موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 1 منهاج الوصول الی علم الاصول المجلد 1

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 1 منهاج الوصول الی علم الاصول المجلد 1/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 387ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

ص: 1

اشارة

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 3

ص: 4

مقدّمة موسوعة الإمام الخميني (س)

بسم الله الرحمن الرحيم

قضى الإمام الخميني(س) أكثر من خمسين عاماً من عمره الشريف مشتغلاً بالتعليم والتحقيق والتأليف ناجحاً في كلّ هذه المراحل كلّ النجاح، أثمرت له مكتسبات وحصائل عظيمة وذات قيمة سامية. وهذا بالإضافة إلى ثلاثة عقود من تولّيه للمرجعية الشيعية وقيادته لنضال الشعب الإيراني المسلم وإقامته لكيان الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

كان سماحة الإمام(س) خلال سنوات حضوره في الحوزتين العلميتين في قم المقدّسة والنجف الأشرف وبالتوازي مع تعليمه وتدريسه على أعلى المستويات في الفقه والاُصول والفلسفة والعرفان والأخلاق؛ مهتمّاً كلّ الاهتمام بتأليف الكتب في هذه الموضوعات، ما يظهر ويتجلّى لنا بوضوح من خلالها تعدّد الجهات العلمية المختلفة ومدى إحاطته وتضلّع باعه في تلك العلوم وما يرتبط بها كالمنطق والفلسفة والتفسير والحديث والرجال وغيرها من شعب العلوم.

من الطريف أنّ سماحة الإمام بدأ تأليفه من الموضوعات العقلية الغامضة والصعبة التي لا تنالها أيدي الأفكار إلاّ بجهاد واجتهاد حتّى مرحلة التعلّم، فضلاً عن التعليم

والتأليف. فقد ألّف عام 1307 ش «شرح دعاء السحر» في العرفان وهو أوّل كتاب له،

ص: 5

واستمرّ في سياق التأليف حتّى عام 1357 ش حيث ألّف أيّام إقامته في النجف الأشرف آخر كتاب له «الخلل في الصلاة» وهو أيضاً من أصعب المباحث المطروحة في الفقه.

ففي مجال العرفان، ألّف باللغة العربية: «شرح دعاء السحر» و«التعليقة على الفوائد الرضوية» و«مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية» و«التعليقة على شرح فصوص الحكم ومصباح الاُنس».

وفي الأبحاث الأخلاقية والعرفانية وباللغة الفارسية: «سرّ الصلاة» و«آداب الصلاة» و«شرح چهل حديث» و«شرح حديث جنود عقل وجهل».

وفي علم اُصول الفقه، ألّف أسفاراً قيّمة كما يلي: «مناهج الوصول إلى علم الاُصول» و«الطلب والإرادة» و«أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية» و«بدائع الدرر في قاعدة لاضرر» و«الاستصحاب» و«التعادل والترجيح» و«الاجتهاد والتقليد»؛ وكذا «لمحات الاُصول» التي هي تقريراته من إفادات السيّد البروجردي لمحاضرات ألقاها في خارج الاُصول.

وفي إطار الفقه الفتوائي، صنّف باللغة العربية: «التعليقة على وسيلة النجاة» و«التعليقة على العروة الوثقى» و«تحرير الوسيلة» و«مناسك الحجّ».

وباللغة الفارسية: «حاشيه بر رساله ارث ملاهاشم خراساني» و«حاشيه بر توضيح المسائل آيت الله بروجردي» و«نجاة العباد» و«توضيح المسائل» و«مناسك حج».

وفي الفقه الاستدلالي: «كتاب الطهارة» و«المكاسب المحرّمة» و«كتاب البيع» و«الخلل في الصلاة».

وخلال هذه الكتب، قد ألّف سماحته «ولايت فقيه» بالفارسية وعدّة رسائل فقهية

ص: 6

واُصولية - منها التقيّة - ، و رسائل عرفانية وهناك «جهاد اكبر» و«دروس تفسيرية لسورة الحمد» حصيلة عدة محاضرات له في الأخلاق والتفسير.

أمّا الاستفتائات، فهي مجموعة من الأجوبة التي أفادها بعد انتصار الثورة الإسلامية إلاّ بعض ما وصل إلينا من فترة حضوره في النجف الأشرف.

هذه الآثار القيّمة - عدا قسم كبير من الاستفتائات وعدّة رسائل صغيرة - قد تولّت نشرها مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني(س) ودور نشر اُخرى بصور مختلفة، ولكن كان من الحقيق علينا القيام بنشرها في مجموعة فاخرة وعصرية وفي متناول اليد للجميع.

و لنيل هذا المرام قامت مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني - فرع قم المقدّسة - بإنجاز هذه المهمّة طوال سنوات باهتمام ومساهمة من المحقّقين المحنّكين والمسيطرين على شؤون التحقيق العلمية ونجحت في هذه العملية بتقديم آثار سماحة الإمام تحت عنوان «موسوعة الإمام الخميني(س)».

جدير بالذكر أنّ ما أوردناه في هذا الإطار هو ما كتَبه وألّفه سماحته شخصياً وبقلمه ولم يرد في الموسوعة شيء من التقريرات التي ألّفها وحرّرها تلامذته.

وفي ما يلي نذكر المراحل التي قضيناها في سبيل إعداد هذه المجموعة :

1 - إعادة القراءة وتصحيح المتن والمقابلة مع النسخ الأصلية والموجودة.

2 - استخراج المصادر والمآخذ والأقوال وتوحيدها وإكمال العناوين الأصلية والفرعية.

3 - إعداد الفهارس الفنّية لكلّ مجلّد لتسهيل وصول المحقّقين والمشتاقين إليها.

4 - التحرير العلمي والفنّي ووضع العلامات.

5 - إعداد مقدّمة التحقيق لكلّ كتاب بانفراده.

ص: 7

6 - التصنيف الموضوعي في الموسوعة الخمسين جزءاً بالترتيب التالي: الاُصولية منها سبعة أجزاء، والفقهية الاستدلالية أربعة عشر جزءاً، والفقهية الفتوائية عشرة أجزاء، والاستفتائات عشرة أجزاء، والكتب العقلية تسعة أجزاء.

وفي المستقبل القريب يصدر الجزء الصفر لهذه المجموعة والذي يشتمل على مقدّمة مفصّلة حول مكانة وشخصية الإمام العلمية وآثاره هكذا كما يصدر جزءان كفهارس ودلالات على الموسوعة بأسرها.

وفي الختام نقدّم جزيل الشكر والتقدير لكلّ من حجّة الإسلام والمسلمين مسيح بروجردي بوصفه مشرفاً عامّاً وحجّة الإسلام والمسلمين حسين شايعي بوصفه ناظراً علمياً، وأيضاً سماحة إبراهيم طاهري كيا بوصفه مديراً للمشروع، وهكذا حجج الإسلام مهدي مهريزي الذي اقترح المشروع ورسول عبداللهي، وقد تمّ قسم من العمل في فترة إدارتهما للمؤسّسة وأيضاً الإخوة والسادة : حسن پويا مساعد التحقيق ومحمّد كاظم تقوي، رضا هوشياري، حجت الله أخضري، عباس أخضري، داود صالحيتبار، سيّد مرتضى سيّد إبراهيمي، حسين شهابي، محمود أيّوبي، محسن إيزدي، علي كريمي، حسنعلي منصوري، محمّد علي حسن زاده، محمّد حسن عباسي، محمّد روحاني وعلي سبحاني، وكلّ من ساهم من الإخوة الكرام في إنجاز هذا المشروع وما تحمّلوا في سبيله من عناء؛ ولا شكّ أنّه لم يكن ليؤتي بثماره لولا هذه الهمم العالية والجهود السامية. والحمد لله ربّ العالمين

مدير مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني

فرع قم المقدّسة

سيّد حبيب الله الموسوي

اسفند 1392 / ربيع الثاني 1435

ص: 8

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين

من البركات الإلهية توفيق الإمام الخميني قدّس سرّه لكتابة دورة كاملة من علم اُصول الفقه؛ فإنّه وبإزاء تدريسه لهذا العلم وبعد إلقائه الدروس على جمع من الطلاّب كان يدوّنها، وقد قام بتتميم بعض أبحاثه عند تدريسه له في الدورات اللاحقة.

وقد نظّمت المدوّنات الاُصولية للإمام الخميني قدّس سرّه في هذه الموسوعة ضمن سبعة مجلّدات وستأتي التوضيحات المتعلّقة بكلّ منها في مقدّمته الخاصّة به.

الكتاب الحاضر - وهو «مناهج الوصول إلى علم الاُصول» الذي حرّره من عام 1370 ه . ق ، وقد فرغ منه في الرابع والعشرين من شهر شوّال المكرّم من سنة 1373 ه . ق مجلّدان يشتملان على مباحث الألفاظ وفقاً لكتاب «كفاية الاُصول». وقد درّس الإمام الخميني قدّس سرّه هذه الأبواب مرّتين، والمرّة الثانية هي

ص: 9

آخر دورة درّسها في علم الاُصول حتّى بحث «حديث الرفع»، وقد أضاف إلى الكتاب تعاليق وعبارات وفقاً لآرائه الأخيرة.

ولا يخفى على القارئ أنّه - مضافاً إلى المعالم الرئيسية والكلّية للمدرسة الاُصولية للإمام الخميني قدّس سرّه التي جاءت بعضها في مقدّمة تلميذه المبرّز آية الله العظمى الفاضل اللنكراني قدّس سرّه - من الضروري الإشارة إلى أنّ سماحة الإمام قدّس سرّه قد ذكر في «المناهج» نقاطاً هامّة قيّمة وتحقيقات ذات تأثير بالغ، مثل ما ذكره حول نقد قياس العلل التشريعية على التكوينية، الفرق بين العامّ والمطلق، متعلّق الأمر والنهي، المعانى الحرفية وغيرها... أهمّها نظرية «الخطابات القانونية» وهي نظرية بديعة وذات آثار واسعة في الفقه، بل في الكثير من الأبحاث الاُصولية أيضاً، وقد أثبت قدّس سرّه في هذه النظرية ثلاث اُمور:

1 . إنّ الخطابات الشرعية ليست على أساس خطاب المولى والعبد، بل هي على أساس القواعد القانونية الرائجة بين الحكومة والمجتمع.

2 . إنّ الخطابات الشرعية هي كالخطابات القانونية الرائجة بين العقلاء، لا تنحلّ إلى عدد الأفراد والموضوعات وإنّما هي خطابات كلّية لا يلاحظ فيها الأفراد والموضوعات بخصوصياتها.

3 . إنّ الخطابات الشرعية حيث لا يلاحظ فيها اختصاصات الأفراد، تشمل العاجز والناسي والعاصي والكافر، إلاّ أن يخرج الشارع نفسه بعض الأفراد من خطابه.

الخصيصة الاُخرى الملحوظة بكثرة في هذا الكتاب هي تبيين بعض المسائل والأبحاث الفلسفية العميقة وهي قاعدة الواحد، الوجود الرابط، الكلّي الطبيعى،

ص: 10

اعتبارات الماهية، أحكام التناقض والتضادّ وغيرها، وذلك لبيان مزالق الأبحاث في المؤلّفات الاُصولية للآخرين، حفظاً على أصل عدم الخلط بين الأبحاث الحقيقية والاعتبارية.

رسالة «الطلب والإرادة»

ثمّ هذا الكتاب يشتمل على رسالة حول بحث «الطلب والإرادة» الذي هو من الأبحاث الكلامية والفلسفية المعقّدة؛ لأ نّه قد اُورد في «كفاية الاُصول» وصار جزءاً من الكتب الاُصولية المتأخّرة، لكن حيث إنّ دأب الإمام الخميني قدّس سرّه هو عدم خلط المسائل المتعلّقة بعلم مع علم آخر، بل كان يبذل جهده ببيان المسائل الخاصّة بذلك العلم خاصّة، من هنا فإنّه لمّا وصل في درسه إلى هذا البحث وكان يرى أنّه خارج عن الاُصول المتعارفة كتب رسالة مستقلّة سنة 1371 ه . ق وطبعت سابقاً شكل مستقلّ. أمّا في هذه الطبعة فلمّا رأينا شدّة احتياج الباحثين إلى هذه الرسالة مع صغر حجمها، طبعناها تبعاً لصاحب «الكفاية» منضمّة إلى مباحث الألفاظ من علم الاُصول.

منهجنا في التحقيق

التحقيق المطلوب له مراحل عديدة ومعروفة، فلأجل الدقّة في إنجاز الأعمال اللازمة في تحقيق هذه الموسوعة لم تقنع المؤسّسة بتنفيذ مراحلها مرّة واحدة وإنّما قامت بتكرارها عدّة مرّات ومن قبل العديد من الباحثين؛ تفادياً للأخطاء المحتملة. وإليك فيما يلي إيضاح هذه المراحل بشكل مختصر:

ص: 11

1 . تصحيح الكتاب طبقاً للنسخة التي بخطّ المؤلّف قدّس سرّه .

2 . تقويم النصّ وترقيمه بعلائم الترقيم.

3 . إضافة عدد من العناوين بهدف تسهيل الرجوع للكتاب، ونظراً إلى كثرتها فقد جرّدناها من المعقوفين [ ] .

4 . تخريج الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، وقد أسندناها إلى مصادرها الأصلية كالكتب الأربعة وكتب الواسطة ك«وسائل الشيعة».

5 . تخريج الأقوال والآراء المنقولة قدر المستطاع؛ سواء الفقهية منها والاُصولية والفلسفية واللغوية وغيرها.

ولا يخفى أنّه قد عبّرنا بلفظ «اُنظر» فيما لو لم نتمكّن من تحديد صاحب القول الأصلي، أو لم نعثر على القول في كتابه، أو لم يكن المنقول مطابقاً للموجود في الكتاب.

6 . وضع الفهارس الفنّية لكلّ مجلّد تسهيلاً لأمر المحقّقين والاستفادة الكاملة من الكتاب.

7 . تسمية الكتاب ب «مناهج الوصول إلى علم الاُصول»؛ فإنّها كانت من قبل مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، بإجازة نجله الرحيل حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد أحمد الخميني قدّس سرّه عند نشره بعد رحلة الإمام قدّس سرّه .

وأنّ الكتاب قد طبع لأوّل مرّة في شوّال 1414ه .ق الموافق لشهر فروردين من عام 1373 ه . ش . ولقد كان انتشرت نظرياته الاُصولية حول مباحث الألفاظ قبل هذا التأريخ في ضمن «تهذيب الاُصول» تقريرات آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني.

ص: 12

وليعلم أنّ هذه المراحل قد وقعت في الطبعة الاُولى لهذه المؤسّسة وفي هذه الطبعة قد صحّحناها وهذّبناها ثانياً.

وختاماً نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لجميع الأفاضل الذين ساهموا في هذا المشروع المبارك والذي استمرّ ستّة أعوام لنشر هذه الموسوعة، ونسأل البارئ أن يوفّقهم جميعاً ويثيبهم من فضله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه

فرع قم المقدّسة

ص: 13

مقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام

على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وعلى آله الطيّبين

الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد:

فممّا أنعم الله تعالى به عليّ - من نعمائه التي لا تحصى، وآلائه التي لاتعدّ - نعمة عظيمة يجب عليّ بإزائها الشكر الكثير، وهي أن وفّقني لإدراك دورة كاملة من المباحث الاُصولية التي ألقاها سيّدنا الاُستاذ العلاّمة المحقّق الإمام الخميني قدّس سرّه على جمّ غفير من الأفاضل في الحوزة العلمية المقدّسة التي هي بالفعل اُمّ الحوزات العلمية في عالم الشيعة، وهي حوزة قم المحمية، التي هي عُشّ أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - من الزمن القديم إلى يومنا هذا.

وليس غرضي في هذا المجال تعريف الاُستاذ وتبيين شخصيته، بل ولا حاجة إليه؛ لكونها غنيّة عن البيان، لا سيّما من مثلي الذي هو من أقلّ تلاميذه بعد كون أبعاده العلمية - الفقهية والاُصولية والفلسفية والعرفانية والأخلاقية

ص: 14

والتفسيرية والرجالية وغيرها من العلوم الإسلامية والفنون المذهبية ومقدّماتها - واضحة لدى المخالف والمؤالف، لا سيّما بعد تحقّق الثورة الإسلامية الإيرانية المشتهرة في الآفاق، الواقعة بتفضّل الله وعنايته الخاصّة، بعد المجاهدات الكثيرة وتحمّل المشاقّ والآلام المتنوّعة والتضحيات الكثيرة من الاُمّة المسلمة الإيرانية، الذين كان كثير منهم من الشباب؛ لأنّ الثورة المسبوقة بالمعارضات التي طالت خمس عشرة سنة كانت بقيادة الروحانية والمرجعية وعلى رأسهم الإمام قدّس سرّه ، فإنّه كان هو القائد الأعظم والمؤسّس لنظام الحكومة الإسلامية المحضة، التي يكون تعريفها وتبيينها من طريق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، والإنصاف أنّ تأسيس تلك الحكومة - في الظرف الذي كان الحاكم على إيران مستظهراً بالقدرة العظيمة الظاهرية التي لم يكن فوقها قدرة، وهي قدرة الشيطان الأكبر الذي هو اُمّ الفساد في جميع أقطار العالم في هذا الزمان، وهو أمريكا - كان أشبه بالمعجزة، خصوصاً مع عدم الاستظهار بقدرة اُخرى أصلاً وعدم توفّر الإمكانات وعدم التجهيزات حتّى الأجهزة الأوّلية والآلات الساذجة. نعم، كان المستظهَر به هي القدرة المطلقة الإلهية، التي لا يماثلها قدرة أصلاً، والإيمان والاعتقاد بتلك القدرة غير المحدودة )إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ

وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ( ولا شكّ أنّ النصر المضاف إلى المحدود محدود، والمضاف إلى الله غيرِ المحدود غيرُ محدود، فجزاء النصر الجزئي المحدود هو النصر الكلّي غير المحدود.

واليوم نشاهد ثمرات الثورة في أبعادها المختلفة، ومن ثمراتها حدوث التحوّل الكامل، خصوصاً في الشباب الذين كان كثير منهم قبل الثورة غوّاصين

ص: 15

في بحار الشهوات، وأحاطت بهم الخطيئات، ولم يكن همّهم إلاّ الالتذاذ بالمعاصي والاشتغال بالسيّئات، وقد تحوّل حالهم إلى أن صار مطلوبهم الأكبر الذي كانوا يدعون له في صلاة ليلهم هي الشهادة في سبيل الله وفداء أنفسهم في الحرب مع العراق التي أشعلها الشيطان الأكبر لغرض مواجهة الثورة وإسقاطها واجتثاثها من أصلها؛ اعتقاداً بأنّ الحكومة الإسلامية والقوانين القرآنية المنطبقة على الفطرة الأصلية والعقل السليم لا تقف عند نقطة خاصّة، بل تسري إلى سائر البلاد، وهو كذلك، فنرى الميل إلى الإسلام الواقعي المحض في كثير من الممالك الإسلامية التي يترأّسها المنتحلون للإسلام المتظاهرون به مع عدم اعتقادهم به بوجه، ولأجله تكون المعارضة والمخالفة مستمرّة، وكثيراً ما يقدّم المعارضون التضحيات الكثيرة.

وفي عقيدتي أنّ أهمّ ثمرة للثورة، الذي لا تبلغه ثمرة اُخرى في الأهمّية والعظمة هو اشتهار عقائد الشيعة واطّلاع العالم عليها وعلى أنّ مدرسة التشيّع هي مدرسة المعارضة للظالم والخروج على الطاغوت وحكومته بأيّ نحو كان على مرّ التاريخ، ولم يكن لهذه الشهرة سابقة في بدء الإسلام وأوّل حدوثه؛ ولذا ترتّب على هذه الشهرة توجّه أنظار المحقّقين وأفكار الباحثين الطالبين للحقيقة إلى هذا المذهب. ومن الواضح أنّ الفطرة السليمة غير المشوبة إذا نظرت إلى عقائد الشيعة وأفكارهم في الفنون الإسلامية المختلفة - الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وسائر شؤونها المتكثّرة - لا تكاد تشكّ في صحّتها وكونها هي العقائد الحقّة والقوانين الصالحة لإدارة المجتمعات والحكومات؛ لابتنائها على العقل السليم والمنطق الصحيح والحرّية والاستقلال والتكفّل

ص: 16

لجميع شؤون المعاش والمعاد في جميع الأعصار والأدوار وكلّ أقطار العالم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأفكارهم.

وبعد ذلك نرجع الآن إلى ما هو الغرض في هذه المقدّمة، فنقول:

أوّل من صنّف في علم الاُصول

قال السيوطي في محكيّ كتاب «الأوائل»: أوّل من صنّف في اُصول الفقه الشافعيُ بالإجماع. وصرّح بذلك جمع من أعلام المؤرّخين وبعض المصنّفين فيما يتعلّق بالكتب كصاحب كتاب «كشف الظنون».

وربما يحتمل أن يكون أبو يوسف - الذي هو سابق على الشافعي وتلميذ لأبي حنيفة - هو أوّل من صنّف في ذلك، كما قاله ابن خلّكان في ترجمته، كما أنّه هو أوّل من لُقّب بقاضي القضاة.

كما أنّه يحتمل أن يكون هو محمّد بن الحسن الشيباني فقيه العراق؛ لأ نّه مقدّم على الشافعي، وقد صرّح ابن النديم في «الفهرست»: أنّ من جملة مؤلّفاته الكثيرة تأليفاً يسمّى ب «اُصول الفقه»، وتأليفاً سمّاه كتاب «الاستحسان»، وتأليفاً

بعنوان كتاب «اجتهاد الرأي».

لكنّ الظاهر - كما يظهر من كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» للسيّد الأجلّ الصدر قدّس سرّه - أنّ أوّل من صنّف في ذلك - بعد ما كان المؤسّس هما الإمامين الهُمامين الصادقين علیهما السلام - هشام بن الحكم، صنّف كتاب «الألفاظ ومباحثها»، وهو أهمّ مباحث هذا العلم، ثمّ يونس بن عبدالرحمان مولى آل يقطين، صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله»، وهو مبحث تعارض

ص: 17

الحديثين ومسائل التعادل والترجيح في الحديثين المتعارضين، ذكرهما أبوالعبّاس النجّاشي في كتاب «الرجال»؛ والشافعي متأخّر عنهما.

سير علم الاُصول عند الشيعة وقوسه النزولي والصعودي

الظاهر أنّ أوّل من اعتمد على علم الاُصول في مقام الاستنباط واستند إليه الشيخ الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل، الذي هو من مشايخ جعفر بن محمّد ابن قولويه صاحب كتاب «كامل الزيارات» وأحد مشايخ الشيخ المفيد قدّس سرّه وهو أوّل من هذّب الفقه، واستعمل النظر، وفتّق(1) البحث عن الاُصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى، وله كتاب «المتمسّك بحبل آل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم » في الفقه.

ثمّ اقتفى أثره ونهج منهجه ابن الجنيد المعروف بالإسكافي، الذي هو - كما صرّح به السيّد بحر العلوم قدّس سرّه - من أعيان الطائفة الإمامية، وأعاظم الفرقة المُحقّة، وأفاضل قدماء الإمامية، وأكثرهم علماً وفقهاً وأدباً وتصنيفاً، وأحسنهم تحريراً وأدقّهم نظراً، تبلغ مصنّفاته نحواً من خمسين كتاباً، منها كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة» مشتمل على جميع مباحث الفقه، وهو عشرون مجلّداً.

وقد وصلت النوبة بعدهما إلى الشيخ الأكبر محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف ب «المفيد» فأ لّف كتاباً في الاُصول، يشتمل مع اختصاره على اُمّهات المباحث والمطالب، وقد رأيت مصنّفاً له في الاُصول في غاية الاختصار لا يتجاوز عدّة صفحات، ولعلّه كان كتاباً آخر منه في هذا العلم.

وتبعه في ذلك تلميذاه اللذان هما من أركان الطائفة، والمتبحّرين في الفنون

ص: 18


1- فتَّق الكلام: نقّحه وقوّمه.

المختلفة الإسلامية، ولهما تآليف قيّمة وتصنيفات ثمينة في أكثرها، وهما: السيّد الأجلّ السيّد المرتضى الملقّب ب «علم الهدى» وشيخ الطائفة أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي - قدّس سرّه القدّوسي - فقد صنَّف الأوّل كتاب «الذريعة إلى اُصول الشريعة»، والثاني كتاب «عدّة الاُصول» الذي قال في شأنه السيّد بحر العلوم: «هو أحسن كتاب صنّف في الاُصول».

ولجلالة شأن الشيخ الطوسي وعظمة مقامه وكثرة تأليفاته واستنباطاته وفتاواه، لم يعْدُ أحد من تلامذته نظريات اُستاذهم، ولم يتجاسروا على نقدها وتمحيصها.

واستمرّت هذه الحالة إلى أن وصلت النوبة إلى سبط الشيخ ابن إدريس الحلّي المعروف بصاحب «السرائر»، فجدّد البحث والانتقاد، وفتح باب الاستنباط والاجتهاد بعد الركود والانسداد.

وانتقل الدور بعده إلى الفاضلين: المحقّق صاحب «الشرائع» وابن اُخته العلاّمة الحلّي، فأحكما أساس البحث والنظر، وأ لّفا في الفقه والاُصول كتباً كثيرة، فأ لّف الأوّل في الاُصول كتاب «نهج الوصول إلى معرفة الاُصول» وكتاب «المعارج»، والثاني صنّف كتباً كثيرة عمدتها «نهج الوصول إلى علم الاُصول» الذي تصدّى لشرحه جمع من أجلاّء الأصحاب منهم ابنه فخر المحقّقين، وصار مدار البحث والدرس إلى زمان الشهيد الثاني، وقد أ لّف الشهيد المزبور كتاباً في ذلك سمّاه «تمهيد القواعد»، وابنه صاحب «المعالم» كتابه المعروف ب «المعالم» الذي كان إلى زماننا هذا مدار البحث والدرس في بدء الشروع في علم الاُصول؛ لسلاسة تعبيره وجودة جمعه وسهولة تناوله، ولأجله صار مورداً لإقبال العلماء

ص: 19

عليه بالتحشية والتعليق والشرح، وأحسنها ما أ لّفه الشيخ محمّد تقي الأصفهاني - أخو صاحب «الفصول» - المسمّى ب «هداية المسترشدين» وهو كتاب كبير مشتمل على تحقيقات كثيرة وتدقيقات بديعة.

وفي هذه الدورة بلغت العناية بعلم الاُصول مرتبةً لم تكن حاجة إلى بلوغه تلك المرتبة بوجه؛ بعد كونها مقدّمة للفقه، ولم تكن لها موضوعية، وعلى حسب تعبير بعض الأعاظم اتّصف بالتورّم والخروج عن الحدّ.

إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري صاحب كتاب «الرسائل» وتلميذه المحقّق الخراساني صاحب «الكفاية» فقد وقع منهما التنقيح والتهذيب والترتيب على وجه أنيق، وصار الكتابان من الكتب الدراسية في الحوزات العلمية، وعليهما شروح وتعاليق كثيرة، وصارت أنظارهما مورداً للتدقيق والتحقيق من قبل أجلاّء تلاميذهما، ولهم في ذلك تآليف قيّمة وأنظار ثمينة، لا يمكن إنكار علوّ رتبتها الكاشف عن الغوص في أعماق بحار المطالب، والبلوغ إلى منتهى المراتب العالية والدرجات المتعالية.

وبعد ذلك انتقل الدور إلى الطبقة اللاحقة التي منهم سيّدنا الاُستاذ العلاّمة المحقّق الاُصولي الكبير الإمام الخميني قدّس سرّه .

منهج الإمام قدّس سرّه وأنظاره في علم الاُصول

وأمّا منهجه: فقد كان بناؤه على ملاحظة المطالب من أصلها والنظر في أساسها وأنّها هل اُسّست على أساس صحيح قابل للقبول، أو أنّ أساسها مخدوش ومورد للنظر والبحث، فقد رأينا في مباحثه أنّه كثيراً ما يضع إصبعه

ص: 20

على نكتة البحث، ويهتمّ بالأساس الذي لعلّه كان مسلّماً عندهم، ويناقش فيه، ولأجله تصير المسألة متطوّرة متغيّرة، ولا تصل النوبة إلى البحث عن الأغصان والفروع، ومن هذه الجهة كان بحثه قدّس سرّه في أعلى درجة الفائدة، وموجباً لشحذ أذهان الفضلاء والطلبة، ولم تكن المطالب مقبولة عنده تعبّداً وتقليداً، بل كانت ملحوظة اُسُساً واُصولاً. ولعمري إنّ هذه مزية مهمّة توجب الرشد والرقاء، وتؤثّر في كمال التحقيق والتدقيق.

وأمّا أنظاره القيّمة الابتكارية المحضة أو تبعاً لبعض مشايخه، فكثيرة نشير إلى بعضها:

منها: ما يترتّب عليه ثمرات مهمّة وفوائد جمّة: وهو عدم انحلال الخطابات العامّة المتوجّهة إلى العموم - بحيث يكون الخطاب واحداً والمخاطب متعدّداً - إلى الخطابات الكثيرة حسب كثرة المخاطبين وتعدّد المكلّفين، بل الخطاب واحد والمخاطب متعدّد، والشرط في صحّة هذا النحو من الخطاب يغاير الشرط في الخطابات الشخصية، فإنّه لا يمكن في الخطاب الشخصي توجيهه إلى المخاطب مع العلم بعدم القدرة مثلاً، مع أنّه لا مانع من كونه مخاطباً في ضمن العموم مع وصف كونه كذلك.

ويترتّب عليه صحّة الأمر بالضدّين الأهمّ والمهمّ من دون أن يكون هناك ترتّب في البين، كما يتكلّفه القائل بالترتّب الذي صار مورداً للإثبات والنفي إلى حدّ الاستحالة، فإنّه عليه يكون الأمران ثابتين من دون ترتّب وطولية في البين. وكذا يترتّب عليه صحّة تكليف الكفّار والعصاة مع العلم بعصيانهم ومخالفتهم. وكذا ثمرات مهمّة اُخرى كعدم اشتراط الابتلاء الذي جعله الشيخ الأعظم

ص: 21

الأنصاري قدّس سرّه من شرائط منجّزية العلم الإجمالي، وقال: بأنّ خروج بعض الطرفين أو الأطراف عن محلّ الابتلاء يمنع عن تأثير العلم رأساً، وعلى مبنى الإمام قدّس سرّه لا يبقى مجال لهذا الاشتراط.

ومنها: ما أفاده في إ بطال ما اشتهر - بل ولعلّه من المسلّم عندهم - من أنّ الماهية توجد بوجود فردٍ ما، وتنعدم بانعدام جميع الأفراد.

وملخّص ما بيّنه وأفاده: أنّه إذا كان الطبيعي موجوداً بوجود فردٍ ما، فالإنسان يوجد بوجود زيد لا محالة، كما أنّه يوجد بوجود عمرو، لكنّ زيداً وعمراً إنسانان لا إنسان واحد، فإذا كان وجود زيد وجود إنسان تامّ وتحقّق كمال الطبيعة وتمام الماهية، فكيف لا يكون عدمه عدمها؟! فكما أنّ الإنسان يوجد بوجود زيد، كذلك ينعدم بعدمه لا محالة، لكن لا مانع من وجود الماهية وعدمها في آنٍ واحد، فكما أنّ الإنسان يتّصف في آنٍ واحد بالبياض والسواد معاً لأجل اتّصاف زيد بالأوّل وعمرو بالثاني، كذلك يتّصف بالوجود والعدم معاً للعلّة المذكورة بعينها، وعليه فلا يبقى مجال لما اشتهر من أنّ الماهية توجد بوجود فردٍ ما، وتنعدم بانعدام جميع الأفراد، بل هي توجد بوجود فرد، وتنعدم بانعدام فرد، ويجتمع الأمران - الوجود والعدم - فيها في آنٍ واحد.

ومنها: ما أفاده في إبطال ما استفاده مثل المحقّق الخراساني قدّس سرّه من المسألة المعروفة في الفلسفة، وهي أنّ الماهية من حيث هي هي ليست إلاّ هي؛ لا موجودة ولا معدومة، ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة، من أنّ مقتضى ذلك عدم إمكان تعلّق الأحكام التكليفية بنفس الطبائع والماهيات؛ لأنّها في عالم الماهية ليست إلاّ هي، ولا تكون مطلوبة كما أنّها لا تكون غير مطلوبة.

ص: 22

ومحصّل ما أفاد في إبطال هذا المقال: أنّ مقصود الفلاسفة من العبارة المذكورة أنّ الماهية في مرتبتها التي هي مرتبة الجنس والفصل لا يكون أمر آخر غيرهما مأخوذاً فيها؛ بحيث يكون في عداد الجنس والفصل حتّى الوجود، فإنّ الماهية وإن كانت متّصفة بالوجود إلاّ أنّ الوجود لا يكون داخلاً فيها جزءاً؛ لا جنساً ولا فصلاً، كما أنّ العدم أيضاً يكون كذلك، مع أنّها في الخارج لا تخلو إمّا عن الوجود وإمّا عن العدم.

وبعبارة اُخرى: العبارة المذكورة ناظرة إلى الحمل الأوّلي الذاتي الذي لا يكون دون الاتّحاد في الماهية وإن لم نقل باعتبار الاتّحاد في المفهوم فيه أيضاً، والبحث في تعلّق الأحكام بالطبائع ناظر إلى الحمل الشائع الصناعي، فماهية الصلاة واجبة لا بمعنى كون الوجوب جزءاً لماهيتها، بل بمعنى كونها معروضة للوجوب.

ومن هنا يظهر: أنّ إضافة الوجوب إلى الماهية إنّما هي في عداد إضافة الوجود إليها، ولا فرق بين الأمرين، وعليه فلا مجال للفرار عن الشبهة المذكورة بالالتجاء إلى كون متعلّق الأحكام هو وجود الطبائع، كما زعمه المحقّق الخراساني قدّس سرّه مضافاً إلى استحالة تعلّق التكليف بالوجود؛ للزوم تحصيل الحاصل، والتحقيق في محلّه. ويترتّب على ما أفاده وضوح جواز اجتماع الأمر والنهي في مثل الصلاة في الدار المغصوبة؛ لعدم تحقّق الاتّحاد بين العنوانين في عالم تعلّق الأمر والنهي، وكون الاتّحاد في الخارج الذي هو خارج عن مرحلة تعلّق الأحكام وغير ذلك من الثمرات.

ومنها: أنّه قد اشتهر لا سيّما في كلام المحقّق الخراساني قدّس سرّه أنّ لكلّ حكم

ص: 23

مراتب أربعة: الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجّز، ولو أخرجنا الاقتضاء والتنجّز عن المراتب؛ نظراً إلى كون الأوّل قبل الحكم وسبباً مقتضياً له، والثاني بعد الحكم؛ لأ نّه عبارة عن استحقاق العقوبة على المخالفة، تبقى المرتبتان؛ الإنشاء والفعلية، والمراد بالأوّل مرتبة جعل الحكم ووضعه وإنشائه، وبالثاني مرتبة بلوغه إلى لزوم العمل على طبقه، والجري على وفقه.

والإمام قدّس سرّه قد أنكر هذه المراتب بل المرتبتين أيضاً، والتزم بأنّ الأحكام على قسمين، لا أنّ لكلٍّ منها مرتبتين:

قسم - وهو جُلّ الأحكام - عبارة عن الأحكام الفعلية الواقعة في جريان العمل والقوانين التي يلزم تطبيق العمل عليها.

والقسم الآخر: هي الأحكام الإنشائية التي تصير فعلية في زمن المهديّ صاحب العصر والزمان - عجّل الله فرجه - وبعد ظهوره.

فالإنشائية والفعلية منوّعتان لجنس الحكم، لا أنّهما مرتبتان لكلّ حكم، والتحقيق في محلّه.

ومنها: ما أفاده في إبطال ما كان مسلّماً عند مثل المحقّق الخراساني قدّس سرّه : من أنّ الأوامر على ثلاثة أقسام: الأمر الواقعي الأوّلي، والأمر الثانوي الاضطراري، والأمر الظاهري، وأنّ الأوّل مثل الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية، والثاني مثل الأمر بها مع الطهارة الترابية، والثالث مثل الأمر بها مع الطهارة الظاهرية الثابتة

بالبيّنة أو بمثل الاستصحاب وقاعدة الطهارة.

ومحصّل ما أفاده: أنّ تعدّد الأمر غير قابل للقبول، بل في المثال المذكور الأمر الواحد قد تعلّق بطبيعة الصلاة في قوله تعالى في موارد متعدّدة: )أَقِيمُوا

ص: 24

الصَّلَوةَ(. وآية الوضوء والتيمّم ناظرة إلى تبيين المتعلّق واشتراطه بالوضوء لواجد الماء وبالتيمّم لفاقد الماء، من دون أن يكون هناك أمران، كما أنّ أدلّة حجّية البيّنة والاُصول العملية المثبتة للطهارة ناظرة إلى جواز الاكتفاء بالطهارة الثابتة بها في مقام الامتثال وموافقة الأمر بالصلاة من دون أن يكون هناك أمر ثالث، فالأمر واحد ومتعلّقه أيضاً واحد، لكنّ الأدلّة الاُخرى ناظرة إلى بيان الشرطية والاكتفاء بالشرط ولو كان ثابتاً بأصل أو أمارة، فنرى في مورد بعض أدلّة الاستصحاب إجراءه في مورد الشكّ في الوضوء مع العلم بحدوثه من دون أن يكون فيه إشعار بتعدّد الأمر ووجود أمر آخر غير الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة، بل مفاده التوسعة في دليل آية الوضوء، وأنّ الوضوء الاستصحابي يكفي في تحقّق الشرط. نعم، قد وقع البحث في أنّه مع انكشاف الخلاف وأنّه لم يكن متوضّئاً في حال الشكّ، هل يكون المأتيّ به مُجزياً أم لا؟

ومنها: ما اختاره تبعاً لشيخه واُستاذه صاحب كتاب «وقاية الأذهان» من أنّ المجاز لا يكون استعمالاً للّفظ في غير ما وضع له، بل يكون استعمالاً فيما وضع له، غاية الأمر ثبوت ادّعاء في البين شبيه ما يقوله السكّاكي في خصوص باب الاستعارة التي هي المجاز مع علاقة المشابهة، مع فرق بينهما قد حقّق في محلّه.

وغير ذلك من الموارد الكثيرة والأنظار القيّمة التي يظهر لمن راجع مباحثه.

الكتاب الذي بين يديك

حيث إنّ الفضلاء الذين كانوا يستفيدون من مباحثه كثيرون، وكان أكثرهم يقرّرون ويثبتون مطالبه كلاًّ أو جُلاًّ، لكن المطبوع منها الذي كان ملحوظاً

ص: 25

للإمام قدّس سرّه ومتصدّراً بتقريظه الشريف ما قرّره الفاضل العالم الكامل أخونا المعظّم آية الله الحاج الشيخ جعفر السبحاني التبريزي - أدام الله بركات وجوده - المسمّى ب «تهذيب الاُصول»، وكان مرجعاً للفضلاء والطلاّب في الحوزات العلمية من الأساتذة والتلامذة وغيرهم.

لكن الكتاب الذي بين يديك وجد بعد ارتحاله قدّس سرّه في قراطيس متفرّقة ولم يخرج إليك إلاّ بعد إعمال جهد شديد وعمل متواصل تصدّت له مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام قدّس سرّه التي هي مؤسّسة كثيرة البركات والآثار، وهي تحت إشراف قُرّة العين حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد أحمد الخميني - دامت بركاته العالية - وقد صدرت منها كتب نافعة كثيرة مطبوعة.

واللازم أوّلاً التقدير والتشكّر من تلك المؤسّسة التي لا زالت مؤيّدة، وثانياً من الذين أتعبوا أنفسهم في تنظيم هذا الكتاب وتذييله بمطالب يترتّب عليها فوائد مهمّة لا يُستغنى عنها بوجه أصلاً.

وفي الختام نرجو من الله تعالى أن يزيد في علوّ درجات الإمام قدّس سرّه

وأن يحشره مع أجداده الطيّبين الطاهرين وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين بحقّ بقيّة الله تعالى في الأرضين - روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء - وكان اللازم البحث في المقدّمة على سبيل التفصيل، لكن ضيق الوقت، والاستعجال قد منعا من ذلك.

محمّد الفاضل اللنكراني

25 / 1 / 72

ص: 26

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله

على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم

وبعدُ:

فقبل الورود في المقصود لا بدّ من تقديم اُمور:

ص: 1

ص: 2

الأمر الأوّل : في موضوع علم الاُصول وتعريفه

اعتبارية وحدة العلم

إنّ كلّ علم عبارة عن عدّة قضايا مرتبطة تجمعها خصوصية بها يترتّب عليها غرض واحد وفائدة واحدة بالوحدة السنخية. ووحدة العلم - كوجوده - اعتبارية لا حقيقية؛ ضرورة امتناع حصول الوحدة الحقيقية المساوقة للوجود الحقيقي للقضايا المتعدّدة؛ لأنّ المركّب من الشيئين أو الأشياء لا يكون موجوداً [آخر] غير الأجزاء. اللهمّ إلاّ المركّب الحقيقي الحاصل من الكسر والانكسار المتحصّلة منهما صورة غير صورة الأجزاء.

تدريجية تكامل العلوم

ولا إشكال في أنّ العلوم كلّها - عقلية كانت أو غيرها - إنّما نشأت من النقص إلى الكمال، فكلّ علم لم يكن في أوّل أمره إلاّ قضايا معدودة لعلّها لم تبلغ عدد

ص: 3

الأصابع، فأضاف إليها الخلف بعد السلف، وكم ترك الأوّل للآخر، والفَرَط للتابع.

فهذا المنطق، فقد نقل الشيخ أبوعلي عن معلّم الفلاسفة: إنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلاّ ضوابط غير مفصّلة... إلى آخره(1)، وهذا حال سائر العلوم، فلا أظنّ بعلم اُسّس من بدو نشئه على ما هو الآن بين أيدينا، فانظر علوم الرياضيات والطبّ والتشريح حاضرها وماضيها، وعلمي الفقه والاُصول من زمن الصدوقين والشيخين إلى زماننا.

عدم لزوم موضوع واحد لكلّ علم

ثمّ اعلم: أنّ القضايا المركّبة منها العلوم مختلفة: فمن العلوم ما يكون جميع قضاياه أو غالبها قضايا حقيقية أو بحكمها، كالعقليات والفقه واُصوله.

ومنها ما تكون جزئية حقيقية، كالتأريخ والجغرافيا وغالب مسائل الهيئة وعلم العرفان.

ونسبة موضوع المسائل إلى ما قيل: إنّه موضوع العلم، قد تكون كنسبة الطبيعي إلى أفراده، وقد تكون كنسبة الكلّ إلى أجزائه، بل قد يكون موضوع جميع المسائل هو موضوع العلم، فمن الأوّل الأمثلة الاُول، ومن الثاني الثانية غالباً ما عدا العرفان، ومن الثالث العرفان؛ فإنّ موضوعه هو الله - تعالى - وهو عين موضوع مسائله.

فاتّضح ممّا ذكر اُمور:

منها: أنّ ما اشتهر: من أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه

ص: 4


1- الشفاء، قسم المنطق، السفسطة 4: 113؛ اُنظر شرح حكمة الإشراق: 21.

الذاتية، ممّا لا أصل له، سواء فسّرناها بما فسّرها القدماء(1)،

أو بأ نّها ما لا تكون لها واسطة في العروض(2)؛

ضرورة أنّ عوارض موضوعات المسائل - التي تكون نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة الأجزاء إلى الكلّ، لا الجزئيات إلى الكلّي - لا تكون من عوارضه الذاتية بالتفسيرين إلاّ بتكلّف.

ومنها: ما قيل: من أنّ مسائل العلوم هي القضايا الحقيقية(3)، غير مطّرد.

ومنها: ما قيل: من أنّ موضوعات المسائل هي موضوع العلم خارجاً، ويتّحد معها عيناً كاتّحاد الطبيعي وأفراده(4)، غير تامّ.

ومنها: ما اشتهر من أنّه لا بدّ لكلّ علم من موضوع واحد جامع بين موضوعات المسائل، ممّا لا أصل له؛ فإنّك قد عرفت أنّ كلّ علم إنّما كان بدو تدوينه عدّة قضايا، فأضاف إليه الخلف حتّى صار كاملاً، ولم يكن من أوّل الأمر في نظر المؤسّس البحث عن عوارض الجامع بين موضوعات المسائل.

فهذا علم الفقه، فهل يكون في مسائله ما يبحث عن عوارض فعل المكلّف بما هو فعله الجامع بين الأفعال؟! وهل كان نظر مدوّنيه في أوّل تدوينه إلى ذلك،

ص: 5


1- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 1: 298 - 299؛ البصائر النصيرية: 5 - 6؛ شرح الشمسية: 14؛ الحكمة المتعالية 1: 30.
2- الحكمة المتعالية 1: 32، الهامش 1 (تعليقة الحكيم السبزواري)؛ الفصول الغروية: 10 / السطر 23؛ كفاية الاُصول: 21.
3- اُنظر كفاية الاُصول: 21؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 22.
4- كفاية الاُصول: 21؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 22.

أم كان هذا التكلّف كالمناسبات بعد الوقوع على وجه لا يصدق في جميع مسائل العلوم أو غالبها؟!

وهل تظنّ أنّ مدوّن علم الجغرافيا في بدو تأسيسه كان شخصاً ناظراً إلى أحوال الأرض وهيئاتها؟! أو أنّ في كلّ صقع وجد شخص أو أشخاص في مرّ الدهور، ودوّن جغرافيا صُقعه، أو مع البلاد المجاورة، ثمّ ضمّ آخر جغرافيا صقعه إليه، فصار جغرافيا مملكة، وهكذا إلى أن صار جغرافيا جميع الأرض، فلم يكن البحث فيه من أوّل الأمر عن أحوال الأرض، تأمّل. وهكذا الأمر في كثير من العلوم.

فالالتزام بأ نّه لا بدّ لكلّ علم من موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، ثمّ التزام تكلّفات باردة لتصحيحه، ثمّ التزام استطراد كثير من المباحث التي تكون بالضرورة من مسائل الفنون، ممّا لا أرى له وجهاً.

فأيّ داعٍ للالتزام بكون موضوع علم الفقه هو فعل المكلّف(1)،

وأنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، مع أنّ الأحكام ليست من العوارض؟!

ومع التسليم وتعميم الأعراض للاعتباريات، ليست كلّها من الأعراض الذاتية لموضوعات المسائل؛ فإنّ وجوب الصلاة لا يمكن أن يكون من الأعراض الذاتية لها بوجودها الخارجي؛ لكون الخارج ظرف السقوط لا الثبوت، ولا بوجودها الذهني، وهو واضح، ولا للماهية من حيث هي؛ ضرورة

ص: 6


1- معالم الدين: 29.

عدم كونها مطلوبة، فمعنى وجوبها أنّ الآمر نظر إلى الماهية وبعث المكلّف نحو إيجادها، وبهذا الاعتبار يقال: إنّها واجبة، لا بمعنى اتّصافها بالوجوب في وعاء من الأوعية، ووعاء الاعتبار ليس خارجاً عن الخارج والذهن.

هذا، مع لزوم الاستطراد في كثير من مهمّات مسائل الفقه، كأبواب الضمان، وأبواب المطهّرات والنجاسات، وأبواب الإرث، وغير ذلك.

أو أيّ داعٍ لجعل موضوع الفلسفة هو الوجود، ثمّ التكلّف بإرجاع المسائل فيها إلى البحث عن أعراضه الذاتية له بما تكلّف به بعض أعاظم فنّ الفلسفة(1)،

ثمّ الالتزام باستطراد كثير من المباحث، كمباحث الماهية والأعدام، بل مباحث المعاد وأحوال الجنّة والنار وغيرها، أو التكلّف الشديد البارد بإدخالها فيها.

هذا، مع أنّ كثيراً من العلوم مشتمل على قضايا سلبية بالسلب التحصيلي، والتحقيق في السوالب المحصّلة أنّ مفادها هو قطع النسبة وسلب الربط، لا إثبات النسبة السلبية، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مباحث الاستصحاب(2).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ دعوى كون موضوع كلّ علمٍ أمراً واحداً منطبقاً على موضوعات المسائل ومتّحداً معها، غيرُ سديدة.

وما ربما يتوهّم: من لزوم ذلك عقلاً؛ استناداً إلى قاعدة عدم صدور الواحد إلاّ من الواحد(3)، ممّا لا ينبغي أن يصدر ممّن له حظّ من العقليات؛ فإنّ

ص: 7


1- الحكمة المتعالية 1: 23 و28.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 105.
3- حاشية كفاية الاُصول، المشكيني 1: 48.

موضوع القاعدة هو البسيط الحقيقي صادراً ومصدراً، لا مثل العلوم التي هي قضايا متكثّرة، كلّ منها مشتملة على فائدة تكون مع اُخرى واحدةً بالسنخ؛ فإنّ قاعدة «كلّ فاعل مرفوع» يستفاد منها فائدة غير ما يستفاد من قاعدة «كلّ مفعول منصوب» وسائر القواعد، لكن لتلك الفوائد الكثيرة ربط وسنخية من وجه، ولها وحدة انتزاعية اعتبارية.

مع أنّ حديث تأثير الجامع بين المؤثّرات إذا اجتمعت على أثر واحد، حديث خرافة؛ لعدم تحقّق الجامع في الخارج بنعت الوحدة إلاّ على رأي الرجل الهمداني(1).

تنبيه: فيما به امتياز العلوم

كما أنّ منشأ الوحدة في العلوم هو سنخية قضاياها المتشتّتة، منشأ امتيازها هو اختلاف ذاتها وسنخ قضاياها. ولا يمكن أن يكون ما به اختلافها وامتيازها هو الأغراض أو الفوائد المترتّبة عليها؛ لتأخّرها رتبة عن القضايا، فمع عدم امتيازها لا يمكن أن يترتّب عليها فوائد مختلفة.

نعم، قد تتداخل العلوم في بعض القضايا؛ بمعنى أن تكون لقضيّة واحدة فائدة أدبية - مثلاً - يبحث الأديب عنها لفائدتها الأدبية، والاُصولي لفهم كلام الشارع، كبعض مباحث الألفاظ، فالاُصولي والأديب يكون غرضهما فهم كون «اللام» للاستغراق، و«ما» و«إلاّ» للحصر، لكن يكون ذلك هو الغرض الأقصى

ص: 8


1- رسائل ابن سينا 1: 462؛ اُنظر الحكمة المتعالية 1: 273؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.

للأديب بما أنّه أديب، أو يكون أقصى مقصده أمراً أدبياً، وللاُصولي غرض آخر؛ هو فهم كلام الشارع لتعيين تكليف العباد.

وتداخل العلوم في بعض المسائل لا يوجب أن تكون امتيازها بالأغراض بما أنّها واحدة بالوحدة الاعتبارية؛ فإنّ المركّب من مسائل شتّى إذا اختلف مع مركّب آخر بحسب مسائله، واتّحد معه في بعضها، يكون مختلفاً معه بما أنّه واحد اعتباري ذاتاً، خصوصاً إذا كان التداخل قليلاً، كما أنّ الأمر كذلك في العلوم.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ اختلاف العلوم إنّما يكون بذاتها، لا بالأغراض والفوائد؛ فإنّه غير معقول.

ثمّ إنّه بما ذكرنا - من عدم لزوم كون المبحوث عنه في مسائل العلم من الأعراض الذاتية لموضوع العلم، بل ولا لموضوع المسائل - يتّضح: أنّ بعض المباحث اللفظية، كالبحث عن دلالة الأمر والنهي وكلمات الحصر وكثير من مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، وبعض المباحث العقلية التي يكون البحث فيها أعمّ ممّا ورد في كلام الشارع، تكون من مسائل العلم بما أنّها مسائل مرتبطة بسائر مسائلها ومشتركة معها في الخصوصية التي لأجلها صارت واحدة بالاعتبار، إذا لم يكن محذور آخر في عدّها منه، كما سنشير إليه(1).

بحث وتحقيق: في تعريف الاُصول

قد عرّف الاُصول بتعاريف لم يسلم واحد منها من الإشكال طرداً أو عكساً؛ بخروج ما دخل فيه تارة، ودخول ما خرج منه اُخرى. فقد اشتهر تعريفه: بأ نّه

ص: 9


1- يأتي في الصفحة 12.

العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية(1).

فاستشكل عليه بلزوم استطراد الظنّ على الحكومة، ومسائل الاُصول العملية في الشبهات الحكمية(2).

ويظهر من الشيخ الأعظم ما يوجب انسلاك كثير من القواعد الفقهية فيه(3).

وقد عدل المحقّق الخراساني رحمه الله علیه عنه إلى تعريفه: «بأ نّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل»(4)

لإدخال الظنّ على الحكومة والاُصول العملية، ولعلّ التعبير بالصناعة للإشارة إلى أنّ الاُصول علم آلي بالنسبة إلى الفقه، كالمنطق بالنسبة إلى العلوم العقلية.

وكأنّ هذا التعريف أسوأ التعاريف المتداولة بينهم؛ لأنّ كلّ علم إمّا نفس المسائل، فتكون البراهين على إثباتها من المبادئ التصديقية، أو مجموع المسائل والمبادئ، كما قيل: «إنّ أجزاء العلوم ثلاثة»(5) واُريد به أجزاء العلوم المدوّنة، وأمّا كون العلم هو المبادئ فقط فلم يذهب إليه أحد، ولا يمكن التزامه، وقد سبق منه رحمه الله علیه أنّ مسائل العلم هي قضايا متشتّتة

ص: 10


1- قوانين الاُصول 1: 5 / السطر 4؛ الفصول الغروية: 9 / السطر 39 - 40؛ هداية المسترشدين 1:97.
2- كفاية الاُصول: 23 - 24.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 18 - 19.
4- كفاية الاُصول: 23.
5- شرح الشمسية: 185 / السطر 7؛ الحاشية على تهذيب المنطق: 114؛ البصائر النصيرية: 148 / السطر 25.

جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض(1)، مع أنّ تعريفه ذلك لا ينطبق إلاّ على المبادئ؛ فإنّها هي التي تعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق الاستنباط.

مع أنّ القواعد الكلّية الفقهية - كقاعدة ما يضمن أصلاً وعكساً، وقاعدة الضرر، والحرج، والغرر، وغيرها من القواعد التي يستنبط منها أحكام كلّية - داخلة في هذا التعريف. اللهمّ إلاّ أن يراد بالصناعة هو العلم الآلي المحض كما احتملنا.

وهذا الإشكال وارد على تعريف شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه -(2)

مع

ورود بعض مناقشات اُخر عليه.

كما أنّه وارد على تعريف بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : «من أنّه عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي»(3) فإنّه صادق على القواعد المتقدّمة، مع ورود الإشكال المتقدّم على التعريف المعروف عليه، وقد تصدّى لدفع الإشكال في أوائل الاستصحاب(4) بما لا يخلو من غرابة، فراجع.

كما أنّ بعض المحقّقين تصدّى لدفع الإشكال على الطرد والعكس بأنّ المدار في المسألة الاُصولية على وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي

ص: 11


1- كفاية الاُصول: 21.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 31 - 32.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 19.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 309.

بنحو يكون ناظراً إلى إثبات الحكم بنفسه، أو بكيفية تعلّقه بموضوعه، قائلاً: «إنّ المسائل الأدبية لا تقع إلاّ في طريق استنباط موضوع الحكم بلا نظر إلى كيفية تعلّق حكمه، بخلاف مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد»(1).

وأنت خبير بأنّ كثيراً من مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمفاهيم، والأمر والنهي، مباحث لغوية يحرز بها أوضاع الكلمات، كمبحث المشتقّ الذي اعترف بخروجه(2)،

وكسائر المباحث اللغوية، فأيّ فرق بين البحث عن أنّ «اللام» للاستغراق، و«ما» و«إلاّ» للحصر، وأداة الشرط دالّة على المفهوم، والضمير المتعقّب للجمل يرجع إلى الأخيرة منها، والأمر والنهي ظاهران في الوجوب والحرمة، إلى غير ذلك، وبين البحث عن أنّ الصعيد مطلق وجه الأرض، وهيئة الفعل دالّة على الصدور الاختياري - مثلاً - وغير ذلك من المباحث اللغوية؟! فجميع ذلك ممّا يستنتج منه كيفية تعلّق الحكم بالموضوع. مع ورود إشكال دخول القواعد الفقهية فيه عليه أيضاً.

ونحن قد تصدّينا في مباحث الظنّ لبيان الفرق بين القواعد الاُصولية والفقهية(3)

بما لا يخلو من إشكال.

ولا أظنّ إمكان حدّ جامع لجميع المسائل التي يبحث عنها في الاُصول بوضعه الفعلي، وطارد لغيرها من المباحث الأدبية التي تكون نظير كثير من مباحث الألفاظ، والفقهية التي تكون نظير الاُصولية في وقوعها كبرى قياس الاستنتاج.

ص: 12


1- مقالات الاُصول 1: 53 - 54؛ نهاية الأفكار 1: 22 - 23.
2- مقالات الاُصول 1: 54 - 55؛ نهاية الأفكار 1: 23.
3- أنوار الهداية 1: 13 و211.

في تحقيق المقام

والذي يمكن أن يقال: إنّ كلّية المباحث التي يبحث فيها عن الأوضاع اللغوية، وتشخيص مفاهيم الجمل والألفاظ، ومداليل المفردات والمركّبات، وتشخيص الظهورات، خارجةٌ من المسائل الاُصولية، وداخلة في علم الأدب، وإنّما يبحث عنها الاُصولي؛ لكونها كثيرة الدوران في الفقه والسيلان في مباحثه؛ ولهذا لا يقنع الاُصولي بالبحث عنها في باب من الفقه، بل المناسب له بما أنّ منظوره الاجتهاد في الأحكام، أن ينقّح تلك المباحث العامّة البلوى ولو لم تكن اُصولية.

وقد أدرج المتأخّرون(1) بعض المسائل التي لا ابتلاء بها رأساً أو قليلة الفائدة جدّاً في فنّهم لأدنى مناسبة؛ إمّا تشييداً لأذهان المشتغلين، أو لثمرة علمية، أو لدخالة بعيدة في الاستنباط.

وبعد ما عرفت ذلك لا بأس بتعريفه: «بأ نّه هو القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى استنتاج الأحكام الكلّية الإلهية أو الوظيفة العملية».

فالمراد ب «الآلية» ما لا ينظر فيها بل ينظر بها فقط، ولا يكون لها شأن إلاّ ذلك، فتخرج بها القواعد الفقهية، فإنّها منظور فيها؛ لأنّ قاعدة «ما يضمن» وعكسها - بناءً على ثبوتها - ممّا ينظر فيها، وتكون حكماً كلّياً إلهياً، مع أنّها من

جزئيات قاعدة اليد، ولا يثبت بها حكم كلّي.

ص: 13


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 367؛ كفاية الاُصول: 353؛ وراجع أيضاً الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 9.

نعم، لو كانت الملازمة الشرعية بين المقدّم والتالي كان للنقض وجه، لكن ليس كذلك عكساً ولا أصلاً.

وكذا قاعدة الضرر والحرج والغرر؛ فإنّها مقيّدات للأحكام ولو بنحو الحكومة، فلا تكون آلية بل استقلالية، وإن يعرف بها حال الأحكام.

نعم، يخرج بهذا القيد بعض الاُصول العملية، كأصل البراءة الشرعية المستفاد من حديث الرفع(1)

وغيره، ولا غرو فيه؛ لأ نّه حكم شرعي ظاهري كأصل الحلّ والطهارة(2).

ص: 14


1- التوحيد، الصدوق: 353 / 24؛ الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
2- ولك أن تدرج المسائل المتداخلة، في هذا العلم - كالمسائل المتقدّمة اللغوية والأدبية وغيرهما - وتميّزها عن غيرها بقولنا: «قواعد آلية» بما فسّرناها، وتكون المسألة الأدبية بما أ نّها آلة اُصوليةً، وبما أ نّها استقلالية أو بجهات اُخر من مسائل الأدب أو غيره، لكن لابدّ أن يراد بالاستنتاج - حينئذٍ - أعمّ ممّا بلا واسطة، لكن التحقيق هو ما تقدّم، والدليل عليه - بعد الوجدان - التعريف المشهور. كما أنّ التحقيق: أنّ أصل البراءة الشرعية من الاُصول، وماهيته ليست غير أصل البراءة العقلية، بل العقل والنقل متطابقان على معذورية الجاهل، كقوله تعالى: «مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»أ و«لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً...»(ب) إلى آخره، وقوله: «الناس في سعة ما لايعلمون»(ج) وحديث الرفع؛ بناءً على كونه لرفع المؤاخذة. وأمّا مثل: «كلّ شيءٍ حلال...»(د) وحديث الرفع؛ بناءً على رفع الحكم ورفع الشرطية والجزئية، و«كلّ شيء مطلق...»(ه ) بناءً على كونه بمعنى المباح، لا على احتمال آخر، فأجنبيّ عن أصل البراءة، بل هي أحكام فقهية، فأصل البراءة مسألة اُصولية، وأصل الإباحة والحلّ فقهية، فافهم. [منه قدس سره] أ - الإسراء (17): 15. ب - البقرة ((2)): 286. ج - راجع عوالي اللآلي 1: 424 / 109؛ اُنظر الكافي 6: 297 / 2؛ وسائل الشيعة 24: 90، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح، الباب 38، الحديث 2. د - الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 4، الحديث 4. ه - الفقيه 1: 208 / 937؛ وسائل الشيعة 27: 173، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 12، الحديث 67.

وقولنا: «يمكن أن تقع...» إلى آخره لأجل أنّ الاُصولية لا تتقوّم بالوقوع الفعلي، فالبحث عن القياس وحجّية الشهرة والإجماع المنقول اُصولي.

وبقولنا: «تقع كبرى...» خرجت مباحث العلوم الاُخر.

ولم نقل: الأحكام العملية؛ لعدم عملية جميع الأحكام، كمطهّرية الماء والشمس، ونجاسة الأعيان النجسة. وإضافة «الوظيفة» لإدخال مثل أصل البراءة.

وأمّا الظنّ على الحكومة ففيه كلام آخر، حاصله: أنّه إن كان العقل حكم بحجّيته يدخل بالقيد، وإن كان إيجاب العمل على طبقه عقلاً لأجل كونه أحد أطراف العلم فيكون أمارة على الواقع، وليس للظنّ من هذه الحيثية دخالة، وإن لا يجوز رفع اليد عنه.

ولم نكتف بأ نّه ما يمكن أن تقع كبرى استنتاج الوظيفة؛ لعدم كون ما يستنتج منها وظيفة دائماً كالأمثلة المتقدّمة، وإن تنتهي إلى الوظيفة. ولعلّ ذلك أسلم من سائر التعاريف، والأمر سهل.

ص: 15

الأمر الثاني : في الواضع وكيفية الوضع

اشارة

لا شبهة في أنّ البشر في الأزمنة القديمة جدّاً كان في غاية سذاجة الحياة وبساطة المعيشة، وبحسبها كان احتياجه إلى الألفاظ محصوراً محدوداً، فوضعها على حسب احتياجه المحدود، ثمّ كلّما كثر احتياجه كثرت الأوضاع واللغات، فكثرة الألفاظ والمعاني والاحتياجات في الحال الحاضر لا تدلّ على أنّ الواضع هو الله - تعالى - أو بوحيه وإلهامه، بل الواضع هو البشر، لا شخص واحد، بل أشخاص كثيرة في مرّ الدهور وتمادي الأزمنة، فما صدر عن بعض الأعاظم في المقام(1)

ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه.

كما أنّه لا إشكال في عدم العلاقة الذاتية بين الألفاظ والمعاني: أمّا قبل الجعل فهو واضح.

وتوهّم لزوم العلاقة - دفعاً للترجيح بلا مرجّح في الوضع، وجعل هذا برهاناً

ص: 16


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 30.

على لزوم كونه تعالى واضعاً؛ لعدم إحاطة البشر بالخصوصيات والروابط بينها(1) - واضح الضعف؛ لعدم لزوم كون المرجّح هو الرابطة بين اللفظ والمعنى؛ لإمكان أن يكون انتخاب لفظ لترجيحٍ فيه لدى الواضع، من قبيل سهولة الأداء، وحسن التركيب، إلى غير ذلك، من غير أن يكون بين الألفاظ والمعاني أدنى مناسبة.

وبالجملة: دعوى المناسبة بين جميع الألفاظ والمعاني ممّا يدفعه الوجدان. ويمكن إقامة البرهان على دفعها؛ بأن يقال: إذا وضع لمعنىً بسيط من جميع الجهات ألفاظ مختلفة في لغة أو لغات: فإمّا أن يكون لجميعها الربط مع المعنى، أو لبعضها دون بعض، أو لا ربط لواحد منها معه. لا سبيل إلى الأوّل؛ للزوم تحقّق الجهات المختلفة في البسيط الحقيقي، وهو خلف، وعلى الثاني والثالث تبطل دعوى الخصم.

هذا، وأمّا عدم تحقّق العلقة بينهما بعد الوضع بمعنى أنّ الجاعل لم يوجد علقة خارجية بينهما، فهو - أيضاً - واضح؛ لأنّ تعيين اللفظ للمعنى لا يعقل أن يكون موجباً لوجود العلقة الخارجية التكوينية، وأمّا فهم المعنى من اللفظ فليس إلاّ للاُنس الحاصل من الاستعمال، أو من العلم بأنّ المتكلّم يعمل على طبق الوضع، من غير أن تكون علقة زائدة على ما ذكر.

وما قيل: من أنّ لازم ذلك انعدام هذه العلقة بانعدام المعتبرين والعالمين، كما أنّ القوانين الجعلية العلمية التي قد يتعلّق بها العلم وقد يتعلّق بها الجهل، لو كانت

ص: 17


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 30 - 31.

من الاعتبارات ولم يكن لها وعاء غير الاعتبار، يلزم الالتزام بانعدامها بالغفلة عنها، وهذا ممّا يأبى عنه العقل السليم(1).

ليس بشيءٍ؛ لعدم فساد تاليه، بل الأمر كذلك بلا إشكال في القوانين الجعلية، كقانون الزواج والنظام(2)

وغيرهما؛ فإنّه مع انعدام المعتبرين ومناشئ اعتبارها ومحالّ كتْبها لم يكن لها تحقّق، كما أنّ الألسنة القديمة المتداولة بين البشر المنقرضة بوجودها العلمي والكتبي صارت منقرضة معدومة وليس لها عين ولا أثر في الخارج والذهن، وما لا وجود له في الخارج والعين فليس بشيء.

نعم، القوانين العلمية التي لها موازين واقعية كشف عنها العلم لم تنعدم بانعدام المكاشفين، فقانون الجاذبة له واقع كشف أم لم يكشف، بخلاف الجعليات، فلا ينبغي التأمّل في أنّ الواضع لم يجعل علاقة واقعية بين اللفظ والمعنى، مع أنّ البرهان المتقدّم يبطل تحقّق هذه العلاقة قبل الجعل وبعده.

حقيقة الوضع

ثمّ إنّ الوضع - على ما يظهر من تصاريفه - هو جعل اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه، وهذا لا ينقسم إلى قسمين؛ لأنّ التعيّني لا يكون وضعاً وجعلاً.

والاختصاص الواقع في كلام المحقّق الخراساني(3) ليس وضعاً بل أثره.

ص: 18


1- مقالات الاُصول 1: 63 - 64.
2- أي: قانون الخدمة العسكرية.
3- كفاية الاُصول: 24.

كما أنّ التعهّد الذي وقع في كلام المحقّق الرشتي(1)،

وتبعه شيخنا الاُستاذ قائلاً: «إنّه لا يعقل جعل العلاقة بين الأمرين اللذين لا علاقة بينهما أصلاً، والذي

يمكن تعقّله هو أن يلتزم الواضع أنّه متى أراد وتعقّله وأراد إفهام الغير تكلّم بلفظ

كذا»(2) أيضاً متأخّر عن الجعل والتعيين؛ لأنّ هذا التعهّد هو الالتزام بالعمل بالوضع لا نفسه، وما قال: من أنّا لا نعقل جعل العلاقة، هو حقّ إذا كان الوضع جعل العلاقة الواقعية، وأمّا إذا كان عمل الواضع تعيين اللفظ للمعنى فهو بمكان من الإمكان، بل الواقع كذلك وجداناً، بل ربما يكون الواضع غير المستعمل، فيكون الوضع للغير، ويكون الواضع غافلاً عن هذا الالتزام التعليقي، فالاختصاص والربط والتعهّد كلّها غير حقيقة الوضع.

ص: 19


1- لم نعثر عليه في بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي رحمه الله، ولكن هذا القول منسوب إلى المحقّق النهاوندي، كما هو كذلك. تشريح الاُصول: 25 / السطر 18؛ اُنظر نهاية الدراية 1: 47.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 35.

الأمر الثالث : في أقسام الوضع

اشارة

ينقسم الوضع إلى عمومه وعموم الموضوع له، أو خصوصهما، أو عموم الأوّل، أو الثاني.

وما يقال: من عدم امتناع كون العامّ مرآةً للخاصّ ووجهاً له دون الخاصّ للعامّ(1)، غير صحيح؛ لأنّ العامّ - أيضاً - لا يمكن أن يكون مرآةً للخاصّ بما أنّه خاصّ؛ لأنّ الخصوصيات وإن اتّحدت مع العامّ وجوداً، لكن يخالفها عنواناً وماهية، ولا يمكن أن يحكي عنوان إلاّ عمّا بحذائه، فالإنسان لا يحكي إلاّ عن حيثية الإنسانية، لا خصوصيات الأفراد، فلا يكفي للوضع للأفراد تصوّر نفس عنوان العامّ الذي ينحلّ الخاصّ والفرد إليه وإلى غيره، بل لا بدّ من لحاظ الخاصّ، ولا يعقل الوضع إلاّ مع تصوّر الطرفين ولو بالإجمال، فلو تقوّم الوضع بمرآتية العنوان للموضوع له كان عموم الوضع وخصوص الموضوع له

ص: 20


1- كفاية الاُصول: 24.

كالعكس محالاً، وإلاّ - كما هو الحقّ - يكون كلاهما ممكنين.

والتحقيق: أنّ تصوّر العامّ قد يكون موجباً لانتقال الذهن إلى مصاديقه بوجه إجمالي، فيتصوّر العامّ ويوضع اللفظ بإزاء ما هو مصداقه، ويكون هذا العنوان الإجمالي المشير آلة للوضع للأفراد، ولا يحتاج في الوضع إلى تصوّرها بخصوصياتها تفصيلاً، بل لا يمكن ذلك؛ لعدم إمكان الإحاطة بها تفصيلاً؛ لعدم تناهي أفراد الطبيعي، وبهذا المعنى يكون خصوص الوضع وعموم الموضوع له ممكناً.

نقل وتنقيح تصوير المحقّق العراقي لعموم الوضع والموضوع له

ربّما يقال: إنّ لعموم الوضع والموضوع له معنىً آخر غير ما هو المشهور، بتوهّم أنّ للطبيعي حصصاً في الخارج متكثّرة الوجود، ولها جامعاً موجوداً في الخارج بالوجود السعي ملاصقاً للخصوصيات، واحداً بالوحدة الذاتية؛ بدليل انتزاع المفهوم الواحد منها وتأثير العلّتين في معلول واحد، وللصور الذهنية للأفراد - أيضاً - جامعاً كذلك، وإلاّ لم يكن تامّ الانطباق على الخارج، ولازم ذلك عدم مجيء المعنى المشترك في الذهن إلاّ في ضمن الخصوصيات، فحينئذٍ يمكن ملاحظة صورة هذه الجهة المتّحدة السارية في الخصوصيات المطابقة لما في الخارج بتوسيط معنىً إجمالي ووضع اللفظ لها لا للخصوصيات، في قبال وضعه للجامع المجرّد عنها، وهذا - أيضاً - من الوضع العامّ والموضوع له كذلك، لكن لازمه انتقال النفس في مقام الاستعمال

ص: 21

إلى صور الأفراد، وهذا لا ينافي كون الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد(1)،

انتهى ملخّصاً.

وفيه ما لا يخفى على أهله؛ فإنّ الجامع الخارجي بنعت الوحدة يساوق الوجود الواحد بالوحدة العددية؛ ضرورة مساوقة الوحدة للوجود، وفساده أوضح من أن يخفى، وهو رحمه الله علیه وإن فرّ من ذلك قائلاً: «إنّ الحصص متكثّرة الوجود» لئلاّ يلزم الوحدة العددية، لكن كرّ عليه بالالتزام بالجامع الموجود بالوجود السعي الذي توهّم كونه منشأ انتزاع المفهوم الواحد، وكونه مؤثّراً عند اجتماع العلّتين على معلول واحد، وإن سمّاه واحداً ذاتياً وسنخياً، وهذا رأي الرجل الهمداني(2)،

ولعلّ منشأ توهّمه - أيضاً - ما توهّم من قيام البرهان عليه.

وأمّا قضيّة عدم انتزاع مفهوم واحد إلاّ من منشأ واحد فهو كذلك، لكن ليس معناه أنّه يكون في الخارج أمر واحد جامع موجود بنعت الوحدة ينتزع منه المفهوم، بل المراد منه أنّ الماهية اللا بشرط الموجودة في الخارج بنعت الكثرة المحضة، للعقل أن يجرّد أفرادها عن اللواحق والمشخّصات، فعند ذلك ينال من كلّ فرد ما ينال من الآخر.

فالإنسان اللا بشرط إنسان متكثّر الوجود، واللا بشرط يتكثّر مع الكثرة، لا بمعنى صيرورته حصصاً منقسماً متجزّئاً كما يوهمه لفظ الحصص، بل بمعنى

ص: 22


1- مقالات الاُصول 1: 72 - 74.
2- رسائل ابن سينا 1: 462؛ اُنظر الحكمة المتعالية 1: 273؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.

كون كلّ فرد تمام حقيقة الإنسان؛ فإنّها لا تأبى عن الكثرة في وعاء الخارج، والعقل بعد التخلية والتجريد يراها بنعت الوحدة، لكن وعاء تحقّقها بالوحدة هو الذهن، فللماهية نشأة خارجية هي نشأة الكثرة المحضة، ونشأة عقلية بعد التجريد هي نشأة الوحدة الذاتية أو النوعية أو السنخية، وهذا مراد من قال: «إنّ الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد»(1)

وما زعمه رحمه الله علیه هو عين القول بكونه كالأب مع الأولاد، ولازمه الوحدة العددية.

وأمّا حديث كون الجامع مؤثّراً في العلل المستقلّة إذا اجتمعت على معلول واحد، متمثّلاً بعدّة قضايا عرفية؛ كالبنادق المؤثّرات في قتل حيوان، وكالشمس والنار المجتمعتين على تسخين ماء واحد، وكاجتماع عدّة أشخاص لرفع الحجر العظيم، فهو من غرائب الكلام، لا يصدر إلاّ ممّن لا يعلم كيفية تعلّق المعلول بالعلّة في الفاعل الإلهي؛ إذ لا يمكن اجتماع العلّتين البسيطتين على معلول واحد قطّ حتّى يلتزم بتأثير الجامع.

مع أنّ الواحد بالنوع والذات والسنخ بما أنّه كذلك لا يمكن أن يكون مؤثّراً ومتأثّراً إلاّ بالعرض، والمؤثّر والمتأثّر دائماً هو الهوية الوجودية الواحدة بالوحدة الحقيقية، وموارد النقض كلّها من قبيل تأثير الكثير في الكثير عقلاً، وإنّما خلط الأمر العرفي بالعقلي، والأولى إيكال أمثال هذه المسائل إلى علمه وأهله(2)، حتّى لا يقع الباحث في مفاسد عظيمة من حيث لا يعلم، كدعوى كون

ص: 23


1- الحكمة المتعالية 2: 8؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.
2- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 122؛ الحكمة المتعالية 2: 204؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 446.

السنخية بين العلّة والمعلول من قبيل الجامع الخارجي بينهما.

فتحصّل ممّا ذكرنا - وأوكلنا تحقيقه إلى محلّه(1) - : أنّ الجامع الخارجي بين الأفراد الخارجية غير معقول، وكذا لا جامع بين الأفراد الذهنية بنعت الوحدة بما هي موجودة في الذهن، ولكن للعقل أن يُجرّدها عن الخصوصيات وينال الجامع منها.

ثمّ مع تسليم تحقّق الجامع الكذائي - لو فرض وضع اللفظ له - لا يعقل إحضار الخصوصيات اللاحقة له خارجاً في الذهن؛ لأنّ الجامع لم يكن ذاته إلاّ نفس الماهية، والخصوصيات خارجة عنها، واتّحادها معها أو لصوقها بها - بزعمه - ولزومها لها خارجاً لا يوجب إحضارها في الذهن بلفظ موضوع لغيرها ما لم يكن بينهما لزوم ذهني، وهو غير معلول للاتّحاد أو الالتصاق، ومجرّد كونها جامعاً بينها لو أوجب ذلك لزم إحضار الخصوصيات باللفظ الموضوع لنفس الماهية؛ لأ نّها - أيضاً - موجودة بوجودها ومتّحدة معها ولو بنعت الكثرة. وبالجملة: الاتّحاد الخارجي غير الانفهام من اللفظ.

وهم ودفع: تخيّل امتناع عموم الوضع وإبطاله

ولعلّك تقول: إنّ عموم الوضع مطلقاً محال؛ لأنّ الملحوظ جزئي حقيقي؛ لوجوده في الذهن، وقطع النظر عن اللحاظ أو كونه مغفولاً عنه لا يوجب انقلابه كلّياً، بل الكلّي القابل للصدق على الكثيرين لا يمكن أن يتحقّق مجرّداً

ص: 24


1- يأتي في الجزء الثاني: 55 وما بعدها.

عن الخصوصيات وبنعت الكلّية في وعاء من الأوعية؛ إذ لا تقرّر للطبيعي إلاّ بالوجود، ومعه جزئي، فأين لحاظ الكلّي؟! فعموم الوضع خصوصه بحسب الواقع، وإن يتوهّم اللاحظ كونه عامّاً.

فيجاب: بأنّ المراد من الملحوظ حال الوضع هو الملحوظ بالعرض لا بالذات؛ ضرورة أنّ اللفظ لم يوضع له في عموم الوضع والموضوع له، ولا في خصوصهما، ولا لمصاديقه في خصوص الموضوع له؛ لعدم المصداق له، والملحوظية بالعرض تكفي للوضع وصيرورته عامّاً أو خاصّاً، وإلاّ يلزم امتناع الوضع للخارجيات مطلقاً؛ لعدم تصوّرها بالذات، فالصورة الملحوظة بالذات في خصوص الوضع والماهية الملحوظة كذلك في عمومه، وسيلة للحاظ الخاصّ والعامّ؛ كوساطة الصورة الذهنية من المعدوم المطلق للإخبار بعدم الإخبار عنه، ومن شريك الباري للإخبار بامتناعه.

تنبيه

في المراد بالعموم في الوضع

ربما يسبق إلى بعض الأذهان مقابلة الوضع العامّ والموضوع له كذلك لخصوصهما، فيتوهّم أنّ الموضوع له في الثاني هو الخاصّ بما أنّه خاصّ؛ أي المتشخّص الخارجي بما هو كذلك، فلا بدّ وأن يكون في الأوّل العامّ بما أنّه عامّ، كما التزم به بعض المدقّقين(1).

ص: 25


1- نهاية الدراية 1: 49 مع الهامش 3.

لكنّه فاسد، بل المراد بالعموم هو نفس الطبائع والماهيات، كما يشهد له [التمثيل] بأسماء الأجناس، ولا ريب في أنّها نفس الطبائع لا بما هي عامّة؛ ضرورة أنّها كذلك آبية عن الحمل، فلو وضع اللفظ لها لزم التجريد والتجوّز دائماً، وهو كما ترى.

وممّا ذكرنا يتّضح تصوّر قسم آخر للوضع، وهو عموم الموضوع له بما هو عامّ، لكن ثبوته محلّ منع(1).

ص: 26


1- ثمّ اعلم أنّ لخصوص الموضوع له صوراً: منها: ما تقدّم من عموم الوضع وخصوص الموضوع له. ومنها: أن يكون الملحوظ شخصاً والموضوع له كلّ ما كان من أمثاله، فإنّه - أيضاً - من خصوصهما. ومنها: خصوصهما بالمعنى المعروف. ومنها: أن يكون الملحوظ جميع الأفراد بنحو الإجمال والموضوع [له] كذلك، فإنّه أيضاً من خصوصهما. وبعد تصوّر ما ذكر، وإمكان الوضع الخاصّ وعموم الموضوع له، لا طريق لنا في مورد عموم الموضوع له - الثابت بالتبادر وغيره - لإثبات عموم الوضع، كما لا طريق لإثبات عمومه في مثل معاني الحروف على فرض ثبوت خصوص الموضوع له فيها؛ لإمكان أن يكون من قبيل الصورة الثانية أو الصورة الثالثة من صور خصوص الموضوع له. نعم، بناءً على امتناع عموم الموضوع له وخصوص الوضع يستكشف من عموم الأوّل عموم الوضع. ولا يذهب عليك أنّ العموم والخصوص في المقام غيرهما في باب العامّ والخاصّ؛ فالعامّ هاهنا نفس الماهية، والخاصّ جزئي حقيقي، والعامّ هناك القضيّة المحصورة ب «كلّ» ونحوه، والخاصّ ما كان أقلّ ولو كانت محصورة أيضاً. ولعلّ الخلط في ذلك صار موجباً لغفلة بعض المدقّقينأ. [منه قدس سره] أ - نهاية الدراية 1: 49 مع الهامش 3.

الأمر الرابع : في أمثلة أقسام الوضع

اشارة

لا إشكال في ثبوت عموم الوضع والموضوع له. قالوا: وكذا في ثبوت خصوصهما، ومثّلوا له بالأعلام الشخصية(1)،

وفي كونها منه إشكال؛ للزوم كون نحو: «زيد موجود» قضيّة ضرورية، كقولنا: «زيد زيد»، وكون حمله عليه كحمل الشيء على نفسه، ومجازية مثل قولنا: «زيد معدوم»، وقولنا: «زيد إمّا موجود وإمّا معدوم»، مع عدم الفرق وجداناً بينه وبين قولنا: «زيد إمّا قائم أو قاعد» في عدم العناية فيه، فلا يبعد أن يلتزم بأ نّها وضعت للماهية الكلّية التي لا تنطبق إلاّ على الفرد الواحد.

وتوهّم أنّ الماهية الكذائية مغفول عنها حين الوضع بالوجدان، مدفوع بأنّ الارتكاز مساعد لذلك؛ كما نرى من إخبار العوامّ والنساء بمعدومية المسمّيات في الأعلام وموجوديتها.

ص: 27


1- هداية المسترشدين 1: 171؛ كفاية الاُصول: 25؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 36.

والموضوع في هذا الحكم ليس الماهية الكلّية القابلة للانطباق على الكثيرين، ولا الشخص الموجود بما هو كذلك، بل الماهية التي لا تنطبق إلاّ على الفرد الخارجي، وهي متصوّرة ارتكازاً، والأعلام الشخصية موضوعة لها. وهذا أهون من الالتزام بمجازية كثير من الاستعمالات الرائجة بلا عناية وجداناً، تأمّل.

وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد ذهب جمع بأنّ وضع الحروف كذلك(1)، فلا بدّ من تحقيق معانيها أوّلاً حتّى يتّضح ما هو الحقّ، فنقول:

القول في معاني الحروف

لا إشكال في أنّه مع قطع النظر عن الوضع تكون الموجودات مختلفة في أنحاء الوجود:

فمنها: ما تكون موجودة ومعقولة في نفسها كالجواهر.

ومنها: ما تكون موجودة في غيرها ومعقولة في نفسها كالأعراض.

ومنها: ما لا تكون في نفسها موجودة ولا معقولة كالنسب والإضافات.

ففي «الجسم الأبيض» يكون الجسم موجوداً بوجود مستقلّ، ويكون له ماهية معقولة بذاتها، وللبياض وجود خارجي غير مستقلّ؛ أي يكون وجوده

ص: 28


1- قوانين الاُصول 1: 10 / السطر 3؛ الفصول الغروية: 16 / السطر 6؛ نهاية الدراية 1: 51.

في نفسه عين وجوده للجسم، فلا يمكن أن يتحقّق في نفسه مستقلاًّ، ولكن له ماهية معقولة بذاتها من غير احتياجها إلى أمر آخر، فنفس ذات البياض معقولة مع الغفلة عن وجود الجوهر وماهيته، لكن في وجوده يحتاج إلى الموضوع.

وأمّا النسب والروابط بينهما فليس لها وجود مستقلّ، بل تكون موجوديتها تبعاً لهما، كما لا تكون لها ماهيات مستقلّة بالمعقولية حتّى تتعقّل بنفس ذاتها، بل يكون نحو تعقّلها في الذهن كنحو وجودها في الخارج تبعاً للطرفين، فمثل هذه النسب والإضافات وكذا الوجودات الرابطة لا يكون معدوماً مطلقاً؛ بحيث يكون حصول البياض للجسم كلا حصوله، ووقوع زيد في الدار كلا وقوعه، لكن تكون موجوديتها بعين موجودية الطرفين بنحوٍ، ولا يكون لها ماهية معقولة مستقلّة في المعقولية كماهية الجواهر والأعراض.

نعم، للعقل أن ينتزع منها مفهوماً مستقلاًّ بالمفهومية، كمفهوم «النسبة» و«الربط» و«الإضافة» وأمثالها، ويجعلها حاكية عنها بنحو من الحكاية، لا كحكاية الماهية عن مصداقها الذاتي؛ ضرورة عدم إمكان تعقّلها بنحو الاستقلال، لا بالذات ولا بالعرض، فليست نسبتها إليها كنسبة الماهية إلى مصداقها، ولا كنسبة مفهوم الوجود أو العدم إليهما، فلا يمكن استحضار حقائق النسب في الذهن بذاتها بتوسّط هذه العناوين، نعم، يمكن الاستحضار التبعي كالوجود الخارجي.

ثمّ إنّا قد نعقل الخارج على ما هو عليه، فنعقل الجسم الذي له البياض كما هو في الخارج، فيتحقّق الجسم والبياض بصورتهما في الذهن والإضافة بينهما

ص: 29

تبعاً لهما، من غير أن يكون لها صورة استقلالية متصوّرة، ففي هذا النحو من التعقّل تكون حقيقة النسبة والكون الرابط متحقّقين في الذهن كتحقّقهما في الخارج، فيكون البياض والجسم مربوطين في الذهن والخارج بتوسّط هذه المعاني الإضافية والنسب؛ فزيد في الخارج لا يكون مرتبطاً بالدار ولا الدار به إلاّ بالإضافة الحاصلة بينهما المتحقّقة بنحو الكون الرابط، وهو كونه في الدار، لا كونه المطلق، وكذا في العقل.

هذا إذا تعقّلناه على ما هو في الخارج؛ أي بنحو الارتباط والانتساب بالحمل الشائع.

وأمّا إذا تعقّلنا الربط والنسبة بالحمل الأوّلي فلا يمكن أن يكون ما به الارتباط بين المعقولات، كما إذا تعقّلنا مفاهيم الدار، والربط، والإنسان، والابتداء، والسير، والبصرة، والانتهاء، والسير، والكوفة؛ فإنّها مفاهيم مفردة استقلالية لا يرتبط بعضها ببعض، كما لو فرض وجود هذه الماهيات في الخارج من غير توسّط الانتسابات والإضافات، فالربط التكويني بين الجواهر والأعراض إنّما هو بالنسب والإضافات والأكوان الرابطة، وكذا حال المعقولات؛ فلا يتحقّق الربط بين الجواهر والأعراض المعقولة إلاّ بالنسب والإضافات والأكوان الرابطة بالحمل الشائع، لا الأوّلي.

هذا حال العين والذهن مع قطع النظر عن الوضع والدلالة. وأمّا بالنظر إليهما، فقد يريد المتكلّم أن يحكي عن الخارج على ما هو عليه من ارتباط الجواهر بالأعراض وحصول الأعراض للجواهر، فلا بدّ له من التشبّث بألفاظ الحروف

ص: 30

والهيئات، وسيأتي الفرق بينهما(1)، كما أنّه لو أراد الحكاية عن الصور المعقولة المترابطة فلا محيص له إلاّ التشبّث بها، فلو قال: «زيد ربط قيام» أو «زيد سير ابتداء كوفة انتهاء بصرة» مثلاً، تكون ألفاظ مفردة غير مترابطة، غير حاكية عن الواقع.

ومن هذا يتّضح: أنّ هذا النوع من الحروف - أي «في» و«على» و«من» و«إلى» - إنّما هي حاكية حكاية تصوّرية عن الارتباطات بين المعاني الاسمية.

مع أنّ الأمر أوضح من ذلك؛ ضرورة أنّه لو حاول أحد تجزئة قولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة»، وقاس كلّ لفظ منه إلى الواقع، لوجد دلالة مادّة الفعل على طبيعة السير، وهيئته على الانتساب الصدوري إلى المتكلّم، والبصرة والكوفة على البلدين، و«من» و«إلى» على الابتداء والانتهاء المرتبطين بالسير والبلدين، والهيئة على تحقّق الارتباطات كما سيأتي بيانه(2)، فهذه الحروف حاكية عن الارتباطات والإضافات بين الجواهر والأعراض - سواء في الخارج أو الذهن - وموقعة للارتباط بين ألفاظ الأسماء في الجمل تبعاً واستجراراً، لا ملحوظاً بالاستقلال، فلولا محكيّاتها ومعانيها لم ترتبط الجواهر بالأعراض في الخارج، ولا الصور المعقولة الاسمية الحاكية عن الخارج بعضها بالبعض، ولولا ألفاظها لم ترتبط ألفاظ الأسماء، ولم تحصل الجمل، فتدبّر.

ص: 31


1- يأتي في الصفحة 39.
2- يأتي في الصفحة 45.

بحث وتحقيق: في بيان بعض أقسام الحروف

ما ذكرنا من كون الحروف حاكيات عن الارتباطات ليس حكماً كلّياً للحروف، بل هو شأن بعضها، وبعض آخر منها ليس حاكياً عن الواقع، بل موجد لمعناه، كحروف القسم والتأكيد والتنبيه والتحضيض والردع وأمثالها؛ فإنّها وضعت لأن تكون آلة لإيجاد معانيها، وتستعمل استعمالاً إيجادياً، كما أنّ شأن بعض الأفعال كذلك كما يأتي(1)؛

ضرورة أنّه ليس للقسم والتأكيد والردع - مثلاً - واقع تحكي حروفها عنه، بل المتكلّم ينشئ معانيها بالحروف، فلا شبهة في تحقّق هذين النحوين في الحروف.

ولست الآن بصدد استقصاء أحوال جميع الحروف، ولا دعوى حصرها فيهما، ولا بصدد أقسام النسب في القضايا البسيطة والمركّبة والإيجابية والسلبية، بل بصدد بيان أنّ هذين النحوين من الحروف يكونان في لسان العرب والفرس بل سائر الألسنة حسب مسيس الاحتياج إليهما، ولا يكون جميعها إيجادية ولا حاكية، ولا ننحرف عن هذه الطريقة المطابقة لوجدان كلّ صاحب لسان إلاّ ببرهان.

وسيأتي حال ما زُعم قيامه على امتناع الإيجادية(2)، لكن بعد التنبيه على الخلط الذي وقع لبعض أعاظم العصر في المقام:

ص: 32


1- يأتي في الصفحة 53.
2- يأتي في الصفحة 35.

في الخلط من بعض الأعاظم

فإنّه قد قسّم المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين:

إخطارية: وهي معاني الأسماء؛ لأنّ استعمال ألفاظها في المعاني يوجب إخطار معانيها في ذهن السامع.

وإيجادية: وهي معاني الحروف؛ لأنّ استعمالها في معانيها يوجب إيجاد معانيها، من دون أن يكون لها نحو تقرّرٍ مع قطع النظر عن الاستعمال(1).

ومراده من الإيجادية - على ما صرّح به - هو إيجاد الربط بين أجزاء الكلام؛ حيث قال: «التحقيق: أنّ معاني الحروف كلّها إيجادية حتّى ما أفاد منها النسبة؛ لأنّ شأن أدوات النسبة ليس إلاّ إيجاد الربط بين جزأي الكلام؛ لعدم الربط بين ألفاظ الأسماء كلفظ «زيد» و«القائم» بما لهما من المعنى، وأدوات النسبة وضعت لإيجاد الربط بينهما على وجه يصحّ السكوت [عليه]، ثمّ بعد إيجاد الربط يلاحظ مجموع الكلام من النسبة والمنتسبين، فإن كان له خارج يطابقه يكون صادقاً، وإلاّ فلا»(2)،

انتهى ملخّصاً.

وأنت خبير بما فيه؛ لأنّ كون تلك الأدوات موقعة للربط مسلّم، لكن عدم شأن لها إلاّ ذلك صِرف ادّعاء من غير دليل.

مع أنّ الدليل على خلافه؛ لأنّ إيقاع الربط بالحروف فرع استعمالها بما لها من المعنى؛ ضرورة أنّ نفس الحروف بلا دلالة على المعنى غير موقعة للربط،

ص: 33


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 37.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 42.

والتبادر والوجدان من أهل كلّ لسان حاكمان بأنّ بعض الحروف حاكٍ عن الإضافات والنسب، كما نبّهنا عليه(1).

وما ذكر - من أنّ مجموع الكلام بعد إيقاع الربط حاكٍ عن الواقع - كما ترى؛ ضرورة أنّه لا وضع لمجموعه، إلاّ أن يرجع إلى ما سنذكره(2) من أنّ هيئات الجمل التامّة تدلّ على تحقّق النسب، فالحروف وضعت للإضافات التصوّرية، وهيئات الجمل [للدلالة] على تحقّقها.

وبما ذكرنا اتّضح: أنّه لا مقابلة بين المعنى الإخطاري والإيجادي كما ذكره، بل إيجاديتها ملازمة لإخطاريتها؛ بمعنى أنّ ألفاظ الحروف المستعملة في معانيها موقعة للربط بين أجزاء الكلام.

وبعبارة اُخرى: أنّ المتكلّم إذا أراد الحكاية عن الواقع على ما هو عليه من ربط الأعراض بالجواهر، وجعل كلامه حاكياً عنه، يصير أجزاء كلامه مرتبطة، وهذا واضح لمن راجع وجدانه، فالإخطارية والإيجادية بهذا المعنى غير متقابلتين، كما أنّ الإيجادية بالمعنى المتقدّم لا تقابل الإخطارية بمعنى إخطار المعنى في الذهن؛ فإنّ ألفاظ الحروف - سواء كانت حاكيات عن الواقع المقرّر حكاية تصوّرية مع قطع النظر عن الاستعمال، أو كانت موجدة لمعانيها كحروف القسم والنداء والتحضيض - إخطارية موجبة لانتقال [السامع] من اللفظ إلى المعنى.

ص: 34


1- تقدّم في الصفحة 32.
2- يأتي في الصفحة 50.

في كلام بعض المحقّقين

ثمّ إنّ بعض المحقّقين بعد تسليم إيجادية بعض الحروف أنكر كون الفرد الموجود به معناه الموضوع له، واستدلّ عليه بوجوه(1):

أحدها: أنّ معنى اللفظ ومدلوله بالذات هو ما يحضر في الذهن عند سماع اللفظ الموضوع له، ولا ريب أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن يحضر في الذهن، فالخارج هو المدلول عليه بالعرض؛ لفناء المدلول عليه بالذات فيه.

وفيه أوّلاً: أنّه منقوض بالأعلام الشخصية، بناءً على أنّها من قبيل خصوص الوضع والموضوع له كما هو المشهور، واعترف به، ولو أنكر أحد كون الموضوع له فيها هو الوجود الخارجي، فلا ريب في إمكان الوضع للموجود المتشخّص في الخارج من غير لزوم محال أو اختلال في المحاورة والدلالة.

وثانياً: أنّ ما ذكره - من أنّ معنى اللفظ هو ما يحضر في الذهن بالذات عند سماعه؛ أي المعلوم بالذات هو الموضوع له - ادّعاء من غير إشفاعه بالدليل، والقائل بأنّ بعض الألفاظ موضوعة للموجود الخارجي ينكر ذلك، ويدّعي أنّ الموضوع له فيه هو المعلوم بالعرض، والألفاظ وضعت للإفادة والاستفادة بإحضار المعاني في الذهن، سواء في ذلك العرضية والذاتية.

وثالثاً: أنّ الموضوع له في كافّة الأوضاع هو غير ما يحضر في الذهن

ص: 35


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 46 - 47.

بالذات، بل هو ما يفهم من اللفظ ويتوجّه السامع إليه عند سماع اللفظ، ولا ريب أنّ الصورة الحاضرة في الذهن بالذات مغفول عنها عند سماع اللفظ، وليست ما يفهم منه، بل تكون مرآة للمعنى المفهوم الذي هو الموضوع له، وأنت إذا راجعت وجدانك ترى أنّه عند سماع اللفظ تنتقل إلى المعاني النفس الأمرية، لا الموجودة في ذهنك أو ذهن المتكلّم، سواء في ذلك الأعلام الشخصية، وأسماء الأجناس، وغيرها، فلفظ الإنسان يدلّ على نفس الطبيعة لا الموجودة في الذهن، نعم ينتقل السامع إلى المعنى الموضوع له بتوسّط الصورة الحاضرة في الذهن التي تكون مرآة له، ومغفولاً عنها.

ثانيها: أنّ هذا الموجود الخارجي - الذي هو بالحمل الشائع نداء - لا يتحقّق في الخارج إلاّ بنفس الاستعمال، فيكون متأخّراً عنه تأخّر المعلول عن علّته، ولا ريب في أنّ المستعمل فيه متقدّم على الاستعمال بالطبع، فإذا كان هذا الوجود هو المستعمل فيه يلزم تقدّم الشيء على نفسه.

وفيه: أنّ القائل بكون الألفاظ على قسمين - إيجادية وحاكية - لا يسلّم بلزوم تقدّم المستعمل فيه على الاستعمال؛ إذ ليس معنى الاستعمال إلاّ ذكر اللفظ لإفهام المعنى وطلب عمل اللفظ في المعنى من غير لزوم التقدّم المدّعى. ولعلّه أخذ بظاهر لفظة «في» الدالّة على الظرفية، فتوهّم أنّ استعمال شيء في شيء يتوقّف على وجود الظرف قضاءً لحقّ الظرفية، وإلاّ فأيّ دليل على تقدّم المستعمل فيه على الاستعمال؟!

والتحقيق: أنّ الألفاظ قد تكون حاكيات عن المعاني المقرّرة في نفس الأمر، فيكون التكلّم بها موجباً لإخطار معانيها في الذهن، وقد تكون موجدة لمعانيها

ص: 36

في الوعاء المناسب لها، ومع ذلك موجبة لإخطار معانيها في الذهن ولو بالعرض، ولا يكون لها واقع تطابقه أو لا تطابقه، فالمستعمل فيه لا يكون مقدّماً على الاستعمال تقدّماً بالطبع حتّى في الحاكيات؛ لعدم ملاك التقدّم، والتقدّم في بعضها اتّفاقي، لا طبعي بملاكه.

ثالثها: أنّه لا شبهة في استعمال أدوات النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي والطلب في غير ما يكون كذلك بالحمل الشائع، بل تستعمل هذه الألفاظ بداعي التشوّق أو السخرية أو التعجيز وأمثالها، ولا ريب في أنّ الموجود بهذا الاستعمال لا يكون بالحمل الشائع نداءً وتشبيهاً وطلباً، بل يكون تشوّقاً وتعجيزاً إلى غير ذلك بهذا الحمل، فلا بدّ إمّا من الالتزام بالمجازية، وهو ممّا

لا يقول به المفصّل، وإمّا أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية بداعي ما ذكر، فما تكون مستعملة فيه هو معانيها الحقيقية فيما إذا استعملت بداعي إفادة ما وضعت له.

وفيه: أنّ العارف بموارد الاستعمالات ومحاسن الكلام يعلم أنّ هذه الألفاظ في أمثال الموارد المتقدّمة تستعمل استعمالاً إيجادياً، لكن بدواعٍ اُخر، فالقائل في قوله:

يا كوكباً ما كانَ أقصرَ عمرَهُ(1)

..................................

يوجِد فرداً من النداء بالحمل الشائع، لكن بداعٍ آخر، ويكون الاستعمال فيما وضع له، وإنّما الجدّ بخلافه، وإلاّ لصار الكلام خلواً عن الحسن ومبتذلاً، وكذا

ص: 37


1- وعجزه: «وكذاكَ عُمْرُ كواكبِ الأسحارِ» وهو من قصيدة للشاعر أبي الحسن التهامي. راجع تأسيس الشيعة: 215 - 216.

غيره من الأمثلة، فما قال - من عدم كونها مجازاً - ممنوع، لكن في مطلق المجازات تستعمل الألفاظ في معانيها الحقيقية، لكن بداعي التجاوز عنها إلى غيرها، وسيأتي تحقيق ذلك في محلّه(1).

دفع وهم: ردّ مقالة المحقّق العراقي في مدلول الحروف

قد ذهب بعض المحقّقين إلى أنّ مدلول الحروف قسم من الأعراض النسبية المعبّر عن وجودها ووجود بقيّة الأعراض بالوجود الرابطي، ومداليل الهيئات هي الوجود الرابط، ففي مثل «زيد في الدار» تدلّ لفظة «في» على مقولة الأين، والهيئة على ربطها بالموضوع؛ ضرورة دلالته على مقولة الأين، ولا دالّ عليها إلاّ هي. وما قيل - من لزوم التكرار في الدلالة على الانتساب؛ لدلالة الحروف الدالّة على المقولة عليه، ولو دلّت الهيئة عليه لزم التكرار - مدفوع بأ نّه من قبيل

الإجمال والتفصيل؛ لدلالة الحرف على العرض المنتسب لموضوع ما، والهيئة على ربطه بموضوع معيّن(2).

وفيه أوّلاً: أنّه بعد الإذعان بأنّ الأعراض النسبية من قبيل الوجود الرابطي وتقع طرف الربط، لا مجال لجعلها مدلولاً عليها بالحروف؛ للزوم كون معاني الحروف مستقلاّت بالمفهومية وصيرورتها محكوماً بها؛ فإنّ الوجود الرابطي هو المحمولي، ومعاني الحروف غير مستقلّة بالمفهومية ولا يمكن جعلها طرف الربط .

ص: 38


1- يأتي في الصفحة 60 - 64.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 50 - 51.

وثانياً: أنّ في قولنا: «زيد له البياض» و«الجسم له طول وعرض» ممّا يكون طرف الإضافة غير الأعراض النسبية، ليس المدلول عليه بالحرف إلاّ نفس الربط، فهل «اللام» في أمثال ما ذكر تدلّ على عرض نسبي، أو استعملت في غيرما وضعت له؟!

والحلّ: أنّها تفيد الإضافة بينهما، والهيئة تدلّ على الوجود الرابط، وكذا حال سائر الحروف الحاكية؛ فإنّها بإزاء الإضافات والروابط، وسيأتي الكلام في الهيئات(1).

وثالثاً: أنّ الحروف الإيجادية بالمعنى الذي ذكرناه، كحروف النداء والقسم والردع، لا يكون لها واقع مقرّر محكيّ بها؛ ضرورة أنّ حروف النداء لا تحكي عن نداء خارجي أو ذهني، ولا تستعمل في مفهومه، بل يوجد بها النداء، فلا يعقل حكايتها عن عرض نسبي، وكذا حروف القسم؛ فإنّها آلة إيجاده، ولا يكون القسم من الأعراض النسبية بالضرورة.

والعجب أنّه قدّس سرّه قال: «إنّ الحروف كلّها حاكيات عن الأعراض النسبية،

ولا يهمّنا تشخيص كونها من أيّ الأعراض»(2)

مع أنّ دعوى هذه الكلّية بمكان من الفساد.

ص: 39


1- يأتي في الصفحة 45.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 50.

تكميل : في أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ

التحقيق في وضع الحروف عموم الوضع وخصوص الموضوع له، وهذه الدعوى وإن كانت بيّنة بعد التأمّل في معاني الحروف بما تقدّم - بعد عدم تعقّل حصول الربط بالمفاهيم الكلّية، وعدم تعقّل جامع ماهوي بينها كما تقدّم(1) - لكن اللازم إبطال الدعاوى الاُخر حتّى تدفع المغالطات الواقعة في المقام:

نقل كلمات الأعلام في وضع الحروف ونقدها

منها: عموم الوضع والموضوع له والمستعمل فيه، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه قائلاً: إنّ الخصوصية المتوهّمة لا يمكن أن تكون قيداً للموضوع له ولا المستعمل فيه، سواء كانت خارجية أو ذهنية(2).

وفيه ما لا يخفى: بعد وضوح اختلاف معاني الأسماء والحروف ذاتاً وتعقّلاً ودلالةً، وسيأتي(3)

بيان أنّ الموضوع له هو الخاصّ حتّى في مورد نقضه من نحو قوله: «سر من البصرة إلى الكوفة» ممّا يتوهّم استعمالها كلّياً.

ومنها: ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه ؛ من عموم الوضع والموضوع

له، لا بالمعنى الذي في الأسماء، بل بمعنى أنّ الموجَد في الحروف في جميع

ص: 40


1- تقدّم في الصفحة 29.
2- كفاية الاُصول: 25 - 26.
3- يأتي في الصفحة 43.

مواطن الاستعمالات شيء واحد بالهوية، وأنّ الخصوصيات اللاحقة لها خارجة عن الموضوع له ولازمة لوجوده، كالأعراض المحتاجة في الوجود إلى المحلّ، مع أنّه خارج عن هوية ذاتها، من غير أن يكون الموضوع له معنىً كلّياً قابلاً للصدق على الكثيرين كالكلّية في الأسماء، فالاحتياج إلى الخصوصيات في موطن الاستعمال لا يوجب الجزئية، كما أنّ كونها إيجادية وموضوعة لإيجاد الربط لا يوجبها، بعد البناء على وجود الكلّي الطبيعي، وأنّ التشخّص والوجود يعرضان له دفعة(1).

وفيه أوّلاً: أنّ الهوية الواحدة التي ذكرها إن كانت شيئاً في قبال الوجود - كما قابلها به في قوله: «إنّ وجود المعنى الحرفي خارجاً يتقوّم بالغير، لا هويته وحقيقته» - وفي قبال الماهية القابلة للصدق على الكثيرين، ومع ذلك تكون أمراً واحداً موجداً للربط، فهو كما ترى لا يستأهل جواباً.

وإن كانت وجوداً سعيّاً مشتركاً بين الروابط، أو ماهية كذلك لكن بنعت الوحدة الخارجية، فهو فاسد؛ لعدم الجامع الخارجي بنعت الوحدة بين الوجودات، لا من سنخ الوجود، ولا من سنخ الماهية: أمّا سنخ الوجود فواضح؛ للزوم وحدة الروابط وجوداً في جميع القضايا، وأمّا الماهية فلما حقّق في محلّه وأشرنا إليه سابقاً من أنّ الماهية في الخارج موجودة بنعت الكثرة، ولا جامع اشتراك خارجي بنعت الوحدة بين الأفراد؛ فإنّ الوحدة تساوق الوجود، فلزم موجوديتها بوجود واحد. وأمّا تنظيره بالأعراض فمناقض لقوله؛

ص: 41


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 57 - 58.

لأنّ للأعراض ماهية مستقلّة مقولة على الكثيرين محمولة عليها.

وثانياً: أنّ ابتناء وجود معاني الحروف على القول بوجود الكلّي الطبيعي يناقض قوله: «إنّ الكلّية في معانيها ليست كالأسماء»؛ لأنّ نسبة المعاني الحرفية إلى وجوداتها إن كانت كالطبيعي إلى أفراده فتكون قابلة للصدق على الكثيرين، وإلاّ فلا معنى لابتناء وجودها على وجود الطبيعي.

هذا، مضافاً إلى ما عرفت من الإشكال في مبناه في باب معاني الحروف.

ومنها: ما اختاره بعض المحقّقين؛ من عموم الموضوع له، لكن لا بالمعنى المشهور بل بالذي اختاره. وقد عرفت بطلان مبناه(1)؛ أي وجود الجامع بين الموجودات الخارجية، مضافاً إلى ما عرفت من بطلان مختاره في باب معاني الحروف(2).

ومنها: ما نسب إلى بعض الفحول؛ من كون معانيها جزئياً إضافياً(3)، وألجأه إليه توهّم استعمالها كلّياً فيمثل: «سر من البصرة إلى الكوفة» و«كلّ عالم في الدار».

كما التجأ بعضهم إلى اختيار كونها موضوعة للأخصّ من المعنى الملحوظ حال الوضع، وقال: «إنّ القول بوضعها للجزئي الحقيقي خارجاً أو ذهناً من قبيل إلزام ما لا يلزم»(4).

ص: 42


1- تقدّم في الصفحة 21 - 22.
2- تقدّم في الصفحة 38 - 39.
3- هداية المسترشدين 1: 175.
4- نهاية الدراية 1: 58.

وبعض آخر إلى أنّ الكلّية والجزئية فيها تبع لكلّية الطرفين وجزئيتهما(1).

وهذه الآراء مستلزمة لتصوّر الكلّية القابلة للصدق على الكثيرين في معانيها، مع أنّها مخالفة لحرفية المعاني وعدم استقلالها في المفهومية والمعقولية والوجود، مضافاً إلى أنّ كلّ ذلك من باب الإلجاء والاضطرار.

والتحقيق: أنّ الوضع فيها - مطلقاً - عامّ والموضوع له خاصّ: أمّا الحروف التي وضعت لإيجاد معانيها - كحروف النداء، والقسم، والتنبيه، والردع، والتحضيض - فلا ينبغي توهّم عموم الموضوع له فيها؛ ضرورة عدم معنىً لوضعها للكلّي واستعمالها فيه؛ فإنّ مثلها آلات لإيجاد المعاني، والوجود الإيقاعي متشخّص جزئي، فلفظة «يا» توجد النداء بالحمل الشائع، كان المنادى واحداً أو كثيراً، ففي قوله: «يا أيّها الناس» نداء واحد شخصي نادى به جميع الناس، وكذا الحال في سائرها، فحروف القسم وضعت لإيقاع القَسم بالحمل الشائع، كان المُقسم به واحداً أو كثيراً.

وأمّا سائر الحروف ممّا يتوهّم استعمالها في المعنى الكلّي؛ فلأ نّه بعد عدم تصوّر جامع ذهني أو خارجي بينها - إلاّ بعض العناوين الاسمية التي لا تكون جامعاً ذاتياً لها، ولا يمكن إيقاع الربط بها؛ كمفهوم «الابتداء الآلي» و«الربط» و«النسبة» وأمثالها، ممّا لا تكون من سنخ المعاني الحرفية - لا يمكن الالتزام فيها بعموم الموضوع له بأيّ نحو من الأنحاء المتقدّمة.

والتحقيق أن يقال: إنّ تلك الحروف لمّا كانت تابعة للأسماء في التحقّق

ص: 43


1- مقالات الاُصول 1: 92.

الخارجي والذهني وفي أصل الدلالة على معانيها، كانت تابعة لها في كيفية الدلالة؛ أي الدلالة على الواحد والكثير، فتكون دالّة على واحد عند كون الأطراف كذلك، وعلى الكثير إذا كانت الأطراف كذلك. ففي قولنا: «كلّ عالم في الدار» يكون العالم دالاًّ على عنوان المتلبّس بالعلم، والكلّ على أفراده، ولفظة «في» على الروابط الحاصلة بينها وبين الدار، فيكون من قبيل استعمال اللفظ في المعاني الكثيرة، لا استعماله في كلّي منطبق على الكثيرين؛ لعدم تعقّل ذلك، وإمكان ما ذكرنا بل وقوعه.

وهذا النحو من الاستعمال في الكثير كالوضع له والحكاية عنه ممّا لا مانع منه، ولو كان المستعمل فيه غير متناهٍ؛ لأنّ تكثير الدلالة والاستعمال تبعي، فلا محذور فيه ولو قلنا بعدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنىً في الأسماء؛ لعدم جريان البرهان المتوهّم(1)

في الحروف؛ لما عرفت(2)

من أنّ استعمالها ودلالتها وتعقّلها وتحقّقها تبعية غير مستقلّة.

ففي قوله: «كلّ عالم في الدار» يدلّ «كلّ عالم» على الكثرة التفصيلية، ولفظة «في» تدلّ على انتساب كلّ فرد إلى «الدار» لا بالاستعمال في طبيعة كلّية، وكذا في مثل: «سر من البصرة إلى الكوفة» تدلّ «من» و«إلى» على نسبتي الابتدائية والانتهائية بين طبيعة السير المقتطع من الطرفين، دلالة تصوّرية مع قطع النظر عن ورود هيئة الأمر، من غير تكثير في محكيّهما، فإذا دلّت الهيئة على البعث إلى السير المقتطع بالبصرة والكوفة من غير بعث استقلالي إلى

ص: 44


1- راجع كفاية الاُصول: 53.
2- تقدّم في الصفحة 29.

الابتداء والانتهاء، وانطبق السير المحدود على المتكثّر، صارت الحدود متكثّرة بالتبع، ولفظتا «من» و«إلى» حاكيتان عنهما حكاية الواحد عن الكثير، لا عن الواحد المنطبق عليه؛ ضرورة عدم تعقّل واحد قابل للانطباق على محكيّهما ذهناً أو خارجاً.

ولو أنكرت جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنىً، أو أنكرت كون المقام من قبيله، فلنا أن نقول في مثل «سر من البصرة» أو «كلّ عالم في الدار»: إنّه مستعمل في ربط جزئي يحلّله العرف إلى الروابط، لا كلّي قابل للصدق.

وأنت إذا تأمّلت فيما ذكرنا من أوّل البحث إلى هاهنا - من امتناع تصوّر جامع ذاتي فيها، واختلاف معانيها مع الأسماء في جميع الشؤون، وتبعيتها لها فيها - يسهل لك تصديق ما ذكرنا مع مساعدة الوجدان والبرهان عليه.

القول : في معاني الهيئات

ليس للهيئات - أيضاً - ميزان كلّي وضابطة واحدة كما سيتّضح لك، فلا بدّ من البحث عن مهمّاتها وتميّز حال بعضها عن بعض:

فمنها: هيئة القضيّة الخبرية الحملية التي لا يتخلّلها الحروف، مثل: «الإنسان حيوان ناطق» و«زيد إنسان» و«عمرو قائم»، فالهيئة فيها وضعت للدلالة على الهوهوية التصديقية، ومفادها أنّ المحمول موضوع من غير دلالة على إضافة أو نسبة مطلقاً، لا في الشائعات من الحمل، ولا في

ص: 45

الأوّليات منه، ولا في البسائط، ولا المركّبات:

أمّا في الأوّليات والبسائط فواضح؛ لأنّ النسبة بين المحمول والموضوع فيهما غير معقولة بحسب نفس الأمر؛ فإنّ الحدّ عين المحدود، وإنّما هو تفصيل نفس حقيقة المحدود، فلا يعقل إضافة واقعية بينهما في اعتبار تقرّر الماهية، وكذا في الهليات البسيطة لا يمكن تحقّق الإضافة بين موضوعها ومحمولها، وإلاّ يلزم زيادة الوجود على الماهية في الخارج، وكذا في حمل الشيء على نفسه، كقولنا: «زيد زيد» و«الإنسان إنسان» وهو واضح. وكذا فيما إذا حمل الشيء على مصداقه الذاتي، كقولنا: «البياض أبيض» و«زيد إنسان»، أو كمصداقه الذاتي، مثل: «الوجود موجود» و«الله تعالى موجود»؛ فإنّ في شيء ممّا ذكر لا يتعقّل نسبة وإضافة بحسب نفس الأمر والخارج.

وأمّا القضيّة اللفظية بما أنّها حاكية عن الواقع وتامّة الانطباق عليه، فلا يمكن أن تشتمل على شيء زائد عن الواقع أو ناقص عنه ومع ذلك تكون منطبقة عليه، فإذا اشتملت على الدالّ على الإضافة والنسبة بين الموضوع والمحمول، فلا بدّ وأن يكون محكيّها كذلك، مع أنّ الواقع خلاف ذلك، ولا معنى لتحقّق إضافة في الكلام من غير حكاية عن الواقع، فالهيئة الحملية في مثل تلك القضايا تحكي عن الهوهوية وعينية الموضوع للمحمول، فلا يعقل أن تشتمل على النسبة؛ لمنافاة الهوهوية مع النسبة والإضافة، وأمّا المعنى المفهوم من القضيّة فلا يعقل أن يكون أمراً زائداً عمّا اشتملت عليه القضيّة اللفظية، فالقضيّة اللفظية موجبة لإحضار مفادها في الذهن، وكذا المعقول من نفس الأمر لا يمكن أن يكون زائداً على ما فيه، فلا تكون للنسبة واقعية في تلك

ص: 46

القضايا، لا في الخارج ونفس الأمر، ولا في القضيّة اللفظية، ولا المعقول من الواقع، ولا المفهوم من القضيّة.

وأمّا حديث تقوّم القضيّة بالنسبة، وأنّ الخبر ما كان لنسبته واقع تطابقه [أو لا تطابقه] فمن المشهورات(1)

التي لا أصل لها، وسنشير(2)

إلى ميزان قبول القضيّة لاحتمال الصدق والكذب.

وأمّا الشائعات من الحمل التي لا يحمل فيها المحمول على مصداقه الذاتي، مثل «زيد أبيض» و«عمرو عالم» فتدلّ الهيئة فيها أيضاً على الهوهوية، فحينئذٍ: إن قلنا بأنّ الذات مأخوذة في المشتقّ فتكون حالها كالحمل الشائع بالذات؛ لعدم تعقّل النسبة بين الذات والشيء وبين الموضوع خارجاً.

وإن قلنا ببساطة المشتقّ، وأنّ الفرق بينه وبين المبدأ باللا بشرطية والبشرط لائية، فبلحاظ أنّ اللا بشرط لا يأبى عن الاتّحاد مع غيره، يكون الموضوع متّحداً مع المحمول وتكون الهوهوية متحقّقة فيها والقضيّة حاكية عنها. وقضيّة عرضية الحمل إنّما هي بالنظر الدقيق البرهاني كموجودية الماهية بالعرض.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ تلك القضايا الحملية بجميع أقسامها حاكية عن الهوهوية، وهيئتها وضعت للدلالة عليها بحكم التبادر.

ومنها: هيئة القضيّة الخبرية التي تتخلّلها الأداة، مثل: «زيد في الدار» و«عمرو على السطح» و«الجسم له البياض»، وهذه القضايا ليست حملية، لكن

ص: 47


1- الجوهر النضيد: 38؛ شرح الشمسية: 68؛ شرح المطالع: 113؛ نهاية الأفكار 1: 56 - 57.
2- يأتي في الصفحة 49 - 50.

تؤول إليها؛ فإنّ قوله: «زيد في الدار» يؤول إلى زيد حاصل أو كائن أو مستقرّ فيها؛ ولهذا يقال عنها: «الحملية» فهذه القضايا تحكي عن النسبة بين الجواهر والأعراض والموضوع والمحمول، فقوله: «زيد له البياض» تحكي اللام عن نحو إضافة بين «البياض» و«زيد»، والهيئة تدلّ على تحقّق هذه الإضافة دلالة تصديقية، ولهذا ترى أنّ في القضيّة السالبة المحصّلة مثل «زيد ليس له البياض» تدلّ اللام على الإضافة، وحرف السلب على سلب تحقّقها، فورود حرف السلب عليها يدلّ على أنّها لنفس الإضافة، لكن لا بمعنى كونها ماهية كلّية، بل بمعنى نفس الإضافة الجزئية بين الشيئين، فحرف السلب يرد على الكون الرابط، فإذا سلبه صارت الإضافة مسلوبة بالتبع، فأداة الإضافة والنسبة تدلّ على معانيها في القضايا السالبة والموجبة على السواء، لكن القضايا الموجبة تدلّ على تحقّقها دلالة تصديقية، والسالبة على سلبه كذلك، وفي كلتيهما تكون الدلالة التصديقية لهيئة الجمل الخبرية.

وممّا ذكرنا يتّضح حال السوالب؛ فإنّ في حمليتها يدلّ حرف السلب على سلب الهوهوية، فيرد على الحمل، فيكون مفاد السوالب سلب الحمل، لا حمل السلب أو حمل هو السلب كما يتوهّم، فقولنا: «زيد إنسان» حمل يدلّ على الهوهوية، و«زيد ليس بحجر» سلب حمل يدلّ على نفي الهوهوية.

وأمّا السوالب الحملية بالتأويل كقولنا: «زيد ليس في الدار» و«عمرو ليس له البياض»، فحرف السلب يرد على الكون الرابط، فيسلب به الكينونة في الدار. وأمّا الجمل الفعلية فسيأتي الكلام فيها في المشتقّ(1).

ص: 48


1- يأتي في الصفحة 152.

فاتّضح ممّا ذكرنا: أنّ ما اشتهر بينهم: من أنّ الخبر ما كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه(1)،

فاسد في الحمليات التي لا تتخلّلها الأداة؛ لعدم تعقّل نسبة واقعية لجلّها؛ للزوم التوالي الفاسدة مع تحقّق النسبة؛ من تخلّل الإضافة بين الشيء ونفسه، وبين الماهية والوجود، وبين الشيء ومصداقه الذاتي، ولزوم كون الوجود زائداً على الماهية في الخارج، وكون الإمكان والشيئية من الاُمور العامّة زائدين على الموضوعات في الخارج، إلى غير ذلك ممّا برهن على امتناعه في محلّه.

وما يتصوّر فيه النسبة كالهليات المركّبة؛ فلأنّ القضيّة لا تحكي عن النسبة بل عن الهوهوية، ويكون الحمل في لحاظ الوحدة، لا العروض واعتبار النسبة بين الموضوع والمحمول، وسيأتي في المشتقّ(2)

ما يوضّح ذلك.

وكذا ما ذكر فاسد في السوالب المحصّلة مطلقاً؛ لأنّ حرف السلب فيها آلة لسلب الهوهوية في الحمليات الصريحة، ولسلب الكون الرابط في الحمليات المؤوّلة، فلا يكون للسوالب نسبة بين الموضوع والمحمول بحسب الواقع.

فعلم أنّ ما اشتهر(3) [من] أنّ القضيّة متقوّمة بالنسبة، وأنّ التصديق هو الإذعان بالنسبة، وأنّ المحمول متأخّر عن الموضوع، ممّا لا أصل لها.

ص: 49


1- تقدّم في الصفحة 47.
2- يأتي في الصفحة 174.
3- الجوهر النضيد: 38 و192؛ شرح المطالع: 7 و113؛ الحاشية على تهذيب المنطق: 14؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 78 - 79.

تنبيه: في الجمل التامّة وغير التامّة

إنّ الجمل تارةً: تكون تامّة، وتارةً: تكون غير تامّة، والتامّة، تارةً: تكون محتملة للصدق والكذب، وتارةً: لا تكون كذلك.

أمّا الجمل الغير التامّة فهي التي تحكي عن مفادها حكاية تصوّرية، ويكون حالها حال المفردات من هذه الجهة؛ ففي قوله: «غلام زيد» تدلّ الهيئة على نفس الربط بين الغلام وزيد لا تحقّقه، وهو معنىً تصوّري لا يتّصف بالصدق والكذب ولا يحتملهما.

وأمّا التامّة الخبرية فهي حاكية عن نفسِ الأمر حكاية تصديقية؛ أي حكاية تحقّق شيء أو لا تحقّقه، أو كونِ شيء شيئاً أو لا كونه حكاية تصديقية، فيتّصف بالصدق والكذب، فقوله: «زيد له القيام» دالّ بهيئته على أنّ القيام حاصل له بحسب الواقع، وقيام زيد دالّ على إضافة القيام إليه من غير حكاية عن تحقّقها، فهو معنىً تصوّري للانتساب بين الطرفين، والأوّل معنىً تصديقي إخباري عن حصوله بينهما.

ثمّ إنّ الجمل الغير التامّة على ضربين:

أحدهما: ما تدلّ على الانتساب والإضافة التصوّرية، كجملة المضاف والمضاف إليه.

وثانيهما: ما تدلّ على الهوهوية التصوّرية، كجملة الصفة والموصوف، فنحو «زيد الموجود» يدلّ على الاتّحاد بينهما دلالة تصوّرية غير محتملة للصدق والكذب، ولا يحكي عن الإضافة؛ لعدم الإضافة بينهما؛ ولهذا ترى

ص: 50

أنّ ما جعل صفة يمكن أن يحمل على الموصوف من غير تخلّل حروف دالّة على الإضافة، فيقال في «زيد العالم»: «زيد عالم»، وفي «زيد الإنسان»: «زيد إنسان»، بخلاف جملة المضاف والمضاف إليه؛ حيث لا بدّ من تخلّل الأداة بينهما، فيقال في «غلام زيد»: «زيد له الغلام» لا «زيد غلام»، وفي «قيام زيد»: «زيد له القيام»... وهكذا، حتّى في مثل «خاتم فضّة» تكون الإضافة بتقدير «من».

فاتّضح ممّا ذكرنا ما في كلام بعض المحقّقين: من أنّ مدلول الهيئة ربط العرض بموضوعه، وذلك هو المعبّر عنه بالوجود الرابط(1)؛ فإنّ فيه وجوهاً من الخلط تظهر بعد التأمّل فيما ذكرناه.

كما يظهر النظر فيما ذكر في وجه افتراق المركّبات الناقصة عن التامّة: «بأنّ الاُولى تحكي عن النسبة الثابتة التي تعتبر قيداً مقوّماً للموضوع أو المحمول، والثانية تحكي عن إيقاع النسبة؛ فإنّ المتكلّم وجداناً يرى الموضوع عارياً عن النسبة التي يريد إثباتها، وهو بالحمل أو الإنشاء يوقعها بين الموضوع والمحمول؛ ولهذا يكون مفاد التركيب الأوّل متأخّراً عن الثاني تأخّر الوقوع عن الإيقاع»(2)،

انتهى ملخّصاً.

فإنّ المراد من النسبة الثابتة إن كان النسبة الواقعية - كما هو مقتضى مقابلتها لإيقاع النسبة - فلا ريب في أنّ المركّبات الناقصة لا تحكي عنها؛

ص: 51


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 50 - 51.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 60.

فإنّ الحكاية عن الواقع تصديقية لا تصوّرية، وهي شأن المركّبات التامّة الإخبارية.

مضافاً إلى أنّ المركّبات التامّة الإخبارية لا تحكي عن إيقاع المتكلّم النسبة ذهناً أو لفظاً كما ذكره، ولهذا لا ينتقل السامع إلاّ إلى الثبوت الواقعي، والإيقاع

مغفول عنه إلاّ باللحظ الثاني، وسيأتي حال الإنشائيات.

مع أنّ في الجمل الناقصة والتامّة تكون النسبة بإيقاع المتكلّم بوجه؛ فإنّ إضافة «غلام» إلى «زيد» وتوصيف «زيد» بالعالم في الجمل الناقصة إنّما هو بفعل المتكلّم، فلا تكون النسبة ثابتة في الكلام قبل إيقاعه.

هذا، مضافاً إلى أنّ تأخّر الوقوع عن الإيقاع إنّما هو فيما إذا كان الأوّل معلول الثاني لا مطلقاً، وليست النسبة في الجمل الناقصة معلولة لإيقاع النسبة في التامّة، فلا وجه للتأخّر مع فقدان مناطه.

على أنّ إيقاع النسبة في القضيّة اللفظية متوقّف على تصوّر الموضوع استقلالاً، مع أنّ القضيّة اللفظية مرآة الواقع، والعناوين المأخوذة فيها لا تكون ملحوظة بالاستقلال حتّى يرى خلوّها منها ويمكن إيقاع النسبة بينها، وما ذكرنا من إيقاعها بوجه إنّما هو بنحو الاستجرار تبعاً للإخبار عن الواقع على ما هو عليه.

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده ذلك، لكنّه خلاف ظاهر كلامه أو نصّه؛ حيث قال: «إنّ المتكلّم يرى الموضوع عارياً عن النسبة فيوقعها».

ص: 52

الكلام في الإنشاء والإخبار

أمّا الجمل الإنشائية في باب العقود والإيقاعات، فهيئاتها تكون آلة لإيجاد شيء من الاعتباريات التي يحتاج إليها البشر، ف «بعت» الإنشائي بهيئته آلة إيجاد مادّتها؛ أي حقيقة البيع التي تكون من الحقائق الاسمية ذات الإضافة إلى الثمن والمثمن والبائع والمشتري، والتاء تدلّ على كون الصدور منتسباً إلى المتكلّم أو الانتساب الصدوري إليه، فيكون معنى الهيئة نفس الإيجاد الذي هو صرف التعلّق بالفاعل ومحض الإضافة بينه وبين الفعل بإزاء الإيجاد التكويني. وهيئة «بعت» الخبري تحكي عن نفس هذا الإيجاد، كهيئة «ضربت» و«قتلت» الحاكية عن الإيجاد التكويني، فهيئة «بعت» الإنشائي موجدة للبيع، وهيئة الإخباري تحكي عن هذا الإيجاد، وكلتاهما معنىً حرفي غير مستقلّ بالمفهومية ولا بالموجودية، وكذا حال جميع الهيئات في أبواب العقود والإيقاعات.

في أنحاء الإنشاء

ثمّ إنّ الهيئات الإنشائية مختلفة، كاختلاف الهيئات في الجمل الإخبارية كما تقدّم، فقد ينشئ المتكلّم الهوهوية كقوله: «أنتَ حُرّ» و«أنتِ طالق» و«أنا ضامن» في مقام الإنشاء، فإنّ الاعتبار في أمثالها هو إنشاء الهوهوية وجعل الموضوع مصداق المحمول في وعاء الاعتبار، فيصير بهذا الجعل مصداقاً للمحمول لدى العقلاء، فتترتّب الآثار عليها.

ص: 53

وقد ينشئ الإضافة والكون الرابط، كقوله: «من ردّ ضالّتي فله هذا الدينار» مشيراً إلى معيّن، فينشئ كون الدينار له، وقد ينشئ كون شيء على عهدته لشخصٍ، كمن قال: «من ردّ ضالّتي فله عليّ دينار»، ومنه قوله: «لله عليّ كذا»، فيجعل على عهدته شيئاً لله - تعالى - فيكون هو- تعالى - مطالباً له.

وقد ينشئ ماهية اعتبارية ذات إضافة كنوع العقود، فقوله: «بعتك» و«آجرتك» ونحوهما الاعتبار فيه هو إيجاد نفس الطبيعة الاعتبارية مضافة إلى مضايفاتها، فالمؤجر يوجد بآلية الهيئة إجارة البيت في مقابل شيء من شخص، إلى غير ذلك من الاعتبارات.

والمقصود من أنحاء الإنشاءات وإن كان تحقّق ما يحتاج إليه من الأمر الاعتباري ممّا يترتّب عليه أثر عند العقلاء، لكن إنشاء الهوهوية يغاير إنشاء الإضافة، وهما يغايران إنشاء الماهية ذات الإضافة.

هذا كلّه في الجمل الإنشائية المستعملة في أبواب المعاملات، وأمّا هيئة الأمر والنهي وسائر المشتقّات فسيأتي - إن شاء الله - كلّ في محلّه.

الكلام في ألفاظ الإشارات وأخواتها

أمّا ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة: فالظاهر أنّها موضوعة لإيجاد الإشارة، إلاّ

أنّ الاُولى وضعت لإيجاد الإشارة إلى الحاضر وما هو بمنزلته، والثانية إلى الغائب وما هو بمنزلته، ف «هذا» وأشباهه كإصبع الأخرس، فكما أنّه آلة لإيجاد الإشارة إلى مطلوبه فهي كذلك وضعاً، من غير فرق بينهما من هذه الجهة،

ص: 54

ولا يكون المشار إليه بها داخلاً في معناها، بل معناها نفس الإشارة وإحضار المشار إليه في ذهن السامع ليس إلاّ، كإحضار إشارة الأخرس المشار إليه في ذهنه من غير أن تكون موضوعة له.

وكذا الكلام في ضمائر الغيبة؛ فإنّها موضوعة للإشارة إلى الغائب، ولهذا يشترط فيها أن يكون مرجعها مذكوراً أو معهوداً لتصحّ الإشارة إليه، ومرجع الضمير هو المشار إليه، ونسبته إليه كنسبة المشار إليه إلى اسم الإشارة.

وبالجملة: أنّ هذه الألفاظ وضعت لنفس الإشارة، ولازمها إحضار المشار إليه في ذهن السامع؛ ولهذا قلنا: لم تقع تلك الألفاظ بما لها من المعنى محكوماً بها ولا عليها كسائر المعاني الحرفية، بل المحكوم به وعليه هو المشار إليه بها، فقوله: «هذا زيد» و«هو قائم» ليس المحكوم عليه والمخبر عنه معنى لفظة «هذا» و«هو»، بل المشار إليه بهما، كما أنّ الواقع كذلك.

ففرق بين قولنا: «زيد قائم» وبين «هذا - أو هو - قائم»؛ فإنّ زيداً يحكي عن المحكوم عليه حكاية اللفظ عن معناه الموضوع له، بخلافهما؛ فإنّهما يحضران المحكوم عليه في ذهن السامع إحضار الإشارة بالإصبع إيّاه في ذهنه، من غير أن تكون موضوعة له، ومن دون أن تكون حكاية اللفظ عن معناه؛ ولهذا أدرجناها في الحروف؛ لأنّ الميزان في حرفية الألفاظ كون معانيها غير مستقلّة بالمفهومية والموجودية، وهي كذلك؛ فإنّ نفس الإشارة بالحمل الشائع ممّا يتحصّل ويتقوّم بالمشير والمشار إليه، ولا يمكن تعقّلها بذاتها ولا إحضارها في ذهن السامع ولا وجودها في الخارج كذلك.

وما ذكرنا - من كون ألفاظ الإشارات وضمائر الغيبة من سنخ واحد، والفرق

ص: 55

بينهما بالحضور والغيبة - إنّما هو بحكم التبادر؛ فإنّك إذا راجعت وجدانك في لفظة «هذا» و«هو» ومرادفهما في لسان الفرس؛ أي «اين» و«او» ترى أنّ ما ذكرنا موافق لوجدانك، ولا يتبادر منهما إلاّ ما ذكرنا، وهو أصدق شاهد في هذه الأبواب.

وأمّا الموصولات: فيحتمل أن تكون موضوعة لإيجاد الإشارة إلى مبهم متوقّع رفع إبهامه؛ بحيث يكون عملها أمرين: أحدهما أصل الإشارة، وثانيهما إفهام المشار إليه المتوقّع للتوصيف لا بما أنّه مشار إليه. ويمكن أن تكون موضوعة لنفس الإشارة إلى المبهم الكذائي حتّى تكون كأسماء الإشارة، وتفترق عنها بالمشار إليه، كما تفترق أسماء الإشارة عن ضمائر الغيبة به. ولا يبعد أن يكون الأوّل متبادراً وإن كان تصوّره لا يخلو من صعوبة، لكنّه غير ممتنع.

وأمّا ضمائر المخاطب والمتكلّم: فالظاهر أنّ سنخها يغاير ألفاظ الإشارة

وضمائر الغيبة؛ فإنّ ضمير «أنا» و«أنت» وكذا المتّصل منه ليس للإشارة جزماً، بل ضمير المتكلّم موضوع لنفس المتكلّم بهويته الجزئية، وضمير المخاطب للمخاطب الجزئي كذلك، كما هو المتبادر منهما.

هذا حال معاني ما تقدّم.

وأمّا الوضع فيها: فيكون عامّاً والموضوع له خاصّاً، أمّا فيما يكون معانيها من سنخ الحروف فلما ذكرنا فيها(1) من عدم تصوّر جامعٍ حرفي بينها لا ذهناً

ص: 56


1- تقدّم في الصفحة 29.

ولا خارجاً، والعنوان الاسمي الحاكي عنها بنحو من الحكاية متصوّر لكن لا يمكن أن يعمل عمل الحروف في الحكاية عن الروابط والإضافات والإيجادات، فالحروف كالهيئات في القضايا مطلقاً لا يعقل فيها عموم الموضوع له، فيتطابق فيها البرهان والوجدان.

وكذا الحال في الإشارات وضمائر الغيبة والموصولات، سواء قلنا في الأخيرة بتضمّنها معنى الحرف أو بكونها كأسماء الإشارة.

وأمّا ضمير المتكلّم والمخاطب ممّا لم تكن معانيها حرفية، [فهما] وإن يمكن فيهما عمومه، لكن التبادر على خلافه؛ ضرورة فهم نفس المخاطب والمتكلّم بهويتهما الشخصية من حاقّ اللفظ، ولا يكون «أنت» مرادفاً لمفهوم المخاطب المذكّر، ولا «أنا» لمفهوم المتكلّم... وهكذا، وهو واضح لمن راجع وجدانه.

تنبيه : في أنّ معاني الحروف ليست مغفولاً عنها

بقي شيء: وهو أنّ ما اشتهر بينهم من أنّ الحروف آلات لملاحظة حال الغير، وأنّ معانيها مغفول عنها؛ ولذا لا يخبر عنها وبها(1)، ليس على ما ينبغي.

أمّا دعوى كونها آلة ومغفولاً عنها فواضحة الفساد بعد أدنى تأمّل في التراكيب الكلامية؛ ضرورة أنّ عمدة مقاصد المتخاطبين تفهيم المعاني الحرفية

ص: 57


1- قوانين الاُصول 1: 10 / السطر 3؛ هداية المسترشدين 1: 189؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 45.

وتفهّمها، وقلّما يتعلّق الغرض بغير ذلك؛ فإنّ القضايا على أنواعها إمّا تفيد الهوهوية، أو الكون الرابط، أو الإضافات والانتسابات بين المعاني الاسمية، فيكون غرض المتكلّم والمخاطب متعلّقاً بها، لا بالموضوع والمحمول، ففي قوله: «زيد موجود» ليس الغرض إفهام زيد ولا مفهوم الموجود، بل إفهام كون زيد موجوداً؛ أي الهوهوية المفهمة بالهيئة، وفي قوله: «زيد في الدار» و«عمرو على السطح» يكون الغرض إفهام الكون الرابط.

وبالجملة: بعد كون المعاني الحرفية هي المهمّ في التفهيم والتفهّم لا معنى لكونها مغفولاً عنها وآلة للحاظ غيرها، بل هي منظور فيها وألفاظها آلات للحاظ معانيها كالأسماء، لكن لمّا كانت معانيها على نحو لا يمكن أن تتعقّل إلاّ بتبع الغير يكون إفهامها تبعياً لا استقلالياً، وفرق واضح بين تبعية شيء لشيء في التعقّل والتحقّق وكونه مغفولاً عنه وآلة للحاظ الغير.

وبالتأمّل فيما ذكرنا يتّضح ما في دعوى عدم الإخبار عنها وبها؛ فإنّ المراد به إن كان عدم الإخبار عنها وبها على وزان المعاني الاسمية؛ بحيث تقع مبتدأً مستقلاًّ وخبراً كذلك، فلا شبهة فيه، لكنّ الإخبار عن الشيء أعمّ من ذلك.

وإن كان المراد به عدم الإخبار بقول مطلق، كما يقال: «المعدوم المطلق لا يخبر عنه»، فهو واضح الفساد؛ ضرورة عدم المانع العقلي عنه، وشهادة الوجدان بالخبر عنها وبها في التراكيب الكلامية، لكن تبعاً للمعاني الاسمية، فقوله: «ضربت زيداً في الدار يوم الجمعة» و«ولد لعمرو مولود ساعة [كذا]»

يكون الغرض [منهما] إفهام حدوث الضرب منه في محلّ كذا ويوم كذا،

ص: 58

وحدوث ولادة ابن عمرو ساعة كذا، ويفهم من مثلهما هذا الغرض، ولا يكون إلاّ لكون الحدوث بالمعنى الحرفي يمكن أن يخبر عنه وبه، فيصحّ تقييد المعاني الحرفية وتعليقها واشتراطها، فإنكار الواجب المشروط ومفهوم الشرط وإرجاع القيود الكلامية - الظاهرة في الرجوع إلى الهيئة - إلى المادّة بدعوى عدم الإمكان(1)

ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه.

ص: 59


1- مطارح الأنظار 1: 247 - 249.

الأمر الخامس : في المجاز

اشارة

قد اشتهر بينهم: أنّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة(1).

وخالفهم السكّاكي في الاستعارة على ما هو المشهور من مذهبه من كون المجاز عقلياً فيها مبنيّاً على ادّعاء فردية المشبّه للماهية المشبّه بها(2).

وفيه أوّلاً: أنّ الادّعاء لا يخرج الكلام عن المجاز اللغوي؛ لأنّ اللفظ استعمل في غير ما وضع له على الفرض.

هذا، مضافاً إلى أنّ استعمال اللفظ الموضوع للطبيعة في مصاديقها الواقعية أيضاً مجاز، فضلاً عن المصداق الادّعائي، وأمّا مثل «زيد إنسان» فلم يستعمل الإنسان إلاّ في نفس الطبيعة، والحمل يفيد اتّحادها معه

ص: 60


1- المطوّل: 353؛ مبادئ الوصول إلى علم الاُصول: 71؛ قوانين الاُصول 1: 13 / السطر 5؛ الفصول الغروية: 14 / السطر 12.
2- مفتاح العلوم: 156 - 158.

خارجاً ولم يستعمل في الفرد.

وثانياً: أنّ ما ذكره لا يجري في الأعلام الشخصية مثل قوله: «رأيت حاتماً» إلاّ بتأويل بارد مقطوع الفساد.

فما ذكره وإن كان أقرب إلى الذوق السليم ممّا هو المشهور؛ لما قال في وجهه(1): من صحّة التعجّب في قوله:

............................... شمسٌ تظلِّلُني من الشمس(2)

والنهي عنه في قوله:

لا تعجَبوا من بِلى غِلالتِهِ(3) ...............................

أضف إليه قوله تعالى: )مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ((4)؛ حيث نفى البشرية وأثبت الملَكية، وهو لا يستقيم إلاّ مع ادّعاء كونه مَلَكاً، لا إعارة لفظ «الملَك» له.

وما قيل في ردّ السكّاكي: [من] أنّ التعجّب والنهي عنه فللبناء على تناسي التشبيه؛ قضاءً لحقّ المبالغة(5).

فيه: أنّ تناسي التشبيه وقضاء حقّ المبالغة يقتضيان ما ذكره من الادّعاء، ومع عدمه لا التشبيه صار منسيّاً، ولا حقّ المبالغة مقضيّاً.

ص: 61


1- مفتاح العلوم: 157.
2- صدره: «قامت تظلّلني ومن عجب»
3- عجزه: «قد زرّ أزراره على القمر»
4- يوسف (12): 31.
5- المطوّل: 362.

وأنت إذا كنت ذا طبع سليم، وتصفّحت كلام خطباء العرب والفرس وشعرائهم، لا تشكّ في عدم صحّة ما ذهب إليه المشهور.

لكن ما ذهب إليه السكّاكي - أيضاً - غير تامّ.

التحقيق في المجاز

والحقّ الحقيق بالتصديق هو ما اختاره بعض أجلّة العصر رحمه الله علیه في وقايته(1)

وتبعه غيره(2):

أنّ اللفظ في مطلق المجاز - مرسلاً كان أو استعارة أو مجازاً في الحذف، مفرداً كان أو مركّباً - وكذا في الكناية، مستعمل فيما وضع له لا غير، لكن يكون جدّه على خلاف استعماله، وإنّما يكون تطبيق المعنى الموضوع له على ما أراده جدّاً؛ بادّعاء كونه مصداقه كما في الكلّيات، وعينه كما في الأعلام الشخصية.

فقوله: )مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ( استعمل «المَلَك» في الماهية المعهودة من الروحانيين، وإنّما حملها عليه بادّعاء كونه من مصاديقها، فالادّعاء على مذهب السكّاكي وقع قبل الإطلاق، فاُطلق اللفظ على المصداق الادّعائي، دون هذا؛ فإنّ الادّعاء بناءً عليه وقع بعد الاستعمال وحين إجراء الطبيعة الموضوع لها اللفظ على المصداق الادّعائي.

وفي قوله: «رأيت حاتماً» اُريد ب «حاتم» هو الشخص المعروف وادّعي أنّ فلاناً هو هو، فالادّعاء لتصحيح إجراء المعنى على المعنى، فحسن

ص: 62


1- وقاية الأذهان: 103.
2- نهاية الاُصول: 28 - 30.

الكلام في باب المجازات إنّما هو بتبادل المعاني والتلاعب بها، لا بعارية الألفاظ وتبادلها، والشاهد على صحّة هذا المذهب هو الطبع السليم والذوق المستقيم.

ثمّ لا وجه لتخصيص ما ذكر بالاستعارة، بل هو جارٍ في المجاز المرسل أيضاً، فلا يطلق العين على الربيئة إلاّ بدعوى كونه نفس العين؛ لكمال مراقبته، لا بعلاقة الجزئية والكلّية، ولا الميّت على المريض المشرف على الهلاك إلاّ بدعوى كونه ميّتاً، والمصحّح للدعوى إشرافه عليه وانقطاع أسباب الصحّة عنه. وفي قوله: )وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ...((1) إلى آخره، يدّعى كون القضيّة بمثابة تجيب عنها القرية والعير، وتقدير «الأهل» فيه يحطّ الكلام من ذروة البلاغة والحسن إلى حضيض البرودة والسوقية.

وكذا الحال في المجاز المركّب، فإذا قيل: «أراك تُقدّم رِجلاً وتُؤخّر اُخرى» للمتحيّر والمتردّد، لم تستعمل الألفاظ المفردة إلاّ في معانيها الحقيقية، لكن ادّعي كون المتردّد والمتحيّر شخصاً متمثّلاً كذلك، وليس للمركّب وضع على حدة - بحيث كانت أجزاؤه بمنزلة حروف الهجاء في المفردات بالضرورة، ولعدم الاحتياج إليه ولغويته - حتّى يقال: إنّ اللفظ الموضوع لمعنىً استعمل في غيره.

وهذا أقوى شاهد على ما قضى به الوجدان من أنّ حال المجازات ما تقدّم. وعليك بالتأمّل والتدبّر والفحص في لطائف محاورات الخطباء والشعراء حتّى

ص: 63


1- يوسف (12): 82.

تؤمن بما ذكر، فحينئذٍ يسقط البحث عن أنّ المجاز هل يحتاج إلى رخصة الواضع أم لا؟ وأنّ العلاقات موضوعة بالوضع الشخصي أو النوعي؟ ممّا يعلم فساده؛ لعدم استعمال اللفظ إلاّ فيما وضع له، فتدبّر جيّداً.

استعمال اللفظ في اللفظ

لا شبهة في وقوع إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ومثله ونوعه وصنفه، كما أنّه لا شبهة في عدم كونه من قبيل استعماله فيما وضع له.

إنّما الإشكال في كيفية إطلاقه فيها، وأنّه في الجميع على منوال واحد أو لا؟

فلا بدّ من البحث عن كلّ واحد حتّى يتّضح الأمر:

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه

أمّا إطلاقه وإرادة شخصه: فالتحقيق صحّته، لكن لا بمعنى كون اللفظ دالاًّ على نفسه ولا مستعملاً في نفسه؛ لامتناع اتّحاد الدالّ والمدلول، ولا يجدي التعدّد الاعتباري المتأخّر عن الاستعمال في صحّته(1).

مضافاً(2)

إلى أنّ كونه صادراً مغفول عنه حين الاستعمال، مع أنّه لا بدّ فيه من لحاظ اللفظ المستعمل ولو آلياً، فيلزم كون المغفول عنه غير مغفول عنه.

ص: 64


1- كفاية الاُصول: 29.
2- بايد تأمّل شود. [منه قدس سره] أشار المصنّف قدس سره في الهامش بقوله: «بايد تأمّل شود» إلى لزوم التأمّل في المطلب ابتداءً من قوله: «مضافاً» وانتهاءً بقوله: «غير المغفول عنه».

وأيضاً يلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في الشيء الواحد؛ ضرورة أنّ اللفظ في الاستعمال ملحوظ آلياً والمعنى المراد استقلالياً، فلا يمكن أن يكون هذا الإطلاق من قبيل استعمال اللفظ وإرادة المعنى، ولا من قبيل إلقاء الموضوع في ذهن السامع؛ ضرورة أنّ الموضوع المتعلّق للحكم فيما إذا اُريد شخص اللفظ هو الذي صدر من المتكلّم، وهو الموجود الخارجي، ولا يمكن إلقاؤه في ذهن السامع.

والتحقيق: أنّ المتكلّم الذي بصدد الإخبار عن شخص اللفظ الصادر منه، يتلفّظ به حتّى يسمع المخاطب ويتصوّره، فإذا حمل عليه ما يكون من خواصّ هذا اللفظ أو أقام قرينة عليه، يرجع ذهن السامع من الصورة المتصوّرة بالذات إلى اللفظ الصادر من المتكلّم، فاللفظ الصادر منه موجد في نفس السامع ما يصير في الآن المتأخّر حاكياً وكاشفاً عن لفظه، لا كحكاية اللفظ عن المعنى الموضوع له أو غير الموضوع له؛ ضرورة أنّ الصورة الذهنية لم تكن لفظاً ولا موضوعاً، فاللفظ في هذا الإطلاق موجد لكاشفه في ذهن [السامع]، ويصير منكشفاً في الآن المتأخّر، فلا يكون هذا الانكشاف من قبيل الدلالة الوضعية، ولا من قبيل إلقاء الموضوع في ذهن السامع.

ولو قيل: ذلك الإيجاد - للكشف عن نفسه - دلالة حتّى يكون اللفظ دالاًّ بواسطة إيجاد كاشفه، ومدلولاً في الآن المتأخّر لانكشافه به؛ فلا مانع منه ولا مشاحّة في الاصطلاح.

كما أنّه لو اُطلق عليه الإلقاء ببعض الاعتبارات فلا مانع منه أيضاً بعد وضوح الحقيقة.

ص: 65

إطلاق اللفظ وإرادة مثله

وأمّا فيما إذا اُريد مثله؛ فإن اُريد منه لفظ آخر في كلامه أو كلام غيره؛ بأن يقال: «زيد - في قولي هذا أو مكتوبي هذا: زيد قائم - مبتدأ»، فلا يعقل فيه إلاّ استعمال لفظه في المماثل؛ فإنّ المفروض أنّ الحكم له لا للّفظ الصادر منه، فيكون اللفظ الصادر آلة للحاظ مماثله ووسيلة لتصوّره بالعرض بواسطة الصورة الذهنية الحاصلة بإيجاد اللفظ، كدلالة اللفظ على معناه من هذه الجهة، وإن كان مفترقاً عنها باستعماله في غير ما وضع له، ولا يعقل فيه الإلقاء؛ لأنّ الموضوع الخارجي المحكوم بالحكم لا يمكن إحضاره في النفس بذاته، وما يحضر هو صورته بآلية اللفظ المستعمل، فالانتقال منه إليه بآليته كالانتقال في سائر الاستعمالات، وما أوجد المتكلّم - أي اللفظ الصادر عنه - لم يكن موضوع الحكم، كما في إطلاقه وإرادة شخصه، فلا يكون هذا الإطلاق إلاّ استعمالاً ودلالة.

نعم، قد يريد إثبات حكم للصورة الحاصلة في ذهن المخاطب، مثل قوله: «زيد - الحاصل في ذهنك الآن بقولي - معلومك بالذات» ففي مثله يكون تحقّق الموضوع في ذهنه بالإيجاد، فالاستعمال إيجادي لا لمعنى اللفظ بل لصورته، وبهذا يفترق عن الاستعمالات الإيجادية التي مرّت في باب الحروف، ولو سمّي هذا إلقاء فلا مانع منه بعد وضوح الأمر.

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه

وأمّا إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه فهو أيضاً من قبيل الاستعمال في المعنى غير الموضوع له، فيكون اللفظ الصادر من المتكلّم - بواسطة القرينة أو

ص: 66

المناسبة بين الحكم والموضوع - حاكياً عن نوعه وصنفه ودالاًّ عليهما؛ إذ ليس معنى الدلالة والحكاية إلاّ كون الشيء بحيث يفهم منه المعنى، فاللفظ آلة للتوسّل إلى إفهام نفس الطبيعة أو صنف منها بتوسّط إيجاد الصورة في الذهن.

فإذا قال: «ضَرَبَ فعل ماضٍ» ينتقل المخاطب من لفظه المتصوّر بتبع صورته إلى طبيعي اللفظ، وليس هذا إلاّ استعمال اللفظ في المعنى، لكن المعنى ليس الموضوع له بل طبيعي اللفظ.

وما قد يقال: إنّه من قبيل الإلقاء لا الاستعمال؛ فإنّ السامع لمّا كان حين سماعه لفظ «ضَرَبَ» يحصل في ذهنه صورة مع الغفلة عن تشخّصاتها الزمانية والمكانية والصدورية وغيرها، فتكون كلّية، فإذا بقيت الصورة على حالها تكون من قبيل إلقاء الكلّي الطبيعى، وإذا قيّدها بدالّ آخر ويحكم على صنفه يكون من إلقاء الصنف، بل يمكن أن يقال: إنّ المتكلّم بعد إلقائه الكلّي في ذهن السامع بواسطة تذكار بعض التشخّصات يتشخّص الكلّي بوجود مثله، فيكون حال إطلاق اللفظ وإرادة المثل حالهما؛ أي يكون من قبيل الإلقاء لا الاستعمال(1).

مدفوع: بأنّ المراد من الكلّي المذكور إن كان الصورة الحاصلة في ذهن السامع بإيجاد المتكلّم - أي المعلوم بالذات - فلا إشكال في أنّه جزئي حقيقي، والغفلة عن التشخّصات لا توجب كلّية ما هو متشخّص واقعاً، وإن كان المراد أنّ المتكلّم بواسطة هذه الصورة والغفلة عن خصوصيتها يفهم بنحو نفس الطبيعة

ص: 67


1- نهاية الاُصول: 32 - 35.

بالعرض، فهو حقّ، لكن لا يكون ذلك من قبيل الإلقاء، بل من قبيل الدلالة كسائر الدلالات، فاللفظ الصادر من المتكلّم يكون آلة لإيجاد الصورة في الذهن، ووسيلة لانتقال المخاطب إلى ما هو المراد؛ أي نفس الطبيعة.

لا يقال: يلزم من استعمال اللفظ في نوعه اتحاد الدالّ والمدلول؛ لأنّ اللفظ المستعمل في نوعه إمّا أن يكون طبيعي اللفظ أو شخصه: فعلى الأوّل لزوم اتّحادهما واضح، وعلى الثاني يلزم ذلك فيما إذا كان الحكم شاملاً لموضوع القضيّة الملفوظة، مضافاً إلى تباين الشخص مع الطبيعي؛ لأ نّه مركّب منه ومن التشخّص، والمركّب من المباين مباين، فعلى فرض الإمكان لا يصحّ الاستعمال؛ للمباينة(1).

فإنّه يقال: اللفظ المستعمل لا يمكن أن يكون طبيعيّه في مقابل الشخص بل هو شخصه، ولا يلزم اتّحاد الدالّ والمدلول؛ لأنّ الدالّ هو الشخص والمدلول هو نفس الطبيعي، لا الأشخاص المنطبق عليها، فلا تكثّر في المدلول بوجه حتّى يلزم ما ذكر. وأمّا قضيّة المباينة وعدم صحّة الاستعمال لأجلها ففيها غرابة؛ ضرورة أنّ المصحّح للاستعمال هو المناسبة ولو بوجه، وهي حاصلة.

ثمّ إنّ هذا الاستعمال - أي استعمال اللفظ في نوعه ومثله - لم يكن استعمالاً حقيقياً، وهو واضح، ولا من قبيل المجاز المتعارف؛ لما عرفت [من] أنّ المجاز استعمال اللفظ فيما وضع له وتطبيق المعنى على المصداق الادّعائي، وفي هذا الاستعمال ليس كذلك، فهو استعمال في غير ما وضع له من غير ادّعاء

ص: 68


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 89.

ولا تأوّل، ولا اختلاف في الإرادة الجدّية والاستعمالية، بل المناسبة بين اللفظ ونوعه وصنفه، ومثله توجب إحضار المستعمل فيه في ذهن السامع، ولا يريد المتكلّم غير ذلك، من غير أن يكون بصدد حسن الكلام وبلاغته.

بل لو بنينا على أنّ المجاز استعمال في غير ما وضع له بمناسبة وعلاقة ولو ذوقية طبعية، لا يكون استعمال اللفظ في نوعه وصنفه ومثله مجازاً؛ لأنّ المناسبة هاهنا هي المشابهة الصورية بينها وبينه، فتكون العلاقة هي المشابهة. مع أنّها غيرمنظورة للمستعمل؛ بداهة أنّ القائل بأنّ «ضَرَبَ فعل ماضٍ» لا يخطر بباله تلك العلاقة.

ص: 69

الأمر السادس : في أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعاني

الحقّ أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المعاني لا بما أنّها مرادة:

سواء اُريد به تقيّدها بها بالذات أو بالعرض - أي سواء اُريد أنّها موضوعة للمرادة بالذات أو بالعرض - تقيّداً اسمياً؛ لأنّ الإرادة لمّا كانت من شؤون النفس لا يمكن أن تتعلّق بالذات بما هو خارج عن حيطتها، فما تتعلّق به بالذات هو الصورة القائمة بالنفس صدورياً(1)

أو حلولياً(2)

على المشربين، وأمّا الخارج فهو المراد بالعرض كما أنّه المعلوم بالعرض، وإن كان الخارج بوجه هو المطلوب والمراد، والصورة فانية فيه وتكون ما بها ينظر.

فحينئذٍ: إن وضعت للمراد بالذات يلزم منه عدم انطباقها على الخارج حتّى مع التجريد، مضافاً إلى ورود ما يرد على الشقّ الثاني - أي الوضع للمراد بالعرض - عليه.

ص: 70


1- الحكمة المتعالية 1: 264؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 124.
2- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 298؛ كشف المراد: 227؛ شرح المواقف 1: 77.

وإن وضعت للمراد بالعرض يلزم منه عدم صحّة الحمل إلاّ مع التجريد، مع صحّته بدونه بالضرورة، مع لزوم كون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً في جميع الأوضاع، إلاّ أن يقال بتقيّدها بمفهوم الإرادة، وهو مقطوع الفساد، ولم يقل به أحد.

أو(1) اُريد وضعها لذات المعنى المراد، لا بما أنّها مرادة وملحوظة فيها الإرادة، بل لذات ما تتعلّق به من غير تقيّد بها، بل للمتضيّق بواسطة تعلّقها به، سواء اُريد أيضاً ذات ما تعلّق بها الإرادة بالذات أو بالعرض: أمّا الأوّل فلورود بعض الإشكالات المتقدّمة كعدم صحّة الحمل عليه. وأمّا الثاني [فهو] وإن سلم عن الإشكالات المزبورة - حتّى لزوم خصوص الموضوع له؛ لأنّ التخصّص بالعرض لا يوجب جزئية ما هو كلّي - لكنّه خلاف التبادر والوجدان، ورفع اليد عنه يحتاج إلى دليل، وهو مفقود.

لا يقال: وضع اللفظ للمعنى بما أنّه فعل اختياري لا بدّ له من غاية، وهي إظهار مرادات المتكلّمين، فلا محيص إلاّ أن يكون موضوعاً للمعنى المراد؛ لأنّ الغاية علّة فاعلية الفاعل، ولمّا كانت الغاية إظهار المرادات تحرّك الواضع إلى وضعه للمعنى المراد لا مطلقاً؛ لأنّ المعلول يتضيّق بتضيّق علّته من غير تقيّد، ولا يمكن أوسعية المعلول من علّته. هذا، مضافاً إلى لزوم اللغوية إذا وضع لذات المعنى بعد كون الداعي إفادة المراد(2).

فإنّه يقال: العلّة الغائية للوضع إفادة المرادات، لكن لا بما أنّها مرادات، بل

ص: 71


1- عطف على «سواء» المتقدّم. [منه قدس سره]
2- اُنظر الفصول الغروية: 17 / السطر 34.

بما هي نفس الحقائق؛ لأنّ المتكلّم بالألفاظ يريد إفادة نفس المعاني لا بما أنّها مرادة، والواضع وضع اللفظ لذلك، وأمّا كون المعاني مرادة فهو مغفول عنه عند السامع والمتكلّم.

فدعوى كون الغاية إفهام المرادات بما هي كذلك فاسدة، بل الغاية إفهام نفس المعاني، وكونها مرادة إنّما هو حين الاستعمال أو من مقدّماته، ولا ربط له بالوضع.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في الكلام المنسوب إلى العَلَمين(1)؛

لأنّ لازم كون الدلالة الوضعية تابعة للإرادة أن تكون الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة، ولمّا كان الوضع للمتقيّد بها ظاهر البطلان لا بدّ من صرف كلامهما إلى ما ذكر أخيراً من كون الوضع لذات المراد من غير تقييد.

وأمّا توجيه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من الصرف إلى الدلالة التصديقية؛ أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها تبعية مقام الإثبات للثبوت(2)،

فلا يناسب ما نقل(3)

عن المحقّق الطوسي قدّس سرّه ؛ فإنّه صريح في الدلالة اللفظية الوضعية، وأنّ الجريان على قانون الوضع يقتضي أن تكون دلالة اللفظ على معناه تابعة لإرادة المتكلّم، فراجع. هذا مضافاً إلى أنّ حمل كلامهما على ما ذكر حمل على معنىً مبتذل لا يناسب مقامهما.

ص: 72


1- اُنظر الفصول الغروية: 17 / السطر الأخير؛ الشفاء، المنطق، الفنّ الأوّل 1:25 و42 - 43؛ الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 1: 32.
2- كفاية الاُصول: 32.
3- الجوهر النضيد: 8؛ قوانين الاُصول 1: 248 / السطر 7.

الأمر السابع : في الهيئات

اشارة

لا إشكال في أنّ اللغات الراقية المتداولة كافلة لكافّة احتياج البشر في الإفادة والاستفادة، وممّا يحتاج إليه احتياجاً مبرماً إفهام المعاني التصديقية وما

هو من شؤونها، بل أغراض المتكلّمين تحوم نوعاً حول إفادتها، فلا يمكن إهمال ذلك في اللغات، ولم تكن تلك الدلالة إلاّ بالجعل والمواضعة، وإنّما الكلام في الدالّ عليها:

فالمشهور أنّ هيئات الكلام متكفّلة بذلك(1)، فهيئة(2) الجملة الحملية تدلّ على الهوهوية التصديقية، وهيئة الجملة الحملية بالتأويل - على ما سبق منّا(3) - تدلّ على تحقّق الروابط وعلى الأكوان الرابطة، فللهيئات شأن عظيم في الإفادة.

ص: 73


1- الفصول الغروية: 28 / السطر 5؛ كفاية الاُصول: 32؛ أجود التقريرات 1: 47.
2- هذا التفسير منّي، لا من المشهور؛ لأنّ هذا التفصيل غير مذكور في كلامهم، بل خلافه مشهور. منه عفي عنه.
3- تقدّم في الصفحة 47 - 48.

وأظنّ أنّ القول المقابل للمشهور هو وضع مجموع الجملة لإفادة المعاني التصديقية بأقسامها وخصوصياتها، فجملة «زيد قائم» موضوعة لإفادة الهوهوية التصديقية، كما أنّ مفرداتها وضعت للمعاني التصوّرية.

فالاختلاف بين المشهور وغيره في أنّ الدالّ على المعاني التصديقية هل هي الهيئات أو مجموع الجملة، كما يشهد به كلام ابن مالك الآتي؟

ولا أظنّ أن يكون مراد القائل بالوضع للمجموع هو ما نسب إليه المتأخّرون من وضع جديد له من غير إفادة شيء(1)،

ممّا هو واضح الفساد.

نعم، هنا احتمال آخر: هو كون المجموع موضوعاً لإفادة ما تفيد الهيئة على سبيل الترادف، ولا يرد على ما ذكرنا شيء ممّا ذكروا إلاّ ما نقل عن ابن مالك في «شرح المفصّل» من أنّ المركّبات لو كان لها وضع لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم نسبق إليه؛ إذ المركّب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد، فكيف وضعه الواضع؟!(2)

انتهى.

وهذا إشكال متين؛ لأنّ الالتزام بالوضع لمجموع الجملة - هيئة ومادّة - مستلزم للالتزام بوضع كلّ جملة جملة على حدة بالوضع الشخصي؛ لعدم تصوّر الوضع النوعي إلاّ لهيئات الجمل، لا لمجموع المادّة والهيئة، ف «زيد قائم» و«عمرو قاعد» مشتركان في الهيئة لا المادّة، فلا يمكن الوضع النوعي للمجموع، فلا محيص عن الالتزام بأنّ الجمل التي أحدثها المتكلّم - ممّا تكون

ص: 74


1- الفصول الغروية: 28 / السطر 4؛ كفاية الاُصول: 32؛ أجود التقريرات 1: 47.
2- اُنظر نهاية الدراية 1:76.

موادّها مختلفة عن السابقة - غير موضوعة، وهو واضح البطلان.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الحقّ ما عليه المشهور من أنّ الدالّ على المعاني التصديقية هي الهيئات، ولا وضع لمجموع الجملة.

ولا ينقضي تعجّبي من بعض المدقّقين من المحشّين على «الكفاية»؛ كيف ادّعى أنّ كلام ابن مالك ظاهر في أنّ محلّ النزاع هذا الأمر البديهي البطلان، قائلاً: «إنّه لا يخفى على مثل ابن مالك أنّ الوضع نوعي لا شخصي»(1).

ولا أدري أنّه ما فهم من كلامه! وما موضع دلالته على أنّ النزاع فيه؟

تنبيه: في الموضوع له في الهيئات

الحقّ أنّ هيئات الجمل الخبرية وضعت للهوهوية الواقعية إن كانت حملية، مثل: «زيد إنسان» أو«قائم»، وللأكوان الرابطة النفس الأمرية إن كانت حملية مؤوّلة، مثل: «زيد في الدار» أو «له القيام»، لا للنسب الذهنية من حيث كشفها عن الواقع كما اختاره صاحب «الفصول»(2)؛

ضرورة أنّه لا فرق بينها وبين الألفاظ الموضوعة للمعاني النفس الأمرية.

ودعوى وضع جميع الألفاظ حتّى الأعلام الشخصية للصور الذهنية الحاكية كما ترى؛ فإنّ تبادر نفس المعاني من الألفاظ من غير خطور الصور الذهنية الحاصلة للمتكلّم أقوى شاهد على المدّعى.

هذا، مضافاً إلى أنّ الغرض من الوضع هو إفهام نفس الحقائق، فلا معنى

ص: 75


1- نهاية الدراية 1: 76.
2- الفصول الغروية: 28 / السطر 6.

لجعل الألفاظ إلاّ لها. نعم في إفهامها يحتاج إلى التصوّر، وهذا غير كون الموضوع له هو المتصوّر.

ودعوى تبادر الصور الذهنية الحاكية في الجمل الخبرية(1)،

ممنوعة جدّاً.

وعمدة ما دعاه إلى الالتزام بذلك هو الإشكال المتراءى وروده على وضعها للنسبة النفس الأمرية من لزوم أن لا يكون لها معنىً في الأخبار الكاذبة؛ لانتفاء النسبة الواقعية فيها(2).

وفيه: أنّ ذلك وارد - أيضاً - على فرض وضعها بإزاء النسبة الذهنية الكاشفة عن الواقع؛ ضرورة أنّ الكواذب لا تحقّق لنسبها حتّى تكشف الصور الذهنية عنها، ولو قيل من حيث صلاحيتها للكشف، فلا بدّ من الالتزام بوضعها للنسبة الذهنية من حيث هي؛ فإنّها صالحة له، وهو مقطوع الفساد، ولا يلتزم به القائل.

والتحقيق: أنّها وضعت للواقعيات، والإشكال مدفوع بأنّ الاستعمال ليس إلاّ طلب عمل اللفظ في المعنى؛ بمعنى جعل اللفظ وسيلة لانتقال ذهن السامع إلى المعنى انتقالاً بالعرض لا بالذات، وفي هذا الانتقال بالعرض لا يلزم أن يكون المعنى محقّقاً في الخارج، كما أنّ الأمر كذلك في الإخبار عن المعدوم المطلق بأ نّه لا يخبر عنه، وعن شريك الباري بأ نّه ممتنع، فالمشرك المعتقد للشريك إذا أخبر عن معتقده يخبر عن الواقع لا الشريك الذهني، ولهذا يكون مخطئاً، والمخبر بأنّ زيداً قائم يخبر عن الواقع ويريد أن يلقي في ذهن

ص: 76


1- الفصول الغروية: 29 / السطر 21.
2- الفصول الغروية: 29 / السطر 23.

المخاطب قيامه واقعاً، وهو لا يحصل إلاّ بالاستعمال.

وبالجملة: أنّ استعمال اللفظ في المعنى لا يتوقّف على تحقّق المعنى، بل يتوقّف على تصوّره بالعرض، وهو لا يتوقّف على وجوده.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ هيئات القضايا موضوعة لنفس الهوهويات أو الأكوان الرابطة النفس الأمرية، وتكون آلة لإحضار معانيها في ذهن السامع بالعرض، وقضيّة مطابقة الإخبار للواقع وعدمها أمر خارج عن حريم الوضع والدلالة، كما أنّ إرادة المتكلّم وانفهام المعنى وفهم السامع كلّها خارجة عنه.

هذا كلّه إذا قلنا بأنّ الموضوع له في الهيئات خاصّ كما هو التحقيق، وأمّا مع اختيار عمومه فالأمر أوضح؛ لأ نّها دائماً مستعملة في المعنى الكلّي، والتطبيق على الجزئيات إنّما هو بدالّ آخر.

تتميم: في تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركّب

قالوا: إنّ اللفظ إمّا مفرد أو مركّب، والثاني ما دلّ جزء لفظه على جزء معناه، أو ما قصد بجزء لفظه الدلالة كذلك، والأوّل بخلافه(1).

أقول: إن كان اللفظ بمعنى الرمي، وإطلاقه على ما خرج من الفم معتمداً على أحد المخارج باعتبار رميه منه، لم يكن تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركّب صحيحاً؛ لأنّ اللفظ مفرداً كان أو مركّباً لم يكن شيئاً خارجاً من الفم، فإنّ زيداً - مثلاً - مركّب من حروف، وكلّ حرف لفظ وملفوظ، والتركيب

ص: 77


1- الجوهر النضيد: 11؛ شرح الشمسية: 24 - 25؛ الحاشية على تهذيب المنطق: 24؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 109.

منها اعتباري، فلم يكن المجموع لفظاً ولا موجوداً إلاّ في الاعتبار، فما وضع للمعاني ليس لفظاً.

نعم ما لا جزء له كهمزة الاستفهام وكاف التشبيه لفظ موضوع.

وإن كان اللفظ موضوعاً للكلمة أو منقولاً إليها فتقسيمه إليهما أيضاً ليس بصحيح؛ لأنّ المركّب ك «عبدالله» ليس بلفظ، بل لفظان موضوعان لمعنيين، والمجموع ليس لفظاً، والأمر سهل.

ص: 78

الأمر الثامن : في العلائم التي يمتاز بها المعنى الحقيقي من غيره

اشارة

وليس الكلام مقصوراً على تشخيص المعنى الحقيقي من المجازي في موارد الاستعمال إذا علم مراد المتكلّم وشكّ فيهما حتّى يقال: إنّ اللفظ في المجاز - بناءً على ما سلف(1) - مستعمل في معناه الحقيقي، فالسامع إذا استقرّ ذهنه على المعنى المراد ولم يتجاوز منه إلى غيره، حكم بأ نّه حقيقة، وإن تجاوز إلى غيره حكم بأنّ ذلك الغير مجاز كما قيل(2)،

بل من تلك العلامات أو غالبها عرفنا المعنى الحقيقي ولو لم يكن استعمال أو لم نكن بصدد تشخيص استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي أو المجازي.

فلو شككنا في كون لفظ «الماء» موضوعاً لهذا الجسم السيّال المعهود، يكون التبادر طريقاً لإثباته استعمل أو لا، بل ربّما يكون الاستعمال مردّداً بين الحقيقة

والغلط لا المجاز.

ص: 79


1- تقدّم في الصفحة 62.
2- نهاية الاُصول: 39.

ثمّ إنّ هذه العلائم ليست علائم للوضع؛ لما قدّمنا(1)

من أنّ الرابطة الحاصلة بين اللفظ والمعنى بكثرة الاستعمال حتّى صار حقيقة فيه ليست وضعاً، فتلك العلائم للربط الخاصّ بينهما أعمّ من كونه حاصلاً بالوضع أو بكثرة الاستعمال.

التبادر

ليس المراد منه ما [يفهم] من لفظه؛ أي سبق المعنى بالنسبة إلى معنىً آخر في الذهن أو سرعة حصوله فيه(2)،

بل المراد منه هو حصول المعنى من اللفظ في الذهن وظهور اللفظ بنفسه فيه من غير قرينة، وهو من علائم الربط المعهود.

وقد استشكل عليه بوجوه، عمدتها الدور المعروف(3).

وقد أجاب عنه بعض المحقّقين: بأ نّه لاوجه للإشكال بالدور؛ فإنّ العلم

المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقّف عليه التبادر حتّى لو قلنا بتوقّفه على العلم التفصيلي؛ لاختلاف الموقوف والموقوف عليه بالشخص، وهو يكفي في رفع الدور، ولا شبهة في مغايرة العلم الشخصي الحاصل بالتبادر مع العلم الشخصي الذي يتوقّف عليه التبادر(4)،

انتهى.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ العلم بالشيء هو الكشف عنه، ولا يعقل الكشف

ص: 80


1- تقدّم في الصفحة 18.
2- كفاية الاُصول: 33.
3- اُنظر هداية المسترشدين 1: 227؛ الفصول الغروية: 33 / السطر 22 - 24؛ كفاية الاُصول: 33.
4- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 97.

التفصيلي في حال واحد عن شيء واحد مرّتين، فمع العلم التفصيلي بأنّ اللفظ الكذائي معناه كذا لا يعقل أن يكون التبادر موجباً لحصول مصداق آخر منه في هذا الحال كما هو المفروض، ومع الذهول عن التفصيل يرجع إلى الارتكاز، والظاهر وقوع الخلط بين الصور الحاصلة في الذهن - أي المعلوم بالذات - وبين الكشف عن الواقع - أي المعلوم بالعرض - فما يتكرّر هو الأوّل، وما يتوقّف عليه هو الثاني.

والحقّ في الجواب عن الدور ما هو المعروف: من أنّ العلم التصديقي التفصيلي بأنّ هذا اللفظ وضع لهذا المعنى يتوقّف على التبادر، وهو لا يتوقّف على هذا العلم التصديقي المحتاج إلى تصوّر الموضوع والمحمول(1).

في طرق إحراز كون التبادر من حاقّ اللفظ

ثمّ إنّه إذا علم أنّ التبادر كان من نفس اللفظ من غير قرينة فهو، وإلاّ فهل لإثباته طريق يمكن أن يتّكل عليه؟

ربّما يقال: إنّ الاطّراد طريق تشخيص نحو الانسباق وإحرازه، فإن كان انسباق المعنى مطّرداً أحرزنا كونه مستنداً إلى الوضع(2).

وفيه: أنّه إن اُريد منه أنّ الاطّراد يوجب العلم بذلك، فمع ممنوعيته خروج عن محطّ البحث، وإن اُريد أنّه مع عدم العلم منه يكون طريقاً شرعياً أو عقلائياً عليه فهو - أيضاً - ممنوع: أمّا الشرعي فواضح، وأمّا العقلائي فهو

ص: 81


1- هداية المسترشدين 1: 227؛ الفصول الغروية: 33 / السطر 28؛ كفاية الاُصول: 33.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 97.

كذلك؛ لعدم بناء العقلاء على إثبات الوضع به.

فالتبادر مع اطّراده في صورة الشكّ في كونه لقرينة مشهورة عامّة بين المتخاطبين لا يثبت به الربط المعهود.

كما أنّ أصالة عدم القرينة الراجعة إلى عدم اعتناء العقلاء باحتمالها حجّة عقلائية على المراد بعد العلم بالمعنى الحقيقي، لا على إحرازه مع الشكّ فيه(1).

صحّة الحمل

والتحقيق: أنّ صحّة الحمل لا تكون علامة، لا الأوّلي منه ولا الشائع؛ لأنّ الاستشهاد إمّا أن يكون بصحّته عنده أو عند غيره:

فعلى الأوّل: يتوقّف التصديق بصحّة الحمل على التصديق بكون اللفظ بما له من المعنى الارتكازي متّحداً مع المعنى المشكوك فيه، ومع هذا لا يبقى شكّ حتّى يرفع بصحّة الحمل.

وبعبارة اُخرى: أنّ التصديق بصحّة الحمل الأوّلي يتوقّف على العلم باتّحاد المعنى مع اللفظ بما له من المعنى الارتكازي مفهوماً، وهذا عين التصديق بوضع اللفظ للمعنى، فلا مجال لتأثير صحّة الحمل في رفع الشكّ.

وعلى الثاني: فلا يمكن الكشف عن كونه حملاً أوّلياً إلاّ مع تصريح الغير به، فيرجع إلى تنصيص أهل اللسان، لا صحّة الحمل أو العلم بوحدة المفهومين، فعاد المحذور السابق.

وأمّا الحمل الشائع فلمّا كان على قسمين: بالذات وبالعرض، فمع الترديد

ص: 82


1- راجع قوانين الاُصول 1: 14 / السطر 18؛ كفاية الاُصول: 33 - 34.

بينهما لا يمكن الكشف، ومع التميّز عاد المحذور المتقدّم؛ فإنّ العالم بأنّ الحمل بالذات عالم بالوضع للطبيعة المحمولة قبل الحمل.

صحّة السلب

وممّا ذكرنا يعرف حال صحّة السلب؛ فإنّ العلم بصحّته يتوقّف على العلم باختلافهما؛ ومعه لا شكّ حتّى يرفع، والأمر كذلك في عدم صحّة السلب.

وما قيل: من أنّ صحّة الحمل والسلب الارتكازيين موجبة للعلم التفصيلي كما في التبادر(1)، ليس بشيء؛ لأنّ الملتفت إلى المقصد - المستشهد بصحّة الحمل أو السلب للوضع - لا يمكن أن يكون غافلاً عن مقصده، ومع توجّهه إليه يفصّل الأمر لديه قبل تصديق صحّة الحمل والسلب.

وقد يفصّل بين الحمل المتداول بين اللغويين، كحمل أحد اللفظين المترادفين بما له من المعنى على الآخر، وبين الحمل المستعمل في الحدود، كحمل الإنسان على الحيوان الناطق، فيقال: إنّ الاستكشاف لا يمكن في الثاني؛ لامتناع أن يكون المفهوم المركّب المفصّل هو مفهوم لفظ مفرد(2).

وفيه: أنّ المفهوم المفصّل حاكٍ عن الماهية البسيطة، والشكّ في وضع اللفظ لها لا له، والتفصيل في الحدّ لا المحدود، والشكّ في المحدود لا الحدّ، فلا إشكال من هذه الجهة.

وقد يقال: إنّ العلامة في المقام إنّما هي صحّة السلب وعدمها، لا بمعنى

ص: 83


1- الفصول الغروية: 37 / السطر 33؛ كفاية الاُصول: 34.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 99.

صحّة سلب اللفظ بما له من المعنى، بل المراد صحّة سلب المعنى عن اللفظ بما هو لفظ وعدمها؛ فإنّ اللفظ لمّا كان فانياً في المعنى وصار وجوداً لفظياً له تنفر الطباع عن سلبه عنه، بل تراه كسلب الشيء عن نفسه، ولا تنفر عن سلبه عن غير معناه(1).

وأنت خبير بما فيه من الخلط؛ فإنّ اللفظ بما أنّه لفظ يصحّ سلبه عن معناه،

وما لا يصحّ سلبه عنه وينفر الطبع منه هو اللفظ بما هو مرآة المعنى؛ أي بما له من المعنى، فعاد المحذور السابق.

الاطّراد وعدمه

وفي تقريرهما وجوه:

منها: أنّه إذا اطّرد إطلاق لفظ على أفراد كلّي يكشف ذلك عن علاقة الوضع بينه وبين الكلّي؛ لعدم الاطّراد في علائق المجاز، كما أنّ عدمه يكشف عن عدمها؛ إذ معها يطّرد، وإلاّ يلزم تخلّف المعلول عن علّته(2).

والتحقيق: أنّ الإشكال المتقدّم في صحّة السلب والحمل وارد عليه؛ لأنّ المراد باطّراد الإطلاق: إن كان الاستعمال في الأفراد بخصوصياتها، فهو مع العلاقة مجاز، ومع عدمها غير صحيح.

وإن كان المراد منه صحّة تطبيق المعنى المستفاد من اللفظ ارتكازاً على الأفراد فيرجع إلى صحّة الحمل وما بحكمه، فلا بدّ من تقدّم العلم بأنّ اللفظ

ص: 84


1- نهاية الاُصول: 41.
2- نهاية الدراية 1: 84.

بما له من المعنى قابل للانطباق على الأفراد، وهو لا يحصل إلاّ بالتبادر، وكذا في عدم الاطّراد.

ومنها: أنّه لا بدّ في المجاز من مصحّح الادّعاء، ومن حسنه بعد استعمال اللفظ فيما وضع له، كما تقدّم في المجاز(1)، وحسن الادّعاء ومصحّحه لا يطّردان حتّى في صنف العلائق، وأمّا الحقيقة فتطّرد؛ لتوقّفها على مجرّد الوضع، فالأوّل علامة المجاز، والثاني علامة الحقيقة(2).

وفيه: أنّ العلم بحسن الادّعاء ومصحّحه، والعلم بصحّة الاستعمال مطّرداً، متوقّفان على فهم المعنى الموضوع له وغيره.

وبالجملة: لا نرى غير التبادر علامة للوضع، وغيرها يرجع إليه أو مسبوق به، كما يظهر بالتأمّل.

ص: 85


1- تقدّم في الصفحة 62.
2- نهاية الاُصول: 42 - 43.

الأمر التاسع : في تعارض الأحوال

اشارة

قد ذكر في باب تعارض الأحوال(1) مرجّحات ظنّية لا دليل على اعتبارها، والمتّبع لدى العقلاء هو الظهور، فإن حصل للّفظ فهو، وإلاّ فلا يتّبع.

نعم، يقع الكلام في أنّ ما لدى العقلاء هو أصالة الظهور، أو أصالة عدم القرينة، أو أصالة الحقيقة. والفرق بينها: أنّه لو بنينا على الاُولى لاتّبعنا الظهور ولو كان في الكلام ما يحتمل القرينية، لكن لا يكون بحيث يصادم ظهور ذي القرينة بخلاف ما لو صادم، ولو بنينا على أصالة الحقيقة تعبّداً لحمل على الحقيقة معه أيضاً، ولو بنينا على أصالة عدم القرينة لم يكن حجّة؛ لعدم جريانها لدفع احتمال قرينية الموجود، والتفصيل في محلّه(2).

ص: 86


1- هداية المسترشدين 1:290؛ الفصول الغروية: 40 / السطر 7؛ قوانين الاُصول 1: 32 / السطر 9؛ تقريرات السيّد المجدّد الشيرازي 1: 175.
2- راجع أنوار الهداية 1: 193.

الأصل في صورة دوران الأمر بين النقل وغيره

ثمّ إنّه قد ذكر في دوران الأمر بين النقل وغيره أنّ المعوّل [عليه] أصالة عدمه، وهي أصل عقلائي حجّة مع مثبتاته.

والتحقيق: أنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو عدم الاعتناء بالشكّ في أصل النقل.

وهل المعوّل عليه عندهم هو الاستصحاب العقلائي، أو عدم رفع اليد عن الظهور الثابت بمجرّد الاحتمال؟

وجهان: أوجههما الثاني؛ لعدم التفات العقلاء إلى جرّ العدم، مع أنّ الاستصحاب العقلائي مطلقاً ممّا لا أصل له.

نعم، قد يكون الشيء بحيث تطمئنّ النفس ببقائه، ويكون الاحتمال المخالف لضعفه غير معتدّ به، وهو غير الاستصحاب، ولو اُريد به ذلك فلا مشاحّة فيه.

الأصل في صورة الشكّ في تقدّم النقل على الاستعمال وتأخّره عنه

هذا، وأمّا مع العلم بالنقل والشكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره عنه، فالظاهر عدم بناء العقلاء على التعويل على أصالة عدم النقل ولو مع العلم بتأريخ الاستعمال، ولا أقلّ من عدم إحرازه.

وما أفاد شيخنا العلاّمة: من أنّ الوضع السابق عندهم حجّة، فلا يرفعون اليد عنها إلاّ بعد العلم بالوضع الثاني(1).

ففيه: أنّ الوضع بما هو ليس بحجّة بل الظهور حجّة، ومع العلم بالوضع

ص: 87


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 47.

الثاني والشكّ في التقدّم والتأخّر لا ينعقد للكلام ظهور، والأصل المذكور لا يوجب انعقاده. مضافاً إلى أنّ لازم ما ذكر عدم رفع اليد عن الوضع الأوّل إلاّ مع العلم بتأخّر الاستعمال عن الوضع الثاني، لا مع العلم بالوضع، وإلاّ فهو حاصل، فحينئذٍ لا معنى للفرق بين أقسام مجهول التأريخ؛ لعدم العلم بنقض الوضع الثاني للوضع الأوّل حال الاستعمال.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أجلّة العصر رحمه الله علیه حيث تشبّث بأصالة عدم النقل في ظرف الاستعمال مع العلم بتأريخه لإحراز استعمال اللفظ في المعنى الأوّل؛ لحجّية مثبتاتها، وحكم بلزوم التوقّف فيما علم تأريخ النقل وجهل تأريخ الاستعمال؛ فإنّه ليس للعقلاء بناء عملي على عدم الاستعمال. وكذا في مجهولي التأريخ؛ لعدم جريان الأصلين؛ لأنّ المانع في جميع صور مجهولي التأريخ هو عدم إمكان إحراز موضوع الأثر بالأصل؛ لأنّ أصل العدم مطلقاً مفاده جرّ العدم في أجزاء الزمان، لا إثباته بالإضافة إلى أمر آخر، وعليه لا يمكن إثبات عدم الوضع في حال الاستعمال بالأصل وإن كان عقلائياً؛ لأنّ نفس القيد - أي الاستعمال - مشكوك فيه، فلا يمكن إحراز موضوع الأثر بالأصل وإن أمكن إحراز التقيّد والمقارنة به، وإنّما بنينا على صحّة الأصل مع كون الاستعمال معلوم التأريخ؛ إذ بالأصل والوجدان يتحقّق موضوع الأثر.

نعم، لو كان مفاد الأصل جرّ العدم بالإضافة إلى أمر آخر لأمكن إحراز الموضوع في المقام، لكنّه خلاف التحقيق(1)،

انتهى ملخّصاً.

ص: 88


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 103 - 104.

وفيه وجوه من النظر:

منها: أنّ أصل عدم النقل إن كان الاستصحاب العقلائي - كما يظهر منه - فأركانه موجودة في جميع الصور، فمع الشكّ في تأخّر الاستعمال مع العلم بتأريخ الوضع يستصحب عدم الاستعمال إلى حال الوضع، وبما أنّه أصل عقلائي أمارة على الواقع يثبت به تأخّر الاستعمال عن الوضع، ويحرز كون الاستعمال في المنقول إليه مع العلم بهجر الوضع الأوّل في حال الوضع الثاني؛ للّزوم العقلي بعد الدوران بينهما، وكذا الحال في مجهولي التأريخ.

ودعوى عدم بناء عملي على عدم الاستعمال، كدعوى عدم إمكان إحراز موضوع الأثر، كما ترى بعد تمامية أركان الاستصحاب وكونه أمارة أو مثلها في إثبات اللوازم.

وما قد يتوهّم - من أنّ النقل لندرته يجري فيه الأصل دون الاستعمال - واضح البطلان؛ لأنّ النادر أصل النقل لو سلّم، والكلام في تقدّمه وتأخّره بعد العلم بتحقّقه.

ومنها: أنّ إجراء أصالة العدم في عمود الزمان؛ إن لم يثبت نفس الاستعمال لا يثبت استعمال اللفظ في المعنى الأوّل أيضاً؛ فإنّه أمر حادث بمنزلة نفس القيد، وما يكون محرزاً بالوجدان أصل الاستعمال، لا الاستعمال في المعنى الأوّل، فإن يثبت به ذاك يثبت ذلك أيضاً، كما هو الحقّ على فرض جريانها؛ لأ نّه من اللوازم العقلية.

هذا، مع أنّ أصل الاستعمال وجداني في كلتا الصورتين، والمستعمل فيه

ص: 89

مشكوك فيه في كلتيهما، فاستصحاب عدم الوضع إلى زمان الاستعمال جارٍ في كلتيهما.

ولو قيل: إنّ استصحاب العدم هو جرّ العدم فقط لا إلى كذا، فهو مع بطلانه لازمه عدم الإنتاج في الصورة الاُولى أيضاً؛ لأنّ جرّ العدم مطلقاً إذا لم يكن إلى زمان الاستعمال الوجداني لا ينتج شيئاً، وإذا جرّ إلى الزمان المعلوم يمكن جرّه إلى الزمان المعيّن واقعاً المجهول عندنا.

ومنها: أنّ ما ذكره - من إحراز الأصل والوجدان موضوعَ الأثر في الصورة الاُولى - غريب؛ لأنّ عدم النقل ونفس الاستعمال ليسا في شريعة موضوعاً لأثر، وما هو الموضوع هو ما يثبت بالاستعمال؛ أي المعنى المراد، ولو سلّم ذلك فلا تفترق الصورتان - أيضاً - لما أشرنا إليه، فتدبّر.

ص: 90

الأمر العاشر : في الحقيقة الشرعية

اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية(1)، والحقّ أنّ المراجع للكتاب والسنّة، يطمئنّ بأنّ هذه الألفاظ من لدن أوّل البعثة استعملت في تلك المعاني من غير احتفافها بالقرينة، ودعوى القرائن الحالية(2) كما ترى، هذا هو القرآن

المجيد، ترى قوله في سورة المزّمّل المكّية النازلة - على المحكيّ(3) - في أوائل البعثة: )وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً((4)، وقوله في المدّثّر المكّية كذلك: )قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ((5)، وقوله في القيامة المكّية: )فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى((6)، وفي الأعلى المكّية: )وَذَكَرَ اسْمَ

ص: 91


1- راجع هداية المسترشدين 1: 412 - 413.
2- معالم الدين: 38.
3- مجمع البيان 10: 568.
4- المزّمّل (73): 20.
5- المدّثِّر (74): 43.
6- القيامة (75): 31.

رَبِّهِ فَصَلَّى((1)، وفي العلق المكّية: )أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى((2)...

إلى غير ذلك من المكّيات، فضلاً عن المدنيات.

فلا إشكال في أنّ نوع ألفاظ العبادات كانت مستعملة في عصر النبي صلی الله علیه و آله وسلم في المعاني المعهودة، وكان المخاطبون يفهمونها منها من غير قرينة، وأمّا في لسان التابعين ومن بعدهم فالأمر أوضح من أن يذكر.

وأمّا الوضع التعييني بمعنى التصريح بالوضع، فهو أيضاً واضح البطلان، فمن يرى طريقة المسلمين وحرصهم على حفظ سيرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وجزئيات حياته - حتّى كيفية نومه ومشيه وقيامه وقعوده وأكله وشربه وشمائله ممّا لا ربط له بالتشريع - ليقطع بأ نّه لو صرّح بوضع لفظة واحدة لنقل، فضلاً عن وضع جميع الألفاظ أو نوعها.

وأمّا الوضع بالاستعمال فليس بذلك البعد بعد إمكانه بل وقوعه.

وما يقال: من أنّ الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، ومعه لا يمكن الوضع به؛ للزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي(3).

ففيه: أنّ كونه كذلك مطلقاً ممنوع، فإمكان لحاظ اللفظ في حال الاستعمال وجداني واضح. نعم، كثيراً ما يكون اللافظ غير ملتفت إلى ألفاظه. وأمّا مع تسليم كون الاستعمال كذلك فالظاهر امتناع الوضع به.

إلاّ أن يقال: إنّه كناية عن الوضع وجعل الملزوم بجعل لازمه من غير توجّه

ص: 92


1- الأعلى (87): 15.
2- العلق (96): 9 - 10.
3- أجود التقريرات 1: 49.

إلى الجعل حين الاستعمال وإن التفت إليه سابقاً أو بنظرٍ ثانوي، وهذا المقدار كافٍ في الوضع. وهو أيضاً مشكل مخالف للاستعمال الكنائي.

أو يقال: إنّ المستعمل شخص اللفظ والموضوع طبيعيّه، فلا يجتمع اللحاظان في شيءٍ واحد، فجعل الاستعمال كناية عن وضع طبيعي اللفظ للمعنى، وهو كافٍ في الوضع وإن [كان] لا يكفي في العقود والإيقاعات نوعاً أو جميعاً، والأمر سهل.

لكن إثبات أصل الوضع ولو بهذا النحو، موقوف على إثبات كون العبادات أو هي مع المعاملات من مخترعات شرعنا، ولم تكن عند العرب - المتشرّعة في تلك الأزمنة - ألفاظها مستعملةً في تلك الماهيات ولو مع اختلاف في الخصوصيات، وأنّى لنا بإثباته؟!

ولو عُلم إجمالاً باختراع بعض العبادات في هذه الشريعة، لم يثمر فيما نحن بصدده، وأمّا المعاملات فالعلم بالاختراع [فيها] ولو إجمالاً غير حاصل حتّى في مثل الخلع والمباراة. نعم، لا يبعد كون المتعة مخترعة، لكنّها أيضاً نحو من النكاح، وليست ماهية برأسها.

وبالجملة: ليست لهذا البحث ثمرة واضحة، وما ذكر من الثمرة(1) فرضية،

وإلاّ فالاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا إنّما هي في هذه المعاني التي عندنا الآن، كما يقطع به المراجع. وأمّا الاستدلالات التي تشبّث بها القوم في إثبات المرام فمخدوشة لا تفيد شيئاً.

ص: 93


1- معالم الدين: 35؛ كفاية الاُصول: 37؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 46.

الأمر الحادي عشر : في المبحث المعروف بالصحيح والأعمّ

اشارة

ونذكر قبل المقصد مقدّمات:

المقدّمة الاُولى : في اختلاف كلماتهم في عقد البحث

اختلفت تعبيراتهم في طرح هذا البحث: فقد يعبّر عنه بأنّ ألفاظ العبادات هل هي موضوعة للصحيحة أو الأعمّ منها(1)؟

فيخرج الاختصاص الحاصل بالتعيّن؛ لما عرفت(2)

من أنّه ليس بوضعٍ، فضلاً عن الاستعمالات المجازية ومذهب الباقلاني(3)،

فلا بدّ من إدخالها بالمناط.

وقد يعبّر عنه بأ نّها أسامٍ لها أو له(4)، فيدخل الاختصاص التعيّني فيه

دون البقيّة.

ص: 94


1- بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 128 / السطر 3؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 47.
2- تقدّم في الصفحة 18.
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 51 - 52.
4- قوانين الاُصول 1: 40؛ الفصول الغروية: 46 / السطر 14؛ كفاية الاُصول: 38.

ويمكن أن يعبّر عنه بأنّ الأصل في استعمال الشارع ماذا؟ فيدخل فيه الجميع حتّى المجاز بناءً على ما قوّينا(1)

من كونه استعمالاً فيما وضع له، والدعوى في تطبيق المعنى على المصداق، فيقال: هل الأصل هو ادّعاء هذه أو هذا؟ فما يقال من لغوية البحث بناءً عليه، ليس بشيء(2).

بل يمكن جريان البحث المثمر على مذهب الباقلاني - من غير ورود ما أورده عليه بعض المدقّقين من أهل العصر؛ حيث قال: «إنّ القرينة إن دلّت على جميع ما يعتبر في المأمور به فلا شكّ ليتمسّك بالإطلاق، وإن دلّت عليها بنحو الإهمال فلا إطلاق لفظي، والإطلاق المقامي جارٍ على كلا القولين»(3) - بأن يقال: هل الأصل في القرينة الدالّة على الأجزاء والشرائط هو إقامة القرينة المجملة على ما ينطبق عليها، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق، أو عليه فيجوز؟

المقدّمة الثانية : في الإشكال على التعبير عن المبحث بالصحيح والأعمّ

لا أرى لعقد البحث ب «أنّ الألفاظ موضوعة للصحيحة أو الأعمّ منها» وجهاً معقولاً إلاّ سهولة التعبير عن الشيء بلازمه في الوجود، وهو أيضاً غير تامّ.

توضيحه: أنّه لا إشكال في أنّه ليس نزاعهم في أنّ الصلاة مثلاً، هل هي

ص: 95


1- تقدّم في الصفحة 62.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 109.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 110.

موضوعة لمفهوم الصلاة المتقيّد بمفهوم الصحّة؟ حتّى يكون الموضوع له هي الصلاة الصحيحة بالحمل الأوّلي.

كما أنّ الالتزام بكون النزاع في وضعها للصحيحة بالحمل الشائع، غير ممكن:

أوّلاً: للزوم كون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً؛ لأنّ ما هو الصحيح بالحمل الشائع هي الصلاة الخارجية التي يتصادق عليها العنوانان، وإلاّ فكلّ عنوان يباين الآخر في المفهومية، وهم لا يلتزمون بذلك، والالتزام بالجامع الخارجي قد سبق(1)

دفعه وامتناعه.

وثانياً: أنّ الصحيح بالحمل الشائع، هو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط حتّى ما يتأتّى من قبل الأمر، وغيره باطل فاسد بذاك الحمل، مع خروج مثلها عن محطّ البحث، كخروج ما يتأتّى من قِبل النهي في العبادة، أو اجتماع الأمر والنهي مع تقديم جانب النهي على القول بإيجابه الفساد.

والقول بأنّ الصحّة أمر إضافي فيكون الشيء صحيحاً بملاحظة الأجزاء، فاسداً بملاحظة الشرائط(2)،

مع عدم مساعدة العرف واللغة [عليه]، لا يدفع به الإشكال؛ لأنّ الأجزاء مع فقد الشرائط لا تقع صحيحة، فلا الماهية صحيحة ولا أجزاؤها الفاقدة للشروط، فأين الصحّة حتّى تنسب إلى الماهية بالعرض والمجاز؟!

ص: 96


1- تقدّم في الصفحة 22.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 60.

وعلى فرضها يكون الانتساب إلى نفس الماهية مجازاً، وهو كما ترى، كالالتزام بالصحّة التعليقية؛ أي إذا ضمّ إليها سائر الشرائط.

وتوهّم اصطلاح خاصّ للاُصولي في الصحّة والفساد قبال العرف واللغة فاسد لا يلتزم به أحد.

ولعلّ هذه الشبهة ألجأتهم إلى التزام كون الصحّة بمعنى التمامية(1)،

الظاهر منهم أنّ المفهومين متساوقان عرفاً ولغة، وأنّ بين الصحّة والفساد تقابل عدم وملكة.

وهو غير جيّد؛ لعدم مساعدتهما عليه، بل الصحّة والفساد كيفيتان وجوديتان عارضتان للشيء في الوجود الخارجي، فيقال للشيء الموجود المتّصف بكيفية ملائمة لطبيعته النوعية: إنّه صحيح سالم، وللمتّصف بكيفية منافرة لها: إنّه فاسد. ويشبه أن يكون إطلاقهما على الماهيات الاعتبارية بنحو من التوسّع؛ فإنّ لتلك الماهيات وراء الأجزاء هيئة اعتبارية اتّصالية أو وحدة اعتبارية لأجلها يقال: «قطع صلاته» و«أفطر صومه» فيدّعى لأجل فقد شيء معتبر فيها عروض الفساد لها كالموجود الخارجي الذي عرض له الفساد، وكذلك في الصحّة.

وأمّا التمام والنقص فيطلقان [عليه] باعتبار جامعيته للأجزاء والشرائط وعدمها، فإن اُطلقا على الكيفيات والحقائق البسيطة فباعتبار لحاظ الدرجات فيها، فيقال للوجود والنور: إنّهما تامّان وناقصان، فالإنسان الذي ليس له عين أو يد، ناقص لا فاسد.

ص: 97


1- بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 132 / السطر 7؛ كفاية الاُصول: 39.

فمفهوم النقص والتمام يخالفان الصحّة والفساد وبينهما تقابل العدم والملكة، كما أنّ بين الصحّة والفساد تقابل التضادّ، كما أنّ التمام والنقص إضافيان؛ بمعنى أنّ الجامع للأجزاء دون الشرائط تامّ بحسب الأجزاء ناقص بحسب الشرائط، لا مطلقاً.

فمن اشتهى أن يبقي عنوان البحث على حاله فلا بدّ له من الالتزام باستعمال الصحّة والفساد في التامّ والناقص مجازاً بنحو المشهور - أي استعمال اللفظ الموضوع لمفهوم في مفهوم آخر - ثمّ يجري على المنوال المعهود، مع أنّ هذا الإطلاق أشبه بالغلط من المجاز؛ لعدم العلاقة بين المفهومين، واتّحاد مصداقهما خارجاً لا يصحّح العلاقة.

ولعمري إنّه لا موجب لهذه التكلّفات الباردة، ولا ملزم لإبقاء العنوان على حاله، فالأولى أن يقال في عنوان البحث: «في تعيين الموضوع له في الألفاظ المتداولة في الشريعة» أو «في تعيين المسمّى لها» أو «في تعيين الأصل في الاستعمال فيها»، على اختلاف التعبيرات فيها كما مرّ.

المقدّمة الثالثة : في تعيين محلّ النزاع

قد ادّعى بعضهم أنّ محلّ النزاع هو الأجزاء مطلقاً والشرائط التي اُخذت في متعلّق الأمر، كالستر والقبلة والطهور، دون ما يأتي من قِبله، كقصد الأمر والوجه ممّا لا يمكن أخذه في المتعلّق، ودون الشرائط العقلية،

ص: 98

كاشتراط كونه غير مزاحم بضدّه الأهمّ أو غير منهيّ عنه(1).

وقد يدّعى عدم إمكان دخولهما فيه، لتأخّر رتبتهما عن رتبة المسمّى؛ لأنّ تعيين المسمّى مقدّم على الطلب المتقدّم على قصده وقصد وجهه، وكذا مقدّم على ابتلائه بالضدّ أو تعلّق النهي به(2).

بل قد يقال: إنّ النزاع مقصور على الأجزاء؛ لأنّ رتبة الشرائط متأخّرة عنها، فلا يمكن جعلهما في رتبة واحدة عند التسمية(3).

والحقّ إمكان جريان النزاع في جميع الشرائط: أمّا عند من يرى جواز أخذ ما لا يتأتّى إلاّ من قِبل الأمر في المتعلّق(4) فواضح؛ لتقدّم رتبة المسمّى على الطلب، وأمّا مع القول بامتناعه(5)

فلإمكان دعوى كون المسمّى غير ما يتعلّق به الطلب، وكون رتبته مقدّمة على الطلب أوّل الكلام.

وأمّا حديث عدم إمكان تسوية الأجزاء والشرائط في الرتبة فظاهر الفساد؛ لأنّ الاجتماع في التسمية غير الاجتماع في الرتبة في الواقع، والمحال هو الثاني، واللازم هو الأوّل.

وقد يقال في جواب هذا الإشكال - بل الإشكال المتقدّم - بإمكان الوضع

ص: 99


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 60 - 61.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 61.
3- نهاية الأفكار 1: 76.
4- كما هو مختاره قدس سره وسيوافيك في مبحث التعبّدي والتوصلي في الصفحة 201 وما بعدها.
5- كفاية الاُصول: 95؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 150؛ نهاية الأفكار 1: 188.

لنفس الأجزاء المقترنة بالشرائط؛ أعني لتلك الحصّة من مطلق الأجزاء، فيجري فيها النزاع، فيقول الصحيحي: إنّ اللفظ موضوع للحصّة المقترنة بجميع الشرائط، فلا تصدق الصلاة مثلاً مع فقد بعضها، وينكره الأعمّي(1).

وفيه: أنّ الاقتران إمّا أن يؤخذ على سبيل الشرطية والقيدية، فيعود المحذور، أو على سبيل الحينية فلا تدخل في المسمّى بوجه حتّى لا يصدق الاسم مع فقدها.

فتحصّل ممّا ذكر: إمكان جريان النزاع في جميع الشرائط.

ثمّ بعد إمكانه هل النزاع مقصور على ما قالوا، أو لا؟

الظاهر من كلماتهم في الباب وكيفية استدلالاتهم هو كون النزاع في مطلق الشرائط، كالإشكال على الصحيحي بأ نّه يلزم عليه تكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلّقة بها؛ لأنّ الأمر حينئذٍ يرجع إلى الأمر بالمطلوب؛ فيكون المعنى: اُطلب مطلوبي، ويلزم الدور؛ لتوقّف الطلب حينئذٍ على الصحّة، والصحّة على الطلب. والصحيحي لم يدفع الإشكال بأنّ محلّ النزاع غير تلك الشروط، فراجع «الفصول»(2).

بل الاستدلال بوحدة الأثر لكشف وحدة المؤثّر الظاهر منه أنّه هو المسمّى(3)، يؤيّد ما قلنا، بل يدلّ عليه؛ فإنّ المؤثّر هو الصحيح الفعلي، وهو

ص: 100


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 111 - 112.
2- الفصول الغروية: 48 / السطر 14.
3- كفاية الاُصول: 39.

الجامع لجميع الشرائط. وتخيّل كون الدعوى أنّ المسمّى بعض المؤثّر أو المؤثّر الاقتضائي أو التعليقي(1)،

بعيد عن الصواب.

والإنصاف أنّ كلماتهم لا تخلو من تشويش واضطراب.

والتحقيق - بعد ما قلنا من أنّ الصحيح والأعمّ غير دخيلين في النزاع، وإنّما النزاع في مسمّى الألفاظ المستعملة في المعاني - أن يقال: إنّ سنخ الشرائط مختلفة، فبعضها تكون من قيود الماهية المسمّاة؛ بحيث تكون بما هي كذلك منحلّة إلى الأجزاء والتقيّدات، وبعضها تكون من شروط تحقّقها خارجاً - أي صحّتها - لا من قيود نفسها.

فحينئذٍ: يقع النزاع في أنّ الشرائط أيّها من قيود نفس المسمّى؛ بحيث لا يصدق على الفاقد، وأيّها من شروط صحّته؛ حتّى يصدق على الفاقد ولو كان فاسداً مع فقدانه؟

وكلمات القوم مختلفة، لكن يشبه أن يكون مثل قصد الوجه من شروط التحقّق والصحّة، ولا دخالة له في الماهية، ومثل التزاحم والنهي من موانعها غير دخيل فيها، وأمّا الشرائط الاُخر فمورد البحث.

وأمّا الأجزاء فالبحث فيها في أنّها مطلقاً من مقوّمات الماهية أو بعضها من أجزاء الموجود على فرض تحقّقه، كالأجزاء المستحبّة، والمسألة لا تخلو من غموض وإشكال، كتعيين محلّ النزاع.

ص: 101


1- نهاية الأفكار 1: 76 - 77.

المقدّمة الرابعة : في لزوم تصوير الجامع

لا بدّ للصحيحي والأعمّي من تصوير الجامع - بعد وضوح فساد خصوص الموضوع له في الماهيات المعهودة - أو تعدّد الأوضاع بالاشتراك اللفظي، فلا بدّ من بيان ما قيل أو يمكن أن يقال:

فمن الجوامع المتصوّرة للصحيح ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه قال: «لا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره؛ فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه بذلك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصلاة مثلاً ب «الناهية عن الفحشاء» و«ما هو معراج المؤمن» ونحوهما»(1)،

انتهى.

وفيه: - بعد منع كون المقام موضوعاً للقاعدة العقلية، وإنّما موضوعها الواحد من جميع الجهات والحيثيات - أنّه بناءً عليه يلزم أن تكون الصلاة من متكثّر الحقيقة؛ فإنّ «النهي عن الفحشاء»(2) و«معراج المؤمن»(3) و«مقرّب كلّ تقيّ»(4)

ص: 102


1- كفاية الاُصول: 39.
2- إشارة إلى قوله تعالى: «إنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنْكَرِ». العنكبوت (29): 45.
3- إشارة إلى حديث: «الصلاة معراج المؤمن...». الاعتقادات، العلاّمة المجلسي: 39.
4- إشارة إلى حديث: «الصلاة قُربان كلّ تقيّ». الكافي 3: 265 / 6؛ وسائل الشيعة 4: 43، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 12، الحديث 1.

و«عمود الدين»(1) اُمور مختلفة، فمع صدورها منها يكون كلٌّ صادراً من حيثية.

مضافاً إلى أنّ النهي عن الفحشاء ليس على ما هو ظاهره، فيرجع إلى كونها دافعة ومانعة عنها، والفحشاء أمر متكثّر، فلا بدّ أن تكون في الصلاة حيثيات، بكلّ حيثية دافعة لواحد منها، مع بعد التزامهم بالجامع الذي له حيثيات متكثّرة حسب تكثّر ما ذكر.

ودعوى كون هذه الاُمور ترجع إلى أمر واحد هو كمال حاصل للنفس يوجب ذلك(2)،

خروج عن الاستدلال بها، وإيكال إلى أمر مجهول من غير بيّنة وبرهان.

وأمّا ما اُورد عليه: من أنّ الملاكات من الدواعي لا الأسباب التوليدية، فلا يصحّ تعلُّق التكليف بها، لا بنفسها ولا بأخذها قيداً لمتعلّق التكليف، فكما لا يصحّ التكليف بإيجاد معراج المؤمن مثلاً، لا يصحّ التكليف بالصلاة المقيّدة بكونها كذلك؛ إذ يعتبر في التكليف أن يكون المكلّف به بجميع قيوده مقدوراً عليه، والملاكات ليست كذلك، فلم تصحّ أن تكون هي الجامع ولا معرّفة وكاشفة عنه؛ بداهة أنّه يعتبر في المعرّف أن يكون ملازماً للمعرّف بوجه(3)،

انتهى بعض كلامه المطوّل.

ص: 103


1- إشارة إلى حديث: «الصلاة عمود الدين». المحاسن: 44 / 60؛ وسائل الشيعة 4: 27، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 6، الحديث 12.
2- نهاية الأفكار 1: 84 - 85؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 118 - 119.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 72.

ففيه: أنّ المسمّى هو ذات المكشوف من حيث هي لا مقيّدة بالملاكات، فإذا كان شيء منشأ أثر وحداني أو قائماً به أثر وحداني ممّا يكشف منه وحدة الذات، يمكن أن يشار إليه بهذه الخواصّ والآثار ويوضع اللفظ لنفس المؤثّر أو القائم به المصلحة لا بعنوانهما، فلا يتعلّق التكليف إلاّ به من غير تقييد بالملاك

أو الأثر.

ومنها: ما صوّره بعض المدقّقين من أهل العصر رحمه الله علیه بعد إيراد إشكال على «الكفاية» من بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه : من أنّ الجامع العنواني ممكن، لكن لا يلتزم به أحد، والجامع المقولي الذاتي غير ممكن؛ لكون الصلاة مركّبة من مقولات مختلفة، وهي متباينات، ولا جامع فوق الأجناس العالية(1).

فأجاب عنه: بأنّ الجامع لا ينحصر فيهما، بل لنا فرض جامع آخر، هو مرتبة خاصّة من الوجود الجامع بين تلك المقولات المتباينة ماهية، فتكون الصلاة أمراً بسيطاً خاصّاً يصدق على القليل والكثير؛ لكون ما به الاشتراك نفس ما به الامتياز؛ فإنّ الوجود الخاصّ اُخذ لا بشرط، إلى أن قال:

إن قلت: بناءً على هذا يكون مفهوم الصلاة مثلاً، هو تلك الحصّة من الوجود الساري في المقولات المزبورة، وهو فاسد.

قلت: مفهوم الصلاة كسائر مفاهيم الألفاظ منتزع من مطابق خارجي، ولكن عند التحليل نقول: إنّ معنى الصلاة هي الحصّة المقترنة بالمقولات الخاصّة، نحو مفهوم المشتقّ، فإنّه بسيط، وعند التحليل يقال: مركّب من ذات وحدث،

ص: 104


1- نهاية الدراية 1: 98 - 99.

وكمفهوم الإنسان، فإنّه بسيط ينحلّ إلى حيوان ناطق، فاتّضح ممّا تقدّم أنّه يمكن تصوّر جامع بسيط غير عنواني ولا ماهوي، وهو مرتبة من الوجود الساري في جملة من المقولات(1)،

انتهى ملخّصاً.

وأنت خبير بما فيه من الغرائب؛ فإنّ المرتبة من الوجود والحصّة منه إن كانت

هي الوجود الخارجي، فكيف صار وجودات المقولات المختلفة بالذات وجوداً واحداً سارياً؟!

وما معنى هذا السريان والوحدة؟ ولعلّه سمع اصطلاح أهل الذوق في بعض المقامات فاشتهى إيراده هاهنا، ومن له أدنى اُنس باصطلاحاتهم يعلم أنّه أجنبيّ عن مثل المقام.

ثمّ إنّ الوجود الخارجي إذا كان جامعاً ومسمّى بالصلاة، فلازمه تعلّق الأمر إمّا به أو بغير الصلاة، وفسادهما مغنٍ عن البيان، بل لازمه كون الصلاة [أمراً] متجزّئاً ويكون كلّ ما وجد جزءاً منها لا نفسها؛ لأنّ الحصّة الخارجية لا يمكن أن تنطبق على الأفراد انطباق الكلّي على المصاديق.

ثمّ إنّ كونها حصّة من الوجود ينافي ما ذكره أخيراً من أنّ مفهومها كسائر المفاهيم منتزع عن مطابقه الخارجي، إلاّ أن يراد بالحصّة، الكلّي المقيّد، فلا محالة تكون من سنخ المفاهيم، فيكون مفهوم الصلاة مساوقاً لمفهوم الوجود المقيّد الذي لا ينطبق إلاّ على المقولات الخاصّة، وهو واضح البطلان، مع أنّ ذلك هو الجامع العنواني الذي فرّ منه.

ص: 105


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 116 - 118.

ثمّ إنّه قاس الجامع في الصلاة بالكلمة والكلام، فقال: «كما أنّ الجامع بين أفراد الكلمة عبارة عن المركّب من حرفين فما فوق؛ بنحو يكون ذلك المعنى المركّب بشرط شيء من طرف القلّة ولا بشرط من طرف الزيادة، كذلك الجامع بين أفراد الصلاة»(1).

وهو فاسد؛ فإنّ الكلمة عبارة عن لفظ موضوع لمعنىً مفرد، وهذا يصدق على كلّ ما كان كذلك، كان حرفاً واحداً أو حرفين فصاعداً، من غير أن يكون بشرط لا في طرف القلّة ولا بشرط في طرف الكثرة، وليست الصلاة على ما زعمها كذلك.

وبالجملة: لا أرى محملاً صحيحاً لكلامه الذي لا تلتئم أجزاؤه، وإن هذا إلاّ لغموض المسألة وعجزه عن تصوّر جامع معقول.

ومنها: ما ذكره بعض المدقّقين وحاصله: أنّ سنخ المعاني والماهيات بعكس الوجود، كلّما كان الإبهام فيه أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أوفر، فإن كانت الماهيات من الحقائق كان إبهامها بلحاظ الطوارئ والعوارض مع حفظ نفسها، وإن كانت من الاُمور المؤتلفة من عدّة اُمور؛ بحيث تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً، فمقتضى الوضع لها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرّفية بعض العناوين الغير المنفكّة عنها. فلفظ الصلاة مع الاختلاف الشديد بين مراتبها لا بدّ أن يوضع لسنخ عمل معرّفه النهي عن الفحشاء، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظها إلى سنخ عمل خاصّ مبهم إلاّ من حيث كونه مطلوباً في الأوقات

ص: 106


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 118.

الخاصّة، وهذا غير النكرة؛ فإنّه لم يؤخذ فيه خصوصية البدلية(1)،

انتهى.

وفيه: أنّ الإبهام في نفس الذات لا يمكن إلاّ في الفرد المردّد ونحوه، فلا بدّ وأن تكون الصلاة شيئاً متحصّلاً في مقام ذاته؛ تخلّصاً عن كونها من قبيل الفرد المردّد، ويعرضها الإبهام باعتبار العوارض والطوارئ، فحينئذٍ نسأل عن ذلك الجامع المعيّن هل هو من العناوين الخارجية أو من المقولات؟ وكلاهما فاسدان كما اعترف به(2)،

بل لا تنحلّ العقدة بما ذكره لو لم نقل إنّه نحو مصادرة.

وبالجملة: أنّ ماهية الصلاة تقال على الأفراد بالتواطؤ، فلا بدّ لها من جامع صادق عليها يكون في ذاته أمراً متعيّناً ولو بالاعتبار، ويعرضه الإبهام بلحاظ الطوارئ.

ولعلّ ما ذكره يرجع إلى ما سنذكره بعد مقدّمة، وهي أنّ محطّ البحث للأعلام إنّما هو تصوير جامع كلّي قابل للانطباق على الأفراد المختلفة كيفية وكمّية، فمرتبة فرض الجامع مقدّمة على عروض الفساد والصحّة عليه؛ لما عرفت(3) من

أنّهما من عوارض وجود العبادات خارجاً، وأنّهما ليسا من الاُمور الإضافية؛ بحيث يكون ماهية صحيحة من حيثية وفاسدة من اُخرى.

نعم، ربّما توجد ماهية من الطبائع الحقيقية يكون بعضها فاسداً بقول مطلق وبعضها صحيحاً كذلك، كبطّيخ نصفه فاسد، لكن هذا غير ممكن للصلاة وأمثالها،

ص: 107


1- نهاية الدراية 1: 101 - 102.
2- نهاية الدراية 1: 98 - 100.
3- تقدّم في الصفحة 97.

فالصلاة الموجودة مع فقدان شرط أو وجود مانع، فرد من الصلاة، وعرضه الفساد في الخارج لا الصحّة، ولا يكون صحيحاً من حيث وفاسداً من حيث.

فحينئذٍ: بعد كون بعض الشرائط الدخيلة في الصحّة خارجاً عن محطّ البحث، فلا محالة تكون الماهية الموضوعة لها لفظة «الصلاة» ما إذا وجدت في الخارج مجرّدة عن تلك الشرائط الخارجة عن محطّ البحث تقع فاسدة لا صحيحة، فلا يكون نزاعهما في وضعها للصحيحة أو الفاسدة؛ لتسالمهم على عدم الوضع للماهية المتقيّدة بمفهوم الصحّة، وعدم إمكان الوضع لماهية ملازمة لها من حيث تقرّر الماهية؛ لأنّ مفهوم الصحّة وحقيقتها غير لازمين للماهية - وهو واضح - ولا لماهية إذا وجدت في الخارج تكون صحيحة؛ لخروج بعض الشروط الدخيلة في الصحّة عن محطّ البحث كما تقدّم(1)، فلا تكون الماهية الموضوعة لها ملازمة في الخارج مع الصحّة(2).

وإرجاع النزاع إلى أنّ الصحيحي يقول: إنّ اللفظ موضوع لماهية إذا لحقت بها تلك الشروط تقع صحيحة والأعمّي ينكره، لا يرجع إلى محصّل.

فالأولى إلقاء لفظي الصحيح والأعمّ، ويقال: هل لفظ الصلاة - مثلاً - موضوع لماهية تامّة الأجزاء والشرائط الكذائية أو ما هو ملازم لها، أو لا؟ ولعلّ نظر القوم إلى ذلك، وتخلّل لفظ الصحيح والأعمّ لإفادة المقصود في أبواب العبادات والمعاملات بلفظ جامع، والأمر سهل.

ص: 108


1- تقدّم في الصفحة 101.
2- نهاية الأفكار 1: 74.

التحقيق في تصوير الجامع

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ المركّبات الاعتبارية التي عرضتها وحدة ما على قسمين:

أحدهما: ما يكون الكثرة فيها ملحوظة كالعشرة والمجموع؛ فإنّ العشرة وإن لوحظت واحدة - فتكون مقابلَ العشرتين والعشرات ومفردَهما - لكنّ الكثرة فيها ملحوظة، وكذا المجموع، وفي مثلها يفقد الكلّ بفقدان جزء منها، فلا يصدق العشرة ولا المجموع إلاّ على التامّ الأجزاء.

وثانيهما: ما تكون الكثرة [فيه] فانية في الوحدة والهيئة فناء المادّة في صورتها، ففي مثلها تكون شيئية المركّب الاعتباري بصورته - التي هي الهيئة العرضية الاعتبارية، لا الصورة الجوهرية أو الحقيقية - لا بمادّته، وتكون المادّة فانية في الهيئة، وهي قائمة بالمادّة متّحدة معها؛ ولهذا لا يضرّ اختلاف الموادّ - أيّ اختلاف عرض لها - بشيئية المركّب الكذائي.

فالسيّارة سيّارة مادامت صورتها وهيئتها محفوظة من أيّ فلزّ كانت مادّتها، فالمادّة مأخوذة بنحو اللا بشرط والعرض العريض، لا بمعنى لحاظها كذلك؛ فإنّه ينافي اللا بشرطية، بل بمعنى عدم اللحاظ في مقام التسمية إلاّ للهيئة، والموادّ فانية فيها.

ثمّ إنّ الهيئة قد تلاحظ بنحو التعيّن الخاصّ، وقد تلاحظ بنحو اللا بشرط والعرض العريض أيضاً، كالدار والسيّارة والبيت والمكائن والساعات وكلّ ما هو من قبيل المركّبات الغير الحقيقية من سنخها، فمثلها تكون موادّها فانية في

ص: 109

هيئاتها في مقام التسمية ومقام استعمال ألفاظها فيها، وهيئاتها مأخوذة لا بشرط، فتصدق الدار على المسكن الخاصّ بأيّة مادّة صنعت وفي أيّة هيئة صيغت، لكن تكون بينها جهة جامعة عرضية لا يمكن أن يعبّر عنها إلاّ بمثل المسكن الخاصّ؛ لعدم الجنس والفصل لها كالحقائق حتّى تحدّ بهما.

فالسيّارة مركوب خاصّ لمّا صنعها صانعها سمّاها باسم، فانية موادّها في هيئتها، وغير ملحوظ فيها هيئة خاصّة لا تتعدّاها، وهذا معنى اللا بشرط في الهيئة والمادّة؛ ولهذا تصدق على المركوب الخاصّ بأيّة هيئة أو مادّة كانت.

ثمّ إنّه قد يعتبر في المركّبات الاعتبارية موادّ خاصّة، ومع ذلك تكون في مقام التسمية فانية في الهيئة، وتؤخذ الهيئة لا بشرط من جهة أو جهات، فيصدق الاسم مع تحقّق سنخ الموادّ بنحو العرض العريض مع الهيئة كذلك، فلا يمكن التعبير عنها إلاّ باُمور عرضية.

فحينئذٍ نقول: يمكن أن يقال: إنّ الصلاة عبارة عن ماهية خاصّة اعتبارية مأخوذة على النحو اللا بشرط فانية فيها موادّ خاصّة مأخوذة كذلك، فموادّ الصلاة: ذكر وقرآن وركوع وسجود على النحو اللا بشرط صادقة على الميسور منها، وهيئتها صورة اتّصالية خاصّة نسبتها إلى الموادّ نسبة الصورة إلى المادّة، لكنّ الهيئة أيضاً اُخذت لا بشرط من بعض الجهات، كهيئة السيّارة والدار والبيت، ولا يمكن أن يعبّر عنها إلاّ بعناوين عرضية كالعبادة الخاصّة، كالتعبير عن السيّارة بالمركب الخاصّ، وعن البيت والدار بالمسكن الخاصّ، من غير أن يكون لها جنس وفصل يمكن تحديدها بهما.

وبما ذكرنا يتّضح: أنّ الشرائط مطلقاً - سواء ما يتأتّى من قِبل الأمر أو لا -

ص: 110

خارجة عن حقيقة الصلاة، ويشبه أن تكون الشرائط مطلقاً - خصوصاً الآتية من قِبل الأمر - من شرائط صحّة تلك الماهيات، لا من قيودها المعتبرة في ماهيتها، فالصلاة اسم للهيئة الخاصّة الحالّة في الأجزاء الخاصّة، مأخوذة هي والهيئة لا بشرط، وتتّحدان اتّحاد المادّة والصورة.

ثمّ إنّه بما ذكرنا سابقاً يعلم أنّ فرض الجامع على الصحيحي وعلى الأعمّي ممّا لا معنى محصّل له، فالتحقيق ما تقدّم من فرض الجامع بين أفراد الماهية، ورجوع النزاع إلى أنّ المسمّى هو الماهية التامّة الأجزاء، أو هي والشرائط، أو لا؟ فتدبّر جيّداً.

المقدّمة الخامسة : في الثمرة بين القول بالصحيح والأعمّ

الثمرة الاُولى: جريان أصل البراءة

بناءً على ما ذكرنا من الجامع تجري البراءة لدى الشكّ في الأقلّ والأكثر، دون ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1).

توضيحه: أنّه قد عرفت أنّ الصلاة عبارة عن الهيئة الخاصّة لا بشرط فانية فيها الكثرات والأجزاء، فبناءً عليه تكون الصلاة حقيقة وحدانية صادقة على الهيئة الحاصلة من تلك الموادّ، من غير أن تكون الكثرة ملحوظة فيها، ونسبة

ص: 111


1- كفاية الاُصول: 39.

الهيئة إلى المادّة ليست كنسبة المحصَّل إلى المحصِّل، بل هما متّحدان ذهناً وخارجاً نحو اتّحاد الصورة والمادّة، ويكون الأمر المتعلّق بالصلاة مع كونه واحداً على ماهية واحدة، لا أمراً بالأجزاء والكثرات، لكن ذلك الأمر الوحداني باعث إلى الأجزاء التي تنحلّ الماهية إليها، فالأمر بالواحد أمر بالكثرات في لحاظ التحليل.

فإذا شكّ في حال الانحلال في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به، يرجع الشكّ إلى أصل تعلّق الأمر به في لحاظ الكثرة بعد العلم بتعلّقه بسائرها فيه، وبعد العلم بتحقّق المسمّى في الخارج، كما هو مذهب الأعمّي.

ولو قيل: إنّ الهيئة - بناءً على ما ذكرت - أمر غير الموادّ، وهي متعلّقة للأمر، والموادّ محصّلة لها، تجري البراءة في نفس الهيئة اللا بشرط الصادقة على القليل والكثير والطويل والقصير؛ لأنّ المفروض أنّ المسمّى صادق عليها، ومع صدقه إذا شكّ في شيء آخر دخيل في زيادة الهيئة كيفية أو كمّية، يكون مرجعه إلى الشكّ في خصوصية زائدة على أصل المسمّى؛ لصدقه عليه مع فقدانه، فالشكّ في تعلّق الأمر بهيئة حاصلة من موادّ - كتسعة أجزاء أو عشرة - شكّ في الأقلّ والأكثر في الهيئة، فتكون مورد جريان البراءة.

هذا مع تسليم كون الموادّ بالنسبة إلى الهيئات كالمحصّل، وإلاّ فهو في معرض المنع.

وأمّا على ما ذكره المحقّق الخراساني فلا تجري البراءة ولو قلنا باتّحاد الأمر الانتزاعي مع الأجزاء؛ لأنّ المدّعى هو كون الصلاة أمراً بسيطاً مبدأً للأثر الخاصّ؛

أي معراجية المؤمن والنهي عن الفحشاء، فإذا شكّ في جزء أو شرط يكون

ص: 112

راجعاً إلى تحقّق هذا البسيط؛ لاحتمال أن لا يكون المأتيّ به مبدأ الأثر الخاصّ، ولا فرق في ذلك بين كون المأمور به هو عنوان «معراج المؤمن» أو عنوان «الصلاة» التي تكون مبدأً لهذا الأثر، سواء قيّدت به أو لا، فلا محيص في مقام الإتيان بالمأمور به عن حصول العلم بتحقّق ما تعلّق به الأمر وقامت عليه الحجّة.

وإن شئت قلت: لا ينحلّ المأمور به على ما ذكره إلى معلوم ومشكوك فيه، بل الأمر قد تعلّق بعنوان معلوم ولو بأ نّه مبدأ للأثر الكذائي، فلا بدّ من اليقين بالفراغ منه، بخلاف ما ذكرنا، كما عرفت.

وبما ذكرنا يتّضح: أنّ لازم مذهب الصحيحي - بعد توجيهه بأنّ مراده منه ما ينطبق على الموضوع له الصحيح بالحمل الشائع في الوجود الخارجي - هو تصوّر الموضوع بعنوان لا ينفكّ عن الصحّة في الخارج، فلا محالة بعد تعلّق الأمر بذلك العنوان - على أيّ نحو فرض - يكون الأصل عند الشكّ فيه هو الاشتغال؛ لما ذكرنا آنفاً، كان العنوان بسيطاً قابلاً للنقص والكمال والزيادة والنقصان، أو لا؛ لأ نّه مع الشكّ في الجزء أو الشرط يكون الشكّ في تحقّق المتعلّق، ومعه لا يمكن إحراز الفرد الملازم للصحّة.

فيسقط ما ذكره بعضهم - من جريان البراءة، قائلاً: إنّ المأمور به إذا كان بسيطاً ذا مراتب يتحقّق بعض مراتبه بتحقّق بعض الاُمور المحصّلة له وشكّ في دخل شيء آخر في تحقّق مرتبته العليا، لكان مورداً للبراءة(1) - لأنّ ذلك خروج عن مذهب الصحيحي؛ لأ نّه مع الشكّ في دخالة مرتبة من العنوان في المأمور به

ص: 113


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 123 - 124.

لا يعقل القطع بتحقّق المسمّى المأمور به على وصف الصحّة، ومع إحراز تحقّق بعض مراتبه والشكّ في صحّته يكون المسمّى - لا محالة - أعمّ من الصحيح.

فتحصّل ممّا ذكرنا: صحّة جعل القول بالبراءة والاشتغال ثمرة للقول بالأعمّ والصحيح.

نعم، لو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات وضعت بإزاء الماهية الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط، وإطلاقها على غيرها بعناية وعلاقة، كان لجريان البراءة مجال، لكنّه بعيد غايته.

كما أنّه لو قيل: إنّ الموضوع له هو هذه العناوين أو ما يلازمها اقتضاءً، لكان لجريانها وجه(1)،

لكنّه خروج عن مذهب الصحيحي.

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بالإطلاق على الأعمّ

وتظهر الثمرة بين القولين أيضاً بصحّة التمسّك بالإطلاق على الأعمّ دون الصحيح. والإشكال تارةً: بأ نّه ليس في الكتاب والسنّة إطلاق في مقام البيان حتّى يثمر النزاع(2)،

واُخرى: بأنّ المأمور به هو الصحيح على القولين، والأخذ بالإطلاق بعد التقييد أخذ في الشبهة المصداقية(3) مردود؛ ضرورة مجازفة الدعوى الاُولى، كما يظهر للمراجع.

ص: 114


1- لكنّ التحقيق: عدم جريانها على جميع المسالك على الصحيح، وتجري على جميع المسالك على الأعمّ؛ لأ نّه على المسلكين لا بدّ من إتيان المسمّى يقيناً، ولا يحصل ذلك إلاّ بإتيان المشكوك فيه على الصحيح دون الأعمّ، كما لا يخفى. [منه قدس سره]
2- اُنظر مطارح الأنظار 1: 67؛ أجود التقريرات 1: 67.
3- اُنظر أجود التقريرات 1: 69.

وأمّا ما قيل من كفاية الثمرة الفرضية للمسألة الاُصولية(1)،

فهو كما ترى .

وأمّا الدعوى الثانية، ففيها: أنّ الأوامر متعلّقة بنفس العناوين على الأعمّ، ولا ينافي تقيّدها بقيود منفصلة، فإذا ورد مطلق في مقام البيان نأخذ بإطلاقه ما لم يرد مقيّد، ونحكم بصحّة المأتيّ به.

وأمّا توهّم تعلّقها بعنوان الصحيح أو ما يلازمه، ففي غاية السقوط.

وأمّا ما قيل في جوابه: من أنّ المخصّص لبّي غير ارتكازي، وفي مثله يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية(2)،

ففيه منع؛ لعدم الفرق بين اللبّي الغير الارتكازي واللفظي المنفصل في عدم جواز التمسّك وسقوط أصالة الجدّ لدى العقلاء، والتحقيق موكول إلى محلّه(3).

حول أدلّة الصحيحي والأعمّي

الإشكال في استدلال الصحيحي بالتبادر

إذا عرفت ذلك، فقد تمسّك كلّ من الصحيحي(4) والأعمّي(5) بالتبادر وغيره.

والعمدة هو التبادر، لكن دعواه للصحيح محلّ إشكال؛ لأنّ معنى التبادر هو فهم المعنى من اللفظ، ولا يمكن أن يتبادر منه أمر زائد عن الموضوع له من

ص: 115


1- أجود التقريرات 1: 67.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 130.
3- راجع ما يأتي في الجزء الثاني: 215 وما بعدها.
4- هداية المسترشدين 1: 442؛ الفصول الغروية: 46 / السطر 25؛ كفاية الاُصول: 44.
5- قوانين الاُصول 1: 44 / السطر 4؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 51.

اللوازم الذهنية أو الخارجية للمعنى؛ لعدم كونها معناه.

نعم، بعد تبادر نفس المعنى ينتقل الذهن إلى لوازمه ولوازم لوازمه، وقد ينتقل الذهن بواسطة جهات واُنس ذهني من المعنى إلى مصاديقه ولوازمها الوجودية، بل إلى عوارضها الاتّفاقية أحياناً.

فإذا كان الموضوع له للفظ الصلاة - مثلاً - ماهية بسيطة مجهولة إلاّ ببعض العناوين المتأخّرة عن الموضوع له، ك «الناهي عن الفحشاء» و«معراج المؤمن» وغيرهما، فلا بدّ لمدّعي التبادر أن يدّعي تبادر نفس المعنى من اللفظ مقدّماً على فهم تلك العناوين، سواء كانت من لوازم الماهية أو عوارض الوجود كما هو الحقّ؛ فإنّ النهي عن الفحشاء وغيره ممّا ذكر ليس من لوازم الماهية بالبداهة، ولا يمكن أن يكون من آثار نفسها؛ لعدم كونها منشأً للأثر، وإنّما تلك الآثار من وجودها الخارجي، كما أنّ الصحّة والفساد من عوارضها الخارجية؛ أي عوارض وجودها.

فحينئذٍ يكون انتقال الذهن من لفظ الصلاة إلى ذات الموضوع له أوّلاً، وإلى مصاديقه ثانياً لأجل اُنس الذهن، وإلى الصحّة ثالثاً بواسطة الارتكاز العقلائي، وكذا إلى تلك العناوين بعد معرّفية الشارع في الرتبة المتأخّرة أو الآن المتأخّر عن تبادر المعنى الموضوع له، فلا يمكن أن تكون تلك العناوين مطلقاً معرّفة للمعنى لتصحيح التبادر؛ لتأخّر رتبتها بمرتبة أو مرتبتين عنه، فحينئذٍ يبقى الموضوع له مجهول العنوان والحقيقة في وعاء التبادر، فلا يمكن تبادر المجهول المطلق.

واللوازم والعوارض وإن كانت من معرّفات الشيء إنّاً، والشيء يعرف

ص: 116

بمعاليله وآثاره وعوارضه، لكن لا يمكن أن تكون مصحّحة للتبادر ومعرّفة للمعنى لأجل تصحيحه؛ لأنّ فهم المعنى من اللفظ سابق على فهم العناوين اللازمة للذات والعارضة للوجود.

فدعوى التبادر للصحيحي ممّا لا مصحّح معقول لها، فما يتخيّل أنّه يتبادر من لفظ الصلاة - وهو الصحيحة منها - فاسد، منشؤه الخلط بين تبادر المعنى الذي لا يتّصف بالصحّة والفساد في مرتبة ذاته وماهيته، وبين فهم الاُمور الخارجة عن فهم المعنى ممّا هو من عوارض المصاديق لأجل اُنس الذهن، فتدبّر.

الإشكال في استدلال الصحيحي بصحّة السلب

وممّا ذكرنا يتّضح الإشكال على صحّة السلب عن الفاسدة؛ لأنّ المدّعى: إمّا صحّة سلب المعنى مع معرّفيته بتلك العناوين المتأخّرة وجوداً وعلماً، أو لا. وكلاهما باطلان:

أمّا الثاني فواضح؛ لأنّ سلب المعنى المجهول ممّا لا محصّل له.

وأمّا الأوّل فمصادرة؛ لأنّ مرجع صحّة سلب ما هو «معراج المؤمن» الملازم للصحّة الفعلية إلى صحّة سلب الصلاة الصحيحة عن الفاسدة، وهو أمر واضح، لكن لا تدلّ على أنّ المسمّى هو الصحيحة، فسلب نفس المعنى بما هو هو غير ممكن للجهل به، وسلب المعنى بمعرّفية هذه العناوين غير مفيد؛ فإنّها معرّفات الصحيحة، وللأعمّي أن يدّعي أنّ الصلاة المعرّفة بهذه العناوين قسم من المسمّى.

ومن ذلك يعرف حال صحّة الحمل الأوّلي، وأمّا الشائع فلا يفيد أصلاً.

ص: 117

دفع الإشكال وتصحيح دعوى التبادر للصحيحي ثبوتاً

هذا، ويمكن أن [يدفع] أصل الإشكال بعد التنبّه إلى مقدّمة: وهي أنّ وضع اللغات في جميع الألسنة لمّا كان على نحو التدريج حسب الاحتياجات الماسّة إليه، يشبه أن يكون - نوعاً - من قبيل خصوص الوضع وعموم الموضوع له بالمعنى الذي تقدّم(1)

من كون الخاصّ ملحوظاً حين الوضع ووضع اللفظ بإزاء الجامع الملحوظ بتبعه إجمالاً، عكس عموم الوضع وخصوص الموضوع له؛ لأنّ الانتقال حال الوضع - نوعاً - كان من بعض المصاديق إلى الجوامع بعنوان كونها جامعة لها، من غير التفات إلى حقائقها وأجناسها وفصولها، فوضعت الألفاظ بإزائها بمعرّفية هذا العنوان.

فكلّما عثر البشر على شيء ورأى احتياجه إلى تسميته باسم، وضع لفظاً له من غير نظر إلى خصوصيته الشخصية، بل لجامعه وطبيعته النوعية من غير اطّلاع على جنسها وفصلها، بل بما أنّه جامع بينه وبين غيره من الأفراد، لا لهذا العنوان، بل بمعرّفيته لنفس الطبيعة المعلومة بوجه.

ولو ادّعى أحد القطع بأنّ ديدن الواضعين كان كذلك نوعاً، خصوصاً في المصنوعات والمخترعات، بل والطبائع التي اطّلع البشر على مصداقها في الأزمنة السابقة جدّاً، ووضع اللفظ لجامعها بنحو، لم يكن مجازفاً.

فإذا كان كيفية الوضع كذلك يمكن أن يكون التبادر وصحّة السلب كذلك؛ أي

ص: 118


1- تقدّم في الصفحة 20 - 21.

بهذا المعنى الإجمالي، فيقال: يتبادر من لفظ الحنطة والشعير معنىً إجمالي يعرف بأ نّه جامع لهما، فيدّعي الصحيحي بأنّ «الصلاة» بحسب ارتكاز المتشرّعة يتبادر منها معنىً إجمالي هو الجامع الذي لا ينطبق إلاّ على الأفراد الصحيحة، كما أنّ الوضع كان كذلك.

فالمتبادر من ألفاظ العبادات هو الجوامع المعلومة ببعض العناوين، لا مثل ما ذكره المحقّق الخراساني(1)؛

فإنّها مغفول عنها حين سماع لفظ الصلاة، بل مثل ما يكون جامعاً للأفراد الصحيحة على دعوى الصحيحي، أو الأعمّ منها على الأعمّي.

ثمّ إنّ ما ذكرنا هو تصحيح دعوى التبادر تصوّراً وثبوتاً، وأمّا إثباتاً فلا إشكال في أنّ المتبادر من ألفاظ العبادات في عصرنا هو نفس الطبائع بما هي، لا بما هي ملزومة اللوازم أو معروضة العوارض، كما أنّ طريقة الواضع كذلك، فمن صنع السيّارة وأراد تسميتها باسم، أشار إلى الشخص المصنوع الموجود بين يديه وسمّاه باسم، لا بما أنّه اسم لشخص خاصّ في زمان ومكان خاصّين وغير ذلك من المشخّصات، بل يشير بالتوجّه إليه إلى نفس الجامع من غير لحاظ الخصوصيات من الصحّة والفساد.

والإنصاف: أنّ إنكار تبادر نفس الطبائع في زماننا لا مجال له، كما أنّ المراجع للأخبار والآثار يقطع بأنّ زمان الصادقين علیهما السلام - عصر نشر الأحكام - كان كذلك، بل دعوى كون عصر النبي صلی الله علیه و آله وسلم كذلك أيضاً قريبة جدّاً.

ص: 119


1- كفاية الاُصول: 39.

استدلال الأعمّي بصحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في الأمكنة المكروهة

وقد استدلّ للصحيح والأعمّ بأدلّة غير تامّة لا داعي للتعرّض لها إلاّ لمورد واحد استدلّ به للأعمّ:

تقريره: أنّه لا إشكال في صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في الأمكنة المكروهة وحنث النذر بفعلها فيها، فلو كانت موضوعة للصحيحة يلزم منه عدم قدرة المكلّف على إتيانها، ومع عدم القدرة لا يمكن توجّه الأمر بالوفاء بالنذر، فيلزم من صحّة النذر عدم صحّته(1).

ولا يخفى: أنّ هذا الإشكال وارد على الأعمّي أيضاً؛ فإنّ ما هو مكروه في تلك الأمكنة هو الصلاة المكتوبة على المكلّفين، لا الإتيان بالصورة المعهودة، فما هو متعلّق النذر هو هي، فحينئذٍ يرد الإشكال عليه أيضاً، فيكون أجنبيّاً عن نزاع الصحيحي والأعمّي.

وأمّا دفع أصله، فالتحقيق فيه أن يقال: إنّ الأمر بالصلاة تعلّق بنفس الطبيعة، من غير لحاظ الخصوصيات - زمانية أو مكانية - في متعلّقه، فوقوعها في الحمّام والبيت والمسجد ليس بمأمور به، والأمر المتعلّق بعنوان لا يمكن أن يتجاوز منه إلى غيره، فخصوصية وقوعها في الحمّام غير مأمور به، وأمّا النهي التنزيهي فلم يتعلّق بنفس الطبيعة المتعلّقة للأمر، بل تعلّق بإيقاعها في الحمّام، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ الصلاة صحيحة ومأمور بها، وإيقاعها في

ص: 120


1- قوانين الاُصول 1: 51 / السطر 4.

الحمّام مكروه ومتعلّق النذر، فتصحّ صلاته ويحنث نذره. كذا أفاد شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في بحثه.

ولك أن تقول: إنّ الصلاة في الحمّام بعد تعلّق النذر بها ينطبق عليها عناوين ثلاثة: عنوان الصلاة، وهو عنوان ذاتي لها، وهي مصداق ذاتي له، وعنوان كونها في الحمّام، وهو عنوان عرضي لها، وهي مصداق بالعرض له، وعنوان كونها مخالفة للنذر، وهو - أيضاً - عنوان عرضي لها، وهي مصداق بالعرض له.

ولا منافاة بين تعلّق الأمر بذات الصلاة، والأمر الآتي من قبل «أوف بالنذر»؛ فإنّ الثاني تعلّق بعنوان الوفاء، والأوّل بعنوان ذاتها، فإذا صلّى في الحمّام فعل ما

هو مصداق الواجب بالذات وما هو مصداق تخلّف النذر بالعرض، وهو عنوان زائد على ذات الصلاة منطبق على مصداقها انطباقاً عرضياً، فلو فرض تعلّق النذر بذات الصلاة في الحمّام لم تصر محرّمة، بل المحرّم عنوان تخلّف النذر المنطبق عليها عرضاً، فحينئذٍ كما لا يجتمع الأمر والنهي والوجوب والحرمة في شيء واحد، كذلك يمكن قصد التقرّب بذات الصلاة الغير المحرّمة وإن انطبق عليها عنوان محرّم زائد على ذاتها، تأمّل.

هذا حال العبادات.

ص: 121

القول في المعاملات

وأمّا المعاملات فيتمّ الكلام فيها في ضمن اُمور:

الأوّل: في عدم جريان النزاع بناءً على الوضع للمسبّبات

إنّ المعروف عدم جريان النزاع بناءً على وضعها للمسبّبات؛ لأنّ الأمر فيها دائر بين الوجود والعدم، لا الصحّة والفساد(1)؛ لأ نّهما أمران عارضان على الماهية بعد وجودها أو على وجودها، وماهيات المعاملات اُمور اعتبارية متقوّمة به.

فالشرع: إمّا موافق للعرف فيها، فتكون المعاملة العرفية بعد اجتماع شرائط تحقّقها محقّقة معتبرة عرفاً وشرعاً، وعند عدم اجتماعها غير محقّقة ولا معتبرة، فلا معنى للفساد فيها.

وإمّا مخالف له، كما في نكاح بعض المحارم والبيع الربوي، فيرجع مخالفته إلى عدم اعتباره لها، وردعه إلى إعدام الموضوع ونفي الاعتبار؛ فإنّ نفي الآثار مع اعتبار الموضوع ممّا لا مجال له؛ للزوم اللغوية باعتبار ما لا أثر له بوجه، ولو سلّم جوازه فمخالف لارتكاز المتشرّعة؛ لأنّ نكاح المحارم غير واقع ولا مؤثّر رأساً عندهم كالبيع الربوي، فيدور أمر المعاملات

ص: 122


1- كفاية الاُصول: 49؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 54؛ أجود التقريرات 1: 71.

المسبّبية بين الوجود والعدم، لا الصحّة والفساد.

إلاّ أن يقال: إنّ المعاملات المعتبرة عند العقلاء لا يترتّب عليها الآثار لدى الشارع، فيعتبر تحقّق الموضوع في محيط العرف وعدم ترتّب الآثار في محيط التشريع، فباعتبار أنّها محقّقة معتبرة لدى العرف، ولا يترتّب عليها الآثار لدى الشرع، يقال: إنّها فاسدة، وأمّا مع لحاظ كلّ محيط فالأمر دائر بين الوجود والعدم.

وأمّا الالتزام بأنّ المسبّبات اُمور واقعية كشف عنها الشارع، ويرجع ردعه إلى عدم ترتيب الآثار - أي التخصيص الحكمي بعد تحقّق الأمر الواقعي - فهو مقطوع الفساد.

وأمّا بناءً على وضعها للأسباب، فيجري النزاع فيها كالعبادات.

الثاني: في اختلاف الشرع والعرف في المقام

بناءً على كون الأسامي للصحيح من الأسباب، يرجع اختلاف الشرع والعرف إلى مفهومها، لا إلى المصاديق فقط، كما التزم به في «الكفاية»(1)؛

لأنّ الموضوع له؛ إمّا العقد الصحيح بالحمل الأوّلي أو بالحمل الشائع؛ أي ما هو المؤثّر خارجاً، وهما واضحا البطلان، ولا أظنّه يلتزم بهما، فلا بدّ من القول بأ نّها وضعت لماهية إذا وجدت في الخارج لا تنطبق إلاّ على الصحيح المؤثّر، فحينئذٍ لا بدّ من الالتزام بتضييق دائرة المفهوم؛ حتّى لا ينطبق إلاّ على

المؤثّر عنده.

ص: 123


1- كفاية الاُصول: 49.

فإذا كان الأثر مترتّباً - مثلاً - على الإيجاب والقبول العربيين الماضويين مع تقدّم الإيجاب، ولدى العرف مترتّباً عليهما مطلقاً، فيختلفان في المفهوم والماهية، ولا يعقل رجوع الاختلاف إلى المصاديق مع الموافقة في المفهوم.

ومن ذلك يتّضح: أنّه بناءً على وضعها للأسباب الصحيحة يلزم إجمال الخطاب وعدم جواز التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ ماهية ما هو المؤثّر لدى الشرع غير ما هو المؤثّر لدى العرف، فإذا احتمل دخالة قيد أو شرط فيها يرجع ذلك إلى الشكّ في الموضوع، فتصير الشبهة مصداقية، بخلاف ما إذا كانت أسامي للأعمّ أو للصحيح عرفاً؛ فإنّه على الأوّل يؤخذ بالإطلاق بعد صدق الأعمّ، ويرفع الشكّ به حتّى بالنسبة إلى الشرائط العرفية على فرضها، وعلى الثاني يرفع الشكّ بالنسبة إلى الشرائط الشرعية بعد إحراز الموضوع العرفي، فما أفاده المحقّق الخراساني(1)

ممّا لا مجال لتصديقه.

الثالث: في حال التمسّك بالإطلاق لو كانت الأسامي للمسبّبات

قد يقال: بناءً على كون الأسامي للمسبّبات يشكل الأمر في التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ المسبّب أمره دائر بين الوجود والعدم، لا الصحّة والفساد، كما عرفت، فحينئذٍ لو التزمنا بأنّ الأدلّة الرادعة ترجع إلى نفي الآثار والتخصيص الحكمي، جاز التمسّك بأدلّة الإمضاء للمسبّبات المعتبرة بنظر العرف، فنأخذ بها حتّى يرد دليل على الردع الراجع إلى عدم ترتيب الأثر على ما لدى العرف، ومع الشكّ في التقييد أو التخصيص كان المرجع هو الإطلاق أو العموم، لكن

ص: 124


1- كفاية الاُصول: 50.

التخصيص الحكمي مع إمضاء الموضوع موجب للّغوية ومخالف لارتكاز المتشرّعة - كما أشرنا إليه - فلا يمكن التزامه، فلا بدّ من الذهاب إلى رجوع الردع إلى التخصّص ورفع الموضوع وعدم اعتبار المسبّب، فيشكل التمسّك بالإطلاق والعموم لدى الشكّ.

فإن قلت: بناءً على كون الأسامي للمسبّبات لا يكون العرف والشرع مختلفين في المفهوم؛ فإنّ مفهوم البيع لدى الكلّ هو المبادلة بين المالين، والإجارة نقل المنفعة بالعوض... وهكذا، وإنّما يرجع ردع الشارع إلى عدم اعتبار المصداق وإعدام الموضوع، فعدم صدق البيع على الغرري ليس لأجل تضييق في مفهوم المسبّب، بل لعدم تحقّق المصداق بعد التخصيص الراجع إلى التخصّص، فحينئذٍ لا مانع من التمسّك بالإطلاق إلاّ مع إحراز التخصيص الكذائي، ومع الشكّ تكون الحجّة على العنوان قائمة لا ترفع اليد عنها إلاّ بالدليل.

قلت: التمسّك بالإطلاق إنّما ينتج إذا انطبق العنوان على المصداق ولم يكن إجمال في الصدق، ومع الشكّ في اعتبار الشارع يشكّ في الصدق، فلا ينتج الإطلاق.

وبعبارة اُخرى: إذا رجع ردع الشرع إلى إعدام الموضوع، فمع إيقاع البيع المحتمل للردع عنه يشكّ في تطبيق عنوان البيع المأخوذ في دليل الإمضاء عليه ولو من جهة الشكّ في الإعدام وعدم الاعتبار؛ لأ نّه معه تكون الشبهة مصداقية.

هذا، لكنّ التحقيق: جواز التمسّك بإطلاق أدلّة الإمضاء؛ لأ نّها محمولة على

ص: 125

المعاني العرفية جارية على مصاديقها، كما هو الأمر في جميع الخطابات التي لها مصاديق عرفية، وأدلّة الردع مخصّصة حكماً لأدلّة الإمضاء؛ لعدم إمكان التصرّف فيها إلاّ بالتخصيص؛ فإنّ التصرّف في موضوعها غير ممكن؛ لرجوعه إلى إعدام اعتبار العرف، وهو ليس في قدرة التشريع، وعدم اعتبارها في محيط التشريع - كما أشرنا إليه آنفاً وقلنا: إنّه موافق لارتكاز المتشرّعة - غير مربوط بالتصرّف في أدلّة الإمضاء، فالأخذ بأدلّته مع الشكّ في التخصيص والتقييد كسائر موارد الشكّ فيهما.

مضافاً إلى إمكان التمسّك بالإطلاق المقامي ولو في الشبهة المصداقية لكشف حال الموضوع كما قيل(1)،

وإن لا يخلو من إشكال وبحث، فالمعوّل عليه الإطلاق اللفظي، فتدبّر.

ثمّ إنّه لو كانت الأسامي للأسباب فلا إشكال في كونها للأعمّ؛ للتبادر، ولما عرفت من كيفية الوضع(2)،

وإن كان الأرجح كونها موضوعة للمسبّبات؛ أي لنفس التبادل الحاصل بالأسباب، لا للأسباب المحصّلة له، ولا للنتيجة التي هي صيرورة المبيع ملكاً للمشتري والثمن للبائع؛ ضرورة أنّ الأخير ليس بيعاً ولا غيره، والأوّل منهما وإن كان محتملاً؛ لكنّ التبادر يساعد على ما ذكرناه، تأمّل(3).

ص: 126


1- نهاية الأفكار 1: 100؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 141.
2- تقدّم في الصفحة 118.
3- وجهه: أنّ تقسيمها إلى الصحيحة والفاسدة بلا تأوّل، آية على كونها موضوعة للأسباب لا المسبّبات. منه عفي عنه.

خاتمة : في تصوير جزء الفرد في المركّبات الاعتبارية

لا إشكال في إمكان دخل شيء وجودي - تارةً بنحو الشطرية واُخرى بنحو الشرطية - في ماهية المأمور به، وأمّا الشيء العدمي فلا يمكن إلاّ أن يرجع إلى دخالة شيء وجودي، وإلاّ فالعدم بما هو لا تأثير فيه بوجه.

إنّما الكلام في تصوير جزء الفرد وشرطه في المركّبات الاعتبارية، كتصويرهما في الماهيات الحقيقية والمركّبات التحليلية، فإنّ الماهيات الحقيقية لمّا وجدت بالوجود وتشخّصت به، تتّحد معها جميع لوازم الماهية وعوارضها وعوارض الوجود؛ فإنّ حقيقة الوجود [تدور] مدار الوحدة وجمع الكثرات بنحو الوحدة والبساطة مع عدم انثلام وحدتها، فالفرد الخارجي بجميع خصوصياته عين الماهية وجوداً، فصحّ فيها تصوّر مقوّمات الماهية وأجزاء الفرد.

وأمّا الماهيات الاعتبارية لمّا كانت غير متحقّقة في الخارج حقيقة، بل التحقّق للأجزاء، ومجموع الأجزاء ليس له وجود إلاّ اعتباراً، فتصوّر علل القوام فيها لا مانع منه.

وأمّا تصوير جزء الفرد فقد يستشكل فيه: بأنّ كلّ ما وجد في الخارج غير أجزاء الماهية يكون موجوداً بحياله، وله تشخّص خاصّ به غير بقيّة الأجزاء، فلا يكون لماهية المركّب وجود حقيقي يجمع الكثرات، فلا يتصوّر فيها جزء الفرد في قبال الجزء المقوّم للماهية، ولو اعتبر مجموعها باعتبار على حدة يكون ماهية اعتبارية اُخرى، ويكون المصداق الخارجي - أي مجموع

ص: 127

الأجزاء - مصداقاً لتلك الماهية، والأجزاء بلا هذه الزيادة مصداقاً للماهية الاُولى، فلا يصير المجموع مع الزيادة فرداً للمجموع بغيرها(1).

والتحقيق أن يقال: إنّ لبعض المركّبات الغير الحقيقية هيئة خاصّة يكون المركّب متقوّماً بها، كما عرفت(2)

في تصوير الجامع، فالقصر والدار حقيقتهما متقوّمة بهيئة ما لابشرط، لاتتحقّق في الخارج إلاّ بوجود موادّ على وضع خاصّ.

فحينئذٍ نقول: كلّ ما له هيئة قائمة بأجزاء، يكون حسن الهيئة وتفاضلها فيه باعتبار التناسب الحاصل بين الأجزاء، فالحسن أينما حلّ يكون مرهون التناسب، فحسن الصوت والخطّ عبارة عن تناسب أجزائهما، فلا يقال للشعر: «حسن» إلاّ إذا تناسبت جمله، ولا للدار إلاّ إذا تناسبت مرافقها وغرفاتها، فربّما تكون غرفة في دار توجب حسنها؛ لإيقاعها التناسب بين الأجزاء.

فالصلاة ليست نفس الأجزاء بالأسر، بل لها هيئة خاصّة لدى المتشرّعة زائدة على الأجزاء، فيمكن أن يكون تفاضل أفرادها لأجل تفاضل التناسب بين أجزائها، وإن كان فهم التناسب بين أجزائها غير ميسور لنا، فلا يبعد أن يكون للقنوت دخالة في حسن الهيئة الصلاتية، فيوجد المصداق معه أحسن صورة منه مع فقدانه مع عدم دخالته في تحقّق الماهية، وهذا واضح لدى التأمّل في الأشباه والنظائر. ثمّ إنّه قد أشرنا سابقاً(3) إلى الموضوع له في الصلاة فلا نعيده، والظاهر خروج الشروط قاطبةً عنه، فراجع.

ص: 128


1- نهاية الدراية 1: 141 - 142.
2- تقدّم في الصفحة 109.
3- تقدّم في الصفحة 110.

الأمر الثاني عشر : في الاشتراك

الحقّ إمكان الاشتراك ووقوعه في الجملة.

وربّما قيل بامتناعه؛ لأنّ الوضع جعل اللفظ مرآةً للمعنى وفانياً فيه، ولا يمكن أن يكون شيء واحد مرآةً لشيئين وفانياً في اثنين(1).

وفيه: منع كون الوضع إلاّ جعل اللفظ للمعنى وتسمية المعنى باسم، وأمّا فناء اللفظ في المعنى فأمر غير معقول، كما يأتي في المبحث الآتي(2).

وما قيل في جوابه - بأنّ الوضع يوجب استعداد اللفظ للمرآتية، وبالاستعمال يصير فعلياً(3) - إن كان مراده صيرورة اللفظ فانياً في المعنى فسيجيء بطلانه(4)، وإن كان صيرورته فانياً في لحاظ المتكلّم؛ أي آلة

ص: 129


1- اُنظر بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 144.
2- يأتي في الصفحة 135.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 145.
4- يأتي في الصفحة 135.

للحاظ المعنى وملحوظاً به لا فيه، فصيرورة اللفظ مرآتين كذلك ممّا لم يقم على امتناعه برهان كما سيمرّ عليك(1).

وربّما يقرّر الامتناع: بأنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى أو عمّا يستلزمها، فحينئذٍ يلزم منه عند تصوّر اللفظ انتقالان مستقلاّن دفعة واحدة، وهو محال(2).

وفيه: أنّه إن كان المراد بالاستقلال عدم انتقال آخر معه فلا نسلّم أن يكون لازم الوضع هو الاستقلال، وإن كان المراد به هو الانتقال الاستقلالي في مقابل الانتقال إلى معنىً واحد منحلّ إلى اثنين، كمفهوم اثنين حيث يكون الانتقال إلى الواحد في ضمنه، فلا نسلّم امتناعه، بل يكون واقعاً، كما سيتّضح(3) لك(4).

فالحقّ عدم امتناعه وعدم وجوبه، بل إمكانه ووقوعه في الجمل-ة؛ ضرورة أنّا نرى في لساننا ما يكون كذلك بحكم التبادر، لكن لا طريق لنا إلى كيفية تحقّقه، فيحتمل قريباً أن يكون من تداخل اللغات، كما احتمل ذلك في الترادف أيضاً(5)،

ويحتمل أن يكون لحدوث الأوضاع التعيّنية بالاستعمال فيما يناسب المعاني... إلى غير ذلك.

ص: 130


1- يأتي في الصفحة 134 - 135.
2- تشريح الاُصول: 47 / السطر 20؛ اُنظر نهاية الدراية 1: 147.
3- يأتي في الصفحة 131.
4- مضافاً إلى منع لزومه إلاّ إذا استعمل في معنيين، وإلاّ فمع الاستعمال في أحدهما وإقامة القرينة فلا يلزم الانتقالان. [منه قدس سره]
5- أجود التقريرات 1: 76.

الأمر الثالث عشر : في استعمال اللفظ في أكثر من معنىً

اشارة

الحقّ جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنىً واحد.

ومحلّ البحث وما ينبغي أن يكون مورد النقض والإبرام هو أنّه: هل يجوز أن يستعمل اللفظ الواحد في المتعدّد؛ بأن يكون المستعمل فيه والمعنى الملقى إلى السامع متعدّداً؟

والظاهر أنّ هذا مرادهم من الاستقلال والانفراد، فعليه يخرج عن محلّ البحث ما إذا استعمل في معنىً واحد ذي أجزاء أو ذي أفراد.

وذهب إلى امتناعه عقلاً كثير من المحقّقين(1)، وإلى عدم جوازه لغةً بعضهم(2).

وما يكون وجهاً للامتناع اُمور:

ص: 131


1- كفاية الاُصول: 53؛ حاشية كفاية الاُصول، المشكيني 1: 209؛ أجود التقريرات 1: 76؛ مقالات الاُصول 1: 162؛ نهاية الدراية 1: 152.
2- بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 163 / السطر 21؛ قوانين الاُصول 1: 67 / السطر 23.

أدلّة الامتناع والجواب عنها

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1) وتبعه بعضهم(2):

من لزوم اجتماع اللحاظين الآليين في اللفظ، وهو محال.

ويمكن بيان الملازمة بوجهين:

أحدهما: ما يظهر منه، وهو أنّ الاستعمال هو جعل اللفظ فانياً في المعنى، فيكون لحاظه تبعاً للحاظه، فإذا استعمل في المعنيين يكون تبعاً لهما في اللحاظ، فيجتمع فيه اللحاظان التبعيان الآليان(3).

ثانيهما: أنّ في كلّ استعمال لا بدّ من لحاظ اللفظ والمعنى؛ ضرورة أنّه مع الذهول عن واحد منهما لا يمكن الاستعمال، ففي الاستعمال في معنيين لا بدّ من لحاظهما ولحاظ اللفظ مرّتين، فاجتمع اللحاظان الآليان فيه.

وبيان استحالة اجتماعهما فيه: هو أنّ تشخّص الملحوظ بالذات إنّما هو باللحاظ، كما أنّ تعيّن اللحاظ بالملحوظ، فإذا اجتمع اللحاظان في شيء واحد يلزم أن يكون الشيء شيئين والموجود موجودين.

وبعبارة اُخرى: أنّ العلم والمعلوم بالذات شيء واحد ذاتاً، ولحاظ الشيء هو العلم به، وتعلّق العلمين بمعلوم واحد مستلزم لكون الواحد اثنين والمعلوم معلومين.

ص: 132


1- كفاية الاُصول: 53.
2- أجود التقريرات 1: 76؛ مقالات الاُصول 1: 162.
3- كفاية الاُصول: 53.

ومنه يتّضح عدم إمكان الجمع في الملحوظ بالعرض؛ لأ نّه تابع للملحوظ بالذات في اللحاظ، فيلزم من اجتماع اللحاظين في الملحوظ بالذات كون الملحوظ بالعرض معلوماً في حال واحد مرّتين ومنكشفاً في آنٍ واحد انكشافين، وهو محال.

والجواب هو منع الملازمة:

أمّا على التقرير الأوّل: فلأنّ المراد من تبعية لحاظ اللفظ للمعنى إن كان بمعنى أنّ المتكلّم يتصوّر المعنى فينتقل منه إلى اللفظ، فلا نسلّم أنّه يجب أن ينتقل من تصوّر المعنيين انتقالين مستقلّين إلى اللفظ، بل ينتقل منهما إليه انتقالاً

واحداً، كالانتقال من اللازمين لشيء واحد إليه، وكون الانتقال إلى الملزوم غير آلي لا يوجب الفرق. هذا حال المتكلّم.

وأمّا السامع فيكون انتقاله، من اللفظ إلى المعنى وإن كان اللفظ آلياً منظوراً به والمعنى مقصوداً بالذات ومنظوراً فيه، لكنّه في هذا الانتقال يكون المعنى تبعاً متأخّراً، فالسامع يسمع اللفظ ويحضر هو في نفسه ويدركه وينتقل منه إلى المعنى، ولا يعقل أن ينتقل إلى المعنى قبل اللفظ، كما أنّ الناظر إلى الكتاب يدرك المكتوب أوّلاً، ومنه يدرك المعنى وإن كان الأوّل آلةً للثاني. فكما إذا سمعنا من متكلّمين دفعة لفظاً ننتقل منه إلى معناه بالضرورة، ولا يلزم منه الجمع بين اللحاظين المستقلّين في المعنى، فكذلك في ناحية اللفظ.

وبالجملة: لا يلزم من تبعية الانتقال جمع اللحاظين والانتقالين في اللفظ، كما لا يلزم في المعنى في المثال.

ص: 133

وإن كان المراد من التبعية سراية اللحاظ من المعنى إلى اللفظ؛ حتّى يكون في الاستعمال في المعنيين سرايتان، فهو ممنوع بل غير معقول؛ للزوم انقلاب اللحاظ الاستقلالي آلياً.

وإن كان المراد أنّ اللفظ ملحوظ ثانياً وبالعرض؛ حتّى يكون لحاظ واحد يستند إلى المعنى بالذات وإلى اللفظ بالعرض، فهو - مع كونه خلاف الواقع وخلاف المفروض - لا يلزم منه اجتماع اللحاظين؛ لعدم اللحاظ في اللفظ حقيقة.

وأمّا على التقرير الثاني ؛ فلأنّ غاية ما يكون لازماً في الاستعمال أن لا يكون اللفظ غير ملحوظ مطلقاً ولو آلياً، وأمّا لزوم ملحوظيته في كلّ استعمال لحاظاً على حدة فلم يدلّ عليه دليل. فجعل اللفظ آلة لإفهام المعنيين هو استعماله فيهما، ولا بدّ من لحاظ اللفظ آلياً في هذا الاستعمال، ولا يلزم منه اللحاظان. ألا ترى أنّ قوى النفس كالباصرة والسامعة آلات لإدراكاتها، وتدرك بها المبصرات، وقد تبصر الشيئين وتسمع الصوتين في عرض واحد، ولا يلزم منه أن يكون للآلة حضوران لدى النفس؟!

الثاني من وجوه الامتناع: أنّ الاستعمال هو جعل اللفظ بكلّيته قالباً للمعنى، ولا يمكن أن يكون مع ذلك قالباً لمعنىً آخر؛ للزوم كون شيء واحد شيئين(1).

وفيه: أنّ الاستعمال ليس إلاّ جعل اللفظ آلة لإفادة المعنى، فإن كان هذا هو المراد من جعله قالباً وفانياً ومرآةً ووجهاً وعنواناً للمعنى إلى غير ذلك من

ص: 134


1- حاشية كفاية الاُصول، المشكيني 1: 209.

التعبيرات، فلا دليل على امتناع كون شيء واحد قالباً لشيئين أو فانياً فيهما؛ أي يكون اللفظ منظوراً به والمعنيان منظوراً فيهما، وإن كان المراد شيئاً آخر فلا بدّ من بيانه ووجه امتناعه.

وأمّا فناء اللفظ بحسب وجوده الواقعي في المعنى؛ بحيث لا يبقى واقعاً إلاّ شيئية المعنى، فهو أمر غير معقول؛ لأنّ اللفظ له فعلية، وما كان كذلك لا يمكن أن يفنى في شيء.

وما قرع بعض الأسماع من الفناء في بعض الاصطلاحات، فهو أمر موكول إلى أهله(1)

غير مربوط بمثل المقام.

الثالث: أنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ؛ لأنّ اللفظ وجود حقيقي لطبيعي اللفظ بالذات ووجود تنزيلي للمعنى بالجعل والتنزيل، وحيث إنّ الموجود الخارجي بالذات واحد، فلا مجال لأن يقال: بأنّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنى خارجاً ووجود آخر لمعنىً آخر؛ حيث لا وجود آخر ينسب إلى الآخر بالتنزيل(2).

وفيه: أنّ هذا أشبه بالخطابة من البرهان؛ فإنّ معنى كون اللفظ وجوداً للمعنى أنّه لفظ موضوع له، ولا يلزم من وضعه للمعنيين أو استعماله فيهما كونه موجودين وله وجودان.

وإن شئت قلت: كون شيء واحد وجوداً تنزيلياً لألف شيء ممّا لا مانع منه، ولا يلزم منه التكثّر في الوجود الواقعي.

ص: 135


1- راجع الفتوحات المكّية 2: 512؛ شرح منازل السائرين، القاساني: 574.
2- نهاية الدراية 1: 152.

وأمّا ما قيل في وجه الامتناع: من استحالة تصوّر النفس شيئين، واستحالة كون اللفظ علّة لحضور المعنيين في الذهن؛ لامتناع صدور الكثير من الواحد.

ففيه ما لا يخفى، مع قيام الضرورة بجواز تصوّر شيئين معاً، وإلاّ لصار التصديق والحكم بكون شيء شيئاً أو لشيء ممتنعاً، ودلالة اللفظ على المعنى ليست من قبيل صدور شيء عن شيء، وهو واضح.

ثمّ إنّه قد فصّل بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه (1) بين ما إذا كان الاستعمال في أكثر من معنىً بنحو يكون كلّ واحد من المعنيين ملحوظاً بلحاظ خاصّ به، فاختار فيه الامتناع وقرّر وجهه بما قرّره المحقّق الخراساني، وقد مرّ الجواب عنه(2)،

وبين ما إذا كان الاستعمال في المعنيين بلحاظ واحد بنحو يكون اللفظ حاكياً عن مفهومين ملحوظين بلحاظ واحد، فاختار الجواز فيه.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ وحدة اللحاظ إن رجعت إلى لحاظ المعنيين بعنوان واحد واستعمال اللفظ فيه، فهذا ليس محلّ النزاع قطعاً، كما اعترف به أيضاً(3).

وإن كان المراد أنّ المعنيين - مع كون كلّ واحد منهما ملحوظاً ومستعملاً فيه - يكونان ملحوظين بلحاظ واحد، كما هو ظاهر كلامه.

ففيه: أنّ اللحاظ والملحوظ هو العلم والمعلوم، وكثرة المعلوم تستتبع كثرة العلم، فلا يمكن أن يكون الملحوظ بما هو ملحوظ متعدّداً واللحاظ واحداً؛

ص: 136


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 146 و150.
2- تقدّم في الصفحة 133.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 146.

للزوم موجودية المتكثّر بما هو متكثّر بوجود واحد، فإنّ لحاظ الشيء هو وجوده في الذهن، ففرض كون الشيئين موجودين في الذهن مع وحدة اللحاظ، فرض توحيد الكثير مع كثرته. نعم، يمكن أن توجد عناوين كثيرة بوجود واحد، لكنّه غير مربوط بما نحن فيه.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ هذا التفصيل ممّا لا وجه له، كما أنّ القول بالامتناع أيضاً كذلك. هذا، مع وقوعه في كلمات الشعراء والبلغاء.

وأمّا المنع من قِبل الواضع(1)

أو الوضع(2)،

فجوابه واضح لا يحتاج إلى التطويل.

ص: 137


1- اُنظر بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 163 / السطر 28؛ وقاية الأذهان: 97.
2- الفصول الغروية: 55 / السطر 3؛ بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 163 / السطر 21.

الأمر الرابع عشر في المشتقّ

اشارة

اختلفوا في أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال(1)،

أو

الأعمّ منه وممّا انقضى عنه(2).

وقبل تحقيق المقام لا بدّ من تقديم اُمور:

الأوّل: في كون النزاع لغوياً

لا إشكال في أنّ النزاع في المشتقّ إنّما هو في أمر لغوي؛ أي في أنّ لفظ المشتقّ هل وضع للمتلبّس الفعلي أو الأعمّ منه؟ لا في أمر عقلي؛ ضرورة عدم احتمال أحد أنّ من كان عالماً في زمان وانقضى عنه المبدأ يكون بحكم العقل صادقاً عليه عنوان العالم، فلو لم يكن وضع لم يحتمل أحد تحقّق حقيقة في ظرف عدمها.

ص: 138


1- قوانين الاُصول 1: 76 / السطر 8؛ كفاية الاُصول: 64.
2- مبادئ الوصول إلى علم الاُصول: 67.

فما ذكره بعضهم(1) في وجه الخلاف: من ابتنائه على اختلاف نظرهم في حمل المواطاة والاشتقاق، كما ذكره بعض الأعاظم(2) في سرّ اتّفاقهم على المجاز في المستقبل، وسرّ عدم جريان النزاع في أسماء الذوات من الأجناس والأنواع والأعلام، ممّا يظهر منه أنّ النزاع عقلي، ليس على ما ينبغي، كما يأتي الكلام فيه.

الثاني: في العناوين الداخلة في محلّ النزاع

إنّ العناوين الجارية على الذوات لا تخلو:

إمّا أن تكون منتزعة من نفسها من غير دخالة شيء مطلقاً، كالذاتيات المنتزعة منها، ومنها عنوان الوجود والموجود بالنسبة إلى نفس الوجودات الخارجية. وبالجملة: كلّ عنوان بالقياس إلى مصداقه الذاتي أو كمصداقه الذاتي.

وإمّا أن تكون منتزعة باعتبار شيء وجودي كالعالم والأبيض، أو اعتباري كالإمكان؛ فإنّه غير منتزع من نفس الذات بما هي، بل باعتبار تساوي نسبتي الوجود والعدم إليها، وكالملكية والزوجية والرقّية وأمثالها، أو باعتبار أمر عدمي كالإمكان لو قلنا بأ نّه سلب الضرورتين عن الذات سلباً تحصيلياً، وكالأعمى والاُمّي.

ثمّ إنّ العنوان قد يكون ملازماً للذات خارجاً أو خارجاً وذهناً، وقد

ص: 139


1- هو المحقّق الطهراني رحمه الله صاحب «محجّة العلماء». اُنظر نهاية الدراية 1: 164.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 82 - 84.

لا يكون كذلك كالمفارقات من الأعراض. وأيضاً قد تكون العناوين من المشتقّات كالناطق والممكن والموجود، وقد لا تكون كالإنسان والماء والنار والزوج والرقّ.

لا إشكال في عدم جريان النزاع في العناوين الغير الاشتقاقية الصادقة على الذوات بذاتها كالماء والنار والإنسان والحيوان، لا لما ذكره بعض الأعاظم رحمه الله علیه : من أنّ شيئية الشيء بصورته لا بمادّته، فإذا تبدّل الإنسان بالتراب لم يبق ملاك الإنسانية، والمادّة الباقية ليست متّصفة بالإنسانية في وقت(1)؛ لأنّ ذلك منقوض بمثل الخلّ والخمر والماء والجمد ممّا يرى العرف بقاء الذات وتغيّرها في الصفات.

مع أنّ البحث ليس عقلياً حتّى يأتي فيه ما ذكر، وإلاّ فمع انقضاء المبدأ لم يبق ملاك الاتّصاف بالضرورة، ومجرّد الاتّصاف في وقت لا يصحّح الملاك، ومع لغوية النزاع فلم لا يجوز أن يوضع لفظ الكلب - مثلاً - للهيولى الثانية المتلبّسة بصورة الكلب في زمان وإن زال عنوانه وبقيت الهيولى مع صورة اُخرى؟ ألا ترى أنّ العرف والعقل متّفقان على أنّ الملح المنقلب إليه كان كلباً وصار ملحاً؟!

فعدم الجريان فيها ليس لما ذكره، بل لتسالم العرف وأهل اللغة على كونها موضوعة لنفس تلك العناوين، لا للذات المتلبّسة بها ولو في وقت، بخلاف المشتقّات؛ فإنّها محلّ بحث وكلام.

ولا ينبغي الإشكال في جريان النزاع في المشتقّات - سواء كانت منتزعة من

ص: 140


1- أجود التقريرات 1: 79؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 83.

نفس الذات كالموجود من الوجود، أو لا، وسواء كان المبدأ لازم الذات بحيث تنتفي بانتفائه كالممكن، أو مقوّماً للموضوع كالموجود بالنسبة إلى الماهية، أو لا - لأنّ محلّ النزاع في المشتقّ هو الهيئات، ووضعها نوعي من غير لحاظ كلّ مادّة مادّة معها، فزنة الفاعل وضعت نوعياً للاتّصاف الخاصّ مثلاً، من غير نظر إلى الموادّ كلّ برأسها، ومن غير أن تكون في كلّ مادّة موضوعة على حدة، ومن غير نظر إلى خصوصيات المصاديق.

فالقول - بأنّ مثل الناطق والضاحك والممكن والموجود خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ تلك العناوين ليس لها معنون باقٍ بعد انقضاء المبدأ عنه(1) - بعيد عن الصواب؛ لأنّ محلّ النزاع زنة الفاعل والمفعول وغيرهما من المشتقّات.

وأمّا العناوين العرضية التي تنتزع من الذات باعتبار أمر وجودي أو اعتباري أو عدمي ممّا ليست اشتقاقية، فميزان جريان البحث فيها هو جواز بقاء الذات مع انقضاء المبدأ فيما إذا كان الوضع شخصياً، ومطلقاً فيما إذا كان نوعياً، كهيئة الانتساب مثل الحمّامي والسلماني والطهراني وأمثالها.

كلام فخر المحقّقين في الرضاع

والدليل على جريان النزاع في مثل تلك العناوين الغير المشتقّة: ما حكي عن فخر المحقّقين(2) والشهيد(3) في مسألة من كانت له زوجتان

ص: 141


1- أجود التقريرات 1: 78 - 79.
2- إيضاح الفوائد 3: 52.
3- مسالك الأفهام 7: 269.

كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة؛ من ابتناء تحريم المرضعة الثانية على النزاع في المشتقّ.

فعن «الإيضاح»: «أنّ تحريم المرضعة الاُولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع، وأمّا المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنّف(1)

وابن إدريس(2)

تحريمها؛ لأنّ هذه يصدق عليها أنّها اُمّ زوجته؛ لأ نّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء المشتقّ منه»(3)، هذا.

وقد يقال: إنّ تسليم حرمة المرضعة الاُولى والخلاف في الثانية مشكل لاتّحادهما في الملاك، وذلك لأنّ اُمومة المرضعة الاُولى وبنتية المرتضعة متضايفتان متكافئتان في القوّة والفعلية، وبنتية المرتضعة وزوجيتها متضادّتان شرعاً، ففي مرتبة حصول اُمومة المرضعة تحصل بنتية المرتضعة، وتلك المرتبة مرتبة زوال زوجية المرتضعة، فليست في مرتبة من المراتب اُمومة المرضعة مضافة إلى زوجية المرتضعة؛ حتّى تحرم بسبب كونها اُمّ الزوجة(4).

واُجيب عنه: بأنّ الرضاع المحرّم علّة لتحقّق عنوان الاُمومة والبنتية، وعنوان البنتية للزوجة المرتضعة علّة لانتفاء عنوان الزوجية عنها، فانتفاء عنوان الزوجية عن المرتضعة متأخّر رتبة عن عنوان البنتية لها، ولا محالة أنّها تكون زوجة في رتبة عنوان البنتية؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، ففي تلك المرتبة

ص: 142


1- قواعد الأحكام 3: 25.
2- السرائر 2: 556.
3- إيضاح الفوائد 3: 52.
4- نهاية الدراية 1: 168.

تجتمع الزوجية والبنتية واُمومة الزوجة(1).

أقول: الظاهر من فخر المحقّقين أنّ تحريم المرضعة الاُولى والمرتضعة ليس منوطاً بالنزاع في المشتقّ؛ لتحقّق الإجماع على حرمتهما، كان المشتقّ موضوعاً للمتلبّس أو الأعمّ منه، بل يمكن استفادة حرمتهما من صحيحتي محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام (2)، والحلبي عن أبي عبدالله علیه السلام (3) - واللفظ من أوّلهما - قالا: «لو أنّ رجلاً تزوّج جارية رضيعة، فأرضعتها امرأته فسد النكاح».

وأمّا حرمة الثانية فليست إجماعية، ولعلّه استشكل في النصّ الوارد فيها - وهو رواية ابن مهزيار المصرّحة بحرمة المرضعة الاُولى دون الثانية(4) - بالإرسال وضعف السند(5).

فحينئذٍ تكون المسألة عنده غير منصوصة ولا إجماعية، فتكون مبنيّة على النزاع في المشتقّ، ولم يظهر منه أنّ المسألة الاُولى خارجة عن بحث المشتقّ لولا الإجماع والنصّ. فالإشكال عليه - بأنّ تسليم حرمة المرضعة

ص: 143


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 161.
2- الفقيه 3: 306 / 1472؛ وسائل الشيعة 20: 399، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 10، الحديث 1.
3- الكافي 5: 444 / 4؛ وسائل الشيعة 20: 399، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 10، الحديث 1.
4- الكافي 5: 446 / 13؛ وسائل الشيعة 20: 402، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 14، الحديث 1.
5- إيضاح الفوائد 3: 52.

الاُولى والخلاف في الثانية مشكل(1) - كأ نّه في غير محلّه، ودعوى وحدة الملاك(2)

غير مسموعة.

نعم، لولا الإجماع كانت الاُولى أيضاً من مصاديق محلّ النزاع، ولا يدفع الإشكال بما تقدّم؛ لأنّ بنتية المرتضعة ليست علّة تكوينية لرفع الزوجية، بل لا بدّ في استفادة العلّية أو التمانع بين الزوجية والبنتية من الأدلّة الشرعية، وظاهرها عدم اجتماع الزوجية مع العناوين المحرّمة، فقوله: )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ...((3) إلى آخره ظاهر في أنّ الاُمّ وغيرها من العناوين لا تصير زوجة، وهذا ينافي اجتماعهما في آنٍ أو رتبة.

وأمّا ما أفاده صاحب «الجواهر»(4) في دفع الإشكال: بأنّ آخر زمان الزوجية متّصل بأوّل زمان صدق الاُمّية، ولعلّ هذا كافٍ في الاندراج تحت )اُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ((5).

ففيه: أنّ الصدق مسامحي لا حقيقي إلاّ بناءً على وضع المشتقّ للأعمّ.

ثمّ إنّ الظاهر عدم وجود عنوان «اُمّ الزوجة» في النصوص، بل الموجود «اُمّهات النساء»، ولا إشكال في عدم جريان نزاع المشتقّ فيه، فالكلام ساقط من أصله.

ص: 144


1- نهاية الدراية 1: 168.
2- نفس المصدر.
3- النساء (4): 23.
4- جواهر الكلام 29: 330.
5- النساء (4): 23.

الثالث: في خروج أسماء الزمان عن محطّ البحث

الظاهر خروج اسم الزمان عن محطّ البحث؛ لعدم بقاء الذات مع انقضاء المبدأ فيه، واُجيب عن الإشكال بوجوه غير مقنعة:

منها: ما قال المحقّق الخراساني: من أنّ انحصار مفهوم عامّ بفرد - كما في المقام - لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العامّ، كالواجب الموضوع للمفهوم العامّ مع انحصاره فيه تعالى(1).

وفيه: أنّ الوضع إنّما هو للاحتياج إلى إفهام المعنى، وليس له موضوعية، فالوضع لمعنىً غير محتاج إليه رأساً لغو، والواجب مفهوم عامّ له مصاديق كثيرة لا ينحصر فيه تعالى، بل ما ينحصر فيه تعالى هو الواجب بالذات، وهو غير موضوع، بل الموضوع هو المفردات، ولفظ الجلالة علم لذاته تعالى، مع أنّه على فرض وضعه للذات الجامعة للكمالات لعلّه للاحتياج إلى الاستعمال أحياناً، وكذا في مثل لفظ الشمس والقمر على فرض عدم كونهما علمين.

وأمّا الذات الباقية في الزمان مع انقضاء المبدأ عنها فلا يكون لها مصداق خارجي، ولا يتصوّر له مصداق عقلي مع حفظ ذاته؛ فإنّه متصرّم متقضٍّ بالذات، فلا احتياج لإفهام ما لا يتصوّر له وجود ولا يتعقّل له مصداق.

وبالجملة: ماهية الزمان آبية عن البقاء مع انقضاء المبدأ، فلا تقاس

ص: 145


1- كفاية الاُصول: 58.

بمفهوم الذات الجامعة للصفات أو الشمس والقمر؛ فإنّ مفاهيمها بما هي لا تأبى عن الكثيرين.

ومنها: ما قاله بعض الأعاظم: من أنّ اسم الزمان موضوع لمعنىً كلّي له أفراد غير مجتمعة في الوجود، فالمقتل موضوع لزمان كلّي متّصف بالقتل، وهو باقٍ بوجود فرد آخر(1).

هذا، وهو لا يخلو من غرابة؛ لأنّ اسم الزمان موضوع لكلّ زمان يكون وعاء الحدث، لا لكلّ زمان مطلقاً، ومعلوم أنّ وعاءه هو الزمان الخارجي، وهو غير باقٍ، والموجود في عام آخر مصداق لعنوان آخر مثل عاشر المحرّم، وهو موجود آخر ولو اعتباراً(2)،

فالكلّي القابل للصدق على الكثيرين ليس وعاءً للحدث، وما هو وعاؤه هو الموجود الخارجي، وهو غير باقٍ.

ومنها: ما قاله بعض آخر: وهو أنّ الزمان هوية متّصلة باقية بالوحدة الوجودية، وإلاّ لزم تتالي الآنات وهو مستحيل كاستحالة الجزء، وعليه يكون الزمان بهويته ووحدته باقياً وانقضى عنه المبدأ، ولولا كون الألفاظ موضوعة للمعاني العرفية لقلنا بصدق اسم الزمان على الهوية الزمانية إلى آخر الأبد، فكان مقتل يحيى والحسين علیهما السلام صادقاً على الزمان إلى الأبد، لكن العرف بعد حكمه بأنّ للزمان بقاءً ووحدة قسّمه إلى أقسام حسب احتياجاته أو العوارض الخارجية كالنهار والليل والفصول، فحينئذٍ إذا وقع قتل في حدّ من

ص: 146


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 89.
2- وإنّما قلنا: «اعتباراً»؛ لأنّ الزمان هوية متّصلة إلى الأبد، وتقسّماته إلى الأيّام والشهور اعتبارية حسب احتياج البشر. منه عفي عنه.

حدود اليوم يرى العرف اليوم باقياً إلى الليل ومتلبّساً بالمبدأ ومنقضياً عنه مع بقائه، فيطلق المقتل على اليوم بعد انقضاء التلبّس، كإطلاقه «العالم» على «زيد» بعد انقضاء العلم(1).

وفيه: أنّ العرف كالعقل كما يحكم بالوحدة الاتّصالية للزمان يرى تجدّده وتصرّمه وعدم اجتماع لاحقه بسابقه، فللزمان هوية اتّصالية لكنّها متصرّمة متقضّية، فاليوم لدى العرف عبارة عن هوية باقية لكن على نحو التصرّم، لا بمعنى كون حدّه الأوّل باقياً إلى آخره، فيرى أوّله غير وسطه وآخره، فإذا حدثت في أوّل اليوم حادثة لا يرى زمان الوقوع باقياً وقد زال عنه المبدأ، بل يرى اليوم باقياً وزمان الوقوع منقضياً.

وبالجملة: البقاء الذي يعتبر في المشتقّ هو بقاء الشخص الذي يتلبّس بالمبدأ عيناً، وهو غير باقٍ في الزمان، والبقاء التصرّمي التجدّدي لا يدفع الإشكال.

نعم، لو كان في نظر العرف بقاء الزمان كالزماني كان الإشكال مرتفعاً، لكنّه ليس كذلك عرفاً ولا عقلاً.

ومنها: ما احتمل بعضهم: من أنّ اسم الزمان موضوع لوعاء الحدث؛ من غير خصوصية الزمان والمكان، فيكون مشتركاً معنوياً للجامع بينهما، فحينئذٍ وضع الهيئة للأعمّ ممّا لا مانع منه، فيأتي النزاع فيه(2).

وفيه: أنّه لا جامع ذاتي بين الزمان والمكان، وكذا بين وعائيتهما للمبدأ؛ فإنّ الوقوع في كلّ على نحو يباين الآخر، فلا بدّ من انتزاع جامع عرضي بينهما،

ص: 147


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 162 - 164.
2- نهاية الدراية 1: 172؛ نهاية الاُصول: 72.

كمفهوم الوعاء أو الظرف مثلاً، والالتزامِ بوضعه له.

مع أنّه خلاف المتبادر من أسماء الزمان والمكان؛ ضرورة أنّه لا يفهم من لفظ المقتل مفهوم وعاء الحدث أو مفهوم ظرفه، بل لو كان الوعاء جامعاً ذاتياً بينهما أيضاً، لم يوضع اسمهما له لما ذكر.

فالظاهر أنّ أسماء الزمان والمكان مشتركة لفظاً، بل يختلج في الذهن أنّ الوعائية والظرفية بالنسبة إلى الزمان ليست على نحو الحقيقة، بل اُطلقت عليه بدعوى كون الزمان كالمكان محيطاً بالزماني إحاطة المكان بالمتمكّن.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ أسماء الزمان خارجة عن محطّ البحث؛ لعدم ملاكه فيها.

الرابع: في وضع المشتقّات

وفيه جهات:

الاُولى: في كيفية وضع المادّة

التحقيق: أنّ لمادّة المشتقّات السارية فيها وضعاً مستقلاًّ، ولا يمكن أن يكون المصدر أو اسمه مادّة لها؛ لتأبّي هيئتهما عن ورود هيئة اُخرى عليهما، ولولا وضع المادّة لكان الوضع الشخصي لا بدّ منه في جميع الاشتقاقات؛ لعدم محفوظية ما يدلّ على المادّة لولا وضعها - ووضع المادّة شخصي، ولا مشاحّة لو قيل [بسبب] تطوّرها بالهيئات: إنّ وضعها نوعي(1) - والالتزام

ص: 148


1- نهاية الأفكار 1: 125؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 156.

بالوضع الشخصي لها في جميع الهيئات خلاف الوجدان والضرورة، بل يلزم اللغوية منه.

مع أنّا قد نعلم معنى مادّة ونجهل معنى الهيئة، كما لو فرض الجهل بمعنى هيئة اسم الآلة في «مضراب» مع العلم بمعنى «الضرب»، فلا إشكال في أنّا نفهم أنّ للضرب هاهنا تطوّراً وشأناً، وليس هذا إلاّ للوضع.

كما أنّ دلالة الهيئة على معناها مع الجهل بمعنى المادّة دليل على وضعها مستقلاًّ نوعياً، مع أنّ بعض المصادر قياسي، فلا بدّ له من مادّة سابقة.

لا يقال: إنّ الموادّ المجرّدة عن كافّة الهيئات ليست من مقولة اللفظ؛ لعدم إمكان النطق بها، فلا معنى لوضعها.

مضافاً إلى أنّ المادّة إذا كانت موضوعة لنفس الحدث اللابشرط، يلزم منه كون اسم المصدر الموضوع له بعينه، بل المصدر - على ما هو المعروف بين أهل الأدب الموافق للتبادر من كونه موضوعاً للحدث(1) - غير مشتقّين من المادّة؛ لأنّ الهيئة لا بدّ لها من وضع وإفادة زائدين على المادّة.

هذا، مضافاً إلى أنّه على فرض وضع المادّة المجرّدة عن كافّة الهيئات، أنّه لو وجدت في ضمن هيئة غير موضوعة أيضاً، دلّت على معناها، مع أنّه خلاف الواقع.

فإنّا نقول: إنّ الموادّ موضوعة بالوضع التهيّئي لأن تتلبّس بهيئة موضوعة كذلك للإفادة والدلالة، ومثل ذلك لا يلزم أن يكون من مقولة اللفظ مستقلاًّ

ص: 149


1- شرح الرضي على الكافية 3: 399 و402؛ شرح ابن عقيل 1: 557؛ البهجة المرضيّة 1: 196.

وابتداءً، ولا ممّا يمكن به النطق كذلك، بل يكفي الإمكان ولو في ضمن هيئة ما.

وأمّا الفرق بينها وبين اسم المصدر الدالّ على نفس الحدث والمصدر بناءً عليه: أنّ هيئتهما يمكن أن تكون موضوعة لتمكين النطق بالمادّة؛ لإفادة نفس الحدث من حيث هو في مقابل سائر المشتقّات، فالمادّة موضوعة لنفس الحدث، لكن لا يمكن الإفادة بنفسها ولا النطق بها، والناس قد يحتاجون إلى إفادتها، فوضعت هيئتهما لا لمعنىً من المعاني، بل لكونهما آلة للنطق بالمادّة، فإفادة معنى الحدث إنّما هي بالمادّة المتحصّلة بهذه الصورة، لا بمعنى أنّ التحصّل بها دخيل في إفادة المعنى حتّى تكون المادّة المقيّدة دالّة، بل بما ذكرناه.

وممّا ذكرناه يتّضح أنّه يصحّ أن يقال: إنّ المصدر أو اسمه أصل المشتقّات؛ لأ نّهما كأ نّهما المادّة من غير زيادة.

وأمّا لزوم دلالة المادّة في ضمن أيّة هيئة ولو كانت لغواً، ففيه: أنّ المادّة بعد ما كانت موضوعة بالوضع التهيّئي للازدواج مع الهيئات الموضوعة للدلالة، يكون لها ضيق ذاتي، فلا تدلّ في ضمن غيرها، مع أنّ في كيفية دلالتها كلاماً يحلّ به الإشكال، يأتي عن قريب إن شاء الله.

لا يقال: وضع المادّة والهيئة مستقلاًّ ينافي بساطة المشتقّات، بل يلزم منه دلالتها على معنيين مستقلّين، وهو خلاف التحقيق بل الضرورة(1).

فإنّه يقال: هذا يلزم لو كانت المادّة والهيئة موجودتين بوجودين مستقلّين،

ص: 150


1- اُنظر وقاية الأذهان: 161.

ودالّتين على المعنى كذلك، وهو خلاف الواقع؛ فإنّ المادّة كما أنّها مندكّة في الصورة، وهي مزدوجة معها، فتركيبهما كأ نّه اتّحادي، تكون دلالتهما على المعنى كذلك، كما أنّ معانيهما كذلك، فبين معاني المشتقّات - كألفاظها ودلالتها - نحو اتّحاد، كاتّحاد المادّة والصورة، كما سنشير إليه(1).

وبهذا يظهر دفع ما يتوهّم من لزوم دلالة المادّة في ضمن الهيئات المهملة.

وأمّا ما عن سيّد مشايخنا المحقّق الفشاركي - رحمه الله تعالى - : «من أنّ المادّة ملحوظة أيضاً في وضع الهيئات، فيكون الموضوع هي المادّة المتهيّئة بالهيئة الخاصّة، وهو الوضع الحقيقي الدالّ على المعنى، وليس الوضع الأوّل إلاّ مقدّمة لهذا الوضع وتهيئة له، ولا نبالي بعدم تسمية الأوّل وضعاً؛ إذ تمام المقصود هو الوضع الثاني»(2)،

انتهى.

ففيه أوّلاً: لا معنى لعدم دلالة المادّة إذا كانت موضوعة للمعنى، ومجرّد كونه مقدّمة لا يوجب عدم الدلالة، فحينئذٍ يلزم ما هو أفحش، وهو التركيب مع تكرّر الدلالة؛ لتكرّر الوضع استقلالاً وتبعاً، تأمّل.

وثانياً: أنّ الوضع الثاني إن كان مع كلّ هيئة يلزم منه الوضع الشخصي، وهو مع بطلانه مغنٍ عن وضع المادّة مستقلاًّ، ووضعها مع مادّة ما - مع فساده في نفسه؛ لعدم وجود مادّة ما بالحمل الشائع، والالتزام بالحمل الأوّلي أفحش - لا يقطع الإشكال لولا الوضع في كلّ بخصوصه. فالتحقيق ما مرّ، فافهم واغتنم.

ص: 151


1- يأتي في الصفحة 167 - 168.
2- اُنظر وقاية الأذهان: 161 - 162.

الثانية: في وضع الهيئات

ولا يلزم من وضعها إمكان تصوّرها مجرّدة عن المادّة، بل يكفي تصوّرها في ضمن مادّة وتعلّق الوضع بها، فيقال: زِنة فاعل أو مفعول لكذا.

والمشتقّات: فعلية واسمية، والفعلية منها حاكيات كالماضي والمضارع، ومنها موجدات كالأوامر.

والتحقيق: أنّ هيئات الأفعال حروف لها معانٍ حرفية غير مستقلّة بالمفهومية ولا بالموجودية، ويكون وضعها - كالحروف - عامّاً والموضوع له خاصّاً على التفصيل الذي سبق في الحروف(1).

أمّا كون معانيها حرفية؛ فلأنّ هيئة الماضي وضعت للحكاية عن تحقّق صدور الحدث من فاعل على ما هو عليه من كون الصدور وتحقّقه يكون بتبع الفاعل، أو للحكاية عن الكون الرابط؛ أي حلول الحدث في الفاعل، كبعض الأفعال اللازمة، ك «حَسُن وقَبُح».

وبالجملة: الهيئات موضوعة لتحقّق المعاني الربطية بالحمل الشائع.

والفرق بين الماضي والمضارع: أنّ الأوّل يحكي عن سبق تحقّق الحدث، والثاني عن لحوقه، لكن لا بمعنى وضع اللفظ بإزاء الزمان الماضي والمستقبل، أو بإزاء السبق واللحوق، بل اللفظ موضوع لحصّة من التحقّق الملازم للسبق أو اللحوق لزوماً بيّناً؛ فإنّ الإيجاد بعد الفراغ عنه يكون سابقاً لا محالة، وإذا لم يتحقّق لكن يصير متحقّقاً، يكون لاحقاً لا محالة.

ص: 152


1- تقدّم في الصفحة 28.

ولا يبعد دلالتهما على السبق واللحوق بالمعنى الحرفي، فإنّهما بالحمل الشائع من الإضافات التي لا تكون موجودة إلاّ بتبع مناشئها، فيكون الماضي موضوعاً للصدور السابق بالإضافة بالحمل الشائع، ولا يخرج بذلك عن المعنى الحرفي، ولا يلزم التركيب.

ولكنّ التحقيق: أنّ دلالة الفعل على الحدث، وعلى سبق الصدور في الماضي، أو على لحوقه في المضارع، أو على البعث إلى الصدور، ليست دلالات مستقلّة متعدّدة، بل لها وحدة بنحو، فكما أنّ المادّة والهيئة كأ نّهما موجودتان بوجود واحد، كأ نّهما دالّتان دلالة واحدة على معنىً واحد قابل للتحليل.

بيان ذلك: أنّ تحقّق الصادر والصدور ليس تحقّقين، كما أنّ تحقّق الحالّ والحلول كذلك، لكنّهما قابلان للتحليل، وفي ظرفه يكون كلّ واحد منهما مستقلاًّ بالملحوظية، والأسماء الموضوعة لما في ظرفه مستقلّة في الدلالة، كالربط والمربوط، والصادر والصدور، والحالّ والحلول، وأمثالها.

ولا يكون في ظرف التحليل ربط بين الفاعل والفعل والموضوع والعرض، ولا تكون حكاية تلك الألفاظ عن الواقع على طبقه، لكن إذا لوحظ الواقع على ما هو عليه لا يكون تكثّر في الصدور والصادر والحالّ والحلول، ولا يكون في الخارج إلاّ الفاعل وفعله والموضوع وعرضه.

ف «زيد ضَرَبَ» يحكيان عن زيد وفعله في ظرف حصوله، فلا تكون لفظة «ضَرَبَ» دالّة على الحدث والحدوث والانتساب إلى الفاعل وسبق الصدور دلالات مستقلّة متكثّرة، بل لفظة واحدة ودلالة كذلك، لكن قابلة للتحليل، فكما

ص: 153

أنّ الجسم دالّ على معنىً واحد، لكن المعنى مركّب قابل للتحليل كذلك «ضَرَبَ»، والفرق بينهما: أنّ لفظ «ضَرَبَ» كمعناه مركّب من مادّة وصورة، وكذا دلالته على معناه دلالة واحدة منحلّة، دون لفظ «الجسم» ودلالته عليه، فكما أنّ وحدة حقيقة الجسم لا تنافي التحليل، كذلك وحدة فعل الفاعل ووحدة اللفظ الدالّ عليه، فافهم واستقم.

الثالثة: في كيفية دلالة الفعل المضارع على الحال

لا إشكال في اختلاف الفعل المضارع في الدلالة:

فمنه: ما يدلّ على المستقبل ولا يطلق على الحال، مثل: «يقوم» و«يقعد» و«يذهب» و«يجيء» و«يجلس»... إلى غير ذلك، فلا تطلق على المتلبّس بمبادئها في الحال.

ومنه: ما يطلق على المتلبّس في الحال بلا تأوّل، مثل: «يعلم» و«يحسب» و«يقدر» و«يشتهي» و«يريد».

ومنه: الأفعال التي مبادئها تدريجية الوجود.

وما يقال: من أنّ استعمال المضارع في التدريجيات باعتبار الأجزاء اللاحقة(1) - مع ممنوعيته؛ لعدم صحّة إطلاق الماضي عليها، فلا يقال: «صلّى» لمن يصلّي - لا يتمّ بالنسبة إلى الأمثلة المتقدّمة، ممّا كانت مبادئها دفعية ولها بقاء، فلا فرق من حيث المبدأ بين «يقدر» و«يعلم» وبين «يقوم» و«يقعد»، والالتزام بتعدّد الوضع بعيد.

ص: 154


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 60.

ولا يبعد أن يقال: إنّ هيئة المضارع وضعت للصدور الاستقبالي، لكنّها استعملت في بعض الموادّ في الحال حتّى صارت حقيقة فيه.

وهاهنا جهات اُخرى من البحث مرتبطة بالمشتقّات الاسمية، سيأتي التكلّم فيها في المشتقّ، كالمباحث المرتبطة بهيئته، يأتي كلّ في بابه.

الخامس: في اختلاف مبادئ المشتقّات

اختلاف مبادئ المشتقّات - من حيث كون بعضها حرفة وصنعة أو قوّة وملكة - لا يوجب اختلافاً في الجهة المبحوث عنها، وإنّما الفرق في أنحاء التلبّس والانقضاء، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في وجه هذه الاختلافات، فإنّا نرى أنّ مفهوم التاجر والصائغ والحائك وأمثالها يدلّ على الحرفة والصنعة، وأسماء الآلات والمكان قد تدلّ على كون الشيء معدّاً لتحقّق الحدث به أو فيه، فالمفتاح مفتاح قبل أن يفتح به، والمسجد مسجد قبل أن يصلّى فيه... وهكذا.

قد يقال: «إنّ هذه المشتقّات مستعملات في المعاني الحدثية كسائر المشتقّات، وإنّما الاختلاف في الجري على الذوات، فقولنا: هذا مسجد، وهذا مفتاح، كقولنا: هذا كاتب بالقوّة؛ حيث إنّ الكاتب مستعمل في معناه لا في الكاتب بالقوّة. وكذا الكلام في أسماء الأزمنة والأمكنة والآلات؛ فإنّ الجري فيها بلحاظ القابلية والاستعداد. وأمّا ما يدلّ على الحرفة، فسرّ الإطلاق [فيها] مع عدم التلبّس، أنّه باتّخاذه تلك المبادئ حرفة

ص: 155

كأ نّه صار ملازماً للمبدأ دائماً»(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه: أنّ تلك المشتقّات مع قطع النظر عن الجري والحمل تفيد معاني غير معاني المشتقّات المتعارفة، فالمسجد بمفهومه التصوّري يدلّ على المكان التهيّئي للعبادة، وكذا المفتاح، ولفظ التاجر والحائك بمفهومهما التصوّري يدلاّن على الحرفة، وإنكار ذلك مكابرة، فدلالة هذه على تلك المعاني غير مرتبطة بالجري والحمل.

فلا محيص بعد عدم الالتزام بتعدّد الأوضاع أن يقال:

أمّا في مثل التاجر والخيّاط - ممّا تدلّ على الحرفة والصنعة - فإنّها استعملت في تلك المعاني أوّلاً بنحو المجاز فصارت حقيقة إمّا باستعمال الموادّ في الصنعة والحرفة، أو استعمال مجموع المادّة والهيئة مجازاً؛ باعتبار أنّ المشتقّات كأ نّها كلمة واحدة مادّة وهيئة كسائر العناوين البسيطة.

وهذا أيضاً لا يخلو من بُعد، وحيث إنّ المتبادر منها الحرفة والصنعة لوحظت المناسبة بينها وبين المعنى الحقيقي، ولم تكن العناية المصحّحة فرض الفترات كالأعدام ورؤية المبدأ الفعلي حاصلاً؛ لكون ذلك خلاف المتبادر؛ فإنّا لا نفهم من التاجر ومثله إلاّ من كان حرفته كذلك، لا المشتغل بفعل التجارة دائماً، كما هو واضح.

وممّا ذكرنا يتّضح الحال في أسماء المكان والآلات، مع إمكان أن يقال: إنّ في مثل المسجد والمنبر والمحراب وأمثالها، انقلبت الوصفية إلى الاسمية،

ص: 156


1- نهاية الدراية 1: 184 - 185.

فكأ نّها أسماء أجناس لا يفهم العرف منها إلاّ ذات تلك الحقائق، ولا ينسبق إلى الذهن المبادئ رأساً، وكذا في أسماء الآلات.

بل يمكن أن يقال: إنّ المفهوم العرفي من مكان السجدة وآلة الفتح ليس إلاّ ما يعدّ لهما، لا المكان الحقيقي الذي اختلفت فيه آراء الحكماء والمتكلّمين، ولا الآلة الفعلية للفتح، فحينئذٍ يمكن أن يلتزم بأنّ هيئة اسم الآلة وضعت لها، وتكون هي في نظر العرف بمعنى ما يعدّ لكذا، وهيئة اسم المكان لمكان الحدث، والمكان لدى العرف ما يعدّ لتحقّق الشيء فيه، لكنّه لا يطّرد ذلك بالنسبة إلى الثاني، وإن لا يبعد بالنسبة إلى الأوّل.

وبعدُ فالمسألة لا تخلو من الإشكال.

السادس: في المراد ب- «الحال»

بعد ما أشرنا إلى أنّ الكلام في المشتقّ إنّما هو في المفهوم اللغوي التصوّري يتّضح أنّ المراد بالحال في العنوان ليس زمان الجري والإطلاق، ولا زمان النطق، ولا النسبة الحكمية؛ لأنّ كلّ ذلك متأخّر عن محلّ البحث، ودخالتها في الوضع غير ممكن، وبما أنّ الزمان خارج عن مفهوم المشتقّ لا يكون المراد زمان التلبّس، بل المراد أنّ المشتقّ هل وضع لمفهوم لا ينطبق إلاّ على المتّصف بالمبدأ أو لمفهوم أعمّ منه؟

وإن شئت قلت: إنّ العقل يرى بين أفراد المتلبّس فعلاً جامعاً انتزاعياً، فهل اللفظ موضوع لهذا الجامع أو الأعمّ منه؟

وممّا ذكرنا - من أنّ محطّ البحث هو المفهوم التصوّري - يدفع ما ربّما

ص: 157

يتوهّم: أنّ الوضع للمتلبّس بالمبدأ ينافي عدم التلبّس به في الخارج، خصوصاً إذا كان التلبّس ممتنعاً كالمعدوم والممتنع؛ للزوم انقلاب العدم والامتناع إلى الوجود والإمكان(1).

وذلك لأنّ التالي إنّما يلزم - على إشكال فيه - لو كان المعدوم مثلاً، وضع لمعنى تصديقي هو كون الشيء ثابتاً له العدم، ومعه يلزم الإشكال ولو مع الوضع للأعمّ أيضاً، وسيأتي(2)

أنّ مفاهيم المشتقّات ليست بمعنى «شيء ثبت له كذا»؛ حتّى يقال: إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

وعلى هذا لا نحتاج إلى التشبّث بأنّ الكون الرابط لا ينافي الامتناع الخارجي للمحمول(3)؛

فإنّ الإشكال لا يدفع بما ذكر؛ لأنّ الكون الرابط وإن كان لا ينافي كون المحمول عدماً أو ممتنعاً - على تأمّل فيه - لكن لا يمكن تحقّقه إذا كان الموضوع معدوماً أو ممتنعاً كما فيما نحن فيه، ففي مثل: «زيد معدوم» و«شريك الباري ممتنع» لا يمكن تحقّق الكون الرابط، وهذه القضايا في قوّة المحصّلات من القضايا السالبة.

السابع: في امتناع تصوير الجامع على الأعمّ

لا بدّ للقائل بالوضع للأعمّ من فرض جامع بين المتلبّس به والمنقضي عنه، ومع عدم تصويره تسقط دعواه من غير احتياج إلى إقامة البرهان؛ لأنّ مدّعى

ص: 158


1- اُنظر نهاية الدراية 1: 191.
2- يأتي في الصفحة 167.
3- نهاية الدراية 1: 191.

الأعمّي هو الوضع لمعنىً عامّ بنحو الاشتراك المعنوي، دون اللفظي ودون عموم الوضع وخصوص الموضوع له، فلا بدّ من جامع يكون هو الموضوع له.

مع أنّ الجامع الذاتي بينهما غير ممكن؛ لأنّ المدّعى أنّ الفاقد يصدق عليه المشتقّ في حال فقدانه لأجل التلبّس السابق لا الجري عليه بلحاظ حال التلبّس، فإنّه لا نزاع في أنّه حقيقة حتّى فيما سيأتي، ومعلوم أنّ الجامع بين الواجد والفاقد ممّا لا يعقل.

والجامع الانتزاعي البسيط أيضاً غير متصوّر؛ بحيث يدخل فيه الواجد والفاقد الذي كان متلبّساً، ويخرج منه ما سيتلبّس.

والجامع البسيط الذي ينحلّ إلى المركّب أيضاً غير معقول؛ لأنّ مثله إنّما يتصوّر فيما إذا كان الواقع كذلك، فإنّه مأخوذ منه.

فلا بدّ من الالتزام بالتركيب التفصيلي، وهو يرجع إلى الاشتراك اللفظي ولو بوضع واحد، وذلك من غير فرق بين القول بأخذ الذات في المشتقّ وعدمه، أو الزمان فيه وعدمه؛ لأنّ الذات بما هي ليست موضوعاً لها، وكذا الزمان، فلا بدّ من تقييدهما بالتلبّس وعدمه مع انقضائه خارجاً، ويعود محذور عدم الجامع مطلقاً والتركيب التفصيلي الراجع إلى الاشتراك اللفظي.

فليس للقائل بالأعمّ وجه معقول يعتمد عليه، وظنّي أنّ القائل به لمّا توهّم صحّة إطلاق بعض المشتقّات على المنقضي عنه المبدأ التزم بالأعمّ من غير توجّه إلى أن لا جامع بينهما.

ص: 159

التحقيق كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس

اشارة

إذا عرفت ما ذكر: اتّضح لك الأمر من كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس، مع أنّ التبادر هو الدليل الوحيد في مثل المقام الذي يكون البحث فيه لغوياً لا عقلياً،

وهو يساعد [على] المتلبّس به لا الأعمّ.

وصحّة السلب ترجع إليه كما تقدّم(1)، وكذا ما يقال من تضادّ الصفات المأخوذة من المبادئ المتضادّة على ما ارتكز لها من المعاني(2)؛ فإنّه لو لا التبادر لما كان بينها تضادّ ارتكازاً.

وقد يستدلّ بوجوه عقلية:

من أنّ الحمل والجري لا بدّ له من خصوصية؛ وإلاّ لزم حمل كلّ شيء على كلّ شيء، وهي نفس المبادئ القائمة بالذوات، ولا يمكن الحمل على الفاقد المنقضي عنه المبدأ، فلا بدّ للقائل بالأعمّ: إمّا إنكار الخصوصية في الجري، وهو خلاف الضرورة، أو دعوى بقاء الخصوصية بعد الانقضاء، وليس بعده شيء إلاّ بعض العناوين الانتزاعية، هذا.

وفيه: أنّ هذا الوجه إن رجع إلى التبادر فوجيه، بأن يقال: إنّ المشتقّ يتبادر منه المتلبّس بالفعل، وإلاّ فالحمل والجري متأخّران عمّا هو محلّ البحث،

ص: 160


1- تقدّم في الصفحة 82 - 83 و85.
2- كفاية الاُصول: 65.

فلو وضع اللفظ لمعنىً أعمّ يكون الحمل صحيحاً بعد الانقضاء على فرض تصوير الجامع.

ويتلوه ما قيل: من أنّ مفهوم الوصف بسيط: إمّا على ما يرى العلاّمة الدواني(1)

من اتّحاد المبدأ والمشتقّ ذاتاً واختلافهما اعتباراً، أو على نحو آخر، ومعه لا يعقل الوضع للأعمّ، ثمّ أخذ في الاستدلال على الامتناع(2).

وفيه: أنّ بساطة مفهوم المشتقّ وتركيبه فرع الوضع، وطريق إثباته التبادر لا العقل، وسيأتي الكلام في الوجوه العقلية التي أقاموها على البساطة(3).

وبالجملة: هذه المسألة اللغوية الراجعة إلى مفهوم اللفظ لا طريق لإثباتها إلاّ مباني إثبات سائر اللغات، والعقليات بمراحل عنها، إلاّ أن يكون المقصود تقريبات لإثبات التبادر، والحقّ تبادر المتلبّس، لا المعنى الأعمّ على فرض تصويره.

نقد الوجوه التي استدلّ بها للأعمّ

ثمّ إنّ الأعمّي قد استدلّ بوجوه، وهي مع عدم تصوير الجامع ممّا لا تغني من الحقّ شيئاً، مع عدم تماميتها في نفسها:

منها: دعوى التبادر في مثل «المقتول» و«المضروب»(4) حتّى التجأ بعض

ص: 161


1- شرح تجريد العقائد، القوشجي: 85، تعليقة المحقّق الدواني، ذيل قوله: «ويستفاد منه».
2- نهاية الدراية 1: 194 - 195.
3- يأتي في الصفحة 164.
4- اُنظر كفاية الاُصول: 67.

الأعاظم إلى إخراج اسم المفعول عن محطّ النزاع، قائلاً: إنّ اسم المفعول موضوع لمن وقع عليه الحدث، وهو أمر لا يعقل فيه الانقضاء(1).

وفيه: منع التبادر، وإنّما استعمال «المضروب» و«المقتول» وأمثالهما بلحاظ حال التلبّس، وإلاّ فالضاربية والمضروبية متضايفان عرفاً، فلا فرق بينهما. مع أنّ لقائل أن يعارضه ويقول: إنّ اسم الفاعل وضع لمن صدر منه الضرب، وهو أمر لا يعقل فيه الانقضاء.

ثمّ العجب منه رحمه الله علیه مع إشكاله في تصوير الجامع(2) التزم بالأعمّ.

ومنها: التمسّك بنحو قوله تعالى: )الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا...((3) إلى آخره و)السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا...((4) إلى آخره، بتقريب: أنّ الجلد والقطع إنّما هما ثابتان للزاني والسارق، ولولا صدقهما على المنقضي عنه لا موضوع لإجرائهما(5).

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ المفهوم من هذه الأحكام السياسية أنّ ما صار موجباً للسياسة هو العمل الخارجي، لا صدق العنوان الانتزاعي، فالسارق يقطع لأجل سرقته، وفي مثله يكون «السارق» و«الزاني» إشارة إلى من هو موضوع الحكم مع التنبيه على علّته، وهو العمل الخارجي لا العنوان الانتزاعي، فكأ نّه قال:

ص: 162


1- أجود التقريرات 1: 123 - 124.
2- أجود التقريرات 1: 115.
3- النور (24): 2.
4- المائدة (5): 38.
5- اُنظر مفاتيح الاُصول: 17 / السطر 8؛ هداية المسترشدين 1: 373.

الذي صدر منه السرقة تقطع يده لأجل صدورها منه.

ومنها: استدلال الإمام علیه السلام بقوله تعالى: )لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ((1) على عدم لياقة من عبد صنماً لمنصب الإمامة؛ ردّاً على من تصدّى لها مع كونه عابداً للصنم مدّة(2)،

والتمسّك يصحّ مع الوضع للأعمّ؛ فإنّهم غير عابدين للصنم حين التصدّي(3).

والجواب: أنّ الظلم يشمل المبادئ المتصرّمة وغيرها، ومنصب الإمامة أمر مستمرّ باقٍ، فلا بدّ معه من كون الموضوع هو الأشخاص ولو تلبّسوا بمثل المبادئ المتصرّمة، فمن ظهر منه قتل أو سرقة فتاب فوراً تشمله الآية؛ فإنّه ظالم في ذلك الحين، فهو غير لائق لمنصبها الذي [هو] أمر مستمرّ، فلا بدّ أن يراد منها: أنّ المتلبّس بالظلم ولو آناً لا يناله العهد مطلقاً، تأمّل.

ثمّ إنّ سوق الآية يشهد بأنّ الإمامة والزعامة والسلطنة على النفوس والأعراض والأموال، أمر مهمّ لا ينالها مثل إبراهيم خليل الرحمان - مع رسالته وخلّته - إلاّ بعد الابتلاء والامتحان والتمحيص وإتمامها، فمناسبة الحكم والموضوع وسوق الآية يشهدان بأنّ الظالم ولو آناً ما، والعابد للصنم ولو برهة من الزمان، غير لائقين لها.

بقي اُمور:

ص: 163


1- البقرة (2): 124.
2- الكافي 1: 174 / 1؛ معاني الأخبار: 131 / 1؛ الخصال: 310 / 84.
3- اُنظر مفاتيح الاُصول: 18 / السطر 11؛ هداية المسترشدين 1: 373؛ كفاية الاُصول: 68.

الأوّل: في بساطة المشتقّ وتركيبه

اختلف القوم في بساطة المشتقّ وتركيبه على أقوال، ومنشأ الاختلاف هو اشتمال المشتقّ على المادّة والهيئة الموضوعتين:

فمن رأى أنّهما دالّتان على المعنيين دلالة مستقلّة مفصّلة، ذهب إلى التركيب التفصيلي.

ومن رأى أنّ الهيئة وضعت لأجل قلب المادّة من البشرط لائية وتعصّي الحمل إلى اللا بشرطية الغير المتعصّية عنه، ذهب إلى البساطة المحضة الغير القابلة للانحلال العقلي(1).

ومن رأى أنّهما موضوعتان لمعنيين يكون نحو وجودهما في الخارج والذهن ومقام الدلالة والدالّية والمدلولية بنحو من الوحدة القابلة للتحليل، ذهب إلى البساطة القابلة له(2).

وظنّي أنّ المسألة ذات قولين، ولا أظنّ بأحد يرى التركيب التفصيلي. ثمّ إنّ القائلين بالتركيب اختلفوا في أنّ تركيبه من الذات والحدث والنسبة(3)، أو من الحدث والنسبة(4)،

أو الحدث والذات(5)...

إلى غير ذلك.

ص: 164


1- شرح تجريد العقائد، القوشجي: 85، تعليقة المحقّق الدواني، ذيل قوله: «ويستفاد منه»؛ أجود التقريرات 1: 99.
2- الفصول الغروية: 61 / السطر 30؛ مقالات الاُصول 1: 188؛ نهاية الأفكار 1: 144.
3- اُنظر الشواهد الربوبية: 43.
4- مقالات الاُصول 1: 190؛ نهاية الأفكار 1: 143.
5- شرح المطالع: 11 / السطر 13؛ الشواهد الربوبية: 44.

والظاهر أنّ القول بالبساطة المحضة يرجع إلى التركيب الانحلالي وإن غفل

عنه قائله؛ فإنّ غاية ما يمكن أن يتصوّر في ذلك هو أنّ الهيئة لم توضع لمعنىً، بل موضوعة لقلب المعنى الذي هو بشرط لا إلى لا بشرط، كما احتملنا في هيئة المصدر(1)

من كونها موضوعة للتمكين من النطق بالمادّة، وصيرورة المادّة الغير المتحصّلة متحصّلة قابلة للدلالة المستقلّة، وإلاّ فمفاد المصدر واسمه ليس إلاّ نفس طبيعة الحدث، وهي بعينها معنى المادّة، لكنّها غير متحصّلة ولا مستقلّة في الدلالة، وسيأتي مزيد توضيحه(2).

فمفاد المشتقّات الاسمية القابلة للحمل شيء بسيط واحد هو مفاد المادّة اللابشرط.

هذا غاية توجيه القول بالبساطة المحضة مع كون المادّة والهيئة موضوعتين.

وفيه: أنّ اللا بشرطية والبشرط لائية ليستا من الاعتبارات الجزافية؛ بحيث يكون زمامهما بيد المعتبر، فإن شاء اعتبر ماهية لا بشرط، فصارت قابلة للحمل وإن لم تكن في نفسها كذلك، وبالعكس.

بل التحقيق في جلّ المعقولات الثانوية والأوّلية أنّها نقشة لنفس الأمر والواقع، فالمفاهيم في كونها قابلة للحمل وعدمه تابعة لما في نفس الأمر، والألفاظ الموضوعة للمفاهيم تابعة لها ولنفس الأمر.

فالأجناس والفصول مأخذهما المادّة والصورة المتّحدتان بحسب الواقع، ولولا اتّحادهما كان حمل أحدهما على الآخر ممتنعاً ولو اعتبرا ألف مرّة

ص: 165


1- تقدّم في الصفحة 149 - 150.
2- يأتي في الصفحة 171.

لا بشرط، فالحمل هو الهوهوية، وهي حكاية عن الهوهوية النفس الأمرية.

فالجوهر والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والناطق مأخذها ومحكيّها هي الحقائق المتّحدة بعضها مع بعض من المادّة الهيولانية المترقّية في مدارج الكمالات إلى منزل الإنسان، ففي كلّ منزل تكون المادّة متّحدة مع الصورة، وهذا الاتّحاد مناط صحّة الحمل واللابشرطية في المفاهيم المأخوذة منهما. وللعقل أن يجرّد المادّة عن الصورة ويراهما بحيالهما ومنحازةً كلّ عن الاُخرى، وفي هذا اللحاظ التجريدي الانحيازي يكون مفهوم كلٍّ متعصّياً عن الحمل.

كما أنّ الصور المتدرّجة في الكمال إذا وقفت عند حدّ، تكون بشرط لا بالنسبة إلى الحدود الاُخر، والمفهوم المأخوذ منها بشرط لا بالنسبة إلى حدود اُخر، وإن كان لا بشرط بالنسبة إلى مصاديقه، فالشجر هو النبات الواقف؛ أي بشرط لا، والنامي هو الحقيقة المتدرّجة في الكمال؛ أي لا بشرط، والتفصيل موكول إلى محلّه(1).

والمراد أنّ اللا بشرطية والبشرط لائية ليستا جزافيتين تابعتين لاعتبار المعتبر، فحينئذٍ نقول: لا يمكن أن تكون الهيئة لنفس إخراج المادّة عن البشرط لائية إلى اللا بشرطية من غير أن تكون حاكية لحيثية بها صار المشتقّ قابلاً للحمل؛ فإنّ نفس الحدث غير قابل للحمل، ولم يكن متّحداً في نفس الأمر مع الذات، فقابلية الحمل تابعة لحيثية زائدة على الحدث

ص: 166


1- الحكمة المتعالية 2: 16 و37، و5: 282؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 350.

المدلول عليه بالمادّة، فلمادّة المشتقّات معنىً ولهيئتها معنىً آخر به صار مستحقّاً للحمل، وهذا عين التركيب.

تحقيق المقام

ثمّ إنّ التحقيق الموافق للارتكاز العرفي والاعتبار العقلائي: هو أنّ لفظ المشتقّ الاسمي القابل للحمل على الذوات - كأسماء الفاعل والمفعول وأضرابهما من أسماء المكان والزمان والآلة - موضوع لأمر وحداني قابل للانحلال إلى معنون مبهم وعنوان دون النسبة، كما يشهد به تسميتها باسم الفاعل واسم المفعول، ونعم التسمية.

فإنّا إذا سمعنا لفظ «الأبيض» و«الأسود» و«الضارب» و«المضروب» لا يقع في ذهننا إلاّ المعنون بها، لكن بنحو الوحدة، فنجد فرقاً بين معنى «الأبيض» وبين «الجسم»، وكذا بينه وبين «شيء له البياض» فكأ نّه أمر متوسّط بينهما.

فلفظ «الجسم» بسيط دالاًّ ودلالةً ومدلولاً، فلا يدلّ إلاّ على معنىً وحداني لا يكون في عالم الدلالة إلاّ وحدانياً غير قابل للانحلال.

وقوله: «شيء له البياض» أو «شيء معنون بالأبيضية»، يدلّ بالدلالات المستقلاّت المنفصلات على المعاني المفصّلة المشروحة.

وأمّا «العالم» فيدلّ على أمر وحداني منحلّ في عالم الدلالة إلى معنون وعنوان كأ نّهما مفهومان بدلالة واحدة، فيكون لفظ «العالم» دالاًّ على المعنون بما هو كذلك، لا بنحو التفصيل والتشريح، بل بنحو الوحدة، فالدلالة والدالّ والمدلول لكلّ منها وحدة انحلالية في عالم الدلالة والدالّية والمدلولية.

ص: 167

فانحلال «الجسم» إلى المادّة والصورة إنّما هو في ذاته لا بما أنّه مدلول لفظه، بخلاف «العالم»؛ فإنّ انحلاله إلى المعنون والعنوان انحلال مدلوله بما أنّه مدلوله،

فكما أنّ المادّة والهيئة في المشتقّات كأ نّهما موجودان بوجود واحد كذلك في الدلالة كأنّ دلالتهما دلالتان في دلالة واحدة، والمفهوم منهما مفهومان في مفهوم واحد، وفي نفس الأمر أيضاً كأ نّهما موجودان بوجود واحد، وهذا المفهوم - أي المعنون بما هو كذلك - قابل للصدق على الذات والحمل على الأفراد، فزيد في الخارج متّحد الوجود مع الضارب الذي مفاده بحسب التحليل المعنون بالضرب أو الضاربية.

استدلال المحقّق الشريف على بساطة المشتقّ ونقده

وأمّا ما عن المحقّق الشريف من الذهاب إلى البساطة بالبرهان المعروف(1)، فمع أنّه لا تثبت به البساطة - بل عدم أخذ الذات في المشتقّ، وهو أيضاً بصدد هذا، لا البساطة على ما ظهر من محكيّ كلامه - أنّ الإشكال في جعل الناطق بما له من المعنى فصلاً لا يرتفع ببساطة المشتقّ؛ فإنّ المبدأ في المشتقّ لا بدّ وأن يكون حدثاً أو ما بحكمه ممّا يجوز الاشتقاق منه، كالوجود وأمثاله على ما سيأتي(2)، فلا يمكن أن يكون المشتقّ بما له من المعنى فصلاً، بسيطاً كان أو

ص: 168


1- إنّ المحقّق الشريف استدلّ على بساطة المشتقّ بامتناع دخول الشيء في مفهوم الناطق؛ لاستلزامه دخول العرضي العامّ في الفصل المميّز. راجع شرح المطالع: 11 / السطر الأوّل من الهامش.
2- يأتي في الصفحة 177 - 178.

مركّباً، فما يظهر منه - من أنّه لو كان بسيطاً لارتفع الإشكال - ليس بشيء. ولو التزم بأنّ الناطق جعل فصلاً لا بما له من المعنى الاشتقاقي حقيقةً، لم يتمّ مدّعاه

من عدم أخذ الذات في المشتقّ.

ثمّ إنّ إشكاله - على فرض وروده - إنّما يتمّ إذا كان مفهوم المشتقّ مركّباً تفصيلياً من مثل الذات أو الشيء أو نحوهما دون ما ذكرنا.

توضيحه: أنّ الحدّ التامّ لا بدّ وأن يكون محدّداً ومعرّفاً للماهية على ما هي عليه في نفس الأمر، ولو تخلّف عنها في حيثية من الحيثيات لم يكن تامّاً، وماهية الإنسان ماهية بسيطة يكون جنسها مضمّناً في فصلها وفصلها في جنسها؛ لأنّ مأخذهما المادّة والصورة المتّحدتان، ولا بدّ أن يكون الحدّ مفيداً لذلك، فلو كانت أجزاء الحدّ حاكية عن أجزاء الماهية في لحاظ التفصيل لم يكن تامّاً.

فلا محيص عن أن يكون كلّ جزء حاكياً عن المحدود بما هو بحسب الواقع من الاتّحاد، وهو لا يمكن إلاّ بأن يكون الحيوان الناطق - المجعول حدّاً - حاكياً عن الحيوان المتعيّن بصورة الناطقية؛ أي المادّة المتّحدة بتمام المعنى مع الصورة، فالذات المبهمة المأخوذة على نحو الوحدة مع العنوان في المشتقّ صارت متعيّنة بالتعيّن الحيواني، فكأ نّه قال: الإنسان حيوان متلبّس بالناطقية، وكانت الناطقية صورة له، وهو متّحد معها، لا أنّه شيء والناطق شيء آخر، فتدبّر جيّداً.

وأمّا الشقّ الثاني من إشكاله، فمدفوع أيضاً بما ذكرنا من أنّ الشيء أو الذات أو المصاديق لم تؤخذ في مفهوم المشتقّ على نعت التفصيل، بل المفهوم منه

ص: 169

شيء واحد، فالإخبار بقوله: «زيد ضارب» إخبار عن ضاربيته، لا عن زيد وعن ضاربيته.

مع أنّه لو اُخذ تفصيلاً أيضاً لا يرد إشكاله؛ لأنّ قوله: «الإنسان إنسان له الضرب» قد يراد به إخباران: أحدهما عن إنسانيته، والثاني عن ضاربيته، فيصير قضيّتين ضرورية وممكنة، وأمّا لو لم يرد بذلك إلاّ الإخبار بضاربيته، فلا يكون الكلام إلاّ مسوقاً لإخبار واحد هو حكاية ضاربيته، ومعلوم أنّ قوله: «زيد ضارب» يراد به الإخبار بالضاربية.

ثمّ بعد اللتيّا والتي ليس إشكال «الشريف» عقلياً، بل هو تشبّث بالتبادر عند المنطقيين.

وقد يتمسّك لإثبات البساطة: بأنّ الضرورة قاضية بأ نّه لو قيل: «الإنسان

قائم» ثمّ قيل: «إنّه شيء» أو «ذات» ما فهم منه التكرار، ولو قيل: «إنّه ليس بشيء وذات» ما فهم منه التناقض، وكذا لو قيل: «الإنسان قائم» ثمّ قيل: «إنّه إنسان» ما فهم منه التكرار، ولو قيل: «إنّه إنسان وليس بقائم» ما فهم منه التناقض، وهذه آيات البساطة وعدم أخذ الذات أو مصداقها فيه.

وفيه: - مضافاً إلى عدم إثباتها البساطة - أنّ ذلك ردّ على من قال بأخذ الذات أو مصداقها تفصيلاً، وأمّا على ما ذكرناه فلا ينقدح في الذهن إلاّ عنوان واحد، وبعد التوجّه الثاني ينحلّ إلى شيء مبهم وغيره.

هذا مضافاً إلى أنّ التناقض بين القضيّتين فرع الإخبار، وقد عرفت أنّ قوله: «زيد قائم» إخبار واحد بقيام زيد لا بشيئيته أو إنسانيته، وكذا الحال لو اُريد بالتكرار تكرار القضيّة، وإن اُريد تكرار المفردات فالجواب ما تقدّم.

ص: 170

الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

قال المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : «الفرق بين المشتقّ ومبدئه مفهوماً أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل لاتّحاده مع الموضوع، بخلاف المبدأ؛ فإنّه يأبى عنه، بل إذا قيس إليه كان غيره لا هو هو، وإليه يرجع ما عن أهل المعقول: من أنّ المشتقّ يكون لابشرط، والمبدأ بشرط لا»(1)،

انتهى ملخّصاً.

أقول: لولا قوله: «إلى ذلك يرجع...» إلى آخره، كان كلامه مجملاً قابلاً للحمل على الصحّة، وإن لم يكن مفيداً؛ فإنّ قابلية حمل المشتقّ ليست مجهولة، وكذا عدم قابلية المبدأ، فكان عليه بيان لمّية قابلية حمل ذاك، وعدم قابلية ذلك.

كما أنّ ما نسب إلى أهل المعقول لا تنحلّ به عقدة، مع عدم صحّته في نفسه؛ لأنّ المادّة إذا كانت بشرط لا، وهي مأخوذة في المشتقّ اللابشرط، يجتمع فيه المتنافيان؛ لاقتضاء أحدهما الحمل والآخر عدمه.

ولو قيل: إنّ الهيئة تقلب المادّة إلى اللابشرط(2)، ففيه: أنّ ذلك لا يرجع إلى

محصّل، إلاّ أن يراد به استعمال المادّة في ضمن هيئة المشتقّ في الماهية اللابشرط، وهو - مع استلزامه المجازية - يهدم دعوى الفرق بين المادّة والمشتقّ بما ذكر، إلاّ أن يراد بالمادّة المصدر، وهو كما ترى.

والتحقيق: أنّ مادّة المشتقّات موضوعة لمعنىً في غاية الإبهام واللاتحصّلية،

ص: 171


1- كفاية الاُصول: 74.
2- أجود التقريرات 1: 99.

ويكون تحصّله بمعاني الهيئات، كما أنّ نفس المادّة أيضاً كذلك بالنسبة إلى الهيئة، فمادّة «ضارب» لا يمكن أن تتحقّق إلاّ في ضمن هيئة ما، كما أنّه لا تدلّ على معنىً باستقلالها، فهي مع هذا الانغمار في الإبهام وعدم التحصّل، لا تكاد تتّصف بقابلية الحمل ولا قابليته بنحو الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول.

نعم، هي لا تكون قابلة للحمل بنحو السلب التحصيلي؛ لعدم شيئية لها بنحو التحصّل والاستقلال، فهي مع كلّ مشتقّ بنحو من التحصّل.

نعم، بناءً على ما ذكرنا سابقاً(1) من كون هيئة المصدر واسمه إنّما هي موضوعة للتمكين من النطق بالمادّة، يكون المصدر كاسمه هو الحدث المتحصّل، ولأجل تحصّله يأبى عن الحمل؛ لحكايته عن الحدث المجرّد عن الموضوع ولو بنحو من التحليل، بخلاف المادّة؛ فإنّها بنفسها لا تحصّل لها ولا لمعناها.

فاتّضح بما ذكرنا: أنّ مادّة المشتقّات مفترقة عن المصادر وأسمائها بالتحصّل واللاتحصّل. وأمّا الفرق بينها وبين المشتقّات القابلة للحمل، فهو أنّ المشتقّات موضوعة للمعنون بما أنّه معنون، والمادّة موضوعة للعنوان المبهم لا بقيد الإبهام، بل يكون نفسه مبهماً، والهيئة موضوعة لإفادة معنونية شيء ما بالمبدأ، فإذا تركّب اللفظ من المادّة والهيئة كالتركيب الاتّحادي، يدلّ على المعنون بالحدث بما أنّه معنون، لا بنحو الكثرة كما مرّ(2).

ولا يخفى: أنّ مرادنا من التحصّل ليس الوجود؛ فإنّه واضح الفساد، بل

ص: 172


1- تقدّم في الصفحة 150.
2- تقدّم في الصفحة 167.

المراد به هو التحصّل المستعمل في الماهيات النوعية مقابل الجنس، فلا تغفل؛ حتّى لا تتوهّم لزوم دلالة المصدر على معنىً زائد عن نفس الحدث، ولو اشتهى أحد أن يقول: إنّ حيثية تحصّل الحدث - ولو نوعياً - نحو من المعنى المدلول عليه بالهيئة، فلا مضايقة بعد وضوح المطلب.

الثالث: كلام صاحب الفصول ومناقشته

قال في «الفصول» - ردّاً على من ذهب إلى أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه هو الفرق بين الشيء لابشرط وبينه بشرط لا - ما حاصله:

إنّ الحمل يتقوّم بمغايرة باعتبار الذهن في لحاظ الحمل، واتّحاد باعتبار ظرف الحمل من ذهن أو خارج. ثمّ التغاير قد يكون اعتبارياً والاتّحاد حقيقياً، وقد يكون حقيقياً والاتّحاد اعتبارياً، فلا بدّ فيه من أخذ المجموع من حيث المجموع شيئاً واحداً، وأخذ الأجزاء لابشرط، واعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع؛ حتّى يصحّ الحمل، والعَرض لمّا كان مغايراً لموضوعه فلا بدّ في حمله عليه من الاتّحاد على النحو المذكور، مع أنّا نرى بالوجدان عدم اعتبار المجموع من حيث المجموع، بل الموضوع المأخوذ هو ذات الأشياء.

فيتّضح من ذلك: أنّ الحمل فيها لأجل اتّحاد حقيقي بين المشتقّ والذات، فلا بدّ أن يكون المشتقّ دالاًّ على أمر قابل للحمل، وهو عنوان انتزاعي من الذات بلحاظ التلبّس بالمبدأ، فيكون المشتقّ مساوقاً لقولنا: ذي كذا؛ ولذا يصحّ الحمل(1)،

انتهى بتوضيح وتلخيص منّا.

ص: 173


1- الفصول الغروية: 62 / السطر 5.

وكلامه فيما هو راجع إلى ما نحن فيه لا يخلو من جودة، ويقرب ممّا تقدّم منّا،

مع فرق غير جوهري. وردّ المحقّق الخراساني(1) كأ نّه أجنبيّ عن كلامه، خصوصاً قوله: «مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات...» إلى آخره؛ فإنّ «الفصول» لا يدّعي اعتبار المجموع في مطلق الحمل، بل في حمل المتغايرين.

نعم، يرد عليه: أنّ ذلك الاعتبار لا يصحّح الحمل، وهو لا يضرّ بدعواه فيما نحن فيه، فراجع «الفصول».

ثمّ اعلم أنّ الحمل الهوهوي متقوّم بالاتّحاد بين الموضوع والمحمول، فيريد المتكلّم حكاية هذا الاتّحاد، فلا تكون في نفس الأمر - أي ما هو ظرف الإخبار - مغايرة بينهما حتّى بالاعتبار؛ فإنّ لحاظ التفكيك والمغايرة يباين الإخبار بالاتّحاد.

نعم، يكون الموضوع والمحمول في القضيّة اللفظية والمعقولة متغايرين وجوداً أو مفهوماً أيضاً، ففي مثل: «زيد زيد» لفظ «زيد» بتكرّره في ذهن المتكلّم وكلامه وذهن المخاطب، موجودان حاكيان عن هوية واحدة، من غير اعتبار الكثرة في الواقع بين زيد ونفسه، فإنّه مخالف للواقع ومنافٍ للإخبار بالوحدة، فالكثرة في القضيّة اللفظية والذهنية المنظور بهما آلياً، لا المنظور فيهما واستقلالياً.

وأمّا حديث لزوم اعتبار التغاير - لئلاّ يلزم حمل الشيء على نفسه، المساوق لوجود النسبة بين الشيء ونفسه، وهو محال - ففيه: ما تقدّم في بعض المباحث

ص: 174


1- كفاية الاُصول: 75.

من عدم تقوّم القضيّة بالنسبة، بل القضايا الحملية التي مفادها الهوهوية ممّا لا نسبة فيها(1)،

فراجع. فما يرى في كلمات بعض المحشّين(2)

من التغاير الاعتباري الموافق لنفس الأمر، فليس بشيء.

الرابع: في الإشكال على الصفات الجارية على ذاته تعالى

قد يستشكل في الصفات الجارية على الله تعالى:

تارةً: بأنّ المشتقّ بمفهومه يقتضي مغايرة المبدأ لما يجري عليه المشتقّ، والمذهب الحقّ عينية الذات للصفات.

واُخرى: بأنّ المبدأ في المشتقّات موضوع للحدث، وذاته - تعالى - كصفاته فوق الجواهر والأعراض، فضلاً عن الأحداث.

والتزم بعضهم بالنقل والتجوّز(3)، وهو بعيد، مع أنّا لا نرى بالوجدان تأوّلاً في حملها عليه تعالى، بل الوجدان حاكم بعدم الفرق بين جريانها على ذاته تعالى وعلى غيره.

فهذا القول ضعيف، وإن لا يرد عليه: أنّ لازم النقل كون جريها عليه لقلقة لسان، أو إرادة المعاني المقابلة، تعالى عن ذلك(4)؛ وذلك لأنّ القائل به لمّا رأى أنّ مفاهيم المشتقّات تقتضي زيادة المبادئ عن الذات نزّهه تعالى عنها والتزم

ص: 175


1- تقدّم في الصفحة 45 - 46.
2- نهاية الدراية 1: 232.
3- الفصول الغروية: 62 / السطر 28.
4- كفاية الاُصول: 77 - 78.

بالنقل إلى ما لا يلزم [منه] الزيادة، فالعالم الجاري عليه تعالى هو نفس العلم، فهو تعالى علم وقدرة وحياة، لا شيء له هذه، فلا يلزم عليه ما ذكر.

وأمّا ما قال المحقّق الخراساني: من كفاية المغايرة بين المبدأ وما يجري عليه المشتقّ مفهوماً، وبه صحّح حملها على ذاته تعالى(1).

ففيه: أنّ الكلام في أنّ المشتقّ بهيئته ومادّته يدلّ على تلبّس الذات بالمبدأ ولو تحليلاً، وهو تعالى منزّه عنه، فاختلافهما مفهوماً كأ نّه أجنبيّ عن الإشكال.

مع أنّ اختلاف المبادئ مع ذاته تعالى ليس في المفهوم؛ بناءً على أنّه تعالى نفس العلم والقدرة، بل الاختلاف بينهما هو الاختلاف بين المفهوم ومصداقه الذاتي.

وأمّا قوله: «ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً، قائماً به عيناً، لكنّه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينية وكان ما

بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتّحاد والعينية، وعدم فهم العرف مثل هذا التلبّس لا يضرّ؛ لكونه مرجعاً في المفاهيم لا في تطبيقها»(2).

ففيه: أنّ المدّعى أنّ العرف يجري هذه الصفات عليه تعالى كما يجريها على غيره تعالى، [فكون] المرجع هو العرف في المفاهيم لا التطبيق، أجنبيّ عن هذا. مع أنّ عدم مرجعيته في التطبيق أيضاً محلّ منع.

مضافاً إلى أنّ العقل يرى عينية الصفات مع الذات غير قيامها بها، فلو دلّ المشتقّ على قيام المبدأ بالذات لم يدفع الإشكال بذلك.

ص: 176


1- كفاية الاُصول: 76.
2- كفاية الاُصول: 77.

فالتحقيق: أنّ المشتقّ لا يدلّ إلاّ على المعنون بعنوان المبدأ بما أنّه معنون، فلا يفهم من لفظ «العالم» إلاّ المعنون به من حيث هو كذلك. وأمّا زيادة العنوان على المعنون وقيامه به فهو خارج عن مفهومه، لكن لمّا كان الغالب فيه هو الزيادة، تنسبق المغايرة والزيادة إلى الذهن لأجل التعارف الخارجي، لا لدلالة المفهوم عليها، فالمشتقّ يدلّ على المعنون، والعينية والزيادة من خصوصيات المصداق.

وهو تعالى موصوف بجميع الصفات الكمالية ومعنون بهذه العناوين، وهي جارية عليه بما لها من المعاني من غير نقل ولا تسامح، وإنكار ذلك إلحاد في أسمائه على فرض، وخلاف المتبادر والارتكاز العقلائي على آخر، فهو تعالى موصوف بكلّ كمال، وإنّ صِرف الوجود كلّ كمال. وتحقيق جمع صرف الوجود للأسماء - مع كونها بحقائقها ثابتة له من دون شوب كثرة عقلية أو خارجية - موكول إلى علمه(1).

وأمّا إشكال كون المبدأ في المشتقّ لا بدّ وأن يكون حدثاً وعرضاً وهو تعالى منزّه عنه.

ففيه: أنّ ما هو مسلّم أنّ المبدأ لا بدّ وأن يكون قابلاً للتصريف لو وردت الهيئات عليه، ولا دليل على كونه حدثاً وعرضاً بالمعنى المنافي لذاته. والحقائق التي لها مراتب الكمال والنقص والعلّية والمعلولية - كحقيقة الوجود وكمالاتها -

ص: 177


1- الحكمة المتعالية 2: 368، و6: 100 و121 و145؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 559.

قابلة للتصريف والتصرّف، فإذا صدر منه تعالى وجود، يصدق عليه أنّه موجِد، وعلى المعلول أنّه موجَد، ويجيء فيه سائر التصرّفات.

فالمشتقّ يدلّ على المعنون بعنوان، من غير دلالة على الحدثية والعرضية، فالعلم حقيقته الانكشاف من غير دخالة العرضية والجوهرية فيه، فليس حقيقته إلاّ ذلك، وهو ذو مراتب وذو تعلّق بغيره، لا نحو تعلّق الحالّ بالمحلّ.

وهو تعالى - باعتبار كونه في مرتبة ذاته كشفاً تفصيلياً في عين البساطة والوحدة عن كلّ شيء أزلاً وأبداً - عالم، وباعتبار كون ذاته منكشفة لدى ذاته يكون معلوماً، فصدق المشتقّات الجارية على ذاته تعالى، حقيقي من غير شوب إشكال.

والحمد لله أوّلاً وآخراً .

ص: 178

المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول :

اشارة

ص: 179

ص: 180

الفصل الأوّل فيما يتعلّق بمادّة الأمر

اشارة

وفيه اُمور:

الأمر الأوّل: في معاني لفظ الأمر

اشارة

المعروف بينهم أنّ الأمر مشترك لفظي بين الطلب وغيره(1)،

والأوّل معنىً حدثي يصحّ منه الاشتقاق، ك «أمر يأمر»، والثاني ليس كذلك، سواء كان واحداً يساوق الشيء، أو الأخصّ منه كما هو الظاهر، أو متعدّداً.

وفيه: أنّ الموضوع للمعنى الحدثي القابل للانتساب الذي منه يصحّ الاشتقاق، هو المادّة السارية في المشتقّات، كما هو شأن سائر موادّ المشتقّات، والموضوع للمعنى الآخر أو المعاني الاُخر هو لفظ الأمر جامداً كلفظ إنسان وشجر، فلا معنى للاشتراك فيه، ولعلّ من ذهب إليه كان ممّن يرى المصدر مادّة المشتقّات، وجرى غيره على منواله من غير توجّه إلى تاليه.

ص: 181


1- الفصول الغروية: 62 / السطر 35؛ نهاية الأفكار 1: 156.

وممّا ذكرنا يتّضح فساد القول بالاشتراك المعنوي بين المعنى الحدثي وغيره(1).

مضافاً إلى أنّ الجامع بينهما لا يكون حدثياً، فلا يمكن منه الاشتقاق إلاّ بنحو التجوّز، وهو كما ترى.

تنبيه:

المتبادر من مادّة الأمر المستعملة في المشتقّات هو المعنى الجامع بين هيئات الصيغ الخاصّة بما لها من المعنى، لا الطلب - إلاّ أن يراد به ما ذكرناه، وعليه فلا إشكال في الاشتقاق أصلاً - ولا الإرادة المظهرة ولا البعث وأمثالها.

ولا يبعد أن يكون المعنى الاصطلاحي مساوقاً للغوي؛ أي لا يكون له اصطلاح خاصّ، فإذا قال: «اضرب زيداً» يصدق على قوله «أمَرَه»، وهو غير «طلب منه» أو «أراد منه» أو «بعثه»؛ فإنّها غير الأمر عرفاً.

فمادّة الأمر موضوعة لمفهوم اسمي منتزع من الهيئات بما لها من المعاني، لا بمعنى دخول المعاني في الموضوع له، بل بمعنى أنّ الموضوع له جامع الهيئات الدالّة على معانيها، لا نفس الهيئات ولو استعملت لغواً أو في غير معناها، فالمعنى مفهوم اسمي مشترك بين الهيئات التي هي الحروف الإيجادية، وهذا المعنى بما أنّه قابل للانتساب والتصرّف يصحّ منه الاشتقاق، كما أنّ الكلام واللفظ والقول مشتقّات باعتبار ذلك، فلا إشكال من هذه الجهة بوجه.

ص: 182


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 128؛ أجود التقريرات 1: 131.

فلو سلّم أنّ الأمر لغةً بمعنى الطلب، فالاشتقاق كما يمكن باعتباره كذلك يمكن باعتبار المعنى الاصطلاحي؛ أي القول الخاصّ، لكن باعتبار كونه حدثاً صادراً من المتكلّم.

فما يقال: من أنّ المعنى الاصطلاحي غير قابل للاشتقاق(1)، صحيح لو جرى الاصطلاح على أنّ الأمر بإزاء معنىً متحصّل لا يصدق إلاّ على الصيغ المتحصّلة، وهو غير معلوم.

الأمر الثاني: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر

المتبادر من الأمر هو اعتبار العلوّ في معناه، فلا يكون من السافل والمساوي أمراً عرفاً. والعلوّ أمر اعتباري له منشأ عقلائي يختلف بحسب الزمان والمكان، والميزان هو نفوذ الكلمة والسلطة والقدرة على المأمور، فالسلطان المحبوس لا يكون إنشاؤه أمراً، بل طلباً والتماساً، ورئيس المحبس يكون آمراً بالنسبة إليه.

والظاهر أنّ الاستعلاء أيضاً مأخوذ فيه، فلا يكون استدعاء المولى من العبد وإرشاده أمراً، كما أنّ الطلب من السافل ليس أمراً ولو استعلى، هذا.

وقد يقال: إنّ العلوّ والاستعلاء لم يعتبرا في معنى الأمر بنحو القيدية، بل الطلب على قسمين؛ أحدهما ما صدر بغرض أنّه بنفسه يكون باعثاً بلا ضميمة من دعاء والتماس، فيرى الآمر نفسه بمكانة يكون نفس أمره باعثاً

ص: 183


1- الفصول الغروية: 63 / السطر 6؛ كفاية الاُصول: 82.

ومحرّكاً، وهذا الأمر لا ينبغي صدوره إلاّ من العالي المستعلي، وهو غير الأخذ في المفهوم(1).

وفيه: أنّ مادّة الأمر إذا كانت موضوعة لمفهوم مطلق؛ أي مطلق الطلب أو مطلق القول الخاصّ، فلا معنى لعدم صدقه على الصادر من السافل أو المساوي، فعدم الصدق معلول التقييد في المعنى، فبناءً على كون الوضع في الأمر عامّاً والموضوع له كذلك، لا محيص عن الالتزام بتقييده بقيد؛ حتّى لا يصدق إلاّ على العالي المستعلي.

فما ذكره - من أنّ الأمر الكذائي لا ينبغي صدوره خارجاً إلاّ من العالي المستعلي، من غير تقييد في المفهوم - كأ نّه لا يرجع إلى محصّل.

الأمر الثالث: في دلالة مادّة الأمر على الوجوب

كون مادّة الأمر موضوعة للجامع بين الهيئات الصادرة عن العالي المستعلي مطلقاً، أو على سبيل الإلزام والإيجاب، محلّ تأمّل.

لا يبعد رجحان الثاني، ويؤيّده الآية(2) والروايات؛ فإنّ قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتُهم بالسواك»(3) ظاهر في أنّ الأمر يوجب المشقّة

ص: 184


1- نهاية الاُصول: 86.
2- وهي قوله تعالى: )فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(. النور (24): 63.
3- الفقيه 1: 34 / 123؛ وسائل الشيعة 2: 17، كتاب الطهارة، أبواب السواك، الباب 3، الحديث 4.

والكلفة مع أنّ الاستحبابي لا يوجبهما، مضافاً إلى أنّ الطلب الاستحبابي وارد فيه، فلو كان أمراً لم يقل ذلك، والعمدة في الباب التبادر لو تمّ، كما لا يبعد.

وأمّا ما قال بعض أهل التحقيق(1) - بعد اختياره كون لفظ الأمر حقيقة في مطلق الطلب - من أنّه لا شبهة في ظهوره حين إطلاقه في خصوص الطلب الوجوبي، ثمّ تفحّص عن منشأ الظهور؛ أنّه هل لغلبة الاستعمال في الوجوب، أو هو قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة، وردّ الأوّل استشهاداً بقول صاحب «المعالم» من كثرة استعماله في الاستحباب(2)،

واختار الوجه الثاني، ثمّ حاول تقريبه بوجهين.

فهو بمكان من الغرابة؛ لخلطه بين مادّة الأمر الموضوعة لمفهوم كلّي، وبين صيغ الأمر؛ فإنّ كثرة الاستعمال في كلام صاحب «المعالم» إنّما هي في الثاني دون الأوّل، كما أنّ مورد التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة كذلك، وسيأتي في محلّه الكلام فيه(3).

ثمّ إنّ مبحث «الطلب والإرادة» بما هو عليه من طول الذيل لا يناسب المقام، ولهذا أفرزته رسالة مفردة، وتركته هاهنا حذراً من التطويل(4).

ص: 185


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 196 - 197.
2- معالم الدين: 53.
3- يأتي في الصفحة 195.
4- قد أوردنا هذه الرسالة الشريفة في آخر مجلّد الثاني، فراجع.

الفصل الثاني فيما يتعلّق بصيغة الأمر

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل: في أنّ صيغة الأمر موضوعة للبعث والإغراء

قد ذكرنا معاني هيئات الفعل الماضي والمضارع والمشتقّات الاسمية سابقاً(1)،

وبقي بيان هيئة الأمر، وهي - على ما يتبادر منها - موضوعة للبعث والإغراء، وتستعمل استعمالاً إيجادياً لاحكائياً، بخلاف هيئة الماضي والمضارع، فإنّها موضوعة للحكاية.

فهيئة الأمر كالإشارة البعثية والإغرائية، وكإغراء جوارح الطير والكلاب المعلّمة، والفرق: أنّها موضوعة لإفادة ذلك وإفهامه، فهي مع إيجاد معناها مفهمة له وضعاً، وأيضاً إنّ انبعاث الحيوانات يكون بكيفية الصوت والحركات

ص: 186


1- تقدّم في الصفحة 152.

والإشارات المورثة لتشجيعها أو تحريكها نحو المقصود، لكن انبعاث الإنسان - بعد فهم بعث المولى من أمره، وتحقّق موضوع الإطاعة - لأجل مبادٍ موجودة في نفسه كالخوف والرجاء.

وما قيل: من عدم تصوّر كون اللفظ موجداً(1)،

وجيه لو كان ما يوجد به تكوينياً، لا مثل مفاد الهيئات والحروف الموجدة، فكما أنّ حروف القسم والنداء موجدات بنحو من الإيجاد لمعانيها كما تقدّم(2)، وألفاظ العقود والإيقاعات كذلك عند العقلاء، كذلك هيئات الأوامر وضعت لإيجاد الإغراء والبعث، بل نرى أنّ بعض الألفاظ المهملة مستعمل لإغراء بعض الحيوانات كالكلاب وغيرها، فهي موجدة للإغراء والبعث بنحو لا بالوضع.

فما أفاده المحقّق الخراساني: من كونها موضوعة لإنشاء الطلب(3)،

الظاهر

منه أنّه غير البعث والإغراء؛ إن كان مراده الطلب الحقيقي المتّحد مع الإرادة على مذهبه(4)

كما ذهب إليه بعض آخر؛ حتّى يكون معنى «اضرب» اُريد منك الضرب، فهو ممنوع، والسند التبادر.

وإن كان المراد الطلب الإيقاعي، فلا نتصوّر غير البعث والإغراء شيئاً آخر نسمّيه الطلب حتّى ينشئه المتكلّم بداعي البعث، ومع فرضه مخالف للتبادر والتفاهم العرفي في كلّ لغة.

ص: 187


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 71.
2- تقدّم في الصفحة 32 و53.
3- كفاية الاُصول: 91.
4- كفاية الاُصول: 85.

المبحث الثاني في المعاني الاُخر لهيئة الأمر

الظاهر أنّ المعاني الكثيرة التي عُدّت للأمر - كالترجّي والتمنّي والتهديد... إلى غير ذلك(1) - ليست معانيه، ولم توضع الهيئة لها، ولا تستعمل فيها في عرض استعمالها في البعث والإغراء، بل مستعملة فيها على حذو سائر الاستعمالات المجازية، على ما سبق من استعمال اللفظ فيما وضع له؛ ليتجاوز منه إلى المعنى المراد جدّاً لعلاقة.

فهيئة الأمر تستعمل: تارةً في البعث ليحقّ ذهن السامع عليه ويفهم منها ذلك، فينبعث إلى المطلوب، فيكون حقيقة.

واُخرى تستعمل فيه، لكن ليتجاوز ذهنه منه إلى المعنى المراد جدّاً بعلاقة ونصب قرينة:

ففي قوله تعالى: )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ((2)

استعملت هيئة الأمر في البعث، لكن لا لغرض البعث، بل للانتقال منه إلى خطائهم في التقوّل على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أو لتعجيزهم عن الإتيان.

وقولِ الشاعر:

ألا أيُّها اللّيلُ الطويلُ ألا انْجلِ(3) .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .

ص: 188


1- مفاتيحالاُصول:110/السطر18؛هدايةالمسترشدين1:596؛كفايةالاُصول: 91.
2- هود (11): 13.
3- عجزه: «بصُبْحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ». ديوان امرئ القيس: 108.

استعملت الهيئة في البعث أيضاً؛ للانتقال منه إلى تمنّيه للانجلاء، أو تحسّره وتأثّره من عدمه. فاتّضح أنّه قد تستعمل الهيئة للانتقال إلى معنىً إنشائي إيقاعي، فينشأ تبعاً لصيغة الأمر كالتمنّي والترجّي، وقد تستعمل للانتقال إلى معنىً محقّق في الواقع، كما احتملنا في الآية الشريفة.

وبما ذكرنا يوجّه الاستفهام والتمنّي والترجّي وأمثالها الواردة في كلام الله تعالى، فإنّ صدورها من المبادئ التي تكون مستلزمة للنقص والجهل والانفعال ممتنع عليه تعالى دون غيرها، فيفرّق بين الجدّ والاستعمال، وإن كان للكلام في كيفية صدور القرآن الكريم وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء طور آخر لا يساعد [عليه] هذا المقام، وقد أشرنا إليها إجمالاً في «رسالة الطلب والإرادة»(1).

المبحث الثالث في أنّ الهيئة تدلّ على الوجوب أم لا؟

اشارة

بعد ما عرفت أنّ الهيئة وضعت للبعث والإغراء، يقع الكلام في أنّها هل وضعت للبعث الوجوبي، أو الاستحبابي، أو القدر المشترك بينهما، أو لهما على سبيل الاشتراك اللفظي؟ فلا بدّ في تحقيق ذلك من مقدّمات:

الاُولى: أنّه تختلف إرادة الفاعل فيما صدر منه قوّة وضعفاً حسب اختلاف

ص: 189


1- الطلب والإرادة، الإمام الخميني قدس سره: 11.

أهمّية المصالح المدركة عنده، فالإرادة المحرّكة لعضلاته لنجاة نفسه عن الهلكة أقوى من الإرادة المحرّكة لها للقاء صديقه، وهي أقوى من المحرّكة لها للتفرّج والتفريح، فمراتب الإرادات قوّة وضعفاً تابعة لإدراك أهمّية المصالح أو اختلاف الاشتياقات، واختلاف حركة العضلات سرعة وقوّة تابع لاختلاف الإرادات، كما هو ظاهر.

فما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : من أنّ تحريك النفس للعضلات في جميع الموارد على حدّ سواء(1)، كما في تقريرات بعض المحقّقين رحمه الله علیه من أنّ الإرادة التكوينية لا يتصوّر فيها الشدّة والضعف(2)، مخالف للوجدان والبرهان:

أمّا الأوّل: فظاهر؛ ضرورة أقوائية إرادة الغريق لخلاص نفسه من إرادة الفاعل لكنس البيت وشراء الزيت.

وأمّا الثاني: فلأنّ اختلاف الآثار يدلّ على اختلاف المؤثّرات، واختلاف حركة العضلات المشاهد كاشف عن اختلاف الإرادات المؤثّرة فيها، كما أنّ اختلاف الدواعي موجب لاختلاف الإرادات، فالداعي لإنجاء المحبوب من الهلكة موجب للإرادة الحتمية القويّة، بخلاف الداعي إلى شراء اللحم، وهذا لا ينافي كون الإرادة بفعّالية النفس، كما هو التحقيق.

وأمّا التفصيل بين الإرادة التكوينية والتشريعية، فلا يرجع إلى محصّل.

الثانية: أنّ الإرادة لمّا كانت من الحقائق البسيطة كالعلم والوجود، يكون

ص: 190


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 135 - 136.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 212 - 213.

التشكيك الواقع فيها خاصّياً - ما به الافتراق بين مراتبها عين ما به الاشتراك - ولا يكون الاختلاف بينها بتمام الذات المستعمل في باب الماهيات، أو بعضها، أو خارجها؛ ضرورة عدم التباين الذاتي بين الإرادة القويّة والضعيفة، ولا يكون اختلافهما ببعض الذات لبساطتها، ولا بأمر خارج حتّى تكونا في مرتبة واحدة والشدّة والضعف لاحقان بها، فالإرادة كسائر الحقائق البسيطة يكون افتراق مراتبها كاشتراكها بتمام الذات، وتكون ذات عرض عريض ومراتب شتّى.

الثالثة: أنّ صدور الأمر من الآمر بما أنّه فعل إرادي له كسائر أفعاله الإرادية، مسبوق بمقدّمات من التصوّر إلى الإرادة وتحريك العضلات، غاية الأمر أنّ العضلات فيه عضلات اللسان، وتكون الإرادة فيه - قوّة وضعفاً - تابعة لإدراك أهمّية الفعل المبعوث إليه؛ ضرورة أنّ الإرادة الباعثة إلى إنجاء الولد من الغرق أقوى من الباعثة إلى شراء اللحم.

ثمّ إنّه قد يظهر آثار الشدّة في المقال، بل في كيفية تأدية الكلام شدّة، أو في الصوت علوّاً وارتفاعاً، وقد [يقرن] أمره بأداة التأكيد والوعد والوعيد، كما أنّه قد [يقرنه] بالترخيص في الترك، أو بما يفهم منه الوجوب أو الاستحباب.

وبالجملة: أنّ الأمر بما هو فعل اختياري إرادي صادر من الفاعل المختار، كسائر أفعاله من حيث المبادئ وجهات الاختلاف، فقد يحرّك الفاعل عضلات يده أو رجله لتحصيل مطلوبه مباشرة، وقد يحرّك عضلات لسانه لتحصيل مطلوبه بمباشرة الغير، لا لأنّ الأمر الذي مفاده البعث هو الباعث بذاته؛ فإنّه غير معقول، بل لأدائه بمقدّمات اُخر - على فرض تحقّقها - إلى انبعاث المأمور، فإذا

ص: 191

أمر المولى بشيء ووصل إلى العبد وتصوّر أمره، فإن وجدت في نفسه مبادٍ اُخر كالحبّ والمعرفة والطمع والخوف وأمثالها تصير هذه المبادئ داعية للفاعل، فالأمر محقّق موضوع الطاعة، لا المحرّك بالذات.

الرابعة: قد ظهر ممّا مرّ أنّ الأمر بما هو فعل إرادي للفاعل تابع لإرادته، فهو كاشف عنها نحو كشف المعلول عن علّته؛ فإنّ العقل يحكم بأنّ كلّ فعل إرادي لا يتحقّق من الفاعل المختار إلاّ بإرادته، وبما أنّه بعث نحو المبعوث إليه كاشف عن مطلوبيته، نظير كشف المعلول عن علّته بوجه؛ فإنّ الداعي إلى الأمر مطلوبية فعل المأمور به.

فدلالة الأمر على الإرادة المتعلّقة بصدوره وعلى مطلوبية الفعل المأمور به ليست دلالة لفظية وضعية، بل دلالة عقلية كدلالة كلّ ذي مبدأ على تحقّق مبادئه.

منشأ ظهور الصيغة في الوجوب

إذا عرفت ما ذكر: يقع البحث في أنّ هيئات الأوامر هل تدلّ على الوجوب أم لا؟

وعلى الأوّل: هل تكون الدلالة وضعية، أو بسبب الانصراف، أو لا هذا ولا ذاك، بل بمقدّمات الحكمة تكون ظاهرة فيه، أو لا تحتاج إليها أيضاً فيه، أو أنّها كاشفة عن الإرادة الحتمية الوجوبية كشفاً عقلائياً ككاشفية الأمارات العقلائية؟

وعلى فرض عدم وضعها للوجوب وعدم دلالتها عليه، فهل تكون حجّة على الوجوب بحكم العقل والعقلاء أو لا؟ وجوه:

ص: 192

أمّا الدلالة الوضعية(1): فإن يُرَد منها أنّها وضعت للبعث المتقيّد بالإرادة الحتمية، فهو ظاهر البطلان إن اُريد التقيّد بهذا المفهوم؛ ضرورة عدم إمكان تقيّد البعث بالحمل الشائع بمفهوم أصلاً، وقد عرفت أنّ الهيئة وضعت له.

وإن اُريد التقيّد بواقعها فلا يمكن؛ لأنّ البعث متأخّر عن الإرادة بمراتب، فلا يعقل تقيّده بها، والمعلول لا يمكن أن يتقيّد بعلّته، فضلاً عن علّة علّته، أو كعلّة علّته في التقدّم؛ للزوم كون المتأخّر متقدّماً أو بالعكس.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الإرادة الحتمية لمّا كانت منشأً للبعث بآلية الهيئة، فللبعث المنشأ منها تحصّل غير تحصّل البعث المنشأ من الإرادة الغير الحتمية بحسب نفس الأمر، والواضع يمكن أن يتصوّر جامعاً عرضياً انتزاعياً بين أفراد البعث الناشئة من الإرادة الحتمية، فيضع الهيئة بإزاء مصاديقه، فتكون هيئة الأمر مستعملة استعمالاً إيجادياً، ويكون وضعها عامّاً والموضوع له خاصّاً، وهو إيجاد البعث الخاصّ الناشئ من الإرادة الحتمية من غير تقيّد بها.

وهذا التصوير وإن يدفع الاستحالة، لكن التبادر والتفاهم العرفي يضادّه؛ ضرورة أنّ المتفاهم [به] من الهيئة ليس إلاّ البعث والإغراء، كإشارة المشير لإغراء غيره، وكإغراء الجوارح من الطيور وغيرها، فكأنّ لفظ الهيئة قائم مقام تلك الإشارة وذلك الإغراء.

وأمّا دعوى الانصراف إلى البعث المنشأ من الإرادة الحتمية(2)، فلا مجال لها؛

ص: 193


1- معالم الدين: 46.
2- هداية المسترشدين 1: 605؛ نهاية الدراية 1: 308.

لأنّ ملاك الانصراف الحاصل من اُنس الذهن بكثرة الاستعمال مفقود، وغيره ليس منشأً له.

ومن ذلك يعلم ما في دعوى الكشف العقلائي(1)؛ فإنّ الأمر وإن كان كاشفاً عن إرادة الآمر في الجملة، لكن كشفه عن الإرادة الحتمية من غير ملاك، غير معقول، وليس ملاك معقول في المقام إلاّ كثرة الاستعمال؛ بحيث صار غيره من النادر الذي لا يعتني به العقلاء، وهو مفقود.

وأمّا دعوى ظهوره في الوجوب بمقدّمات الحكمة، فقد قرّرها بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه بوجهين:

أحدهما: أنّ الطلب الوجوبي هو الطلب التامّ الذي لا حدّ له من جهة النقص والضعف، بخلاف الاستحبابي؛ فإنّه مرتبة محدودة بحدّ النقص والضعف، ولا ريب في أنّ الوجود الغير المحدود لا يفتقر في بيانه إلى أكثر ممّا يدلّ عليه، بخلاف المحدود، فإنّه يفتقر إلى بيان حدوده وأصله، وعليه يلزم حمل الكلام الذي يدلّ على الطلب بلا ذكر حدّ له على المرتبة التامّة، وهو الوجوب، كما هو الشأن في كلّ مطلق(2). هذا ملخّص ما ذكر في مادّة الأمر.

وقرّره في المقام: بأنّ مقدّمات الحكمة كما تجري في مفهوم الكلام

لتشخيصه من حيث سعته وضيقه، كذلك يمكن أن تجري في تشخيص الفرد الخاصّ فيما اُريد بالكلام فرداً مشخّصاً، كما لو كان لمفهوم الكلام فردان في

ص: 194


1- لمحات الاُصول: 43.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 197.

الخارج وكان أحدهما يستدعي مؤنة في البيان أكثر من الآخر، كالإرادة الوجوبية والندبية، فإنّ الاُولى تفترق عن الثانية بالشدّة، فيكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك، وأمّا الثانية فتفترق عن الاُولى بالضعف، فما به الامتياز

فيها غير ما به الاشتراك، فالإرادة الندبية تحتاج إلى دالّين بخلاف الوجوبية(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه محالّ أنظار:

منها: أنّ مقدّمات الحكمة في المطلق لو جرت فيما نحن فيه، فنتيجتها إثبات نفس الطلب الذي هو القدر المشترك بين الوجوبي والاستحبابي باعترافه؛ فإنّ المادّة إذا وضعت للقدر الجامع لا يمكن أن تفيد مقدّمات الحكمة دلالتها على غيره ممّا هو خارج عن الموضوع له.

ودعوى عدم الفرق بين القدر الجامع والطلب الوجوبي، واضحة الفساد؛ ضرورة لزوم افتراق الفرد عن الجامع بخصوصية زائدة.

نعم، هاهنا كلام، وهو أنّ نفس الطلب الجامع ليس له وجود إلاّ بوجود أفراده، فلا يمكن أن تنتج مقدّمات الحكمة ظهور الأمر في نفس الجامع؛ للقطع بحصوله مع أحد الفردين، لكن هذا يهدم جريان المقدّمات، ولا يوجب إنتاجها ظهور الأمر في أحد القسمين مع كونه متساوي النسبة إليهما.

ومنها: أنّ كون ما به الاشتراك في الحقائق الوجودية عين ما به الامتياز، لا يوجب عدم الاحتياج - في صرف الجامع إلى أحد القسمين - إلى بيان زائد

ص: 195


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 214.

عن بيان نفس الطبيعة؛ ضرورة أنّ الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد في المفهوم ولو فرض عدم الزيادة في الوجود.

فالوجود المشترك مفهوماً بين مراتب الوجودات لا يمكن أن يكون معرّفاً لمرتبة منها، بل لا بدّ في بيانها من قيد زائد ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود، فنفس مفهوم الوجود لا يكون حاكياً إلاّ عن نفس الحقيقة الجامعة بينها، ولا بدّ لبيان وجود الواجب من زيادة قيد؛ كالتامّ، والمطلق، والواجب بالذات، ونحوها، فالإرادة القويّة كالضعيفة تحتاج إلى بيان زائد، وكذا نظائرها.

ومنها: أنّ ما ذكر - من أنّ ما به الاشتراك في طرف الناقص غير ما به الامتياز - ليس على ما ينبغي؛ لأنّ الإرادة الضعيفة ليست مركّبة من إرادة وضعف، كالإرادة القويّة التي ليست مركّبة منها ومن قوّة، فما به الاشتراك في الحقائق البسيطة عين ما به الامتياز في جميع المراتب؛ قضاءً لحقّ البساطة وكون الحقيقة ذات مراتب.

فالوجود الضعيف والإرادة الضعيفة وأمثالهما مرتبة من الحقيقة البسيطة تكون بنفس ذاتها ممتازة عن القويّة، ففي الوجود الخارجي تكون كلتا المرتبتين بسيطتين؛ ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز، وتكون الحقيقة ذات عرض عريض، وفي مقام البيان والتعريف يحتاج كلاهما إلى معرّف غير نفس المفهوم المشترك.

وبالجملة: أنّ ما ذكره من عدم احتياج الطلب التامّ والإرادة التامّة إلى بيان زائد عن أصل الطلب والإرادة، غير وجيه.

ص: 196

الوجه الثاني: أنّ كلّ طالب إنّما يأمر لأجل التوسّل إلى إيجاد المأمور به، فلا بدّ أن يكون طلبه غير قاصر عن ذلك؛ وإلاّ فعليه البيان، والطلب الإلزامي غير قاصر عنه، دون الاستحبابي، فلا بدّ أن يحمل عليه الطلب(1).

وفيه ما لا يخفى من الوهن؛ فإنّ دعوى هذه الكلّية: إن ترجع إلى أنّ كلّ آمر بصدد تحصيل المأمور به على سبيل الحتم والإلزام، فهي مصادرة، مع كونها ممنوعة أيضاً؛ فإنّ الأوامر على قسمين.

وإن ترجع إلى أنّ كلّ آمر بصدد إحداث الداعي وتحصيل المأمور به في الجملة، فهي مسلّمة، لكن لا تفيد؛ فإنّ بعثه أعمّ من الإلزامي وغيره.

وإن ترجع إلى أنّ الطلب الاستحبابي يحتاج إلى البيان الزائد دون الوجوبي، فقد مرّ ما فيه؛ لرجوع هذا الوجه إلى الوجه الأوّل.

وأمّا ما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من أنّ الحمل على الوجوب لعلّه لأجل أنّ الإرادة المتوجّهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلاّ، والندب إنّما يأتي من قِبل الإذن في الترك منضمّاً إلى الإرادة المذكورة، فاحتاج إلى قيد زائد(2).

ففيه: أنّ الإرادة في الوجوب والندب مختلفة مرتبة كما تقدّم(3)، ولا يمكن أن تكون الإرادة فيهما واحدة ويكون الاختلاف بأمر خارج، فحينئذٍ فللإرادة الحتمية نحو اقتضاء غير [ما ل ] الغير الحتمية.

ص: 197


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 197.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 74.
3- تقدّم في الصفحة 189.

وأمّا ما أفاد: من عدم احتياج الحمل على الوجوب إلى مقدّمات الحكمة، نظير القضيّة المسوّرة بلفظة «كلّ»(1)،

فقياسه مع الفارق؛ فإنّ الألفاظ الدالّة بالوضع على الاستغراق إذا استعملت لا محالة يكون المتكلّم بها في مقام بيان حكم الأفراد المدخولة لها؛ فإنّها بمنزلة تكرار الأفراد، فالقضيّة المسوّرة بها متعرّضة لكلّ فرد فرد بنحو الجمع في التعبير، فلا معنى لعدم البيان بالنسبة إليها. نعم أحوال الأفراد لا بدّ لها من مقدّمات الحكمة.

فالحقّ: أنّ الهيئات لا تدلّ بالدلالة الوضعية إلاّ على البعث والإغراء من غير دلالة على الوجوب والاستحباب، بل لا معنى للدلالة عليهما ولا لاستعمالها فيهما؛ فإنّ الوجوب والاستحباب إن كانا بلحاظ الإرادة الحتمية وغيرها أو المصلحة الملزمة وغيرها، فهما من مبادئ الاستعمال، ولا يعقل أن تكون مستعملة فيهما، وحتمية الطاعة وعدمها منتزعتان بعد الاستعمال، فلا يعقل الاستعمال فيهما.

وبعد اللتيّا والتي: أنّ ما لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه: هو حكم العقلاء كافّة بأنّ الأمر الصادر من المولى واجب الإطاعة، وليس للعبد الاعتذار باحتمال كونه ناشئاً من المصلحة الغير الملزمة والإرادة الغير الحتمية، ولا يكون ذلك لدلالة لفظية، أو انصراف، أو مقدّمات حكمة.

والدليل عليه: أنّ الإغراء والبعث إذا صدر من المولى بأيّ دالّ كان، لزم عند العقلاء إطاعته، من غير فرق بين اللفظ والإشارة، مع عدم وضع لها، ولا تجري

ص: 198


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 74.

فيها مقدّمات الحكمة، فنفس صدور البعث والإغراء موضوع حكمهم بلزوم الطاعة، من غير حكمهم بكشفه عن الإرادة الحتمية؛ لعدم الملاك فيه كما عرفت، فكون الأمر للوجوب ليس إلاّ لزوم إطاعته عند العقلاء حتّى يرد منه ترخيص. ولعلّ ذلك مغزى مرام شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه.

تتميم: في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء

لا إشكال فيأنّ الجمل الخبرية المستعملة في مقام البعث والإغراء، كالهيئات في حكم العقلاء بلزوم إطاعتها؛ لما عرفت من أنّ البعث بأيّ دالّ صدر من المولى، كان تمام الموضوع للزوم الاتّباع، إنّما الكلام في كيفية دلالتها على البعث:

والذي يمكن أن يقال: إنّها مستعملة في معانيها الخبرية بدعوى تحقّقها من المخاطب، مدّعياً أنّ المخبر به أمر يأتي به المخاطب من غير احتياج إلى الأمر؛ لوضوح لزوم إتيانه بحكم العقل، كما إذا قلت: «إنّ ولدي يصلّي» أو «إنّه يحفظ شأن أبيه» بداعي إغرائه بذلك، فإنّك تستعمل الجملة في معناها بدعوى كون الأمر بمكان من الوضوح لا يحتاج إلى الأمر، بل يأتي به بتمييزه وعقله.

وما ذكرنا موافق للذوق السليم والمحاورات العرفية.

ص: 199

المبحث الرابع في التعبّدي والتوصّلي وأنّ مقتضى الأصل ماذا؟

اشارة

ويتمّ البحث بتقديم اُمور:

الأوّل: في معنى التعبّدية والتوصّلية:

إنّ الواجبات بل المستحبّات في الشريعة على أقسام:

أحدها: ما يحصل الغرض بها كيفما تحقّقت؛ أي يكون المطلوب فيها نفس التحقّق والوجود بأيّ نحو حصل، كستر العورة وإنقاذ الغريق والنظافة.

ثانيها: ما لا يحصل الغرض بها إلاّ مع قصد عناوينها، من غير احتياج إلى قصد التقرّب والتعبّد، كردّ السلام وكالنكاح الواجب أو المستحبّ.

ثالثها: ما لا يحصل بها بصرف قصد العناوين، بل لا بدّ في سقوط أمرها من الإتيان بها متقرّباً إلى الله تعالى. وهذا على قسمين:

أحدهما: ما ينطبق عليه عنوان العبودية لله تعالى المعبّر عنه في لغة الفرس ب «پرستش»، كالصلاة والحجّ والاعتكاف.

وثانيهما: ما ليس كذلك وإن كان قربياً؛ أي يعتبر فيه قصد التقرّب والطاعة، كالزكاة والخمس بل والصوم؛ فإنّ إتيان الزكاة - مثلاً - وإن يعتبر فيه قصد التقرّب، لكن لا تكون عبادة بالمعنى المساوق ل «پرستش»؛ ضرورة أنّ كلّ فعل قُربي لا ينطبق عليه عنوان العبودية، ألا ترى أنّه لو أطاع أحد والديه أو السلطان

ص: 200

بقصد التقرّب إليهم لا تكون إطاعته عبادة لهم، فستر العورة والاستبراء بقصد الأمر والتقرّب إلى الله تعالى ليسا عبودية له، بل إطاعة لأمره.

فالواجبات المعتبرة فيها القربة على قسمين: تعبّدي وتقرّبي، فالأوّل ما يؤتى به لأجل عبودية الله تعالى والثناء عليه بالمعبودية، كالصلاة التي [هي] أظهر مصاديقها، فإنّها في الحقيقة ثناء عليه تعالى بعنوان العبودية، بخلاف الثاني؛ فإنّ إعطاء الزكاة إطاعة له تعالى، لا ثناء عليه بالمعبودية، فلا يجوز إتيان عمل بعنوان التعبّد لغيره تعالى، بخلاف الإتيان بعنوان التقرّب.

فحينئذٍ نقول: المراد بالواجب التعبّدي - فيما نحن فيه - هو الواجب التقرّبي بالمعنى الأعمّ من التعبّدي بالمعنى المتقدّم، وهو ما لا يسقط الغرض بإتيانه إلاّ بوجه مرتبط إلى الله تعالى، سواء قصد الامتثال له أو التقرّب إليه تعالى، والتوصّلي بخلافه، سواء سقط الغرض بإتيانه كيفما اتّفق، أو احتاج إلى قصد العنوان.

واتّضح ممّا ذكرنا وجه الخلل في تعريف التعبّدي: بأ نّه الذي شرّع لأجل التعبّد به لربّه المعبّر عنه بالفارسية ب «پرستش»(1)؛ فإنّ الواجبات التعبّدية بالمعنى المبحوث عنه أعمّ ممّا ذكر.

الثاني: في إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق
اشارة

الدواعي القربية على أنحاء مشتركة في ورود بعض إشكالات المقام عليها، ويختصّ بعضها بإشكالات زائدة، فإن كان التقرّب المعتبر هو قصد امتثال الأمر

ص: 201


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 137.

وإطاعته، ففي جواز اعتباره في متعلّق الأمر وجهان، أقواهما الجواز، ويظهر وجهه بعد رفع الإشكالات المتوهّمة، وهي على أنحاء:

منها: دعوى امتناع أخذه في المتعلّق امتناعاً ذاتياً؛ أي التكليف الكذائي محال.

ومنها: دعوى الامتناع بالغير؛ لكونه تكليفاً بغير المقدور.

ولكلّ منهما تقريبات. أمّا الأوّل:

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً ذاتياً

فقد يقرّر وجه الامتناع فيه بلزوم تقدّم الشيء على نفسه:

بأن يقال: إنّ الأحكام أعراض للمتعلّقات، وكلّ عرض متأخّر عن معروضه، وقصد الأمر والامتثال متأخّر عن الأمر برتبة، فأخذه في المتعلّقات موجب لتقدّم الشيء على نفسه برتبتين(1).

وقد يقال: إنّ الأمر يتوقّف على الموضوع، والموضوع يتوقّف على الأمر؛ لكون قصده متوقّفاً عليه، فيلزم الدور(2).

وقد يقال: إنّ ذلك موجب لتقدّم الشيء على نفسه في مرحلة الإنشاء والفعلية والامتثال:

أمّا في مرحلة الإنشاء؛ فلأنّ ما اُخذ في متعلّق التكليف في القضايا الحقيقية لا بدّ وأن يكون مفروض الوجود، سواء كان تحت قدرة المكلّف أو لا، فلو اُخذ

ص: 202


1- مطارح الأنظار 1: 303.
2- اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 94.

قصد الامتثال قيداً للمأمور به فلا محالة يكون الأمر مفروض الوجود في مقام الإنشاء، وهذا ما ذكرنا من لزوم تقدّم الشيء على نفسه.

وأمّا الامتناع في مقام الفعلية والامتثال فيرجع إلى المقام الثاني؛ أي الامتناع بالغير(1).

وهذه الوجوه كلّها مخدوشة:

أمّا الوجه الأوّل: - فمضافاً إلى عدم كون الأحكام من قبيل أعراض

المتعلّقات: أمّا في النفس فلأنّ الإرادة قائمة بالنفس قيام المعلول بعلّته ومضافة إلى المتعلّقات إضافة العلم إلى المعلوم بالذات، وأمّا في الخارج فلأنّ الأحكام اُمور اعتبارية لا خارج لها حتّى تكون قائمة بالموضوعات أو المتعلّقات - أنّه لو فرض كونها من قبيل الأعراض لم تكن من الأعراض الخارجية؛ ضرورة أنّ الخارج ظرف سقوطها لا ثبوتها، ولا ضير في كونها أعراضاً ذهنية، سواء كانت من قبيل أعراض الوجود الذهني أو الماهية، فإنّ المتعلّقات بقيودها ممكنة التعقّل ولو كان تحقّق القيود متأخّراً عن الوجود الخارجي، فالأوامر متعلّقة بالمعقول الذهني من غير توجّه الآمر إلى ذلك، والمعقول بقيوده متقدّم على الأمر في الوجود الذهني، ولو كان في الوجود الخارجي على عكسه.

هذا مضافاً إلى أنّ كلّية القيود الخارجة عن ماهية المأمور به تحتاج في تقييدها بها إلى لحاظ مستأنف، فقوله: «صلّ مع الطهور» تقييد للصلاة بلحاظ آخر، فعليه فلا إشكال في إمكان تقييدها بقصد الأمر والطاعة بلحاظ ثانٍ

ص: 203


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 149 - 150.

مستأنف، ولا فرق في ذلك بين القيود مطلقاً.

ومن ذلك يعلم ما في الوجه الثاني: لأنّ توقّف الموضوع في الخارج على الأمر صحيح، لكن الأمر يتوقّف على الموضوع في الذهن لا الخارج، فيدفع الدور.

وأمّا الوجه الثالث: - فمضافاً إلى منع لزوم أخذ مطلق المتعلّقات ومتعلّقاتها مفروض الوجود - أنّه لو فرض لزومه لم يلزم محذور؛ لأنّ أخذ الأمر مفروض الوجود فرضاً مطابقاً للواقع لا يلزم منه تقدّم الشيء على نفسه، بل يلزم منه فرض وجود الشيء قبل تحقّقه، وهذا أمر غير مستحيل، بل واقع.

فقوله: «صلّ بقصد الأمر» يجوز أن يكون أمره مفروض الوجود فرضاً مطابقاً للواقع؛ لأنّ معنى مطابقته له أن يكون متحقّقاً في محلّه، وهو كذلك، فكما أنّ قوله: «صلّ في الوقت» يكون معنى فرض وجوده أنّه فرض تحقّق الوقت في محلّه، كذلك فيما نحن فيه أيضاً يمكن ذلك. مضافاً إلى ما سمعت من حال تقييد المأمور به بالقيود الخارجة عن تقوّم الماهية.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ المحذور إن كان في عدم تعقّل تصوّر الشيء قبل وجوده فهو بمكان من الفساد؛ ضرورة أنّ كلّ فعل اختياري يكون تصوّره مقدّماً على وجوده. وإن كان في إنشاء الأمر على الوجود المتصوّر فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ الصورة الذهنية بقيودها متقدّمة على الأمر، فلا يلزم منه تقدّم الشيء على نفسه. وإن كان في فرض وجود الشيء قبل وجوده، فهو أيضاً بمكان من الإمكان، فلا محذور من هذه الجهات.

ص: 204

وقد يقرّر وجه امتناعه الذاتي: بأنّ التكليف بذلك المقيّد موجب للجمع بين

اللحاظ الآلي والاستقلالي؛ لأنّ الموضوع بقيوده لا بدّ وأن يلحظ استقلالاً، والأمر بما أنّه طرف إضافة القيد المأخوذ في الموضوع لا بدّ من لحاظه أيضاً استقلالاً، وبما أنّه آلة البعث إلى المطلوب لا يلحظ إلاّ آلة إليه، فيجمع فيه بين اللحاظين المتنافيين(1).

وفيه: أنّ الموضوع مع قيد قصد امتثال الأمر ملحوظ قبل الإنشاء، واستعمال الأمر آلة للبعث، فالاستعمال الآلي لا يجتمع مع اللحاظ الاستقلالي الذي لا بدّ منه قبل الإنشاء.

وأمّا في مقام الإنشاء فتقييد الموضوع يكون في الآن المتأخّر عن الاستعمال الإيجادي الآلي، فيلحظ ما هو آلة للبعث في الآن المتأخّر بنحو الاستقلال، كما في جميع القيود الواردة على المعاني الحرفية بل الاسمية أيضاً، ففي قوله: «زيد في الدار يوم الجمعة» يكون يوم الجمعة ظرفاً للكون الرابط الذي هو معنىً حرفي، وهو ملحوظ في الآن المتأخّر استقلالاً، مع أنّك قد عرفت في باب المعاني الحرفية أنّ تقييدها والإخبار عنها وبها لا يمكن استقلالاً، إلاّ أنّه يمكن

تبعاً، فراجع(2).

وقد يقرّر(3) وجه الامتناع ذاتاً: بأ نّه يلزم منه التهافت في اللحاظ والتناقض في العلم؛ لأنّ موضوع الحكم متقدّم عليه في اللحاظ، وقصد الأمر متأخّر عنه

ص: 205


1- اُنظر لمحات الاُصول: 53.
2- تقدّم في الصفحة 58 - 59.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 229 - 231.

في اللحاظ، كما أنّه متأخّر عنه في الوجود، فيكون متأخّراً عن موضوع الأمر برتبتين، فإذا اُخذ جزءاً من موضوع الأمر أو قيداً فيه، لزم أن يكون الشيء الواحد في اللحاظ الواحد متقدّماً في اللحاظ ومتأخّراً فيه، وهذا سنخ معنىً في نفسه غير معقول وجداناً؛ إمّا للخلف أو لغيره.

ثمّ أطال القائل الكلام بإيراد «إن قلتات» وأجوبتها، وحاصلها: أنّ هذا الإشكال غير الدور والتناقض في المعلوم والملحوظ، بل يرجع إلى لزوم التهافت والتناقض في اللحاظ والعلم.

ولعمري إنّ ذلك لا يرجع إلى محصّل فضلاً عن كونه إشكالاً؛ ضرورة أنّ نفس اللحاظ بما هو لا حكم له حتّى يقال: إنّه بنفسه متهافت مع غيره، بل التهافت لو كان فلأجل الملحوظ، وليس في الملحوظ فيما نحن فيه حيثية توجب التهافت إلاّ تقييد الموضوع بما يأتي من قِبل الأمر، فيرجع الكلام إلى أنّ لحاظ الشيئين المترتّبين في الوجود في رتبة موجب للتهافت في اللحاظ والتناقض في العلم، وهذا بمكان من وضوح الفساد. هذا كلّه في تقرير الامتناع الذاتي.

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً بالغير

وأمّا الوجوه التي استدلّ بها للامتناع الغيري:

فمنها: أنّ فعلية الحكم الكذائي يلزم منها الدور؛ لأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية موضوعه - أي متعلّقات متعلّق التكليف - ضرورة أنّه ما لم تكن القبلة متحقّقة لا يمكن التكليف الفعلي باستقبالها، وفعلية الموضوع فيما نحن فيه تتوقّف على فعلية الحكم، فما لم يكن أمر فعلي لا يمكن قصده، فإذا كانت

ص: 206

فعلية الحكم ممتنعة يصير التكليف ممتنعاً بالغير؛ ضرورة أنّ التكليف إنّما هو بلحاظ صيرورته فعلياً ليعمل به المكلّف(1).

وفيه: - بعد ما عرفت - أنّ إنشاء التكليف على الموضوع المقيّد لا يتوقّف إلاّ على تصوّره، فإذا أنشأ التكليف كذلك يصير في الآن المتأخّر فعلياً؛ لأنّ فعليته تتوقّف على الأمر الحاصل بنفس الإنشاء. وبعبارة اُخرى: أنّ فعلية التكليف متأخّرة عن الإنشاء رتبةً، وفي رتبة الإنشاء يتحقّق الموقوف عليه.

بل لنا أن نقول: إنّ فعلية التكليف لا تتوقّف على فعلية الموضوع توقّف المعلول على علّته، بل لا بدّ في حال فعلية الحكم من فعلية الموضوع، ولو صار فعلياً بنفس فعلية الحكم؛ لأنّ الممتنع هو التكليف الفعلي بشيء لم يكن متحقّقاً بالفعل، وأمّا التكليف الفعلي بشيء يصير فعلياً بنفس فعلية التكليف، فلم يقم دليل على امتناعه.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا قيل: إنّ الأمر يتوقّف على قدرة المكلّف، وهي في المقام تتوقّف على الأمر؛ لأنّ الأمر يتوقّف على قدرة العبد في مقام الامتثال، وفي مقامه يكون الأمر متحقّقاً(2).

ومنها: أنّ امتثال الأمر الكذائي محال، فالتكليف محال لأجله.

بيان الاستحالة: أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، والمتعلّق هاهنا هو الشيء المقيّد بقصد الأمر، فنفس الصلاة - مثلاً - لا تكون مأموراً بها حتّى يقصد

ص: 207


1- اُنظر نهاية الدراية 1: 326.
2- كفاية الاُصول: 95؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 94؛ نهاية الدراية 1: 328.

المأمور امتثال أمرها، والدعوة إلى امتثال المقيّد محال؛ للزوم كون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه ومحرّكاً لمحرّكية نفسه، وهو تقدّم الشيء على نفسه برتبتين، وعلّية الشيء لعلّة نفسه(1).

وفيه: - بعد ما عرفت أنّ تصوّر هذا الموضوع المقيّد قبل تحقّقه بمكان من الإمكان، وإنشاء الأمر وإيقاعه عليه كذلك ممكن - أنّ الأوامر الصادرة من الموالي ليس لها شأن إلاّ إيقاع البعث وإنشاءه، وليس معنى محرّكية الأمر وباعثيته إلاّ المحرّكية الإيقاعية والإنشائية، من غير أن يكون له تأثير في بعث المكلّف تكويناً، فما يكون محرّكاً له هو إرادته الناشئة عن إدراك لزوم إطاعة المولى، الناشئ من الخوف أو الطمع أو شكر نعمائه أو المعرفة بمقامه... إلى غير ذلك، فالأمر محقّق موضوع الطاعة لا المحرّك تكويناً.

فحينئذٍ نقول: إن اُريد من كون الأمر محرّكاً إلى محرّكية نفسه: أنّ الإنشاء على هذا الأمر المقيّد موجب لذلك، فهو ممنوع؛ ضرورة جواز الإيقاع عليه، كما اعترف به المستشكل.

وإن اُريد منه: أنّه يلزم أن يكون الأمر المحرّك للمكلّف تكويناً محرّكاً إلى محرّكية نفسه كذلك، فهو ممنوع أيضاً؛ لأنّ الأمر لا يكون محرّكاً أصلاً، بل ليس له شأن إلاّ إنشاء البعث على موضوع خاصّ، فإن كان العبد مطيعاً للمولى لحصول أحد المبادئ المتقدّمة في نفسه، ورأى أنّ إطاعته لا تتحقّق إلاّ بإتيان الصلاة المتقيّدة، فلا محالة يأتي بها كذلك، وهو أمر ممكن.

ص: 208


1- اُنظر لمحات الاُصول: 54.

وأمّا حديث عدم أمر للصلاة حتّى يقصد امتثاله، فجوابه يظهر بعد العلم بكيفية دعوة الأمر إلى المتعلّقات المركّبة أو المقيّدة، فنقول:

لا إشكال في أنّ المركّبات المتعلّقة للأوامر كالصلاة - مثلاً - موضوعات وحدانية ولو في الاعتبار، ولها أمر واحد من غير أن ينحلّ إلى أوامر عديدة، لا في الموضوعات المركّبة ولا في المقيّدة، فلا فرق بينهما وبين الموضوعات البسيطة في ناحية الأمر.

فالأمر بعث وحداني سواء تعلّق بالمركّب أو البسيط، فلا ينحلّ الأمر إلى أوامر، ولا الإرادة إلى إرادات كثيرة، فالانحلال في ناحية الموضوع، لكن الموضوع المركّب لمّا كان تحقّقه بإيجاد الأجزاء، يكون الإتيان بكلّ جزء جزء بعين الدعوة إلى الكلّ، والأجزاء مبعوث إليها بعين البعث إلى المركّب، فكلّ جزء يأتي به المكلّف امتثال للأمر المتعلّق بالمركّب.

فإذا قال المولى لعبده: «ابنِ مسجداً»، وشرع في بنائه، لا يكون المأمور به إلاّ واحداً، والامتثال كذلك، لكن كيفية امتثاله بإيجاد أجزائه، فلا تكون الأجزاء غير مدعوّ إليها رأساً، ولا مدعوّاً إليها بدعوة خاصّة بها؛ بحيث تكون الدعوة منحلّة إلى الدعوات، بل ما يكون مطابقاً للبرهان والوجدان أنّها مدعوّ إليها بعين دعوة المركّب، فالأمر واحد والمتعلّق واحد.

فحينئذٍ نقول: إنّ الصلاة المتقيّدة بقصد الامتثال متعلّقة للأمر، فنفس الصلاة المأتيّ بها إنّما تكون مدعوّاً إليها بعين دعوة الأمر المتعلّق بالمقيّد، لا بأمر

متعلّق بنفسها، وهذا كافٍ في تحقّق الإطاعة، فإذا علم العبد أنّ الأمر متعلّق

ص: 209

بالصلاة بداعي امتثال أمرها، ويرى أنّ الإتيان بها بداعوية ذلك الأمر موجب لتحقّق المأمور به بجميع قيوده، فلا محالة يأتي بها كذلك، ويكون ممتثلاً لدى العقلاء.

بل لنا أن نقول: - بعد المقدّمة المتقدّمة - إنّ الأمر لو كان محرّكاً وباعثاً وداعياً بحسب الواقع والتكوين، لا يكون تعلّقه بالموضوع الكذائي ممتنعاً؛ لأنّ محرّكيته إلى نفس الصلاة غير ممتنعة، وإلى قيدها وإن كانت ممتنعة لكن لا يحرّك إليه، ولا يحتاج إلى التحريك إليه؛ لأنّ التحريك إلى نفس الصلاة بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالمركّب يكفي في تحقّق المتعلّق، بل التحريك إلى القيد لغو بعد ما يكون حاصلاً، بل تحصيل للحاصل.

وممّا ذكرنا: يظهر النظر في كلام بعض محقّقي العصر في مقام الجواب؛ من دعوى انحلال الأمر إلى أوامر بعضها موضوع لبعض(1).

في تصحيح أخذ قصد الأمر بأمرين

بقي شيء: وهو أنّه على فرض امتناع تعلّق الأمر بموضوع كذائي، هل يمكن تصحيحه بأمرين: تعلّق أحدهما بنفس الطبيعة، والآخر بإتيانها بداعي الأمر بها؟

قد استشكل المحقّق الخراساني رحمه الله علیه - مضافاً إلى القطع بأ نّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كغيرها - بأنّ الأمر الأوّل إن يسقط بمجرّد موافقته ولو

ص: 210


1- مقالات الاُصول 1: 236؛ نهاية الأفكار 1: 190.

لم يقصد الامتثال، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل، فلا يتوسّل الآمر إلى غرضه بهذه الوسيلة، وإن لم يسقط فلا يكون إلاّ لعدم حصول الغرض، ومعه لا يحتاج إلى الثاني؛ لاستقلال العقل بوجوب الموافقة بما يحصل به الغرض(1).

وفيه أوّلاً: أنّ دعوى القطع بعدم الأمرين بهذا النحو ممنوعة، بل لولا محذور عقلي يكون مدّعي القطع بخلافه غير مجازف؛ ضرورة أنّ ألفاظ العبادات موضوعة لمعنىً غير مقيّد بشرائط آتية من قِبل الأمر، كما مرّ في الصحيح والأعمّ(2)، فحينئذٍ لا تكفي الأوامر المتعلّقة بنفس الطبائع لإفادة مثل هذا القيد ولو قلنا بجواز أخذه في المتعلّق، فلا بدّ للمولى لإفادته: إمّا من بيان متّصل لو جاز، والمفروض عدم الجواز، بل مع جوازه ليس منه في الأوامر المتعلّقة بالطبائع عين ولا أثر، [وإمّا من بيان منفصل].

نعم، قام الإجماع بل الضرورة على لزوم قصد التقرّب أو الأمر أو نحو ذلك في العبادات، وهو يكشف عن أمر آخر لولا المحذور، ومعه لا بدّ من التشبّث بشيء آخر.

وثانياً: - بعد القطع بأنّ الأمر الأوّل لا يسقط بمجرّد الإتيان؛ لقيام الإجماع والضرورة على عدم صحّة العبادات بلا قصد أمر أو تقرّب أو نحو ذلك، وصحّتها مع قصده - أنّ هذا الإجماع وتلك الضرورة كاشفان عن تقيّد الطبائع بمثل هذا

ص: 211


1- كفاية الاُصول: 96.
2- تقدّم في الصفحة 110 - 111.

القيد، ومع فرض عدم إمكان الأخذ في موضوع الأمر المتعلّق بها يعلم أنّ ذلك كان بأمر آخر وبيان مستقلّ، ولولا هذا الإجماع والضرورة لكنّا شاكّين في اعتبار مثل قصد الامتثال، ومعه كان على المولى بيان ما هو دخيل في غرضه وموضوع حكمه.

إن قلت: إنّ العقل يستقلّ بالاشتغال، ومعه لامجال لأمر مولوي.

قلت: - مضافاً إلى جريان البراءة في المورد كما سيأتي بيانه(1) - إنّ حكم العقل بالاشتغال لم يكن ضرورياً؛ وإلاّ لما اختلفت فيه الأنظار والآراء، ومعه يبقى للمولى مجال التعبّد والمولوية ولو لردع القائلين بالبراءة.

وثالثاً: أنّ قوله: إنّ المولى لا يتوسّل لغرضه بهذه الوسيلة، مدفوع بأنّ ترك الأمر الثاني ولو برفع موضوعه موجب للعقوبة، فيحكم العقل بلزوم إطاعته، وليس للمولى وسيلة للتوصّل إلى أغراضه إلاّ الأمر والإيعاد بالعقاب على تركه، هذا.

وفي المقام إشكال آخر:

وهو أنّه - بعد فرض كون الطبيعة مع قيد قصد الامتثال قامت بها المصلحة، وكان المقيّد بما هو مقيّد محصّل الغرض - لا يمكن أن تتعلّق الإرادة بالمجرّد عن القيد ثبوتاً ولا البعث الحقيقي إليه، فلا يمكن أن يكون الأمر المتعلّق بنفس الطبيعة الخالية عن القيد صالحاً للباعثية، ومعه كيف يمكن الأمر بإتيانها بباعثية الأمر وداعويته؟!

وبالجملة: ما لا يمكن أن يكون باعثاً كيف يمكن الأمر بباعثيته؟!

ص: 212


1- يأتي في الصفحة 219.

والمفروض أنّ المجرّد عن القيد لم تقم به المصلحة، ولا يسقط به الغرض، فلا تتعلّق به الإرادة، ولا يتعلّق به البعث الحقيقي، فلا يمكن أن يأمر المولى بإتيانه بداعي أمره.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو فرض جواز تعلّق الأمر به، لم يكن قصد الأمر الصوري - الذي لا يترتّب عليه غرض، ولا يكون متعلّقه ذا مصلحة وحسن - مقرّباً، فقصده مع عدمه سواء، فلا يصل المولى إلى مطلوبه بهذه الوسيلة(1).

والجواب عنه: أنّ الممتنع هو تعلّق الإرادة والبعث بالمجرّد عن القيد مع الاكتفاء به، وأمّا مع إرادة إفهام القيد بدليل آخر فلا، فكما يجوز للآمر الذي تعلّق غرضه بإتيان مركّب أو مقيّد أن يأمر بهما، يجوز له أن يأمر بالأجزاء واحداً بعد واحد مع إفهام أنّ الغرض متعلّق بالمركّب، وأن يأمر بالخالي عن القيد ويأمر بالقيد مستقلاًّ، وهذا ممّا لا محذور فيه، لا سيّما في المقام الذي لا يمكن غير ذلك فرضاً.

وأمّا عدم مقرّبية قصد الأمر المتعلّق بالمجرّد عن القيد، فهو أيضاً ممنوع فيما نحن فيه؛ ضرورة أنّ تمام المحصّل للغرض هو الصلاة مع قصد أمرها. نعم، في الأجزاء والقيود التي لم تكن بتلك المثابة لا يمكن قصد أمرها فقط، ولا يكون قصده مقرّباً، لا في مثل المقام الذي يكون قصد الأمر قيداً متمّماً للغرض.

ص: 213


1- لمحات الاُصول: 57.
تتميم: في إمكان أخذ قصد المصلحة ونحوها في المتعلّق

هذا كلّه لو قلنا بأنّ المعتبر في العبادات هو قصد الأمر، وأمّا لو قلنا بأنّ المعتبر فيها هو إتيان الفعل بداعي المصلحة أو الحسن أو المحبوبية، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ أخذها بمكان من الإمكان، لكنّها غير مأخوذة قطعاً؛ لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال(1).

مع أنّ فيه أيضاً نظير بعض الإشكالات المتقدّمة؛ فإنّ داعوية المصلحة مثلاً لمّا كانت مأخوذة في المأمور به، تصير الداعوية متوقّفة على نفسها، وداعية إلى داعوية نفسها؛ لأنّ الفعل لا يكون بنفسه ذا مصلحة حتّى يكون بنفسه داعياً إلى الإتيان، بل بقيد داعويتها، فلا بدّ أن يكون الفعل مع هذا القيد القائم بهما المصلحة داعياً إلى الإتيان(2)، وهذا عين الإشكال المتقدّم.

وأيضاً لمّا كانت المصلحة قائمة بالمقيّد يكون الفعل غير ذي المصلحة، فلا يمكن قصدها إلاّ على وجه دائر؛ لأنّ قصد المصلحة يتوقّف عليها، وهي تتوقّف على قصدها فرضاً(3).

وأيضاً أنّ الداعي مطلقاً في سلسلة علل الإرادة التكوينية، فلو اُخذ في العمل الذي في سلسلة المعاليل لزم أن يكون الشيء علّة لعلّة نفسه، فإذا امتنع تعلّق الإرادة التكوينية امتنع تعلّق التشريعية؛ لأ نّها فرع إمكان الاُولى(4).

ص: 214


1- كفاية الاُصول: 97.
2- لمحات الاُصول: 56.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 151.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 152.

ويمكن [دفع] الأوّل ببعض ما ذكرنا في [دفع] الإشكال في قصد الأمر(1).

مضافاً إلى أن يقال: إنّ للصلاة مصلحة بنحو الجزء الموضوعي، ولمّا رأى المكلّف أنّ قصدها متمّم للمصلحة فلا محالة يصير داعياً إلى إتيانها بداعي المصلحة، من غير لزوم كون الداعي داعياً.

وبهذا يجاب عن الإشكال الثاني ويقطع الدور؛ فإنّ قصد المصلحة - التي هي جزء الموضوع - يتوقّف عليها، وهي لا تتوقّف على القصد، ولمّا رأى المكلّف أنّ هذا القصد موجب لتمامية الموضوع وحصول الغرض، فلا محالة يدعوه ذلك إلى القصد إلى الفعل. نعم، لا يمكن قصد تلك المصلحة مجرّدة ومنفكّة عن الجزء المتمّم، وفيما نحن فيه لا يمكن التفكيك بينهما.

وأمّا الجواب عن الثالث: فبمثل ما سبق(2): من أنّ الداعي والمحرّك إلى إتيان المأمور به بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلّف، كالحبّ والخوف والطمع، وتصير هذه المبادئ داعية إلى إطاعة المولى بأيّ نحو أمر وشاء.

فإذا أمر بإتيان الصلاة بداعي المصلحة تصير تلك المبادئ المتقدّمة داعية إلى إتيانها بداعي المصلحة، من غير لزوم تأثير الشيء في علّته، ألا ترى أنّك إذا أحببت شخصاً حبّاً شديداً، فأمرك بإتيان شيء مبغوض أن تأتي به لأجله، صارت تلك المحبّة داعية إلى إتيانه بداعي إطاعته وطلباً لمرضاته من غير لزوم الدور.

ص: 215


1- تقدّم في الصفحة 208.
2- تقدّم في الصفحة 208.
الثالث: في مقتضى الأصل اللفظي في المقام
اشارة

بعد ما عرفت جواز أخذ جميع القيود في المأمور به، يرفع الشكّ فيها بإطلاق الدليل، ومقتضاه كون الأصل هو التوصّلية.

فإن قلت: لا يمكن التمسّك بالإطلاق هاهنا؛ لأنّ دعوة الأمر إلى متعلّقه من شؤونه ولوازمه التي لا تنفكّ عنه - وهو واضح - ولا عن متعلّقه؛ لأنّ الداعي إلى الأمر بالشيء هو جعل الداعي إلى الإتيان به، فمتعلّق الأمر هو طبيعة الفعل التي جعل المولى داعياً للعبد إلى الإتيان بها، لا مطلق طبيعته، ومعه كيف يتصوّر إمكان الإطلاق في متعلّق الأمر ليتمسّك بإطلاق الخطاب في مورد الشكّ؟!

قلت: لا شكّ في أنّ دعوة الأمر لا تنفكّ عن الأمر ولا عن متعلّقه، كان الأمر توصّلياً أو تعبّدياً، لكن الكلام في أنّ هذه الدعوة هل تعلّقت بذات العمل، أو مع قيد الدعوة؛ حتّى يكون القيد مأخوذاً في المتعلّق قبل تعلّق الدعوة، لا جائياً من قِبلها ومنتزعاً من المتعلّق بعد تعلّقها به؛ ضرورة أنّ ما جاء من قِبلها لا يكون مدعوّاً إليه ولا العبد مأخوذاً بإتيانه.

وبالجملة: أنّ البعث تعلّق بنفس الطبيعة بلا قيد، وهذا معنى الإطلاق المقابل للتقييد في المتعلّق، وأمّا القيد الجائي من قِبل البعث فلا يكون مقابلاً للإطلاق فيه، وهذا واضح جدّاً.

في كلام شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه

ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة رحمه الله علیه قد رجع في أواخر عمره الشريف إلى أصالة التعبّدية، قائلاً: إنّ العلل التشريعية كالعلل التكوينية طابق النعل بالنعل، فكلّ ما

ص: 216

هو من مقتضيات الاُولى يكون من مقتضيات الثانية، كتكثّر المعلول بتكثّر العلّة، وكعدم انفكاك المعلول عنها، وغير ذلك.

وإنّ من القيود اللبّية ما يمكن أن يؤخذ في المأمور به على نحو القيدية اللحاظية كالإيمان والكفر في الرقبة.

ومنها ما لا يمكن، كقيد الإيصال في المقدّمة على تقدير وجوبها؛ فإنّ المطلقة غير واجبة، والمقيّدة غير ممكنة الوجوب، فالواجب ما ليس بمطلق ولا مقيّد وإن لا ينطبق إلاّ على المقيّد.

وكالعلل التكوينية؛ فإنّ تأثيرها ليس في الماهية المطلقة ولا المقيّدة بقيد المتأ ثّرة من قِبلها، فإنّه ممتنع، بل يكون في الماهية التي لا تنطبق إلاّ على المقيّد

بهذا القيد، فالنار إنّما تؤثّر في الطبيعة المحترقة من قِبلها واقعاً، لا المطلقة ولا المقيّدة.

وكذا العلل التشريعية، فإنّ الأوامر تحرّك المكلّف نحو الطبيعة التي لا تنطبق إلاّ على المتقيّدة لبّاً بتحريكها إيّاه نحوها، لا نحو المطلقة ولا المقيّدة بالتقييد

اللحاظي. فإذا أتى المكلّف بالطبيعة من غير داعوية الأمر، لا يكون آتياً بالمأمور به؛ لأنّ المأمور به هو ما لا ينطبق إلاّ على المقيّد بداعوية الأمر وباعثيته وإن كان آتياً بالطبيعة؛ لأ نّها قابلة للتكثّر، فعليه يكون مقتضى الأصل اللفظي هو التعبّدية، انتهى ملخّص ما أفاد رحمه الله علیه (1).

وفيه أوّلاً: أنّ قياس علل التشريع بالتكوين مع الفارق؛ لأنّ المعلول في

ص: 217


1- الظاهر أ نّه أفاده في مجلس بحثه.

العلل التكوينية لا شيئية له ولا تشخّص قبل تأثير علّته، فبعلّته يصير موجوداً متشخّصاً، وأمّا المبعوث إليه في الأوامر فتكون رتبته مقدّمة على الأمر، فلا بدّ للآمر من تصوّر المتعلّق بكلّية قيوده حتّى يأمر به، فإذا أمر بنفس الطبيعة بلا قيد

تكون هي المأمور بها لا غير، والقيود المنتزعة من تعلّق الأمر بها لا تكون مأموراً بها ومبعوثاً إليها، إلاّ أن تؤخذ في المتعلّق، كسائر القيود.

وبالجملة: أنّ الأمر التعبّدي بعد اشتراكه مع التوصّلي في أنّ كلّ واحد منهما إذا تعلّق بشيء ينتزع منه بلحاظه عنوان المأمور به والمبعوث إليه، يفترق عنه بأنّ المطلوب منه والمبعوث إليه فيه لم يكن الطبيعة، بل هي مع قصد الأمر أو التقرّب أو نحوهما، فلا بدّ أن يكون مثل تلك القيود مورداً للبعث والتحريك، ولا يكون كذلك إلاّ بأخذه في المتعلّق، وإلاّ فصرف الأمر بالطبيعة لا يمكن أن يكون محرّكاً إلى غيرها.

وثانياً: لقائل أن يقول: إنّه على فرض تسليم كون التشريع كالتكوين لا يلزم منه ما ذكره؛ لأنّ النار المحرقة للقطن - مثلاً - إنّما تحرق نفس الطبيعة، لا ما لاينطبق إلاّ على المقيّد. نعم، بتعلّق الإحراق [بها] تصير الطبيعة موصوفة بوصف لا يمكن أن تنطبق إلاّ على المقيّد، لكن هذا القيد والوصف بعد الإحراق رتبةً وبعلّيته، ولا يمكن أن يصير موجباً لضيق الطبيعة المتعلّقة للإحراق.

وبما ذكرنا من عدم صحّة قياس علل التشريع بالتكوين، يظهر حال بقيّة استنتاجاته منه، كاستفادة الفورية من الأمر، وعدم تداخل الأسباب، كما حقّقنا في محلّه(1).

ص: 218


1- راجع ما يأتي في الصفحة 233، والجزء الثاني: 175.
الرابع: في تحرير الأصل العملي

لا إشكال في جريان البراءة في المقام بناءً على جريانها في الأقلّ والأكثر مع جواز أخذ القيود في المأمور به.

وأمّا مع امتناعه فقد يفرّق بينهما بأنّ هناك رجع الشكّ إلى مقام الثبوت؛ للشكّ في تعلّق الأمر بالأكثر، وفي المقام إلى مقام السقوط، للعلم بتعلّقه بالمجرّد عن القيد، وإنّما الشكّ في سقوطه مع الإتيان بلا قصد الأمر أو نحوه؛ لأنّ الشكّ في الخروج عن عهدة التكليف(1).

وإن شئت قلت: إنّ تحصيل الغرض مبدأ للأمر، فإذا علم أصل الغرض وشكّ في حصوله للشكّ في كون المأتيّ به مسقطاً أو مع قيد التعبّدية، فلا محالة يجب القطع بتحصيل الغرض بإتيان جميع ما له دخل - ولو احتمالاً - في تحصيله(2).

وفيه: أنّه - على فرض تماميته - من أدلّة الاشتغال في الأقلّ والأكثر، لا الفارق بينه وبين المقام؛ لأنّ القائل بالاشتغال هناك يدّعي أنّ الأمر بالأقلّ معلوم ونشكّ في سقوطه لأجل ارتباطية الأجزاء(3)، أو أنّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم ونشكّ في سقوطه بإتيان الأقلّ، فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض(4).

ص: 219


1- نهاية الدراية 1: 345.
2- نهاية الدراية 1: 342.
3- هداية المسترشدين 3: 563.
4- كفاية الاُصول: 414.

هذا، مع أنّ الدليل غير تامّ؛ فإنّا لا نفهم من سقوط الأمر شيئاً إلاّ الإتيان بمفاده على ما هو عليه.

وبعبارة اُخرى: أنّ الأمر حجّة على العبد فيما يبعثه إليه، ولا يعقل أن يكون حجّة على الزائد على المبعوث إليه، فمع الإتيان بجميع قيوده المأخوذة فيه لا يعقل بقاؤه على صفة الحجّية والدعوة، ويكون العقاب على غير المأمور به وما قام عليه الحجّة عقاباً بلا بيان وقبيحاً عند العقلاء، ومجرّد احتمال الغرض لا يصير حجّة على الواقع الغير المبعوث إليه.

مع أنّ مجرّد عدم إمكان تقييد المأمور به لا يوجب عدم إمكان البيان مستقلاًّ، فلو توقّف حصول غرض المولى على أمر وراء المأمور به فعليه البيان.

هذا حال البراءة العقلية.

وأمّا النقلية: فتارةً يفرض الكلام فيما إذا جاز تقييد المأمور به بالقيود الآتية من قِبل الأمر، واُخرى فيما إذا جاز البيان بأمر آخر فقط، وثالثةً فيما لا يجوز مطلقاً، وعلى أيّ حال: تارةً يفرض مع القول بجريان البراءة العقلية، واُخرى مع القول بالاشتغال.

والحقّ جريانها في جميع الصور.

وقد يقال: بعدم الجريان مطلقاً بناءً على القول بالاشتغال، وفيما لا يمكن أخذ القيد في المأمور به ولو بأمر آخر حتّى بناءً على البراءة.

أمّا عدم الجريان على الاشتغال حتّى فيما يمكن الأخذ في المأمور به بأمر

واحد؛ فلقصور أدلّة البراءة عن شمول مثل المورد؛ فإنّ ملاك البراءة النقلية هو كون الأمر المشكوك فيه إذا لم يبيّنه المولى كان ناقضاً لغرضه، والمورد ليس

ص: 220

كذلك؛ فإنّ القيد المزبور - على فرض دخالته - يجوز للمولى الاتّكال فيه على حكم العقل بالاشتغال، ولا يوجب عدم البيان نقض الغرض، وإذا كان كذلك لا يكون مجرى للبراءة.

وليس المدّعى أنّ حكم العقل بالاحتياط بيان نافٍ لموضوع البراءة حتّى يستشكل بلزوم الدور، بل المدّعى قصور أدلّة البراءة عن مثل المورد.

وأمّا فيما يمكن البيان بأمر آخر فقط؛ فلأنّ جريان البراءة لا يثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل تمام المأمور به إلاّ على الأصل المثبت، بخلاف ما إذا قلنا بإمكان أخذ القيد في متعلّق الأمر الأوّل؛ فإنّ الشكّ يرجع إلى انبساط الأمر على الجزء أو القيد المشكوك فيه، فمع جريان البراءة يكون بنظر العرف باقي الأجزاء تمام المأمور به، فيكون من قبيل خفاء الواسطة.

وأمّا مع عدم إمكان الأخذ مطلقاً؛ فلأنّ جريان مثل دليل الرفع موقوف على كون المشكوك فيه قابلاً للوضع والرفع شرعاً، ومع عدم جواز الأخذ لا يمكن الوضع، فلا يمكن الرفع، ودخالته في الغرض واقعية تكوينية غير قابلة للوضع والرفع التشريعيّين.

وأمّا الأجزاء والقيود القابلة للأخذ فيه، فهي وإن كانت دخالتها في تحصيل الغرض واقعية، لكنّها لمّا كانت قابلة لهما فبدليل الرفع - ولو كان أصلاً - يكشف عن أنّه ليس هناك أمر فعلي متعلّق بالمشكوك فيه(1).

والجواب عن الأوّل: أنّ هذه الدعوى ترجع إلى انصراف الأدلّة عن مورد

ص: 221


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 243 - 245.

يكون العقل فيه حاكماً بالاشتغال، وهو ممنوع جدّاً، بل لو ادّعي عكس ذلك فله وجه؛ لأنّ ظاهر الأدلّة هو المولوية، ومع حكم العقل بالبراءة تصير من قبيل الإرشاد إلى حكم العقل، فمورد حكم العقل بالاشتغال كأ نّه القدر المتيقّن لشمول الأدلّة، فدعوى كون ملاك الأدلّة النقلية في غير مورده غريبة.

وعن الثاني: أوّلاً: أنّه لا ملزم لإثبات كون البقيّة تمام المأمور به أو تمام المطلوب؛ حتّى يقال: إنّه لا يثبت إلاّ بالأصل المثبت؛ فإنّ عنوان «تمام المطلوب» لا يكون مأموراً به حتّى يلزم على المكلّف إحرازه، وليس عليه إلاّ الإتيان بما قام عليه الحجّة، وهو بقيّة الأجزاء، كانت تمام المطلوب أو لا.

وثانياً: أنّ رفع الجزء المشكوك فيه ملازم عقلاً لكون البقيّة تمام المطلوب، وهذا عين الأصل المثبت، من غير فرق بين وحدة الأمر وتعدّده.

وثالثاً: أنّ مفاد الأمر الثاني ليس أمراً مستقلاًّ، بل هو من قبيل تتميم الجعل ناظراً إلى متعلّق الأمر الأوّل وموجباً لتقييده، فلو كانت الواسطة خفيّة لم يفرّق بينهما.

وعن الثالث: أنّ دخالة شيء في تحصيل الغرض ثبوتاً، لا محالة تكون على نحو يمكن بيانه إثباتاً، فعلى المولى بيانه، وذلك كافٍ في جريان دليل الرفع؛ فإنّ أمر وضعه بيد الشارع، ودعوى عدم إمكان ذلك أيضاً كما ترى .

ص: 222

المبحث الخامس في أصالة النفسية والعينية والتعيينية

إذا شكّ في كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً أو مقابلاتها، فالظاهر لزوم الحمل عليها دون المقابلات؛ لأنّ أمر المولى وبعثه بأيّ دالّ كان - بلفظ أو إشارة أو غيرهما - تمام الموضوع عند العقلاء لوجوب الطاعة، ومعه يقطع عذر المكلّف - كما مرّ في باب دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب(1) فإنّ الهيئة وإن لم توضع إلاّ لمجرّد البعث والإغراء، وما ذكر ومقابلاتها خارجة عن مدلولها، لكن مجرّد صدور الأمر عن المولى موضوع لوجوب الطاعة، فإذا تعلّق أمر بشيء يصير حجّة عليه، فإذا عدل المكلّف إلى غيره باحتمال التخييرية، أو تركه مع إتيان الغير باحتمال الكفائية، أو تركه مع سقوط الوجوب عن غيره باحتمال الغيرية، لا يكون معذوراً لدى العقلاء، لا لدلالة الهيئة وضعاً على شيء منها؛ ولهذا لو أشار المولى بإتيان شيء يجب عقلاً إتيانه، والأعذار المتقدّمة ليست موجّهة، مع أنّه لا وضع للإشارة.

وأمّا قضيّة مقدّمات الحكمة - مع إطلاق الأمر - ذلك، فمحلّ إشكال ومنع؛ لأنّ مقدّمات الحكمة لا يمكن أن تنتج هاهنا؛ لأ نّه إمّا أن يراد أن تنتج مطلق البعث الجامع بين النفسي والغيري... وهكذا، فمع كونه خلاف المقصود ممتنع؛ لعدم إمكان الجامع بين المعاني الحرفية كما سبق

ص: 223


1- تقدّم في الصفحة 198 - 199.

بيانه(1)، هذا، مضافاً إلى القطع بعدم إرادة الجامع في المقام.

أو تنتج الوجوب النفسي وأخواته - كما ذكر المحقّق الخراساني(2) - فلا يمكن أيضاً؛ لأنّ النفسية متباينة مع الغيرية؛ كلّ منهما يمتاز عن الآخر بقيد وجودي أو عدمي، فالنفسي ما يكون البعث إليه لذاته أو لا لغيره، والغيري بخلافه، ويحتاج كلاهما في مقام التشريع والبيان إلى قيد زائد ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود.

وما يقال: إنّ النفسية ليست إلاّ عدم كون الوجوب للغير، وكذا البواقي، وعدم القرينة على القيود الوجودية دليل على عدمها، وإلاّ لزم نقض الغرض، لا أنّ النفسية والغيرية قيدان وجوديان(3).

مدفوع؛ ضرورة امتناع كون النفسية عدم الغيرية على نعت السوالب المحصّلة الصادقة مع عدم الوجوب رأساً.

مع أنّ الوجوب والوجود لا يمكن أن يكونا نفس العدم، بل النفسية إمّا وجوب لذاته، أو لا لغيره على نعت الموجبة المعدولة أو السالبة المحمول، فحينئذٍ كما أنّ الوجوب لغيره يحتاج إلى بيان زائد على أصل الوجوب، كذلك الوجوب لا لغيره.

مع أنّ التحقيق أنّ تعريف النفسي بالوجوب لا لغيره(4) تعريف بلازمه، بل

ص: 224


1- تقدّم في الصفحة 43.
2- كفاية الاُصول: 99.
3- نهاية الدراية 1: 353.
4- نفس المصدر.

النفسية هو الوجوب لذاته والغيرية لغيره، وهما قيدان وجوديان، وعلى أيّ حال لم يكن النفسي هو نفس الطبيعة والغيري هي مع قيد، لا عقلاً - وهو واضح - ولا عرفاً؛ ضرورة أنّ تقسيم الوجوب إلى النفسي والغيري صحيح بحسب نظر العرف.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما قرّره بعض أعاظم العصر أيضاً(1).

ص: 225


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 220.

المبحث السادس في المرّة والتكرار

اشارة

الحقّ عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار، وقبل الخوض في المطلوب نقدّم اُموراً:

الأوّل: في تحرير محلّ النزاع

جعل في «الفصول» محلّ النزاع في الهيئة؛ استشهاداً بنصّ جماعة وبحكاية السكّاكي الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد من اللام والتنوين لا يدلّ إلاّ على الماهية من حيث هي(1).

واستشكل عليه المحقّق الخراساني: بأنّ ذلك لا يوجب كون النزاع في الهيئة؛ ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات(2).

وهذا الإشكال غير وارد عليه؛ لأنّ مادّة المصدر عين مادّة المشتقّات، ولو لم يكن المصدر مادّة لها.

لكن يرد على «الفصول»: بأنّ ذلك لا يتمّ إلاّ إذا انضمّ إليه الإجماع على كون المصدر أصل المشتقّات، أو الإجماع على أنّ مادّته مادّتها، وهو ممنوع؛ لوقوع الخلاف في مادّة المشتقّات، وفي وضعها نوعاً وشخصاً.

ص: 226


1- الفصول الغروية: 71 / السطر 17.
2- كفاية الاُصول: 100.

ثمّ إنّ النزاع بحسب التصوّر يحتمل أن يكون في الهيئة، وفي المادّة بأن يقال: إنّ مادّة الأمر موضوعة بوضع على حدة، وفي المجموع بأن يقال: إنّ لمجموعهما وضعاً خاصّاً. لكن النزاع في الهيئة كأ نّه يرجع إلى النزاع في أمر غير معقول؛ لأنّ المادّة إذا كانت موضوعة للماهية:

فإمّا أن يقال: إنّ الهيئة وضعت للبعث والإغراء، ولازم الإغراء إلى الماهية هو إيجادها، لا أنّه مدلولها اللفظي، فالإغراءات إلى الماهية اللابشرط لا يمكن أن تكون تأسيسية؛ لما عرفت سابقاً: أنّ متعلّق الإرادة والبعث إذا لم يكن متعدّداً لا يمكن أن تتعدّد الإرادة والبعث التأسيسي إليه؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون مراداً ومشتاقاً إليه مرّتين، فكثرة الإرادة والحبّ والاشتياق تابعة لكثرة المتعلّق، وكذا لا يمكن تعدّد البعث التأسيسي إلى شيء واحد، ومعه يكون النزاع في الهيئة هو النزاع في أمر غير معقول.

نعم، بناءً على ما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه - من أنّ علّة التشريع كالتكوين يكون المعلول في وحدته وكثرته تابعاً لها - يكون للنزاع فيها مجال، لكن قد عرفت عدم كونه مرضيّاً(1).

وإمّا أن يقال: إنّها وضعت لطلب الإيجاد؛ بحيث يكون الإيجاد بالمعنى الحرفي مفادها اللغوي، فحينئذٍ وإن جاز النزاع في أنّها وضعت لطلب إيجاد أو إيجادات، لكن الوضع للعنوان المقيّد موجب لاسمية معنى الهيئة، وتقييد المعنى الحرفي في استعمال واحد ممّا لا يمكن؛ فإنّ نفس الإيجاد معنىً حرفي،

ص: 227


1- تقدّم في الصفحة 216 - 218.

وتقييده لا يمكن إلاّ بلحاظ آخر، والجمع بينهما في استعمال واحد غير جائز.

وما ذكرنا في باب معاني الحروف(1) - من أنّ نوع الاستعمالات لإفادة معاني الحروف، وجوّزنا تقييدها - لا ينافي ما ذكرنا هاهنا؛ لأنّ المقصود هناك إمكان تقييدها في ضمن الكلام بلحاظ آخر، فلاتغفل. فالنزاع في الهيئة ممّا لامجال له.

إلاّ أن يقال: إنّ الهيئة يمكن أن توضع لطلب إيجادات بالمعنى الحرفي، لا للإيجاد المتقيّد بالمرّة والتكرار، فكما يجوز استعمال الحرف في أكثر من معنىً، يجوز وضع الحرف للكثرة واستعماله فيها.

ولكنّه على فرض إمكانه العقلي مقطوع الخلاف.

فلا بدّ وأن يرجع النزاع إلى المادّة؛ بدعوى أنّ مادّة الأمر موضوعة مستقلّة إمّا للدفعة أو الدفعات، أو يقال: إنّ المادّة والهيئة موضوعتان مستقلاًّ بحيث يرجع القيد إلى الجزء المادّي لا الصوري.

الثاني: في تعيين المراد من المرّة والتكرار

هل المراد من المرّة والتكرار الدفعة والدفعات، أو الفرد والأفراد؟

لا يبعد أن يكون محلّ النزاع هو الثاني؛ نظراً إلى أنّ هذا النزاع نشأ ظاهراً من النظر إلى اختلاف أحكام الشريعة، فإنّ منها مايتكرّر كالصوم والصلاة، ومنها ما لا يتكرّر كالحجّ، فصار موجباً لاختلاف الأنظار، ومعلوم أنّه ليس في الأحكام ما يكون للدفعة والدفعات، وعلى أيّ حال يمكن النزاع على كلا المعنيين.

واختار صاحب «الفصول» كونه في المعنى الأوّل؛ نظراً إلى ظاهر اللفظ،

ص: 228


1- تقدّم في الصفحة 58.

وأنّهم لو أرادوا بالمرّة الفرد لكان الأنسب أن يجعل هذا البحث تتمّة للبحث الآتي من أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو الفرد، فيقال: وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي تعلّقه بالفرد الواحد أو المتعدّد؟ ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما كما فعلوه، وأمّا على الدفعة فلا علاقة بين المسألتين(1).

وردّ: بأنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة أيضاً يأتي فيه هذا النزاع بالمعنيين؛ لأنّ القائل بأنّ الأمر تعلّق بالطبيعة لا يقول: إنّه تعلّق بالماهية من حيث هي، بل بما هي موجودة، وبهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتكرار بكلا المعنيين، فلا يكون هذا البحث من تتمّة البحث الآتي، بل بحث برأسه؛ لاختلاف الجهة المبحوث عنها فيهما(2).

والتحقيق أن يقال: بناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة: فإن قلنا بأنّ الهيئة موضوعة لطلب الإيجاد - كما عليه «الفصول»(3) - فلا محيص عن كون متعلّقه هو الطبيعة من حيث هي؛ لأنّ الإيجاد اُخذ في طرف الهيئة، فلو اُخذ الوجود في طرف المادّة يصير معنى الأمر بالصلاة: «أوجِد وجود الصلاة» وهو كما ترى.

فحينئذٍ يكون النزاع في استفادة المرّة والتكرار بالمعنيين راجعاً إلى الهيئة، فيأتي الإشكال المتقدّم في الأمر الأوّل، فلا بدّ من إرجاع البحث إلى المادّة تخلّصاً عن الإشكال، فحينئذٍ لا مجرى للنزاع مع تعلّق الأمر بالطبيعة، سواء

ص: 229


1- الفصول الغروية: 71 / السطر25.
2- كفاية الاُصول: 101 - 102.
3- الفصول الغروية: 71 / السطر 39.

اُريد الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات؛ ضرورة أنّها خارجة عن الطبيعة، وأمّا مع تعلّق الأمر بالفرد فللنزاع مجال.

وإن قلنا بأنّ الهيئة موضوعة للإغراء والبعث، ولازم الإغراء إلى الطبيعة إيجادها؛ لأنّ الماهية من حيث هي ليست مطلوبة، لكن الإيجاد والوجود لم يكونا مدلول الهيئة ولا المادّة، بل من اللوازم العقلية لتعلّق البعث بالطبيعة، فحينئذٍ يكون النزاع بناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة في أمر عقلي لا لغوي، وهو خلاف ظاهرهم(1)، فلا بدّ من إجراء النزاع على فرض تعلّق الأمر بالفرد لا الطبيعة حتّى يدفع الإشكال.

لكن بعد اللتيّا والتي لا يصير هذا البحث من تتمّة البحث الآتي بعد كون الجهة المبحوث عنها مختلفة.

الثالث: في وحدة الامتثال وتعدّده عند إتيان الأفراد العرضية دفعة

قد يقال: بناءً على دلالة الأمر على طلب الطبيعة لو أتى المكلّف بعدّة أفراد معاً يكون امتثالات بعدد الأفراد؛ لأنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّرها، ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد؛ لأنّ المجموع ليس له وجود غير وجود الأفراد، فكلّ فرد محقّق الطبيعة، ولمّا كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة والتكرار لو أتى المكلّف بأفراد متعدّدة أوجد المطلوب بإيجاد كلّ فرد، ويكون كلٌّ امتثالاً برأسه، كما هو موجود برأسه.

ص: 230


1- معالم الدين: 53؛ قوانين الاُصول 1: 91 / السطر 6؛ الفصول الغروية: 71 / السطر 38؛ كفاية الاُصول: 103.

ونظير ذلك الواجب الكفائي؛ حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة، ويكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها، فمع إتيان واحد منهم يسقط عن الباقي، وأمّا لو أتى عدّة منهم دفعة يكون كلٌّ ممتثلاً، وتحقّقت امتثالات، لا امتثال واحد من الجميع(1).

وفيه: أنّ مناط وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته ولو بالانحلال بوجه، فلو تعلّق أمر بإكرام كلّ فرد من العلماء، يكون إكرام كلّ فرد واجباً برأسه، وله امتثال برأسه.

وأمّا مع تعلّق الأمر بنفس الطبيعة متوجّهاً إلى مكلّف واحد، فلا يعقل أن يتكثّر الامتثال بتكثّر الأفراد ولا بتكثّر الطبيعة؛ فإنّ تكثّرها لا يوجب تكثّر

الطلب والوجوب ولو انحلالاً، فلا يوجب تكثّر الامتثال؛ ولهذا لو ترك الطبيعة القابلة للكثرة لم يعاقب بعدد كثرة الأفراد، فلو تعلّق الطلب بإكرام العالم؛ بحيث لو أكرم واحداً منهم سقط الطلب، فترك العبد الإكرام مطلقاً، لم يكن له إلاّ عقاب واحد بالضرورة، ومعه كيف يمكن أن يكون له امتثالات مع الإتيان بإكرام عدّة منهم؟! فالامتثال فرع الطلب، كما أنّ العقوبة فرع ترك المطلوب، فلا يمكن الامتثالات مع وحدة الطلب، ولا استحقاق عقوبة واحدة مع كثرته.

وممّا ذكرنا يظهر فارق قياسه بالواجب الكفائي؛ فإنّ الطلب هناك - على فرض كون الكفائي كما ذكر- توجّه إلى كلّ مكلّف بإتيان الطبيعة، فكلّ فرد ممتثل مع الإتيان دفعة ومعاقب مع الترك رأساً، ومع إتيان واحد منهم يسقط

ص: 231


1- لمحات الاُصول: 70.

الطلب عن الباقي؛ لرفعه موضوعه، فهناك طلبات كثيرة فامتثالات كثيرة، بخلاف ما نحن فيه، فلا تغفل.

التحقيق: عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار

إذا عرفت ذلك، فالحقّ: عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار؛ لأنّ المادّة موضوعة للماهية بلا شرط، والهيئة للإغراء والبعث، أو لطلب الوجود، أو الإيجاد، وليس لهما وضع على حدة، ولا قرائن عامّة تدلّ على واحد منهما، كما لا يخفى.

ص: 232

المبحث السابع في الفور والتراخي

اشارة

وبمثل ما ذكر في المرّة يعلم أنّه لا دلالة للأمر على الفور والتراخي؛ إذ ليس مفاده إلاّ البعث إلى نفس الطبيعة، ولازمه إيجادها أو البعث إلى إيجادها، وأيّاً ما

كان لا دلالة فيه على أمر زائد على ما ذكر.

في استدلال العلاّمة الحائري على الفورية

لكن شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - كان يقايس الأوامر بالعلل التكوينية في اقتضائها عدم انفكاك معاليلها عنها، قال في كتاب «الصلاة»: «إنّ الأمر المتعلّق بموضوع خاصّ غير مقيّد بزمان، وإن لم يكن مدلوله اللفظي ظاهراً في الفور ولا في التراخي، ولكن لا يمكن التمسّك به للتراخي بواسطة الإطلاق، ولا التمسّك بالبراءة العقلية لنفي الفورية؛ لأ نّه يمكن أن يقال: بأنّ الفورية وإن

كانت غير ملحوظة للآمر قيداً للعمل، إلاّ أنّها من لوازم الأمر المتعلّق به؛ فإنّ الأمر تحريك إلى العمل وعلّة تشريعية له، وكما أنّ العلّة التكوينية لا تنفكّ عن معلولها في الخارج، كذلك العلّة التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج، وإن لم يلاحظ الآمر ترتّبه على العلّة في الخارج قيداً»(1)، انتهى.

أقول: العلّة التامّة التكوينية لا يمكن أن تنفكّ عن المعلول بالبرهان

ص: 233


1- الصلاة، المحقّق الحائري: 573.

والضرورة، وأمّا الأوامر فكما يمكن أن تتعلّق بالطبائع متقيّدة بالفور يمكن أن تتعلّق بها متقيّدة بالتراخي، ويمكن أن تتعلّق بها بلا تقييد، ولا يمكن أن تدعو إلاّ إلى متعلّقاتها، بل مقتضى الملازمة بين الإيجاب والوجوب أنّ الإيجاب إذا تعلّق بأيّ موضوع على أيّ نحو كان تعلّق الوجوب به لا بغيره، فإذا تعلّق الأمر بنفس الطبيعة لا يمكن أن يدعو إلى أمر زائد عنها، فوزان الزمان وزان المكان وسائر القيود الزائدة، فكما لا يمكن أن يكون البعث إلى نفس الطبيعة بعثاً إلى إيجادها في مكان خاصّ، كذلك بالنسبة إلى زمان خاصّ حاضر أو غابر.

وبالجملة: القياس بين التكوين والتشريع كما وقع منه ومن غيره من الأعاظم(1)، غير تامّ.

في الاستدلال على الفور بالآيتين الكريمتين

ثمّ إنّه قد يتشبّث لاستفادة الفورية بأدلّة النقل(2)، مثل قوله تعالى: )فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ((3)، وقوله: )سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ((4).

وفيه: أنّ الظاهر من مادّة «الاستباق» وهيئة «المسارعة» هو أنّ الأمر متوجّه إلى تسابق المكلّفين بعضهم مع بعض إلى فعل الخيرات، وإلى مغفرة من ربّهم،

ص: 234


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 272 - 273 و280 - 281، و4: 394 - 395.
2- اُنظر تهذيب الوصول إلى علم الاُصول: 99؛ معالم الدين: 56 - 57.
3- البقرة (2): 148؛ المائدة ((5)): 48.
4- آل عمران (3): 133.

ومع حفظ هذا الظهور لا بدّ من حمل الخيرات وأسباب المغفرة على ما لو لم يسبق المكلّف إليه لَفاته بإتيان غيره، مثل الواجبات الكفائية والخيرات التي لا يمكن قيام الكلّ بإتيانها، ومعه يكون الأمر للإرشاد لا للوجوب؛ فإنّ الاستباق والمسارعة في مثلها غير واجب بعد ما قام بأدائها شخص أو أشخاص.

وهذا الحمل أولى من رفع اليد عن ظهور الصدر والأخذ بظهور الذيل، ولا أقلّ من الإجمال، مع عدم دلالة آية المسارعة على العموم.

وما قيل: من أنّ توصيف النكرة بقوله: )مِنْ رَبِّكُمْ( يفيد العموم(1)، كما ترى، ولهذا جرت في الآية احتمالات: ككون المراد كلمة الشهادة، أو أداء الفرائض كما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام ، أو التكبير الأوّل من الجماعة، أو الصفّ الأوّل منها، أو التوبة، أو الإخلاص، أو الهجرة قبل فتح مكّة، أو متابعة الرسول، أو الاستغفار، أو الجهاد، أو أداء الطاعات، أو الصلوات الخمس(2).

وقد يورد(3) على التمسّك بهما بوجه عقلي، وهو أنّه يلزم من وجوب الاستباق إلى الخيرات عدمه.

بيانه: أنّ الاستباق بمفهومه يقتضي وجود عدد من الخيرات يتحقّق الاستباق بفعل مقدار منه، وينتفي في المقدار الآخر، ولا ريب أنّ المقدار الذي لا يتحقّق الاستباق فيه هو من الخيرات، وعلى فرض وجوب الاستباق في الخيرات يلزم

ص: 235


1- اُنظر الفصول الغروية: 76 / السطر 16.
2- راجع مجمع البيان 1: 836؛ التفسير الكبير 9: 5؛ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 17: 256.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 252.

أن يكون المقدار الذي لا يتحقّق به الاستباق غير الخيرات؛ لمزاحمته للمقدار الذي يتحقّق به، وإذا انتفى أن يكون من الخيرات، لزم عدم وجوب الاستباق في المقدار الذي كان الاستباق يتحقّق فيه، فيلزم من وجوبه عدمه، وهو محال.

وفيه ما لا يخفى:

أمّا أوّلاً: فلأنّ معنى «استبقوا» هو بعث المكلّفين إلى سبق بعضهم بعضاً في فعل، كما في السبق والرماية، وكما في قوله تعالى: )وَاسْتَبَقَا الْبَابَ((1)

في قضيّة يوسف علیه السلام ، لا سبق بعض الخيرات على بعض، والخيرات مفعول لا فاعل.

وثانياً: أنّ الأمر في التكاليف متعلّق بالطبائع لا الأفراد حتّى يلزم أن يكون لكلّ خير مقدار متعلّق للأمر، فيلزم منه ما ذكر.

وثالثاً: على فرض تعلّق الأمر بالأفراد يمكن تعلّقه بجميعها على سبيل تعدّد المطلوب، فالتزاحم على فرضه إنّما يقع في المطلوب الأعلى.

ورابعاً: على فرض وقوع التزاحم لا يخرج الواجب عن كونه خيراً؛ فإنّ السقوط للمزاحمة، فحينئذٍ يبقى ظهور مفهوم الاستباق على حاله.

والإنصاف: أنّ ما ذكره رحمه الله علیه تجشّم وتكلّف، كما لا يخفى على المتدبّر.

ص: 236


1- يوسف (12): 25.

الفصل الثالث في الإجزاء

اشارة

وقبل الورود في البحث لا بدّ من ذكر مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في تحرير محلّ النزاع

اختلفت كلماتهم في تحرير محلّ البحث:

فقد يعبّر: بأنّ الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا اُتي به على وجهه أم لا(1)؟

وقد يعبّر: بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا(2)؟

ولعلّ الفرق بينهما: أنّ النزاع في الأوّل في دلالة الأمر، فصار المبحث من مباحث الألفاظ والدلالات، وفي الثاني في أنّ الإتيان علّة للإجزاء، فصار عقلياً، كذا قيل(3).

لكن كون النزاع في دلالة الأمر بعيد عن الصواب؛ فإنّ الدلالة المتوهّمة

ص: 237


1- قوانين الاُصول 1: 129 / السطر 20؛ الفصول الغروية: 116 / السطر 9.
2- مطارح الأنظار1: 109؛ كفاية الاُصول: 104؛ نهاية الأفكار 1: 222.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 260.

إن كانت وضعية، فلا أظنّ بأحد يتوهّم دلالة هيئة الأمر أو مادّته على الإجزاء إذا أتى المكلّف بالمأمور به على وجهه؛ بحيث يكون جميع هذه المداليل من دلالة الأمر هيئةً أو مادّةً.

وكذا الحال في الدلالة الالتزامية؛ بأن يدلّ على أنّ المأمور به مشتمل على غرض للآمر، ولا محالة أنّ ذلك الغرض يتحقّق في الخارج بتحقّق المأمور به، وحينئذٍ يسقط الأمر؛ لحصول الغاية الداعية إليه؛ فإنّ عدّ تلك القضايا العقلية المتكثّرة من دلالة الأمر التزاماً ممّا لا مجال للالتزام به، مع ظهور فساده، فحينئذٍ

لا يكون في دلالة الدليل.

وهذا من غير فرق بين إرجاع النزاع إلى الأوامر الاختيارية الواقعية أو الاضطرارية والظاهرية؛ لأنّ دلالة الأمر لا تخرج عن مادّته وهيئته.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ النزاع يرجع بالأخرة إلى دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية بتنقيح موضوع الأوامر الاختيارية والواقعية بنحو الحكومة، فيكون من مباحث الألفاظ، لكن هذا خلاف ظاهرهم، وقضيّة تنقيح الموضوع بالحكومة أمر أحدثه المتأخّرون(1)، فلا يجوز حمل كلام القوم عليه.

وقد يقال: إنّ الجمع بين الإجزاء في الأوامر بالنسبة إلى نفسها والإجزاء بالنسبة إلى أمر آخر ممّا لا يمكن بعنوان واحد؛ لأنّ البحث في الأوّل عقلي صرف، وفي الثاني لفظي راجع إلى دلالة الأدلّة، والجمع بينهما لا يمكن بجامع واحد.

ص: 238


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27: 13؛ كفاية الاُصول: 110 و496.

أقول: الأولى إبقاء البحث على حاله؛ بأن يقال: إتيان المأمور به على وجهه هل يجزي أم لا؟ وهذا جامع يشمل جميع العناوين المبحوث عنها، وإنّما الاختلاف بينها في الأدلّة القائمة على المطلوب، فيدلّ دليل عقلي على بعض أقسام المقسم، وشرعي على بعض، ولا يكون النزاع ابتداءً في دلالة الأدلّة، بل في الإجزاء وعدمه، والدليل عليه قد يكون عقلاً، وقد يكون نقلاً، والأمر سهل.

المقدّمة الثانية: في المراد من الاقتضاء

ليس الاقتضاء بمعنى العلّية والتأثير؛ لعدم تأثير لإتيان المكلّف في الإجزاء، سواء فسّر(1) بالمعنى اللغوي - وهو الكفاية(2) - وهو واضح؛ فإنّها عنوان انتزاعي ليس مورداً للتأثّر والتأثير، والعجب من المحقّق الخراساني حيث جمع بين الالتزام بكون الاقتضاء بمعنى العلّية، وبين القول بأنّ الإجزاء هو الكفاية(3).

أو فسّر بإسقاط الأمر(4) ونحوه؛ فإنّ الإتيان ليس علّة مؤثّرة في الإسقاط،

وهو أيضاً ليس شيئاً قابلاً لكونه أثراً لشيء.

وما يمكن أن يقال: إنّ الأمر لمّا صدر لأجل غرض هو حصول المأمور به، فبعد حصوله ينتهي اقتضاء بقائه، فيسقط لذلك، كما أنّ الحال كذلك في إرادة الفاعل المتعلّقة بإتيان شيء لأجل غرض، فإذا حصل الغرض سقطت الإرادة؛

ص: 239


1- كفاية الاُصول: 106؛ نهاية الأفكار 1: 223.
2- العين 6: 162؛ الصحاح 1: 40؛ النهاية، ابن الأثير 1: 266.
3- كفاية الاُصول: 105 - 106.
4- معارج الاُصول: 72؛ قوانين الاُصول 1: 129 / السطر 21.

لانتهاء أمدها، لا لعلّية الفعل الخارجي لسقوطها.

والأولى في عنوان البحث أن يقال: إنّ الإتيان بالمأمور به هل مجزٍ أم لا؟

المقدّمة الثالثة: في معنى «على وجهه»

إنّ المراد من قولهم: «على وجهه» هو ما ينبغي أن يؤتى به؛ أي مع كلّ ما يعتبر فيه ويكون دخيلاً في تحصيل الغرض، لا قصد الوجه، ولا ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ المراد منه إفادة ما يعتبر فيه عقلاً ولا يمكن الاعتبار شرعاً(1)، فإنّ عدم الإمكان غير مسلّم، مع أنّ شبهة عدم إمكان أخذ ما يؤتى من قِبل الأمر في المأمور به حدثت في هذه الأزمنة المتأخّرة، وهذا العنوان مقدّم عليها.

المقدّمة الرابعة: في فارق المسألة عن المرّة والتكرار

الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتكرار واضح، سواء كان البحث في الثانية في دلالة الأمر أو حكم العقل؛ فإنّ البحث هاهنا، بعد الفراغ عن مدلول الأمر أو مقتضى العقل، ومعه لا يمكن وحدتهما، فإذا فرغنا عن دلالة الأمر أو اقتضائه المرّة يقع البحث في أنّ الإتيان بها مجزٍ أم لا؟ كما أنّه لو دلّ على التكرار يقع البحث في إجزاء الإتيان بكلّ فرد.

وأمّا مسألة تبعية القضاء للأداء، فلا جهة اشتراك بينها وبين هذه المسألة؛

فإنّ الكلام هاهنا في أنّ الإتيان بالمأمور به هل مجزٍ عن الأداء والقضاء؟ وفي

ص: 240


1- كفاية الاُصول: 105.

تلك المسألة يكون البحث في أنّ المكلّف إذا لم يأت بالمأمور به في الوقت فهل يدلّ الأمر على الإتيان به بعده؟ فالموضوع هاهنا الإتيان وهناك عدمه، فأيّ تشابه بينهما؟!

والعجب أنّ المحقّق الخراساني تصدّى لبيان الفارق بينهما؛ بأنّ البحث في أحدهما في دلالة الصيغة دون الآخر(1).

المقدّمة الخامسة: في وحدة الأمر أو تعدّده في المقام

اشارة

هل محطّ البحث في إجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية عن الاختيارية والواقعية، هو أنّ هاهنا أمرين تعلّقا بشيئين: أحدهما بملاحظة حال الاختيار والعلم، والآخر بملاحظة حال الاضطرار والجهل، فيبحث في أنّه هل يجزي الإتيان بمتعلّق الاضطراري أو الظاهري عن الاختياري أو الواقعي؟

أو أنّ محطّه أنّه ليس في المقام إلاّ أمر واحد تعلّق بالطبيعة، ولها أفراد مختلفة بحسب حال الاختيار والاضطرار والعلم والشكّ، وقد أمر الشارع بإتيانها في حال الاختيار والعلم بكيفية خاصّة، وفي حال الاضطرار والجهل بكيفية اُخرى، فوقع البحث في أنّ الإتيان بالكيفية الاضطرارية أو الظاهرية موجب للإجزاء عن الأمر المتعلّق بالطبيعة أو لا؟

مثلاً: إنّ قوله تعالى: )أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ((2) يدلّ على وجوب الطبيعة في هذا الوقت المضروب لها، ثمّ دلّ دليل على اشتراطها

ص: 241


1- كفاية الاُصول: 106 - 107.
2- الإسراء (17): 78.

في حال الاختيار بالطهارة المائية، وفي حال فقدان الماء بالترابية، وأمر الشارع بإتيانها في الحال الأوّل بكيفية وفي الآخر بكيفية اُخرى؛ بحيث تكون الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات الطبيعة، ولا يكون للطبيعة المتقيّدة بكيفيةٍ أمر، وباُخرى أمر آخر.

فوقع النزاع في أنّ الإتيان بمصداق الاضطراري للطبيعة هل يوجب سقوط الأمر عنها فيجزي، أم لا، وكذلك الحال في إجزاء الأوامر الظاهرية؟

ظاهر كثير منهم هو الأوّل، كما أنّ مقتضى حكمهم بجريان البراءة في المقام الثاني ذلك، وظاهر بعضهم وصريح آخر(1) هو الثاني.

ويمكن ابتناء هذا الخلاف على الخلاف في كيفية جعل الجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به؛ فإن قلنا بعدم إمكان جعلها إلاّ تبعاً للتكليف، فإذا أمر بجملة ينتزع من أبعاضها الجزئية للمأمور به، أو أمر بمقيّد ينتزع الشرطية من قيده، وأمّا إذا أمر بشيء ثمّ أراد جعل شيء آخر جزءاً له أو شرطاً، فهو غير معقول، فلا بدّ بعد ذلك البناء من التزام أمرين؛ أحدهما تعلّق بالصلاة المتقيّدة بالطهارة المائية للمختار، والآخر بالمتقيّدة بالترابية للمضطرّ، وكذا الحال في الأجزاء والموانع لا بدّ من التزام الأمرين.

وأمّا مع الالتزام بإمكان الجعل المستقلّ فيها - كما هو الحقّ - فلا داعي لرفع اليد عن الأدلّة الظاهرة في جعل الشرائط والأجزاء والموانع مستقلاًّ، فنلتزم بأ نّه

لا يكون للطبائع إلاّ أمر واحد، وقد أمر الشارع بإتيانها في حال الاختيار

ص: 242


1- لمحات الاُصول: 74 - 75.

بكيفية، وفي حال الاضطرار باُخرى، والاختلاف في الأفراد والمصاديق.

هذا في باب الصلاة التي هي عمدة في الباب، وأمّا في بعض الأبواب الاُخرى - كباب كفّارة الصيد وكفّارة الظهار والقتل الخطائي وأمثالها - فيكون الأمر الاضطراري متعلّقاً بعنوانٍ غير ما تعلّق به الأمر الاختياري، فعليه لا بدّ من

تعميم البحث لكلا الفرضين.

إذا عرفت ما ذكر فالكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن التعبّد به ثانياً

إنّ الإتيان بالمأموربه الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري، يجزي عن التعبّد به ثانياً بلا إشكال؛ لأنّ الإرادة والبعث من الآمر إنّما تعلّقا بالطبيعة لأجل تحصيلها

وحصول الغرض بها، فإذا أوجد المكلّف المأمور به على وجهه وبجميع قيوده فلا يمكن بقاؤهما؛ لحصول الغرض الذي هو علّة الإرادة بماهيته، وبحصوله ينتهي أمد الإرادة والبعث، فبقاؤهما مستلزم لبقاء المعلول بلا علّة.

في تبديل الامتثال بالامتثال

ثمّ إنّه وقع في المقام بحث آخر، وهو أنّه هل يكون للعبد تبديل امتثال بامتثال آخر أو لا، أو يكون له فيما إذا لم يكن الفعل علّة تامّة لحصول الغرض؟

التحقيق عدمه مطلقاً، وتوضيحه يتوقّف على مقدّمة: وهي أنّه فرق بين تبديل امتثال بامتثال، وتبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر ولو لم يكن امتثالاً؛ فإنّ

ص: 243

تبديل الامتثال يتوقّف على تحقّق امتثالين مترتّبين؛ بمعنى أنّه يكون للمولى أمر متعلّق بطبيعة، فيمتثل المكلّف ويبقى الأمر، ثمّ يمتثل ثانياً ويجعل المصداق الثاني - الذي تحقّق به الامتثال - بدل الأوّل الذي كان الامتثال تحقّق به.

وأمّا تبديل مصداق المأمور به - الذي تحقّق به الامتثال - بمصداق آخر، غير محقّق للامتثال، لكن محصِّل للغرض اقتضاءً مثل المصداق الأوّل أو بنحوٍ أوفى، فهو لا يتوقّف على بقاء الأمر، بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداقٍ آخر لا بصفة كونه مأموراً به.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ محلّ كلام الأعلام إنّما هو الأوّل؛ أي تبديل الامتثال بالامتثال، كما هو ظاهر العنوان، ولهذا تصدّى المحقّق الخراساني لإقامة البرهان على بقاء الأمر(1).

والتحقيق: عدم الإمكان مطلقاً فيما هو محلّ كلامهم، والجواز فيما ذكرنا إذا لم يكن المصداق الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض.

أمّا الثاني: فلحكم العقل بحسن تحصيل غرض المولى ولو لم يأمر به، ولزوم تحصيله إذا كان لازم التحصيل. ألا ترى أنّه إذا وقع ابن المولى في هلكة وغفل المولى عنه ولم يأمر عبده بإنجائه، لزم بحكم العقل عليه إنجاؤه، ولو تركه يستحقّ العقوبة؛ وذلك لأنّ الأمر وسيلة لتحصيل الغرض ولا موضوعية له، وبعد علم المكلّف بغرض المولى لا يجوز له التقاعد عنه مع لزوم تحصيله.

وكذا لو كان له غرض غير لازم التحصيل ولم يأمر بتحصيله واطّلع المكلّف

ص: 244


1- كفاية الاُصول: 107.

عليه يحسن له تحصيله، ومعه يصير مأجوراً عليه ومورداً للعناية مع عدم كونه امتثالاً، فلو أمره بإتيان الماء للشرب فأتى بمصداق منه، ثمّ رأى مصداقاً آخر أوفى بغرضه فأتى به، ليختار المولى أحبّهما إليه، يكون ممتثلاً بإتيان الأوّل لا غير، ومورداً للعناية لإتيانه ما هو أوفى بغرض المولى، لا لصدق الامتثال وتبديل الامتثال بالامتثال، وهذا واضح.

وأمّا عدم الإمكان فيما هو محلّ كلامهم؛ فلعدم تعقّل بقاء الأمر مع الإتيان بمتعلّقه بجميع الخصوصيات المعتبرة فيه؛ لعين ما ذكر من البرهان سابقاً(1).

وما ذكره المحقّق الخراساني: إن رجع إلى ما ذكرناه - كما يوهمه بعض عباراته - فلا كلام، لكنّه لم يكن من تبديل الامتثال، وإن رجع إلى بقاء الطلب والأمر لبقاء الغرض المحدث للأمر، ولهذا لو أهرق الماء يجب عليه إتيانه، فهو خلط بين تبديل الامتثال وبين وجوب تحصيل الغرض المعلوم للمولى، فما هو موجب لصحّة العقوبة ليس عدم امتثال أمره، بل تفويت غرضه ولو لم يكن أمر، مع أنّ الغرض من الأمر هو تمكين المولى من الشرب، وهو حاصل، وأمّا رفع العطش فهو غرض أقصى مترتّب على فعل العبد وفعله، فبقاء الأمر مع تحصيل الغرض المحدث له من قبيل بقاء المعلول بلا علّة.

وممّا ذكرنا يعلم: أنّ قضيّة الصلاة المعادة ليست من قبيل تبديل الامتثال بالامتثال، بل من قبيل إتيان مصداق من المأمور به وإتيان مصداق آخر له

ص: 245


1- تقدّم في الصفحة 243.

خصوصية زائدة وإن لم يكن امتثالاً للأمر الواجب؛ ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط، ولا يعقل بقاء الأمر بعد الإتيان بمتعلّقه.

ولهذا حكي(1) عن ظاهر الفقهاء - إلاّ من شذّ من المتأخّرين(2) - تعيّن قصد الاستحباب في المعادة؛ للأمر الاستحبابي المتعلّق بها(3).

وأمّا قضيّة الإيفاء بالغرض واختيار أحبّهما إليه وأمثال هذه التعبيرات التي تنزّه عنها مقام الربوبية، فهي على طبق فهم الناس، ولا بدّ من توجيهها.

ثمّ إنّ بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه بعد إنكار إمكان تبديل الامتثال بالامتثال، وتقسيم متعلّقات الأوامر إلى ما يكون علّة تامّة لحصول الغرض، وما يكون مقدّمة لتحصيله بفعل جوارحي من المولى كشرب الماء، أو جوانحي كالصلاة المعادة، قال ما حاصله: إذا كان فعل العبد مقدّمة لبعض أفعال المولى، فإن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة كان المتّصف بالوجوب ما أوصل المولى إلى غرضه النفسي، وكان الفعل الآخر الذي أتى به العبد امتثالاً غير متّصف بالوجوب؛ لعدم الإيصال، فعليه لا يعقل تبديل الامتثال، وإن قلنا بالمقدّمة المطلقة فعدم إمكانه في غاية الوضوح؛ لسقوط الأمر بإتيانه(4)،

انتهى.

ص: 246


1- الصلاة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 7: 363.
2- ذكرى الشيعة 4: 383؛ الدروس الشرعية 1: 223؛ روض الجنان 2: 989؛ مسالك الأفهام 1: 311.
3- مدارك الأحكام 4: 343؛ كفاية الفقه (كفاية الأحكام) 1: 149؛ رياض المسائل 4: 326.
4- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 263 - 264.

وفيه أوّلاً: أنّه لو كان الوجوب المتعلّق بشيء لأجل تحصيل غرض من قبيل الوجوب المقدّمي، كانت جميع الوجوبات النفسية من قبيل المقدّمي، وهو لا يلتزم به، فما نحن فيه من قبيل الوجوب النفسي، لا المقدّمي حتّى يأتي فيه ما ذكر، وقد حقّقنا في محلّه ميزان النفسية والمقدّمية(1).

وثانياً: على فرض التسليم لا يمكن الالتزام هاهنا بوجوب المقدّمة الموصلة؛ لأنّ المقدّمة الموصلة - بأيّ معنىً فرضت - لا بدّ وأن تكون تحت قدرة العبد حتّى يتعلّق الوجوب بها، وفي المقام لا يكون الإيصال تحت قدرته؛ فإنّ المفروض أنّ فعل المولى أو اختياره متوسّط بين فعل العبد وحصول الغرض، فلا بدّ أن يتعلّق الأمر بنفس المقدّمة من غير لحاظ الإيصال، أو التقيّد به، أو الحصّة الملازمة، أو بنحو القضيّة الحينية، وأمثال ما ذكر؛ فإنّ الإيجاب بنحو القضيّة الحينية أيضاً إنّما يتصوّر فيما إذا كان الظرف موجوداً أو يكون إيجاده تحت قدرة المكلّف، وهما مفقودان هاهنا؛ فإنّ الوجوب حين وجود ذي المقدّمة لا يتصوّر، والمفروض أنّ إيجاده غير مقدور.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الواجب هو ما يتعقّبه اختيار المولى بنحو الشرط المتأخّر، فلا يكون الواجب هو المقدّمة الموصلة - ولو بنحو القضيّة الحينية - على نحو الإطلاق، حتّى يلزمه تحصيل القيد، بل المشروط بالشرط المتأخّر، فإذا أتى بها ولم يتعقّبها اختياره يكشف ذلك عن عدم وجوبها، فحينئذٍ يخرج عن موضوع تبديل الامتثال، تدبّر.

ص: 247


1- يأتي في الصفحة 305.
الموضع الثاني في أنّ الإتيان بالفرد الاضطراري مقتضٍ للإجزاء

وفيه مقامان:

أحدهما: في الإعادة في الوقت: ولا بدّ من فرض الكلام فيما إذا كان المكلّف مضطرّاً في بعض الوقت، فأتى بوظيفته الاضطرارية، ثمّ طرأ الاختيار، وأيضاً موضوع البحث ما إذا كان الأمر بإتيان الفرد الاضطراري محقّقاً؛ أي يكون الاضطرار في بعض الوقت موضوعاً للتكليف بالإتيان، وصرف وجود الاضطرار كافياً.

وأمّا إذا دلّت الأدلّة على أنّ استيعاب الاضطرار مسوّغ للإتيان، فهو خارج عن موضوع البحث؛ لأ نّه مع عدم الاستيعاب لم يكن مأموراً بالإتيان، ومحلّ البحث هو الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، ومع استيعابه وعدم طروّ الاختيار في الوقت يخرج عن موضوع الإعادة.

ثمّ إنّ الإجزاء بناءً على أنّ محطّ البحث هو الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين(1) في كمال الوضوح؛ لأنّ المفروض عدم تعدّد الأمر، وأنّ الأمر متعلّق بالطبيعة التي لها مصاديق اختيارية واضطرارية، فإذا دلّ الدليل على جواز الإتيان في حال الاضطرار بالفرد الاضطراري، يصير العبد مخيّراً - شرعاً أو عقلاً - بين الإتيان بالفرد الاضطراري في حاله، وبين الانتظار إلى زمان طروّ

ص: 248


1- تقدّم في الصفحة 241.

الاختيار والإتيان بالاختياري، فإذا أتى بالفرد الاضطراري فقد أتى بالطبيعة المأمور بها بجميع الخصوصيات المعتبرة فيها، ولا يعقل بقاء الأمر مع الإتيان بالمأمور به، والمفروض أنّ الفرد الاضطراري مصداق الطبيعة المأمور بها، فلا مجال للتشكيك في الإجزاء.

وممّا ذكرنا يعلم حال القضاء مع استيعاب العذر أيضاً؛ لأنّ وجوب القضاء فرع الفوت، ومع الإتيان بالطبيعة المأمور بها لا موضوع له.

وأمّا بناءً على الوجه الأوّل - أي تعلّق أمرين: أحدهما بالطبيعة المقيّدة بالطهارة المائية مثلاً للواجد، والثاني بالمقيّدة بالترابية للفاقد - فحينئذٍ: إمّا

أن يدلّ دليل على وحدة التكليف كما في الصلاة، فيستفاد منه التخيير بين إتيانها في حال العجز مع الطهارة الترابية، وبين الصبر إلى زوال العذر وإتيانها مع المائية، فلا محالة يكون الإتيان بأحد طرفي التخيير موجباً للإجزاء وسقوط التكليف.

وكذا الحال لو استفدنا من الأدلّة أنّ تعلّق الأمرين بالواجد والفاقد ليس لأجل كون الصلاتين مطلوبتين مستقلّتين، بل لأجل إفادة الشرطية أو الجزئية؛ حيث فرض عدم إمكان جعلهما مستقلاًّ، بل لا بدّ من جعلهما تبعاً للتكليف، فيكون المطلوب هو الصلاة الواحدة، لكن شرطها في ظرف الاختيار شيء وفي ظرف الاضطرار شيء آخر، فتعلّق الأمر المستقلّ بهما لضيق الخناق.

كما لو بنينا على عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في التعبّدي في متعلّق أمره وإمكان إفادته بأمر آخر؛ فإنّ الأمر بإتيان المأمور به مع قصد امتثال أمره ليس لإفادة مطلوب مستقلّ، بل لإفادة خصوصيات المطلوب الأوّل وما هو دخيل في

ص: 249

الغرض، ففي هذه الصورة أيضاً مقتضى الأدلّة هو الإجزاء.

وأمّا إذا بنينا على تعدّد الطلب والمطلوب، فلا بدّ من فرض كون الأمر المتعلّق بالبدل من قبيل الترخيص لا الإلزام، فحينئذٍ إن كان للدليلين إطلاق فمقتضى إطلاق دليل المبدل عدم الإجزاء، ولا يضادّه إطلاق دليل البدل؛ لأنّ مقتضاه ليس إلاّ جواز الإتيان به عند طروّ العجز، وأمّا إجزاؤه عن المأمور به بأمر آخر فلا، فقوله تعالى: )فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ((1) - على فرض إطلاقه - لا يدلّ إلاّ على جواز الإتيان بالصلاة في ظرف فقدان الماء، فإذا فرض كون الصلاة مع الطهارة الترابية متعلّقة لأمر، ومع المائية لأمر آخر، فمقتضى إطلاق الأوّل جواز البدار، ولازمه سقوط أمره، لاسقوط الأمر المتعلّق بالصلاة مع المائية، كما أنّ مقتضى إطلاقه ليس استيفاء تمام مصلحة الصلاة المشروطة بالمائية، أو استيفاء مقدار لم تبق معه مصلحة ملزمة، أو لم يمكن معه استيفاؤها، فلا بدّ للإجزاء من التماس دليل آخر غير إطلاق الأدلّة.

هذا كلّه لو فرغنا عن دلالة أدلّة الاضطرار على أنّه أعمّ من العذر المستوعب، كما هو مفروض الباب.

وأمّا مع إهمال الأدلّة في المبدل منه والبدل، فمقتضى الأصل - بناءً على أنّ الأمر واحد، وخصوصيات حال الاختيار والاضطرار ترجع إلى أفراد المأمور به - هو الاشتغال؛ لأنّ التكليف المتعلّق بالطبيعة متيقّن، ونشكّ في سقوطه بإتيان الفرد الاضطراري.

ص: 250


1- النساء (4): 43؛ المائدة ((5)): 6.

وأمّا بناءً على الأمرين بالنحو الأخير- بحيث يكون للفاقد أمر وللواجد أمر آخر - فمقتضى الأصل البراءة؛ لأنّ الفاقد يعلم بعدم توجّه تكليف الواجد إليه حين كونه فاقداً، ويحتمل كونه مرخّصاً في إتيان الصلاة مع الطهارة الترابية؛ لاحتمال كون العجز المأخوذ في موضوع تكليفه هو الغير المستوعب، فإذا أتى بالصلاة مع الترابية رجاءً يحتمل كونه آتياً بما هو وظيفته، وهو إتيان أحد طرفي التخيير، ومعه يشكّ في تعلّق التكليف عليه بالصلاة مع المائية عند وجدان الماء، فيكون شكّه في حدوث التكليف وتعلّقه، لا في سقوطه بعد العلم به.

وما قلنا من كونه مخيّراً بين إتيانه للفرد الاضطراري حال الاضطرار وبين الصبر إلى زوال العذر، ليس بمعنى تعلّق تكليف المختار به ولو تعليقاً في حال اضطراره حتّى يكون التخيير شرعياً.

هذا إذا قلنا بسقوط الأمر في موارد الاضطرار، وأمّا إذا قلنا بعدمه فالأصل، الاشتغال، كما لا يخفى.

وقد يقال: إنّ المورد يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير؛ لأنّ المكلّف يعلم بأ نّه إمّا يجب عليه الانتظار إلى آخر الوقت وإتيان الصلاة مع الوضوء، أو مخيّر بين الإتيان بالترابية وبين الصبر إلى وجدان الماء والإتيان بالمائية، ومعه تكون قاعدة الاشتغال محكّمة(1).

وفيه: أنّه بناءً على تعلّق أمرين بعنوانين يعلم المكلّف الفاقد بأ نّه ليس

ص: 251


1- نهاية الأفكار 1: 230.

مكلّفاً بتكليف الواجد، بل يحتمل كونه مرخّصاً في إتيان الصلاة مع الترابية، ويحتمل كونه غير مكلّف بالصلاة في الحال، وإنّما يتعلّق التكليف به بالمائية حال وجدانه، بل لا يجب عليه الانتظار أيضاً؛ لأ نّه غير متعلّق لتكليف بالبداهة.

وبالجملة: لا يكون في حال الفقدان تكليف فعلي متوجّه إليه بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية حتّى يكون من قبيل التعيين والتخيير، ولا يكون التخيير بين الإتيان في الحال والإتيان في الاستقبال من قبيل تكليف شرعي تخييري، بل يكون من قبيل أمر انتزاعي من الترخيص في إتيانها في الحال، ومن الإيجاب في الاستقبال حين تعلّق التكليف به على فرض عدم الإتيان، ومثل ذلك لا يرجع إلى التعيين والتخيير.

هذا إذا قلنا بعدم منجّزية العلم الإجمالي في التدريجيات؛ لعدم العلم بالتكليف الفعلي، وأمّا معها فالظاهر أنّ الأصل الاشتغال؛ لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

هذا حال الإعادة.

وأمّا القضاء فالأصل فيه البراءة؛ فإنّ وجوب القضاء فرع إحراز الفوت، ومع الإتيان بالمحتمل يشكّ فيه، ولا يمكن إحرازه باستصحاب عدم الإتيان بالفريضة إلاّ على القول بالأصل المثبت.

ص: 252

الموضع الثالث في الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري
اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأوّل: في أنّ الإتيان بمقتضى الأمارات هل موجب للإجزاء؟

ومحلّ الكلام في المقام وكذا في المقام الآتي أيضاً فيما إذا كان المكلّف مأموراً بمركّب ذي شرائط وموانع، وقام دليل من أمارة أو أصل على تحقّق جزء أو شرط أو عدم تحقّق مانع، ولم يكن الأمر كذلك، أو على نفي جزئية شيء أو شرطية شيء أو مانعية شيء، وكان المأمور به واقعاً بخلاف ذلك، فيقع الكلام في أنّ الإتيان بمصداق الصلاة مثلاً مع ترك ما يعتبر فيها؛ استناداً إلى الأمارة أو

الأصل، هل يوجب الإجزاء أم لا؟

أمّا إذا قامت أمارة أو أصل على عدم وجوب شيء، فتركه المكلّف ثمّ تبيّن وجوبه، فلا يدخل في محطّ البحث، ولا معنى للإجزاء فيه.

وكيف كان، فالأمارة تارةً تكون عقلائية ولم يرد من الشرع أمر باتّباعها، ولكن استكشفنا إمضاءها من عدم الردع، واُخرى هذا الفرض مع ورود أمر إرشادي منه باتّباعها، وثالثةً تكون تأسيسية شرعية.

وظاهر عنوان القوم خروج الفرض الأوّل عن محطّ البحث، بل الثاني أيضاً؛ لأنّ الأمر الإرشادي لم يكن أمراً حقيقةً.

والتحقيق: عدم الإجزاء في الأمارات مطلقاً:

ص: 253

أمّا في الفرضين الأوّلين فلأنّ المتّبع فيهما هو طريقة العقلاء؛ لعدم تأسيس للشارع، ولا إشكال في أنّهم إنّما يعملون على طبق الأمارات؛ لمحض الكشف عن الواقع، مع حفظه على ما هو عليه، من غير تصرّف فيه وانقلاب عمّا هو عليه، ومع تبيّن الخلاف لا معنى للإجزاء بالضرورة.

وأمّا إذا كانت الأمارة تأسيسية؛ فلأنّ معنى الأمارة هو الكاشف عن الواقع، وإيجاب العمل على طبقها إنّما هو لمحض الكاشفية عن الواقع المحفوظ، من غير تصرّف فيه وانقلاب، وإلاّ لخرجت الأمارة عن الأمارية.

وما قد يقال: إنّ لسان دليل الحجّية في الأمارات والاُصول سواء، وهو وجوب ترتيب الأثر عملاً على قول العادل، فمقتضى قوله: «صدّق العادل» هو التصديق العملي وإتيان المأمور به على طبق قوله، وهو يقتضي الإجزاء كما يأتي في الاُصول(1).

غير تامّ؛ لأنّ إيجاب تصديق العادل لأجل ثقته وعدم كذبه وإيصال المكلّف إلى الواقع المحفوظ، كما هو كذلك عند العقلاء في الأمارات العقلائية، ولا يفهم العرف والعقلاء من مثل هذا الدليل إلاّ ما هو المركوز في أذهانهم من الأمارات، لا انقلاب الواقع عمّا هو عليه، بخلاف أدلّة الاُصول على ما سيأتي بيانه.

وبالجملة: أنّ الإجزاء مع جعل الأمارة وإيجاب العمل على طبقها - لأجل الكشف عن الواقع كما هو شأن الأمارات - متنافيان لدى العرف

ص: 254


1- لمحات الاُصول: 84 - 85.

والعقلاء، هذا من غير فرق فيما ذكرنا بين الأمارات القائمة على الأحكام أو الموضوعات.

المقام الثاني: في أنّ الإتيان بمؤدّى الاُصول هل يقتضي الإجزاء؟

والتحقيق: هو الإجزاء فيها مطلقاً:

أمّا في مثل أصالتي الطهارة والحلّية: فلحكومة أدلّتهما على أدلّة الشرائط؛

لأنّ قوله: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر»(1) محقّق لموضوع «لا صلاة إلاّ بطهور»(2)

أي محقّق للطهور في ظرف الشكّ.

وإن شئت قلت: مفاده جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه بلسان تحقّقه، فيفهم منه عرفاً أنّ الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز الإتيان بها في حال الشكّ بهذه الكيفية، ويكون المأتيّ به مع هذه الكيفية مصداقاً للصلاة المأمور بها وواجداً لما هو شرطها، وهو معنى الإجزاء.

لا يقال: هذا إذا لم ينكشف الواقع(3).

فإنّه يقال: لا معنى لانكشاف الخلاف هاهنا؛ لأنّ الأصل ليس طريقاً للواقع يطابقه تارةً ويخالفه اُخرى مثل الأمارة؛ حتّى يقال: انكشف الخلاف.

وكذا الكلام في أصالة الحلّ ؛ فإنّ قوله: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك

ص: 255


1- تهذيب الأحكام 1: 284 / 832؛ وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
2- تهذيب الأحكام 1: 49 / 144؛ وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 251.

حلال...»(1) إلى آخره حاكم على ما دلّ على عدم جواز الصلاة في محرّم الأكل، ويفهم منه عرفاً كون الوظيفة في هذا الحال إتيان الصلاة بهذه الكيفية، فيصير المأتيّ به كذلك مصداقاً للمأمور به تعبّداً، فيسقط الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة بإتيانها كذلك.

ولا يخفى: أنّ المدّعى حكومة أدلّة الاُصول على أدلّة اعتبار الشرائط والموانع في المركّبات، لا على أدلّة النجاسات والمحرّمات؛ حتّى يقال:

«إنّ الحكومة بينهما ظاهرية في طول المجعول الواقعي؛ لأنّ الشكّ اُخذ في موضوع الاُصول، ولا تنتج تلك الحكومة تخصيصاً. وبعبارة اُخرى: المجعول الظاهري إنّما هو واقع في مرتبة إحراز الواقع، والبناء العملي عليه بعد انحفاظ الواقع على ما هو عليه، فلا يمكن أن يكون موسّعاً أو مضيّقاً للمجعول الواقعي، وأيضاً يلزم من ذلك التزام طهارة ملاقي مشكوك الطهارة بعد انكشاف الخلاف، وهو كما ترى»(2).

ولا يخفى ما فيه من الخلط؛ فإنّ القائل بالإجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة حاكمة على أدلّة النجاسات وأنّها في زمان الشكّ طاهرة، بل يقول: إنّها محفوظة على واقعيتها، وملاقيها أيضاً نجس حتّى في زمان الشكّ، لكن يدّعي حكومتها على أدلّة الاشتراط، وأنّ ما هو نجس واقعاً يجوز

ص: 256


1- الفقيه 3: 216 / 1002؛ وسائل الشيعة 17: 87، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 4، الحديث 1.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 250 - 251.

ترتيب آثار الطهارة عليه في زمان الشكّ، ومن الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها بلسان تحقّق الطهارة، ولازمه تحقّق مصداق المأمور به لأجل حكومتها على أدلّة الشرائط والموانع، والخلط بين المقامين أوقع المستشكل فيما أوقعه.

وأمّا دعوى: أنّ الحكومة إنّما تستقيم إذا كانت الطهارة والحلّية الظاهريتان مجعولتين أوّلاً، ثمّ قام دليل على أنّ ما هو الشرط في الصلاة أعمّ منهما(1).

ففي غاية السقوط؛ ضرورة أنّ الحكومة من كيفية لسان الدليل، فقوله:

«المشكوك فيه طاهر» حاكم عرفاً على أدلّة اشتراط الطهارة، ولا يلزم فيها التصريح بأنّ الشرط أعمّ من الواقعية والظاهرية، كما لا يحتاج إلى جعل حكمين طوليين ظاهري وواقعي، بل يكفي جعل الظاهري ويكشف منه عرفاً أعمّية الشرط من أوّل الأمر من الواقعي، كما هو واضح.

هذا حال أصالتي الطهارة والحلّية.

وكذا الكلام في حديث الرفع(2)؛ فإنّه - بعد عدم جواز حمله على رفع ما لا يعلمون واقعاً في الشبهات الحكمية - يحمل على الرفع الظاهري؛ أي ترتيب آثار رفع المشكوك فيه بلسان رفع الموضوع، فإذا شكّ في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعية شيء، وكذا إذا شكّ في كون شيء مانعاً موضوعاً، فمقتضى

ص: 257


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 249.
2- التوحيد، الصدوق: 353 / 24؛ الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

حديث الرفع هو جواز ترتيب آثار الرفع ظاهراً، ومنها جواز إتيان المأمور به على مقتضاه في مقام الفراغ عن عهدته.

فإذا ورد من المولى: )أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ((1)، ودلّت الأدلّة على اعتبار الأجزاء والشرائط، وورد منه قوله: «رفع... ما لا يعلمون»، يفهم منه عرفاً أنّ كيفية إطاعة الأمر في حال الشكّ في السورة هو الإتيان بالمأمور به بلا سورة مثلاً، ومع الشكّ في مانعية شيء هو جواز الإتيان به معه، فإذا أتى به كذلك أتى بالمأمور به؛ لحكومة دليل الرفع على أدلّة الجزء والشرط والمانع.

وأمّا الاستصحاب: فلأنّ الظاهر من دليله(2) - ولو بملاحظة مورده وهو عدم نقض اليقين بالشكّ - هو البناء العملي على بقاء المتيقّن في زمان الشكّ، أو وجوب ترتيب آثاره ولو بضميمة الكبريات الكلّية التي هي المجعولات الأوّلية، وانسلاك المستصحب بدليله وحكومته في موضوعها على ما قرّرنا في محلّه(3)، وعلى أيّ حال يكون حاله حال ما ذكرنا.

وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ: فإنّ الظاهر من غالب أدلّتها وجوب المضيّ

وعدم الاعتناء بالشكّ، وفي بعضها البناء العملي على وجود المشكوك فيه تعبّداً،

ص: 258


1- الإسراء (17): 78.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
3- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 229 - 230.

كصحيحة حمّاد(1) وموثّقة عبدالرحمان(2)، ولازم ذلك الإجزاء، سواء قلنا بأ نّها أصل محرز، أو أنّها أصل تعبّدي غير محرز؛ لأنّ [مقتضى] الأمر بالبناء التعبّدي على وجود المشكوك فيه أو بالمضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ، هو جواز إتيان المأمور به أو لزومه بهذه الكيفية، فيصير المأتيّ به مصداقاً للمأمور به تعبّداً، فيسقط الأمر، ولا نعني بالإجزاء إلاّ ذلك.

نعم، على فرض استفادة الطريقية من أدلّتها فلازمها عدم الإجزاء، لكنّها ممنوعة، والتفصيل موكول إلى محلّه(3).

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ التحقيق عدم الإجزاء في الأمارات والإجزاء

في الاُصول.

وأمّا حال تبدّل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله وأعمال مقلّديه، فقد تصدّينا لتفصيله في بحث الاجتهاد والتقليد(4).

ص: 259


1- وفيها: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ قال: «امض». تهذيب الأحكام 2: 151 / 593؛ وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 1.
2- وفيها: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: «قد ركع». تهذيب الأحكام 2: 151 / 596؛ وسائل الشيعة 6: 318، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 6.
3- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 375.
4- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 103.

الفصل الرابع في مقدّمة الواجب

اشارة

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في محطّ البحث

ما يمكن أن يكون محطّ البحث فيها هو تحقّق الملازمة بين الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة مع إرادة ما يرى المولى مقدّمة، لا الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة مع إرادة المقدّمة، ويتّضح ذلك بعد تصوّر إرادة الفاعل ونحو تعلّقها بذي المقدّمة ومقدّمته، فنقول:

لا إشكال في أنّ الإرادة من الفاعل إنّما تتعلّق بشيء بعد تصوّره والإذعان بفائدته وسائر مقدّماتها، ولا يمكن تعلّقها به قبل تمام المقدّمات، ولا يلزم أن يكون الشيء بحسب الواقع موافقاً لغرضه وصلاحه؛ لأنّ ما يتوقّف عليه تحقّق الإرادة هو تشخيص الفاعل صلاحه وموافقته لغرضه وتصديقه بذلك ولو كان

ص: 260

مخالفاً للواقع، فربّما تتعلّق إرادته بما هو مخالف لصلاحه ومضرّ ومهلك له؛ لسوء تشخيصه وخطائه.

ثمّ إنّه قد تتعلّق الإرادة بشيء لأجل نفسه وتشخيص صلاح فيه، وقد تتعلّق به لأجل غيره وتوقّف الغير عليه، وفي هذا أيضاً لا يمكن تعلّقها به إلاّ بعد تصوّره والتصديق بكونه مقدّمة لمراده النفسي، ولا تتعلّق بما هو في نفس الأمر مقدّمة؛ ضرورة امتناع تعلّقها بالواقع المجهول عنده، ولا بالمعلوم بجهات اُخرى غير المقدّمية، بل قد تتعلّق بما يراه مقدّمة خطأً، فميزان تعلّق الإرادة هو تشخيص الفاعل، لا الواقع. ومعنى تبعية إرادة المقدّمة لذي المقدّمة ليس نشأها وتولّدها منها؛ بحيث تكون إرادة ذي المقدّمة موجدة لإرادتها كما هو ظاهر تعبيراتهم، بل معناها أنّ الفاعل بعد تشخيص التوقّف يريد المقدّمة بعد تحقّق مبادئها لأجل تحصيل ذي المقدّمة لا لنفسها.

فاتّضح: أنّ الملازمة في الإرادة الفاعلية إنّما تكون بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة ما يراه مقدّمة، لا بمعنى كون إحداهما لازمة للاُخرى، بل بمعنى تحقّق كلٍّ منهما بمبادئها وتبعية إحداهما في تعلّق الإرادة بها لكونها غيرية، ولا تكون الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة ومقدّمته الواقعية؛ ضرورة عدم تعلّق الإرادة بها، وعدم إمكان الملازمة الفعلية بين الموجود والمعدوم. فلا يمكن أن يقال بتحقّق الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وبين الإرادة التقديرية؛ فإنّها ليست بموجودة، والتلازم من التضايف المقتضي للتكافؤ قوّةً وفعلاً.

مع أنّ ذلك إن يرجع إلى دعوى الملازمة بين الإرادة الفعلية لذي المقدّمة

ص: 261

وإرادة المقدّمة على فرض تحقّقها فهي إنكار للملازمة؛ لأنّ مقتضى التلازم أنّ وجود أحدهما ملازم لوجود الآخر.

وإن يرجع إلى دعوى الملازمة بينها وبين قوّة الإرادة فهي فاسدة؛ لأنّ قوّة الإرادة متحقّقة في النفس من أوّل تحقّقها، فيلزم تحقّق ملزومها أو ملازمها كذلك، وهو كما ترى .

وإن يرجع إلى ما ذكرنا بتعبير آخر فلا إشكال. هذا حال الإرادة التكوينية من الفاعل .

وأمّا الكلام في إرادة الآمر، فإنّ ما يمكن أن يقع محلّ البحث أحد أمرين:

الأوّل: أنّه هل تكون ملازمة بين إرادة بعث المولى عبده نحو ذي المقدّمة وبين إرادة بعثه نحو ما يراه مقدّمة، أو لا، أو تكون ملازمة بين إرادتهما، أو لا؟

وأمّا البحث عن الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة المقدّمة الواقعية بالحمل الشائع فساقط؛ ضرورة عدم تعقّل الملازمة بينهما؛ لعدم تعلّق الإرادة بالواقع، من غير تشخيص مقدّميته، وعدم إمكان تحقّق الملازمة بين الموجود والمعدوم.

ودعوى الملازمة التقديرية أو الفعلية بين المحقّق والمقدّر لا ترجع إلى محصّل، إلاّ أن ترجع إلى ما ذكرنا.

الثاني: أن يقع النزاع في الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدّمة أو الإرادة المتعلّقة به وبين وجوب عنوان ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة، أو عنوان ما يتوصّل به إليه، أو الإرادة المتعلّقة بأحد العنوانين.

ص: 262

وهذا يصحّ بناءً على تعلّق الوجوب بأحد العنوانين، وتكون حيثية التوقّف أو التوصّل حيثية تقييدية، كما هو التحقيق في الأحكام العقلية.

وأمّا بناءً على تعلّق الوجوب بذات المقدّمة؛ وما يتوقّف عليه ذو المقدّمة بالحمل الشائع، وعدم رجوع الحيثيات التعليلية إلى التقييدية - كما يظهر من بعضهم(1) - فلا محيص عن الوجه الأوّل.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من إمكان تخلّف الواقع عن تشخيص المريد في الوجه الأوّل إنّما هو في غير الشارع، وأمّا فيه فلا يمكن التخلّف كما هو واضح، وفي الموالي العرفية إذا رأى المأمور تخلّف إرادة الآمر عن الواقع لسوء تشخيصه لا يلزم بل لا يجوز في بعض الأحيان اتّباعه، بل يجب عليه تحصيل غرضه بعد العلم به.

ثمّ إنّه لعلّك قد علمت ممّا ذكرنا في خلال البحث، أنّ الملازمة المدّعاة هاهنا

غير الملازمات واللوازم والملزومات العقلية الاصطلاحية ممّا يكون الملزوم فيها علّة اللازم إذا كان لازم الوجود ويكون المتلازمان معلولين لعلّة واحدة؛ ضرورة أنّ إرادة المقدّمة وكذا وجوبها ليسا لازمين لإرادة ذي المقدّمة ووجوبه، بل هي مثل إرادة ذيها تحتاج إلى مبادٍ نظير مبادئها من التصوّر والتصديق بالفائدة وغيرهما، ومع عدم تمامية مبادئها لا تتحقّق ولو تحقّقت إرادة ذيها، وكذا الأمر في الإيجاب والوجوب.

ص: 263


1- كفاية الاُصول: 149 - 150؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 288.

الأمر الثاني في أنّ المسألة عقلية اُصولية

إنّ المسألة بناءً على كون النزاع في الملازمة وعدمها، عقلية محضة لا لفظية.

ودعوى كون النزاع في الدلالة الالتزامية، وهي مع كونها عقلية، من الدلالات اللفظية بوجه(1)، مردودة:

أمّا أوّلاً: فلأنّ في كون الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية بحثاً؛ لأنّ اللفظ لا يكون دالاًّ لفظياً إلاّ على ما وضع له، ودلالة الالتزام دلالة المعنى على

المعنى، ولهذا لو حصل المعنى في الذهن بأيّ نحوٍ، يحصل لازمه فيه.

وأمّا ثانياً: فلأ نّه يشترط في الدلالة الالتزامية أن يكون اللازم لازماً للمعنى المطابقي أو له وللتضمّني، فإذا دلّ اللفظ على المعنى ويكون له لازم ذهني يدلّ عليه ولو بوسط، تكون الدلالة التزامية، وما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنّ دلالة الأمر على كون متعلّقه مراداً للآمر ليس من قبيل دلالة اللفظ، بل من قبيل كشف الفعل الاختياري عن كون فاعله مريداً له، فالبعث المتعلّق بشيء إنّما هو كاشف عن كون فاعله مريداً له لأجل كونه فعلاً اختيارياً له، لا لأجل كونه دالاًّ عليه مطابقةً؛ حتّى يكون لازمه لازم المعنى المطابقي، وتكون الدلالة من الدلالات اللفظية.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ هذا اللزوم ليس على حذو اللزومات

ص: 264


1- نهاية الأفكار 1: 261.

المصطلحة، مع أنّ اللزوم ليس ذهنياً، مع أنّ محلّ الكلام أعمّ من المدلول عليه بالدلالة اللفظية.

ثمّ إنّه بما عرفت في أوائل الكتاب من الميزان في المسائل الاُصولية(1) تكون المسألة اُصولية.

وربّما يقال: إنّها من المبادئ الأحكامية وإن كان البحث عن الملازمة؛ لأنّ موضوع الاُصول هو الحجّة في الفقه، والبحث إذا كان عن حجّية شيء يكون من العوارض، فيبحث في الخبر الواحد عن أنّه حجّة في الفقه أو لا، وكذا سائر المسائل، فعليه يكون البحث عن الملازمات خارجاً عن المسألة الاُصولية؛ لعدم كون البحث في الحجّة في الفقه(2).

وفيه: ما عرفت في محلّه بما لا مزيد عليه(3): من عدم تطبيق ما ذكر وما ذكروا في موضوع العلوم ومسائلها على الواقع، هذا هو الفقه، فقد جعلوا موضوعه أعمال المكلّفين، وادّعوا أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية(4)، مع أنّ مسائل الفقه ليست كذلك حتّى الأحكام التكليفية؛ فإنّها ليست من العوارض حتّى يقال: إنّها أعراض ذاتية، ولو سلّم فيها فكثير من مباحث الفقه لا ينطبق عليها هذا العنوان، كالنجاسات والطهارات وأبواب الضمان وأمثالها، وإن ترجع بالأخرة إلى ثمرة عملية.

وبالجملة: فالمسألة على ما ذكرنا من الضابط، اُصولية.

ص: 265


1- تقدّم في الصفحة 13.
2- لمحات الاُصول: 92.
3- تقدّم في الصفحة 3 وما بعدها.
4- معالم الدين: 29؛ اُنظر هداية المسترشدين 1: 107 و124.

الأمر الثالث في تقسيمات المقدّمة

اشارة

تنقسم المقدّمة إلى أقسام:

منها: الداخلية والخارجية

وقد أطالوا نقضاً وإبراماً في الداخلية، ربّما لا يرجع جلّها إلى محصّل.

والتحقيق أن يقال: إنّ المركّب: إمّا حقيقي، وهو بأقسامه خارج عن محطّ بحثنا. وإمّا غير حقيقي، وهو: إمّا صناعي، وهو ما له نحو وحدة وتركيب مع قطع النظر عن اعتبار معتبر، كالبيت والمسجد، ومنه المعاجين والأدوية المركّبة بالصناعة. وإمّا اعتباري: وهو ما يكون تركيبه ووحدته بحسب الاعتبار، كالعشرة والمائة والعسكر، ومنه الماهيات الاختراعية، كالصلاة والحجّ، فإنّ أمثال ذلك مركّبات اعتبارية جعلية، فكون الفوج من العسكر ألفاً أو عشرة آلاف إنّما هو بحسب الجعل والاعتبار، والعشرة مع قطع النظر عن اعتبار الوحدة ليست إلاّ الوحدات المستقلاّت، وهكذا.

ثمّ إنّ الغرض قد يكون قائماً بوجود كلّ واحد واحد من أشخاص أو أشياء، من غير ارتباط بين الوَحدات، كمن كان له عدّة أصدقاء يشتاق لقاء كلّ واحد منهم مستقلاًّ؛ من غير ارتباط بعضهم ببعض، فعند تصوّر كلّ واحد يريد لقاءه بإرادة مستقلّة ولا يعقل أن يكون اجتماعهم بما هو كذلك في هذا اللحاظ مورداً لعلاقته وإرادته، بل ربّما يكون اجتماعهم مبغوضاً عنده.

ص: 266

وقد يكون قائماً بالمجموع لا بالأفراد، كمن يريد فتح بلد لا يمكن فتحه إلاّ بفوج من العسكر، فحينئذٍ يكون كلّ واحد واحد منه غير مراد له ولا متعلّقاً لغرضه، وإنّما قام غرضه بالفوج، فيتصوّره ويشتاقه ويريد إحضاره، ففي هذا التصوّر تكون الآحاد مندكّة فانية في الفوج، فلا يكون كلّ واحد واحد متصوّراً ولا مشتاقاً إليه، ولا يمكن أن تتعلّق به إرادة نفسية؛ لعدم حصول الغرض به.

نعم، لو تصوّر كلّ واحد واحد، ورأى توقّف الفوج على وجود كلّ واحد، أراده لأجل غيره لا لنفسه، فالآحاد بنحو العامّ الاستغراقي - أي كلّ واحد واحد - فيها ملاك الإرادة الغيرية لا النفسية، وفي الفوج ملاك النفسية لا الغيرية، فكلّ واحد مقدّمة، وموقوف عليه العسكر بالاستقلال، ولا يكون الاثنان أو الثلاثة منها وهكذا، مقدّمةً، ولا فيها ملاك الإرادة الغيرية.

وبالجملة: هاهنا أمران: أحدهما: العسكر الذي يراه السلطان فاتحاً للبلد، ففيه ملاك الإرادة النفسية لا غير، وثانيهما: كلّ واحد واحد من الأفراد، ففي كلٍّ ملاك الإرادة الغيرية؛ لتوقّف العسكر عليه.

وأمّا في اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة منها وهكذا سائر التركيبات الاعتبارية فليس ملاك الإرادة النفسية - وهو واضح - ولا الغيرية؛ لعدم توقّف العسكر عليها زائداً على توقّفه على الآحاد، فزيد موقوف عليه رأساً بالضرورة، وعمرو كذلك، لكن زيد وعمرو معاً لا يكونان موقوفاً عليهما في مقابل كلّ من زيد وعمرو.

ثمّ لا يخفى أنّ الغرض قائم في المركّبات الاعتبارية بالمجموع الخارجي الذي يكون منشأ اعتبار الوحدة، لا بالاعتبار الذهني، ولا بكلّ فرد فرد، فيكون متعلّق الغرض مقدّماً على رؤية الوحدة وعلى الأمر المتعلّق به.

ص: 267

وأوضح ممّا ذكر، المركّبات الصناعية التي لها وحدة عرفية وتركيب صناعي، فإنّ تصوّر البيت منفكّ عن تصوّر الأجزاء من الأخشاب والأحجار، فإذا تصوّر البيت يكون متعلّقاً لإرادته النفسية، وليس فيه ملاك الإرادة الغيرية، وإذا رأى توقّف البيت على كلّ من الأحجار والأخشاب وغيرهما، يريدها لأجل تحصيل البيت، ويكون فيها ملاك الغيرية لا النفسية.

فإذا عرفت كيفية تعلّق الإرادة الفاعلية يقع البحث في الإرادة الآمرية؛ بأ نّه هل تكون الإرادة الآمرية المتعلّقة بذي المقدّمة - كالبيت والعسكر - ملازمة للإرادة المتعلّقة بما رآه مقدّمة أو لا؟ من غير فرق من هذه الجهة بين المقدّمات الخارجية والداخلية؛ فإنّ كلّ واحد واحد من الأجزاء في المركّبات، ممّا يتوقّف عليه المركّب، وليس الأجزاء بالأسر شيئاً برأسه في مقابل كلّ واحد، وبهذا يدفع الإشكال الذي استصعبه المحقّقون(1).

وكأنّ وجه الخلط هو تخيّل أنّ الأجزاء بالأسر مقدّمة وذو المقدّمة، مع أنّها ليست مقدّمة، بل كلّ واحد مقدّمة، وهو غير المركّب بالضرورة حقيقةً، لا اعتباراً حتّى يستشكل بما في كتب المحقّقين.

دفع وهم : کلام المحقّق العراقي حول ما هو خارج عن محل النزاع

قد يقال: إنّ الوحدة الاعتبارية قد تكون في الرتبة السابقة على الأمر؛ أعني في ناحية المتعلّق، وقد تكون في الرتبة اللاحقة؛ بحيث تنتزع من نفس الأمر

ص: 268


1- مطارح الأنظار 1: 211؛ كفاية الاُصول: 115؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 265 - 268؛ نهاية الأفكار 1: 262.

بلحاظ تعلّقه بعدّة اُمور، فيكون تعلّقه بها منشأً لانتزاع الوحدة الملازمة لاتّصافها بعنواني الكلّ والأجزاء، فالوحدة الاعتبارية بالمعنى الثاني لا يعقل أن تكون سبباً لترشّح الوجوب من الكلّ إلى الأجزاء بملاك المقدّمية؛ لأنّ الجزئية والكلّية الملزومة لهذه الوحدة ناشئة من الأمر، فتكون المقدّمية في رتبة متأخّرة عن تعلّق الأمر بالكلّ، ومعه لا يعقل ترشّحه على الأجزاء، فينحصر محلّ النزاع في الوحدة بالمعنى الأوّل(1)، انتهى ملخّصاً.

وأنت خبير بما فيه:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الأغراض لا تتعلّق بالواحد الاعتباري بما هو كذلك، بل المحصّل لها إنّما هو الواقع، فحينئذٍ نقول: قد يتعلّق الغرض بالوحدات كلّ برأسها، وقد يتعلّق بالمجموع بما هو كذلك ولو لم يعتبره المعتبِر، كسَوق العسكر لفتح الأمصار؛ فإنّ الغرض لا يتعلّق بواحد واحد، بل الفاتح هو المجموع وسواد العسكر الموجب لإرعاب أهلها.

فإذا كان الغرض من قبيل الأوّل لا يعقل أن يتعلّق بالوحدات أمر واحد؛ لعدم تعلّق الغرض بالمجموع، كما أنّه إذا كان من قبيل الثاني لا يعقل أن يتعلّق به إلاّ أمر واحد نفسي.

فإذا لاحظ المولى الموضوع - أي المجموع الذي هو موضوع غرضه - ورأى أنّ غرضه قائم به، يكون كلّ واحد من الآحاد حين تعلّق الأمر مغفولاً عنه، ولو فرض عدم مغفوليته فلا إشكال في أنّه لم يكن متعلّق غرضه ومحصّله،

ص: 269


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 315 - 316.

فالمجموع مورد تصوّره وغرضه وموضوع أمره، وهذا هو المراد بالواحد الاعتباري، لا لزوم اعتبار الوحدة بالحمل الأوّلي.

فإذن لا يعقل أن تكون الوحدة تابعة لتعلّق الأمر، بل الموضوع - الذي لوحظ بنحو الوحدة القائم به الغرض - متعلّق لأمر واحد.

وثانياً: لو سلّمنا تأخّر اعتبار الوحدة عن الأمر، لكن ذلك لا يوجب خروجه عن محلّ النزاع؛ لأنّ ملاك تعلّق الإرادة بالمقدّمة هو رؤية توقّف ذي المقدّمة عليها في نفس الأمر، وتوقّف المركّب على كلّ جزء من الأجزاء بحسب الواقع ضروري. وما ذكر - من أنّ عنوان الجزئية والكلّية ينتزع بعد تعلّق الأمر، وفي مثله لا يعقل ترشّح الوجوب من الكلّ إلى الأجزاء بملاك المقدّمية - ناشئ من الخلط بين عنوان الكلّية والجزئية للمأمور به بما هو كذلك، وبين ما هو ملاك تعلّق الإرادة الغيرية؛ أي التوقّف الواقعي للمركّب على كلّ جزء من أجزائه.

وإن شئت قلت: إنّ عنوان الجزئية بالحمل الأوّلي لم يكن فيه ملاك النزاع، بل هذا العنوان لا يتأخّر عن عنوان الكلّية؛ ضرورة أنّهما متضايفان، بل الموقوف عليه هو واقع كلّ جزء جزء، والموقوف هو المجموع ولو لم يعتبر فيه الوحدة والكلّية.

وأمّا ما ذكر في ضمن كلامه، وجرت به الألسن والأفواه(1) - من ترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة - وهو الذي صار منشأً للاشتباه والخلط،

ص: 270


1- كفاية الاُصول: 116؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 285 و287.

ففي غاية السقوط؛ لما أشرنا إليه سالفاً(1) من أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة لم تكن مبدأً للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة بنحو النشوّ والرشح والإيجاد، وإذا كان حال الإرادات كذلك - لما مرّ - فالوجوب أسوأ حالاً؛ لأ نّه ينتزع من تعلّق البعث بالشيء، ولا يعقل أن يترشّح بعث من بعث آخر، كما هو واضح. فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ المقدّمات الداخلية كالخارجية داخلة في محلّ النزاع.

هذا حال المقدّمات الداخلية.

تتميم: في شمول النزاع لجميع أقسام المقدّمات الخارجية

وأمّا الخارجية: فالتحقيق كون ملاك البحث فيها مطلقاً، من غير فرق بين العلل التامّة وغيرها، والأسباب التوليدية وغيرها.

وما يتوهّم: من أنّ الأمر في المسبّبات التوليدية يرجع إلى أسبابها - فمضافاً إلى أنّه على فرض صحّة التوهّم يكون الخروج من قبيل التخصّص، لا الاستثناء والتخصيص عن مورد البحث - فاسد.

فإنّ ما يقال في وجهه - تارةً: بأنّ المسبّبات غير مقدورة(2)، واُخرى: بأنّ الأمر إنّما يتعلّق بما يتعلّق به إرادة الفاعل، ولا يعقل تعلّقها بما ليس من فعله(3) -

ص: 271


1- تقدّم في الصفحة 261.
2- اُنظر معالم الدين: 60؛ قوانين الاُصول 1: 105 / السطر 24؛ لمحات الاُصول: 98.
3- اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 269؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 120.

فاسد؛ لأنّ ملاك صحّة الأمر عقلاً وعند جميع العقلاء هو كون الشيء مقدوراً ولو مع الواسطة، وإرادة الفاعل أيضاً تتعلّق بما هو مقدور مع الواسطة؛ ضرورة تعلّق إرادة القاتل بقتل عدوّه، وإنّما تتعلّق إرادة اُخرى - تبعاً - بأسبابه لأجل تحصيل مراده النفسي، وهذا كافٍ في تعلّق الأمر المولوي به، ومعه لا معنى لصرف الأوامر إلى الأسباب.

ومنها: تقسيمها إلى المقارن والمتقدّم والمتأخّر

وقد استشكل في الأخيرتين بأنّ المقدّمية تنافي التقدّم والتأخّر؛ لامتناع انفكاك المعلول عن علّته وتقدّمه عليها(1).

الإشكال في الشرط المتأخّر

ولا يخفى: أنّ هذا البحث إنّما نشأ من توهّم تأخّر الشرط عن المشروط في الشرعيات:

تارةً: في شرائط المكلّف به، كأغسال الليلة المستقبلة بالنسبة إلى صوم المستحاضة، على ما أفتى بعض الفقهاء باشتراطه بها(2).

واُخرى: في شرائط الحكم الوضعي، كالإجازة على الكشف الحقيقي.

وثالثةً: في شرائط نفس التكليف، كالقدرة المتأخّرة من المكلّف بالنسبة إلى التكليف المتقدّم الصادر من المولى.

ص: 272


1- اُنظر تقريرات السيد المجدّد الشيرازي 2: 268؛ كفاية الاُصول: 118.
2- شرائع الإسلام 1: 27؛ اُنظر مدارك الأحكام 6: 57؛ مستند الشيعة 3: 38.

فقد تصدّى المحقّقون لدفع الإشكال المتراءى بأجوبة فراراً عنه، لا تصحيحاً للشرط المتأخّر، وإن كان الظاهر من بعضهم التصدّي لتصحيحه أيضاً.

كلام المحقّق العراقي لدفع الإشكال في الشرط المتأخّر

وممّن تصدّى للجواب هو بعض أهل التحقيق، ومحصّل كلامه: أنّ التحقيق هو إمكان تقدّم الشرط على المشروط في التكوين والتشريع؛ لأنّ المقتضي للمعلول هو حصّة خاصّة من المقتضي لا طبيعيّه، فإنّ النار بحصّتها الخاصّة - وهي التي تماسّ الجسم المستعدّ باليبوسة لقبول الإحراق - تؤثّر في الإحراق، لا الحصص الاُخرى، فتلك الخصوصية التي بها تحصّصت الحصّة لا بدّ لها من محصّل في الخارج، وما به تحصل خصوصية الحصّة المقتضية يسمّى شرطاً، والخصوصية المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلك الحصّة حاصلة من إضافتها إلى شيء ما، فذلك الشيء المضاف إليه هو الشرط، والمؤثّر في المعلول هو نفس الحصّة الخاصّة، فالشرط هو طرف الإضافة المزبورة، وما كان شأنه كذلك جاز أن يتقدّم على ما يضاف إليه أو يتأخّر عنه أو يقترن به.

ثمّ حاول في تفصيل ما ذكر، وأجاب عن الإشكال في الجميع بنهج واحد، فقال: إنّ شرطية شيء للمأمور به ترجع إلى كون حصّة من الطبيعي متعلّقة للأمر، وهي تحصل بالتقييد، فكما يمكن التقييد بأمر مقارن يمكن بالمتقدّم والمتأخّر، وكذا الحال في شرط التكليف والوضع؛ فإنّ قيود الوجوب دخيلة في اتّصاف الشيء بكونه صلاحاً، فالقدرة المتأخّرة شرط بوجودها المتأخّر للتكليف المتقدّم، ومعنى شرطيتها له ليس إلاّ كونها بحيث يحصل

ص: 273

للشيء بالإضافة إليها خصوصية يكون بها متّصفاً بكونه صلاحاً، وهذا كما قد يحصل بإضافة الشيء إلى المقارن يحصل بإضافته إلى المتقدّم والمتأخّر(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه مواقع للنظر:

أمّا أوّلاً: فلأنّ إسراء الأمر إلى التكوين ممّا لا مجال له؛ لأنّ المؤثّر التكويني نحو وجود خاصّ متشخّص لا يكون تشخّصه بالإضافات والاعتبارات، فما هو المؤثّر ليس الحصّة الحاصلة بالإضافة إلى المقارن ولا إلى غيره، بل هو نحو وجود متشخّص بتأثير علله الفاعلية، أو هو مع ضمّ القابل، فالنار بوجودها مقتضية لإحراق ما وقع فيها ممّا هو قابل للاحتراق، من غير أن يكون الوقوع والتماسّ وقابلية المتأثّر محصّلات للحصّة المؤثّرة، وهو أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

وأمّا ثانياً: فلأنّ الإضافة إلى المعدوم ممّا لا يعقل، حتّى الاعتباري منها؛ لأنّ الإضافة الاعتبارية نحو إشارة، ولا تمكن بالنسبة إلى المعدوم، فما يتخيّل أنّه إضافة إلى المعدوم لا يخرج من حدّ الذهن والتخيّل؛ أعني هو تخيّل الإضافة لا نفسها.

وإن شئت قلت: إنّ الإضافة إلى الشيئين ولو بنحو الاعتبار نحو إثبات شيء لهما، وهو إن لم يكشف عن الثبوت في ظرفه لا يكون إلاّ توهّماً وتخيّلاً، ومع كشفه عنه يكون ثبوته له فرع ثبوت المثبت له، فإذا تحقّقت الإضافة بين

ص: 274


1- بدائع الأفكار ((تقريرات المحقّق العراقي)) الآملي 1: 320 و323 - 324.

الموجود والمعدوم يكون المعدوم مضافاً ومضافاً إليه في ظرف تحقّق الإضافة، فلا بدّ من صدق قولنا: «المعدوم مضاف ومضاف إليه في حال عدمه»؛ لتحقّق الإضافة في حاله، فلا بدّ من تحقّق المعدوم في حال عدمه قضاءً لحقّ القضيّة الموجبة وقاعدة الفرعية.

وبعبارة اُخرى: أنّ المتضايفين متكافئان قوّةً وفعلاً، حتّى أنّ العلّة لا تكون في تقدّمها على المعلول بالمعنى الإضافي متقدّمة عليه، بل هما في إضافة العلّية والمعلولية متكافئان لا يتقدّم أحدهما على الآخر حتّى في الرتبة العقلية. نعم العلّة متقدّمة على المعلول تقدّماً عقلياً.

وكذا الزمان لا يكون بين أجزائه الوهمية تقدّم وتأخّر بالمعنى الإضافي، فإنّ ذلك محال ينافي قاعدة الفرعية، أو موجب لثبوت المعدوم واتّصافه بشيء وجودي، بل تقدّم بعض أجزائه على البعض بالذات، فإنّ ذاته نفس التصرّم والتدرّج، وما كان كذلك يكون ذا تقدّم وتأخّر بالذات، لا بالمعنى الإضافي، وهذا بعد تصوّر الأطراف بديهي لا يحتاج تصديقه إلى مؤنة.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ ما ذكره أخيراً - من أنّ شرائط التكليف كالقدرة دخيلة في اتّصاف الشيء بكونه صلاحاً - خلط بين الشرائط الشرعية والعقلية، فإنّ ما هو دخيل في المصلحة هي الشرائط الشرعية، وأمّا القدرة التي هي شرط عقلي فغير دخيلة في اتّصاف المتعلّق بالمصلحة، فإنقاذ الغريق ذو مصلحة؛ كان المكلّف قادراً أو لا، ومع عدم القدرة تفوت المصلحة.

وممّا ذكرنا اتّضح: أنّ ما أجاب به عن الإشكال لا يصلح للدفع، وكذا ما هو على هذا المنوال، كالقول بأنّ الشرط في الفضولي عنوان تعقّب العقد بالإجازة،

ص: 275

وهو حاصل(1)؛ لما عرفت أنّ هذا العنوان الإضافي لا يمكن أن يكون حاصلاً بالفعل للعقد؛ فإنّ الإجازة حين العقد معدومة، وهذا العنوان من العناوين الإضافية.

التحقيق في دفع الإشكال عن الشرط المتأخّر

والتحقيق أن يقال: إنّ ما يتراءى من تقدّم المشروط على الشرط ليس شيء منها كذلك:

أمّا في شرائط التكليف، كالقدرة المتأخّرة بالنسبة إلى التكليف المتقدّم،

فلأنّ ما هو شرط لتمشّي الإرادة من الآمر والبعث الجدّي هو تشخيص الآمر قدرة العبد مع سائر شرائط التكليف في ظرف الإتيان كانت القدرة حاصلة أو لا، فإذا قطع المولى بأنّ العبد قادر غداً على إنقاذ ابنه، يصحّ منه الإرادة والبعث الحقيقي نحوه، فإذا تبيّن عجز العبد لا يكشف ذلك عن عدم الأمر والبعث الحقيقي في موطنه، بل يكشف عن خطائه في التشخيص، وأنّ بعثه الحقيقي صار لغواً غير مؤثّر.

هذا حال الأوامر المتوجّهة إلى الأشخاص.

وأمّا الأوامر المتوجّهة إلى العناوين الكلّية، مثل: «أ يّها الناس» و«أ يّها المؤمنون»، فشرط تمشّي الإرادة والبعث الحقيقي هو تشخيص كون هذا الخطاب صالحاً للبعث - من بين المخاطبين - من كان واجداً لشرائط التكليف، من غير لزوم تقييده بالقدرة وسائر الشرائط العقلية، بل التقييد إخلال في بعض

ص: 276


1- الفصول الغروية: 80 / السطر 35.

الموارد، فإذا علم المولى بأنّ إنشاء الأمر على العنوان الكلّي صالح لانبعاث طائفة من المكلّفين كلّ في موطنه، يصحّ منه التكليف والأمر، فشرط التكليف حاصل حين تعلّق الأمر.

ولعلّه إلى ذلك يرجع كلام المحقّق الخراساني، وإن كان إلحاق الوضع بالتكليف - كما صنعه(1) - ليس في محلّه.

وأمّا في شرائط المأمور به، كصوم المستحاضة بناءً على صحّته فعلاً لحصول

شرطه - وهو أغسال الليلة الآتية - في موطنه، وفي شرائط الوضع، كالإجازة بناءً على الكشف الحقيقي، فتحقيقه يتّضح بعد مقدّمة ، وهي:

أنّ للزمان بما أنّه أمر متصرّم متجدّد متقضٍّ بذاته، تقدّماً وتأخّراً ذاتياً، لا بالمعنى الإضافي المقولي، وإن كان عنوان المتقدّم والمتأخّر معنيين إضافيين، ولا يلزم أن يكون المنطبق عليه للمعنى الإضافي إضافياً، كالعلّة والمعلول؛ فإنّهما بعنوانهما إضافيان، لكن المنطبق عليهما؛ أي ذات المبدأ تعالى - مثلاً - ومعلوله، لا يكونان من الاُمور الإضافية، وكالضدّين، فإنّهما مقابل المتضايفين، لكن عنوان الضدّية من التضايف، وذات الضدّين ضدّان.

فالزمان بهويّته التصرّمية، متقدّم ومتأخّر بالذات، والزمانيات متقدّمة بعضها على بعض بتبع الزمان؛ فإنّ الهويّة الواقعة في الزمان الماضي بما أنّ لها نحو اتّحاد معه تكون متقدّمة على الهويّة الواقعة في الزمان الحال، وهي متقدّمة على الواقعة في الزمان المستقبل، وهذا النحو من التقدّم التبعي ثابت لنفس الهويّتين

ص: 277


1- كفاية الاُصول: 119.

بواسطة وقوعهما في الزمان المتصرّم بالذات، وليس من المعاني الإضافية والإضافات المقولية. فالحوادث الواقعة في هذا الزمان متقدّمة بواقع التقدّم - لا بالمفهوم الإضافي - على الحوادث الآتية، لكن بتبع الزمان.

إذا عرفت ذلك، يمكن لك التخلّص عن الإشكال؛ بجعل موضوع الحكم الوضعي والمكلّف به هو ما يكون متقدّماً بحسب الواقع على حادث خاصّ، فالعقدُ الذي هو متقدّم بتبع الزمان على الإجازة تقدّماً واقعياً موضوع للنقل، ولا يكون مقدّماً عليها بواقع التقدّم التبعي إلاّ أن تكون الإجازة متحقّقة في ظرفها، كما أنّ تقدّم الحوادث اليومية إنّما يكون على الحوادث الآتية، لا على ما لم يحدث بعدُ، من غير أن تكون بينها إضافة، كما عرفت.

وموضوع الصحّة في صوم المستحاضة ما يكون متقدّماً تقدّماً واقعياً تبعاً للزمان على أغسال الليلة الآتية، والتقدّم الواقعي عليها لا يمكن إلاّ مع وقوعها في ظرفها، ومع عدم الوقوع يكون الصوم متقدّماً على سائر الحوادث فيها، لا على هذا الذي لم يحدث، والموضوع هو المتقدّم على الحادث الخاصّ.

وبما ذكرنا يدفع جميع الإشكالات، وكون ما ذكر خلاف ظواهر الأدلّة مسلّم، لكن الكلام هاهنا في دفع الإشكال العقلي، لا في استظهار الحكم من الأدلّة.

وهاهنا طريق آخر لدفع الشبهة، وهو أن يقال:

إنّ موضوعات الأحكام وشرائطها كلّها تكون عرفية لا عقلية، والعرف لمّا يرى إمكان التقييد والإضافة بالأمر المتأخّر والمتقدّم كالمقارن، يكون موضوع النقل هو العقد المتقيّد بنظره، والصوم المتقيّد كذلك، ولو كان العقل

ص: 278

لا يساعد عليه والبرهان يضادّه، كما هو الحال في سائر الموضوعات الشرعية، وهذا الوجه يرجع إلى ما ذهب إليه القوم.

نقل كلام المحقّق النائيني في تحرير محطّ البحث في الشرط المتأخّر

إنّ بعض الأعاظم بعد إخراج الاُمور الانتزاعية عن محطّ البحث؛ لأ نّها تنتزع عمّا تقوم به، من غير دخالة الطرف الآخر في الانتزاع؛ لأنّ السبق ينتزع من نفس السابق بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك، وكذا اللحوق من اللاحق، ولا دخل لشيء منهما في انتزاع العنوان عن صاحبه، فما فرض شرطاً هو المقارن لا المتأخّر.

وبعد إخراج شرائط المأمور به عنه؛ لبداهة أنّ شرطية شيء له ليست إلاّ بمعنى أخذه قيداً فيه، فيجوز التقييد بالمتأخّر كالمقارن، بل لا فرق بين الأجزاء والشرائط، فكما يمكن الأمر بمركّب ذي أجزاء من غير إشكال، يمكن بمقيّد، بل لا يعقل تعلّق الأمر بالانتزاعيات، فلا بدّ من إرجاعه إلى القيد، فكما أنّ الأمر بالمركّب يتعلّق بكلّ واحد من أجزائه، كذا أنّ الأمر بالمقيّد يتعلّق بقيده.

فامتثال أمر المقيّد بقيد متأخّر إنّما يكون بإتيان الشرط المتأخّر، كما أنّ امتثال المركّب التدريجي إنّما هو بإتيان الجزء الأخير، فلا إشكال فيهما.

وبعد إخراج العلل الغائية؛ لأ نّها بوجودها العلمي مؤثّرة في التشريع، لا الخارجي، فشرائط الجعل أيضاً خارجة عن محطّه؛ لأ نّها بوجودها العلمي مؤثّرة في الجعل، فيكون الشرط مقارناً دائماً.

خصّ النزاع بشرائط الحكم المجعول، وقال في توضيحه: إنّ القضايا إمّا خارجية: فلا يتوقّف الحكم فيها على غير دواعي الحكم المؤثّرة بوجودها

ص: 279

العلمي لا الخارجي، طابق الواقع أم لا، وهي أيضاً خارجة عن محطّ الكلام؛ فإنّ الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم، كان المعلوم مقارناً أو مؤخّراً.

وإمّا حقيقية: وهي التي حكم فيها بثبوت الحكم على الموضوعات المقدّر وجودها، فيحتاج الحكم فيها إلى أمرين:

أحدهما: ما يكون داعياً إلى جعل الحكم، وهو أيضاً كالعلل الغائية خارج عن البحث. ثانيهما: ما يكون موضوعاً له واُخذ مفروض الوجود في مقام الحكم، ويدخل في ذلك الشرائط؛ لأنّ شرائط الحكم ترجع إلى قيود الموضوع، وهذا هو محلّ البحث.

والحقّ امتناع الشرط المتأخّر فيه، سواء قلنا بأنّ المجعول هو السببية وأمثالها، أو المجعول هو الحكم عند وجود السبب:

أمّا الأوّل: فواضح؛ لأ نّه يرجع إلى تأخّر أجزاء العلّة العقلية عن المعلول.

وأمّا الثاني: فللزوم الخلف والمناقضة من وجود الحكم قبل وجود موضوعه، وقد عرفت أنّ الشرائط كلّها ترجع إلى قيود الموضوع(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه مواقع للنظر، نذكر بعض مهمّاتها:

منها: ما ذكره في الاُمور الانتزاعية من جواز الانتزاع عمّا تقوم به من غير دخالة الطرف فيه: فإن أراد أنّه ينتزع الأمر الإضافي من غير إضافة إلى الطرف الآخر فهو واضح البطلان، مع أنّه مخالف لقوله: بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك.

وإن أراد أنّه ينتزع منه فعلاً بالقياس إلى ما سيصير طرف الإضافة، من غير أن يكون طرفاً فعلاً، فهو أيضاً واضح البطلان؛ لتكافؤ المتضايفين قوّةً وفعلاً،

ص: 280


1- أجود التقريرات 1: 321 - 330.

وهل هذا إلاّ دعوى جواز انتزاع الاُبوّة من طفل نعلم أنّه سيولد له ولد؟!

وإن أراد أنّ المعدوم مضاف فعلاً فهو أوضح بطلاناً.

ومنها: أنّ إخراج شرائط المأمور به ممّا لا وجه له؛ لأنّ الكلام ليس في جواز تعلّق الأمر بشيء مركّب أو مقيّد، بل في جواز اشتراط صحّة المأمور به بأمر متأخّر، فاشتراط الصوم بأغسال الليلة المستقبلة - بمعنى صحّة صومها فعلاً إذا أتت بالأغسال في الليلة المستقبلة - عين محلّ النزاع والإشكال.

كما أنّه يأتي الإشكال في أجزاء المركّب أيضاً، إذا قيل بصحّة الجزء الأوّل مشروطاً بوقوع الأجزاء والشرائط التدريجية في محالّها، والجواب هو الجواب عن الشرط المتأخّر.

ومنها: أنّ ابتناء الامتناع على حقيقية القضايا ممّا لا وجه له، ودعوى رجوع جميع شرائط القضايا الخارجية إلى العلل الغائية التي تكون بوجودها العلمي لا العيني مؤثّرة - اغتراراً ببعض الأمثلة الجزئية - ممّا يكذّبها الوجدان والبرهان؛ ضرورة أنّ الإجازة بوجودها الخارجي دخيلة في صحّة الفضولي، كانت القضيّة التي أنفذته خارجية أو حقيقية، وإنّما الإحراز شرط الجعل لا المجعول، والكلام فيه لا في الجعل. ومع كون القضايا حقيقية يمكن [دفع] الإشكال بالوجهين المتقدّمين.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ محطّ البحث أعمّ من شرائط الجعل كالقدرة المتأخّرة، وشرائط المكلّف به كأغسال الليلة المتأخّرة، وشرائط الوضع كالإجازة في الفضولي بناءً على الكشف، والجواب ما مرّ(1).

ص: 281


1- تقدّم في الصفحة 278.

الأمر الرابع في تقسيمات الواجب

الواجب المطلق والمشروط

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المطلق والمشروط، والإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان، كالإطلاق والتقييد في باب المطلق والمقيّد، فكلّ قيد يلاحظ ويقاس بالنسبة إلى الواجب، فإمّا أن يكون وجوبه بالنسبة إليه مشروطاً أو لا، فيمكن أن يكون الواجب مطلقاً من جهة وبالنسبة إلى قيد، ومشروطاً من اُخرى.

والكلام في الواجب المشروط يتمّ في ضمن جهات من البحث:

الجهة الاُولى: في تصوير الواجب المشروط
اشارة

لا إشكال في أنّ مقتضى القواعد العربية والتفاهم العرفي هو رجوع القيد في مثل قولنا: «إن استطعت فحجّ» إلى الهيئة، فلا بدّ في رفع اليد عن الظاهر من دليل، كامتناع الرجوع إليها، أو لزوم الرجوع إلى المادّة لبّاً كما نسب إلى الشيخ الأعظم(1).

والتحقيق: عدم لزوم هذا وعدم امتناع ذاك: أمّا الثاني فسيأتي الكلام فيه.

وتوضيح الأوّل:

ص: 282


1- مطارح الأنظار 1: 235 و247.
ضابط قيود المادّة والهيئة

إنّ لرجوع القيد إلى المادّة وإلى الهيئة ميزاناً بحسب اللبّ، وليس ذلك بجزاف:

فالقيود الراجعة إلى المادّة هي كلّ ما يكون بحسب الواقع دخيلاً في تحصيل الغرض المطلق، من غير أن يكون دخيلاً في ثبوت نفس الغرض.

مثلاً: قد يكون الغرض اللازم التحصيل هو الصلاة في المسجد - بحيث تكون الصلاة فيه متعلّقة لغرضه الذي لا يحصل إلاّ بها، كان المسجد متحقّقاً أو لا - فلا محالة تتعلّق إرادته بها مطلقاً، فيأمر بإيجاد الصلاة فيه، فلا بدّ للمأمور

- إطاعةً لأمره - أن يبني المسجد على فرض عدمه ويصلّي فيه.

وقد يكون الغرض لا يتعلّق بها كذلك، بل يكون وجود المسجد دخيلاً في تحقّق غرضه - بحيث لو لم يكن ذلك لم يتعلّق غرضه بالصلاة كذلك، بل قد يكون وجوده مبغوضاً له، لكن على فرض وجوده تكون الصلاة فيه متعلّقاً لغرضه - فلا محالة تتعلّق إرادته بها على فرض تحقّق المسجد، ففي مثله يرجع القيد إلى الهيئة.

ثمّ إنّ للقيود الراجعة إلى الهيئة موارد اُخر:

منها: أن تكون المصلحة في فعل مطلقاً، لكن يكون في بعثه كذلك مانع؛ لجهة في المأمور كالعجز، فلو غرق ابن المولى فأمر عبده: بأ نّه إذا قدرت فأنقذه، لم يعقل رجوع القيد إلى المادّة؛ لأ نّها مطلوبة على الإطلاق.

ومنها: أن يكون المطلوب مطلقاً، لكن يكون للآمر مانع من إطلاق الأمر، فيأمر مشروطاً.

ص: 283

ومنها: ما إذا لزم من تقييد المادّة محال، كما في قول الطبيب: «إن مرضت فاشرب المسهل»، فإنّ شربه لدفع المرض، ولا يعقل أن يكون المرض دخيلاً في صلاح شرب المسهل بنحو الموضوعية؛ بحيث يرجع القيد إلى المادّة.

ومن ذلك الكفّارات في الإفطار والظهار وحنث النذور وغيرها؛ فإنّ الأمر بها لرفع منقصة حاصلة لأجل ارتكاب المحرّمات، ولا يعقل أن يكون ارتكابها من قيود المادّة، إلى غير ذلك.

نقل وتحصيل : حول کلام المحقّق العراقي في الضابط في القیدین

ومن المحقّقين من قال في الضابط في القيدين بحسب اللبّ: «إنّ ما يتوقّف اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة على حصوله في الخارج - كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ؛ فإنّ قبل حصولها لا يتّصف الحجّ بعنوان الصلاح - ففي مثله يكون القيد راجعاً إلى الهيئة، ويكون الأمر معلّقاً على تحقّقه، وأمّا قبل حصوله فلا يرى المولى مصلحة فيه.

وما تتوقّف فعلية المصلحة وحصولها في الخارج على تحقّقه، فلا تحصل المصلحة إلاّ إذا اقترن الفعل به كالطهارة والاستقبال والستر، يكون من قيود المادّة»(1)، انتهى.

وفي الشقّ الأوّل إشكال طرداً وعكساً؛ فإنّ الصلاح الذي يتوقّف على حصول شيء إذا كان لازم التحصيل مطلقاً تتعلّق الإرادة بتحصيله على نحو الإطلاق، ويأمر بإتيان الفعل كذلك، وعلى المكلّف أن يأتي به ولو بإيجاد شرطه.

ص: 284


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 335.

مثلاً: إذا كان الحجّ لا يتّصف بالصلاح إلاّ مع الاستطاعة، لكن يكون للمولى غرض مطلق في تحصيل مصلحة الحجّ، فلا محالة يأمر عبده بتحصيلها بنحو الإطلاق، فلا بدّ له من تحصيل الاستطاعة؛ ليصير الحجّ معنوناً بالصلاح، ويأتي به لتحصيل غرضه المطلق، بل لو فرض غرض للمولى لا يحصل إلاّ بتحصيل المصلحة التي في شرب المسهل، فيأمر عبده بتحصيلها، فلا بدّ له من إمراض نفسه وشربه. وقد عرفت أنّ بعض القيود لا يكون دخيلاً في اتّصاف الموضوع بالمصلحة، ومع ذلك يكون قيداً للهيئة، كالقدرة وسائر الأمثلة المتقدّمة.

ويرد على الشقّ الثاني: أنّ قيود المادّة كالطهارة والستر والاستقبال دخيلة

في اتّصاف الموضوع بالصلاح، فإنّ الصلاة بدون الطهارة والقبلة لا مصلحة فيها، وليس حال تلك القيود كحال آلات الفاعل في إيجاد موضوع ذي صلاح بالضرورة، فما ذكره في ضابط المطلق والمشروط غير تامّ، إلاّ أن يرجع إلى ما ذكرنا، وهو خلاف ظاهره.

تذكرة: في أدلّة امتناع رجوع القيد إلى الهيئة والجواب عنها

قد يقال بامتناع رجوع القيد إلى الهيئة؛ فإنّها من الاُمور الغير المستقلّة في اللحاظ، والاشتراط والتقييد متوقّفان على اللحاظ الاستقلالي للمشروط والمقيّد(1).

وفيه أوّلاً: أنّ التقييد إنّما هو باللحاظ الثاني حتّى في المعاني الاسمية، فإنّ «العالم» في قولنا: «رأيت العالم العادل» لا يكون دالاًّ إلاّ على معناه لا غير، ففي

ص: 285


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 181.

استعماله لا يكون إلاّ حاكياً عن نفس معناه، فإذا وصف بأ نّه «العادل» يكون توصيفه بلحاظ ثانٍ، وهذا بعينه ممكن في المعاني الحرفية.

وثانياً: يمكن أن يكون تصوّر التوصيف والوصف والموصوف قبل الاستعمال، سواء في ذلك المعاني الاسمية والحرفية، وتصوّر الحرفيات قبل استعمالها استقلالاً وتصوّر توصيفها، ممّا لا مانع منه، تأمّل. والمانع لو كان إنّما

هو حين الاستعمال حرفاً.

وثالثاً: أنّ تقييد المعاني الحرفية ممكن، بل نوع المحاورات والتفهيم والتفهّمات لإفهام المعاني الحرفية وتفهّمها، وقلّما يتعلّق الغرض بإفهام المعنى الاسمي فقط، فالمطلوب الأوّلي هو إفهام المعاني الحرفية، فتكون هي ملحوظة بنحو يمكن تقييدها وتوصيفها.

وإن شئت قلت: إنّ الإخبار عنها وبها غير جائز، وأمّا تقييدها في ضمن الكلام فواقع جائز.

وبالجملة: أنّ التقييد لا يحتاج إلى اللحاظ الاستقلالي، بل يكفي فيه ما هو حاصل في ضمن الكلام الذي يحكي عن الواقع، مثلاً: إذا رأى المتكلّم أنّ زيداً في الدار جالس يوم الجمعة، وأراد الإخبار بهذا الأمر، فأخبر عن الواقع المشهود بالألفاظ [التي هي قالب] للمعاني، يقع الإخبار عن التقييد والقيد والمقيّد، من غير احتياج إلى غير لحاظ المعاني الاسمية والحرفية على ما هي عليه واقعاً.

هذا في الحروف الحاكيات. وأمّا غيرها؛ أي التي تستعمل استعمالاً إيجادياً، فالمتكلّم قبل استعمالها يقدّر المعاني والألفاظ في ذهنه، ويرى أنّ مطلوبه

ص: 286

لا يكون إلاّ مطلوباً على تقدير، فإذا تكلّم بالألفاظ [التي هي قالب] لإفادة هذه المعاني الذهنية فلا محالة تكون الهيئة مقيّدة، من غير احتياج إلى نظر استقلالي حال الاستعمال، وأنت إذا راجعت وجدانك ترى صدق ما ادّعيناه.

وقد يقال في تقرير الامتناع: إنّ الهيئة موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ومثله جزئي حقيقي غير قابل للتقييد(1).

والجواب: أنّ تعليق الجزئي وتقييده ممكن واقع، ف «زيد» قابل للتقييد بالنظر إلى طوارئه؛ ولهذا تجري فيه مقدّمات الحكمة إذا وقع موضوعاً للحكم.

وقد يقال: إنّ الهيئة في الأمر والنهي من الحروف الإيجادية كما سبق، وتعليق الإيجاد مساوق لعدم الإيجاد، كما أنّ تعليق الوجود مساوق لعدمه(2).

والجواب: أنّ الوجود الاعتباري والإنشائي قابل للتعليق والتقييد، ومعنى تعليقه أنّه بعث على تقدير، وقياسه بالوجودات الحقيقية مع الفارق.

الجهة الثانية: في حكم الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه

هل الوجوب في المشروط قبل تحقّق شرطه فعلي أو لا يصير فعلياً إلاّ بعده؟

والتحقيق هو الثاني، وتوضيحه يتوقّف على تحقيق حقيقة الحكم، فنقول:

لا إشكال في أنّ الآمر قبل إنشاء التكليف يتصوّر المبعوث إليه، ويدرك فائدته ولزوم حصوله بيد المأمور وصدوره منه، وبعد تمامية مقدّمات الإرادة

ص: 287


1- مطارح الأنظار 1: 236.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 181؛ منية الطالب 1: 253؛ اُنظر لمحات الاُصول: 109.

يريد بعثه إليه، فيأمره ويبعثه نحوه.

إنّما الكلام في أنّ الحكم عبارة عن الإرادة، أو الإرادة المظهرة بنحو من الإظهار، أو نفس البعث الناشئ من إرادته؛ بحيث تكون الإرادة كسائر المقدّمات من مبادئ حصوله لا مقوّمات حقيقته؟

الحقّ هو الأخير؛ لشهادة العرف والعقلاء بذلك، ألا ترى أنّه بمجرّد صدور الأمر من المولى يرى العبيد وجوب الإتيان، من غير أن يخطر ببالهم كون الأمر ناشئاً من الإرادة؟! فنفس البعث - بأيّ آلة كان - موضوع لانتزاع الوجوب.

ولأنّ الإيجاب والوجوب واحد ذاتاً مختلف بالاعتبار، والإرادة لا تكون إيجاباً وإلزاماً بالضرورة، بل نفس البعث والإغراء إلزام وإيجاب، وهو الحكم.

ولأنّ الأحكام التكليفية قسيم الأحكام الوضعية وقرينها، ولا إشكال في أنّ الوضعيات لم تكن من قبيل الإرادات المظهرة، فالولاية والحكومة والقضاء والملكية وغيرها تنتزع من جعلها، ولا يمكن أن يقال: هذه العناوين منتزعة عن الإرادة، أو عبارة عنها، أو عن مقام إظهارها، كما أنّ حكم السلطان والقاضي عبارة عن نفس الإنشاء الصادر منهما في مقام الحكومة والقضاء، لا الإرادة المظهرة.

والحاصل: أنّ الحكم مشترك معنوي بين الوضع والتكليف إذا لوحظ اسماً، فلا بدّ وأن يكون الاعتبار فيهما واحداً، فنفس البعث عبارة عن الحكم والإيجاب أو هما منتزعان منه، والوجوب عين الإيجاب ذاتاً.

نعم، لو لم ينشأ البعث من الإرادة الجدّية لم ينتزع منه الوجوب والإيجاب،

ص: 288

وهو لا يوجب أن تكون الإرادة دخيلة في قوام الحكم، أو تكون تمام حقيقته، ويكون الإظهار واسطة لانتزاع الحكم منها.

فما ادّعى بعض أهل التحقيق من كون الحكم عبارة عن الإرادة التشريعية التي يظهرها المريد بأحد مظهراتها(1)، خلاف التحقيق.

إذا عرفت ذلك: يسهل لك التصديق بأنّ الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه ليس وجوبه فعلياً كما هو مقتضى تعليق الهيئة، ومعلوم أنّ إنشاء البعث على تقدير لا يمكن أن يكون بعثاً فعلياً قبل حصول التقدير؛ للزوم تخلّف المنشأ عن الإنشاء، كما أنّ إنشاء الملكية على تقدير الموت في الوصية، لا يمكن أن يؤثّر إلاّ في الملكية الفعلية بعد الموت لا قبله.

بل لو قلنا بأنّ الإرادة دخيلة في الحكم لم تكن دخالتها إلاّ بنحو منشئية الانتزاع، وأمّا كونها نفس الحكم ذاتاً فهو خلاف الضرورة، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ الإرادة المعلّقة على شيء لا ينتزع منها الوجوب الفعلي، بل هي منشأ انتزاع الوجوب المشروط.

الجهة الثالثة: في إشكالات الواجب المشروط على مسلك المشهور
اشارة

ربما يستشكل على الواجب المشروط على مسلك المشهور بوجوه:

منها: ما أورده بعض أهل التحقيق، وهو أنّه لا ريب في أنّ إنشاء التكليف من مقدّمات التوصّل إلى تحصيل المكلّف به، والواجب المشروط على المشهور ليس بمراد للمولى قبل تحقّق شرطه، فكيف يتصوّر أن يتوصّل العاقل إلى

ص: 289


1- مقالات الاُصول 1: 310 - 311؛ نهاية الأفكار 1: 302.

تحصيل ما لا يريده فعلاً؟! فلا بدّ أن يلتزم المشهور بوجود غرض نفسي في إنشاء التكليف المشروط، وهو كما ترى.

وأمّا على مذهبنا فلا يرد الإشكال؛ لفعلية الإرادة قبل تحقّق الشرط، فيتوصّل المولى إلى ما يريده فعلاً، وإن كان على تقدير(1)، انتهى.

وهذا من عجيب الكلام؛ فإنّ الإنشاء وإن كان للتوصّل إلى المبعوث إليه، لكن في المشروط يتوصّل المولى إليه على تقدير حصول الشرط، فإذا قال: «حجّ إن استطعت» يكون إنشاء الإيجاب أو البعث على تقدير الاستطاعة للتوصّل إليه على هذا التقدير لا قبله.

بقي الكلام في فائدة هذا الإنشاء قبل حصول الشرط، وهي متصوّرة في الإنشاء المتوجّه إلى مكلّف جزئي، وأمّا الحكم التشريعي القانوني المتعلّق بالعناوين الكلّية فلا يمكن أن ينشأ إلاّ على هذا النحو، كما لا يخفى.

وبالجملة: أنّ إنشاء البعث المشروط، للتوصّل به إلى المبعوث إليه على تقدير حصول الشرط، سواء في ذلك مذهب المشهور وغيره.

ومنها: أنّ وجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة ممتنع؛ لأنّ وجوبها ناشئ من وجوبه، وعلى فرض التلازم بين الإرادتين تكون إرادة المقدّمة ناشئة من إرادة ذي المقدّمة، فلا يعقل وجود المعلول قبل علّته وأحد المتلازمين قبل صاحبه.

ولعلّ بعض أهل التحقيق فراراً من مثل الإشكال ذهب إلى أنّ الحكم

ص: 290


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 346 - 347.

عبارة عن الإرادة المظهرة(1)؛ بتخيّل أنّه معه يرفع الإشكال عنه، وسيتّضح

ما فيه(2).

والجواب عن الإشكال: أنّ وجوب المقدّمة لا يكون ناشئاً من وجوب

ذي المقدّمة:

أمّا إذا قلنا بأنّ الوجوب هو البعث أو المنتزع منه فواضح؛ ضرورة عدم التلازم بين البعث إلى شيء والبعث إلى مقدّمته، بل غالباً لا يكون للمولى بعث إلى المقدّمات.

وأمّا التلازم بين الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة مع إرادة مقدّمته، فليس بمعنى نشوّ إرادة من إرادة؛ بحيث تكون إرادة ذي المقدّمة علّة موجدة لها؛ لما عرفت سابقاً(3) من أنّ الآمر - على فرض الملازمة - لمّا رأى توقّف ما هو مطلوبه على شيء، فهو يريد البعث إليه لأجل تحصيله، وهذا معنى الإرادة الغيرية، فللإرادة مطلقاً مقدّمات لا تتحقّق بدونها، ولا تكون إرادة ناشئة من اُخرى.

فهاهنا نقول: إنّ الملاك في إرادة المقدّمة هو علمه بتوقّف التوصّل إلى ذي المقدّمة عليها، فإذا كان ذو المقدّمة مراداً فعلياً فلا محالة تتعلّق إرادة بما

يراه مقدّمة بملاك التوصّل بناءً على الملازمة.

وأمّا إذا فرض عدم تعلّق إرادة فعلاً بتحصيل ذي المقدّمة فعلاً، لكن يعلم المولى أنّه عند حصول شرطه مطلوب له لا يرضى بتركه، ويرى أنّ له مقدّمات

ص: 291


1- مقالات الاُصول 1: 310 - 311؛ نهاية الأفكار 1: 302.
2- يأتي في الصفحة 292.
3- تقدّم في الصفحة 261.

لا بدّ من إتيانها قبل حصول الشرط، وإلاّ يفوت الواجب في محلّه بفوتها، فلا محالة تتعلّق إرادة آمرية بتحصيلها لأجل التوصّل بها إليه في محلّه وبعد تحقّق شرطه، لا لشيء آخر.

بل إذا علم المكلّف بأنّ المولى أنشأ البعث على تقدير يعلم حصوله، ويرى أنّه يتوقّف على شيء قبل تحقّق شرطه؛ بحيث يفوت وقت إتيانه، يجب عليه عقلاً إتيانه؛ لحفظ غرض المولى في موطنه.

فإذا قال: «أكرم صديقي إذا جاءك»، ويتوقّف إكرامه على مقدّمات يكون وقت إتيانها قبل مجيئه، يحكم عقله بإتيانها لتحصيل غرضه، بل لو كان المولى غافلاً عن مجيء صديقه لكن يعلم العبد مجيئه وتعلّق غرض المولى بإكرامه على تقديره وتوقّفه على مقدّمات كذائية، يحكم العقل بإتيانها لحفظ غرضه، ولا يجوز له التقاعد عنه.

فتحصّل: أنّه على فرض الملازمة لا محيص عن تعلّق الإرادة بها، وتوهّم لزوم تحقّق المعلول قبل علّته ناشئ من توهّم كون الإرادة المتعلّقة بالمقدّمات ناشئة من إرادة ذي المقدّمة أو كونهما متلازمتين بالمعنى المصطلح، وهما بمكان من الفساد.

ثمّ إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا يرد الإشكال حتّى على القول بأنّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة؛ لأنّ الإرادة المتعلّقة بشيء كما أنّها لاتؤثّر في البعث

نحو ذي المقدّمة؛ للاشتراط بشيء غير حاصل، لا يمكن أن تؤثّر في البعث نحو مقدّماته، ومجرّد وجود الإرادة الغير المؤثّرة فعلاً لا يكفي في البعث نحو المقدّمة مطلقاً، فالإشكال يأتي على المذهبين، والجواب ما تقدّم، فتدبّر.

ص: 292

الواجب المعلّق والمنجّز

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز، وهذا تقسيم في «الفصول»(1) أبداه لدفع إشكال وجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة، وبعد تصوير وجوبها قبل وجوبه لا وقع لهذا التقسيم.

وقد استشكل على الواجب المعلّق باُمور:

أهمّها ما حكاه المحقّق الخراساني(2) عن بعض أهل النظر(3)، وفصّله وقرّره بعض المدقّقين في تعليقته(4)، ولم يأت بشيء مقنع مع طوله، وتلخيصه:

إشكال المحقّق النهاوندي على الواجب المعلّق

إنّ الإرادة هي الشوق البالغ حدّ نصاب الباعثية، وهي جزء أخير للعلّة التامّة لتحريك العضلات، فلا يمكن تعلّقها بأمر استقبالي؛ للزوم انفكاك العلّة التامّة عن المعلول.

نعم، الشوق المتعلّق بالمقدّمات بما هي مقدّمات من الشوق إلى ذي المقدّمة، لكن في المقدّمات يصل إلى حدّ الباعثية، لعدم المزاحمة، دون ذي المقدّمة؛ فإنّ فيه يبقى بحاله إلى أن يرفع المانع، فيصل إلى حدّ النصاب.

ص: 293


1- الفصول الغروية: 79 / السطر 36.
2- كفاية الاُصول: 128.
3- تشريح الاُصول: 191 / السطر 21.
4- نهاية الدراية 2: 73 - 79.

وأمّا الإرادة التشريعية فلا يمكن أن تتعلّق بأمر استقبالي؛ لعدم إمكان انبعاث المكلّف، ومعه لا يمكن البعث؛ لأ نّه لغرض جعل الداعي.

ثمّ شرع في «إن قلت قلتات» ممّا لا داعي لذكرها.

والجواب: أمّا عن الإرادة التكوينية، فغاية ما يمكن أن يقال في بيان كونها علّة تامّة لحركة العضلات: إنّ القوى العاملة للنفس وآلاتها المنبثّة هي فيها، لمّا

كانت تحت سلطان النفس وقدرتها، بل هي من مراتبها النازلة وشؤونها، فلا يمكن لها التعصّي عن إرادتها، فإذا أرادت قبضها تنقبض أو بسطها تنبسط، من غير تعصٍّ وتأخّر مع عدم آفة للآلات، هذا أمر برهاني ووجداني، لكن كون القوى تحت إرادة النفس وإطاعتها أنّها إذا أرادت تحريكها في الحال تحرّكت، لا عدم إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقبالي.

فما اشتهر بينهم: من أنّ الإرادة علّة تامّة للتحريك، ولا يمكن تخلّفها عن المراد، حتّى أخذوه كالاُصول الموضوعة، ونسجوا على منواله ما نسجوا(1)، ممّا لم يقم عليه برهان إلاّ ما ذكرنا، ولازم ذلك هو ما عرفت من أنّ الإرادة إذا تعلّقت بتحريك عضلة في الحال ولم يكن مانع في البين تتحرّك إطاعة للنفس.

وأمّا عدم إمكان التعلّق بأمر استقبالي فيحتاج إلى برهان مستأنف، ولم يقم عليه، لو لم نقل بقيامه على إمكانه، وقضاء الوجدان بوقوعه، كيف؟! وإرادة الله تعالى قد تعلّقت أزلاً بإيجاد ما لايزال على الترتيب السببي والمسبّبي، من غير

ص: 294


1- اُنظر نهاية الدراية 2: 73؛ نهاية الأفكار 1: 168 - 169؛ غرر العوائد من درر الفوائد: 34.

إمكان التغيّر والحدوث في ذاته وإرادته كما برهن عليه في محلّه(1).

ولا يمكن أن يقال في حقّه تعالى: كان له الشوق ثمّ صار الإرادة وبلغ حدّ النصاب، وما قرع سمعك: أنّ الإرادة فيه تعالى هو العلم بالنظام الأصلح(2): إن اُريد به اتّحاد صفاته تعالى فهو حقّ، وبهذا النظر كلّها يرجع إلى الوجود الصرف التامّ وفوق التمام.

وإن اُريد نفي صفة الإرادة فهو إلحاد في أسمائه تعالى، ومستلزم للنقص والتركيب والإمكان، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأمّا الإرادة فينا فليست شوقاً مؤكّداً كما تمور به الألسن موراً(3)، فإنّ الشوق من الصفات الانفعالية للنفس، والإرادة من صفاتها الفعّالة، والشوق لا يبلغ حدّ الباعثية وإن بلغ ما بلغ في الشدّة، والإرادة هي تصميم العزم وإجماع النفس والهمّة، بل قد لا يكون الشوق من مبادئها، فيريد المكروه ولا يريد المشتاق إليه، كمن يشرب الدواء البشيع لتشخيص الصلاح فيه مع النفرة والكراهة الشديدة، ويترك شرب الماء البارد مع شدّة عطشه واشتياقه لشربه؛ تسليماً لحكم العقل بأ نّه مضرّ للاستسقاء.

ثمّ إنّ الإرادة كالشوق تتعلّق بالأمر الحالي والاستقبالي، وليست كالعلل الطبيعية، ولم تكن مطلق الإرادة علّة تامّة لمطلق حركة العضلات، بل العضلات

ص: 295


1- الشفاء، الإلهيات: 363 - 368؛ الحكمة المتعالية 6: 325 - 354، و7: 282.
2- الشفاء، الإلهيات: 363 و415؛ الحكمة المتعالية 6: 316 و333.
3- كفاية الاُصول: 86؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 132؛ نهاية الدراية 2: 73.

بما هي تابعة للنفس تكون تحت سلطانها، فإذا أرادت إيجاد أمر في المستقبل لا تتعلّق الإرادة بتحريك العضلات في الحال، بل إن بقيت الإرادة إلى زمان العمل تتعلّق إرادة اُخرى بتحريك العضلات؛ لرؤية توقّف الإيجاد على حركتها، لا لأنّ إرادة الإيجاد محرّكة للعضلات.

مثلاً: إرادة شرب الماء لا يمكن أن تكون محرّكة لعضلات اليد للبطش، بل لمّا ترى النفس توقّف الشرب على تحرّك العضلات، تريد حركتها للتوصّل إلى مطلوبها، فالإرادة المتعلّقة بتحريك العضلات غير الإرادة المتعلّقة بإيجاد المطلوب نوعاً، ألا ترى أنّ المطلوب مراد لذاته وتحريك العضلات توصّلي وغير مشتاق إليه أصلاً ولا مراد بالذات؟!

وما تقدّم منه - أنّ الاشتياق يتعلّق بالمقدّمة من ذي المقدّمة - غير مطّرد؛ لما عرفت آنفاً أنّ الاشتياق لم يكن من مقدّمات الإرادة في جميع الموارد، وفي كثير من الموارد يريد الشيء مع شدّة كراهته له، والحاكم هو الوجدان.

فحينئذٍ نقول: في مثل هذه الأفعال لا يمكن أن يقال: إنّ الإرادة تتعلّق بمقدّماتها، من غير تصميم العزم بإتيان ذي المقدّمة.

ولا أن يقال: إنّ حالتنا الوجدانية بالنظر إلى هذا الفعل وغيره بالنسبة إلى المستقبل سواء؛ لقضاء الوجدان بخلافه.

ولا أن يقال: إنّ الحالة الوجدانية هو العلم بالصلاح فقط، فإنّه أيضاً خلاف الوجدان.

وبالجملة: الوجدان أصدق شاهد بأنّ الإنسان قد يشتاق الأمر الاستقبالي كمال الاشتياق، لكن لا يريده ولا يكون عازماً على إتيانه، وقد يريده ويقصده

ص: 296

من غير اشتياق، بل مع كمال كراهته، ففي الفرض الثاني يتصدّى لإتيان مقدّماته دون الأوّل، ولم يقم برهان يصادم هذا الوجدان، وما قالوا من لزوم انفكاك العلّة عن المعلول، قد عرفت ما فيه.

هذا كلّه في الإرادة التكوينية.

وأمّا التشريعية: فإمكان تعلّقها بأمر استقبالي أوضح من أن يخفى ولو سلّمنا امتناعه في التكوينية؛ فإنّها وإن تتعلّق بالأمر لغرض البعث، ومعه لا بدّ وأن يكون الانبعاث ممكناً، لكن يكفي إمكانه على طبق البعث في إمكانه وصحّته، والبعث إلى أمر استقبالي يقتضي إمكان الانبعاث إليه لا إلى غيره، والأغراض المتعلّقة للبعث في الحال كثيرة، بل قد عرفت أنّ البعث القانوني لا يمكن إلاّ بهذا النحو، فلا ينبغي الإشكال فيه.

إشكال المحقّق النائيني على الواجب المعلّق

ومن الإشكالات في المقام: ما أورده بعض الأعاظم رحمه الله علیه مع تطويل وتفصيل، ولم يأت بشيء إلاّ أنّ القيود الغير الاختيارية لا بدّ وأن تؤخذ مفروضة الوجود وفوق دائرة الطلب، سواء كان لها دخل في مصلحة الوجوب أو الواجب، وسواء كانت القضايا حقيقية أو لا، وعليه بنى بطلان الواجب المعلّق قائلاً:

«إنّ كلّ حكم مشروط بوجود الموضوع بما له من القيود، من غير فرق بين الموقّتات وغيرها، وأيّ خصوصية في الوقت حيث يقال بتقدّم الوجوب عليه دون سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك الكلّ في كونها قيداً للموضوع؟! وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحجّ

ص: 297

والوقت في الصوم؟! بل الأمر في الوقت أوضح؛ لأ نّه لا يمكن إلاّ أخذه مفروض الوجود؛ لعدم تعلّق القدرة به، ولا يمكن أن تتعلّق إرادة الفاعل به من وجوه»(1).

وفيه: أنّ قيود المتعلّق والموضوع - أي ما رجعت إلى المادّة - ممتازة عمّا رجعت إلى الهيئة في نفس الأمر، لا يمكن التخلّف عمّا هي عليه، فإذا كان محصّل الغرض هو المتقيّد بأيّ قيد كان، لا يمكن تعلّق الإرادة بالمجرّد عنه؛ لفقدان الملاك فيه، كما أنّه لو كان الملاك في المطلق لم يمكن تعلّق الإرادة بالمقيّد، فسؤال الفرق بين الاستطاعة والتقيّد بالزمان على فرض كونه دخيلاً في تحصيل الغرض، عجيب مع وضوحه.

وظنّي أنّ عمدة ما أوقعه في الإشكال هو دعوى أنّ القيود في المقيّدات تحت الأمر والبعث، ولمّا رأى عدم إمكان البعث إلى الأمر الغير الاختياري أنكر المعلّق(2)،

وهي بمكان من الضعف؛ فإنّ الأمر المتعلّق بالمقيّد لا يمكن أن يتعدّى من متعلّقه إلى أمر آخر، والقيد خارج عن المتعلّق والتقيّد داخل، فالأمر إنّما يتعلّق بالمقيّد لا بالقيد، والعقل يحكم بتحصيل القيد إذا لم يكن حاصلاً، وأمّا مع حصوله بنفسه فلا، فإذا أمر المولى بالصلاة تحت السماء لا يكون ذلك أمراً بإيجاد السماء، بل بإيجاد الصلاة تحتها، وهو أمر مقدور، كذلك الأمر بإيجاد صلاة المغرب ليس أمراً بإيجاد المغرب.

ص: 298


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 186 - 187.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 183.

نعم، لا يمكن الأمر بمقيّد لا يصير قيده موجوداً في ظرفه، ولا يكون تحت اختيار العبد، وأمّا إذا كان موجوداً في ظرف الإتيان أو كان تحت اختياره، فالأمر بالمقيّد ممكن، والواجب مطلق لا مشروط.

تتمّة: في دوران القيد بين الهيئة والمادّة

لو دار أمر قيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادّة، فمع اتّصاله بالكلام لا إشكال في صيرورة الكلام مجملاً، مع عدم ظهور لغوي أو انصراف وقرينة. ومع انفصاله أيضاً كذلك؛ إذ لا مرجّح لرجوعه إلى أحدهما إلاّ ما عن المحقّق صاحب الحاشية نقلاً عن بعض: من أنّ الرجوع إلى الهيئة مستلزم لرجوعه إلى المادّة دون العكس، فدار الأمر بين تقييد وتقييدين(1)، وهو كما ترى، وإلاّ ما عن الشيخ الأعظم من وجهين:

حول الوجهين المنقولين عن الشيخ لترجيح رجوع القيد إلى المادّة

أحدهما: أنّ إطلاق الهيئة شمولي كالعامّ، وإطلاق المادّة بدلي، وتقييد الثاني أولى(2).

وقرّر بعض الأعاظم وجه تقديمه: بأنّ تقديم الإطلاق البدلي يقتضي رفع اليد عن الإطلاق الشمولي في بعض مدلوله، بخلاف تقديم الشمولي؛ فإنّه لا يقتضي رفع اليد عن الإطلاق البدلي، فإنّ المفروض أنّه الواحد على البدل، وهو

ص: 299


1- هداية المسترشدين 2: 98.
2- مطارح الأنظار 1: 252.

محفوظ، غاية الأمر أنّ دائرته كانت وسيعة فصارت ضيّقة.

وببيان آخر: أنّ البدلي يحتاج - زائداً على كون المولى في مقام البيان - إلى إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض؛ حتّى يحكم العقل بالتخيير، بخلاف الإطلاق الشمولي، فإنّه لا يحتاج إلى أزيد من ورود النهي على الطبيعة الغير المقيّدة، فيسري الحكم إلى الأفراد قهراً، فمع الإطلاق الشمولي لا يحرز تساوي الأفراد، فيكون الشمولي حاكماً على البدلي(1)، انتهى ملخّصاً.

أقول: التحقيق أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي غير صحيح، لا في المقام ولا في باب المطلق والمقيّد، أمّا هناك فلأنّ اللفظ الموضوع للطبيعة أو لغيرها لا يمكن أن يدلّ ويحكي عن شيء آخر وراء الموضوع له، وخصوصيات الأفراد أو الحالات لا بدّ لإفادتها من دالّ آخر، ومقدّمات الحكمة لا تجعل غير الدالّ دالاًّ وغير الحاكي حاكياً.

فلا يستفاد من مقدّمات الحكمة إلاّ كون ما جعل موضوعاً تمام الموضوع للحكم، من غير دخالة قيد آخر فيه، وهذا ليس من قبيل دلالة اللفظ، ففي قوله: )أَحَلَّ الله الْبَيْعَ((2) بعد مقدّمات الحكمة يحكم العقلاء بأنّ الطبيعة من غير دخالة شيء فيها محكومة بالحلّية لا أفرادها؛ فإنّها ليست مفاد اللفظ، ولا مفاد الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

فالإطلاق الشمولي ممّا لا معنى محصّل له، كما أنّ الأمر كذلك في الإطلاق البدلي أيضاً؛ فإنّ قوله: «أعتق رقبة» لا يستفاد منه البدلية، لا من اللفظ

ص: 300


1- أجود التقريرات 1: 235 - 236.
2- البقرة (2): 275.

[ولا من التنوين]؛ فإنّ الرقبة وضعت لنفس الطبيعة، والتنوين إذا كان للتنكير يدلّ على تقيّدها بقيد الوحدة الغير المعيّنة لكن بالمعنى الحرفي، وذلك غير البدلية كما يأتي في العامّ والخاصّ توضيحه(1). وأمّا كونها تمام الموضوع فيستفاد من مقدّمات الحكمة، لا الوضع.

فما هو مفاد الإطلاق في المقامين شيء واحد هو كون ما جعل موضوعاً تمام الموضوع من غير تقييد، وأمّا الشمول والبدلية فغير مربوطين بالإطلاق رأساً، بل هما من تقسيمات العامّ، فدوران الأمر بين الإطلاق الشمولي والبدلي ممّا لا معنى محصّل له؛ حتّى يتنازع في ترجيح أحدهما.

وأمّا استفادة الشمول والبدلية من دليل لفظي فغير مربوطة بما نحن فيه، ومع التسليم فتقديم أحدهما على الآخر ممّا لا وجه له.

وأمّا دعوى أنّ تقييد الشمولي تصرّف في الدليل، دون البدلي؛ فإنّه على مفاده وإن صارت دائرته مضيّقة، فمن غريب الدعاوى؛ فإنّ التضييق تصرّف وتقييد، ومعه كيف لا يرفع اليد عن الدليل؟!

كدعوى أنّ البدلي يحتاج إلى أمر زائد عن مقدّمات الحكمة لإثبات تساوي الأفراد، بخلاف الشمولي، فإنّ نفس تعلّق النهي يكفي للسراية؛ ضرورة أنّ المستفاد من مقدّمات الحكمة هو عدم دخالة قيد في موضوع الحكم، وهذا معنى تساوي الأفراد.

وأمّا دعوى كفاية نفس تعلّق الحكم للسراية إلى الأفراد بخصوصياتها،

ص: 301


1- يأتي في الجزء الثاني: 207.

فممنوعة حتّى بعد جريان مقدّمات الحكمة؛ لأنّ التحقيق - كما يأتي في محلّه(1) أنّ الحكم في الإطلاق لا يسري إلى الأفراد؛ لا شمولياً ولا بدلياً.

هذا كلّه في غير المقام.

وأمّا فيه ممّا تعلّق البعث بالطبيعة كقوله: «أكرم عالماً»، فالإطلاق الشمولي في الهيئة والبدلي في المادّة - بعد تسليم صحّتهما في غير المقام - ممّا لا يعقل؛ فإنّ معنى الشمولي أن يكون البعث على جميع التقادير عرضاً، كما مثّلوا له بالعامّ(2)؛ بحيث يكون في كلّ تقدير إيجاب ووجوب، ومعه كيف يمكن أن يكون إطلاق المادّة بدلياً؟! فهل يمكن أن تتعلّق إرادات أو إيجابات في عرض واحد بفردٍ ما؟!

والقول بأنّ المراد من الشمولي هو كون البعث واحداً لكن من غير تقييد بقيد، فالمراد من وجوبه على كلّ تقدير أنّه لا يتعلّق الوجوب بتقدير خاصّ، رجوع عن الإطلاق الشمولي، فحينئذٍ لا فرق بين إطلاق المادّة والهيئة؛ فإنّ المادّة أيضاً

مطلقة بهذا المعنى.

والإنصاف: أنّ الإطلاق الشمولي والبدلي ممّا لا معنى محصّل لهما، وفيما نحن فيه غير معقولين، ومع معقوليتهما لا وجه لتقديم التقييد في أحدهما على الآخر.

الوجه الثاني: أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة،

ص: 302


1- يأتي في الجزء الثاني: 277 و288.
2- مطارح الأنظار 1: 252؛ كفاية الاُصول: 133.

بخلاف العكس، وكلّما دار الأمر بين التقييدين كذلك كان تقييد ما لا يوجب ذلك أولى.

أمّا الصغرى: فإنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ بيان لإطلاق المادّة؛ لأ نّها لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادّة؛ فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

وأمّا الكبرى: فلأنّ التقييد خلاف الأصل، ولا فرق بينه وبين ما يوجب بطلان محلّه في الأثر(1).

وفيه: - بعد معلومية أنّ قيود كلّ من الهيئة والمادّة لا ترجع إلى صاحبتها، وأنّ لكلٍّ مورداً خاصّاً ثبوتاً - أنّ تقييد كلّ منهما يوجب نحو تضييق لصاحبتها وإبطالاً لمحلّ إطلاقها؛ فإنّ إطلاق «أكرم زيداً» يقتضي الوجوب بلا قيد، كما يقتضي وجوب نفس طبيعة الإكرام من غير تقييد.

فإذا رجع قيد إلى الهيئة - نحو «إن جاء زيد فأكرمه» - تكون الهيئة مقيّدة دون المادّة؛ أي يجب على فرض مجيئه نفس طبيعة الإكرام بلا قيد، لكن يوجب ذلك تضييقاً قهرياً في الإكرام أيضاً، لا بمعنى التقييد، بل بمعنى إبطال محلّ الإطلاق.

وكذلك إذا ورد قيد على المادّة نحو «أكرمه إكراماً حال مجيئه»؛ فإنّ الهيئة مطلقة ولو من جهة تحقّق المجيء ولا تحقّقه كما في الواجب المعلّق، لكن مع ذلك لا تدعو إلى نفس الإكرام بلا قيد، ف «أكرم» بعث إلى نفس

ص: 303


1- مطارح الأنظار 1: 253.

الطبيعة، و«أكرم إكراماً حال مجيئه» بعث إليها مقيّدة لا مطلقة، فدائرة البعث في الفرض الأوّل أوسع منها في الثاني.

فقوله في بيان بقاء محلّ الإطلاق في طرف الهيئة - من إمكان الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه - لا يخلو من خلط؛ فإنّ الواجب المعلّق وإن كان مطلقاً من حيث تحقّق القيد وعدمه، لكن دائرة دعوته أضيق من المطلق من القيد، فبالنسبة إلى غير محلّ القيد يبطل محلّ إطلاقه وإن لم يصر مقيَّداً، فلا فرق بين تقييد الهيئة والمادّة؛ لا من جهة أنّ تقييد كلّ لا يوجب تقييد

الآخر، ولا من جهة أنّ تقييده يوجب إبطال محلّ إطلاقه، ففرق بين البعث قبل وجود القيد وبينه بالنسبة إلى المقيّد لا المطلق.

وبما ذكرنا يتّضح عدم تمامية ما في تقريرات بعض المحقّقين: من أنّ تقييد المادّة معلوم تفصيلاً؛ لأ نّها إمّا مقيّدة ذاتاً، أو تبعاً، وتقييد الهيئة مشكوك فيه

بدوياً، فيصحّ التمسّك بإطلاقها لإلغائه(1).

لأ نّه يرد عليه: - مضافاً إلى ما ذكرنا في بيان عدم الفرق بينهما - أنّ إبطال محلّ الإطلاق غير التقييد ولو تبعاً، فلا يكون تقييدها متيقّناً.

ثمّ إنّه - مع تسليم الصغرى - لمنع الكبرى أيضاً مجال؛ لعدم الدليل على الترجيح المذكور.

ص: 304


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 366.
الواجب النفسي والغيري

ومن تقسيمات الواجب: تقسيمه إلى النفسي والغيري، ولا يخفى: أنّ إرادة الفاعل والآمر لشيء وإن كانت لأغراض متصاعدة إلى أن تبلغ إلى ما هو المقصود بالذات، لكن تقسيم الواجب إلى أقسامه ليس باعتبار الإرادة أو الغرض؛ فإنّهما خارجان عن اعتبار الوجوب والواجب، بل تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري باعتبار تعلّق البعث والوجوب، فقد يتعلّق البعث بشيء لأجل التوصّل إلى مبعوث إليه فوقه وتوقّفه عليه، وقد يتعلّق به من غير أن يكون فوقه مبعوث إليه، فالأوّل غيري، والثاني نفسي.

ولا يرد على هذا ما قد يقال: من أنّ الواجبات مطلقاً [مطلوبة] لأجل

التوصّل إلى أغراض ولأجل حصول ملاكات، فتكون كلّها غيريات(1).

وذلك لأنّ التقسيم باعتبار الوجوب والبعث من غير دخالة الأغراض والملاكات فيه.

فإذا أمر المولى ببناء مسجد ولم يكن فوق ذلك أمر متوجّه إلى المأمور يكون ذلك نفسياً وإن كان لأجل غرض، وإذا أمر ذلك المأمور بإحضار الأحجار والأخشاب لأجل التوصّل إلى ذلك المبعوث إليه وتوقّفه عليها يكون غيرياً، لكن إذا صدر منه أوامر ابتداءً إلى أشخاص، فأمر شخصاً بشراء الأحجار، وآخر بإحضارها، وثالثاً بتحجيرها وتنقيشها، تكون تلك الأوامر نفسية، وإذا أمر

ص: 305


1- مطارح الأنظار 1: 330.

لأجل التوصّل إلى تلك المبعوث إليها يكون غيرياً، مع أنّ كلّها لأغراض، وهي ترجع إلى غرض أقصى فوقها، والأمر سهل.

مقتضى الأصل اللفظي عند الشكّ في الغيرية

ثمّ إذا شككنا في واجب بأ نّه نفسي أو غيري يحمل على النفسي لأجل الانصراف كما لا يبعد، لا بمعنى انصراف جامع إلى أحد أقسامه؛ فإنّ التحقيق أنّ الموضوع له في الهيئة خاصّ، وأنّها في النفسي والغيري لا تستعمل إلاّ استعمالاً إيجادياً لنفس البعث والإغراء، والنفسية والغيرية انتزاعيتان، لا من مقوّماته، بل لمّا كان البعث لأجل الغير نادراً، لا يعتني باحتماله العقلاء.

ويمكن أن يقال: إنّ البعث المتعلّق بشيء حجّة على العبد، ولا يجوز التقاعد عن طاعته باحتمال كونه مقدّمة لغيره إذا سقط أمره.

وأمّا ما قيل: من أنّ الإطلاق يرفع القيد الزائد(1) فغير تامّ؛ لأنّ كلاًّ من النفسية والغيرية متقوّم بقيد زائد على فرض كون البعث موضوعاً لجامعهما، مع أنّه خلاف التحقيق.

وقد يقال: إنّ الوجوب الغيري لمّا كان مترشّحاً عن وجوب الغير كان وجوبه مشروطاً بوجوب الغير، كما أنّ الغير يكون مشروطاً بالواجب الغيري، فيكون وجوب الغير من المقدّمات الوجوبية للواجب الغيري، ووجود الواجب الغيري من المقدّمات الوجودية لذلك الغير، كالصلاة والوضوء، فهي مشروطة به ووجوبه مشروط بوجوبها، فحينئذٍ يرجع الشكّ في كون وجوب غيرياً إلى

ص: 306


1- كفاية الاُصول: 136.

شكّين: أحدهما الشكّ في تقييد وجوبه بوجوب الغير، وثانيهما الشكّ في تقييد مادّة الغير به، فيرفع الشكّان بإطلاق المادّة والهيئة، بل إطلاق أحدهما كافٍ لرفعهما؛ لحجّية مثبتات الاُصول اللفظية(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ تقييد المادّة إنّما يكون في بعض الواجبات الغيرية كالشرائط، لا في جميعها كنصب السلّم بالنسبة إلى الصعود - أنّ الوجوب الغيري إذا كان مترشّحاً من النفسي - كما هو ظاهرهم(2) - يكون معلوله، ولا يمكن أن يكون المعلول متقيّداً ومشروطاً بعلّته؛ بحيث يكون المعلول هو المشروط بما هو كذلك، فإنّ الوجوب الغيري على فرض المعلولية يكون بحقيقته وهويّته معلولاً، واشتراط الشيء فرع وجوده؛ ضرورة أنّ المعدوم لا يمكن أن يشترط بشيء، فلا بدّ وأن يكون الواجب الغيري متحقّقاً قبل تحقّقه حتّى يكون المشروط بما هو مشروط معلولاً.

وبالجملة: تقييد المعلول بوجود علّته مستلزم لوجوده قبل وجودها أو اشتراط المعدوم في حال عدمه، وأمّا المعلولية وتوقّف وجود شيء على وجود شيء آخر فغير اشتراطه به، واستناد المعلول إلى العلّة وضيقه الذاتي غير التقيّد والاشتراط، فالتمسّك بإطلاق الهيئة لرفع الشكّ ممّا لا مجال له.

هذا حال الاُصول اللفظية.

ص: 307


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 220 - 222.
2- كفاية الاُصول: 130؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 220؛ نهاية الأفكار 1: 303.
مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في الغيرية
اشارة

أمّا الأصل العملي، فقد قال بعض الأعاظم فيه: إنّ الشكّ في الوجوب الغيري على أقسام:

الأوّل: إذا علم بوجوب الغير والغيري من دون اشتراط وجوب الغير بشرط غير حاصل، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب الوضوء والصلاة، وشكّ في وجوب الوضوء أنّه غيري أو نفسي، ففي هذا القسم يرجع الشكّ إلى تقييد الصلاة بالوضوء، فيكون مجرى البراءة؛ لكونه من صغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيين، وأمّا الوضوء فيجب على أيّ حال نفسياً كان أو غيرياً(1).

وفيه: أنّ إجراء البراءة في الصلاة غير جائز بعد العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسياً أو وجوب الصلاة المتقيّدة به، والعلم التفصيلي بوجوب الوضوء الأعمّ من النفسي والغيري لا يوجب انحلاله إلاّ على وجه محال، كما اعترف به القائل في الأقلّ والأكثر، فراجع كلامه في بابهما(2).

ثمّ قال: القسم الثاني: ما إذا علم بوجوب الغير والغيري، لكن كان وجوب الغير مشروطاً بشرط غير حاصل، كالوضوء قبل الوقت بناءً على اشتراط الصلاة بالوقت، ففي هذا القسم لا مانع من جريان البراءة؛ لعدم العلم بالوجوب الفعلي قبل الوقت(3).

ص: 308


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 222 - 223.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 159 - 162.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 223.

وفيه: أنّ ذلك يرجع إلى العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفساً، أو وجوب الصلاة المتقيّدة به بعد الوقت، والعلم الإجمالي بالواجب المشروط إذا علم تحقّق شرطه أو الواجب المطلق في الحال منجّز عقلاً، فيجب عليه الوضوء في الحال، والصلاة مع الوضوء بعد حضور الوقت.

نعم، لو قلنا بعدم منجّزية العلم الإجمالي المذكور كان إجراء البراءة في الطرفين بلا مانع، لكنّه خلاف التحقيق، وقد اعترف بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات ولو كان للزمان دخل خطاباً وملاكاً، فراجع كلامه في الاشتغال(1).

ثمّ قال: القسم الثالث: ما إذا علم بوجوب ما شكّ في غيريته ولكن شكّ في وجوب الغير، كما إذا شكّ في وجوب الصلاة في المثال المتقدّم وعلم بوجوب الوضوء، ولكن شكّ في كونه غيرياً حتّى لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضى البراءة، أو نفسياً حتّى يجب، ففي هذا القسم يجب الوضوء دون الصلاة؛ لأ نّه من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيين؛ حيث إنّ العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشكّ في وجوبها يقتضي وجوب امتثال ما علم، ولا يجوز إجراء البراءة فيه، مع أنّه يحتمل كون ما عدا السورة واجباً غيرياً، وكون المقام من قبيل المقدّمات الخارجية وهناك من الداخلية لا يوجب فارقاً(2).

وفيه: أنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء وتردّده بين الوجوب النفسي والغيري، لا يمكن إلاّ مع العلم الإجمالي بوجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء أو

ص: 309


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 110 - 112.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 223 - 224.

وجوب الوضوء نفسياً، وهذا العلم الإجمالي لاينحلّ إلاّ بوجه محال، كما عرفت.

وتصوّر الشكّ البدوي للصلاة مع العلم التفصيلي الكذائي بوجوب الوضوء جمع بين المتنافيين، والعجب منه حيث قال: «وعلم بوجوب الوضوء، ولكن شكّ في كونه غيرياً حتّى لا يجب...» كيف جمع بين العلم بالوجوب والشكّ فيه؟!

ثمّ إنّ الفرق بين المقام والأقلّ والأكثر في الأجزاء واضح، اعترف به في باب الأقلّ والأكثر(1)، وأوضحنا سبيله؛ فإنّ المانع من الانحلال هو الدوران بين النفسية والغيرية، وفي الأجزاء ليس الدوران بينهما، والتفصيل موكول إلى محلّه(2).

بقي في المقام تنبيهات:

التنبيه الأوّل في ترتّب الثواب والعقاب على التكاليف الغيرية

اختلفت الأنظار في كيفية الثواب والعقاب الاُخرويين:

فذهب بعض إلى أنّها من قبيل التمثّل الملكوتي عملاً وخلقاً واعتقاداً، وأنّ النفس بواسطة الأعمال الحسنة تستعدّ لإعطاء كمال تقتدر به على تمثيل الصور الغيبية البهيّة، وإيجاد الحور والقصور، وكذا في جانب الأعمال السيّئة، وكذا الحال في الأخلاق والعقائد على ما فصّلوا في كتبهم(3).

ص: 310


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 157.
2- أنوار الهداية 2: 263.
3- الحكمة المتعالية 7: 82، و9: 175 - 179 و290 - 296.

وذهب آخر إلى أنّهما بحسب الجعل(1)، كالجعل في الجعالة، وكالجزائيات العرفية في الحكومات السياسية، كباب الحدود، كما هو ظاهر الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: )مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا((2) إلى غير ذلك.

وذهب آخر إلى أنّهما بالاستحقاق وجزاء العمل(3)، بمعنى أنّه لو أمر الله تعالى بشيء، فعمله أحد وتركه الآخر، يكون المطيع مستحقّاً من الله تعالى أجر عمله، ولا يجوز له تعالى التخلّف عنه عقلاً، والعاصي مستحقّاً للعقوبة، لكن يجوز له العفو.

ثمّ إنّه بناءً على المسلك الأوّل، يكون الاستحقاق واللااستحقاق بمعنى غير ما هو المعروف لدى الناس، وأمّا بناءً على جعلية الثواب فلا إشكال في قبح تخلّفه بعد الجعل؛ للزومِ الكذب لو أخبر عنه مع علمه بالتخلّف، وتخلّفِ الوعد والعهد مع الإنشاء. وقبحهما وامتناعهما عليه تعالى واضحان، ولا كلام فيهما.

وإنّما الكلام في أنّ إطاعة أوامره تعالى هل توجب الاستحقاق، أو لا، ويكون الإعطاء على سبيل التفضّل؟

والحقّ: أنّ من عرف مقامه تعالى ونسبته إلى الخلق ونسبة الخلق إليه، وتأمّل في قوى العبد وأعضائه ونسبتهما إلى بارئهما جلّ شأنه، لا يتفوّه

ص: 311


1- تشريح الاُصول: 111 / السطر 13 و: 114 / السطر 10.
2- الأنعام (6): 160.
3- كشف المراد: 407 - 408؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 411 - 413.

بأنّ صَرف بعض نعمه في طريق طاعته تعالى موجب للاستحقاق، والأولى إيكال هذه المباحث إلى أهلها ومحلّها.

ثمّ إنّه بعد البناء على الاستحقاق في الواجبات النفسية، هل يكون الواجب الغيري مثلها فيه أم لا؟

وأمّا بناءً على المسلك الأوّل - من كون الثواب والعقاب من قبيل اللوازم والتمثّلات الملكوتية - فالعلم بخصوصياتها وتناسب الأفعال وصورها الغيبية لا يمكن لأمثالنا.

نعم، لا شبهة في أنّ الإتيان بالمقدّمات لأجل الله تعالى موجب لصفاء النفس وتحكيم ملكة الانقياد والطاعة، ولها - بحسب مراتب النيّات وخلوصها - تأثيرات في العوالم الغيبية.

وبناءً على مسلك الجعل: فالثواب تابع للجعل، فقد يجعل على ذي المقدّمة، وقد يجعل عليها أيضاً، كما في زيارة مولانا أبي عبدالله الحسين علیه السلام حيث ورد الثواب على كلّ خطوة لمن زاره ماشياً(1). وهذا المسلك غير بعيد في الجملة، ومعه لا إشكال في الثواب الوارد على المقدّمات، والالتزام بكونها عبادة بنفسها بعيد عن الصواب.

وأمّا بناءً على المسلك الأخير: فالتحقيق عدم الاستحقاق على الغيريات؛ لأنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة، ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيرية؛ لأ نّها

ص: 312


1- راجع كامل الزيارات: 252، الباب 49؛ وسائل الشيعة 14: 439، كتاب الحجّ، أبواب المزار وما يناسبه، الباب 41.

لا يمكن أن تبعث نحو متعلّقاتها؛ فإنّ المكلّف بذي المقدّمة: إمّا أن يكون عازماً على إتيانه ويكون أمره داعياً إليه، أو لا:

فعلى الأوّل: تتعلّق - لا محالة - إرادته بما يراه مقدّمة. وعلى الثاني: لا يمكن أن تتعلّق إرادته بها من حيث مقدّميتها. فلا يمكن أن يكون الأمر الغيري بما هو كذلك داعياً وباعثاً مطلقاً، وما هو كذلك لا يعقل استحقاق الثواب عليه.

وأمّا استحقاق الثواب عليها باعتبار الواجب النفسي(1) فهو أيضاً غير صحيح؛ فإنّ الآتي بالمقدّمات لأجل الإتيان بالواجب النفسي، لو لم يأت به لعذر أو لغيره لم يأت بمتعلّق الأمر النفسي، ومعه لا يعقل الاستحقاق بالمعنى الذي هو مورد البحث؛ أي كون ترك الثواب ظلماً وقبيحاً؛ لأنّ استحقاق من لم يأت به: إمّا للأمر الغيري فقد عرفت حاله، وإمّا للأمر النفسي فمع عدم الإتيان بمتعلّقه لا وجه للاستحقاق.

فلو أمر شخص أحداً بردّ ضالّته، فتحمّل المشقّة الكثيرة ولم يوفّق إلى ردّها ورجع صفر الكفّ، فطالب بالأجر، فهل تراه محقّاً أو مبطلاً؟ لا أظنّك - بعد تشخيص محلّ النزاع - أن تشكّ في عدم الاستحقاق.

نعم، إذا كان لذي المقدّمة مقدّمات كثيرة وتحصيلها مستلزم للمشقّات، يكون أجر نفس العمل بحسب المقدّمات مختلفاً، لا بمعنى التقسيط عليها، بل يكون التفاوت بلحاظها، فالآتي بالحجّ من البلاد النائية بأمر شخص يكون اُجرته أكثر [من اُجرة الآتي بالحجّ] من غيرها، ولو أتى بجميع المقدّمات ولم يأت بالحجّ

ص: 313


1- لمحات الاُصول: 122 - 123.

فليس له استحقاق للاُجرة؛ لعدم الإتيان بمتعلّق الأمر، فكذا الحال في أوامره تعالى بناءً على الاستحقاق.

وظنّي أنّهم خلطوا بين الاستحقاق وممدوحية العبد؛ بمعنى إدراك العقل صفاء نفسه، وكونه بصدد إطاعة أمره، وكونه ذا ملكة فاضلة وسريرة حسنة؛ ضرورة أنّ الآتي بالمقدّمات مع عدم توفيقه لإتيان ذي المقدّمة ممدوح، لا مستحقّ للأجر بالمعنى المتقدّم.

وأمّا ما ربّما يقال: من أنّ الآتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة مشتغل بامتثال الواجب النفسي ومستحقّ للمدح والثواب، وهما من رشحات الثواب الذي للواجب النفسي(1).

ففيه: أنّ الاشتغال بالواجب النفسي لا يكون إلاّ بالشروع فيه نفسه لا مقدّماته، ولو اُطلق عليه لا يكون إلاّ من باب التوسّع، وهو لا يوجب شيئاً.

مع أنّ مجرّد الاشتغال بالنفسي أيضاً لا يوجب الاستحقاق، فالاشتغال بالصلاة لا يوجب استحقاق الأجر عند الله، ولا الاُجرة على الآمر أو المستأجر، وإنّما الأجر والاُجرة على الإتيان بمتعلّق الأمر، ولا يكون ذلك إلاّ بإتمام الواجب، والأمر لا يقسّط على أجزاء المتعلّق كما مرّ في الصحيح والأعمّ(2).

وأمّا رشح ثواب الواجب النفسي على المقدّمات، فممّا لا يرجع إلى محصّل ومعنىً معقول، مع أنّه على فرض صحّته لازمه عدم كثرة الثواب مع كثرة

ص: 314


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 375 - 376.
2- تقدّم في الصفحة 111.

المقدّمات؛ لأنّ ثواب الواجب النفسي على الفرض مقدار محدود يترشّح منه إلى المقدّمات، فكلّما كثرت المقدّمات يقسّط ذلك الثواب عليها، فيكون الثواب مقداراً محدوداً لا يتجاوزه؛ قلّت المقدّمات أو كثرت.

إلاّ أن يقال: إنّ كثرة المقدّمات توجب كثرة الثواب بلحاظها على ذي المقدّمة، ثمّ يترشّح منه إليها، وهذا خيال في خيال.

التنبيه الثاني في الإشكالات الواردة على الطهارات الثلاث

قد استشكل في الطهارات الثلاث التي جعلت مقدّمة للعبادة بوجوه:

الأوّل: أنّه لا إشكال في ترتّب الثواب عليها، مع أنّ الواجب الغيري لا يترتّب عليه ثواب(1).

ويمكن [دفعه]: بأنّ الثواب جعلي ليس باستحقاقي، وهو تابع للجعل، وقد يجعل على المقدّمات، لكن سيأتي [دفعه] بوجه آخر.

الثاني: لزوم الدور؛ فإنّ الطهارات بما هي عبادات جعلت مقدّمة، وعباديتها تتوقّف على الأمر الغيري، ولا يترشّح الوجوب الغيري إلاّ إلى ما هو مقدّمة، فكلّ من الأمر الغيري والعبادية يتوقّف على صاحبه(2).

ص: 315


1- اُنظر مطارح الأنظار 1: 347؛ كفاية الاُصول: 139.
2- الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 54؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 227.

وقد يقرّر الدور: بأنّ الأمر الغيري لا يدعو إلاّ إلى ما هو مقدّمة، والمقدّمة هاهنا ما يؤتى بها بداعوية الأمر الغيري؛ فإنّ نفس الأفعال الخاصّة لم تكن مقدّمة بأيّ نحو اتّفقت، فيلزم أن يكون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه(1).

ويمكن [دفعه]: بأنّ ذات الأفعال بما هي لمّا كانت مقدّمة تكون مأموراً بها بناءً على الملازمة، وقيدها - أي إتيانها بداعوية أمرها - أيضاً مأمور به بملاك المقدّمية.

مع أنّ إشكال الدور مطلقاً قد دفع في محلّه(2)، والأمر هاهنا أهون؛ لما عرفت من أنّ ذوات الأفعال مأمور بها لأجل المقدّمية، لكن هذا الجواب إلزامي، وإلاّ فقد عرفت أنّ الأمر الغيري لا يصلح للداعوية، والداعي لإتيان المقدّمة بما هي كذلك لا يكون إلاّ الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة، وسيأتي الجواب عن جميع الإشكالات إن شاء الله.

والثالث: - وهو العمدة - أنّ الأوامر الغيرية توصّلية لا يعتبر في سقوطها قصد التعبّد، مع أنّ الطهارات معتبر فيها قصده بلا إشكال(3).

والتحقيق: أنّ الطهارات الثلاث بما هي عبادات جعلت مقدّمة للصلاة وغيرها، وعباديتها لا تتوقّف على الأمر الغيري حتّى ترد الإشكالات المتقدّمة، بل التحقيق: أنّ المعتبر في صحّة العبادة ليس الأمر الفعلي النفسي أيضاً، بل مناط الصحّة صلوح الشيء للتعبّد به، وهذا ممّا لا يمكن الاطّلاع عليه غالباً إلاّ

ص: 316


1- لمحات الاُصول: 123.
2- تقدّم في الصفحة 202 وما بعدها.
3- اُنظر مطارح الأنظار 1: 349؛ كفاية الاُصول: 139.

بوحي الله تعالى، وبعد ما علم صلوح شيء للتعبّد به واُتي به بقصد التقرّب إليه تعالى يقع صحيحاً، قصد الأمر أو لا، بل لا يبعد دعوى ارتكاز المتشرّعة في إتيان الواجبات التعبّدية بقصد التقرّب إليه تعالى مع الغفلة عن الأمر بها، تأمّل. فلو فرض سقوط الأمر بواسطة عروض شيء، فأتى به متقرّباً، تكون العبادة صحيحة.

فإن قلت: إنّ ذلك لا يتمّ في التيمّم؛ فإنّه ليس عبادة نفسية، والاستشهاد لعباديته بظواهر بعض الأخبار - على فرض التسليم - ليس في محلّه؛ لإعراض الأصحاب عنها(1).

قلت: يمكن أن يقال: إنّه عبادة في ظرف خاصّ، وهو حال كونه مأتيّاً به بقصد التوصّل إلى الغايات.

ويمكن أن يقال: إنّه صالح ذاتاً للعبادية، لكن في غير ذلك الظرف ينطبق عليه عنوان مانع عن عباديته الفعلية.

فإن قلت: إذا أتى المكلّف بالطهارات بداعوية الأمر الغيري ولأجل التوصّل إلى الغايات مع الغفلة عن الأوامر النفسية أو عباديتها في نفسها تقع صحيحة، بل في ارتكاز المتشرّعة إتيانها لأجل الغير لا لأجل رجحانها النفسي.

قلت: كلاّ؛ فإنّه لو أتى بها لصرف التوصّل إلى الغايات من غير قصد التعبّد والتقرّب بها تقع باطلة قطعاً، وارتكاز المتشرّعة على خلاف ما ذكرت، بل كلّ متشرّع يرى من نفسه أنّ إتيانه للستر وغسل الثوب لأجل التوصّل إلى الصلاة مخالف لإتيانه بالطهارات لأجل التوصّل إليها، فإنّ فيها يقصد التعبّد بها ويجعل

ص: 317


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 380.

ما هو عبادة وسيلةً للتوصّل إلى الغايات، فيأتي بالوضوء المتقرّب به إليه تعالى للصلاة، وإن كان غافلاً عن أمره النفسي، لكنّه غير غافل عن التعبّد والتقرّب به، ولا يحتاج في عبادية الشيء ووقوعه صحيحاً زائداً عن قصد التقرّب بما هو صالح للتعبّد به إلى شيء آخر، فالأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة يدعو إلى الوضوء بقصد التقرّب؛ فإنّه مقدّمة للصلاة، فلا محالة يأتي المكلّف به كذلك.

وبما ذكر ينحلّ جميع الشبهات المتقدّمة؛ لأنّ ترتّب الثواب لأجل إتيانها على وجه العبودية، وشبهة الدور إنّما ترد لو قلنا بأنّ عباديتها موقوفة على الأمر الغيري.

ثمّ إنّ هاهنا أجوبة غير تامّة في نفسها أو غير دافعة لجميع الشبهات، لا داعي لذكرها وما فيها بعد تحقيق الحقّ.

وما ذكرنا يقرب ممّا ذكره المحقّق الخراساني(1)، وإن اختلف معه من بعض الجهات، ويسلم عن بعض المناقشات الواردة عليه.

التنبيه الثالث في منشأ عبادية الطهارات

قد ظهر ممّا مرّ: أنّ الطهارات بما هي عبادات جعلت مقدّمة للصلاة، وأمّا صيرورتها عبادة بواسطة الأمر الغيري أو النفسي المتعلّق بذي المقدّمة فغير صحيحة:

ص: 318


1- كفاية الاُصول: 139 - 140.

أمّا الغيري: فلأ نّه - بعد تسليم إمكان داعويته، والغضّ عمّا تقدّم من الإشكال فيه - أنّ دعوته ليست إلاّ إلى إتيان المقدّمة للتوصّل إلى ذي المقدّمة، وليست له نفسية وصلاحية للتقرّب، ولم تكن المقدّمة محبوبة للمولى، بل لو أمكنه أن يأمر بإتيان ذي المقدّمة مع عدم الإتيان بمقدّمته لأمر أحياناً، فالأمر

بها - على فرضه - من جهة اللابدّية، ومثل ذلك لا يصلح للمقرّبية، ولهذا لو أتى بالمقدّمة بناءً على وجوب المقدّمة المطلقة بانياً على عدم إتيان ذي المقدّمة لم يصر مقرّباً.

وأمّا بواسطة الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة: فلأنّ الأمر النفسي لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، ولا يعقل أن يدعو إلى المقدّمات؛ لعدم تعلّقه بها، فلا يكون الإتيان بها إطاعة له، بل مقدّمة لها. وما قيل: من أنّه نحو شروع في الواجب النفسي قد تقدّم ما فيه(1).

فالإتيان بالمقدّمة: إمّا يكون بحكم العقل، وإمّا بداعوية الأمر الغيري على القول به، والظاهر وقوع الخلط بين حكم العقل وداعوية الأمر.

وما يقال: إنّه يكفي في عبادية الشيء أن يؤتى به لأجل المولى ولو بمثل هذه الداعوية(2).

مقدوح فيه؛ فإنّ العبادية فرع صلوح الشيء للتقرّب، والمقدّمة لا تصلح لذلك ولو قلنا بتعلّق الأمر الغيري بها، مع أنّه ممنوع أيضاً.

ثمّ إنّ الوضوء قبل الوقت بداعوية أمره النفسي صحيح يجوز الدخول معه في

ص: 319


1- تقدّم في الصفحة 314.
2- نهاية الأفكار 1: 326 و328.

الصلاة بعد حضور الوقت، كما أنّه لو لم يكن للمكلّف داعٍ إلى إتيان الوضوء الاستحبابي قبل الوقت، لكن لمّا رأى أنّ الصلاة في الوقت مشروطة به، فصار ذلك داعياً إلى إتيانه لله، يقع صحيحاً أيضاً.

وأمّا بعد الوقت: فإن أتى به بداعي أمره الغيري لكن متقرّباً به إلى الله، يقع صحيحاً؛ لصلوح الموضوع للتقرّب، وهو كافٍ في الصحّة.

وأمّا بداعي أمره الاستحبابي فصحّته فرع بقاء أمره، وهو فرع أن يكون الوضوء بما هو مأمور به بالأمر النفسي مقدّمةً، ولم نقل بانحلاله إلى الذات والقيد، وتكون الذات أيضاً متعلّقة للأمر الغيري، وإلاّ فلا يبقى الأمر النفسي مع الغيري، وسيأتي التحقيق في متعلّق الأمر الغيري حتّى يتّضح عدم المنافاة بينه وبين الأمر الاستحبابي؛ لتعدّد العنوان.

وأمّا الإتيان به لأجل التوصّل إلى الغير من دون قصد التقرّب فلا يوجب الصحّة كما تقدّم.

ص: 320

الأمر الخامس ما هو الواجب في باب المقدّمة ؟

اشارة

بناءً على الملازمة هل الواجب هو مطلق المقدّمة، أو المقدّمة التي اُريد الإتيان بصاحبها، أو التي قصد بها التوصّل إليه، أو المقدّمة الموصلة، أو التي في حال الإيصال؟ أقوال:

حول ما نسب إلى صاحب المعالم في المقام

نسب(1) إلى صاحب «المعالم» أنّه قال: باشتراط وجوبها بإرادة ذي المقدّمة. ورُدّ بأنّ المقدّمة تابعة لصاحبها في الإطلاق والاشتراط، فيلزم أن يشترط وجوب الشيء بإرادة وجوده، وهو واضح البطلان(2).

لكن عبارة «المعالم» خالية عن ذكر الاشتراط، بل نصّ في أنّ الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها(3)، وهو وإن كان غير صحيح، لكن لم يكن بذلك الوضوح من الفساد.

نعم يرد عليه: أنّ حال إرادة ذي المقدّمة غير دخيلة في ملاك وجوبها، مع أنّه حال إرادته لا معنى لإيجاب مقدّمته؛ لأ نّه يريدها لا محالة.

ص: 321


1- مطارح الأنظار 1: 353؛ كفاية الاُصول: 142.
2- مطارح الأنظار 1: 353.
3- معالم الدين: 71.
حول ما نسب إلى الشيخ الأعظم في المقام

ونسب(1) إلى الشيخ الأعظم: أنّ الواجب هو المقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة. وهذه النسبة غير صحيحة جدّاً؛ فإنّ كلامه من أوّله إلى آخره يأبى عن ذلك(2)، بل يستشمّ من أوّل كلامه في ردّ توجيه كلام صاحب «المعالم» أنّه أنكر قيد قصد التوصّل، بل مطلق القيود، وظاهر كلامه في خلال الردّ على مقالة صاحب «الفصول»(3)، وجوب ذات المقدّمة بما هي مقدّمة؛ حيث قال:

«إنّ الحاكم بوجوب المقدّمة - على القول به - هو العقل، وهو القاضي فيما وقع من الاختلافات، ونحن بعد ما استقصينا التأمّل لا نرى للحكم بوجوب المقدّمة وجهاً إلاّ من حيث إنّ عدمها يوجب عدم المطلوب، وهذه الحيثية هي التي يشترك فيها جميع المقدّمات... إلى أن قال: فملاك الطلب الغيري في المقدّمة هذه الحيثية، وهي ممّا يكفي في انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة»(4).

ثمّ إنّ كلام المحقّق المقرّر وإن كان مشوّشاً، لكن لا يحتمل فيه ما احتمله بعض المحقّقين من الاحتمالات الكثيرة(5).

بل محتمل كلامه أمران بعد الفراغ عن أنّ كلامه ليس في نفس الملازمة بين

ص: 322


1- كفاية الاُصول: 143.
2- مطارح الأنظار 1: 353.
3- الفصول الغروية: 81 / السطر 4؛ و: 86 / السطر 12.
4- مطارح الأنظار 1: 368.
5- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 385.

وجوب ذي المقدّمة وبين وجوبها، بل كلامه في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب في الخارج:

أحدهما: أنّ الامتثال بالواجب لا يحصل إلاّ بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، كما صرّح به في خلال كلامه من تخصيص النزاع بما اُريد الامتثال بالمقدّمة.

وقد برهن على ذلك: بأنّ الامتثال لا يمكن إلاّ أن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل هو الأمر، ولمّا كان الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه فلا بدّ في الامتثال من قصد عنوان المأمور به، والمأمور به هاهنا هو المقدّمة بالحيثية التقييدية؛ لأنّ الكاشف عن وجوب المقدّمة هو العقل بالملاك العقلي، والعقل يحكم بوجوب المقدّمة من حيث هي مقدّمة، فلا بدّ من كشف الحكم الشرعي بذلك الملاك على الحيثية التقييدية، ولمّا كان القصد بهذه الحيثية لا ينفكّ عن القصد بالتوصّل إلى ذي المقدّمة - للزوم التفكيك للتناقض - فلا بدّ في امتثال أمر المقدّمة من قصد التوصّل إلى صاحبها.

هذا، ولا يخفى أنّه لا يرد على هذا الاحتمال شيء ممّا وقع في كلام بعض المحقّقين:

تارةً: بإنكار رجوع الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية إلى التقييدية(1).

وذلك لأنّ إنكاره مستلزم لإسراء حكم العقل من موضوعه إلى غيره بلا ملاك؛ فإنّ الظلم مثلاً إذا كان قبيحاً عقلاً، فوقع عمل في الخارج معنوناً بعنوان الظلم وعناوين اُخر، فحكم العقل بقبحه إذا لم يرجع إلى حيثية الظلم،

ص: 323


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 387.

فإمّا أن يرجع إلى حيثيات اُخر، وهو كما ترى، أو إلى الذات بعلّية الظلم بحيث تكون الذات قبيحة، لا الظلم وإن كان هو علّة لقبحها، فهو أيضاً فاسد وخلف؛ فإنّ الذات تكون قبيحة بالعرض، فلا بدّ وأن يكون الظلم قبيحاً بالذات، فيصير الظلم موضوعاً بالحقيقة للقبح، وهذا معنى رجوع الحيثيات التعليلية إلى التقييدية.

واُخرى: بإنكار رجوعها إليها فيما كان الوجوب بحكم الشرع ولم يكن للعقل دخل فيه إلاّ بنحو الكاشفية(1).

وفيه: أنّ العقل إذا كشف عن حكم بملاكه العقلي لا يمكن أن يكشف أوسع أو أضيق من ملاكه، ولا في موضوع آخر غير حيثية الملاك، وهذا واضح جدّاً.

والاحتمال الثاني - الذي يشعر به صدر كلامه ويظهر من ذيله -: أنّ وقوع المقدّمة على صفة الوجوب مطلقاً يتوقّف على قصد التوصّل، لكن لا تظهر الثمرة في غير العباديات إلاّ في المقدّمات المحرّمة، فمع عدم قصد التوصّل يبقى الفعل على حكمه السابق، فيحرم الدخول في ملك الغير مع عدم قصد التوصّل، وصريح كلامه أنّه لا يختصّ النزاع بالمقدّمة المحرّمة، لكن تظهر الثمرة في غير العباديات فيها(2).

وكيف كان يرد عليه: أنّ وقوع الفعل على صفة الوجوب في التوصّليات لا يتوقّف على القصد، وإن كان الوقوع على صفة الامتثال موقوفاً عليه، فإذا كان غسل الثوب واجباً متعلّقاً لإرادة المولى، فغسله بلا توجّه إلى وجوبه وإن لم يعدّ

ص: 324


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 387.
2- مطارح الأنظار 1: 353.

امتثالاً لأمره، لكن يقع في الخارج مصداق ما هو واجب ومتعلّق إرادته، ولا نعني بالوقوع على صفة الوجوب إلاّ ذلك.

ثمّ إنّ قيدية قصد التوصّل في وجوب المقدّمة ممنوعة؛ أمّا كونه شرطاً للوجوب فواضح، وأمّا كونه قيداً للواجب؛ بحيث يكون قصد التوصّل أيضاً متعلّقاً للبعث، ويكون الأمر داعياً إلى المقدّمة بقصد التوصّل إلى صاحبها، فهو وإن لم يكن محالاً؛ لأنّ القصد قابل لتعلّق البعث به كقيديته في العباديات، لكن قصد المكلّف غير دخيل في ملاك المقدّمية قطعاً، فتعلّق الوجوب به يكون بلا ملاك، وهو ممتنع.

حول وجوب المقدّمة الموصلة (مقالة صاحب الفصول)

وقد ذهب إلى أنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة، وصرّح بأنّ الإيصال قيد للواجب، لا شرط في الوجوب(1).

وقد أوردوا عليه باُمور:

إشكالات المقدّمة الموصلة وأجوبتها

منها: لزوم الدور؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على وجود المقدّمة، وبناءً على قيدية الإيصال وجود المقدّمة يصير متوقّفاً على وجود صاحبها(2).

وفيه: أنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على ذات المقدّمة لا بقيد الإيصال،

ص: 325


1- الفصول الغروية: 86 / السطر 12.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 290.

واتّصافها بالموصلية يتوقّف على وجود ذي المقدّمة، فالموقوف غير الموقوف عليه.

وبعبارة اُخرى: أنّ صاحب «الفصول» يدّعي أنّ متعلّق الوجوب أخصّ من الموقوف عليه، فلا تكون المقدّمة بقيد الإيصال موقوفاً عليها، فلا يرد الدور.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في تقرير شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - للدور: بأنّ مناط وجوب المقدّمة ليس إلاّ التوقّف، فحينئذٍ يكون اعتبار قيد الإيصال لملاكه، فيلزم توقّف كلّ من المقدّمة وذيها على الآخر(1).

والجواب: أنّ مناط الوجوب ليس التوقّف على مسلكه، بل التوصّل إلى ذي المقدّمة، فمتعلّقه أخصّ من التوقّف، بل دعوى بداهة كون المناط هو التوقّف مساوقة لدعوى بداهة وجوب المقدّمة المطلقة، وهي تنافي ما ذهب إليه من وجوبها حال الإيصال.

وأمّا تقرير الدور: بأ نّه يلزم بناءً عليه أن يكون الواجب النفسي مقدّمة للمقدّمة واجباً بوجوب ناشئ من وجوبها، وهو يستلزم الدور؛ لأنّ وجوب المقدّمة ناشئ من وجوب ذي المقدّمة، فلو ترشّح وجوب ذي المقدّمة من وجوبها لزم الدور(2).

ففيه ما لا يخفى؛ لأنّ وجوب ذي المقدّمة الناشئ منه وجوب المقدّمة، لم ينشأ من وجوب المقدّمة حتّى يدور.

ومنها: لزوم التسلسل؛ بأن يقال: إنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلى ذات وقيد،

ص: 326


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 116 - 118.
2- أجود التقريرات 1: 344 - 345.

وفي كلّ منهما مناط الوجوب للتوقّف، فعلى وجوب المقدّمة الموصلة يجب أن تكون الذات بقيد الإيصال واجبة، وقيد الإيصال أيضاً بقيد الإيصال واجباً، فيتقيّد كلّ منهما بإيصال آخر، وهكذا.

وفيه: أنّ الواجب هو المقدّمة بقيد هذا الإيصال لا إيصال آخر، ولا معنى لفرض إيصال زائد على الإيصال، بل لا يتعقّل إيصال آخر؛ لأ نّه حقيقة لا يمكن تكرّرها، فالواجب هو المقدّمة الموصلة بهذا الإيصال، وأمّا الإيصال فلا يكون فيه ملاك المقدّمية حتّى يتقيّد بإيصال آخر، بل لا يمكن أن يكون للإيصال إيصال.

وقد يقرّر التسلسل: بأنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلى ذات وقيد، فتكون الذات مقدّمة لحصول المقدّمة المقيّدة، فلا بدّ من اعتبار قيد الإيصال فيها، وهكذا(1).

وفيه: أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة لا إلى المقدّمة، فالذات لم تكن واجبة بقيد الإيصال إلى المقيّد، بل واجبة بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، وهو حاصل بلا قيد زائد.

ومنها: لزوم كون ذي المقدّمة مقدّمة لمقدّمته ، فيتعلّق به الوجوب الغيري، بل وجوبات غيرية بعدد المقدّمات، بل يلزم أن يجب ذو المقدّمة الموصل إلى نفسه ولو بوسط، وهو أفحش(2).

وجوابه: أنّ القائل بهذه المقالة يقول: إنّ ما يتعلّق به الوجوب الغيري هو المقدّمة مع قيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، فلا بدّ فيه من جهتين: الاُولى كونه

ص: 327


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 290.
2- لمحات الاُصول: 129.

موقوفاً عليه، والثانية كونه موصلاً إلى ذي المقدّمة، ونفس ذي المقدّمة لا يكون موقوفاً على نفسه، ولا يكون موصلاً إلى نفسه، فلا يتعلّق به الوجوب الغيري، وتوقّف وصف المقدّمة على وجوده لا يوجب تعلّق الوجوب به.

ومنها: أنّ الإيصال ليس أثر كلّ مقدّمة، فلا بدّ من الالتزام إمّا باختصاص الوجوب بالأسباب التوليدية، أو الالتزام بوجوب الإرادة، وهو التزام بالتسلسل(1).

والجواب: أنّ المراد بالإيصال أعمّ من الإيصال مع الواسطة، فالقدم الأوّل بالنسبة إلى الحجّ قد يكون موصلاً - ولو مع الوسائط - إليه؛ أي يتعقّبه الحجّ، وقد لا يكون كذلك، والواجب هو الأوّل.

وأمّا الإشكال بالإرادة، ففيه:

أوّلاً: أنّ الإرادة قابلة لتعلّق الوجوب بها كما في الواجب التعبّدي.

وثانياً: أنّ الإشكال فيها مشترك الورود؛ إذ بناءً على وجوب المقدّمة المطلقة تكون الإرادة غير متعلّقة للوجوب لو لزم منه التسلسل.

ومنها: أنّ الإتيان بالمقدّمة بناءً على وجوب الموصلة لا يوجب سقوط الطلب منها إلاّ أن يترتّب الواجب عليها، مع أنّ السقوط بالإتيان واضح، فلا بدّ وأن يكون بالموافقة(2).

وفيه: أنّ الأمر غير ساقط بعد فرض تعلّقه بالمقيّد، وهو لا يتحقّق إلاّ بقيده كما في المركّبات؛ فإنّ التحقيق فيها أنّ الأمر بها لا يسقط إلاّ بإتيان تمام

ص: 328


1- كفاية الاُصول: 145 - 146.
2- كفاية الاُصول: 146.

المركّب، وليس للأجزاء أمر أصلاً، فبناءً على المقدّمة الموصلة ليست ذات المقدّمة متعلّقة للأمر، بل للمتقيّدة أمر واحد لا يسقط إلاّ بإتيان قيدها، فدعوى وضوح سقوطه في غير محلّها.

في حال وجوب المقدّمة حال الإيصال

قد تخلّص شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - عن الإشكالات: بأنّ الواجب هو المقدّمات في لحاظ الإيصال لا مقيّدة به، فإذا تصوّر المولى جميع المقدّمات الملازمة لوجود المطلوب يريدها بذاتها؛ لأ نّها بهذه الملاحظة لا تنفكّ عن المطلوب الأصلي، ولو لاحظ مقدّمة منفكّة عمّا عداها لا يريدها جزماً؛ فإنّ ذاتها وإن كانت مورداً للإرادة، لكن لمّا كانت المطلوبية في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات، لم يكن كلّ واحدة منها مرادة بنحو الإطلاق؛ بحيث تسرّى الإرادة إلى حال الانفكاك، وهذا موافق للوجدان من غير ورود إشكال عليه(1).

ومراده من لحاظ الإيصال ليس دخالة اللحاظ فيه، بل كونه مرآة إلى ما هو الواجب، فالواجب هو ذات المقدّمات في حال ترتّبها وعدم انفكاكها عن ذي المقدّمة، لا مطلقة ولا مقيّدة، وإن لا تنطبق إلاّ على المقيّدة.

وقريب منه ما في تقريرات بعض أهل التحقيق: من أنّ الواجب هو المقدّمة في ظرف الإيصال بنحو القضيّة الحينية؛ أي الحصّة من المقدّمة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات الملازمة لوجود ذي المقدّمة(2).

ص: 329


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 119.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 389.

ويرد على شيخنا العلاّمة: أنّ حال عدم انفكاك المقدّمات عن المطلوب إن لم تكن دخيلة في وجوب المقدّمة يكن تعلّق الوجوب بها في هذه الحالة من باب الاتّفاق لا الدخالة، فلا يعقل رفع الوجوب عنها مع زوال تلك الحالة، ولا توقّف تعلّقه عليها؛ لأنّ تمام الموضوع للوجوب إذا كان ذات المقدّمة من غير دخالة شيء آخر، فمع بقائها على ما هي عليه لا يمكن انفكاك الحكم عنها.

وعلى المحقّق المتقدّم - مضافاً إلى ذلك - أنّ الطبيعة لا يعقل أن تصير حصّة إلاّ بانضمام قيد إليها، ومعه تصير مقيّدة، والتوأمية إذا صارت موجبة لصيرورتها حصّة خاصّة، تصير قيداً لها، وهو يفرّ منه.

وغاية ما يمكن أن يوجّه به كلامهما: أنّ المقدّمة واجبة لغاية التوصّل إلى ذي المقدّمة، فالموصلية من قبيل العلّة الغائية لتعلّق الوجوب بالمقدّمة، فلا يمكن أن تكون واجبة مطلقاً؛ لأنّ الوجوب إذا تعلّق بشيء لغاية لا يعقل أن يسري إلى ما لا تترتّب عليه تلك الغاية؛ للزوم أن يكون التعلّق بلا علّة غائية ولا فاعلية؛ لأنّ الغاية علّة فاعلية الفاعل، وكذا لا يمكن أن تكون المقدّمة المقيّدة واجبة؛ لأنّ الغاية متقدّمة على ذي الغاية ماهيةً وتصوّراً، ومتأخّرة عنه وجوداً وتحقّقاً، وما يكون كذلك لا يمكن أن يصير قيداً لما لا يكون في رتبته؛ للزوم التجافي عن المرتبة، فالواجب لا يكون مطلقاً ولا مقيّداً وإن لا ينطبق [إلاّ] على المقيّد. وعليه يمكن تصوير الحصّة أيضاً بتبع تعلّق الوجوب المعلول لعلّة خاصّة.

وفيه: أنّ الوجوب هاهنا مستكشف من حكم العقل، ولا يمكن تخلّفه عمّا هو مناطه في نظره؛ ضرورة أنّ العقل إذا أدرك حيثية تكون تمام المناط لتعلّق

ص: 330

حكم مولوي يكشف [عن كون] الحكم متعلّقاً بتلك الحيثية من غير دخالة شيءٍ آخر جزءاً للموضوع أو تمامه.

فحينئذٍ نقول: إنّ وجوب المقدّمة إذا كان لأجل التوصّل إلى ذي المقدّمة، تكون تلك الحيثية - أي التوصّل إلى ذي المقدّمة - تمام الموضوع لمناط حكم العقل، فيكشف [عن ثبوت] الحكم على المقدّمة بهذه الحيثية لا غيرها، فاللازم

هو وجوب المقدّمة المتحيّثة بها من حيث هي كذلك، ولا يمكن أن تصير تلك الحيثية علّة لسراية الحكم إلى غيرها.

نعم، يمكن تعلّق بعث مولوي بشيء لأجل غاية؛ بحيث يكون البعث متوجّهاً إلى عنوان تترتّب عليه الغاية، لكن الكلام في الوجوب المنكشف بحكم العقل، ولا يمكن كشف العقل [عن ثبوت] حكم على غير ما هو المناط ذاتاً، فكون الأحكام الشرعية متعلّقة بالعناوين لأجل المصالح والمفاسد، لا يكون نقضاً على ما ذكرنا لو اُعطي التدبّر حقّه.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل التدقيق في تعليقته على «الكفاية»، فإنّه لأجل الفرار عن الإشكالات المتقدّمة على المقدّمة الموصلة وجّه كلام القائل بها:

تارةً: بأنّ الغرض الأصيل حيث يترتّب على وجود المعلول، فالغرض التبعي من أجزاء علّته هو ترتّب وجوده على وجودها إذا وقعت على ما هي عليه من اتّصاف السبب بالسببية والشرط بالشرطية، فوقوع كلّ مقدّمة على صفة المقدّمية الفعلية ملازم لوقوع الاُخرى على تلك الصفة ووقوع ذيها في الخارج، فالواجب هو المقدّمة الفعلية التي لا تنفكّ عن ذيها.

ص: 331

واُخرى: بأنّ متعلّق الغرض التبعي هو العلّة التامّة؛ حيث إنّها محصّلة لغرضه الأصيل، لا كلّ ما له دخل وإن لم يكن محصّلاً له، وإنّما تعلّقت بالعلّة التامّة إرادة واحدة لوحدة الغرض، وهو حصول ذيها(1).

ويرد عليهما: أنّ الغاية لوجوب المقدّمة إذا كانت التوصّل إلى ذيها، يكون المتعلّق بالذات للإرادة هو المقدّمة بهذه الحيثية لا بحيثيات اُخر، فالسبب الفعلي بما هو كذلك لا تتعلّق به الإرادة بهذه الحيثية بل بحيثية الموصلية، وكون حيثية فعلية السبب ملازمة للمطلوب خارجاً لا يوجب أن تكون مطلوبة بالذات، وكذا الحال في العلّة التامّة وسائر العناوين والحيثيات الملازمة للمطلوب بالذات.

والعجب منه حيث اعترف أنّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية كلّها ترجع إلى التقييدية، وأنّ الغايات عناوين للموضوعات(2)، ومع ذلك ذهب إلى ما ذكر وارتضاه.

ويرد على ثانيهما: - مضافاً إلى ما تقدّم - أنّ العلّة التامّة إذا كانت مركّبة من شرط ومعدّ وسبب وعدم مانع ممّا لا يكون بينها جامع ذاتي، ولا تكون من قبيل التوليديات لا تتعلّق بها إرادة واحدة، مع أنّ العقل إذا فصّل بينها ورأى أنّ في كلّ

منها مناط الوجوب والتوصّل إلى ذي المقدّمة، فلا محالة تتعلّق إرادته به، فلا معنى لتعلّق إرادة واحدة بالمجموع بعد كون المناط في كلّ منها، وشأن العقل تفصيل الاُمور وتحليلها، لا رؤية المجموع وإهمال الحيثيات.

ولعمري: إنّ توهّم ورود الإشكالات ألجأهم إلى تلك التكلّفات.

ص: 332


1- نهاية الدراية 2: 138 - 139.
2- نهاية الدراية 2: 131 - 132 و133.
التحقيق وجوب المقدّمة الموصلة

ثمّ إنّ صاحب «الفصول» استدلّ على مذهبه باُمور، عمدتها هو ما ذكره أخيراً من الوجه العقلي: وهو أنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيتها(1).

ومقصوده بتوضيح منّا يرجع إلى مقدّمتين:

إحداهما: أنّ ملاك مطلوبية المقدّمة ليس مجرّد التوقّف، بل ملاكها هو حيثية التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، فذات المقدّمة وحيثية توقّف ذي المقدّمة عليها لا تكونان مطلوبتين بالذات، وهذه مقدّمة وجدانية يرى كلّ أحد من نفسه أنّ المطلوبية الغيرية إنّما هي لأجل الوصول إليه، بل لو فرض انفكاك التوقّف عن التوصّل خارجاً كان المطلوب هو الثاني لا الأوّل.

وثانيتهما: أنّ الغايات عناوين الموضوعات في الأحكام العقلية، والجهات التعليلية فيها ترجع إلى التقييدية، وهذه مقدّمة برهانية كما تقدّم بيانها(2).

ونتيجتهما وجوب المقدّمة الموصلة.

وبما ذكرنا يدفع الإشكال الذي أورده المحقّق الخراساني على كلتا المقدّمتين(3).

فتحصّل ممّا مرّ: أنّ التحقيق وجوب المقدّمة الموصلة على فرض وجوب المقدّمة.

ص: 333


1- الفصول الغروية: 84 / السطر 18، و: 86 / السطر 12.
2- تقدّم في الصفحة 323.
3- كفاية الاُصول: 147 - 150.
ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة

بقي شيء: وهو أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الواجب، بناءً على كون ترك الضدّ مقدّمةً لفعل ضدّه؛ فإنّ نقيض الترك الموصل ترك هذا الترك، وهو مقارن لفعل الضدّ، ومجرّد المقارنة لا يوجب سراية الحكم إلى مقارنه.

وبعبارة اُخرى: أنّ نقيض ترك الصلاة هو فعل الصلاة؛ لأنّ النقيضين هما المتقابلان إيجاباً وسلباً، أو نقيض الشيء رفعه، أو كونه مرفوعاً به، فإذا وجب الترك حرمت الصلاة، فتصير باطلة.

وأمّا نقيض الترك الموصل فلا يمكن أن يكون الفعل والترك المجرّد؛ لأنّ نقيض الواحد واحد، وإلاّ لزم إمكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما، فلا محالة يكون نقيض الترك الموصل ترك هذا الترك المقيّد، وهو منطبق على الفعل بالعرض؛ لعدم إمكان انطباقه عليه ذاتاً؛ للزوم كون الحيثية الوجودية عين الحيثية العدمية، والانطباق العرضي لا يوجب سراية الحرمة، فتقع صحيحة.

وبما ذكرنا يدفع ما اُورد عليه: بأنّ فعل الضدّ لازم لما هو من أفراد النقيض؛

فإنّ نقيض الترك الخاصّ رفعه، وهو أعمّ من الفعل والترك الآخر المجرّد، وهذا يكفي في إثبات الحرمة(1).

ص: 334


1- مطارح الأنظار 1: 379.

وجه الدفع: أنّ رفع الترك الخاصّ لا يمكن أن ينطبق عليه ذاتاً، فلا يكون الفعل مصداقاً ذاتياً له، والانطباق العرضي لا يكفي في الحرمة، وسيأتي الإشكال في الانطباق العرضي أيضاً.

وأمّا ما أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ الفعل وإن لم يكن عين مايناقض الترك المطلق مفهوماً، لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً، فيعانده وينافيه، وأمّا الفعل

في الترك الموصل فلا يكون إلاّ مقارناً لما هو النقيض من رفع الترك المجامع له أحياناً بنحو المقارنة، ومثله لا يوجب السراية(1).

ففيه: أوّلاً: أنّ الفعل عين النقيض في الترك المطلق؛ فإنّ بينهما تقابل الإيجاب والسلب.

وثانياً: لو قلنا بأنّ نقيض الترك رفعه، فلا يمكن أن يتّحد مع الفعل خارجاً اتّحاداً ذاتياً، فلو كفى الاتّحاد الغير الذاتي في سراية الحكم يكون متحقّقاً في الترك الموصل بالنسبة إلى الفعل؛ فإنّه أيضاً منطبق عليه بالعرض.

وقوله: إنّه من قبيل المقارن المجامع له أحياناً.

مدفوع: بأنّ الفعل مصداق الترك الموصل ومنطبق عليه دائماً من غير انفكاك بينهما. نعم قد لا يكون المصداق متحقّقاً، وعدم الانطباق بعدم الموضوع لا يوجب المقارنة؛ ضرورة أنّ العناوين لا تنطبق على مصاديقها الذاتية أيضاً حال عدمها.

ص: 335


1- كفاية الاُصول: 151 - 152.

وقد يقال: إنّ المراد بالمقدّمة الموصلة: إمّا العلّة التامّة، وإمّا المقدّمة التي

لا تنفكّ عن ذيها.

فعلى الأوّل: تكون المقدّمة الموصلة [للإزالة] ترك الصلاة ووجود الإرادة، ونقيض المجموع من الأمرين مجموع النقيضين، وإلاّ فليس لهما معاً نقيض؛ لأنّ المجموع ليس موجوداً على حدة حتّى يكون له نقيض، فحينئذٍ يكون نقيض ترك الصلاة فعلها، ونقيض إرادة ذي المقدّمة عدمها، فإذا وجب مجموع العينين بوجوب واحد حرم مجموع النقيضين بحرمة واحدة، ومن الواضح تحقّق مجموع الفعل وعدم الإرادة عند إيجاد الصلاة.

وعلى الثاني: فالمقدّمة هو الترك الخاصّ، وحيث إنّ الخصوصية ثبوتية فالترك الخاصّ لا رفع لشيء ولا مرفوع بشيء، فلا نقيض له بما هو، بل نقيض الترك هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها، فيكون الفعل محرّماً لوجوب نقيضه، ومن الواضح أنّ الفعل مقترن بنقيض الخصوصية المأخوذة في طرف الترك(1)، انتهى.

وفيه: - بعد الغضّ عمّا مرّ من الإشكال في كون الواجب هو العلّة التامّة، أو المقدّمة الفعلية الغير المنفكّة - أنّ العلّة التامّة إذا كانت متعلّقة للإرادة الواحدة،

فلا محالة تكون ملحوظة في مقام الموضوعية بنعت الوحدة، وإلاّ فالمتكثّر بما هو كذلك لا يمكن أن تتعلّق به إرادة واحدة؛ لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد وتكثّرها تابع لتكثّره، فالموضوع للحكم إذا كان واحداً يكون نقيضه رفعه، وهو

ص: 336


1- نهاية الدراية 2: 150 - 152.

رفع الواحد الاعتباري في المقام، لا فعل الصلاة وعدم الإرادة؛ ضرورة أنّ نقيض كلّ شيء رفعه، أو كونه مرفوعاً به، والصلاة لم تكن رفع هذا الواحد الاعتباري ولا مرفوعة به: أمّا عدم كونها رفعاً فواضح، وأمّا عدم كونها مرفوعة به فلأ نّه أمر وجودي لا يمكن أن يكون رفعاً، فرفعه عدمه المنطبق على الصلاة عرضياً وعلى الترك المجرّد.

وكذا الحال في المقدّمة الخاصّة - أي الترك الغير المنفكّ - فإنّه في مقام الموضوعية للإرادة الواحدة غير متكثّر، وعدم هذا الواحد نقيضه، والمفردات في مقام الموضوعية غير ملحوظة حتّى تلاحظ نقائضها.

نعم، مع قطع النظر عن الوحدة الاعتبارية العارضة للموضوع يكون نقيض الترك هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها، ولم يكن للخاصّ بما هو وجود حتّى يكون له رفع، وكذا المجموع في الفرض الأوّل، فالخلط إنّما هو من أجل إهمال الحيثيات والوحدة الاعتبارية اللاحقة لموضوع الحكم الذي هو محطّ البحث.

وبما ذكرنا يتّضح الإشكال في كلام بعض المحقّقين - على ما في تقريرات بحثه(1) - مع بعض الإضافات تركناه مخافة التطويل.

ص: 337


1- نهاية الأفكار 1: 345 - 346؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 395 - 396.
الواجب الأصلي والتبعي

من تقسيمات الواجب تقسيمه إلى الأصلي والتبعي، والظاهر أنّ هذا التقسيم بحسب مقام الإثبات ولحاظ الخطاب، وهو تقسيم معقول في مقابل سائر التقسيمات، وإن لا يترتّب عليه أثر مرغوب فيه.

والمحقّق الخراساني(1) أرجعه إلى مقام الثبوت: بأنّ الشيء إذا كان متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلاًّ - للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه، سواء كان طلبه نفسياً أو غيرياً - يكون الطلب أصلياً، وإذا كان متعلّقاً لها تبعاً لإرادة

غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته يكون تبعياً.

ولما ورد عليه - أنّ الاستقلال إن كان بمعنى الالتفات التفصيلي يكون في مقابله الإجمال والارتكاز، لا عدم الاستقلال بمعنى التبعية، فيكون الواجب النفسي أيضاً تارةً مستقلاًّ، وتارةً غير مستقلّ، مع أنّه لا شبهة في أنّ إرادته أصلية

لا تبعية، وإن كان بمعنى عدم التبعية فلا يكون الواجب الغيري مستقلاًّ، سواء التفت إليه تفصيلاً أو لا - تشبّث بعض محقّقي المحشّين للتقسيم في مقام الثبوت في مقابل الواجب النفسي والغيري: بأنّ للواجب - وجوداً ووجوباً - بالنسبة إلى مقدّمته جهتين من العلّية:

ص: 338


1- كفاية الاُصول: 152.

إحداهما: العلّية الغائية؛ حيث إنّ المقدّمة إنّما تراد لمراد آخر، دون ذي المقدّمة.

والثانية: العلّية الفاعلية، وهي أنّ إرادة ذي المقدّمة علّة لإرادة مقدّمته، ومنها تنشأ وتترشّح عليها الإرادة.

والجهة الاُولى مناط الغيرية، والجهة الثانية مناط التبعية(1).

وأنت خبير بما فيه من التكلّف، مع أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ليست علّة فاعلية لإرادة المقدّمة؛ بحيث تنشأ منها، وإلاّ لصارت متحقّقة من غير لزوم مقدّمات اُخر: من التصوّر، والتصديق بالفائدة، وسائر المبادئ، ولا شبهة في أنّ الإرادة لا تتعلّق بها إلاّ مع هذه المبادئ كما يحتاج إليها ذو المقدّمة بلا افتراق

بينهما من هذه الجهة، وسيأتي مزيد بيان لهذا، فالجهة الثانية ممّا لا أصل لها حتّى يكون التقسيم بلحاظها، بل كلامه لا يخلو من تهافت.

ثمّ إنّه لا أصل لتنقيح الأصلية والتبعية، سواء كانتا وجوديتين أو عدميتين أو مختلفتين، وسواء قلنا بأنّ المناط في التقسيم هو ما ذكره المحقّق الخراساني أو المحقّق المحشّي أو غيره؛ لأنّ عدم تفصيلية القصد والإرادة لإحراز التبعية وعدم ترشّح الإرادة من إرادة اُخرى لإحراز الأصلية، إنّما هي من قبيل الموجبات المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول، وفي مثلها لا يجري الأصل كما في أصالة عدم القرشية، والتفصيل موكول إلى محلّه.

ص: 339


1- نهاية الدراية 2: 157 - 158.
تتميم : في ثمرة بحث مقدّمة الواجب

الحقّ: أنّه لا ثمرة في هذه المسألة؛ لأنّ الوجوب المقدّمي - على فرضه - وعدمه سواء؛ لأ نّه وجوب غير قابل للباعثية، ولا يترتّب عليه ثواب وعقاب، ولزوم الإتيان بالمقدّمة عقلي، كانت واجبة أو لم تكن، والثمرات التي ذكروها(1)

ليست ثمرة في المسألة الاُصولية.

وأمّا ما ذكره بعض محقّقي العصر - بعد الاعتراف بأنّ وجوب المقدّمة ليس بنفسه ثمرة عملية - من أنّه يمكن تحقّق الثمرة بتطبيق كبريات اُخر عليها، فإنّه على فرض الوجوب يمكن تحقّق التقرّب بقصد أمرها، كما يمكن التقرّب بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، فيتّسع بذلك نطاق التقرّب بها، وأيضاً إذا أمر شخص بما له مقدّمات - كبناء البيت - فأتى بالمقدّمات المأمور بها ولم يأت بذي المقدّمة، فعلى فرض تعلّق الأمر بها يكون ضامناً للمأمور اُجرة المقدّمات المأمور بها(2).

ففيه: أنّ الأمر الغيري - على ما سبق - غير صالح للباعثية والإطاعة؛ لأنّ المكلّف إن كان مريداً لإتيان ذي المقدّمة، ويكون أمره باعثاً له، فلا محالة

ص: 340


1- قوانين الاُصول 1: 101 / السطر 19؛ هداية المسترشدين 2: 104؛ الفصول الغروية: 87 - 88؛ مطارح الأنظار 1: 391؛ كفاية الاُصول: 153.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 397.

تتعلّق إرادته بمقدّماته، فيكون البعث التبعي غير صالح للباعثية، ومع عدم باعثية أمر ذي المقدّمة لا يمكن أن يكون أمر المقدّمة الداعي إلى التوصّل به باعثاً، ومعه لا يمكن التقرّب به، مضافاً إلى أنّه على فرض باعثيته غير قربي، كما مرّ(1).

وبما ذكرنا يظهر ما في الثمرة الثانية؛ لأنّ الضمان الآتي من قِبل الأمر فرع إطاعته، وإلاّ فلو أتى بمتعلّق الأمر بلا باعثية له لم يستحقّ شيئاً كما لو كان جاهلاً بأمره، فمع عدم صلوح الأمر المقدّمي للباعثية لا يوجب الضمان.

هذا، مع أنّ مبنى المستدلّ وجوب المقدّمة الملازمة لوجود ذي المقدّمة، وهو ينافي ما ذكره هاهنا.

اللهمّ إلاّ أن يكون المفروض بعد تسليم وجوب المقدّمة المطلقة.

نعم، لو كان لهذا وجه صحّة كان ثمرة بين المقدّمة المطلقة والموصلة.

هذا كلّه مضافاً إلى كون ما ذكر ثمرةً للمسألة الاُصولية ممنوعاً.

حول تأسيس الأصل في مقدّمة الواجب

ثمّ إنّه لا أصل في المسألة: أمّا بالنسبة إلى الملازمة؛ فلأ نّها وإن كانت بين إرادة ذي المقدّمة وبين إرادة ما يرى مقدّمة لا بنحو لازم الماهية أو لازم الوجود؛ بمعنى المعلولية والعلّية، لكن ليس لها حالة سابقة معلومة، بل لو كانت معلومة بنحو الليس الناقص لما جرى الأصل؛ لعدم ترتّب حكم عليها بلا توسّط

ص: 341


1- تقدّم في الصفحة 312 و316.

أمر عقلي؛ لأنّ الملازمة لم تكن موضوعة لحكم شرعي، بل العقل يحكم بعدم الوجوب على فرض عدم الملازمة، وبتحقّقه على فرض تحقّقها.

وأمّا الأصل الحكمي؛ فلأنّ جريانه فرع الأثر الشرعي، وقد عرفت أنّه لا أثر لهذا الوجوب ولا لنفيه.

وأمّا الإشكال: بأنّ جريانه مستلزم للتفكيك بين المتلازمين؛ لكونه من قبيل لوازم الماهية أو الوجود(1).

ففيه: - مع ما في دعوى كونه من قبيلهما - أنّه لا يلزم التفكيك الواقعي، والظاهري منه لا إشكال فيه.

مع أنّه لو سلّم يلزم احتمال التفكيك، وهو لا يمنع جريان الأصل؛ لعدم جواز رفع اليد عن الأدلّة الشرعية بمجرّد احتمال الامتناع.

التحقيق عدم وجوب المقدّمة

إذا عرفت ما تقدّم فالتحقيق: عدم وجوب المقدّمة وعدم الملازمة بين الإرادتين، ولا بين البعثين:

أمّا الثاني: فأوضح من أن يخفى؛ لأنّ الهيئات الدالّة على البعث لا يمكن أن تبعث إلاّ إلى متعلّقاتها، وهي الواجبات النفسية، وكون البعث إلى المقدّمات من قبيل لوازم الماهيات ضروري الفساد، وكونه علّة للبعث إليها - بحيث يكون

ص: 342


1- اُنظر كفاية الاُصول: 156.

نفس البعث؛ أي الهيئة بما لها من المعنى، علّةً فاعلية لبعث المولى بالنسبة إلى المقدّمات؛ بحيث يكون مؤثّراً قهراً في المولى - أوضح بطلاناً.

ودعوى لابدّية البعث إلى المقدّمات بعد العلم بمقدّميتها(1) كما ترى؛ ضرورة عدم البعث إلى المقدّمات من الموالي غالباً، مع أنّ البعث إلى المقدّمة لغو، وما يرى وقوعه: إمّا إرشاد إلى الشرطية كالوضوء والغسل، وإمّا بعث إلى ذي المقدّمة بنحو الكناية تأكيداً، أو إرشاد إلى حكم العقل كالأمر بإطاعة الله.

وأمّا بين الإرادتين: فكون إرادة المقدّمة من قبيل لازم الماهية ضروري

الفساد؛ لأنّ لوازمها اعتبارية. وكونها معلولة لها؛ بمعنى كون إرادة ذي المقدّمة علّة فاعلية لإرادتها من غير احتياج إلى مبادٍ اُخر، كالتصوّر والتصديق بالفائدة وغيرهما، فهو أيضاً مثله في وضوح الفساد. وكفاية صرف تصوّر المقدّمية أو هو مع التصديق بكونها مقدّمة من غير التصديق بالفائدة، خلاف الوجدان.

فتعلّق الإرادة بها كتعلّقها بسائر المرادات من الاحتياج إلى المبادئ والغايات. فحينئذٍ نقول: إنّ غاية تعلّق الإرادة المولوية بها هو التوصّل إلى ذي المقدّمة، وبعد إرادة ذي المقدّمة والبعث نحوه، لمّا رأى المولى أنّ إرادة المقدّمات ممّا لا فائدة لها، ولا يمكن أن تكون تلك الإرادة مؤثّرة في العبد ولو بعد إظهارها وبعد البعث نحو المقدّمة - كما سنشير إليه - يكون تعلّقها بها

ص: 343


1- نهاية الأفكار 1: 352.

لغواً بلا غاية، وفي مثله لا يعقل تعلّقها.

وما قيل: من أنّ التعلّق قهري لا يحتاج إلى الغاية(1)، في غاية السقوط، كما تقدّم.

كما أنّ ما قيل: - من أنّ الإرادة التشريعية تابعة للتكوينية إمكاناً وامتناعاً، ووجوداً وعدماً، فكلّ ما يكون مورداً للإرادة التكوينية عند تحقّقها من نفس المريد، يكون مورداً للتشريعية عند صدورها من غير المريد(2) - ممّا لا برهان عليه، بل البرهان على خلافه؛ لأنّ المريد لإيجاد الفعل لمّا رأى توقّفه على المقدّمة، فلا محالة يكون جميع مبادئ إرادة المقدّمة موجودة في نفسه من التصوّر والتصديق بالفائدة، والاشتياق التبعي في بعض الأحيان، والغاية هي التوصّل إلى ذي المقدّمة.

وأمّا الإرادة التشريعية، فليست إلاّ إرادة البعث إلى الشيء، وأمّا إرادة نفس عمل الغير فغير معقولة؛ لأنّ عمل كلّ أحد متعلّق إرادة نفسه لا غيره.

نعم، يمكن اشتياق صدور عمل من الغير، لكن قد عرفت مراراً أنّ الاشتياق غير الإرادة التي هي تصميم العزم على الإيجاد، وهذا ممّا لا يتصوّر تعلّقه بفعل الغير.

فإرادة البعث لا بدّ لها من مبادٍ موجودة في نفس المولى، [وهي] بالنسبة إلى ذي المقدّمة موجودة؛ لأنّ غاية البعث هو التوصّل إلى المبعوث إليه ولو إمكاناً، وهو حاصل.

ص: 344


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 399.
2- نفس المصدر.

وأمّا إرادة البعث إلى المقدّمات فممّا لا فائدة لها ولا غاية؛ لأنّ البعث إلى ذي المقدّمة إن كان مؤثّراً في نفس العبد، فلا يمكن انبعاث فوق الانبعاث، وإلاّ فلا يمكن أن يكون البعث الغيري موجباً لانبعاثه مع كونه لنفس التوصّل إلى ذي المقدّمة، ومع عدم ترتّب أثر عليه من الثواب والعقاب، فحينئذٍ تكون إرادة البعث من دون تمامية المبادئ من قبيل وجود المعلول بلا علّة تامّة. نعم، يمكن تعلّقها بها إرشاداً، أو لتأكيد ذي المقدّمة كنايةً.

هذا، مع أنّ الضرورة قاضية بعدم إرادة البعث نحو المقدّمات؛ لعدم تحقّق البعث في غالب الموارد، فيلزم تفكيك الإرادة عن معلولها، فإرادة البعث غير حاصلة.

والتأمّل الصادق فيما ذكرنا يوجب التصديق به، والمظنون أنّ كلّ ما صدر عن الأعاظم(1) من دعوى الوجدان والبرهان نشأ من قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية، كما تقدّم التصريح به من بعضهم.

وأمّا ما نقل(2) عن أبي الحسن(3)

البصري(4)

فلا يستأهل الجواب، مضافاً إلى أنّه منقوض بالمتلازمين؛ لأنّ برهانه آتٍ فيهما، مع أنّ تعلّق الإرادة بملازمِ ما فيه المصلحة مع خلوّه عنها ممّا لا يعقل؛ للزوم تعلّقها بلا ملاك، وهو ممتنع.

ص: 345


1- مطارح الأنظار 1: 405؛ كفاية الاُصول: 156.
2- كفاية الاُصول: 157.
3- هكذا ورد في «الكفاية»، لكنّ الصحيح - كما في سائر المصادر الاُصولية - هو «أبو الحسين البصري» صاحب كتاب «المعتمد في اُصول الفقه».
4- المعتمد في اُصول الفقه 1: 95.

وأمّا التفصيل بين السبب وغيره(1) فليس تفصيلاً.

وأمّا بين الشرط الشرعي وغيره فقد استدلّ على الوجوب فيه: بأ نّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً؛ حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادةً(2).

ففيه: أنّه إن اُريد ممّا ذكر توقّف الشرطية ثبوتاً على الأمر الغيري، فهو دور واضح.

وإن اُريد أنّه لولا وجوبه لم يكن في مقام الإثبات دليل عليها، فالعلم بالشرطية يتوقّف على الوجوب الغيري.

ففيه: أنّ الوجوب التبعي الغيري - بما هو محلّ البحث في المقام - لا يمكن أن يكون كاشفاً عن الشرطية؛ لأنّ الملازمة الواقعية بين الإرادتين بنحو الكبرى الكلّية لا يمكن أن تكون كاشفة عن الصغرى، وكذا بين البعث إلى ذي المقدّمة والبعث التبعي إلى مقدّمته، فلا بدّ للكشف عن الشرطية من دليل: إمّا بعث نفسي إلى ذي المقدّمة متقيّداً بالشرط، كقوله: «صلّ متطهّراً»، أو بعث إرشادي إلى المقدّمة، كقوله: )إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم...((3) إلى آخره، وبعد هذا الكشف تكون المقدّمة عقلية لا شرعية.

ص: 346


1- معالم الدين: 70؛ اُنظر مطارح الأنظار 1: 402.
2- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 91.
3- المائدة (5): 6.
تتمّة : في مقدّمة الحرام

وممّا ذكرنا من البرهان على عدم وجوب مقدّمة الواجب يظهر حال مقدّمة الحرام، وأنّها ليست بحرام، كانت من التوليديات أو لا.

وقد فصّل المحقّق الخراساني بينهما، فاختار الحرمة في التوليديات؛ لعدم توسّط الاختيار بينها وبين الفعل، دون غيرها لتوسّطه، فيكون المكلّف متمكّناً من ترك الحرام بعد حصوله، كما كان متمكّناً قبله، فلا ملاك لتعلّق الحرمة بها، وأمّا الاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به التكليف؛ للزوم التسلسل(1).

وفيه: أنّ النفس لمّا كانت فاعلة بالآلة في العالم الطبيعي، لا يمكن أن تكون إرادتها بالنسبة إلى الأفعال الخارجية المادّية جزءاً أخيراً للعلّة؛ بحيث لا يتوسّط بينها وبين الفعل الخارجي شيء حتّى من آلاتها، وتكون النفس خلاّقة بالإرادة، بل هي مؤثّرة في الآلات والعضلات بالقبض والبسط، حتّى تحصل الحركات العضوية، وترتبط بواسطتها بالخارج، وتتحقّق الأفعال الخارجية.

مثلاً: إذا أمر المولى بشرب الماء، فالشرب عبارة عن بلع الماء وإدخاله في الباطن بتوسّط الحلقوم، ولم يحصل هذا العنوان بمجرّد الإرادة، بل تتوسّط بينه وبينها حركات العضلات المربوطة بهذا العمل، وهي اُمور اختيارية للنفس وتوليدية للشرب، فالمتوسّط بينها وبين الشرب والضرب والمشي

ص: 347


1- كفاية الاُصول: 159 - 160.

والقيام وهكذا، تحريكات اختيارية وأفعال إرادية قابلة لتعلّق التكليف بها، فالمشي مثلاً لا يتحقّق بنفس الإرادة؛ بحيث تكون هي مبدأً خلاّقاً له بلا توسّط الآلات وحركاتها وتحريك النفس إيّاها بتوسّط القوى المنبثّة التي تحت اختيارها.

نعم، لا يتوسّط بين الإرادة والمظاهر الأوّلية للنفس في عالم الطبيعة متوسّط.

وما ذكره رحمه الله علیه وإن يصحّ بنظر العرف، لكن المسألة لمّا كانت عقلية لا بدّ فيها من الدقّة وتحصيل المقدّمات والمتوسّطات بين الإرادة والأفعال.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ التفصيل الذي ذكره غير مرضيّ.

وممّا ذكرنا: يظهر النظر فيما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - حيث فصّل بين ما هو محرّم بعنوانه من غير تقييده بالاختيار فتحرم مقدّمته، وبين ما هو مبغوض إذا صدر عن إرادة واختيار فلا تحرم المقدّمات الخارجية؛ لأنّ الإرادة على الثاني تكون من أجزاء العلّة، فلا تتّصف الأجزاء الخارجية بالحرمة؛ لعدم صحّة استناد الترك إلاّ إلى عدم الإرادة؛ لأ نّه أسبق رتبةً من سائر المقدّمات الخارجية(1).

لما عرفت من أنّ إرادة الفعل ليست جزءاً أخيراً للعلّة، بل الجزء الأخير فعل اختياري للنفس، وهو بمنزلة الفعل التوليدي.

فإذا حرم الشرب العمدي الإرادي يتوقّف تحقّقه على الشرب والإرادة

ص: 348


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 130 - 132.

المتعلّقة به، فإذا أراد الشرب يتحقّق جزء من الموضوع، وجزؤه الآخر يتوقّف على أفعال اختيارية، منها تحريك عضلات الحلقوم وقبضها حتّى يتحقّق الازدراد، والجزء الأخير لتحقّق الموضوع هو هذا الفعل الاختياري، فتتعيّن الحرمة فيه بعد تحقّق سائر المقدّمات المتقدّمة عليه.

وأمّا قضيّة استناد الترك إلى عدم إرادة الفعل، فصحيحة في الأفعال الاختيارية، لكن الكلام في مقدّمات وجود المبغوض، وأنّ الإرادة التشريعية إذا تعلّقت بالزجر عنه فهل تتعلّق إرادة بالزجر عن المقدّمات الخارجية أم لا؟ ومع كون بعض المقدّمات الخارجية متوسّطاً بين إرادة الفعل وتحقّقه الخارجي - وهو من الأفعال الاختيارية للنفس - فلا محالة على الملازمة يصير مبغوضاً بعد تحقّق سائر المقدّمات.

ثمّ إنّه بناءً على الملازمة هل يحرم جميع المقدّمات، كما تجب جميع مقدّمات الواجب، أو يحرم الجزء الأخير إذا كانت أجزاء العلّة مترتّبة، وأحد الأجزاء إذا كانت عرضية؟

التحقيق: هو الثاني؛ لمساعدة الوجدان عليه، ولأنّ الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود، لا عن كلّ ما هو دخيل في تحقّقه؛ لأنّ وجود سائر المقدّمات وعدمها سواء في بقاء المبغوض على عدمه، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود، وما هو سبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات؛ بمعنى أنّ وجود سائر الأجزاء مع عدم هذا الجزء لا يوجب انتقاض العدم وتحقّق المبغوض، فلا ملاك لمبغوضيتها، وفي غير المترتّبات

ص: 349

يكون المجموع كذلك، وعدمه بعدم جزء منه، وقياس مقدّمات الحرام بالواجب مع الفارق.

وما في تقريرات بعض محقّقي العصر: من أنّ مقوّم الحرمة هو مبغوضية الوجود، كما أنّ مقوّم الوجوب محبوبيته، ومقتضاه سراية البغض إلى علّة الفعل المبغوض، فيكون كلّ جزء من أجزاء العلّة - التوأم مع وجود سائر الأجزاء بنحو القضيّة الحينية - مبغوضاً بالبغض التبعي، وحراماً بالحرمة الغيرية(1).

ففيه: - مضافاً إلى أنّ المبغوضية لا يمكن أن تكون مقوّمة للحرمة، ولا المحبوبية للوجوب؛ لأ نّهما في الرتبة السابقة على الإرادة المتقدّمة على البعث والزجر المنتزع منهما الوجوب والحرمة - أنّ مبغوضية الفعل لا يمكن أن تكون منشأً لمبغوضية جميع المقدّمات؛ لعدم المناط فيها على نحو العامّ الاستغراقي؛ لأنّ البغض لشيء يسري إلى ما هو محقّق وجوده وناقض عدمه، وغير الجزء الأخير من العلّة أو مجموع الأجزاء في المركّب الغير المترتّب، لا ينقض العدم.

وقوله: إنّ الجزء التوأم مع سائر الأجزاء مبغوض، من قبيل ضمّ ما ليس بالدخيل إلى ما هو الدخيل؛ فإنّ المجموع بما هو مجموع وإن كان مبغوضاً؛ لأ نّه العلّة التامّة لتحقّق الحرام، لكن كلّ واحد ليس كذلك بنحو القضيّة الحينية؛

لعدم الملاك فيه.

ص: 350


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 403.

هذا، مع أنّه قاس الإرادة التشريعية بالتكوينية في مقدّمات الواجب(1)،

ومقتضى قياسه عدم الحرمة هاهنا؛ ضرورة أنّ من أراد ترك شيء لا تتعلّق إرادته بترك كلّ واحد من مقدّماته، بل تتعلّق بترك ما هو مخرج مبغوضه إلى الوجود، وهذا واضح.

انتهى الجزء الأوّل من الكتاب حسب تجزئتنا ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني منه بحول الله وقوّته وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

ص: 351


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 399.

ص: 352

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 353

ص: 354

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

البقرة (2)

(لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) 124 163

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) 148 234

(أَحَلَّ الله الْبَيْعَ) 275 300

آل عمران (3)

(سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) 133 234

(مِنْ رَبِّكُمْ) 133 235

النساء (4)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ) 23 144

(اُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) 23 144

(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً

طَيِّباً ) 43 250

ص: 355

الآية رقمها الصفحة

المائدة (5)

(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا

وُجُوهَكُم) 6 346

(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً

طَيِّباً) 6 250

(vالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا( 38 162

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) 48 234

الأنعام (6)

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا

وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ

مِثْلَهَا) 160 311

هود (11)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأ ْتُوا بِعَشْرِ

سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) 13 188

يوسف (12)

(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) 25 236

(مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) 31 61، 62

(وَاسْأَلِ القَرْيَةَ) 82 63

ص: 356

الآية رقمها الصفحة

الإسراء (17)

(أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى

غَسَقِ الَّيْلِ) 78 241، 258

النور (24)

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا) 2 162

محمّد (47)

(إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ

أَقْدَامَكُمْ) 7 6

المزمّل (73)

(أَقِيمُوا الصَّلَوةَ) 20 15

(وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَوةَ

وَأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً) 20 91

المدّثّر (74)

(قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) 43 91

القيامة (75)

(فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى) 31 91

ص: 357

الآية رقمها الصفحة

الأعلى (87)

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) 15 91

العلق (96)

(أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْداً إِذَا

صَلَّى) 9 - 10 92

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

رفع... ما لا يعلمون 258

كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال... 255

كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر 255

لا صلاة إلاّ بطهور 255

لو أنّ رجلاً تزوّج جارية رضيعة، فأرضعتها امرأته فسد النكاح 143

لو لا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتُهم بالسواك 184

ص: 358

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي، محمّد، رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم = محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام 1، 92، 119، 188، 235،

351

أميرالمؤمنين علیه السلام = علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل 235

الحسين، أبو عبدالله الحسين علیه السلام= الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث

الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث 146، 312

أبو جعفر علیه السلام = محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس

محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس 143

أبو عبدالله علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 143

الصادقين علیهما السلام (محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس /

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس) 119

إبراهيم، النبي 163

يوسف، النبي 236

يحيى، النبي 146

ص: 359

ص: 360

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 10، 18، 40، 72، 102،

111، 112، 119، 124،

132، 136، 145، 171،

174، 176، 187، 210،

214، 224، 226، 239،

240، 241، 244، 245،

277، 293، 318، 333،

335، 338، 339، 347

الآغا ضياء= العراقي، ضياء الدين

ابن إدريس، محمّد بن أحمد 142

ابن سينا، الحسين بن عبدالله 4

ابن مالك، محمّد بن عبدالله 74، 75

ابن مهزيار= علي بن مهزيار

أبو الحسن البصري= ابو الحسين البصري= البصري، محمّد بن علي

الأصفهاني، محمّد تقي 42، 299

الأصفهاني، محمّد حسين 25، 104، 106، 293، 339

ص: 361

الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم 75، 173، 228، 322، 325، 326، 333

الأصفهاني، محمّد رضا 62

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 10، 282، 299، 322

الباقلاني، محمّد بن الطيّب 94، 95

البصري، محمّد بن علي 345

بعض أجلّة العصر= الأصفهاني، محمّد رضا

بعض أجلّة العصر= العراقي، ضياء الدين

بعض الأعاظم= النائيني، محمّد حسين

بعض أعاظم العصر= النائيني، محمّد حسين

بعض أعاظم فنّ الفلسفة= صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

بعض أهل التحقيق= العراقي، ضياء الدين

بعض أهل النظر= النهاوندي النجفي، علي بن فتح الله

بعض الفحول= الأصفهاني، محمّد تقي

بعض المحقّقين= العراقي، ضياء الدين

بعض محقّقي العصر= العراقي، ضياء الدين

بعض المدقّقين= الأصفهاني، محمّد حسين

بعض المدقّقين من أهل العصر= العراقي، ضياء الدين

الحائري، عبدالكريم 11، 19، 87، 121، 197،

199، 216، 227، 233،

326، 329، 330، 348

الحسيني الأسترآبادي، محمّد بن علي 168، 170

الحلبي، عبيدالله بن علي 143

الحلّي= ابن إدريس، محمّد بن أحمد

ص: 362

حمّاد بن عيسى 259

الخراساني= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

الدواني، محمّد بن أسعد 161

الرشتي، حبيب الله بن محمّد علي 19

السكّاكي، يوسف بن أبي بكر 60، 61، 62، 226

الشهيد الثاني، زين الدين بن علي 141

الشيخ أبو علي سينا= ابن سينا، الحسين بن عبدالله

الشيخ الأعظم= الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخان (المفيد، محمّد بن محمّد / الطوسي، محمّد بن الحسن) 4

شيخنا العلاّمة= الحائري، عبدالكريم

صاحب الجواهر، محمّد حسن بن باقر 144

صاحب الحاشية (هداية المسترشدين)= الأصفهاني، محمّد تقي

صاحب الفصول الغروية= الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم

صاحب المعالم= ابن الشهيد الثاني، الحسن بن زين الدين

صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم 7

الصدوقان (ابن بابويه، علي بن الحسين / ابن بابويه، محمّد بن علي) 4

ابن الشهيد الثاني، الحسن بن زين الدين 185، 321، 322

عبدالرحمان بن أبي عبدالله 259

العراقي، ضياء الدين 11، 21، 35، 38، 42،

51، 80، 88، 104، 136،

185، 190، 194، 210،

246، 273، 289، 290،

304، 322، 323، 329،

340، 350

ص: 363

العلاّمة الحائري= الحائري، عبدالكريم

علي بن مهزيار 143

فخر المحقّقين، محمّد بن الحسن 141، 143

المحقّق الشريف= الحسيني الأسترآبادي، محمّد بن علي

المحقّق الطوسي= نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد

المحقّق المحشّي= الأصفهاني، محمّد حسين

محمّد بن مسلم 143

النائيني، محمّد حسين 11، 32، 40، 139، 140،

190، 225، 279، 297

نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد 72

النهاوندي النجفي، علي بن فتح الله 293

ص: 364

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 91، 110، 189

الإيضاح= إيضاح الفوائد

إيضاح الفوائد 142

التعليقة على الكفاية للمحقّق الأصفهاني= نهاية الدراية

الجواهر= جواهر الكلام

جواهر الكلام 144

رسالة الطلب والإرادة للإمام الخميني(سلام الله عليه) 185، 189

شرح المفصّل 74

الصلاة للمحقّق الحائري 233

الفصول الغروية 75، 100، 173، 174،

226، 228، 229، 293،

322، 325، 326، 333

الكفاية= كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 75، 104، 123، 331

المعالم= معالم الدين

معالم الدين 185، 321، 322

نهاية الدراية 293، 331

وقاية الأذهان 62

ص: 365

ص: 366

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - الاجتهاد والتقليد، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام

الخميني قدّس سرّه .

2 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

3 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين. جمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّي (م 826)، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

4 - الاستصحاب، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

5 - الإشارات والتنبيهات. مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

6 - الاعتقادات. العلاّمة الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقيّ المجلسي، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، الطبعة الاُولى، أصفهان، مكتبة العلاّمة المجلسي، 1409 ق.

7 - أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

ص: 367

8 - إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد. فخر المحقّقين الشيخ أبو طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (682 - 771)، إعداد عدّة من العلماء، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، المطبعة العلمية، 1387 ق.

«ب»

9 - بدائع الأفكار. الشيخ حبيب الله الرشتي، الطبعة الحجرية، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

10 - بدائع الأفكار في الاُصول (تقريرات المحقّق العراقي). الشيخ هاشم الآملي (1282 - 1371 ش)، الطبعة الاُولى، النجف الأشرف، 1370 ق.

11 - البصائر النصيرية في المنطق. زين الدين عمر بن سهلان الساوجي، قم، مدرسة الرضوية.

12 - البهجة المرضيّة. جلال الدين السيوطي، تعليق مصطفى الحسيني الدشتي.

«ت»

13 - تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام. السيّد حسن الصدر (1272 - 1354)، طهران، مكتبة الأعلمي.

14 - تشريح الاُصول. الشيخ مولى علي بن مولى فتح الله النهاوندي (م 1322)، الطبعة الحجرية، طهران، دار الخلافة، 1320 ق.

15 - تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن). أبو عبدالله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (م 672)، الطبعة الثانية، 24 مجلّداً، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1405ق / 1985 م.

16 - التفسير الكبير. محمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي (544 - 606)، الطبعة الثالثة، 32 جزءاً في 16 مجلّداً، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1411 ق.

17 - تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي. المولى علي الروزدري (م 1290)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة مهر، 1409 ق.

18 - التوحيد. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق

ص: 368

(م 381)، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1398 ق.

19 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

20 - تهذيب الوصول إلى علم الاُصول. العلاّمة الحلّي جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري، الطبعة الاُولى، لندن، مؤسّسة الإمام علي علیه السلام ، 1421 ق / 2001 م.

«ج»

21 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام. الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (م 1266)، تحقيق الشيخ عبّاس القوچاني، الطبعة الثالثة، 43 مجلّداً، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1367 ش.

22 - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر (648 - 726)، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق.

«ح»

23 - الحاشية على تهذيب المنطق. المولى عبدالله بن شهاب الدين الحسيني اليزدي (م 981)، الطبعة العاشرة، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1421 ق.

24 - حاشية كفاية الاُصول. الميرزا أبو الحسن المشكيني (م 1358)، تحقيق الشيخ سامي الخفّاجي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، منشورات دار الحكمة، 1413 ق.

25 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«خ»

26 - الخصال. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ

ص: 369

الصدوق (م 381)، تصحيح علي أكبر الغفّاري، الطبعة الثانية، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1403 ق.

«د»

27 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

28 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية. الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي (م 786)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1412 - 1414 ق.

29 - ديوان امرئ القيس. تحقيق الدكتور عمر فاروق الطبّاع، بيروت، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم.

«ذ»

30 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة. الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي (م 786)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

«ر»

31 - رسائل ابن سينا. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، قم، نشر مكتبة البيدار، 1400 ق.

32 - روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان. الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911 - 965)، تحقيق مركز الأبحاث والآثار الإسلامية، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1422 ق.

33 - رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل. السيّد علي بن محمّد علي الطباطبائي (1161 - 1231)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 14 مجلّداً، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1412 - 1423 ق.

ص: 370

«س»

34 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 - 598)، إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1410 - 1411 ق.

«ش»

35 - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602 - 676)، تحقيق عبدالحسين محمّد علي بقّال، الطبعة الثالثة، 4 أجزاء في مجلّدين، قم، مؤسّسة إسماعيليان، 1409 ق.

36 - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك. عبدالله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري (698 - 769)، الطبعة الرابعة عشرة، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1384 ق / 1964 م.

37 - شرح الرضيّ على الكافية. رضيّ الدين محمّد بن الحسن الأسترآبادي النحوي (م 688)، تصحيح يوسف حسن عمر، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، تهران، منشورات مؤسّسة الصادق، 1398 ق/ 1978 م.

38 - شرح الشمسية. قطب الدين محمود بن محمّد الرازي (م 766)، الطبعة الحجرية، طهران، انتشارات علميه إسلامية، 1304 ق.

39 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب. القاضي عبدالرحمان بن أحمد بن عبد الغفّار، تصحيح أحمد رامز الشهير بشهري المدرّس بدار الخلافة، إسلامبول، مطبعة العالم، 1307 ق.

40 - شرح المطالع. قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي (م 766)، قم، انتشارات الكتبي.

41 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

42 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812)، تصحيح السيّد

ص: 371

محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

43 - شرح تجريد العقائد. علاء الدين علي بن محمّد القوشجي (م 879)، الطبعة الحجرية، قم، منشورات الشريف الرضيّ - بيدار.

44 - شرح حكمة الإشراق. محمّد بن مسعود بن مصلح المشهور بقطب الدين الشيرازي (م 710)، قم، انتشارات بيدار.

45 - شرح منازل السائرين. كمال الدين عبدالرزّاق القاساني (م 736)، تحقيق محسن بيدارفر، الطبعة الاُولى، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق / 1372 ش.

46 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، تحقيق عدّة من الأساتذة، 10 مجلّداً ( الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

47 - الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي، تصحيح السيّد جلال الدين الآشتياني، الطبعة الثانية، مشهد، مركز نشر دانشگاهى، 1360 ش.

«ص»

48 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية). إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)، تحقيق أحمد عبدالغفور عطّار، الطبعة الرابعة، 6 مجلّدات، بيروت، دار العلم للملايين، 1407 ق / 1987 م.

49 - الصلاة. المحقّق الحائري (م 1355)، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1362 ش.

50 - الصلاة، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 6 - 8. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، المكتبة الفقهية، 1415 ق.

«ط»

51 - الطلب والإرادة، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

ص: 372

52 - الطهارة، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 1 - 5. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، المكتبة الفقهية، 1415 ق.

«ع»

53 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية. محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403 ق.

54 - العين. أبو عبدالرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 175)، تحقيق الدكتور مهديّ المخزومي وإبراهيم السامرائي، 8 مجلّدات، بيروت، دار ومكتبة الهلال.

«غ»

55 - غرر العوائد من درر الفوائد. الميرزا محمّد الثقفي الطهراني، مطبعة الحيدرية، 1389 ق.

«ف»

56 - الفتوحات المكّية. أبو عبدالله محمّد بن علي الحاتمي الطائي المعروف بابن العربي (560 - 638)، 4 مجلّدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

57 - فرائد الاُصول، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق / 1377 ش.

58 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية. محمّد حسين بن عبدالرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ق. «بالاُفست عن الطبعة الحجرية».

59 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه). أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي

المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة

ص: 373

الرابعة، 4 مجلّدات، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، 1377 ق / 1957م.

60 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404ق.

«ق»

61 - قواعد الأحكام في مسائل الحلال والحرام. العلاّمة الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي (648 - 726)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1413 ق.

62 - قوانين الاُصول. المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231)، مجلّدان، الطبعة الحجرية، المجلّد الأوّل، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378، والمجلّد الثاني، طهران، المستنسخة سنة 1310 ق.

«ك»

63 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

64 - كامل الزيارات. أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي، الشيخ جواد القيّومي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة نشر الفقاهة، 1417 ق.

65 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

66 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

ص: 374

67 - كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام». محمّد باقر بن محمّد مؤمن الشريف الخراساني السبزواري (1017 - 1090)، تحقيق الشيخ مرتضى الواعظي الأراكي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1423 ق.

«ل»

68 - لمحات الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«م»

69 - مبادئ الوصول إلى علم الاُصول. العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي (648 - 726)، تحقيق عبدالحسين محمّد علي البقّال، الطبعة الثالثة، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404 ق.

70 - مجمع البيان في تفسير القرآن. أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (حوالي 470 - 548)، تحقيق وتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي والسيّد فضل الله اليزدي الطباطبائي، الطبعة الاُولى، 10 أجزاء في 5 مجلّدات، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.

71 - المحاسن. أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (م274 أو 280)، تحقيق جلال الدين الحسيني الاُرموي، الطبعة الثانية، قم، دار الكتب الإسلامية.

72 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام. السيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي (م 1009)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 8 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1410 ق.

73 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 - 965)، تحقيق مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الاُولى، 15 مجلّداً، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، 1413 - 1419 ق.

74 - مستند الشيعة في أحكام الشريعة. أحمد بن محمّد مهديّ النراقي (م 1245)، تحقيق

ص: 375

مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 18 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1415 - 1420 ق.

75 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري). الميرزا أبو القاسم الكلانتري (1236 - 1292)، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1425 ق.

76 - المطوّل في شرح تلخيص المفتاح. سعد الدين التفتازاني الهروي مسعود بن عمر بن عبدالله (م 792)، وبهامشه حاشية المير سيّد شريف، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفى، 1407 ق.

77 - معارج الاُصول. المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676)، إعداد محمّد حسين الرضوي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام ، 1403 ق.

78 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول». أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011)، تحقيق لجنة التحقيق، الطبعة الحادي عشر، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

79 - معاني الأخبار. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح علي أكبر الغفّاري، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1361 ش.

80 - المعتمد في اُصول الفقه. أبو الحسين محمّد بن علي بن الطيّب البصري المعتزلي (م 436 ق / 1044م)، الطبعة الاُولى، مجلّدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1403 ق.

81 - مفاتيح الاُصول. السيّد محمّد الطباطبائي (م 1242)، الطبعة الحجرية، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

82 - مفتاح العلوم. أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمّد بن علي السكّاكي (م 626)، بيروت، دار الكتب العلمية، 1348 ق.

83 - مقالات الاُصول. الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361) ، تحقيق الشيخ محسن

ص: 376

العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1414 - 1420 ق.

84 - منية الطالب في شرح المكاسب (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري (1254 - 1363)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1424 ق.

85 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ،

الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

86 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي). الشيخ حسينعلي المنتظري، الطبعة الاُولى، قم، نشر تفكّر، 1415 ق.

87 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي). الشيخ محمّد تقيّ البروجردي النجفي (م 1391)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405 ق.

88 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة

آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

89 - النهاية في غريب الحديث والأثر. مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمّد بن محمّد الجزري المعروف بابن الأثير (544 - 606)، تحقيق طاهر أحمد التراوي ومحمود محمّد الطناحي، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة إسماعيليان، 1364 ش.

«و»

90 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى،

ص: 377

30 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1409 ق.

91 - وقاية الأذهان مع رسالتي سمطا اللآل في مسألتي الوضع والاستعمال وإماطة الغين عن استعمال العين في معنيين. الشيخ أبو المجد محمّد رضا بن محمّد حسين النجفي الأصفهاني، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1413 ق.

«ه»

92 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين. الشيخ محمّد تقيّ الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420 - 1421 ق.

ص: 378

7 - فهرس الموضوعات

مقدّمة موسوعة الإمام الخميني(س) ··· ه

مقدّمة التحقيق ··· ط

مقدّمة بقلم آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني ··· يد

المقدّمة

وفيها اُمور :

الأمر الأوّل: في موضوع علم الاُصول وتعريفه ··· 3

اعتبارية وحدة العلم ··· 3

تدريجية تكامل العلوم ··· 3

عدم لزوم موضوع واحد لكلّ علم ··· 4

تنبيه: فيما به امتياز العلوم ··· 8

بحث وتحقيق: في تعريف الاُصول ··· 9

في تحقيق المقام ··· 13

الأمر الثاني: في الواضع وكيفية الوضع ··· 16

حقيقة الوضع ··· 18

الأمر الثالث: في أقسام الوضع ··· 20

نقل وتنقيح: تصوير المحقّق العراقي لعموم الوضع والموضوع له ··· 21

ص: 379

وهم ودفع: تخيّل امتناع عموم الوضع وإبطاله ··· 24

تنبيه: في المراد بالعموم في الوضع ··· 25

الأمر الرابع: في أمثلة أقسام الوضع ··· 27

القول في معاني الحروف ··· 28

بحث وتحقيق: في بيان بعض أقسام الحروف ··· 32

في الخلط من بعض الأعاظم ··· 33

في كلام بعض المحقّقين ··· 35

دفع وهم: ردّ مقالة المحقّق العراقي في مدلول الحروف ··· 38

تكميل: في أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ ··· 40

نقل كلمات الأعلام في وضع الحروف ونقدها ··· 40

القول في معاني الهيئات ··· 45

تنبيه: في الجمل التامّة وغير التامّة ··· 50

الكلام في الإنشاء والإخبار ··· 53

في أنحاء الإنشاء ··· 53

الكلام في ألفاظ الإشارات وأخواتها ··· 54

تنبيه: في أنّ معاني الحروف ليست مغفولاً عنها ··· 57

الأمر الخامس: في المجاز ··· 60

التحقيق في المجاز ··· 62

استعمال اللفظ في اللفظ ··· 64

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ··· 64

إطلاق اللفظ وإرادة مثله ··· 66

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه ··· 66

الأمر السادس: في أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعاني ··· 70

الأمر السابع: في الهيئات ··· 73

ص: 380

تنبيه: في الموضوع له في الهيئات ··· 75

تتميم: في تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركّب ··· 77

الأمر الثامن: في العلائم التي يمتاز بها المعنى الحقيقي من غيره ··· 79

التبادر ··· 80

في طرق إحراز كون التبادر من حاقّ اللفظ ··· 81

صحّة الحمل ··· 82

صحّة السلب ··· 83

الاطّراد وعدمه ··· 84

الأمر التاسع: في تعارض الأحوال ··· 86

الأصل في صورة دوران الأمر بين النقل وغيره ··· 87

الأصل في صورة الشكّ في تقدّم النقل على الاستعمال وتأخّره عنه ··· 87

الأمر العاشر: في الحقيقة الشرعية ··· 91

الأمر الحادي عشر: في المبحث المعروف بالصحيح والأعمّ ··· 94

ونذكر قبل المقصد مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في اختلاف كلماتهم في عقد البحث ··· 94

المقدّمة الثانية: في الإشكال على التعبير عن المبحث بالصحيح والأعمّ ··· 95

المقدّمة الثالثة: في تعيين محلّ النزاع ··· 98

المقدّمة الرابعة: في لزوم تصوير الجامع ··· 102

التحقيق في تصوير الجامع ··· 109

المقدّمة الخامسة: في الثمرة بين القول بالصحيح والأعمّ ··· 111

الثمرة الاُولى: جريان أصل البراءة ··· 111

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بالإطلاق على الأعمّ ··· 114

حول أدلّة الصحيحي والأعمّي ··· 115

الإشكال في استدلال الصحيحي بالتبادر ··· 115

ص: 381

الإشكال في استدلال الصحيحي بصحّة السلب ··· 117

دفع الإشكال وتصحيح دعوى التبادر للصحيحي ثبوتاً ··· 118

استدلال الأعمّي بصحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في الأمكنة المكروهة ··· 120

القول في المعاملات ··· 122

يتمّ الكلام فيها في ضمن اُمور:

الأوّل: في عدم جريان النزاع بناءً على الوضع للمسبّبات ··· 122

الثاني: في اختلاف الشرع والعرف في المقام ··· 123

الثالث: في حال التمسّك بالإطلاق لو كانت الأسامي للمسبّبات ··· 124

خاتمة: في تصوير جزء الفرد في المركّبات الاعتبارية ··· 127

الأمر الثاني عشر: في الاشتراك ··· 129

الأمر الثالث عشر: في استعمال اللفظ في أكثر من معنىً ··· 131

أدلّة الامتناع والجواب عنها ··· 132

الأمر الرابع عشر: في المشتقّ ··· 138

قبل تحقيق المقام لابدّ من تقديم اُمور:

الأوّل : في كون النزاع لغوياً ··· 138

الثاني: في العناوين الداخلة في محلّ النزاع ··· 139

كلام فخر المحقّقين في الرضاع ··· 141

الثالث: في خروج أسماء الزمان عن محطّ البحث ··· 145

الرابع: في وضع المشتقّات ··· 148

وفيها جهات:

الاُولى: في كيفية وضع المادّة ··· 148

الثانية: في وضع الهيئات ··· 152

الثالثة: في كيفية دلالة الفعل المضارع على الحال ··· 154

الخامس: في اختلاف مبادئ المشتقّات ··· 155

ص: 382

السادس: في المراد ب«الحال» ··· 157

السابع: في امتناع تصوير الجامع على الأعمّ ··· 158

التحقيق كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس ··· 160

نقد الوجوه التي استدلّ بها للأعمّ ··· 161

بقي اُمور:

الأوّل: في بساطة المشتقّ وتركيبه ··· 164

تحقيق المقام ··· 167

استدلال المحقّق الشريف على بساطة المشتقّ ونقده ··· 168

الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه ··· 171

الثالث: كلام صاحب الفصول ومناقشته ··· 173

الرابع: في الإشكال على الصفات الجارية على ذاته تعالى ··· 175

المقصد الأوّل: في الأوامر

الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بمادّة الأمر ··· 181

وفيه اُمور:

الأمر الأوّل: في معاني لفظ الأمر ··· 181

تنبيه: ··· 182

الأمر الثاني: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر ··· 183

الأمر الثالث: في دلالة مادّة الأمر على الوجوب ··· 184

الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر ··· 186

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل: في أنّ صيغة الأمر موضوعة للبعث والإغراء ··· 186

المبحث الثاني: في المعاني الاُخر لهيئة الأمر ··· 188

ص: 383

المبحث الثالث: في أنّ الهيئة تدلّ على الوجوب أم لا؟ ··· 189

منشأ ظهور الصيغة في الوجوب ··· 192

تتميم: في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء ··· 199

المبحث الرابع: في التعبّدي والتوصّلي وأنّ مقتضى الأصل ماذا؟ ··· 200

ويتمّ البحث بتقديم اُمور:

الأوّل: في معنى التعبّدية والتوصّلية: ··· 200

الثاني: في إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق ··· 201

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً ذاتياً ··· 202

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً بالغير ··· 206

في تصحيح أخذ قصد الأمر بأمرين ··· 210

تتميم: في إمكان أخذ قصد المصلحة ونحوها في المتعلّق ··· 214

الثالث: في مقتضى الأصل اللفظي في المقام ··· 216

في كلام شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه ··· 216

الرابع: في تحرير الأصل العملي ··· 219

المبحث الخامس: في أصالة النفسية والعينية والتعيينية ··· 223

المبحث السادس: في المرّة والتكرار ··· 226

وقبل الخوض في المقصود نقدّم اُموراً:

الأوّل: في تحرير محلّ النزاع ··· 226

الثاني: في تعيين المراد من المرّة والتكرار ··· 228

الثالث: في وحدة الامتثال وتعدّده عند إتيان الأفراد العرضية دفعة ··· 230

التحقيق: عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار ··· 232

المبحث السابع: في الفور والتراخي ··· 233

في استدلال العلاّمة الحائري على الفورية ··· 233

في الاستدلال على الفور بالآيتين الكريمتين ··· 234

ص: 384

الفصل الثالث: في الإجزاء ··· 237

وقبل الورود في البحث لابدّ من ذكر مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في تحرير محلّ النزاع ··· 237

المقدّمة الثانية: في المراد من الاقتضاء ··· 239

المقدّمة الثالثة: في معنى «على وجهه» ··· 240

المقدّمة الرابعة: في فارق المسألة عن المرّة والتكرار ··· 240

المقدّمة الخامسة: في وحدة الأمر أو تعدّده في المقام ··· 241

إذا عرفت ما ذكر فالكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن التعبّد به ثانياً ··· 243

في تبديل الامتثال بالامتثال ··· 243

الموضع الثاني: في أنّ الإتيان بالفرد الاضطراري مقتضٍ للإجزاء ··· 248

الموضع الثالث: في الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ··· 253

وفيه مقامان :

المقام الأوّل: في أنّ الإتيان بمقتضى الأمارات هل موجب للإجزاء؟ ··· 253

المقام الثاني: في أنّ الإتيان بمؤدّى الاُصول هل يقتضي الإجزاء؟ ··· 255

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب ··· 260

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في محطّ البحث ··· 260

الأمر الثاني: في أنّ المسألة عقلية اُصولية ··· 264

الأمر الثالث: في تقسيمات المقدّمة ··· 266

تنقسم المقدّمة إلى أقسام:

منها: الداخلية والخارجية ··· 266

دفع وهم: كلام المحقّق العراقي حول ما هو خارج عن محل النزاع ··· 268

تتميم: في شمول النزاع لجميع أقسام المقدّمات الخارجية ··· 271

ص: 385

ومنها: تقسيمها إلى المقارن والمتقدّم والمتأخّر ··· 272

الإشكال في الشرط المتأخّر ··· 272

كلام المحقّق العراقي لدفع الإشكال في الشرط المتأخّر ··· 273

التحقيق في دفع الإشكال عن الشرط المتأخّر ··· 276

نقل كلام المحقّق النائيني في تحرير محطّ البحث في الشرط المتأخّر ··· 279

الأمر الرابع: في تقسيمات الواجب ··· 282

الواجب المطلق والمشروط ··· 282

والكلام في الواجب المشروط يتمّ في ضمن جهات:

الجهة الاُولى: في تصوير الواجب المشروط ··· 282

ضابط قيود المادّة والهيئة ··· 283

نقل وتحصيل: حول كلام المحقّق العراقي في الضابط في القيدين ··· 284

تذكرة: في أدلّة امتناع رجوع القيد إلى الهيئة والجواب عنها ··· 285

الجهة الثانية: في حكم الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه ··· 287

الجهة الثالثة: في إشكالات الواجب المشروط على مسلك المشهور ··· 289

الواجب المعلّق والمنجّز ··· 293

إشكال المحقّق النهاوندي على الواجب المعلّق ··· 293

إشكال المحقّق النائيني على الواجب المعلّق ··· 297

تتمّة: في دوران القيد بين الهيئة والمادّة ··· 299

حول الوجهين المنقولين عن الشيخ لترجيح رجوع القيد إلى المادّة ··· 299

الواجب النفسي والغيري ··· 305

مقتضى الأصل اللفظي عند الشكّ في الغيرية ··· 306

مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في الغيرية ··· 308

بقي في المقام تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في ترتّب الثواب والعقاب على التكاليف الغيرية ··· 310

ص: 386

التنبيه الثاني: في الإشكالات الواردة على الطهارات الثلاث ··· 315

التنبيه الثالث: في منشأ عبادية الطهارات ··· 318

الأمر الخامس: ما هو الواجب في باب المقدّمة؟ ··· 321

حول ما نسب إلى صاحب المعالم في المقام ··· 321

حول ما نسب إلى الشيخ الأعظم في المقام ··· 322

حول وجوب المقدّمة الموصلة (مقالة صاحب الفصول) ··· 325

إشكالات المقدّمة الموصلة وأجوبتها ··· 325

في حال وجوب المقدّمة حال الإيصال ··· 329

التحقيق وجوب المقدّمة الموصلة ··· 333

ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة ··· 334

الواجب الأصلي والتبعي ··· 338

تتميم: في ثمرة بحث مقدّمة الواجب ··· 340

حول تأسيس الأصل في مقدّمة الواجب ··· 341

التحقيق عدم وجوب المقدّمة ··· 342

تتمّة: في مقدّمة الحرام ··· 347

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 355

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 358

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 359

4 - فهرس الأعلام ··· 361

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 365

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 367

7 - فهرس الموضوعات ··· 379

ص: 387

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.