محكيّها، فمع تعدّده كانت الحكاية متعدّدة.

ص: 213


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 517.

فحينئذٍ مجرّد رفع اليد عن حجّية الحكاية المزبورة بالنسبة إلى فرد لا يوجب رفع اليد عن حجّية الأعلى.

وأيّد كلامه بالمخصّص المتّصل، بدعوى: أنّ الظهور في الباقي مستند إلى وضعه الأوّل، غاية الأمر تمنع القرينة من إفادة الوضع لأعلى المراتب من الظهور، فيبقى اقتضاؤه للمرتبة الاُخرى دونها بحاله(1).

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ حديث جذب الألفاظ لون محكيّها أشبه بالخطابة والشعر؛ ضرورة أنّ الألفاظ لا تنقلب عمّا هي عليه، وتوهّم ركاكة بعضها ناشٍ من الخلط بين الحاكي والمحكيّ؛ فإنّ الركاكة للمحكيّ، والألفاظ آلة الانتقال إليها، فتعدّد المحكيّ لا يوجب تعدّد الحكاية بعد كون الحاكي عنواناً واحداً، فلفظ العامّ بعنوان واحد وحكاية واحدة يحكي عن الكثير، فإذا علم أنّ اللفظ لم يستعمل في معناه بدليل منفصل لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره.

وما ذكره في المخصّص المتّصل من مراتب الظهور ممنوع؛ ضرورة أنّ كلّ لفظ في المخصّص المتّصل مستعمل في معناه، وأنّ إفادة المحدودية إنّما هي لأجل القيود والإخراج بالاستثناء، فلفظ «كلّ» موضوع لاستغراق مدخوله، فإذا كان مدخوله «العالم إلاّ الفاسق» يستغرقه من غير أن يكون الاستثناء مانعاً عن ظهوره؛ لعدم ظهوره إلاّ في استغراق المدخول؛ أيّ شيء كان. ولو منع القيد أو الاستثناء عن ظهوره صار مجملاً؛ لعدم مراتب للظهور، وهو واضح، تدبّر.

ص: 214


1- مقالات الاُصول 1: 438.

الفصل الثاني في سراية إجمال المخصّص إلى العامّ

التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهومية

إذا خصّص العامّ بمجمل متّصل يسري إجماله إليه، من غير فرق بين المجمل مفهوماً وغيره، ولا بين الدائر بين المتباينين وغيره؛ لأنّ الحكم في العامّ الذي استثني منه، متعلّق بموضوع وحداني عرفاً، ويكون حال المستثنى منه والمستثنى حال المقيّد والموصوف، فكما أنّ الموضوع في قوله: «أكرم العالم العادل» هو الموصوف بما هو كذلك، فكذلك في قوله: «أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم»، ولهذا لا ينقدح التعارض - حتّى البدوي منه - بين المستثنى والمستثنى منه كما ينقدح في المنفصل منه.

فإذا كان الموضوع عنواناً واحداً يكون التمسّك به في الشبهات الموضوعية أو المفهومية للمستثنى كالتمسّك فيهما لنفسه، بل هو هو، فكما لا يجوز التمسّك بقوله: «لا تكرم الفسّاق» مع الإجمال بالنسبة إلى مورده، كذلك لا يجوز في العامّ المستثنى منه بلا فرق بينهما.

وأمّا إذا خصّص به منفصلاً، فمع التردّد بين المتباينين يسري الإجمال إليه

ص: 215

حكماً؛ بمعنى عدم جواز التمسّك به في واحد منهما وإن كان العامّ حجّة في واحد معيّن واقعاً، ولازمه إعمال قواعد العلم الإجمالي.

وأمّا إذا كان الخاصّ مجملاً مفهوماً مردّداً بين الأقلّ والأكثر فلا يسري ويتمسّك به؛ وذلك لأنّ الخاصّ المجمل ليس بحجّة في مورد الإجمال، فلا ترفع اليد عن الحجّة بما ليس بحجّة، ولا يصير العامّ معنوناً بعنوان الخاصّ في المنفصلات.

نعم، لو كان الخاصّ بلسان الحكومة على نحو التفسير والشرح - كما في بعض أنحاء الحكومات - فسراية إجماله إليه وصيرورة العامّ معنوناً غير بعيدة. والمسألة محلّ إشكال.

وأمّا ما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه - من إمكان أن يقال: إنّه بعد ما صارت عادة المتكلّم على ذكر المخصّص منفصلاً، فحال المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره(1) - فمقتضاه عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص، لا سراية الإجمال؛ لأنّ ظهور العامّ لا ينثلم لأجل جريان تلك العادة. كما أنّ الأصل العقلائي بتطابق الاستعمال والجدّ حجّة بعد الفحص عن المخصّص، وعدم العثور إلاّ على المجمل منه.

والحاصل: أنّ مسألة عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص غير مسألة سراية الإجمال، والعادة المذكورة موجبة لعدم جوازه قبله، لا سراية الإجمال. وهو قدّس سرّه

قد رجع عمّا أفاده في كتابه(2). هذا في الشبهة المفهومية.

ص: 216


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 215.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 215، الهامش 1.

التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللفظي

وأمّا الاشتباه المصداقي بالشبهة الخارجية فقد يقال بجواز التمسّك به مع انفصال المخصّص.

ولا يخفى أنّ محطّ البحث في المقام هو تخصيص العامّ، لا تقييد المطلق، وقد سبق الفرق بينهما.

وقد خلط بينهما بعضهم في المقام أيضاً، وقال: «إنّ تمام الموضوع في العامّ قبل التخصيص هو طبيعة «العالم»، وإذا ورد المخصّص يكشف أنّ «العالم» بعض الموضوع، وبعضه الآخر هو «العادل»، فيكون الموضوع - واقعاً - هو «العالم العادل»، فالتمسّك في الشبهة المصداقية للخاصّ يرجع إلى التمسّك فيها لنفس العامّ من غير فرق بين القضايا الحقيقية وغيرها»(1)، انتهى.

وقد عرفت: أنّ الحكم في المطلق والمقيّد ما ذكره، وأمّا الحكم في العامّ فعلى أفراد مدخول أداته، لا على عنوان الطبيعة، والمخصّص مخرج لطائفة من أفراد العامّ، كأفراد الفسّاق منهم.

وما صرّح به كراراً - بأنّ الحكم في القضايا الحقيقية على العنوان بما أ نّه مرآة لما ينطبق عليه، ولم يتعرّض للأفراد(2) - غير تامّ؛ لأنّ العنوان لا يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات الفردية. مع أنّ لازم ما ذكر أن تكون الأفراد موضوعاً للحكم؛ لأنّ المحكوم عليه المرئي لا المرآة.

ص: 217


1- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 525.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 171 و186 و276 و525.

والتحقيق: أنّ العنوان لم يكن مرآة إلاّ لنفس الطبيعة الموضوع لها، وأداة العموم تفيد أفرادها، والقضيّة الحقيقية متعرّضة للأفراد.

حول الاستدلال على جواز التمسّك بالعامّ في المقام

فإذا تمحّض محطّ البحث نقول: عمدة استدلال القائل بجواز التمسّك هو: أنّ العامّ بعمومه شامل لكلّ فرد من الطبيعة وحجّة عليها، والفرد المشكوك فيه لا يكون الخاصّ حجّة بالنسبة إليه؛ للشكّ في فرديته، فمع القطع بفرديته للعامّ والشكّ في فرديته للخاصّ يكون رفع اليد عن العامّ الحجّة بغير حجّة(1).

والجواب عنه: أنّ الاحتجاج بكلام المتكلّم يتمّ بعد مراحل: كتمامية الظهور، وعدم الإجمال في المفهوم، وجريان أصالة الحقيقة، وغيرها، ومنها إحراز كون إنشاء الحكم على الموضوع على نحو الجدّ، ولو بالأصل العقلائي.

فحينئذٍ إنّ ورود التخصيص على العامّ يكشف عن أنّ إنشاءه في مورد التخصيص لا يكون بنحو الجدّ، فيدور أمر المشتبه بين كونه مصداقاً للمخصّص حتّى يكون تحت الإرادة الجدّية لحكم المخصّص، وعدمه حتّى يكون تحت الإرادة الجدّية لحكم العامّ المخصّص، ومع هذه الشبهة لا أصل لإحراز أحد الطرفين؛ فإنّها كالشبهة المصداقية لأصالة الجدّ بالنسبة إلى العامّ والخاصّ كليهما، ومجرّد كون الفرد معلوم العالمية وداخلاً تحت العامّ لا يوجب تمامية الحجّة؛ لأنّ صرف ظهور اللفظ وجريان أصالة الحقيقة، لا يوجب تماميتها ما لم تحرز أصالة الجدّ. ولهذا ترى أنّ كلام من كان عادته على الدعابة غير صالح

ص: 218


1- اُنظر كفاية الاُصول: 258.

للاحتجاج، لا لعدم ظهور فيه، ولا لعدم جريان أصالة الحقيقة، بل مع القطع بهما لا يكون حجّة؛ لعدم جريان أصالة الجدّ، فرفع اليد عن العامّ ليس رفع اليد عن الحجّة بغير حجّة، بل لقصور الحجّية فيه.

ولعلّ كلام المحقّق الخراساني(1) يرجع إلى ما ذكرنا، وكذا كلام الشيخ الأعظم(2)، وإن فسّر كلامه بعض المحقّقين بما يرد عليه الإشكال:

قال في «مقالاته»: «الذي ينبغي أن يقال: إنّ الحجّية بعد ما كانت منحصرة بالظهور التصديقي المبنيّ على كون المتكلّم في مقام الإفادة والاستفادة، فإنّما يتحقّق هذا المعنى في فرض تعلّق قصد المتكلّم بإبراز مرامه باللفظ، وهو فرع التفات المتكلّم إلى ما تعلّق به مرامه، وإلاّ فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه فكيف يتعلّق قصده بلفظه كشفه وإبرازه ؟ ! ومن المعلوم أنّ الشبهات الموضوعية طرّاً من هذا القبيل. ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان. ومرجع هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه مشتبِهاً فيه، فلا يكون الظهور حينئذٍ تصديقياً؛ كي يكون واجداً لشرائط الحجّية»(3)، انتهى.

وأنت خبير بما فيه؛ فإنّ الحجّية وإن كانت منحصرة في الظاهر الذي صدر من المتكلّم لأجل الإفادة ولا بدّ له أن يكون متيقّناً بما تعلّق به مرامه، لكن في مقام

جعل الكبريات، لا في تشخيص صغرياتها.

ص: 219


1- كفاية الاُصول: 259.
2- مطارح الأنظار 2: 136 - 137.
3- مقالات الاُصول 1: 151 / السطر 8 - 13 (ط - الحجري)؛ مقالات الاُصول 1: 443.

فالمتكلّم بمثل: «كلّ نار حارّة» في مقام الإخبار لا بدّ له من إحراز كون كلّ فرد منها حارّاً ببرهان أو غيره، وأمّا تشخيص كون شيء ناراً، أو كون مصداق كذائي له صفة كذائية، فليس متعلّقاً بمرامه، ولا يكون في مقام إبرازه. وكذا المتكلّم بنحو: «أكرم كلّ عالم» لا بدّ له من تشخيص أنّ كلّ فرد من العلماء فيه ملاك الحكم وإن اشتبه عليه الأفراد، ولو خصّص العامّ بمخصّص مثل: «لا تكرم الفسّاق» لا بدّ له من تشخيص كون ملاكه في عدول العلماء، وأمّا كون فرد في الخارج عادلاً أو لا، فليس داخلاً في مرامه حتّى يكون بصدد إبرازه.

فلو صحّ ما ذكره: من أنّ المولى لمّا لم يكن بصدد إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان بنفسه مشتبهاً فيه، فليس الظهور حجّة فيه، فلا بدّ من التزامه بعدم وجوب إكرام من اشتبه عند المولى، وإن لم يكن كذلك لدى المكلّف، فمع علم المكلّف بأنّ زيداً عالم عادل، لا بدّ من القول بعدم وجوب إكرامه إذا كان المتكلّم مشتبهاً فيه، ولا أظنّ بأحد التزامه.

وأمّا الشيخ الأعظم فيظهر من تقريراته: أنّ كلام المتكلّم بالعامّ غير صالح

لرفع الشبهة الموضوعية التي هو بنفسه أيضاً قد يكون مثل العبد فيها، فالعامّ مرجع لرفع الشبهة الحكمية لا الموضوعية (1).

وهو متين، ولا يرجع إلى ما في «المقالات». اللهمّ إلاّ أن يرجع ما ذكره إلى

ما ذكرنا، كما قد يظهر من بعض كلماته فيما سيأتي(2)، وإغلاق البيان وسوء التعبير غير عزيزين في «المقالات».

ص: 220


1- مطارح الأنظار 2: 136 - 137.
2- يأتي في الصفحة 225 - 226.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ لجواز التمسّك بالعامّ بوجه آخر، وهو: أنّ العامّ بعمومه الأفرادي يشمل كلّ فرد، وبإطلاقه الأحوالي يعمّ كلّ حالة من حالات الموضوع، ومنها مشكوكية الفسق، والذي كان الخاصّ حجّة فيه هو الأفراد المعلومة، والمشكوك فيها داخلة في إطلاقه(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما يرد على التقريب الأوّل - أنّ العامّ بعمومه وإطلاقه إن كان كفيلاً للحكم الواقعي، فكيف يجتمع مع حكم الخاصّ في المشتبه إن كان فاسقاً ؟ ! فلازمه أن يكون الفاسق محرّم الإكرام وواجبه، مع أنّ قوله: «لا تكرم الفسّاق» شامل بإطلاقه لمشتبه الفسق ومعلومه، فلازمه اجتماع الحكمين في موضوع واحد بعنوان واحد.

وإن كان كفيلاً للحكم الواقعي والظاهري، فلا بدّ من أخذ الشكّ في الحكم في موضوعه؛ لأنّ أخذ الشكّ في الموضوع لا يصحّح الحكم الظاهري، فكيف يمكن تكفّل العامّ بجعل واحد للحكم الواقعي على الموضوع الواقعي وللحكم الظاهري على مشتبه الحكم مع ترتّبهما ؟ !

كلّ ذلك مع الإغماض عن أنّ الإطلاق ليس بمعنى أخذ جميع العناوين والحالات في الموضوع؛ فإنّ ذلك معنى العموم.

فحينئذٍ كيف يمكن جعل الحكم الظاهري المتقوّم بأخذ الشكّ موضوعاً، وهل هذا إلاّ الجمع بين عدم لحاظ الشكّ موضوعاً ولحاظه كذلك ؟ !

ص: 221


1- تشريح الاُصول: 261 / السطر 7؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 216.

تتميم: في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي

ما مرّ كان حال المخصّصات اللفظية، وأمّا اللبّية فيظهر حالها ممّا مرّ، لكن

بعد تمحيض المقام في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي - وهي متقوّمة بخروج عنوان بالإجماع أو العقل عن تحت حكم العامّ والشكّ في مصداقه - فلا محالة يكون الحكم الجدّي في العامّ على أفراد المخصّص دون المخصّص - بالكسر - ومعه لا مجال للتمسّك بالعامّ لرفع الشبهة الموضوعية؛ لما مرّ.

ومنه يظهر النظر في كلام المحقّق الخراساني، حيث فصّل بين اللبّي الذي يكون كالمخصّص المتّصل وغيره(1)، مع أنّ الفارق بين اللفظي واللبّي من هذه الجهة بلا وجه. ودعوى بناء العقلاء على التمسّك [بالعامّ] في اللبّيات(2) عهدتها عليه.

كما يظهر النظر فيما يظهر من الشيخ الأعظم من التفصيل بين ما يوجب تنويع الموضوعين وتعدّدهما «كالعالم الفاسق» و«العالم الغير الفاسق» فلا يجوز، وبين غيره، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العامّ، وإن علمنا بأ نّه لو فرض في أفراد العامّ من هو فاسق لا يريد إكرامه، فيجوز التمسّك بالعامّ، وإحراز حال الفرد أيضاً. ثمّ فصّل بما لا مزيد عليه في بيانه(3).

ص: 222


1- كفاية الاُصول: 259.
2- كفاية الاُصول: 260.
3- مطارح الأنظار 2: 143.

ولكن الذي يظهر من مجموع كلماته خروجه عن محطّ البحث، ووروده في وادي الشكّ في أصل التخصيص، ومحطّ الكلام في الشكّ في مصداق المخصّص.

وربّما يوجّه كلامه: بأنّ المخصّص ربّما لا يكون معنوناً بعنوان، بل يكون مخرجاً لذوات الأفراد، لكن بحيثية تعليلية وعلّة سارية، فإذا شكّ في مصداق أ نّه محيّث بالحيثية التعليلية يتمسّك بالعامّ(1).

وفيه: أنّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية موضوع لها، فلا يكون المخرج هو الأفراد، بل العنوان، ومعه لا يجوز التمسّك به.

ومع التسليم بخروج ذوات الأفراد يخرج الكلام عن الشبهة المصداقية للمخصّص، مع أنّ الكلام فيها.

ويظهر النظر في كلام بعض الأعاظم؛ حيث فصّل بين اللبّيات التي توجب تقييد موضوع الحكم وتضييقه، وبين ما هو من قبيل إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعاً من دون تقييد الموضوع؛ لعدم صلوح تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه، فاختار الجواز في الأوّل دون الثاني(2).

ويظهر منه الخلط بين محلّ البحث وغيره، فراجع.

ص: 223


1- لمحات الاُصول: 273.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 536 - 537.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل في التمسّك بالعامّ إذا كان الخاصّ معلّلاً

لو ورد: «أكرم كلّ عالم»، ثمّ ورد - منفصلاً - : «لا تكرم زيداً وعمراً وبكراً؛

لأ نّهم فسّاق»، فربّما يقال بجواز التمسّك بالعامّ في مورد الشكّ في مصداق الفاسق؛ فإنّه من قبيل التخصيص الزائد، لا الشبهة المصداقية للمخصّص(1).

وفيه نظر؛ لأنّ الظاهر من إخراج أفراد بجهة تعليلية أنّ المخرج هو العنوان، لا الأشخاص برأسها، ومعه تكون الشبهة في مصداق المخصّص. وكذا الحال في اللبّيات.

التنبيه الثاني في العامّين من وجه المتنافيي الحكم

إذا ورد حكمان متنافيان على عنوانين مستقلّين بينهما عموم من وجه، فقد يكون أحدهما حاكماً على الآخر، فيصير من قبيل المخصّص، فمع الشبهة المصداقية في مصداق الحاكم لا يجوز التمسّك بالعامّ المحكوم؛ لعين ما تقدّم(2).

ص: 224


1- لمحات الاُصول: 275.
2- تقدّم في الصفحة 217.

وإن لم تكن حكومة بينهما: فإن قلنا: بأنّ العامّين من وجه مشمولان لأدلّة التعارض وقدّمنا أحدهما بأحد المرجّحات، أو كانا من قبيل المتزاحمين وقلنا: إنّ المولى ناظر إلى مقام التزاحم فكان حكمه إنشائياً بالنسبة إلى المرجوح، فيكون حاله حال المخصّص، فلا يجوز التمسّك؛ للملاك المتقدّم.

وأمّا إن قلنا: بأنّ الحكمين في المتزاحمين فعليان على موضوعهما، والانطباق الخارجي وعدم القدرة على إطاعتهما لا يوجبان شأنية المرجوح، بل العقل يحكم بمعذورية المكلّف عن امتثال كليهما من غير تغيير في ناحية الحكم، فالظاهر جواز التمسّك في مورد الشكّ في انطباق الدليل المزاحم الذي هو أقوى ملاكاً؛ لأنّ الحكم الفعلي على موضوعه حجّة على المكلّف ما لم يحرز العذر القاطع، ولا يجوز رفع اليد عن الخطاب الفعلي بلا حجّة، نظير الشكّ في القدرة، فإذا أمر المولى بشيء وشكّ المكلّف في قدرته عليه، لا يجوز عقلاً التقاعد عنه لاحتمال العجز؛ لعين ما ذكر.

التنبيه الثالث في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية
اشارة

بعد البناء على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، هل يمكن إحراز المصداق بالأصل وإجراء حكم العامّ عليه مطلقاً، أو لا مطلقاً، أو يفصّل بين المقامات ؟

حجّة القائل بالنفي مطلقاً: أنّ العامّ بعد التخصيص يبقى على تمام الموضوعية

ص: 225

للحكم بلا انقلاب عمّا هو عليه، نظير موت الفرد؛ فرقاً بين التخصيص والتقييد،

فحينئذٍ لا مجال للأصل المذكور؛ إذ الأصل السلبي ليس شأنه إلاّ نفي حكم الخاصّ عنه، لا إثبات حكم العامّ عليه، والفرد مورد العلم الإجمالي بكونه محكوماً بحكم أحدهما بلا تغيير العنوان، ونفي أحد الحكمين بالأصل لا يثبت الآخر.

نعم، لا بأس بالتمسّك بالعامّ من غير احتياج إلى الأصل لو كانت الشبهة المصداقية ناشئة عن الجهل بالمخالفة الذي كان أمر رفعه بيد المولى، مثل الشكّ في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب، ولعلّ بناء المشهور في تمسّكهم بالشبهة المصداقية مختصّ بأمثال المورد(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه: أ نّه إن كان المراد من عدم انقلاب العامّ عدمه بحسب مقام الظهور فلا إشكال فيه، لكن لا يمنع ذلك عن جريان الأصل.

وإن كان المراد أنّ الموضوع بحسب الجدّ بقيّة الأفراد بلا عنوان وتقيّد، فهو ممنوع؛ ضرورة أنّ الخاصّ يكشف عن أنّ الحكم الجدّي متعلّق بأفراد العالم الغير الفاسق، ولا سبيل لإنكار تضييق الموضوع بحسب الجدّ. والقياس بموت الفرد مع الفارق؛ لعدم كون الأدلّة ناظرة إلى حالات الأفراد الخارجية.

وأمّا ما ذكره أخيراً: من جواز التمسّك في الشبهة المصداقية في مخالفة الكتاب؛ لأجل أنّ رفعها بيد المولى، ففي غاية الغرابة؛ لأنّ الكلام في الشبهة المصداقية للمخصّص، ولا شبهة في أنّ رفعها لم يكن بيد المولى، وما بيده رفعها هي الشبهة الحكمية، لا المصداقية ممّا فرضت من الاُمور الخارجية.

ص: 226


1- مقالات الاُصول 1: 444 - 445.

هذا، مع أنّ المثالين يكونان من الاستثناء المتّصل بحسب الأدلّة ممّا لا يجوز التمسّك فيه بالعامّ بلا إشكال.

حجّة القول بجريانه مطلقاً: أنّ مثل تلك الأوصاف - أي القرشية والقابلية للذبح ومخالفة الكتاب والسنّة - من أوصاف الشيء في الوجود الخارجي، لا من لوازم الماهيات، فيمكن أن يشار إلى مرأة، فيقال: «إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها»، فيستصحب عدمها، ويترتّب عليه حكم العامّ؛ لأنّ الخارج من العامّ هو المرأة التي من قريش، والتي لم تكن منه بقيت تحته، فيحرز موضوع حكم العامّ بالأصل(1).

وقد يقال في تقريبه: إنّ العامّ شامل لجميع العناوين، وما خرج منه هو عنوان

الخاصّ، وبقي سائرها تحته، فمع استصحاب عدم انتساب المرأة إلى قريش أو عدم قرشيتها ينقّح موضوع العامّ(2).

وقد يقال: إنّ أخذ عرض في موضوع حكم بنحو النعتية ومفاد «كان»

الناقصة، لا يقتضي أخذ عدمه نعتاً في موضوع عدم ذلك الحكم؛ ضرورة أنّ ارتفاع الموضوع المقيّد بما هو مفاد «كان» الناقصة إنّما يكون بعدم اتّصاف الذات بذلك القيد على نحو السالبة المحصّلة، لا على نحو «ليس» الناقصة. فمفاد قضيّة «المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية»: أنّ المرأة التي لا تكون متّصفة بكونها من قريش تحيض إلى خمسين، لا المرأة المتّصفة بأن لا تكون

ص: 227


1- أفاده المحقّق الحائري في مجلس درسه على ما حكي عنه. اُنظر معتمد الاُصول 1: 290؛ تنقيح الاُصول 2: 361.
2- كفاية الاُصول: 261.

منه، والفرق بينهما: أنّ القضيّة الاُولى سالبة محصّلة، والثانية مفاد «ليس»

الناقصة، فلا مانع من جريان الأصل لإحراز موضوع العامّ(1).

التحقيق في جريان الأصل المحرز لموضوع العامّ
اشارة

ونحن قد استقصينا البحث عن هذا الأصل في البراءة(2) والاستصحاب(3)، لكن نشير إلى ما هو التحقيق إجمالاً، وهو يتوقّف على مقدّمات:

الاُولى: أقسام القضايا بلحاظ النسبة

قد تقدّم(4) في وضع الهيئات أنّ القضايا على قسمين: حملية غير مؤوّلة، وحملية مؤوّلة. والقسم الأوّل لا يشتمل على النسبة، لا موجباتها ولا سوالبها، بل تحكي القضيّة بهيئتها عن الهوهوية إيجاباً أو سلباً، كقوله: «الإنسان حيوان ناطق»، و«زيد إنسان، أو موجود، أو أبيض»، وأضرابها.

والقسم الثاني يشتمل على النسبة، لكن موجباتها تحكي عن تحقّق النسبة الواقعية، وفي السوالب تتخلّل أداة النسبة لورود السلب عليها، فتحكي السوالب عن عدم تحقّقها واقعاً، ف- «زيد على السطح» يحكي عن تحقّق النسبة والكون الرابط، و«زيد ليس على السطح» عن عدمه.

ص: 228


1- أجود التقريرات 2: 333، الهامش.
2- أنوار الهداية 2: 93.
3- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 104 - 114.
4- تقدّم في الجزء الأوّل: 45 - 49.

ولا يخفى: أنّ الكون الرابط يختصّ بموجبات تلك القضايا، وأمّا القسم الأوّل فلا يشتمل عليه ولا يحكي عنه؛ لعدم تحقّق النسبة والكون الرابط بين الشيء ونفسه أو متّحداته. وكذا السوالب لا تحكي عنهما، بل تدلّ على رفعهما وقطعهما.

الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا

إنّ المناط في احتمال الصدق والكذب في القضايا هو الحكاية التصديقية، سواء كانت عن الهوهوية إثباتاً ونفياً أو عن الكون الرابط كذلك، والدالّ على الحكاية التصديقية هيئات الجمل الخبرية، فقوله: «زيد إنسان» مشتمل على موضوع ومحمول وهيئة حاكية عن الهوهوية الواقعية، ولا يشتمل على النسبة، وقوله: «زيد له القيام، أو على السطح» مشتمل على موضوع ومحمول وحرف دالّ على النسبة وهيئة دالّة على الحكاية التصديقية عن تحقّق القيام له أو كونه على السطح.

وبالجملة: ما يجعل الكلام محتملاً للصدق والكذب هو الحكاية التصديقية عن نفس الأمر، لا النسبة؛ ضرورة عدم إمكان اشتمال الحمليات الغير المؤوّلة على النسبة مع احتمال الصدق والكذب فيها.

فما اشتهر بينهم: أنّ النسبة تامّة وناقصة، ليس على ما ينبغي؛ فإنّها في جميع الموارد على نهج واحد، فالنسبة في قوله: «زيد له القيام»، وقوله: «زيد الذي له القيام» بمعنىً واحد، وإنّما الفرق بين الجملتين بهيئتهما؛ فإنّ الهيئة الخبرية وضعت للحكاية التصديقية بخلاف غيرها.

ص: 229

ثمّ إنّ مناط الصدق والكذب هو مطابقة الحكاية لنفس الأمر وعدمها، فقولنا: «الله تعالى موجود» حكاية تصديقية عن الهوهوية بين الموضوع والمحمول، ومطابق لنفس الأمر، بخلاف: «الله له الوجود» فإنّه حكاية تصديقية عن عروض الوجود له تعالى، وهو مخالف للواقع، وقولنا: «شريك الباري ليس بموجود» مطابق لنفس الأمر؛ لأ نّه حكاية عن خلوّ صفحة الوجود عنه، والواقع كذلك، بخلاف: «شريك الباري غير موجود، أو لا موجود» بنحو الإيجاب العدولي؛ لأنّ الموجبة مطلقاً تحتاج إلى وجود الموضوع في ظرف الإخبار، وشريك الباري ليس في نفس الأمر شيئاً ثابتاً له غير الموجودية، إلاّ أن يؤوّل بالسالبة المحصّلة، كالتأوّل في مثل: «شريك الباري ممتنع، أو معدوم».

فتحصّل: أنّ مناط الصدق والكذب في السوالب مطابقة الحكاية التصديقية لنفس الأمر؛ بمعنى أنّ الحكاية عن سلب الهوهوية أو سلب الكون الرابط كانت مطابقة للواقع، لا بمعنى أنّ لمحكيّها نحو واقعية بحسب نفس الأمر؛ ضرورة عدم واقعية للأعدام.

الثالثة: القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع

القضيّة موجبة وسالبة، وكلّ منهما بسيطة ومركّبة، وكلّ منهما محصّلة أو غيرها. والموجبة المحصّلة نحو: «زيد قائم»، والمعدولة نحو: «زيد لا قائم»، والموجبة السالبة المحمول نحو: «زيد هو الذي ليس بقائم»، كلّها تحتاج إلى وجود الموضوع؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، سواء كان الثابت وجودياً أو لا، وكذا اتّحاد شيء مع شيء في ظرف، فرع تحقّقهما فيه.

ص: 230

ففي قوله: «زيد لا قائم» اعتبرت الهوهوية بين زيد وعنوان اللا قائم، والاتّحاد في ظرف فرع تحقّق المتّحدين بنحو، ولهذا قلنا: إنّ المعتبر في المعدولات كون الأعدام من قبيل أعدام الملكات؛ حتّى يكون لملكاتها نحو تحقّق، فلا يصدق قوله: «الجدار لا بصير» ويصدق «الإنسان لا بصير»؛ أي يتّحد مع حيثية هي لا بصيرية قابلة للفعلية.

وكذا الحال في الموجبة السالبة المحمول؛ فإنّ قولنا: «زيد هو الذي ليس له القيام» يرجع إلى توصيف زيد بثبوت وصف عدمي له، أو توصيفه بعدم ثبوت وصف له، فلا بدّ له من وجود الموضوع، وكون المحمول جائز الثبوت له ممّا له نحو ثبوت، كأعدام الملكات مثلاً. فجميع الموجبات معتبر فيها وجود الموضوع، حتّى التي تكون محمولاتها سالبة.

الرابعة: ضرورية كون موضوع الحكم مفرداً

موضوع الحكم سواء كان في الجملة الخبرية أو الإنشائية لا بدّ وأن يكون مفرداً أو في حكمه، كالجمل الناقصة، ولا يمكن جعل الجملة الخبرية - موجبة كانت أو سالبة - موضوعاً لحكم إخباري أو إنشائي؛ لأنّ الحكاية عن موضوع الحكم لا بدّ وأن تكون تصوّرية مقدّمة للحكاية التصديقية المتقوّمة بالهيئة الخبرية، ومقدّمة لجعل الحكم عليه، وهي لا تجتمع مع الحكاية التصديقية التي بها تمّت الجملة، ولا يجتمع النقص والتمام والحكاية التصديقية والتصوّرية في جملة واحدة وحال واحد ولو بتكثّر الاعتبار.

فلو قلت: «زيد قائم غير عمرو قاعد»، لم تكن الحكاية التصديقية فيه إلاّ

ص: 231

عن مغايرة الجملتين، لا عن قيام زيد وقعود عمرو. وكذا الحال في موضوع الأحكام الإنشائية.

نعم، يمكن أن يجعل موضوعهما جملاً ناقصة إذا خرجت عن النقص تكون موجبة أو سالبة محصّلة، مثل: «زيد ليس بقائم غير عمرو ليس بقاعد»، أو موجبة وسالبة معدولة أو سالبة المحمول، مثل: «المرأة الغير القرشية كذا»، أو «المرأة التي ليست بقرشية كذا».

الخامسة: في اعتبارات موضوع العامّ المخصَّص

قد عرفت فيما تقدّم: أنّ الخاصّ سواء كان بنحو الاستثناء أو الانفصال يكشف عن تضييق ما هو موضوع العامّ، وتقييده بحسب الإرادة الجدّية.

ولا يمكن تعلّق الحكم الفعلي الجدّي بوجوب إكرام كلّ عالم بلا قيد، مع كونه مخصّصاً بعدم إكرام الفسّاق منهم، لا لأجل التضادّ بين الحكمين؛ حتّى يقال: إنّه مرفوع بتكثّر الموضوع في ذاتهما، بل لأجل أنّ المولى الملتفت إلى موضوع حكمه لا تتعلّق إرادته الجدّية بالحكم عليه إلاّ بعد تحقّق المقتضي وعدم المانع. فإذا رأى أنّ في إكرام العلماء العدول مصلحة لا غيرهم فلا تتعلّق إرادته إلاّ بإكرامهم، أو رأى أنّ في إكرام عدولهم مصلحة بلا مفسدة، وفي إكرام فسّاقهم مصلحة مع مفسدة راجحة، تتعلّق إرادته بإكرام عدولهم، أو ما عدا فسّاقهم.

وليس باب التخصيص كباب التزاحم حتّى يقال: إنّ المزاحمة في مقام العمل لا توجب رفع فعلية الحكم عن موضوعه.

ص: 232

فحينئذٍ نقول: إنّ موضوع العامّ بعد التخصيص بحسب الحكم الفعلي الجدّي يمكن أن يكون متقيّداً بنحو العدم النعتي على حذو العدول، مثل: «العلماء الغير الفسّاق» و«المرأة الغير القرشية»، ويمكن أن يكون بنحو العدم النعتي على حذو الموجبة السالبة المحمول، مثل: «العلماء الذين لا يكونون فسّاقاً»، أو «المرأة التي لا تتّصف بأ نّها قرشية، أو لا تكون قرشية».

وأمّا كون الموضوع على حذو السالبة المحصّلة الصادقة مع عدم الموضوع، فغير معقول؛ للزوم جعل الحكم على المعدوم بما هو معدوم، فهل يمكن أن يقال: «إنّ المرأة ترى الدم إلى خمسين إذا لم تكن من قريش» بنحو السلب التحصيلي الصادق مع سلب الموضوع، فيرجع إلى أنّ المرأة التي لم توجد ترى الدم ؟ ! فلا بدّ من فرض وجود الموضوع، فيكون الحكم متعلّقاً بالمرأة الموجودة إذا لم تكن من قريش، وهذا إن لم يرجع إلى التقييد بهذا السلب يكون قسماً ثالثاً.

فالاعتبارات التي يمكن أن تؤخذ في موضوع العامّ المخصّص لا تخلو عن العدم النعتي العدولي، أو السالبة المحمول، أو السلب التحصيلي مع اعتبار وجود الموضوع لو لم يرجع إلى التقييد والنعت.

التحقيق في المقام

إذا عرفت ذلك فالتحقيق: جريان الأصل وإحراز مصداق العامّ فيما إذا كان الفرد موجوداً متّصفاً بعنوان العامّ أو بغير عنوان الخاصّ سابقاً، كما لو كان فرد من العلماء عادلاً، فشكّ في بقاء عدالته.

ص: 233

كما يجري ويحرز فيما إذا علم بوجود العالِم متّصفاً بعدم الفسق وشكّ في بقاء علمه، فيقال: إنّ زيداً كان عالماً غير فاسق، فشكّ في بقاء علمه، فيستصحب عنوان العامّ المخصّص، ويحرز الموضوع.

نعم، لو كان زيد غير فاسق، وشكّ في بقاء عدمه النعتي، ولكن لم يكن علمه في حال عدم فسقه متيقّناً حتّى يكون المعلوم العالم الغير الفاسق، ولكن علم أ نّه عالم في الحال، لم يمكن إحراز موضوع العامّ بالأصل والوجدان؛ لأنّ استصحاب عدم كون زيد فاسقاً، أو كونه غير فاسق، مع العلم بأ نّه عالم في الحال، لا يثبت زيداً العالم الغير الفاسق لإحراز موضوع العامّ إلاّ بالأصل المثبت.

وبعبارة اُخرى: إنّ موضوعه هو العالم المتّصف بعدم كونه فاسقاً، فجزؤه عدم نعتي للعالم، وهو غير مسبوق باليقين، وما هو مسبوق به هو زيد المتّصف بعدم الفسق، وهو ليس جزءه، واستصحاب العدم النعتي لعنوان لا يثبت العدم النعتي لعنوان متّحد معه إلاّ بحكم العقل، وهو مثبت، وتعلّق العلم بأنّ زيداً العالم -

في الحال - لم يكن فاسقاً بنحو السلب التحصيلي لا يفيد؛ لعدم كونه بهذا الاعتبار موضوعاً للحكم.

ومن هذا ظهر عدم إمكان إحراز جزأي الموضوع بالأصل، إذا شكّ في علمه وعدالته مع العلم باتّصافه بهما سابقاً لو لم يعلم اتّصافه بهما في زمان واحد حتّى يكون «العالم الغير الفاسق» مسبوقاً باليقين، فالمناط في صحّة الإحراز هو مسبوقية العدم النعتي لعنوان العامّ، لا العدم النعتي مطلقاً، فتبصّر.

وأمّا إذا كان الاتّصاف واللا اتّصاف ملازمين لوجوده، كالقابلية واللا قابلية للذبح في الحيوان، والقرشية واللا قرشية في المرأة، والمخالفة وعدمها للكتاب

ص: 234

في الشرط، فجريان الأصل لإحراز مصداق العامّ ممّا لا مجال له، سواء قلنا: بأنّ الوصف من قبيل العدم النعتي بنحو العدول، كما إذا قلنا: بأنّ المستفاد من العامّ بعد التخصيص كون الموضوع هو المرأة الغير القرشية، والشرط الغير المخالف... وهكذا، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول، كالمرأة التي ليست بالقرشية، والشرط الذي ليس مخالفاً للكتاب.

وذلك لما عرفت: من أنّ الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول يحتاجان إلى الموضوع؛ فإنّ في كلّ منهما يكون الموضوع متّصفاً بوصف، فكما أنّ المرأة الغير القرشية تتّصف بهذه الصفة، كذلك المرأة التي لم تتّصف بالقرشية، أو لم تكن قرشية، موصوفة بوصف أ نّها لم تتّصف بذلك، أو لم تكن كذلك.

والفرق بالعدول وسلب المحمول غير فارق فيما نحن فيه، فالمرأة قبل وجودها كما لا تتّصف بأ نّها غير قرشية؛ لأنّ الاتّصاف بشيء فرع وجود الموصوف، كذلك لا تتّصف بأ نّها هي التي لا تتّصف بها؛ لعين ما ذكر.

وتوهّم أنّ الثاني من قبيل السلب التحصيلي ناشٍ من الخلط بين الموجبة السالبة المحمول وبين السالبة المحصّلة. والقيد في العامّ - بعد التخصيص - يتردّد بين التقييد بنحو الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول، ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي؛ ممّا لا يوجب تقييداً في الموضوع.

ولو سلّم أنّ الموضوع بعده «العالم» مسلوباً عنه الفسق بالسلب التحصيلي، فلا يجري فيه الأصل أيضاً لإحرازه؛ إذ قد عرفت أنّ السلب التحصيلي الأعمّ من وجود الموضوع لا يعقل جعله موضوعاً، فلا بدّ من أخذ الموضوع مفروض الوجود، فيكون العالم الموجود إذا لم يكن فاسقاً موضوعاً.

ص: 235

وهذا - مضافاً إلى كونه مجرّد فرض - أنّ صحّة الاستصحاب فيه منوطة بوحدة القضيّة المتيقّنة مع المشكوك فيها، وهي مفقودة؛ لأنّ الشيء لم يكن قبل وجوده شيئاً لا ماهيةً ولا وجوداً، والمعدوم لا يقبل الإشارة لا حسّاً ولا عقلاً، فلا تكون هذه المرأة الموجودة قبل وجودها هذه المرأة، بل تكون تلك الإشارة من اُكذوبة الواهمة واختراعاتها.

فالمرأة المشار إليها في حال الوجود ليست موضوعة للقضيّة المتيقّنة الحاكية عن ظرف العدم؛ لما عرفت: أنّ القضايا السالبة لا تحكي عن النسبة، ولا عن الوجود الرابط، ولا عن الهوهوية بوجه، فلا تكون للنسبة السلبية واقعية حتّى تكون القضيّة حاكية عنها، فانتساب هذه المرأة إلى قريش مسلوب أزلاً؛ بمعنى مسلوبية هذية المرأة وقريش والانتساب، لا بمعنى مسلوبية الانتساب عن هذه المرأة وقريش، وإلاّ يلزم كون الأعدام متمايزة حال عدمها، وهو واضح الفساد، فالقضيّة المتيقّنة غير القضيّة المشكوك فيها.

بل لو سلّم وحدتهما كان الأصل مثبتاً؛ لأنّ المتيقّن هو عدم كون هذه المرأة

قرشية باعتبار سلب الموضوع، أو الأعمّ منه ومن سلب المحمول، واستصحاب ذلك وإثبات الحكم للقسم المقابل أو للأخصّ مثبت؛ لأنّ انطباق العامّ على الخاصّ - في ظرف الوجود - عقلي، وهذا كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار وإثبات حكم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا: عدم جريان استصحاب الأعدام الأزلية في أمثال المقام مطلقاً.

ص: 236

التنبيه الرابع في التمسّك بعمومات النذر وأمثاله لكشف حال الفرد

قد عرفت عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص، فلا مجال للتمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر إذا شكّ في صحّة الوضوء بمائع مضاف، فضلاً عن دعوى كشف حال الفرد والحكم بصحّته مطلقاً؛ ضرورة أنّ العموم قد خصّ بمثل: «لا نذر إلاّ في طاعة الله»(1) أو قيّد به، فلا بدّ من إحراز الموضوع للحكم بالوجوب، والعامّ غير كفيل له، فضلاً عن كفالته لكشف الصحّة وكونه طاعةً لله، أو لكشف إطلاق الماء مع الشكّ فيه.

هذا، وقد أيّد المحقّق الخراساني(2) تلك الدعوى بما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات(3) والصوم في السفر(4) إذا تعلّق بهما النذر، وأضاف شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - نذر النافلة قبل(5) الفريضة(6)، مع أنّ الأمثلة غير مربوطة بالدعوى؛ لأنّ المدّعى التمسّك بالعامّ المخصّص لكشف حال الفرد، وهي ليست من هذا القبيل؛ فإنّ الإحرام قبل الميقات حرام، وبالنذر يصير واجباً

ص: 237


1- اُنظر وسائل الشيعة 23: 317، كتاب النذر والعهد، الباب 17.
2- كفاية الاُصول: 262.
3- راجع وسائل الشيعة 11: 326، كتاب الحجّ، أبواب المواقيت، الباب 13.
4- راجع وسائل الشيعة 10: 195، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 10، الحديث 1 و7.
5- في المصدر: وقت الفريضة.
6- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 220.

بدلالة الأخبار، وكذا الصوم في السفر، وصيرورة الشيء بالنذر واجباً بدليل خاصّ غير التمسّك بالعموم لكشف حال الفرد.

التنبيه الخامس التمسّك بالعامّ لكشف حال الفرد عند الشكّ بين التخصيص والتخصّص

لو علم عدم محكومية فرد بحكم العامّ، ودار أمره بين التخصيص والتخصّص، فهل يجوز التمسّك بأصالة العموم لكشف حال الفرد، فيقال: إنّ إكرام جميع العلماء واجب بحكم أصالة العموم، فإذا لم يجب إكرام شخص يستكشف أ نّه ليس بعالم بحكم عكس النقيض، كما أنّ صدق «كلّ نار حارّة» ملازم لصدق «كلّ ما لم يكن حارّاً لم يكن ناراً»(1) ؟

الظاهر: عدم جواز التمسّك، لا لما ذكره المحقّق الخراساني(2)، وقرّره تلميذه المحقّق في مقالاته: من أنّ أصالة العموم وإن كانت حجّة، لكن غير قابلة لإثبات اللوازم، ومثبتات هذا الأصل كسائر الاُصول المثبتة؛ مع كونه أمارة في نفسه، فحينئذٍ لا مجال للتمسّك بعكس النقيض؛ فإنّه وإن كان لازماً عقلياً للعامّ، لكن ذلك اللازم إنّما يترتّب عليه لو فرض حجّية أصالة العموم لإثبات لازم المدلول.

ووجه التفكيك بين اللازم والملزوم عدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم نفياً وإثباتاً، وإنّما نظره إلى إثبات الكبرى، كما هو المبنى في عدم

ص: 238


1- راجع مطارح الأنظار 2: 149 - 150.
2- كفاية الاُصول: 264.

جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، وما نحن فيه أيضاً مبنيّ على

هذه الجهة(1)، انتهى ملخّصاً.

وذلك لأنّ عكس النقيض لازم للكبرى الكلّية، ولا يلزم أن يكون العامّ ناظراً

إلى تعيين الصغرى في لزومه لها، فإذا سلّم جريان أصالة العموم وكونها أمارة، فلا مجال لإنكار حجّيتها بالنسبة إلى لازمها [غير المنفكّ]، فلا يصحّ أن يقال: إنّ العقلاء يحكمون بأنّ كلّ فرد من العامّ محكوم بحكم العامّ واقعاً ومراد جدّاً من غير استثناء، ومعه يحتمل عندهم أن يكون فرد منه غير محكوم بحكمه، إلاّ أن يلتزم بأ نّها أصل تعبّدي لا أمارة.

بل عدم الصحّة لأجل عدم جريانها في مثل المقام؛ لأنّ المتيقّن من جريانها إنّما هو لكشف مراد المتكلّم، وأمّا مع العلم بمراده والشكّ في جهات اُخر فلا تجري، لا أ نّها جارية ومنفكّة عن لازمها، وهذا نظير أصالة الحقيقة التي [هي] جارية مع الشكّ في المراد لا لكشف الوضع، فبعد العلم بعدم وجوب إكرام شخص لا أصل يحرز أ نّه من قبيل التخصيص أو التخصّص، فتدبّر.

التنبيه السادس في دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لإجمال الخاصّ

لو دلّ دليل منفصلاً على عدم وجوب إكرام زيد وكان مردّداً بين الجاهل والعالم، فالظاهر جواز التمسّك بالعامّ لوجوب إكرام العالم منهما؛ لأنّ المجمل

ص: 239


1- مقالات الاُصول 1: 450 - 451.

المردّد ليس بحجّة بالنسبة إلى العالم، والعامّ حجّة بلا دافع.

فحينئذٍ لو كان الخاصّ حكماً إلزامياً كحرمة الإكرام، أمكن أن يقال بانحلال

العلم؛ بمعنى أنّ أصالة العموم حاكمة بأنّ زيداً العالم يجب إكرامه، ولازمه عدم حرمة إكرامه، ولازمه حرمة إكرام زيد الجاهل؛ لحجّية مثبتات الاُصول اللفظية، فتنحلّ بذلك - حكماً - الحجّة الإجمالية التي لولا العامّ لوجب بحكم العقل متابعتها، وعدم جواز إكرام واحد منهما.

وقد سوّى الشيخ الأعظم بين الفرض والذي تقدّم في الأمر الخامس، قائلاً: بأ نّه على ذلك - أي جواز التمسّك - جرى ديدن العلماء في مباحثهم الفقهية(1).

ص: 240


1- مطارح الأنظار 2: 150.

الفصل الثالث هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص ؟

اشارة

ينبغي تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ محطّ البحث على ما صرّح به المحقّق الخراساني(1) إنّما هو بعد الفراغ عن أنّ حجّية أصالة العموم من باب الظنّ النوعي لا الظنّ الخاصّ، وبعد الفراغ عن حجّيتها بالنسبة إلى المشافه وغيره، وبعد الفراغ عن عدم العلم الإجمالي بالتخصيص؛ ضرورة أ نّه لو كانت الحجّية للظنّ الشخصي لكانت تابعة لحصوله، ولا مدخل للفحص وعدمه فيه، وأ نّه مع العلم الإجمالي لا مجال لإنكار الفحص إلى أن ينحلّ العلم.

ولكن ظاهرهم أعمّية البحث هاهنا؛ لتمسّكهم بالعلم الإجمالي بالمخصّص، ونحن نبحث على فرض العلم وعدمه.

الأمر الثاني: لا إشكال في أنّ البحث منحصر بالمنفصلات، دون المتّصلات

ص: 241


1- كفاية الاُصول: 264.

باحتمال عدم الوصول؛ لعدم اعتناء العقلاء به؛ لأنّ احتماله منحصر بسقوطه عمداً أو خطأً أو نسياناً، والأوّل مخالف لفرض وثاقة الراوي، والأخيران مخالفان للأصل العقلائي، وسيظهر أنّ مناط لزوم الفحص ليس في المتّصل.

الأمر الثالث: فرّق المحقّق الخراساني بين الفحص هاهنا وبينه في الاُصول العملية، قائلاً: بأنّ الفحص هاهنا عمّا يزاحم الحجّة، بخلافه هناك؛ فإنّه من متمّماتها؛ ضرورة أنّ العقل لا يستقلّ بقبح العقاب مع البيان الواصل بنحو متعارف، وإن لم يصل إلى المكلّف بواسطة عدم فحصه(1).

والتحقيق: أنّ الفحص هاهنا أيضاً عن متمّم الحجّية، لا عن مزاحمها، ويتّضح بعد بيان دليل لزوم الفحص(2)، فانتظر.

الأمر الرابع: أنّ البحث لا يختصّ بالعامّ ولا بالأدلّة اللفظية، بل يجري في المطلق قبل الفحص عن المقيّد، وفي الظاهر قبل الفحص عن معارضه، وفي الاُصول العقلية قبل الفحص عن الأدلّة، ومناط الجميع واحد، كما سيتّضح لك.

الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بمعرضية العامّ للتخصيص

إذا عرفت ما تقدّم: فالتحقيق ما أفاد المحقّق الخراساني في المقام(3)، وتوضيحه: أنّ الشارع لم يسلك في مخاطباته غير ما سلك العقلاء، بل جرى في قوانينه على ما جرت به عادة العقلاء وسيرتهم. لكن ديدنهم في المخاطبات

ص: 242


1- كفاية الاُصول: 265 - 266.
2- يأتي في الصفحة 243 - 244.
3- كفاية الاُصول: 365.

العادية والمحاورات الشخصية بين الموالي والعبيد وغيرهم عدم [فصل] المخصّصات والمقيّدات والقرائن، ولهذا تكون العمومات والمطلقات الصادرة منهم في محيط المحاورات حجّة بلا احتياج إلى الفحص، ولا يعتني العقلاء باحتمال المخصّص والمقيّد المنفصلين، ويعملون بالعمومات والإطلاقات بلا انتظار.

هذا حال المحاورات الشخصية.

وأمّا حال وضع القوانين وتشريع الشرائع لدى جميع العقلاء، فغير حال المحاورات الشخصية، فترى أنّ ديدنهم في وضع القوانين ذكر العمومات والمطلقات في فصل ومادّة، وذكر مخصّصاتها ومقيّداتها وحدودها تدريجاً ونجوماً في فصول اُخر.

والشارع الصادع جرى في ذلك على ما جرت به طريقة كافّة العقلاء، فترى أنّ القوانين الكلّية في الكتاب والسنّة منفصلة عن مخصّصاتها ومقيّداتها، فالأحكام والقوانين نزلت على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم نجوماً في سنين متمادية، وبلّغها حسب المتعارف في تبليغ القوانين للاُمّة، وجمع علماؤها بتعليم أهل بيت الوحي القوانين في اُصولهم وكتبهم.

فإذن تكون أحكامه تعالى قوانين مدوّنة في الكتاب والسنّة، والعمومات والمطلقات التي فيها في معرض التخصيص والتقييد حسب ديدن العقلاء في وضع القوانين السياسية والمدنية، وما هذا حاله ليس بناء العقلاء على التمسّك [فيه] بالاُصول بمجرّد العثور على العمومات والمطلقات من غير فحص؛ لأنّ كونهما في معرض المعارضات يمنعهم عن إجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجدّ، ولا يكون العامّ حجّة إلاّ بعد جريان هذا الأصل العقلائي، وإلاّ فبمجرّد

ص: 243

ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة والظهور لا تتمّ الحجّية، فأصالة التطابق من متمّماتها لدى العقلاء.

وقد ظهر ممّا ذكرنا اُمور:

منها: أنّ المناط في الفحص ليس العلم الإجمالي، بل مع عدم العلم أيضاً يجب الفحص.

ومنها: أنّ الفحص هاهنا أيضاً عن متمّم الحجّة، لا عن مزاحمها، فكما أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تجري إلاّ بعد الفحص؛ لتحقّق التبليغ من قِبل الشارع وعلماء الاُ مّة بالجمع في الكتب، ولا عذر للعبد في ترك الفحص، كذلك الاحتجاج بالعمومات والمطلقات والعمل بها لا يجوز إلاّ بعد الفحص، فيكون ذلك مقدّمة لإجراء الأصل العقلائي، وبه تتمّ الحجّة.

إن قلت: ما ذكرت غير صحيح؛ لما ذكرت في باب التعادل والتراجيح: من أنّ المطلقات حجّة فعلية غير معلّقة على المقيّدات الواقعية، بل هي بعد وصولها من قبيل المزاحم، ويتمّ بها أمد الحجّية(1).

قلت: حيثية البحث ها هنا غيرها هناك؛ لأنّ الكلام هاهنا في لزوم الفحص، وقد عرفت عدم حجّية عامّ ولا مطلق إلاّ بعده، وأمّا بعد الفحص المتعارف فيصيران حجّة فعلية، فلو عثرنا بعده على مقيّد ينتهي به أمد الحجّية، ولا يكون المطلق معلّقاً على عدم البيان الواقعي؛ بحيث يكون العثور عليه كاشفاً عن عدم حجّيته. وبالجملة: لا فرق بين العامّ والمطلق من هذه الجهة.

هذا كلّه فيما إذا كان المستند غير العلم الإجمالي.

ص: 244


1- التعادل والترجيح، الإمام الخميني قدّس سرّه : 40.

الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بالعلم الإجمالي

وأمّا الكلام فيه فقد استدلّ له: بأ نّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات ومقيّدات

في الشريعة، فلا محيص عن الفحص عنها(1).

وقد استشكل عليه تارةً: بأنّ الدليل أعمّ من المدّعى؛ لأنّ الفحص اللازم في الكتب التي بأيدينا لا يرفع أثر العلم؛ لكونه متعلّقاً بالمخصّصات في الشريعة، لا في الكتب فقط، فلا بدّ من الاحتياط حتّى بعد الفحص.

واُخرى: بأ نّه أخصّ منه؛ لأنّ العلم إذا صار منحلاًّ بمقدار العثور على المتيقّن لا بدّ من الالتزام بجواز التمسّك، والقوم لا يلتزمون به(2).

فأجابوا عن الأوّل: بأنّ العلم الإجمالي لا يتعلّق إلاّ بما في الكتب التي بأيدينا دون غيرها(3).

وهذه الدعوى قريبة؛ فإنّ العلم بالمخصّصات الصالحة للاحتجاج وجداني بالنسبة إلى الكتب التي بأيدينا، وأمّا في غيرها فلا علم لنا بوجود اُصول مفقودة ضائعة، فضلاً عن العلم باشتمالها على المخصّصات الكذائية، فضلاً عن كونها غير ما في الكتب الموجودة، وإنّما ادّعى بعض فقدان بعض الاُصول على نحو الإجمال، ومثله لا يورث علماً بأصلها، فضلاً عن مشتملاتها.

وأجاب بعض المحقّقين عن الثاني: بأنّ مقدار المعلوم وإن كان معلوماً بحيث

ص: 245


1- الفصول الغروية: 200 / السطر 29؛ اُنظر مطارح الأنظار 2: 177.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 414 - 415؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 542 - 543 و4: 278 - 279.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 542 و4: 280.

ينتهي الزائد إلى الشكّ البدوي، لكن هذا المقدار إذا كان مردّداً بين محتملات

متباينات منتشرات في أبواب الفقه من أوّله إلى آخره تصير جميع الشكوك في تمام الأبواب طرف العلم، فيمنع عن الأخذ به قبل الفحص، وفي هذه الصورة لا يفيد الظفر بالمعارض بمقدار المعلوم؛ إذ مثل هذا العلم الحاصل جديداً بكون المعلوم بالإجمال في غير الشكوك الباقية التي كانت طرفاً من الأوّل للاحتمال في المتباينات - نظير العلوم الحاصلة بعد العلم الإجمالي - غير قابلة للانحلال، فالاحتمال الذي [كان طرفاً] من الأوّل منجّز(1).

وفيه: أ نّه بعد الاعتراف بأنّ للمعلوم قدراً متيقّناً، فإن كان العلم تعلّق بانتشاره في جميع الفقه - بحيث يكون في كلّ باب طائفة منه - فيكون له علمان: أحدهما بأصل المخصّص بمقدار محدود، وثانيهما بانتشاره في الأبواب من الأوّل إلى الآخر.

فحينئذٍ إن عثر على المقدار المعلوم في ضمن الفحص في جميع الأبواب، فلا مجال لعدم الانحلال ولو حكماً؛ ضرورة احتمال انطباق المعلوم من الأوّل على هذا المقدار، فلا يبقى أثر للعلم.

وإن عثر عليه في بعض الأبواب قبل الفحص في سائرها فلا محالة يخطأ أحد علميه: إمّا علمه بالمقدار المحدود، فيتجدّد له علم آخر بوجود المخصّص في سائر الأبواب، وهو خلاف المفروض.

وإمّا علمه بالانتشار في جميع الأبواب، فلا محيص عن الانحلال.

وأجاب بعض الأعاظم عنه بما حاصله: أنّ العلم الإجمالي تارةً: يكون غير

ص: 246


1- مقالات الاُصول 1: 456.

معلّم بعلامة، ومثله ينحلّ بعد العثور على المقدار المتيقّن؛ لأنّ هذا المقدار من أوّل الأمر معلوم، والزائد مشكوك فيه.

واُخرى: يكون معلّماً بعلامة، ومثله لا ينحلّ بذلك؛ لعدم الرجوع إلى العلم بالأقلّ والشكّ في الأكثر من أوّل الأمر، بل يتعلّق العلم بجميع الأطراف؛ بحيث لو كان الأكثر واجباً لكان ممّا تعلّق به وتنجّز بسببه، وليس الأكثر مشكوكاً فيه من أوّل الأمر، كما إذا علم بأ نّه مديون لزيد بما في الدفتر، فإنّ جميع ما فيه من دين زيد تعلّق به العلم؛ لمكان وجوده فيه، وتعلّق العلم بجميع ما فيه، وأين هذا ممّا كان دينه من أوّل الأمر مردّداً بين الأقلّ والأكثر ؟ !

فلنا علمان: أحدهما تعلّق بما في الدفتر، ومقتضٍ للتنجّز بجميع ما فيه، والثاني بأنّ دين زيد عشرة أو خمسة. والثاني لا يقتضي الاحتياط، واللا مقتضي لا يزاحم المقتضي.

ونظيره: ما إذا علم بأنّ البيض في هذا القطيع موطوءة، فأوجب العلم التنجيز بالنسبة إلى كلّ أبيض فيه، فلو عثر على مقدار متيقّن من البيض الموطوءة، فليس له إجراء أصالة الحلّ بالنسبة إلى الزائد(1)، انتهى.

وفيه ما لا يخفى؛ ضرورة أنّ العلم الإجمالي إذا تعلّق بعنوان غير ذي أثر لا يوجب التنجّز بذلك العنوان، فلا بدّ من لحاظ ما له أثر، فإن دار أمره بين الأقلّ والأكثر ينحلّ العلم بلا ريب، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الكون في الكتب كالكون في الدفتر ممّا لم يكن موضوعاً ولا جزء موضوع لحكم، وما هو الموضوع للأثر نفس المخصّصات، والكتب ظرفها بلا دخالة في التأثير.

ص: 247


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 543 - 545.

وهذا نظير ما إذا كانت دنانير مردّدة بين الأقلّ والأكثر في كيس فأتلفه، فلا إشكال في تعلّق علمه بأنّ ما في الكيس صار مضموناً عليه، سواء كان أقلّ أو أكثر، لكن مجرّد ذلك لا يوجب إصابة العلم بالأكثر، بل لا يزيد عن الدوران بين الأقلّ والأكثر بالبداهة. فلو كانت أمثال تلك العلامات موجبة لتنجّز الأكثر فما من مورد إلاّ وينطبق على المعلوم عنوان نظير ما ذكر، مثل: «ما في الكيس»، «ما في الدار»، «ما أقرضني»، «ما سلّم إليّ»، وأشباهها.

وما ادّعى: من أنّ العلم إذا تعلّق بما في الدفتر يوجب إصابة العلم بالأكثر،

فاسد؛ لأنّ ما في الدفتر المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يعقل أن يكون أكثره متعلّقاً

للعلم، ولا صيرورته منجّزاً به، بل لو كان العنوان المتعلّق للعلم ذا أثر - مثل عنوان الموطوء - وكان منحلاًّ إلى التكاليف الدائرة بين الأقلّ والأكثر، لم يوجب العلم تنجيز غير ما هو المتيقّن؛ أي الأقلّ. نعم لو كان العنوان بسيطاً، وكان الأقلّ والأكثر من محصّلاته، وجب الاحتياط، لكنّه أجنبيّ عمّا نحن فيه.

مقدار الفحص عن المخصّص

ثمّ إنّ مقدار الفحص - بناءً على كون مبنى وجوبه العلم الإجمالي - إلى حدّ

ينحلّ العلم، وقد عرفت انحلاله. وبناء على كون مبناه معرضية العمومات للتخصيص إلى مقدار اليأس عن المخصّص والمعارض، فلا بدّ من بذل الجهد بالمقدار الميسور حتّى يخرج العامّ عن معرضيته ويجري الأصل العقلائي. وقد ذكرنا في باب الاجتهاد والتقليد(1) ما له نفع بالمقام.

ص: 248


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدّس سرّه : 11 - 12.

الفصل الرابع في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين

اشارة

هل الخطابات الشفاهية مثل: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ( تعمّ غير الحاضرين، حتّى المعدومين ؟

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ ظاهر العنوان كظاهر بعض استدلالاتهم هو أنّ النزاع في جواز خطاب المعدوم والغائب، ويكون النزاع على فرض عقليته في إمكانه وعدمه.

وهو وإن لا يبعد عن مثل الحنابلة(1)، لكن النزاع العقلي المعقول يمكن أن يكون في أنّ ألفاظ العموم التي [جاءت] تلو أداة النداء وأشباهها ممّا تكون خطاباً، هل تعمّ المعدومين والغائبين - كما تعمّهم ولو في ظرف وجودهم لو لم تكن مقرونة بها - أو لا ؟ حتّى يرجع النزاع العقلي إلى أ نّه هل يستلزم التعميم

مخاطبتهما حتّى يمتنع، أو لا ؟ فيكون النزاع في الملازمة وعدمها.

وهذا يناسب مبحث العامّ لا ظاهر العنوان؛ لأنّ إمكان مخاطبتهما وعدمه

ص: 249


1- راجع الفصول الغروية: 183 / السطر 27.

غير مربوط به، بل المناسب له هو شمول ألفاظ العموم لهم وعدمه، بعد كونها تلو الخطابات الشفاهية.

الأمر الثاني: صريح الشيخ الأعظم خروج مثل قوله: )لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ((1)، وقوله: )لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ((2) ممّا لم يصدّر بألفاظ النداء وأداة الخطاب عن محطّ النزاع، وأ نّه لم يعهد من أحد إنكار شموله لهما(3).

لكن الظاهر أنّ مناط النزاع العقلي يعمّه أيضاً؛ بأن يقال: هل يلزم من شمول أمثال تلك العناوين والأحكام لغير الموجودين تعلّق التكليف الفعلي بهم في حال العدم، وصدق العناوين عليهم كذلك، أو لا ؟ فعلى الأوّل تختصّ بالموجودين، وعلى الثاني تعمّ غيرهم.

وما قيل: من أنّ أسماء الأجناس تشمل غير الموجودين بلا ريب(4) إن كان المراد منه شمولها لهم حال عدمهم فهو ضروري البطلان، وإن كان المراد منه انطباقها عليهم في ظرف الوجود فهو حقّ، لكنّه راجع إلى القضيّة الحقيقية، وهو جواب الإشكال، كما سيأتي.

الأمر الثالث: أنّ حلّ الإشكال في بعض الصور لمّا كان مبنيّاً على بيان القضيّة الحقيقية لا بأس بالإشارة إليها، وإلى الفرق بينها وبين الخارجية إجمالاً، فنقول:

ص: 250


1- آل عمران (3): 97.
2- النساء (4): 7.
3- مطارح الأنظار 2: 186.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 548.

إنّ هذا التقسيم للقضايا الكلّية، وأمّا الشخصية مثل: «زيد قائم» فخارجة عن

المقسم. وفي القضايا الكلّية قد يكون الحكم على الأفراد الموجودة للعنوان؛ بحيث يختصّ الحكم بما وجد فقط، من غير أن يشمل ما سيوجد أو ما كان موجوداً، وذلك بأن يتقيّد مدخول أداة العموم بحيث لا ينطبق إلاّ عليها، كقوله: «كلّ عالم موجود في [هذا] الآن كذا»، و«كلّ ما في هذا العسكر كذا»، سواء كان الحكم على أفراد عنوان ذاتي أو انتزاعي أو عرضي، فلفظ «كلّ» لاستغراق أفراد مدخوله، والعنوان المتلوّ له - بعد التقيّد المذكور - لا ينطبق إلاّ على الأفراد المحقّقة.

وأمّا القضيّة الحقيقية: [فهي] ما يكون الحكم فيها على أفراد الطبيعة القابلة

للصدق على الموجود في الحال وغيره، مثل: «كلّ نار حارّة»، فلفظة «نار» تدلّ على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على كلّ فرد، لا بمعنى وضعها للأفراد، ولا بمعنى كون الطبيعة حاكية عنها، بل لا تدلّ إلاّ على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على الأفراد، ومتّحدة معها في الخارج.

ولفظ «كلّ» دالّ على استغراق أفراد مدخوله من غير أن يدلّ على الوجود أو العدم، ف «كلّ» وأشباهه - من كلّ لغة - لم يوضع للأفراد بقيد الوجود أو في حاله، ولهذا يصحّ أن يقال: إنّ كلّ فرد من الطبيعة إمّا موجود أو معدوم، بلا تأوّل.

وإضافة «كلّ» إلى الطبيعة تدلّ على كون الاستغراق متعلّقاً بما يتلوه، ولمّا لم يتقيّد بما يجعله منحصر الانطباق على الأفراد المحقّقة، فلا محالة يكون الحكم على كلّ فرد منه في الماضي والحال والاستقبال؛ كلّ في موطنه، فالعقل يحكم بامتناع الصدق على المعدوم، فلم تكن الطبيعة طبيعةً ولا أفرادها أفراداً حال

ص: 251

العدم، فلا محالة يكون الحكم في ظرف صدق الطبيعة على الأفراد، ف «كلّ نار حارّة» إخبار عن مصاديق النار دلالةً تصديقية، والمعدوم ليس مصداقاً لشيء، كما أنّ الموجود الذهني ليس فرداً بالحمل الشائع، فينحصر الصدق في ظرف الوجود الخارجي من غير أن يكون الوجود قيداً، ومن غير أن يفرض للمعدوم وجود، أو ينزّل منزلة الوجود، ومن غير أن تكون القضيّة متضمّنة للشرط.

فإنّ تلك التكلّفات - مع كونها خلاف الوجدان في إخباراتنا؛ ضرورة أنّ كلّ من أخبر: ب «أنّ النار حارّة» لا يخطر بباله الأفراد المعدومة، فضلاً عن تنزيلها منزلة الوجود، أو الاشتراط بأ نّه إذا وجدت كانت كذلك - ناشئة من تخيّل أنّ للطبيعة أفراداً معدومة، وتكون الطبيعة صادقة عليها حال العدم، ولمّا لم يصدق عليها الحكم لا بدّ من تنزيلها منزلة الموجود، أو اشتراط الوجود فيها.

وأنت خبير بأنّ ذلك كلّه في غاية السقوط؛ لأنّ العدم ليس بشيء، فلا تكون القضايا الحقيقية إخباراً عن الأفراد المعدومة، بل إخبار عن أفراد الطبيعة بلا قيد، وهي لا تصدق إلاّ على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها، فيكون الإخبار كذلك بحكم العقل من غير تقييد واشتراط.

ثمّ إنّ في القضيّة الحقيقية يكون الحكم على الأفراد المتصوّرة بالوجه الإجمالي، وهو عنوان «كلّ فرد»، أو «جميع الأفراد»، فعنوان «كلّ» و«جميع» متعلّق للحكم، ولمّا كان هذا العنوان موضوعاً للكثرات بنحو الإجمال فبإضافته إلى الطبيعة يفيد أفرادها بنحو الإجمال، فالحكم في المحصورة على أفراد الطبيعة بنحو الإجمال، لا على نفس الطبيعة، ولا على الأفراد تفصيلاً، فقولهم: إنّ الحكم على الطبيعة التي هي مرآة للأفراد ليس بشيء.

ص: 252

فاتّضح ممّا ذكرنا مواقع النظر في كلام بعض الأعاظم(1) في القضايا الخارجية والحقيقية، والفرق بينهما، فراجع.

التحقيق في المقام

إذا عرفت ما تقدّم فنقول: إنّ الإشكال في المقام إن كان من جهة أنّ التكليف الفعلي لا يمكن أن يتوجّه إلى المعدوم، وهو لازم التعميم.

فالجواب عنه: أنّ مثل قوله: )الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ((2) و)لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ((3) و«أنّ الصلاة مفروضة على العباد»(4) و«أنّ الخمر حرام»(5)، إنّما هو بنحو القضيّة الحقيقية، والجعل القانوني على مصاديق العناوين بنحو الإجمال فيما إذا كانت القضيّة محصورة، أو على نفس العناوين في غيرها، فلا يكون المعدوم مصداقاً لها حال العدم، فلا يتوجّه إليه التكليف، وأمّا إذا صار المصداق موجوداً فيشمله الحكم.

فإذا رأى المكلّف أنّ في كتاب الله تعالى: حجّ البيت على الناس إذا استطاعوا، من غير تقييد بما يخصّصه بالموجودين في زمن الرسول، ويكون نفسه مصداقاً للمستطيع، يرى أ نّه مأمور بالحجّ من غير توهّم أنّ ذلك الحكم

ص: 253


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 170 - 171 و550 - 551.
2- النساء (4): 34.
3- آل عمران (3): 97.
4- راجع وسائل الشيعة 4: 7، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 1.
5- راجع وسائل الشيعة 25: 341، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 18.

على هذا العنوان مستلزم لتوجّه التكليف إلى المعدوم؛ ضرورة أ نّه ليس ناساً، ولا مستطيعاً، ولا غيرهما.

وإن كان الإشكال من جهة لزوم مخاطبة المعدوم؛ حيث إنّ معنى الخطاب توجيه الكلام إلى المخاطب، سواء اشتمل الكلام على كاف الخطاب أو أداة النداء، أو كان التوجيه إليه بالحمل الشائع من غير ما يدلّ وضعاً على التخاطب.

فالجواب عنه: أنّ خطابات الله النازلة إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بأيّ نحوٍ كانت لم تكن متوجّهة إلى العباد، سواء كانوا حاضرين في مجلس الوحي أو في مسجد النبي، أم لا؛ ضرورة أنّ الوحي إنّما نزل على شخص رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وكلام الله وخطاباته لم تكن مسموعة لأحدٍ من الاُمّة، بل الظاهر من الآيات والروايات أنّ الوحي إنّما كان بتوسّط جبرئيل، فهو الحاكي لرسول الله، وهو صلی الله علیه و آله وسلم حاكٍ

بالواسطة، فإذن يكون حال الحاضرين في زمن النبي ومجلس الوحي حال غيرهم من حيث عدم توجّه خطاب لفظي من الله تعالى إليهم.

فالخطابات القرآنية كسائر الأحكام إنّما هي بطريق الوحي إلى رسول الله بلا واسطة أو معها، وتلك الخطابات المحكيّة باقية إلى زماننا، ونسبة الأوّلين والآخرين إليها سواء؛ من غير اختصاص بالحاضرين في مجلس الوحي؛ ضرورة أنّ اختصاصها بهم وتعميمها بدليل آخر لغو باطل. مضافاً إلى عدم الدليل عليه بعد كون العنوان عامّاً أو مطلقاً، وبعد كون الخطاب الكتبي إلى كلّ من يرى الكتابة متعارفاً، كما ترى في الكتب، مثل قوله: «فاعلموا يا إخواني».

ثمّ إنّ ما ذكرنا: من أنّ المقنّن لم يكن طرف المخاطبة في القوانين الإسلامية، بل يكون المقنّن غير المبلّغ؛ لأنّ الأوّل هو الله تعالى، والثاني هو الرسول أوّلاً

ص: 254

وذو الوسائط ثانياً بتوسّط الكتب وغيرها من وسائل التبليغ؛ سنّة جارية في جميع العالم؛ لأنّ المقنّن في القوانين العرفية والسياسية إمّا شخص أو هيئة وجماعة، ولم يتعارف أن يكون الواضع مبلّغاً، بل وسائل التبليغ هي الكتب والجرائد والآلات المستحدثة في هذه الأزمنة، فالقانون الإسلامي كسائر القوانين العرفية، ولم يتّخذ الإسلام طرزاً حادثاً، فقوانينه عامّة لكلّ من بلغت إليه بأيّ نحو كان من غير لزوم محذور.

وممّا ذكرنا اتّضح: أنّ التخلّص عن إشكال توجّه التكليف إلى المعدوم في غير الخطابات يمكن أن يكون بنحو القضيّة الحقيقية.

وأمّا عن إشكال توجّه الخطاب في قوله: )يَا أَ يُّهَا النَّاسُ( و)يَا أَ يُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا( فلا يمكن بذلك؛ لأنّ في القضيّة الحقيقية -

كما عرفت - يكون الحكم على أفراد عنوان قابل للصدق على كلّ مصداق وجد أو سيوجد في ظرفه، وأمّا الخطاب فليس كذلك، بل لا بدّ لصحّته من أن يتوجّه إلى حاضر ملتفت؛ فإنّ الخطاب نحو توجّه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم، ومثله لا يمكن أن يتعلّق بعنوان أو أفراده ولو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب، ولهذا لا بدّ لتصحيحه - على الفرض - من التشبّث بتنزيل المعدوم منزلة الموجود، أو غير الشاعر منزلة الشاعر الملتفت، كالخطاب للقمر والجبل، وهذا التنزيل ليس لازم القضيّة الحقيقية، كما تُوهّم(1).

كما أنّ الإنشائيات ليست من القضايا الحقيقية؛ لأنّ الخطاب العمومي مثل: )يَا أَ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا( لا يمكن أن يكون متوجّهاً بنحو الخطاب الحقيقي إلى

ص: 255


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 550.

أفراد العنوان حتّى يكون كلّ فرد مخاطباً بالخطاب اللفظي في ظرف وجوده؛ لأنّ أدوات النداء وضعت لإيجاد النداء لا لمفهومه، والمخاطبة نحو توجّه إلى المخاطب توجّهاً جزئياً مشخّصاً، فمع الالتزام بأنّ الخطابات حال الوحي كانت خطاباً إلهياً متوجّهاً نحو المخلوق، وكان مثل رسول الله مثل شجرة موسى علیه السلام

لا محيص عن الالتزام بتنزيل المعدوم وغير الحاضر منزلة الموجود الحاضر، وهو يحتاج إلى الدليل بعد عدم كونه لازم القضيّة الحقيقية كما تقدّم، فالتخلّص حينئذٍ عن الإشكال هو ما تقدّم، فتبصّر.

تتمّة: في ثمرة النزاع

نقل المحقّق الخراساني ثمرتين في النزاع:

الاُولى: حجّية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

فأجاب عنها: بأ نّها مبنيّة على اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وهو باطل، مع أنّ غير المخاطبين أيضاً مقصودون به(1).

وردّه بعض الأعاظم: بأنّ الثمرة لا تبتني عليه؛ فإنّ الخطابات لو كانت مقصورة على المشافهين فلا معنى للرجوع إليها وحجّيتها في حقّ الغير، قلنا بمقالة المحقّق القمّي أو لم نقل(2).

أقول: لو لم نقل بمقالة المحقّق القمّي(3) تكون الظواهر قابلة للرجوع إليها

ص: 256


1- كفاية الاُصول: 269 - 270.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 549.
3- قوانين الاُصول 1: 344 / السطر 17.

لتعيين تكليف المخاطبين، ثمّ التمسّك بدليل الاشتراك لإثباته في حقّنا، بخلاف

ما لو قلنا بمقالته، فظهور الثمرة موقوف على القول بها.

لكن تلك الثمرة التي في الكفاية غير ما ذكرت في الفصول(1) والتقريرات(2)، وإن فهم صاحب الفصول أيضاً ما فهم المحقّق الخراساني، فراجع.

الثانية: صحّة التمسّك بإطلاق الكتاب بناءً على التعميم لإثبات الحكم لنا، وإن لم نكن متّحدين في الصنف مع المشافهين، وعدم صحّته بناءً على الاختصاص؛ لعدم الإجماع مع الاختلاف الصنفي.

فأجاب عنه: بجواز التمسّك بالإطلاق لرفع الشكّ فيما يمكن أن يتطرّق إليه الفقدان، وإن لم يصحّ في غيره(3).

أقول: الظاهر ظهور الثمرة في بعض الأحيان، كالتمسّك بالآية لوجوب صلاة الجمعة علينا إذا احتملنا اشتراط وجوبها أو جوازها بوجود الإمام علیه السلام ، ولو كان الحكم مختصّاً بالمخاطبين أو الحاضرين في زمن الخطاب لما ضرّ الإطلاق بالمقصود؛ لتحقّق الشرط، وهو حضوره إلى آخر عمر الحاضرين؛ ضرورة عدم بقائهم إلى غيبة وليّ العصر عجّل الله فرجه، فلا يرد عليه ما أورد شيخنا العلاّمة(4)، فراجع.

ص: 257


1- الفصول الغروية: 184 / السطر 19.
2- مطارح الأنظار 2: 194.
3- كفاية الاُصول: 270.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 226.

الفصل الخامس في تخصيص العامّ بالضمير الراجع إلى بعض أفراده

إذا تعقّب العامّ ضمير يرجع إلى بعض أفراده، هل يوجب تخصيصه به أو لا ؟

ولا يخلو هذا العنوان عن مسامحة؛ لما سيتّضح لك: من أنّ الضمير لا يرجع إلى بعض الأفراد في مورد، بل الحكم بحسب الجدّ يختصّ ببعضها، فعوده إلى بعضها لم يكن مفروغاً عنه.

ثمّ إنّ محطّ البحث - على ما صرّحوا به(1) - هو ما إذا كان الحكم الثابت لمدخول الضمير مغايراً للثابت لنفس المرجع، سواء كان الحكمان في كلام واحد، مثل قوله: «أكرم العلماء وخدّامهم» إذا كان وجوب الإكرام في الخدّام مختصّاً بخدّام عدولهم، أو في كلامين مثل قوله تعالى: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ( إلى قوله تعالى: )وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ((2)، وسواء كان الحكمان من سنخ واحد كالمثال الأوّل، أو لا كالثاني.

ص: 258


1- مطارح الأنظار 2: 205؛ كفاية الاُصول: 271؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 226.
2- البقرة (2): 228.

وأمّا إذا كان الحكم واحداً، مثل قوله: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ(؛ حيث إنّ حكم التربّص ليس لجميعهنّ، فلا نزاع.

وليعلم: أ نّه لم يتّضح من كلامهم أنّ النزاع يختصّ بما إذا علم من الخارج أنّ الحكم غير عامّ لجميع أفراد المرجع كالآية الشريفة، أو يختصّ بما إذا علم ذلك بقرينة عقلية أو لفظية حافّة بالكلام - مثل قوله: «أهن الفسّاق واقتلهم»؛ حيث علم المخاطب حين إلقاء الكلام إليه أنّ حكم القتل ليس لجميع أفراد الفسّاق - أو يعمّهما.

ظاهر التمثيل بالآية الشريفة عدم الاختصاص بالثاني، بل لا يبعد أن يكون ذيل كلام المحقّق الخراساني(1) شاهداً على التعميم لهما على تأمّل.

وكيف كان، إن كان محطّ البحث أعمّ منهما فالتحقيق التفصيل بينهما، بأن يقال: إذا كان الدالّ على اختصاص الحكم ببعض الأفراد منفصلاً كالآية الشريفة؛ حيث تكون في نفسها ظاهرة في عموم الحكم لجميع أفراد العامّ، وأنّ بعولة جميع المطلّقات أحقّ بردّهنّ، لكن دلّ دليل خارجي بأن لا رجوع في طلاق البائن، فلا إشكال في بقاء العامّ على عمومه بالنسبة إلى حكمه - أي التربّص - لكون المقام من قبيل الدوران بين تخصيص لعامّ أو تخصيصين لعامّين؛ ضرورة أنّ عموم قوله: )وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ( صار مخصّصاً بما دلّ على اختصاص الحكم بالرجعيات، وشكّ في عروض التخصيص بقوله: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ...( فأصالة العموم فيه ممّا لا معارض له.

ص: 259


1- كفاية الاُصول: 272.

وما في كلامهم: من كون المقام من قبيل الدوران بين التخصيص والاستخدام في الضمير(1)، من غريب الأمر؛ لأ نّه يخالف مذاق المتأخّرين في باب التخصيص من عدم كونه تصرّفاً في ظهور العامّ(2)، فقوله: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ...( مستعمل في العموم، وضمير بعولتهنّ أيضاً يرجع إليها من غير استخدام وتجوّز، والمخصّص الخارجي في المقام ليس حاله إلاّ كسائر المخصّصات من كشفه عن عدم تعلّق الإرادة الجدّية إلاّ ببعض الأفراد في الحكم الثاني؛ أي الأحقّية، وذلك لا يوجب أن يكون الحكم الأوّل كذلك بوجه، بل هذا أولى بعدم رفع اليد عنه من العامّ الواحد إذا خصّص بالنسبة إلى البقيّة.

وأمّا حديث الاستخدام والمجازية في الإسناد أو في اللفظ، فليس بشيء؛ لأنّ الضمائر على ما تقدّم في باب الوضع(3)، وضعت لإيقاع الإشارة الخارجية، فلا بدّ لها من مرجع مشار إليه، والرجعيات لم تذكر في الكلام، ولم تعهد في الذهن، فلا معنى للرجوع إليها، وقد عرفت في المجاز أ نّه متقوّم بالدعوى(4)، وليس المقام مناسباً لدعوى كون الرجعيات جميع المطلّقات، فما في كلام بعضهم من الدوران بين الاستخدام والتخصيص، وترجيح أحدهما على الآخر، خلاف التحقيق.

ص: 260


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 226؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 551 - 552؛ نهاية الأفكار 1: 545.
2- مطارح الأنظار 2: 131؛ كفاية الاُصول: 255 - 256؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 516.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 54.
4- تقدّم في الجزء الأوّل: 62.

كما أنّ ما في كلام المحقّق الخراساني في وجه الترجيح: من أنّ بناء العقلاء

هو اتّباع الظهور في تعيين المراد لا في كيفية الاستعمال(1)، أجنبيّ عن محطّ البحث؛ لأنّ الدوران على فرضه بين الظهور السياقي والتخصيص، وقد عرفت أ نّه أيضاً باطل.

وأمّا إذا كان الكلام مقترناً - عقلاً أو لفظاً - بما يجعل الحكم خاصّاً ببعض

الأفراد، فالظاهر طروّ الإجمال في الغالب؛ لعدم إحراز بناء العقلاء على إجراء أصالة التطابق في مثل ما حفّ الكلام بما يصلح للاعتماد عليه، فصحّة الاحتجاج بمثل: «أهن الفسّاق واقتلهم» لإهانة غير الكفّار، مشكلة.

ص: 261


1- كفاية الاُصول: 272.

الفصل السادس في تخصيص العامّ بالمفهوم

اشارة

قالوا: اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف بعد إطباقهم على التخصيص بالمفهوم الموافق.

ولا يخفى أنّ هذه المسألة ليست من التي يكون الإجماع فيها حجّة، فلا بدّ من النظر في كلّ من المفهوم الموافق والمخالف، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في المفهوم الموافق

واختلفت التعبيرات في تفسيره، ونحن نذكر الاحتمالات ونتكلّم فيها، فنقول: فيه احتمالات:

الأوّل: ما يعبّر عنه المتأخّرون ب «إلغاء الخصوصية» مثل قوله: «رجل شكّ بين الثلاث والأربع...»(1)، ولا شبهة في أنّ العرف يرى أنّ الحكم إنّما هو

ص: 262


1- راجع وسائل الشيعة 8: 218، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 7.

للشكّ بينهما من غير دخالة للرجولية فيه(1).

الثاني: المعنى الكنائي الذي سيق الكلام لأجله، مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق، كقوله: )فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ((2)، إذا فرض كونه كناية عن حرمة إيذائهما، ولم يكن الاُفّ محكوماً بحكم.

الثالث: ما إذا سيق الكلام لأجل إفادة حكمٍ فاُتي بأخفّ المصاديق مثلاً للانتقال إلى سائرها، مثل الآية المتقدّمة إذا كان الاُفّ محكوماً بالحرمة أيضاً.

الرابع: الحكم الغير المذكور الذي يقطع العقل به بالمناط القطعي من الحكم المذكور، كقوله: «أكرم خدّام العلماء» حيث يعلم بالمناط القطعي وجوب إكرام العلماء.

الخامس: الحكم المستفاد من القضيّة التعليلية، كقوله: «الخمر حرام؛ لأ نّه مسكر».

فيمكن أن يكون المراد من الموافق بعض هذه الاحتمالات أو جميعها، والجامع بينها هو الحكم في غير محلّ النطق الموافق للحكم في محلّه - على فرضه - في الإيجاب والسلب.

ثمّ إنّ محطّ البحث لا يبعد أن يكون في تخصيص العامّ به إذا كان أخصّ مطلقاً منه، لا ما إذا كان بينهما عموم من وجه. وعمّم بعضهم(3)، وسنشير إليه.

إذا عرفت ذلك فنقول: إن كان المراد من المفهوم ما عدا الرابع فلا إشكال في

ص: 263


1- راجع لمحات الاُصول: 227 و306.
2- الإسراء (17): 23.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 556 - 557.

تخصيص العامّ به إذا كان المفهوم أخصّ منه مطلقاً؛ ضرورة أنّ حال هذا المفهوم

حال اللفظ الملقى إلى المخاطب، بل تسمية بعضها مفهوماً لمجرّد الاصطلاح، وإلاّ فالعرف يفهم من مثل قوله: «رجل شكّ بين الثلاث والأربع...» أو قوله: «أصاب ثوبي دم رعاف...»(1) أنّ ذكر الرجل والثوب لمجرّد التمثيل، ويكون منظور السائل والمجيب حال الشكّ والدم، فيخصّص به العامّ بلا ريب، وكذا الحال في المعنى الكنائي وغيره ممّا ذكر.

ولا يبعد أن يكون محطّ كلام القدماء مثل هذه الأقسام إذا كان المفهوم أخصّ مطلقاً، ومنه يظهر وجه كون المسألة اتّفاقية؛ ضرورة عدم الخلاف في تقديم الخاصّ، وهذا من أقسامه.

وأمّا إذا كان بينهما عموم من وجه، فيعامل معاملتهما مثل المنطوقين، والوجه ظاهر.

وأمّا رابع الاحتمالات: فقد يقال فيه بتقديم المفهوم على العامّ مطلقاً، سواء كان أخصّ مطلقاً منه أو من وجه إذا كان المعارض نفس المفهوم؛ لأنّ رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرّف في المنطوق غير ممكن؛ للزوم التفكيك بين الملزوم واللازم؛ فإنّ المفروض لزومه له بنحو الأولوية، كما أنّ رفع اليد عن المنطوق مع عدم كونه معارضاً للعموم لا وجه له، فيتعيّن التصرّف في العموم وتخصيصه بغير مورد المفهوم(2).

ص: 264


1- وسائل الشيعة 3: 402، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 7، الحديث 2.
2- اُنظر أجود التقريرات 2: 383.

وفيه: أ نّه إذا فرض لزوم تقديم العامّ على المفهوم بحسب القواعد مع قطع النظر عن محذور لزوم التفكيك، كما لو فرض كون العامّ في العموم أظهر من القضيّة في المفهوم، فيمكن تقديمه عليه ورفع اليد عن حكم المنطوق بمقداره، وليس هذا بلا وجه؛ لأنّ وجهه لزوم تقديم العامّ على المفهوم الكاشف عن عدم الحكم للمنطوق، وإلاّ يلزم التفكيك بين المتلازمين.

وبعبارة اُخرى: كما يمكن رفع المحذور العقلي بتخصيص العامّ يمكن رفعه برفع اليد عن حكم المنطوق والمفهوم، بل المعارضة وإن كانت ابتداءً بين العامّ والمفهوم، لكن لمّا كان رفع اليد عن اللازم مستلزماً لرفع اليد عن ملزومه يقع التعارض بينهما عرضاً، فتدبّر.

وأمّا ما قيل: من عدم إمكان كون المفهوم معارضاً للعامّ دون منطوقه؛ لأ نّا فرضنا أنّ المفهوم موافق للمنطوق، وأ نّه سيق لأجل الدلالة عليه، ومعه كيف يعقل أن يكون المنطوق غير معارض للعامّ مع كون المفهوم معارضاً له ؟ ! فالتعارض في المفهوم الموافق يقع ابتداءً بين المنطوق والعامّ ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعامّ، ولا بدّ أوّلاً من علاج التعارض بين المنطوق والعامّ، ويلزمه العلاج بين المفهوم والعامّ(1).

ففيه: أ نّه قد يكون وقوع التعارض بين المفهوم والعامّ ابتداءً ويتبعه بين المنطوق والعامّ، كقوله: «أكرم جهّال خدّام النحويين» المفهوم منه بالأولوية وجوب إكرام النحويين، وقوله: «لا تكرم الصرفيين»، فيكون

ص: 265


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 556.

المنطوق أجنبيّاً عن العامّ، وكان التعارض ابتداءً بين العامّ والمفهوم، والنسبة

بينهما عموم من وجه، فحينئذٍ لا بدّ من علاج التعارض ابتداءً بين العامّ والمفهوم، ويتبعه بين المنطوق والعامّ، فإذا فرض تقدّم العامّ على المفهوم حسب القواعد يتبعه رفع اليد عن المنطوق لا محالة بمقداره. هذا حال هذا القسم من المنطوق والمفهوم.

وأمّا إذا كان التعارض بين المنطوق والعامّ ويكون أخصّ منه مطلقاً، فلا محالة يقدّم على العامّ ويتبعه تقديم المفهوم عليه ولو كان بينهما عموم من وجه؛ لعدم جواز رفع اليد عنه بعد القطع بالتلازم، وعدم جواز تقديم العامّ على الخاصّ.

وإن كان أعمّ من وجه منه يعامل معهما معاملتهما، ومع تقديمه على العامّ بحسب القواعد أو القرائن يقدّم المفهوم أيضاً؛ لما عرفت.

المقام الثاني: في المفهوم المخالف

ويتّضح الكلام فيه بعد توضيح محلّ البحث، فنقول:

لا إشكال في أنّ الكلام بعد الفراغ عن المفهوم، وأن يكون التعارض بين عامّ ومفهوم، كما لو ورد: «أكرم كلّ عالم»، وورد: «إن جاءك زيد لا تهن فسّاق العلماء» ممّا كان مفهومه أخصّ من العامّ مطلقاً، ومثل: «أكرم العلماء» و«إن جاءك زيد أ كرم الفسّاق» ممّا كان مفهومه أعمّ من وجه معه.

وأمّا ما قيل: من أنّ الكلام في تخصيص العامّ بالمفهوم عند القدماء هو الكلام في باب الإطلاق والتقييد، ومثّل بقوله: «خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه

ص: 266

شيء»(1)، وقوله: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء»(2) حيث دلّ الأوّل على أنّ الماء تمام الموضوع لعدم الانفعال، والثاني على أنّ للكرّية دخالة، فيحكّم القيد على الإطلاق(3)، ويظهر ذلك من شيخنا العلاّمة(4) أيضاً؛ فهو خروج عن ظاهر البحث وعنوانه بلا دليل.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ العامّ لمّا كان دلالته بالوضع، فإن كانت الدلالة على المفهوم أيضاً بالوضع، يقع التعارض بين الظاهرين، فمع عدم الترجيح يرجع إلى أخبار العلاج أو يحكم بالإجمال، وإن كانت بمقدّمات الحكمة يرفع اليد عن المفهوم إن كانا في كلام واحد؛ لتحكيم الظهور المنجّز على الإطلاق المعلّق على عدم البيان، ومع انفصالهما يصيران متعارضين، ولا ترجيح للظهور الوضعي على الإطلاقي في مثله.

وما قيل: من أنّ المناط في المفهوم أن يكون التقييد راجعاً إلى الحكم لا إلى الموضوع، والقضيّة الشرطية - بعد ما كانت ظاهرة في كون القيد راجعاً إلى الحكم؛ لأ نّها وضعت لتقييد جملة بجملة - تكون حاكمة على مقدّمات الحكمة في العامّ، فظهورها في المفهوم يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة

ص: 267


1- المعتبر 1: 44؛ وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و2 و5 و6.
3- لمحات الاُصول: 308.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 227 - 228.

في العامّ؛ لأنّ كون القضيّة ذات مفهوم وإن كانت بمقدّمات الحكمة، إلاّ أنّ

المقدّمات الجارية في طرف المفهوم تكون بمنزلة القرينة على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ، والعامّ لا يصلح أن يكون قرينة على أنّ الشرطية سيقت لفرض وجود الموضوع، فلا بدّ فيه من دليل يدلّ عليه، هذا إذا كان المفهوم أخصّ مطلقاً(1)، انتهى.

ففيه: - بعد الغضّ عن أنّ العامّ لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة كما سبق الكلام فيه(2) - أنّ ظاهر القضيّة وضعاً هو مجرّد إناطة الحكم بالقيد، وهو ليس مناط المفهوم، بل مناطه إثبات الانحصار، وهو بمقدّمات الحكمة كما اعترف به، فحينئذٍ لا وجه لتقديم أحد الإطلاقين على الآخر، وجريان مقدّمات الحكمة في العامّ لا يلزم أن يثبت رجوع القيد إلى الموضوع حتّى يقال: إنّه لا يصلح لذلك، بل يمنع عن جريانها في الشرطية لإثبات الانحصار.

وقوله: إنّ جريانها في المفهوم بمنزلة القرينة للعامّ، لا يرجع إلى محصّل، والتحقيق ما عرفت.

ص: 268


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 560 - 561.
2- تقدّم في الصفحة 204.

الفصل السابع في الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة

اشارة

الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة هل يرجع إلى خصوص الأخيرة، أو إلى الجميع، أو لا ظهور فيه وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقّناً ؟

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في إمكان الرجوع إلى الجميع

فربّما يستشكل فيما إذا كان الاستثناء بالحروف: بأ نّها لمّا وضعت للإخراج بالحمل الشائع - لأنّ الموضوع له في الحروف خاصّ - يلزم من استعمالها في الإخراجات استعمالُ اللفظ في أكثر من معنىً واحد، وهو في الحروف أشكل؛ لأ نّها آلات لملاحظة الغير، فيلزم أن يكون شيء واحد فانياً في شيئين أو أكثر(1).

ويلزم الإشكال في المستثنى إذا كان مثل «زيد» مشتركاً بين أشخاص،

ص: 269


1- لمحات الاُصول: 309.

ويكون في كلّ جملة شخص مسمّى به، فإخراج كلّ منهم بلفظ واحد مستلزم للإشكال المتقدّم(1).

والجواب عنه قد مرّ في باب الاستعمال، ولقد تصدّينا لدفع الإشكالات العقلية في الأسماء والحروف، فراجع(2).

هذا، مع منع لزوم استعمال الأداة في أكثر من معنىً؛ فإنّ المستثنى إذا كان كلّياً قابلاً للصدق على الكثيرين فاُخرج ب «إلاّ» وغيرها، يكون الاستثناء بإخراج واحد مخرجاً للكثيرين، فقوله: «أكرم العلماء وأضف التجّار إلاّ الفسّاق منهم» إخراج واحد للفسّاق قابل للانطباق على فسّاق العلماء والتجّار، فلا يكون استعمال الأداة في أكثر من معنىً.

وكذا الحال إذا كان المستثنى مثل «زيد» واستثني المتعدّد؛ فإنّ «زيداً» إمّا مستعمل في المسمّى، فيكون الحال كالكلّي، وإمّا مستعمل في الكثير، فتخرج أداة الاستثناء الكثيرَ بإخراج واحد، كما قلنا في حروف النداء مع كثرة المنادى(3)، فلا يلزم في شيء من الموارد استعمال أداة الاستثناء في أكثر من معنىً.

المقام الثاني: في حاله إثباتاً

والظاهر رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الاُولى، وعطف سائر الجمل عليها مشتملاً على الضمير الراجع إليه، واشتمل

ص: 270


1- نهاية الأفكار 1: 542.
2- تقدّم في الجزء الأوّل: 131.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 43.

المستثنى أيضاً على الضمير، كقوله: «أكرم العلماء وسلِّم عليهم وأ لبسهم إلاّ

الفسّاق منهم»؛ لأنّ الضمير - كما مرّ(1) - موضوع لنفس الإشارة إلى الغائب، كما أنّ أسماء الإشارة موضوعة للإشارة إلى الحاضر، فإذا اشتمل المستثنى على الضمير يكون إشارة إلى شيء، ولم يكن في الجمل شيء صالح للإشارة إليه إلاّ الاسم الظاهر المذكور في صدرها، وأمّا سائر الجمل فلا تصلح لإرجاع الضمير إليها؛ لعدم عود الضمير إلى الضمير.

وبالجملة: لمّا كان الاسم الظاهر مرجعاً للضمائر التي في جميع الجمل، فإذا رجع ضمير الاستثناء إليه يخرجه عن تحت جميع الأحكام المتعلّقة به، كما هو المتفاهم به عرفاً أيضاً.

وكذا لا يبعد أن يكون الاستثناء من الجميع إذا لم يشتمل المستثنى على الضمير مع اشتمال الجمل عليه، كما لو قال في المثال المتقدّم: «إلاّ بني فلان».

أمّا إذا قلنا بأنّ الضمير في مثله منويّ فلما ذكرنا، وإن قلنا بعدم النيّة فلأنّ الضمائر في سائر الجمل غير صالحة لتعلّق الاستثناء بها؛ فإنّها بنفسها غير محكومة بشيء، فلا محالة يرجع الاستثناء إلى ما هو صالح له.

وأمّا إذا تكرّر الاسم الظاهر كما لو قال: «أكرم العلماء وأضف التجّار وألبس الفقراء إلاّ الفسّاق منهم» فرجوعه إلى الجميع وإلى الأخيرة محتمل، ولا يكون ظاهراً في واحد منهما.

وما قيل: من أنّ الظاهر رجوعه إلى الأخيرة؛ لأنّ تكرار عقد الوضع في

ص: 271


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 55.

الجملة الأخيرة مستقلاًّ يوجب أخذ الاستثناء محلّه من الكلام(1)، لا يرجع إلى محصّل، بل المستثنى إن اشتمل على الضمير يكون الاستثناء تابعاً له في السعة والضيق، وهو محتمل الرجوع إلى الأخيرة وإلى الجميع من غير تأوّل وتجوّز، ومع عدم الاشتمال يحتمل الأمرين أيضاً بانطباق العنوان على الجميع أو الأخيرة. بل رجوع الضمير وانطباق العنوان على الجميع لو لم يكن أولى، فلا أقلّ من المساواة احتمالاً.

وممّا ذكرنا يظهر حال ما إذا اشتمل بعض الجمل المتوسّطة على الاسم الظاهر، وما بعده على الضمير الراجع إليه مثل قوله: «أكرم العلماء وسلّم عليهم، وأضف التجّار، وأكرمهم إلاّ الفسّاق منهم» من احتمال الرجوع إلى المشتمل على الاسم الظاهر في الجملة الأخيرة وما بعدها، وإلى الجميع.

ثمّ إنّه فيما إذا لم يظهر رجوعه إلى الأخيرة أو الجميع فالأخيرة متيقّنة؛ لأنّ الرجوع إلى غيرها خلاف قانون المحاورة، فهل يجوز التمسّك بالعامّ في سائر الجمل التي شكّ في رجوعه إليها أو لا، أو يفصّل بين ما إذا قلنا باحتياج العموم إلى مقدّمات الحكمة وعدمه ؟

الظاهر عدم الجواز مطلقاً؛ لعدم إحراز بناء العقلاء على التمسّك بأصالة الجدّ فيما إذا حفّ الكلام بشيء صالح لتقييد مدخول أداة العموم، فلا محالة يصير الكلام مجملاً.

وما قيل: من أنّ ذلك مخلّ بغرض المتكلّم(2)، منظور فيه؛ لإمكان تعلّق

ص: 272


1- أجود التقريرات 2: 376.
2- أجود التقريرات 2: 377.

غرضه بإلقاء الكلام المجمل، وإلاّ لوجب أن لا يصدر منه المجملات، وهو كما ترى.

وقد يقال: إنّ أصالة الإطلاق في الاستثناء والمستثنى جارية لولا حكومة أصالة العموم عليها، ومعها لا مجال لقرينية الإطلاق؛ لأ نّه دوري(1).

وفيه أوّلاً: أنّ المستثنى إن اشتمل على الضمير يتبع إطلاقه له، ولا يكون الإطلاق مشخّصاً لمرجع الضمير؛ للزوم الدور.

وثانياً: أنّ العموم وإن لم يحتج إلى المقدّمات، لكن يتوقّف الاحتجاج به على جريان أصالة الجدّ، وفي مثل الكلام المحفوف بما ذكر، جريانها غير محرز.

ومع عدم اشتماله على الضمير أيضاً محلّ إشكال؛ لصحّة انطباق عنوانه على الجميع، كان الضمير منويّاً أو لا، ومعه لا تكون أصالة الجدّ محرزة، فتدبّر.

ص: 273


1- مقالات الاُصول 1: 476.

ص: 274

المقصد الخامس في المطلق والمقيّد

اشارة

وفيه فصول:

ص: 275

ص: 276

الفصل الأوّل في تعريف المطلق والمقيّد

قد عرّف المطلق بأ نّه ما دلّ على شائع في جنسه، والمقيّد بخلافه(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: بأنّ ظاهره أنّ الإطلاق والتقييد من صفات اللفظ، مع أنّ الظاهر أ نّهما من صفات المعنى، ولو جعلا من صفات اللفظ كانا تبعاً له؛ ضرورة أنّ نفس الطبيعة التي جعلت موضوع الحكم قد تكون مطلقة وقد تكون مقيّدة.

وثانياً: أنّ الشيوع في جنسه الذي جعل صفة المعنى: إن كان المراد منه أ نّه

جزء مدلول اللفظ؛ بحيث يكون الإطلاق دالاًّ على الشيوع، فهو فاسد جدّاً؛ لأنّ المطلق هو ما لا قيد فيه بالإضافة إلى كلّ قيد لوحظ فيه، من غير دلالة على الخصوصيات الفردية، أو الحالات الشخصية، كما مرّ(2).

ص: 277


1- معالم الدين: 150؛ الفصول الغروية: 217 / السطر 36؛ قوانين الاُصول 1: 321 / السطر 16؛ مطارح الأنظار 2: 241.
2- تقدّم في الصفحة 203.

وإن كان المراد أ نّه صفة المعنى وأنّ اللفظ لا يدلّ إلاّ على نفس المعنى وهو

شائع في جنسه، فلا محالة يكون الشيوع في الجنس عبارة عن سريانه في أفراده الذاتية حتّى يصدق بوجه شيوعه في مجانسه، وإلاّ فالجنس - بالمعنى المصطلح - ممّا لا وجه صحيح له.

فحينئذٍ: لا يرد عليه الإشكال المتقدّم، لكن يخرج منه إطلاق أفراد العموم، مثل قوله: )أَوْفُوا بِالعُقُودِ((1)، وكذا الإطلاق في الأعلام الشخصية، مثل قوله: )وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ((2)، وإن تكلّف بعض أهل التحقيق(3) بإدراج الأشخاص فيه بما لا يخفى ما فيه، وكذا يخرج إطلاق المعاني الحرفية. ويرد على عكسه دخول بعض المقيّدات فيه، كالرقبة المؤمنة؛ فإنّه أيضاً شائع في جنسه.

والتحقيق: أنّ المطلق في جميع الموارد لا يكون إلاّ بمعنىً واحد، كما سيأتي الكلام فيه.

فظهر ممّا ذكرنا اُمور:

منها: أنّ الإطلاق لا يختصّ بالماهيات الكلّية، بل قد يكون في الأعلام الشخصية، فالقول بأنّ المطلق هو اللا بشرط المقسمي أو القسمي(4)، ليس بشيء.

ص: 278


1- المائدة (5): 1.
2- الحجّ (22): 29.
3- نهاية الأفكار 1: 559.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 570.

ومنها: أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان، فكلّ شيء قيس إلى موضوع الحكم فإمّا قيد له أو لا، فعلى الثاني يكون مطلقاً وإن كان بالنسبة إلى شيء آخر مقيّداً.

ومنها: أنّ بين الإطلاق والتقييد شبه العدم والملكة؛ لأنّ الإطلاق متقوّم بعدم التقييد ممّا كان من شأنه ذلك، وما لا يكون من شأنه التقييد لا يكون مطلقاً ولا مقيّداً.

وإنّما قلنا: شبههما؛ لأنّ التقابل الحقيقي إنّما يكون فيما إذا كان للشيء استعداد حقيقة؛ بحيث يخرج من القوّة إلى الفعل بحصول ما يستعدّ له، فالأعمى إذا صار بصيراً خرج من القوّة إلى الفعل، وفي باب المطلق والمقيّد ليس الأمر كذلك.

ومنها: أنّ الشيوع والسريان لا يستفاد من الإطلاق حتّى بعد مقدّمات الحكمة، بل معنى الإطلاق ليس إلاّ عدم دخالة القيد، وهذا غير السريان والشياع.

ص: 279

الفصل الثاني في اسم الجنس والماهية وأقسامها

اشارة

بناءً على ما مرّ يكون تحقيق اسم الجنس وعلمه وغيرهما وكذا تحقيق الماهية اللابشرط وأقسامها والفرق بين المقسمي والقسمي، غير محتاج إليه، بل أجنبيّاً عن مبحث الإطلاق والتقييد، لكن نذكر إجمالاً منه تبعاً للقوم، فنقول:

إنّ اسم الجنس كالإنسان والفرس والسواد والبياض وغيرها موضوع لنفس الماهيات بلا اعتبار شيء ومن غير دخالة قيد وجودي أو عدمي أو اعتباري فيها، فالموضوع لها نفس الماهية من حيث هي، وهذه الماهية وإن لم تكن مجرّدة عن كافّة الوجودات قابلةً للتعقّل والتحقّق، لكن يمكن تصوّرها مع الغفلة عن كافّة الوجودات واللواحق؛ لأنّ الماهية الملحوظة وإن كانت موجودة بالوجود اللحاظي، لكن لحاظ هذا اللحاظ يحتاج إلى لحاظ آخر، ولا يمكن أن يكون ملحوظاً بهذا اللحاظ، فلا محالة يكون مغفولاً عنه، فيصير المعنى الموضوع له هو نفس الماهية، لا بما هي موجودة في الذهن وملحوظة،

ص: 280

فاللفظ موضوع للماهية بلا لحاظ السريان واللاسريان فيها، وإن كانت بنفسها سارية في المصاديق ومتّحدة معها، لا بمعنى انطباق الماهية الذهنية على الخارج، بل بمعنى كون نفس الماهية متكثّرة الوجود توجد في الخارج بعين وجود الأفراد.

والعجب من بعض أهل التدقيق؛ حيث زعم أنّ الموضوع له نفس المعنى لا المعنى المطلق بما هو مطلق، لكن وجب لحاظه مطلقاً تسرية للوضع إلى الأفراد(1)، كما أ نّه زعم - في باب المطلق - أنّ في قوله: «أعتق رقبة» لوحظت الرقبة مرسلة مطلقة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد موضوعه، إلاّ أنّ ذات المحكوم بالوجوب عتق طبيعة الرقبة، لا عتق أيّة رقبة(2).

وأنت خبير بما فيه في المقامين؛ لأنّ الموضوع له إذا كان نفس المعنى لا يعقل سرايته إلى الأفراد، ويكون لحاظ الواضع لغواً بلا أثر، إلاّ أن يجعل اللفظ بإزاء الأفراد، وكذا إذا كان موضوع الحكم نفس الطبيعة لا يمكن سرايته إلى خصوصيات الأفراد، لاحظ الحاكم أفرادها أم لا.

ثمّ إنّ القوم قسّموا الماهية إلى لا بشرط وبشرط شيء وبشرط لا، وظاهر

كلمات أكابر فنّ المعقول أنّ تقسيمها إليها وكذا إلى الجنس والمادّة والنوع بالاعتبار واللحاظ، وكذا الافتراق بينها، وأ نّها إن لوحظت مجرّدة عن اللواحق تكون بشرط لا، وإن لوحظت مقترنة بشيء تكون بشرط شيء، وإن لوحظت

ص: 281


1- نهاية الدراية 2: 494.
2- نهاية الدراية 2: 493 - 494.

بذاتها لا مقترنة ولا غير مقترنة تكون لا بشرط شيء، وأنّ الفرق بين اللا بشرط

المقسمي والقسمي بتقييد الثاني باللا بشرطية دون الأوّل، وكذا حال الجنس وأخويه وأنّ الفرق بينها باللحاظ، فإذا لوحظ الحيوان بشرط لا يكون مادّة، ولا بشرط يكون جنساً، وبشرط شيء يكون نوعاً(1).

وقد اغترّ بظاهر كلماتهم أعاظم فنّ الاُصول ووقعوا في حيص بيص في أقسام الماهية، والفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمي(2)، حتّى قال بعضهم: «إنّ التقسيم إنّما هو للحاظ الماهية، لا لنفسها»(3).

ولا يسع لنا الإذعان بأنّ أعاظم الفلاسفة قد اقترحوا هذه التقسيمات في باب الماهية والجنس والفصل من غير نظر إلى نفس الأمر ونظام الكون، وإنّما كان نظرهم صرف التلاعب بالمفاهيم ومحض اعتبارات ذهنية من غير أن تكون حاكية عن الواقع.

ثمّ لا ينقضي تعجّبي من أنّ صرف اعتبار شيء لا بشرط كيف يؤثّر في الواقع ويجعل الشيء قابلاً للاتّحاد والحمل، وأخذه بشرط لا، يوجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه ؟ ! ولو كانت هذه التقسيمات بصرف الاعتبار لجاز أن يعتبرها أشخاص مختلفون، ويصير الواقع مختلفاً بحسب اعتبارهم، فتكون ماهية

ص: 282


1- الإشارات والتنبيهات (شرح المحقّق الطوسي) 1: 76 - 78؛ الحكمة المتعالية 2: 16 - 22؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 339.
2- نهاية الدراية 2: 490 - 493؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 568 - 569.
3- لمحات الاُصول: 322.

واحدة متّحدة مع شيء ولا متّحدة معه بعينه، وهو كما ترى.

والذي يؤدّي إليه النظر الدقيق: - وإن لم أرَ المصرّح به - أنّ كلّية التقسيمات

التي في باب الماهية والأجناس والفصول تكون بلحاظ نفس الأمر ومرآةً إلى الواقع، والاختلاف بين المادّة والجنس والنوع واقعي؛ لأنّ المادّة متّحدة مع الصورة التي تبدّلت بها، والتركيب بينهما اتّحادي، وتكون المادّة المتّحدة بالصورة نوعاً من الأنواع، والمادّة القابلة لصورة اُخرى تكون منضمّة إلى الصورة الموجودة، والتركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي، وتكون بالنسبة إلى الصورة المتحقّقة بشرط لا؛ لعدم إمكان اتّحادها بها، وبالنسبة إلى الصورة التي تستعدّ لتبدّلها إليها لا بشرط شيء، فالمادّة التي تبدّلت بصورة النواة نوع، وتركيبها معها اتّحادي، وبالنسبة إليها بشرط شيء، والمادّة المستعدّة في النواة لقبول الصورة الشجرية تكون منضمّة إلى الصورة النواتية، وتركيبهما انضمامي، وتكون لا بشرط بالنسبة إلى الصورة الشجرية وما فوقها، وبشرط لا بالنسبة إلى تلك الصورة النواتية المتحقّقة. والتفصيل موكول إلى أهله ومحلّه.

وكذا الحال في أقسام الماهية، فإنّها أيضاً بحسب حالها في نفس الأمر؛ فإنّها إذا قيست إلى أيّ شيء فلا يخلو إمّا أن يكون لازم الالتحاق بها بحسب ذاتها أو وجودها، أو ممتنع الالتحاق بها، أو ممكن الالتحاق، فالأوّل كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، وكالتحيّز بالنسبة إلى الجسم الخارجي، والثاني كالفردية بالنسبة إلى الأربعة، وكالتجرّد بالنسبة إلى الجسم الخارجي، والثالث كالوجود بالنسبة إلى الماهية، وكالبياض بالنسبة إلى الجسم الخارجي.

ص: 283

فالماهية بحسب الواقع لا تخلو عن أحد الأقسام، وهو مناط صحيح في تقسيمها إلى بشرط شيء ولا بشرط وبشرط لا، من غير ورود إشكال عليه، ومن غير أن تصير الأقسام متداخلة.

وحينئذٍ يكون الفرق بين المقسم واللا بشرط القسمي واضحاً؛ لأنّ المقسم نفس ذات الماهية، وهي أعمّ من الأقسام، واللا بشرط القسمي مقابل للقسمين بحسب نفس الأمر ومضادّ لهما.

وما ذكرنا وإن خالف ظاهر كلماتهم في البابين، لكن التأمّل الصادق في كلمات المحقّقين يرفع الاستبعاد [عنه]، مع أ نّه تقسيم صحيح معتبر في العلوم موافق لنفس الأمر، بخلاف ما ذكروا؛ فإنّه صرف اعتبار وتلاعب، مع ما عرفت من الإشكال العقلي فيه.

وأبعد شيء في المقام هو توهّم كون التقسيم للحاظ الماهية لا نفسها(1)، فلا أدري أ نّه أيّة فائدة في تقسيم اللحاظ، ثمّ أيّ ربط بين تقسيمه وصيرورة الماهية باعتباره قابلة للحمل وعدمه.

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ هذا التقسيم كما يجري في نفس الماهية، يجري في الماهية الموجودة، بل في وجودها، وقد أجراه بعض أهل الذوق في نفس حقيقة الوجود(2).

ص: 284


1- لمحات الاُصول: 321 - 322.
2- شرح فصوص الحكم، القيصري: 22.

تتميم: في اسم الجنس وعلمه

واعلم أنّ القوم لمّا رأوا أنّ بعض أسماء الأجناس عومل معه معاملة المعرفة - كاُسامة وثعالة - فوقعوا في الإشكال:

فذهب بعضهم إلى أنّ أمثالها معارف لفظية، والتعريف اللفظي كالتأنيث اللفظي متصوّر من غير فرق بين معانيها مع أسماء الأجناس(1).

وذهب آخر إلى أنّ أعلام الأجناس وضعت للطبيعة المتعيّنة بالتعيّن الذهني(2).

فأورد عليه المحقّق الخراساني بلزوم التجريد عند الاستعمال أو عدم إمكان التطبيق على الخارج، والوضع لذلك لغو(3).

وأجاب عنه شيخنا العلاّمة بأنّ اللحاظ حرفي لا يوجب عدم التطبيق(4).

وهذا غير تامّ؛ لأنّ علم الجنس إذا كان متقوّماً باللحاظ وبه يفترق عن اسمه، فلا يعقل انطباقه على الخارج بما هو ملحوظ مفترق؛ لأنّ اللحاظ ولو كان حرفياً موطنه الذهن، وما ينطبق على الخارج هو نفس الطبيعة. مع أنّ الوضع للماهية الملحوظة مستلزم للّحاظ الاسمي واعتبار التعيّن الذهني فيه بنحو الاستقلال، والاستعمال لا بدّ وأن يكون تابعاً له.

ص: 285


1- كفاية الاُصول: 283.
2- قوانين الاُصول 1: 203 / السطر 19؛ هداية المسترشدين 3: 162 - 163.
3- كفاية الاُصول: 283 - 284.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 232.

ويمكن أن يقال: إنّ اسم الجنس المجرّد عن اللام والتنوين وغيرهما موضوع لنفس الطبيعة من حيث هي، وهي ليست معرفة ولا نكرة، وهما تلحقانها في رتبة متأخّرة عن ذاتها؛ لأنّ التعريف - في مقابل التنكير - عبارة عن التعيّن الواقعي المناسب لوعائه، والتنكير عبارة عن اللا تعيّن كذلك، فالماهية بذاتها لا تكون متعيّنة ولا لا متعيّنة، ولهذا تصلح لعروضهما عليها، فلو كانت متعيّنة ومعرفة بذاتها لم يمكن أن يعرضها ما يضادّها، وبالعكس، هذا مع أنّ لازم ذلك كونهما جزءها أو عينها، وهو كما ترى.

فحينئذٍ نقول: يمكن أن يفرّق بينهما بأن يقال: إنّ اسم الجنس موضوع لنفس الماهية التي ليست نكرة ولا معرفة، وعلمه موضوع للماهية المتعيّنة بالتعيّن العارض لها متأخّراً عن ذاتها في غير حال عروض التنكير عليها، والفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرّف أنّ الأوّل يفيد بدالّ واحد ما يفيد الثاني بتعدّد الدالّ.

ولا يخفى أنّ التعريف والتنكير غير متقوّمين باللحاظ حتّى يرد عليه الإشكال المتقدّم، بل مع قطع النظر عنه، بعض المعاني معروف معيّن وبعضها منكور غير معيّن، فالماهية بذاتها لا معروفة ولا غيرها، وبما أ نّها معنىً معيّن بين سائر المعاني وطبيعة معلومة - في مقابل غير المعيّن - معرفة، فاُسامة موضوعة لهذه المرتبة، واسم الجنس لمرتبة ذاتها. وتنوين التنكير يفيد نكارتها، واللا تعيّن ملحق بها كالتعيّن.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ اللام وضعت مطلقاً للتعريف، وإفادة العهد وغيره بدالّ آخر، فإذا دخلت على الجنس وعلى الجمع تفيد تعريفهما، وإفادة الاستغراق لأجل أنّ

ص: 286

غير الاستغراق من سائر المراتب لم يكن معيّناً، والتعريف هو التعيين، وهو حاصل في استغراق الأفراد لا غير.

وما ذكرنا غير بعيد عن الصواب، وإن لم يقم دليل على كون علم الجنس كذلك، لكن مع هذا الاحتمال لا داعي للذهاب إلى التعريف اللفظي البعيد عن الأذهان.

ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ النكرة دالّة بتعدّد الدالّ على الطبيعة اللامعيّنة؛ أي المتقيّدة بالوحدة بالمعنى الحرفي والحمل الشائع، من غير فرق بين مثل: «جاء رجل» ومثل: «جئني برجل» في أنّ «رجلاً» في كلّ منهما بمعنى واحد، وأ نّه قابل للصدق على الكثيرين، وأنّ إفادة البدلية عقلية لا لفظية، كلّ ذلك بحكم التبادر، والفرق بين المثالين إنّما هو بدلالة خارجية ودالّ آخر.

فما أفاده شيخنا العلاّمة من أ نّهما جزئيان(1)، وبعض آخر من أنّ الأوّل جزئي دون الثاني(2)، منظور فيه.

ص: 287


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 233.
2- كفاية الاُصول: 285؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 232.

الفصل الثالث في مقدّمات الحكمة

اشارة

بناءً على ما تقدّم في معنى الإطلاق لا مجال لما ذكره المحقّق الخراساني: [من] أنّ مقدّمات الحكمة تثبت الشياع والسريان(1).

بل التحقيق: أ نّها بعد تماميتها لا تفيد إلاّ كون الموضوع أو المتعلّق تمامهما من غير دخالة قيد فيهما، فإذا قال: «أعتق رقبة»، وتمّت المقدّمات، يحكم العقلاء بأنّ موضوع حكمه هو نفس الرقبة من غير دخالة شيء فيه، ومتعلّق الحكم هو نفس العتق كذلك، من غير كون ذلك بدلالة لفظية، ومن غير دلالة على الشيوع والسريان.

والعمدة صَرف الكلام إلى مقدّمات الحكمة، والظاهر عدم الاحتياج إلى شيء في الحكم المذكور، إلاّ إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

فهاهنا دعويان: الاُولى: الاحتياج إلى هذه المقدّمة، والثانية: عدم الاحتياج إلى غيرها.

ص: 288


1- كفاية الاُصول: 287.

أمّا الاُولى: فقد خالف فيها شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - بدعوى أنّ ظهور الإرادة في الأصلية - لا التبعية - يكفي في الحكم بالإطلاق(1). وأنت خبير بأنّ هذا ليس ظهوراً لفظياً مستنداً إلى الوضع، بل هو لأجل حكم العقلاء بأنّ ما جعل موضوع حكمه يكون تمامه لا بعضه، وهو لا يثبت ولا يحكم العقلاء به إلاّ بعد كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد، وإلاّ فلو فرض كونه في مقام بيان حكم آخر، أو كان بصدد الإهمال، لم يمكن إثبات كون الإرادة ظاهرة في الأصالة، فهذه المقدّمة ممّا لا مناص منها.

وبالجملة: بعد كون معنى الإطلاق هو كون ما جعل الموضوع مثلاً، تمام الموضوع من غير دخالة قيد في موضوعيته للحكم، فلا يحكم العقلاء بأ نّه تمام الموضوع، ولا تتمّ الحجّة العقلائية إلاّ بعد كون المتكلّم في مقام البيان، فيحتجّ العقلاء عليه: بأ نّك كنت في مقام البيان، فلو كان شيء دخيلاً في موضوعيته له كان عليك البيان، فجعل هذا موضوعاً يكشف عن تماميته.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ المقدّمة الثانية - أي انتفاء ما يوجب التعيين - ليست من المقدّمات، بل هي محقّقة محلّ البحث؛ فإنّه مع وجود ما يوجب التعيين سواء كان في الكلام أو كان بسبب الانصراف لا معنى للإطلاق؛ لأنّ محطّ البحث - في التمسّك بالإطلاق - ما إذا جعل شيء موضوعاً لحكم وشكّ في دخالة شيء آخر فيه، فيرفع بالإطلاق، وأمّا مع ما يوجب التعيين فلا يبقى شكّ حتّى يتمسّك به.

ص: 289


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 234.

وأمّا انتفاء القدر المتيقّن، فعلى ما ذكرنا في معنى الإطلاق لا ريب في عدم الاحتياج إليه، بل لا معنى له؛ لأنّ القدر المتيقّن إنّما يكون في مورد يتردّد الأمر

بين الأقلّ والأكثر، بأن يتردّد بين تعلّق الحكم ببعض الأفراد أو جميعها، مع أنّ الأمر في باب الإطلاق دائر بين تعلّق الحكم بنفس الموضوع من غير دخالة شيء آخر فيه، أو بالمقيّد، فيدور الأمر بين كون الطبيعة تمام الموضوع أو المقيّد تمامه، فإذا كانت الطبيعة تمام الموضوع لم يكن القيد دخيلاً، ومع دخالته يكون الموضوع هو المقيّد بما هو مقيّد، ولا يكون ذات الموضوع محكوماً والقيد محكوماً آخر حتّى يكون من قبيل الأقلّ والأكثر، وكذا لو جعل المتقيّد موضوعاً وشكّ في دخالة قيد آخر لا يكون من قبيلهما، فلا يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر في شيء من الموارد حتّى يعتبر انتفاء القدر المتيقّن.

نعم، بناءً على ما ذكره رحمه الله علیه : من أنّ الإطلاق عبارة عن جعل الطبيعة مرسلة ومرآة لجميع الأفراد، والمقيّد عبارة عن جعلها مرآة لبعضها(1)، يتصوّر القدر المتيقّن.

لكن اعتبار انتفائه في مقدّمات الحكمة محلّ إشكال؛ لأنّ المتكلّم إذا كان في مقام البيان، وجعل الطبيعة موضوع حكمه، وتكون الطبيعة بلا قيد مرآةً بذاتها إلى جميع الأفراد، ولا يمكن أن تصير مرآةً لبعضها إلاّ مع القيد، فلا محالة يحكم العقلاء بأنّ موضوع حكمه هو الطبيعة السارية في جميع المصاديق لا المتقيّدة، ولهذا ترى أنّ العرف لا يعتني بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب وغيره، فلا يضرّ ذلك بالإطلاق إذا لم يصل إلى حدّ الانصراف، قيل بمقالتنا أو لا.

ص: 290


1- كفاية الاُصول: 287.

ثمّ لا يخفى أنّ ورود القيد على المطلق لا يوجب عدم جواز التمسّك به في سائر القيود المشكوك فيها؛ ضرورة أنّ العثور على قيد لا يوجب تصرّفاً في ظاهر المطلق، بل يكشف عن أنّ الموضوع بحسب الإرادة الجدّية هو الطبيعة مع القيد، ودخالة قيد آخر تحتاج إلى الدليل، فصرف جعل الطبيعة في مقام بيان الحكم موضوعاً يكون حجّة عند العقلاء على عدم دخالة قيد فيه، فقيام الحجّة على دخالة قيد لا يوجب الإهمال والإجمال وسقوط المطلق عن الحجّية بالنسبة إلى سائر القيود، ولا إشكال في أنّ العقلاء بناؤهم على التمسّك به في سائر القيود، كما أنّ بناءهم على التمسّك بالعامّ المخصّص في الشكّ في التخصيص الزائد.

تتميم: في الأصل عند الشكّ في مقام البيان

لا شبهة في أ نّه إذا شكّ في أنّ المتكلّم هل هو في مقام بيان جميع ما هو دخيل في مراده بعد إحراز كونه في مقام بيان الحكم أو أ نّه بصدد الإجمال والإهمال، يكون الأصل العقلائي هو كونه في مقام [بيان] تمامه، وبه جرت سيرة العقلاء.

نعم، إذا شكّ في أ نّه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر، فلا أصل لإحراز كونه في مقامه، فالأصل بعد إحراز كونه بصدد بيان الحكم يقتضي أن يكون بصدد بيان تمام ما يدخل في الموضوع في مقابل الإهمال والإجمال، لا كونه بصدد بيان هذا الحكم دون غيره، فلا بدّ فيه من الإحراز الوجداني أو بدليل آخر.

ص: 291

الفصل الرابع في حمل المطلق على المقيّد

الصور المتصوّرة في ورود المطلق والمقيّد

إذا ورد مطلق ومقيّد: فإمّا أن يكونا متكفّلين بالحكم التكليفي أو الوضعي.

وعلى التقديرين: فإمّا أن يكونا مثبتين أو نافيين أو مختلفين.

وعلى التقادير: فإمّا أن يعلم وحدة التكليف أو لا.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يعلم وحدته من الخارج أو من نفس الدليلين.

وعلى التقادير: فإمّا أن يذكر السبب فيهما أو في واحد منهما أو لا يذكر.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يكون السبب واحداً أو لا.

والحكم التكليفي: إمّا إلزامي في الدليلين أو غير إلزامي فيهما أو مختلف.

وعلى التقادير: قد يكون الإطلاق والتقييد في الحكم ومتعلّقه وموضوعه، وقد يكونان في اثنين منها، وقد يكونان في واحدٍ، فهذه جملة الصور المتصوّرة في المقام.

ص: 292

تحرير محطّ البحث

وليعلم: أنّ محطّ البحث إنّما هو في المطلق والمقيّد المنفصلين، وأمّا القيود المتّصلة بالكلام فلا كلام فيها؛ ضرورة أنّ مثلها يمنع عن تحقّق الإطلاق، فلا يكون من باب تعارض المطلق والمقيّد وحمله عليه.

فما في تقريرات بعض الأعاظم: من جعلها محلّ البحث، وقاس المتّصلين بالقرينة وذي القرينة في أنّ ظهور القرينة كما يكون حاكماً على ذي القرينة يكون ظهور القيد حاكماً على الإطلاق، ثمّ قاس المقيّد المنفصل بالمتّصل(1).

ففيه وجوه من الخلط:

منها: أنّ القياس مع الفارق؛ لأنّ الإطلاق لا يكون من قبيل الظهور اللفظي حتّى يقع التعارض بين الظهورين ويقدّم أحدهما بالحكومة، وقد حقّق في محلّه أنّ الحكومة متقوّمة بلسان الدليل(2).

ومنها: أنّ حكومة ظهور القرينة على ذي القرينة ممّا لا أساس لها؛ ضرورة أنّ الشكّ في ذي القرينة لا يكون ناشئاً عن الشكّ في القرينة، ففي قوله: «رأيت أسداً يرمي» لا يكون الشكّ في المراد من «الأسد» ناشئاً عن الشكّ في المراد من «يرمي» كما ادّعى القائل، بل الشكّان متلازمان، فلا حكومة بينهما.

ومنها: أنّ قياس المنفصلين بالمتّصلين مع الفارق؛ لأنّ المنفصل ينعقد إطلاقه، ولا يكون وجه تقديم المقيّد هو الحكومة، بل المطلق إنّما يكون

ص: 293


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 579.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 269.

حجّة إن لم يرد من المتكلّم بيان، وبعد ورود البيان ينتهي أمد الحجّية، تأمّل.

وإنّما يقدّم المقيّد لأظهرية القيد في الدخالة من المطلق في الإطلاق، وهذه الأظهرية المدّعاة هي أظهرية فعل المتكلّم لا الأظهرية اللفظية كما أنّ تقديم ظهور القرينة على ذي القرينة إنّما هو للأظهرية ومناسبات المقام لا للحكومة.

إذا عرفت ذلك فلنتعرّض لمهمّات الصور؛ ليتّضح بها حال غيرها:

أحكام الصور المهمّة في المسألة

فالصورة الاُولى: ما إذا كان الحكم تكليفياً ويكون المطلق نافياً والمقيّد مثبتاً، كقوله: «لا تعتق رقبةً» و«أعتق رقبة مؤمنة»؛ بناءً على أنّ قوله: «لا تعتق رقبة» من قبيل المطلق لا العموم كما هو التحقيق، ففي هذه الصورة لا إشكال في حمل المطلق على المقيّد، كان الحكم إلزامياً أو لا؛ ضرورة تحقّق التنافي بينهما عرفاً؛ لما عرفت في النواهي: أنّ الزجر إذا تعلّق بالطبيعة يرى العرف أنّ امتثاله بتركها مطلقاً(1)، فحينئذٍ لا محيص عن الجمع بين الدليلين بحمل المطلق

على المقيّد مطلقاً؛ فإنّ وجوب عتق الرقبة المؤمنة أو استحبابه لا يجتمع مع حرمة عتق مطلقها أو كراهته.

الصورة الثانية: عكس الاُولى، وهو تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد، مثل: «أعتق رقبة» و«لا تعتق رقبة فاسقة» فحينئذٍ:

تارةً: نعلم أنّ النهي تحريمي فلا إشكال في حمل المطلق على المقيّد.

وتارةً: نعلم أ نّه تنزيهي فالظاهر عدم الحمل؛ لأنّ لازم التنزيهي الترخيص

ص: 294


1- تقدّم في الصفحة 90.

بإتيان المتعلّق، فلا يبقى التنافي بينهما، بل يحمل النهي على المرجوحية الإضافية أو الإرشاد إلى أرجحية الغير، فإذا قال: «صلّ» وقال: «لا تصلّ في الحمّام»، وعلم أنّ النهي تنزيهي لازمه الترخيص في إتيانها فيه، فلا إشكال في أنّ العرف يجمع بينهما بأنّ إتيانها فيه راجح ذاتاً وصحيح، ومرجوح بالإضافة إلى سائر الأفراد، فلا وجه للحمل.

وما أفاد شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من لزوم اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد فلا بدّ من الحمل(1)، لا يمكن المساعدة عليه.

وثالثةً: لا نعلم شيئاً منهما، فيدور الأمر بين حمل النهي على الكراهة وحفظ الإطلاق وجعله ترخيصاً وقرينةً على هذا الحمل، وبين رفع اليد عن الإطلاق وحمله على المقيّد.

وما يقال: من أنّ ظهور النهي في التحريم وضعي مقدّم على الظهور الإطلاقي(2) منظور فيه؛ لما عرفت في باب الأوامر أنّ الهيئات لم توضع إلاّ للبعث والزجر، وأنّ الإيجاب والتحريم خارجان عن الموضوع له(3).

هذا، ولكنّ الأظهر حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة وإبقاء النهي على التحريم؛ لأنّ معيار الجمع بين الأدلّة مساعدة العرف، ولا إشكال في أنّ ذهن العرف لو خلّي وطبعه لا يتوجّه عند سماع قوله: «أعتق رقبة» و«لا تعتق رقبة فاسقة» إلاّ إلى تقييد الإطلاق، ولا يختلج بباله الحمل على التنزيه بقرينة

ص: 295


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 236.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 582.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 186 و189 و198.

الإطلاق، وإنّما هو احتمال عقلي، ولعلّ وجهه تعارف الإطلاق والتقييد في محيط التشريع وعدم معهودية جعل الإطلاق قرينة على النهي، أو كون الهيئات بما أ نّها حرفية لا يلتفت إليها الذهن وإلى طريق الجمع بينها.

وكيف كان فلا إشكال في حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة عرفاً.

إن قلت: لو قلنا بكون المطلق والمقيّد داخلين في نزاع اجتماع الأمر والنهي، وقلنا بالجواز هناك، لرفع التعارض بين المطلق والمقيّد.

قلت: مسألة اجتماع الأمر والنهي عقلية غير مربوطة بالجمع بين الأدلّة؛ لأنّ مناط الجمع بينها هو فهم العرف، ولا شبهة في وقوع التعارض بين المطلق والمقيّد عرفاً، وطريق الجمع عرفي لا عقلي، فلا يكون أحد وجوه الجمع بين الأدلّة الجمع العقلي، وهذا واضح جدّاً، وإن التبس على بعض الأعاظم(1).

الصورة الثالثة: ما كان الدليلان مثبتين إلزاميين، كقوله: «أعتق رقبة» و«أعتق رقبة مؤمنة»، فلا بدّ في الحمل فيها من إحراز التنافي بينهما، وهو يتوقّف على وحدة الحكم، ففي هذه الصورة إن اُحرزت وحدته فلا إشكال، وإلاّ فتارةً يحرز كون الحكم في المطلق على نفس الطبيعة، ولم يحتمل دخالة قيد آخر في الموضوع غير القيد الذي في دليل المقيّد، وتارةً يحتمل قيد آخر.

فعلى الأوّل: يحمل المطلق على المقيّد؛ لإحراز الوحدة عقلاً؛ لامتناع تعلّق الإرادتين بالمطلق والمقيّد؛ لأنّ المقيّد هو نفس الطبيعة مع قيد، فاجتماع الحكمين المتماثلين فيهما ممتنع، فيقع التنافي بينهما، فيحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا ما قيل في وجه التنافي: من أنّ الحكم في المقيّد إذا كان إلزامياً متعلّقاً

ص: 296


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 582.

بصرف الوجود، فمفاده عدم الرضا بعتق المطلق، ومفاد دليل المطلق هو الترخيص بعتقه، فيقع التنافي بينهما. وبعبارة اُخرى: إنّ مفاد دليل المقيّد دخالة القيد، ومفاد دليل المطلق عدم دخالته، فيقع التنافي(1).

ففي غاية السقوط؛ لأنّ التنافي بين الترخيص واللا ترخيص، وكذا بين الدخالة وعدمها، يتوقّف على وحدة الحكم، فلا يمكن إحراز الوحدة بهما إلاّ على وجه دائر.

وعلى الثاني: - أي إذا لم يحرز عدم قيد آخر - فيتردّد الأمر بين حمل المطلق على المقيّد ورفع اليد عن ظهور الأمر في استقلال البعث، وبين حفظ ظهور الأمر وكشف قيد آخر في المطلق يجعله مخالفاً للمقيّد وقابلاً لتعلّق حكم مستقلّ به.

والظاهر حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة أيضاً؛ لأنّ ظهور الأمر في الاستقلال ظهور ضعيف لا يكشف به قيد آخر. نعم، مع العلم بتعدّد الحكم لا محيص عن كشف قيد مقابل للمقيّد؛ لما عرفت من امتناع تعلّقهما بالمطلق والمقيّد.

الصورة الرابعة: ما كان الدليلان نافيين، كقوله: «لا تشرب الخمر»، و«لا تشرب الخمر العنبي»، فلا إشكال في عدم الحمل إلاّ مع قيام القرينة؛ لعدم التنافي بينهما، وعدم المفهوم للقيد، تأمّل(2).

هذه الصور هي التي لم يذكر السبب فيها.

ص: 297


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 581 و584.
2- وجهه: أ نّه يأتي فيها ما يأتي في الصورة المتقدّمة، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ]

وأمّا إذا ذكر؛ فإمّا أن يذكر فيهما وكانا مختلفين، كقوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و«إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» فلا يحمل، ومع اتّحادهما يحمل.

[أو يذكر] في أحدهما، كقوله: «إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة» وقوله: «أعتق رقبة» فالظاهر عدم الحمل، لا لما قيل: من أنّ تقييد كلّ من إطلاق الوجوب والواجب مستلزم للدور؛ لأنّ حمل المطلق على المقيّد يتوقّف على وحدة الحكم، ففي المثال تقييد الوجوب يتوقّف على وحدة المتعلّق؛ إذ مع تعدّدهما لا موجب للتقييد، ووحدة المتعلّق تتوقّف على حمل أحد التكليفين على الآخر؛ إذ مع عدم وحدة التكليف لا تتحقّق وحدة المتعلّق؛ لأنّ أحد المتعلّقين عتق الرقبة المطلقة، والآخر عتق الرقبة المؤمنة(1).

وذلك لأنّ وحدة الحكم وإن توقّفت على وحدة المتعلّق، لكن وحدة المتعلّق لا تتوقّف على وحدته:

لا ثبوتاً؛ لأنّ لوحدة الأشياء وكثرتها واقعيةً، تعلّق بها الحكم أو لا، وفي المقام يكون المقيّد هو المطلق مع قيد، وفي مثله لا يمكن تعلّق الإرادتين والحكمين بهما.

ولا إثباتاً؛ لأنّ تعلّق الحكم في المطلق بنفس الطبيعة يكشف عن كونها تمام الموضوع للحكم، فإذا تعلّق حكم بالمقيّد - والفرض أ نّه نفس الطبيعة مع قيد - يكشف عن كون النسبة بين الموضوعين بالإطلاق والتقييد.

بل عدم الحمل لأجل أنّ التكليف الذي لم يذكر فيه السبب حجّة على العبد

ص: 298


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 580.

في ظرف عدم تحقّق سبب المقيّد، فإذا قال المولى: «أعتق رقبة» لا يجوز رفع اليد والتخلّف عنه إلى وقت فعلية حكم قوله: «إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة»، بإيجاد سببه.

وبعبارة اُخرى: إنّ العرف يحكم بأنّ عتق الرقبة مطلوب المولى؛ حصل الظهار أو لا، وبعد حصوله يكون عتق رقبة اُخرى مطلوباً له من قِبل سببية الظهار.

هذا كلّه في الحكم التكليفي.

ومنه يتّضح الأمر في الوضعي، ففي بعض الموارد يحمل المطلق على المقيّد، كقوله: «لا تصلّ في وَبر ما لا يؤكل»، وقوله: «صلّ في وبر السباع ممّا لا يؤكل»، وكقوله: «اغسل ثوبك من البول»، وقوله: «اغسل ثوبك من البول مرّتين».

وفي بعضها لا يحمل، كقوله: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»، وقوله: «لا تصلّ في وَبر ما لا يؤكل لحمه»؛ لعدم المنافاة بين مانعية مطلق أجزاء ما لا يؤكل، ومانعية وبره، ولا مفهوم للقيد حتّى يجيء التنافي من قِبله. وعليك بالتأمّل في سائر الموارد، واستخراج حكمها ممّا ذكر.

والحمدُ لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وقد وقع الفراغ في يوم السبت الرابع والعشرين من شهر شوّال المُكرّم (1373)

ص: 299

ص: 300

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 301

ص: 302

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

البقرة (2)

(كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ) 187 196

(كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ

الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ

الْفَجْرِ) 187 195

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ) 187 195

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) 228 258، 259، 260

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) 228 258، 259

(أَحَلَّ الله الْبَيْعَ) 275 203، 212

آل عمران (3)

(لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ) 97 18، 250، 253

النساء (4)

(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ) 7 250

ص: 303

الآية رقمها الصفحة

(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) 34 253

المائدة (5)

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) 1 17، 203، 204،

211، 212، 278

(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) 6 194

الإسراء (17)

(فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ) 23 263

الحجّ (22)

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) 29 278

النمل (27)

(أَ يُّكُمْ يَأتِينِى بِعَرْشِهَا) 38 206

غافر (40)

(فَأَىَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ) 81 206

ص: 304

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء 158، 186، 267

إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء 185

إنّما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاصٍ لله، إنّما عصى سيّده 144، 146

إنّما عصى سيّده ولم يعص الله ؟145

إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز 144

خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه شيء 266

ذاك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما 144

ذاك لمولاه، إن شاء فرّق بينهما... 144

في الغنم السائمة زكاة 189، 190

لا تبع ما ليس عندك 143

لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه 139

لا صلاة إلاّ بطهور 197

لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب 197، 198

لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه 127

لَيّ الواجد يُحِلّ عقوبَتَهُ وعِرضَه 188

ما أزعم أ نّه حرام، وقل له: أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه 146

مَطْلُ الغنيّ ظلم 188

المغصوب كلّه مردود 126

ص: 305

ص: 306

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي، رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم = محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، رسول الله 198، 243، 253، 254،

256

أبو جعفر علیه السلام = محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس

محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس 144، 145، 146

أبو عبدالله علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 146

وليّ العصر علیه السلام = صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الإمام الثاني عشر

صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الإمام الثاني عشر 17، 257

الخليل علیه السلام = إبراهيم، النبي

إبراهيم، النبي 51

موسى، نبي اليهود 256

ص: 307

ص: 308

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 50، 84، 89، 90، 95،

100، 106، 123 135،

147، 149، 163، 173،

207، 208، 209، 219،

222، 237، 238، 241،

242، 256، 257، 259،

261، 285، 288

الآغا ضياء= العراقي، ضياء الدين

إبراهيم النخعي= النخعي، إبراهيم

ابن الحاجب، عثمان بن عمر 154

ابن سينا، الحسين بن عبدالله 61، 64

أبو حنيفة 146، 197

أبو عبيدة= الحذّاء، زياد بن عيسى

أبو هاشم، عبدالسلام الجبّائي 128، 129

الأراكي= العراقي، ضياء الدين

الأصفهاني، محمّد حسين 46، 119، 128، 129،

147، 174، 257

ص: 309

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 23، 24، 25، 129، 142،

144، 172، 175، 180،

181، 182، 186، 219،

220، 222، 240، 250

البروجردي، الحسين 153، 158

بعض أجلّة العصر= البروجردي، الحسين

بعض الأعاظم= النائيني، محمّد حسين

بعض المحقّقين= العراقي، ضياء الدين

بعض المدقّقين= الأصفهاني، محمّد حسين

بعض مدقّقي العصر= العراقي، ضياء الدين

بعض مدقّقي المتأخّرين= الأصفهاني، محمّد حسين

البهائي= الشيخ البهائي، محمّد بن الحسين

الحائري، عبدالكريم 140، 175، 192، 195،

203، 216، 237، 257،

267، 285، 287، 289،

295

الحاجبي= ابن الحاجب، عثمان بن عمر

الحذّاء، زياد بن عيسى 188، 189

الحكم بن عتيبة 144

الخراساني= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

زرارة 144

السيّد المجدّد الشيرازي= الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود

السيّد المرتضى= علم الهدى، علي بن الحسين

ص: 310

الشيباني، محمّد بن الحسن 146

الشيخ الأعظم، الأنصاري= الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ البهائي، محمّد بن الحسين 14، 22

الشيخ الرئيس= ابن سينا، الحسين بن عبدالله

شيخ المشّائين= ابن سينا، الحسين بن عبدالله

الشيخ= الطوسي، محمّد بن الحسن

شيخنا العلاّمة= الحائري، عبدالكريم

صاحب الفصول الغروية= الأصفهاني، محمّد حسين

صاحب المقالات= العراقي، ضياء الدين

الطوسي، محمّد بن الحسن 191

العراقي، ضياء الدين 47، 59، 90، 180، 181،

195، 207، 213، 219،

245

العلاّمة الحائري= الحائري، عبدالكريم

العلاّمة الحلّي، الحسن بن يوسف 172

علم الهدى، علي بن الحسين 156، 191

الفشاركي، محمّد باقر بن محمّد جعفر 23

القمّي= الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن

المحقّق الثاني= المحقّق الكركي، علي بن الحسين

المحقّق الكركي، علي بن الحسين 14

منصور بن حازم 146

الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود 23

الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن 256

ص: 311

النائيني، محمّد حسين 1، 23، 44، 92، 96،

102، 118، 123، 129،

160، 173، 184، 189،

203، 213، 223، 246،

253، 256، 293، 296

النخعي، إبراهيم 144

الهمداني، رضا بن محمّد هادى 174، 177

ص: 312

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 195، 254

الاجتهاد والتقليد، للإمام الخميني (سلام الله عليه) 248

الاستصحاب، للإمام الخميني (سلام الله عليه) 228

التعادل والترجيح، للإمام الخميني (سلام الله عليه) 244

تقريرات بحث الشيخ الأعظم= مطارح الأنظار

تقريرات بحث المحقّق النائيني= فوائد الاُصول

الفصول= الفصول الغروية

الفصول الغروية 50، 128، 129، 257

فوائد الاُصول 189، 213، 293

الكفاية= كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 173، 174، 257

المختلف= مختلف الشيعة

مختلف الشيعة 172

مطارح الأنظار 172، 180، 220، 257

المقالات= مقالات الاُصول

مقالات الاُصول 180، 181، 195، 207،

213، 219، 220، 238

ص: 313

ص: 314

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - الاثنا عشرية في الصلاة اليومية. الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين بن عبدالصمد الحارثي العاملي (953 - 1030)، تحقيق الشيخ محمّد الحسّون، الطبعة الاُولى، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1409 ق.

2 - الاجتهاد والتقليد، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

3 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

4 - الاستصحاب، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

5 - إشارات الاُصول. حاج محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكافي الأصفهاني (1180 - 1261)، الطبعة الاُولى، مجلّدان، طهران، مكتبة المعتمدية، 1245 ق.

6 - الإشارات والتنبيهات، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

ص: 315

7 - الأمالي. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق مؤسّسة البعثة، الطبعة الاُولى، قم، دار الثقافة، 1414 ق.

8 - أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ». ‘موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«ب»

9 - بدائع الأفكار في الاُصول (تقريرات المحقّق العراقي). الشيخ هاشم الآملي (1282 - 1371 ش)، الطبعة الاُولى، النجف الأشرف، 1370 ق.

«ت»

10 - التحصيل. بهمنيار بن المرزبان (م 458)، تعليق و تصحيح استاد شهيد مرتضى مطهرى، چاپ دوم، تهران، مؤسسه انتشارات دانشگاه تهران، 1375 ش.

11 - تشريح الاُصول. الشيخ مولى علي بن مولى فتح الله النهاوندي (م 1322)، الطبعة الحجرية، طهران، دار الخلافة، 1320 ق.

12 - التعادل والترجيح، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

13 - تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي. المولى علي الروزدري (م 1290)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة مهر، 1409 ق.

14 - تنقيح الاُصول (تقريرات الإمام الخميني قدّس سرّه ). حسين التقوي الاشتهاردي (1304 - 1378 ش)، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1418 - 1419 ق / 1376 - 1377 ش.

15 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

ص: 316

«ج»

16 - جامع المقاصد في شرح القواعد. المحقّق الثاني علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (868 - 940)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 13 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1408 - 1411 ق.

17 - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر (648 - 726)، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق.

«ح»

18 - حاشية كفاية الاُصول المطبوع بهامش كفاية الاُصول. الشيخ علي القوچاني (م 1333)، قم، مكتبة الوجداني.

19 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«د»

20 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

«ذ»

21 - الذريعة إلى اُصول الشريعة. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436)، تحقيق أبو القاسم گرجي، مجلّدان، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسه انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1363 ش.

«ر»

22 - رسائل ابن سينا. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، قم، انتشارات بيدار، 1400 ق.

23 - الرسائل الفشاركية. السيّد محمّد الطباطبائي الفشاركي (1253 - 1316)، تحقيق

ص: 317

مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1413 ق.

24 - رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل. السيّد علي بن محمّد علي الطباطبائي (1161 - 1231)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 14 مجلّداً، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1412 - 1423 ق.

«ز»

25 - زبدة الاُصول. الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي (953 - 1030)، تحقيق فارس حسون كريم، الطبعة الاُولى، مدرسة وليّ العصر علیه السلام

العلمية، 1423 ق / 1381 ش.

«س»

26 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 - 598)، إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1410 - 1411 ق.

27 - سنن الترمذي. أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي (209 - 279)، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية، 5 مجلّدات، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر، 1403 ق.

28 - سنن النسائي. أبو عبد الرحمان أحمد بن شعيب النسائي (214 - 303)، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، بيروت، دار الفكر للطباع-ة والنشر، 1348 ق / 1930 م.

«ش»

29 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب. القاضي عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الغفّار، تصحيح أحمد رامز الشهير بشهري المدرّس بدار الخلافة، إسلامبول، مطبعة العالم، 1307 ق.

30 - شرح المقاصد. مسعود بن عمر بن عبدالله المعروف ب «سعد الدين التفتازاني» (712 -

ص: 318

793)، تحقيق عبد الرحمان عميرة، الطبعة الاُولى، 5 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1370 - 1371 ش.

31 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح و تعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

32 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812)، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

33 - شرح فصول الحكم. محمّد داود قيصري رومي (م 751)، تصحيح سيّد جلال الدين آشتياني، چاپ اول، طهران، شركت انتشارات علمى و فرهنگى، 1375 ش.

34 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، تحقيق عدّة من الأساتذة، 10 مجلّداً ( الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

35 - شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام. المولى عبد الرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الفيّاض (م 1051)، تصحيح أكبر أسد عليزاده، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1430 ق.

«ص»

36 - صحيح مسلم. أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (206 - 261)، تحقيق وتعليق الدكتور موسى شاهين لاشين والدكتور أحمد عمر هاشم، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، بيروت، مؤسّسة عزّ الدين، 1407 ق / 1987 م.

37 - الصلاة. المحقّق الحائري (م 1355)، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1362 ش.

«ع»

38 - العدّة في اُصول الفقه. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي

ص: 319

(385 - 460)، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مطبعة ستارة، 1417 ق.

39 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية. محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403 ق.

«غ»

40 - غرر العوائد من درر الفوائد. الميرزا محمّد الثقفي الطهراني، مطبعة الحيدرية، 1389 ق.

«ف»

41 - فرائد الاُصول، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق / 1377 ش.

42 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية. محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ق. «بالاُفست عن الطبعة الحجرية».

43 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه). أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 4 مجلّدات، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، 1377 ق / 1957 م.

44 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404 ق.

45 - الفوائد الحائرية. الشيخ محمّد باقر بن محمّد أكمل المشتهر بالوحيد البهبهاني، تحقيق لجنة تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1415 ق.

ص: 320

«ق»

46 - قوانين الاُصول. المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231)، مجلّدان، الطبعة الحجرية، المجلّد الأوّل، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378، والمجلّد الثاني، طهران، المستنسخة سنة 1310 ق.

«ك»

47 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

48 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

49 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

50 - كمال الدين وتمام النعمة. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الاُولى، طهران، مكتبة الصدوق، 1390 ق.

«ل»

51 - لمحات الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«م»

52 - المحصول في علم اُصول الفقه. فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606)، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمّد معوض، الطبعة الثانية،

ص: 321

4 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

53 - مختلف الشيعة في أحكام الشريعة. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، الطبعة الاُولى، 9 مجلّدات + الفهرس، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1412 - 1420 ق.

54 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 - 965)، تحقيق مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الاُولى، 15 مجلّداً، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، 1413 - 1419 ق.

55 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254 - 1320)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 25 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1407 ق.

56 - المستصفى من علم الاُصول. أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (م 505)، الطبعة الثانية، مجلّدان، قم، انتشارات دار الذخائر، 1368 ش.

57 - المسند. أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241)، إعداد أحمد محمّد شاكر وحمزة أحمد الزين، الطبعة الاُولى، 20 مجلّداً، القاهرة، دار الحديث، 1416 ق.

58 - مشارق الشموس في شرح الدروس. آقا حسين بن جمال الدين محمّد الخوانساري (1019 - 1099)، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

59 - مصباح الفقيه (الطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، الصوم، الرهن). الحاج آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني النجفي (م 1322)، الطبعة الاُولى، 19 مجلّداً:

الطهارة والصلاة. تحقيق المؤسّسة الجعفرية لإحياء التراث، (ج 1 - 17)، قم، مؤسّسة مهديّ الموعود(عج)، 1417 - 1431 ق.

الزكاة والخمس والصوم والرهن. (ج 13 و14، حسب ترتيب مؤسّسة النشر الإسلامي) قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

ص: 322

60 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري). الميرزا أبو القاسم الكلانتري (1236 - 1292)، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1425 ق.

61 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول». أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011)، تحقيق لجنة التحقيق، الطبعة الحادي عشر، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

62 - المعتبر في شرح المختصر. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676)، تحقيق عدّة من الأفاضل، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة سيّد الشهداء علیه السلام ، 1364 ش.

63 - معتمد الاُصول. محمّد الفاضل اللنكراني (1310 - 1386 ش)، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، جزءان، طهران، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1420 - 1423 ق / 1378 - 1381 ش.

64 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب. ابن هشام أبو محمّد عبدالله بن يوسف بن هشام الأنصاري (708 - 761)، تحقيق عدّة من العلماء، الطبعة الخامسة، قم، مكتبة سيّد الشهداء علیه السلام ، 1375 ش.

65 - مقالات الاُصول. الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361)، تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1414 - 1420 ق.

والطبعة الحجرية منه مجلّدان، قم، كتابفروشى كتبى نجفي (بالاُفست عن طبع النجف الأشرف).

66 - المنخول من تعليقات الاُصول. أبو حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي (م 505)، تحقيق محمّد حسن هيتو، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1419 ق / 1998 م.

ص: 323

67 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

68 - نقد المحصّل (تلخيص المحصّل). الخواجه نصير الدين الطوسي (م 672)، الطبعة الثانية، بيروت، دار الأضواء، 1405 ق / 1985 م.

69 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي). الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (م 1391)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405 ق.

70 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

71 - نهاية الوصول إلى علم الاُصول. جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 - 726)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة الإمام الصادق، 1425 - 1429 ق.

«و»

72 - الوافية في اُصول الفقه. المولى عبدالله بن محمّد البُشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني (م 1071)، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري، الطبعة الاُولى، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1412 ق.

73 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 30 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1409 ق.

74 - وقاية الأذهان مع رسالتي سمطا اللآل في مسألتي الوضع والاستعمال وإماطة الغين عن

ص: 324

استعمال العين في معنيين. الشيخ أبو المجد محمّد رضا بن محمّد حسين النجفي الأصفهاني، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1413 ق.

«ه»

75 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين. الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420 - 1421 ق.

ص: 325

ص: 326

7 - فهرس الموضوعات

الفصل الخامس: في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ··· 1

تحقيق الحال يستدعي رسم اُمور:

الأمر الأوّل: في اُصولية المسألة ··· 1

الأمر الثاني: في معنى الاقتضاء في عنوان المسألة ··· 2

الأمر الثالث: في الاستدلال على القول بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ ··· 3

قد استدلّ عليه بوجهين:

الوجه الأوّل: من جهة المقدّمية ··· 3

الوجه الثاني: من جهة الاستلزام ··· 10

الأمر الرابع: في ثمرة المسألة ··· 13

مقالة الشيخ البهائي في إنكار الثمرة بعدم الأمر بالمهمّ وما اُجيب عنها ··· 14

تصوير المحقّق الثاني الأمر بالمهمّ بالأمر المتعلّق بنفس الطبيعة ··· 14

التحقيق في تصوير الأمر بالمهمّ بلا تشبّث بالترتّب ··· 15

تصوير المحقّق النائيني الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب ··· 23

تمسّك المحقّق النائيني ببعض الفروع الفقهية على الترتّب ··· 44

تقرير الذي أورده المحقّق الأصفهاني لتصحيح الترتّب ··· 46

تقرير المحقّق العراقي لتصحيح الترتّب ··· 47

ص: 327

الفصل السادس: في جواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط ··· 50

الفصل السابع: في متعلّق الأوامر والنواهي ··· 53

تحرير محلّ النزاع ··· 53

مقتضى التحقيق: تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع ··· 55

المراد من البعث نحو المأموربه ··· 56

تنبيه: في تعلّق الأمر بنفس الماهية ··· 57

نقد وتحصيل: في سراية الأمر من العنوان إلى الأفراد والحصص ··· 59

تحقيق: في الكلّي الطبيعي ··· 61

الفصل الثامن: في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ··· 67

والكلام يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في إمكان بقائه عقلاً ··· 67

المقام الثاني: في مقتضى الأدلّة إثباتاً بعد فرض إمكانه ··· 69

المقام الثالث: في استصحاب الجواز عند الشكّ في بقائه ··· 70

الفصل التاسع: في الواجب التخييري ··· 72

تنبيه: في التخيير بين الأقلّ والأكثر ··· 75

التخيير بين الأقلّ والأكثر في التدريجيات ··· 75

التخيير بين الأقلّ والأكثر في الدفعيات ··· 77

الفصل العاشر: في الواجب العيني والكفائي ··· 79

الفصل الحادي عشر: في الواجب المطلق والموقّت ··· 82

تتميم: في عدم كون القضاء بالأمر الأوّل ··· 83

المقصد الثاني: في النواهي

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في مفاد هيئة النهي ··· 89

ص: 328

متعلّق الطلب في النهي ··· 89

دلالة النهي على التكرار ··· 90

الفصل الثاني: في جواز اجتماع الأمر والنهي ··· 94

وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في تحرير محلّ النزاع ··· 94

الأمر الثاني: في الفرق بين المقام وبين النهي في العبادة ··· 95

الأمر الثالث: في اُصولية مسألة جواز الاجتماع ··· 96

الأمر الرابع: في اعتبار قيد المندوحة ··· 97

الأمر الخامس: في عدم ابتناء النزاع على تعلّق الأحكام بالطبائع ··· 99

الأمر السادس: في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط ··· 100

الأمر السابع: في ثمرة النزاع على القول بالجواز ··· 102

الأمر الثامن: في ثمرة النزاع على القول بالامتناع ··· 106

الأمر التاسع: في شروط جريان النزاع في المقام ··· 109

مقتضى التحقيق هو القول بجواز الاجتماع ··· 111

دفع الإشكالات الواردة على القول بالجواز ··· 115

تنبيه: في التضادّ بين الأحكام الخمسة ··· 119

استدلال المجوّزين بوقوع العبادات المكروهة ··· 122

كيفية العبادات المكروهة ··· 122

تنبيه: في توسّط الأرض المغصوبة ··· 126

الفصل الثالث: في أنّ النهي عن الشيء هل يكشف عن فساده ؟··· 131

وقبل تحقيق المقام يقدّم اُمور:

الأمر الأوّل: في الاختلاف في عنوان البحث ··· 131

الأمر الثاني: في كون المسألة عقلية لفظية ··· 132

الأمر الثالث: في تحرير محلّ النزاع ··· 133

ص: 329

الأمر الرابع: في المراد من العبادات والمعاملات ··· 133

الأمر الخامس: في مساوقة الصحّة والفساد للنقص والتمام ··· 134

تنبيه: في مجعولية الصحّة والفساد ··· 135

الأمر السادس: في تحقيق الأصل في المقام ··· 136

التحقيق في دلالة النهي على الفساد ··· 138

دلالة النهي على الفساد عرفاً مع عدم إحراز حال النهي ··· 138

في اقتضاء النهي الفساد عقلاً مع إحراز حال النهي ··· 140

في التمسّك بالروايات على فساد المعاملة المنهيّ عنها ··· 144

تذنيب: في دعوى دلالة النهي على الصحّة ··· 146

تنبيه: في حكم تعلّق النهي بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها ··· 149

المقصد الثالث: في المفاهيم

وفيه مقدّمة وفصول:

مقدّمة: في تعريف المفهوم ··· 153

الفصل الأوّل: في دلالة الجمل الشرطية على المفهوم ··· 157

بقي اُمور:

الأمر الأوّل: في الإشكال فيما إذا كان مفاد الجزاء معنىً حرفياً ··· 163

الأمر الثاني: في تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء ··· 165

الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسبّبات ··· 168

ينبغي تقديم مقدّمات:

الاُولى: في تحرير محلّ النزاع ··· 168

الثانية: في المراد من تداخل الأسباب والمسبّبات ··· 168

الثالثة: في اختصاص النزاع بالماهية القابلة للتكثّر ··· 169

ص: 330

الرابعة: في إمكان التداخل وعدمه ··· 170

الخامسة: في أنحاء تعدّد الشرط ··· 171

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب نوعاً ··· 172

الاستدلال على عدم تداخل الأسباب ··· 172

الاستدلال على تداخل المسبّبات ثبوتاً وإثباتاً ··· 182

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب شخصاً ··· 184

تتمّة: الإشكال في العامّ الاستغراقي في المقام ··· 185

الفصل الثاني: في مفهوم الوصف ··· 188

الفصل الثالث: في مفهوم الغاية ··· 191

والبحث فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في دلالة الغاية على ارتفاع الحكم بعدها ··· 191

المقام الثاني: في أنّ الغاية داخلة في المغيّا أو لا ؟··· 194

الفصل الرابع: في مفهوم الاستثناء ··· 197

المقصد الرابع: في العامّ والخاصّ

وقبل الخوض في المقصود لابأس بذكر اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريف العامّ ··· 201

الأمر الثاني: في الفرق بين المطلق والعامّ ··· 203

الأمر الثالث: في عدم احتياج العامّ إلى مقدّمات الحكمة ··· 204

الأمر الرابع: في أقسام العموم ··· 206

تنبيه: في نقد كلام المحقّق الخراساني في وجه انقسام العموم ··· 208

الأمر الخامس: في الألفاظ الدالّة على العموم ··· 209

الفصل الأوّل: في حجّية العامّ المخصّص في الباقي ··· 211

ص: 331

الفصل الثاني: في سراية إجمال المخصّص إلى العامّ ··· 215

التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهومية ··· 215

التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللفظي ··· 217

حول الاستدلال على جواز التمسّك بالعامّ في المقام ··· 218

تتميم: في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي ··· 222

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في التمسّك بالعامّ إذا كان الخاصّ معلّلاً ··· 224

التنبيه الثاني: في العامّين من وجه المتنافيي الحكم ··· 224

التنبيه الثالث: في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية ··· 225

التحقيق في جريان الأصل المحرز لموضوع العامّ ··· 228

نشير إلى ما هو التحقيق إجمالاً، وهو يتوقّف على مقدّمات:

الاُولى: أقسام القضايا بلحاظ النسبة ··· 228

الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا ··· 229

الثالثة: القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع ··· 230

الرابعة: ضرورية كون موضوع الحكم مفرداً ··· 231

الخامسة: في اعتبارات موضوع العامّ المخصَّص ··· 232

التحقيق في المقام ··· 233

التنبيه الرابع: في التمسّك بعمومات النذر وأمثاله لكشف حال الفرد ··· 237

التنبيه الخامس: التمسّك بالعامّ عند الشكّ بين التخصيص والتخصّص ··· 238

التنبيه السادس: في دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لإجمال الخاصّ ··· 239

الفصل الثالث: هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص ؟··· 241

الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بمعرضية العامّ للتخصيص ··· 242

الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بالعلم الإجمالي ··· 245

مقدار الفحص عن المخصّص ··· 248

ص: 332

الفصل الرابع: في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين ··· 249

التحقيق في المقام ··· 253

تتمّة: في ثمرة النزاع ··· 256

الفصل الخامس: في تخصيص العامّ بالضمير الراجع إلى بعض أفراده ··· 258

الفصل السادس: في تخصيص العامّ بالمفهوم ··· 262

فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في المفهوم الموافق ··· 262

المقام الثاني: في المفهوم المخالف ··· 266

الفصل السابع: في الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة ··· 269

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في إمكان الرجوع إلى الجميع ··· 269

المقام الثاني: في حاله إثباتاً ··· 270

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في تعريف المطلق والمقيّد ··· 277

الفصل الثاني: في اسم الجنس والماهية وأقسامها ··· 280

تتميم: في اسم الجنس وعلمه ··· 285

الفصل الثالث: في مقدّمات الحكمة ··· 288

تتميم: في الأصل عند الشكّ في مقام البيان ··· 291

الفصل الرابع: في حمل المطلق على المقيّد ··· 292

الصور المتصوّرة في ورود المطلق والمقيّد ··· 292

تحرير محطّ البحث ··· 293

أحكام الصور المهمّة في المسألة ··· 294

ص: 333

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 303

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 305

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 307

4 - فهرس الأعلام ··· 309

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 313

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 315

7 - فهرس الموضوعات ··· 327

ص: 334

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.