شرح أصول الكافي للمازندراني المجلد 11

هوية الکتاب

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشارة

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

كتاب فضل القرآن

اشاره:

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - علي بن محمد، عن علي بن العباس، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن سفيان الحريري، عن أبيه عن سعد الخفاف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا سعد تعلموا القرآن، فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق، والناس صفوف عشرون ومائة ألف صف، ثمانون ألف صف امة محمد، وأربعون ألف صف من سائر الأمم، فيأتي على صف المسلمين في صورة رجل، فيسلم فينظرون إليه ثم يقولون: لا إله إلا الله الحليم الكريم، إن هذا الرجل من المسلمين نعرفه بنعته وصفته غير أنه كان أشد اجتهادا منا في القرآن، فمن هناك اعطي من البهاء والجمال والنور ما لم نعطه، ثم يتجاوز حتى يأتي على صف الشهداء فينظر إليه الشهداء ثم يقولون: لا إله إلا الله الرب الرحيم إن هذا الرجل من الشهداء نعرفه بسمته وصفته غير أنه من شهداء البحر فمن هناك، اعطي من البهاء والفضل ما لم نعطه، قال: فيتجاوز حتى يأتي [على] صف شهداء البحر في صورة شهيد فينظر إليه شهداء البحر فيكثر تعجبهم ويقولون: إن هذا من شهداء البحر نعرفه بسمته وصفته غير أن الجزيرة التي اصيب فيها كانت أعظم هولا من الجزيرة التي اصبنا فيها، فمن هناك اعطي من البهاء والجمال والنور ما لم نعطه، ثم يجاوز حتى يأتي صف النبيين والمرسلين في صورة نبي مرسل، فينظر النبيون والمرسلون إليه فيشتد لذلك تعجبهم ويقولون:

لا إله إلا الله الحليم الكريم، إن هذا لنبي مرسل نعرفه بسمته وصفته غير أنه اعطي فضلا كثيرا، قال: فيجتمعون فيأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيسألونه ويقولون: يا محمد من هذا؟ فيقول لهم: أو ما تعرفونه؟ فيقولون: ما نعرفه هذا ممن لم يغضب الله عليه، فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا حجة الله على خلقه. فيسلم ثم يجاوز حتى يأتي على صف الملائكة في سورة ملك مقرب، فتنظر إليه الملائكة، فيشتد تعجبهم، ويكبر ذلك عليهم لما رأوا من فضله، ويقولون: تعالى ربنا وتقدس إن هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته وصفته غير أنه كان أقرب الملائكة إلى الله عزوجل مقاما، فمن هناك البس من النور والجمال ما لم نلبس، ثم يجاوز حتى ينتهي إلى رب العزة تبارك وتعالى فيخر تحت العرش فيناديه تبارك وتعالى: يا حجتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيقول الله تبارك وتعالى: كيف رأيت عبادي؟ فيقول:

يا رب منهم من صانني وحافظ علي ولم يضيع شيئا ومنهم من ضيعني واستخف بحقي وكذب

ص:3

بي وأنا حجتك على جميع خلقك، فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأثيبن عليك اليوم أحسن الثواب، ولأعاقبن عليك اليوم أليم العقاب. قال: فيرفع القرآن رأسه في صورة أخرى. قال: فقلت له: يا أبا جعفر في أي صورة يرجع؟ قال: في صورة رجل شاحب متغير يبصره أهل الجمع، فيأتي الرجل من شيعتنا الذي كان يعرفه ويجادل به أهل الخلاف، فيقوم بين يديه، فيقول: ما تعرفني؟ فينظر إليه الرجل فيقول: ما أعرفك يا عبد الله، قال: فيرجع في صورته التي كانت في الخلق الأول ويقول: ما تعرفني؟ فيقول: نعم، فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك وأنصبت عيشك وفي سمعت الأذى ورجمت بالقول في، ألا وإن كل تاجر قد استوفى تجارته وأنا وراءك اليوم، قال: فينطلق به إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقول: يا رب يا رب عبدك وأنت أعلم به قد كان نصبا بي مواظبا علي، يعادي بسببي ويحب في ويبغض، فيقول الله عزوجل:

أدخلوا عبدي جنتي واكسوه حلة من حلل الجنة وتوجوه بتاج، فإذا فعل به ذلك عرض على القران، فيقول له هل رضيت بما صنع بوليك؟ فيقول: يا رب إني أستقل هذا له فزده مزيد الخير كله، فيقول: وعزتي وجلالي وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلن له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له ولمن كان بمنزلته، ألا أنهم شباب لا يهرمون وأصحاء لا يسقمون، وأغنياء لا يفتقرون، وفرحون لا يحزنون، وأحياء لا يموتون. ثم تلا هذه الآية (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى)(1) قال:

قلت: جعلت فداك يا أبا جعفر وهل يتكلم القرآن؟ فتبسم ثم قال: رحم الله الضعفاء من شيعتنا إنهم أهل تسليم، ثم قال: نعم يا سعد والصلاة تتكلم ولها صورة وخلق تأمر وتنهى، قال: سعد فتغير لذلك لوني، وقلت: هذا شيء لا أستطيع [أنا] أتكلم به في الناس، فقال أبو جعفر: وهل الناس إلا شيعتنا فمن لم يعرف الصلاة فقد أنكر حقنا، ثم قال: يا سعد اسمعك كلام القرآن؟ قال: سعد:

فقلت: بلى صلى الله عليك، فقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) (2)فالنهي كلام والفحشاء والمنكر رجال ونحن ذكر الله ونحن أكبر.(3)

* الشرح:

قوله: (يا سعد تعلموا القرآن) هو في اللغة مصدر بمعنى الجمع والقراءة، وفي العرف كلام منزل للإعجاز بسورة منه وسمي قرآنا لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، والغرض من هذا الحديث هو الحث على مدارسته وممارسته وتعلمه وفهمه وحفظه وتذكر ما فيه من الأمور الغريبة والأسرار العجيبة بقدر الوسع والإمكان، ثم التوقع لشفاعته في يوم يشفع لمحبيه من أهل الإيمان، وقد نقل عن بعض المشايخ أنه قال: كنت أحب

ص:4


1- -سورة الدخان:56.
2- -سورة العنکبوت :45.
3- -الکافی :596/2.

قراءة القرآن وأكثر منها، ثم أني اشتغلت بكتابة الأحاديث والعلم فقلت قراءتي وتلاوتي فنمت ليلة فرأيت قائلا يقول:

إن كنت تزعم حبي فلم جفوت كتابي * أما تدبرت فيه من لذيذ خطابي فانتبهت فزعا وعدت إلى قراءتي.

(فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق) تصويره بالصورة المذكورة أمر ممكن كتصوير الأعمال والأعراض بالأجسام كما نطقت به رواياتنا وروايات العامة، وذهب إليه المحققون من الطرفين فوجب أن لا يستبعد ولا ينكر تعلق القدرة القاهرة به، قال صاحب كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم: القرآن يصور بصورة ويجيء بها يوم القيامة، ويراها الناس كما تجعل الأعمال صورا، وتوضع في الميزان، ويقع فيها الوزن والقدرة صالحة لإيجاد كل ممكن والإيمان به واجب. انتهى كلامه بعبارته وإنما كان صورته أحسن الصور لأنه كلام رب العزة وهو أحب الخلق إليه فألبسه صورة هي أحسن الصور وأحبها لديه، وأيضا حسن الصورة في يوم القيامة تابع للكمال وكل كمال صوري ومعنوي موجود فيه هذا، وقيل: هذه الصورة هي صورة المسلمين على تقدير رعايته حق الرعاية والإتيان بجميع ما فيه ولكن لما لم يتيسر لهم جميع ذلك رأوه بصورتهم التي كانت لهم على تقدير الإتيان.

والظاهر أن صورة خاتم الأنبياء أحسن منه، لأن وجوده تابع لوجوده، ولولا وجوده (صلى الله عليه وآله) لم يوجد أحد من الممكنات، فوجوده أحب إليه عز وجل من جميع الممكنات. (والناس صفوف) وكذا الملائكة كما يوميء إليه والواو للحال.

(مائة وعشرون ألف صف) (كذا) بيان لصفوف أو خبر بعد خبر (ثمانون ألف صف امة محمد (صلى الله عليه وآله)) الأمة يطلق على شيعته وأتباعه وعلى عموم أهل دعوته، فيندرج فيها أصناف أهل الكفر وأكثر استعمالها في الأحاديث المعنى الأول، ولا يبعد أن يكون المراد هنا هو المعنى الثاني (وأربعون ألف صف من سائر الأمم) الكلام في الأمة كالسابق.

(فيأتي على صف المسلمين) أي من هذه الأمة على الظاهر والتعميم محتمل، والمراد بهم بعضهم الواقفون في صف واحد بقرينة الشهداء، وفي على دلالة على الإشراف والإستعلاء الموجب لرؤية الجميع. (في صورة رجل فيسلم فينظرون إليه) في التسليم بشارة لأن السلامة من الآفات دليل واضح على النجاة.

(ثم يقولون: لا إله إلا الله الحليم الكريم) فيه مع قصد التوحيد تعجب من صنعه وتوقع لكرمه وعفوه عن التقصير في العمل بالنسبة إلى عمل من رأوه كما صرحوا به.

(إن هذا الرجل من المسلمين) قالوا ذلك لأنهم رأوه في صفهم (نعرفه بنعته وصفته) خبر آخر

ص:5

والنعت وصف الشيء بما فيه من حسن، ولا يقال في القبيح. والصفة وصف الشيء بما فيه من حسن أو قبح، فهي أعم من النعت، والمراد هنا الأول ولعل المقصود أنا نعرفه بهذا الوصف، وهو كونه من المسلمين (غير أنه كان أشد اجتهاد منا في القرآن) أي في تعلمه ومدارسته والعمل بما فيه وفيه دلالة على ما ذكرنا من أن حسن الصورة تابع لكمال العلم.

(ثم يجاوز حتى يأتي على صف الشهداء) الظاهر أنهم كل من قتل بين يدي الإمام وشمول كل من له ثواب الشهداء محتمل.

(نعرفه بسمته وصفته) في المغرب السمت الطريق ويستعار لهيئة أهل الخير، فيقال: ما أحسن سمته (فيكثر تعجبهم) منشأ التعجب مشاهدة أمر غريب عظيم القدر فائق في الحسن والبهاء رائق في النور والضياء مع خفاء سببه وحقيقته.

(إن هذا لنبي مرسل) في ظننا بسبب كونه في صورة نبي مرسل، كما مر فلا يلزم الكذب (نعرفه بسمته وصفته) وهي كونه من صنف الأنبياء والمرسلين (غير أنه أعطي فضلا كثيرا) امتاز به عن سائر الأنبياء.

(ويقولون: يا محمد من هذا؟) الذي يمتاز عن سائر الأنبياء بالحسن والبهاء سألوا عن أصله ونسبه واسمه (فيقول لهم: أو ما تعرفونه؟) الاستفهام للتعجب والواو للعطف على محذوف يعني أتسألون عنه وما تعرفونه.

(فيقولون: ما نعرفه) بخصوصياته الموجبة لتعينه (هذا من لم يغضب الله عليه) يعني إنما نعرفه بهذا الوجه الذي لا يفيد تعيينه وهو أنه لم يفعل شيئا يوجب غضب الله عليه ولو كان ترك الأولى فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا حجة الله على خلقه فعلموا أنه القرآن لشيوع اطلاق الحجة عليه أو أبهم (عليه السلام) لمصلحة اطلاق الحجة على غيره أيضا شائع، ووجه كون القرآن حجة الله على العباد أنه يخبرهم بكل ما أراد الله تعالى منهم مما له مدخل في نظام دينهم ودنياهم.

(ويقولون تعالى ربنا وتقدس) أي تعالى في الشرف والرتبة عن وصف الواصفين ونعت الناعتين وتطهر عن النقائص والتشابه بالمخلوقين.

(ثم يجاوز حتى ينتهي إلى رب العزة) أي إلى عرشه أو محل مناجاته نظيره قول إبراهيم (عليه السلام):

(إني ذاهب إلى ربي) أي معبد ربي أو محل عبادته وقول موسى (عليه السلام): (عجلت إليك رب لترضى)(1) أي إلى محل مناجاتك وهو الطور.

(واشفع تشفع) شفع كمنع شفاعة طلب العفو عن ذنب أحد وشفعته تشفيعا قبلت شفاعته

ص:6


1- -سورة طه:84.

(كيف رأيت عبادي؟) في صونك وحفظك وتلاوتك ومدارستك وامتثال ما أمرت به ونهيت عنه.

(فيقول: يا رب منهم من صانني) عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين (وحافظ علي) بالتلاوة وضبط الآيات والمعاني الظاهرية والباطنية والأوامر والنواهي والمواعظ كلها، وتعدية (حافظ) ب (على) لتضمينه معنى القيام ونحوه.

(ولم يضيع شيئا) لقيامه على العمل والاجتهاد ودوامه على الامتثال والانقياد.

ومنهم من ضيع) بترك العمل والمتابعة (واستخف بحقي) بترك الدراية والمحافظة (وكذب بي) بالتحريف والتبديل والإنكار.

وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني) أقسم بعزته القاهرة وعظمته الكاملة ومرتبة الفائقة (لأثيبن عليك اليوم أحسن الثواب) وهو الذي لا نقص فيه والظاهر أن (على) للتعليل كاللام كما قيل في قوله تعالى: (لتكبروا الله على ما هداكم).

(ولأعاقبن عليك اليوم أليم العقاب) وصف العقاب باللأليم وهو المؤلم للمبالغة في شدته (فقال في صورة شاحب متغير) الشاحب بالشين المعجمة والحاء المهملة من تغير لونه من جوع أو هزال أو سفر أو غيره والوصف للتوضيح وكأن هذه الصورة هي التي حدثت بملامسة العصاة وهي موجودة أيضا في هذه الدار إلا إنها لا تراها الأبصار والصورة السابقة صورته الحقيقية التي ناشية بذاته وكمالاته، وقيل: سبب رجوعه إلى هذه الصورة سماعه الوعيد الشديد وهو وإن كان على غيره لكنه لا يخلو من التأثير في من اطلع عليه.

(يبصره أهل الجمع) على وصف التغير لكونه في موضع عال كالشمس المنكسفة وفي بعض النسخ فينكره (فيأتي الرجل من شيعتنا) من بيان للرجال أو حال عنه (الذي كان يعرفه) أريد بمعرفته معرفة تلاوته وقراءته وظاهره وباطنه بالتدبر والتفكر على قدر الإمكان كما يشعر به قوله:

(ويجادل به أهل الخلاف) من الكفار وأهل الإسلام بالإعجاز وفروع العقائد وأصولها التي من جملتها الولاية لأهلها.

(فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك وانصبت عيشك) السهر ترك النوم في الليل، سهر كفرح إذا لم ينم ليلا وأسهره غيره، وانصب التعب نصب كفرح تعب، وأنصبه غيره أتعبه، والعيش الحياة وما يعاش به ويكون به الحياة، والظاهر أن إسناد الإسهار إلى القرآن وهو سبب له مجاز عقلي كتعلقه بالليل، وتعلق الإنصاب بالعيش.

(وفي سمعت الأذى) أي في شأني ومتابعة حكمي وإجراء أمري سمعت من أعدائي وأعدائك الأذى والمكروه من القول.

(ورجمت بالقول في) الرجم القذف واللعن والشتم والطرد والرمي بالحجارة.

ص:7

(ألا وأن كل تاجر قد استوفى تجارته) يعني كل عامل يأخذ اليوم جزاء عمله ونفعه كاملا أنه شبهه بالتاجر في أنه يشتري بعمله الثواب والعقاب.

(وأنا وراءك اليوم) الوراء الخلف، والقدام ضد، يعني أنا خلفك أو قدامك نحفظك من الأهوال والمكاره، ونسوقك إلى الجنة (فزده مزيد الخير كله) المزيد والزيادة بمعنى وفي ذكره إيماء إلى طلب الزيادة الموعودة في قوله تعالى (ولدينا مزيد) مع ما فيه من المبالغة كما في التأكيد (لأنحلن له اليوم خمسة أشياء) نحله ينحله كنصره نحلا بالضم أعطاه، والاسم النحلة بالكسر والضم وهي العطاء والعطية، وأنحله أعطاه مالا خصه بشيء منه كنحله بالتشديد فيهما، فيجوز في الفعل المذكور ثلاثة أوجه.

(مع المزيد له) دل على أن المزيد غير ما أعطاه سابقا وغير هذه الخمسة، ولعل المراد به النعماء الغير المحصورة في الجنة أو تجليات الحق وأنواره كما يكون للأنبياء والأوصياء.

(ولمن كان بمنزلته) عطف على له في قوله «لأنحلن له» لا في قوله «سمع المزيد له» مع احتماله ويظهر الفرق بالتأمل (إلا أنهم شباب لا يهرمون) الشباب الفتيان وأيضا جمع شاب وهو المراد هنا (وأحياء لا يموتون) لعل المراد بالحياة الحياة الطيبة، وهي التي لا تعب ولا مشقة ولا كدرة معها، فلا يرد أن أهل النار أيضا أحياء لا يموتون، فإن حياتهم مكدرة شبيهة بالموت (ثم تلا هذه الآية (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) تشبيه الموت بالمطعوم مكنية والذوق، وهو إدراك طعم الشيء تخييلية وقد يجعل كناية عن العلم كالشم في قولنا فلان لم يشم هذه المسئلة والضمير للجنة والاستثناء إما متصل يعني لا يعلمون في الجنة الموت الواقع في أحد الأزمنة ولا يتعقلونه إلا الموتة الأولى، وهي التي بعد الحياة الدنيوية والقبرية أو منقطع يعني لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، أو أمكن ذوقها ولكنه ممتنع لأن الموتة التي قدر وقوعها وذوقها في زمان ماض لا يمكن وقوعها وذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، والمقصود على التقديرين نفي الموت منهم وثبوت الحياة الأبدية لهم.

ورام بعض المفسرين، ومنهم القاضي جعل الاستثناء متصلا، فقالوا: تارة الضمير للآخرة والموت أول أحوالها، وقالوا: تارة للجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده، فكأنه فيها.

وظني أن فيهما تكلفا، أما في الأول فلأن الظاهر بل المتعين أن الضمير للجنة وأما في الثاني فلأن مجاز المشارفة والظرفية المجازية خلاف الظاهر.

(قال: قلت جعلت فداك يا أبا جعفر، وهل يتكلم القرآن؟) قوله «وجعلت فداك» ليس في بعض النسخ والواو إما زائدة أو للعطف على مقدر - أي أتقول ذلك - وهل يتكلم القرآن، والظاهر أن المراد بالتكلم باللسان، وأن سعدا لم يشك فيه بعد سماعه من المعصوم (عليه السلام)، وإنما سأل لتقريره

ص:8

وتثبيته ذلك في الذهن لكونه أمرا مستبعدا بين الناس، فلذلك قال: لا أستطيع أتكلم به في الناس، أو قال ذلك تعجبا وفزعا، ثم استبعادهم لا وجه له لأنه من استحضر أن نسبة الكائنات إلى قدرة الله سبحانه سواء لا يستغرب شيئا من ذلك، وقال بعض المعاصرين: تكلم القرآن عبارة عن إلقائه على السمع ما يفهم منه المعنى، وهذا هو معنى حقيقة الكلام، ولا يشترط صدوره من لسان لحمي، وكذا تكلم الصلاة فإن من أتى بالصلاة بحقها أو حقيقتها نهته الصلاة عن متابعة أعداء الدين وغاصبي حقوق الأئمة الراشدين الذين من عرفهم عرف الله، ومن ذكرهم ذكر الله، وفيه أن التكلم بهذا المعنى لا يستبعده أحد.

(فقال: نعم يا سعد) أي نعم القرآن يتكلم فقوله (والصلاة تتكلم) عطف على الجملة الدالة عليها نعم (ولها صورة وخلق تأمر وتنهى) الظاهر أن لها صورة كصورة الإنسان وخلقا كخلقهم، إلا أنها لا ترى في هذه الدار لكونها دار كمون ودار تكليف.

(قال سعد: فتغير لذلك لوني) دل على أنه فهم من التكلم ما ذكرنا لا ما ذكره المعاصر وإلا لما كان للاستبعاد والتغير وجه ولا لقوله:

(وقلت: هذا شيء لا أستطيع أنا أتكلم به في الناس) وجه لأن الشيعة كلهم قائلون بتكلمه على ما ذكره ذلك المعاصر، وكذا العامة إلا في الولاية ونحوها.

(فقال أبو جعفر (عليه السلام): وهل الناس إلا شيعتنا) الاستفهام للإنكار أي ليس الناس الموصوفون بحقيقة الإنسانية إلا شيعتنا وهم يقبلون منا وإما غيرهم فهم نسناس وبهائم في صورة الناس، فطمع القبول منهم كطمعه منها.

(فمن لم يعرف الصلاة) بالوصف المذكور وهو أنها تتكلم ولها صورة وخلق تأمر وتنهى (فقد أنكر حقنا) لرده قولنا بأنها بذلك الوصف وبإنكاره تكلمه بحقنا.

(والفحشاء والمنكر رجال) تنكيرهم للتحقير أو للتكثير وأوائلهم أولهم بهذا الاسم لأن كل من سواهم من الخلفاء الأموية والعباسية والجابرين إلى يوم القيامة واتباعهم نشأوا من جورهم.

(ونحن ذكر الله) لأن الناس بنا يذكرون الله ويعبدونه.

(ونحن أكبر) من أن يذكر وصفنا الواصفون ويعرف قدرنا العارفون، وقد دلت على أنه لا يمكن معرفة وصفهم وحقيتهم روايات أخر مذكورة في محلها.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) قال:

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيها الناس إنكم في دار هدنة، وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود،

ص:9

فأعدوا الجهاز لبعد المجاز.

قال: فقام المقداد بن الأسود، فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، وما حل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويتخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص.(1)

* الشرح:

قوله: (أيها الناس أنكم في دار هدنة) يصلح أن يكون أمرا للأخبار بعده بالمصالحة مع الأشرار، ولكن له تفسير آخر يأتي ذكره.

(وأنتم على ظهر سفر) الظهر الصلب، وأيضا الإبل التي يحمل عليها ويركب والإضافة لامية وفيه على الأول مكنية وتخييلية وعلى الثاني استعارة تحقيقية بتشبيه الليل والنهار بالظهر، واستعارته لهما وفيه على التقادير مبالغة في شدة السير وسرعته والوغول فيه، كما أشار إليه بقوله:

(والسير بكم سريع) السير الذهاب والاذهاب يقال: سار يسير إذا ذهب وساره غيره إذا أذهبه كسار به، وفاعل السير الظهر، والباء على الأول للتعدية، وعلى الثاني للمبالغة فيها، ثم أشار إلى تحقق ذلك وظهوره لمن له بصيرة بقوله: (وقد رأيتم الليل والنهار) وتعاقبهما (والشمس والقمر) ودورهما.

(يبليان كل جديد) كما هو المشاهد في الحيوانات والنباتات وغيرهما من المكونات، وحسبك النظر إلى نفسك من بدء وجودك إلى كمال الشيخوخة (ويقربان كل بعيد) ألا ترى أن كل ما هو في الحال كان بعيدا في زمان نوح مثلا، وكل ما يقع في الاستقبال سيصير حالا، وما ذلك إلا بتعاقب الليل والنهار ودوران الشمس والقمر.

(ويأتيان بكل موعود) ألا ترى كيف أتيا بغاية آجال آبائك وأجدادك وكل من كان في الأعصار السابقة ولا يتفكر في أنهما سيأتيان بغاية أجلك وبما وعد الله تعالى للمطيعين والعاصين، ثم أشار إلى ما هو كالنتيجة لهذا الكلام البليغ والمقصود منه بقوله:

ص:10


1- -الکافی :598/2.

(فأعدوا الجهاز لبعد المجاز) أي لبعد الطريق وطول السفر المفتقر إلى تحمل الزاد الكافي فيه. وجهاز المسافر بالكسر والفتح ما يحتاج إليه في سفره، والمراد به هنا الطاعات والعبادات المفروضة والمندوبة.

(وما دار الهدنة) سأل عن تفسيرها لكونها مبهمة محتملة لوجوه (قال: دار بلاغ) إلى حين (وانقطاع) منها إلى الآخرة والبلاغ بالفتح اسم لما يتبلغ ويتوصل به إلى الشيء المطلوب، وبالكسر مصدر بمعنى الإجتهاد يقال: بالغ مبالغة وبلاغا إذا اجتهد. (فإذا التبست عليكم الفتن) في الدين بعدي بافتراء المفترين وانتحال المبطلين.

(كقطع الليل المظلم) شبه الفتن بها في كونها مظلمة سوداء، تعظيما لشأنها أو في أنها ساترة للمقصود مانعة من الاهتداء إليه. والوجه في المشبه به حسي وفي المشبه عقلي (فعليكم بالقرآن) أي ألزموا أحكامه وما نطق به ولا تتعدوه.

(فإنه شافع) لمن تمسك به وعمل بما فيه (مشفع) مقبول الشفاعة والمشفع بشد الفاء المفتوحة من تقبل شفاعته، وبكسرها من يقبل الشفاعة.

(وما حل مصدق) المحل الجدال والسعاية. محل به إذا سعى به إلى السلطان، يعني أنه مجادل مخاصم لمن رفضه وترك العمل بما فيه أوساع يسعى به إلى الله عز وجل مصدق فيما يقول. (ومن جعله أمامه) بأن يقر به ويعتقد بحكمه ويعمل ما فيه (قاده إلى الجنة) وأنزله في المقام اللائق بحسب اجتهاده.

(ومن جعله وراء ظهره) بإنكاره أو ترك العمل بما فيه (ساقه إلى النار) نسبة القود والسوق إليه مجاز كنسبة الفعل إلى السبب أو حقيقة باعتبار أنه يصور بصورة إنسانية في القيامة كما مر (وهو الدليل) يدل الحائرين في بيداء الضلالة والجهالة.

(إلى خير سبيل) يوصل إلى الكرامة والسعادة (وهو كتاب) رفيع الشأن عظيم القدر لا يبلغ كنه حقائقه إلا الراسخون في العلم.

(فيه تفصيل وبيان وتحصيل) لاشتماله على تفاصيل العلوم والأخلاق والآداب وغيرها، وبيان كل ما يتم به نظام الخلق في الدنيا، وتحصيل الأمور يعني تحقيقها واثباتها من حصلت الأمر إذا حققته وأثبته.

(وهو الفصل) أي الفاصل بين الحق والباطل (ليس بالهزل) لأنه جد كله والهزل واللعب من واد واحد، وهو ضد الجد.

(وله ظهر وبطن) من طريق العامة (ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن) قال ابن الأثير في النهاية: قيل: ظهرها لفظها، وبطنها معناها، وقيل: أراد بالظهر ما ظهر تأويله وعرف معناه، وبالبطن ما

ص:11

بطن، وقيل: قصصه في الظاهر أخبار، وفي الباطن عبر وتنبيه وتحذير وغير ذلك، وقيل: أراد بالظهر التلاوة وبالبطن التفهم والتفهيم.

أقول: يمكن أن يراد بالظهر ما يدل عليه اللفظ من المفهومات اللغوية وبالبطن ما يندرج تحت تلك المفهومات من الحقائق واللطائف والدقائق والأسرار التي بعضها فوق بعض، ولا يعرف جميعها إلا الطاهرون الراسخون في العلم.

(فظاهره حكم) الحكم بالضم القضاء، والحاكم منفذ الحكم والمنع، ومنه حكمة اللجام بالتحريك، وهي حديدة في فم الفرس تمنعه من مخالفة راكبه، والإحكام الإتقان، وفي الكنز حكم استوار كار شدن، ومنه الحكيم لأنه يحكم الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى مفعل يعني أن ظاهره، وهو ألفاظه وعباراته وأسلوبه وآياته حاكم قاض لنا وعلينا، أو كلام مانع من الجهل والسفه، وينهى عنهما أو محكم متقن لا إختلاف فيه ولا اضطراب.

(وباطنه) علم بتفاصيل الأشياء من المواعظ والأمثال والأحكام والأخلاق وأحوال المبدء والمعاد وغير ذلك مما ينتفع به الناس ويستقيم به نظامهم في الدنيا والآخرة.

(وظاهره أنيق) الأنق محركة الفرح والسرور والكلاء أنق كفرح والشيء أحبه وبه أعجب يعني أن ظاهره حسن معجب لاشتماله على أسلوب عجيب، وتركيب غريب، ومزايا فاخرة، ونكات ظاهرة، يتحير في حسنه الفصحاء، ويتعجب منه البلغاء.

(وباطنه) عميق لا يصل إلى قعره عقول العلماء، ولا يبلغ إلى أصله فحول الحكماء.

(له نجوم وعلى نجومه نجوم) إما مصدر بمعنى الطلوع والظهور، يقال: نجم الشيء ينجم بالضم نجوما، إذا طلع وظهر أو جمع نجم بمعنى الكوكب أو الأصل أو الوقت المضروب بحضور الشيء، والمقصود على التقادير أن معانيه مترتبة غير محصورة يظهر بعضها من بعض ويطلع بعضها عقيب بعض. (لا تحصى عجايبه) العجب الشيء الذي عظم موقعه عند الناس.

(ولا تبلى غرايبه) لأن غرائبه وهي المزايا والأسرار الخارجة عن طوق البشر البعيدة عن أفهامهم وأوهامهم، كلما أدركت مرة بعد أخرى كانت جديدة معجبة للنفس موجبة للنشاط بها والميل إليها.

(مصابيح الهدى) الهدى بضم الهاء وفتح الدال الرشاد والدلالة، والمصباح السراج، والجمع باعتبار السور والآيات، والإضافة لامية وإطلاقها على القرآن من باب الاستعارة.

(ومنار الحكمة) أي محل ظهورها والإضافة لامية، وأصله منور من النور، وهو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، والحكمة قيل: هي عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وشاع إطلاقها على العلم بالشرائع النبوية.

ص:12

(ودليل على المعرفة) أي معرفة الرب وصفاته الذاتية والفعلية أو الأعم الشامل لمعرفة ما يراد من الإنسان وما يتم به نظامهم في الدارين، وفي بعض النسخ (دليل على المغفرة).

(لمن عرف الصفة) هي إما مصدر يقال: وصف الشيء يصف وصفا وصفه إذا بين حاله وذكر أوصافه، أو نعت وهو حال الشيء وخواصه وآثاره، يعني القرآن دليل على المعرفة لمن عرف وصف القرآن للأشياء، ونطقه بأحوالها التي من جملتها الولاية إذ لا يتم المعرفة بدون معرفتها، أو لمن عرف نعته وصفته من الغرائب والعجائب والمزايا المندرجة فيه، والله أعلم.

(فليجل جال بصره) أي بصره القلبي ليدرك جواب الكلام وأطرافه وحقائق مدلولاته وأسراره، وقوله: (فليجل) إما من الجلاء، يقال: جلا السيف والمرآة أصقلهما، أو من الإجالة وهي الإرادة يقال: أجاله وبه أداره، وجال إذا دار، وفي جال قلب أصله جائل كما في شاكي السلاح.

(وليبلغ الصفة نظره) إما من البلوغ، وهو الوصول أو من الإبلاغ وهي الإيصال، فإن فعل ذلك (ينج من عطب) أي من هلاك لتميزه بين الحق والباطل والضلالة والهداية وثباته في سبيل الرشاد بمتابعة أهل العصمة والولاية.

(ويتخلص من نشب) النشب بالتحريك علوق العظم ونحوه في الحلق وعدم نفوذه فيه، وهو مهلك غالبا لسد مجرى النفس، فهو كناية عن الهلاك، ويمكن أن يراد به نشب الضلالة والجهالة والغواية على تشبيهها بطعام ذا غصة في الإضرار والإهلاك، ثم علل ذلك بقوله: (فإن التفكر) في الأسرار الإلهية واللطائف القرآنية.

(حياة قلب البصير) أي سبب لحياته، فالحمل للمبالغة، وذلك لأن التفكر سبب للعلم، والعلم سبب للحياة، كما أن الجهل سبب للموت، وإليهما يرشد قوله تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه)(1) والبصر محركة من العين حسها، ومن القلب نظره وخاطره وإدراكه بصر به كفرح وكرم صار بصيرا، أي مبصرا، والمراد به هنا العالم أو الفطن الذكي، وإضافة القلب إليه إما لامية أو بيانية وفي الجمع بينهما فائدة، وهي أنه لو لم يذكر القلب لتوهم أن المراد بالبصير البصير بالعين، ولو لم يذكر البصير لتوهم أن التفكر سبب لحياة قلب الجاهل والغبي أيضا، وليس كذلك.

(كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور) أي بنور المصباح أو المشعل والظرفان يتعلقان بيمشي أو بالمستنير أو بهما على سبيل التنازع أو الأول بالأول والثاني بالثاني أو بالعكس، وفيه تشبيه معقول بمحسوس على سبيل التمثيل لقصد الإيضاح.

(فعليكم بحسن التخلص) أي بحسن النجاة من الباطل (وقلة التربص) أي قلة الانتظار

ص:13


1- -سورة الأنعام:122.

والمكث عند الشبهات، لأن الشبهة مرض مهلك والفرار من المهلكات واجب، وإنما التربص الضروري هو قدر أن يحصل العلم بالحق، ويكفي فيه أدنى تفكر، وقد مر شرحه في آخر كتاب العقل.

* الأصل:

3 - علي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سماعة بن مهران، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن العزيز الجبار أنزل عليكم كتابه، وهو الصادق البار، فيه خبركم، وخبر من قبلكم، وخبر من بعدكم، وخبر السماء والأرض، ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجبتم).(1)

* الشرح:

قوله: (إن الله العزيز الجبار) أي الذي غلب على جميع الخلائق بالإيجاد والإفناء وجبر مفاقر العباد بكفاية أسباب المعاش والأرزاق، وأصلح نقائص حقائق الممكنات بإفاضة الوجود، وما يتبعه من الخيرات والكمالات (أنزل عليكم كتابه، وهو الصادق البار) لأنه صادق في جميع ما نطق به، ومتسع إحسانه إلى جميع الأنام، وسائق قائد لهم إلى دار السلام (فيه خبركم) خطاب للموجودين الحاضرين والغائبين على سبيل التغليب.

(وخبر من قبلكم وخبر من بعدكم) يعني فيه أخبار كل واحد واحد وبيان أحواله المختص به والمشتركة بينهم، وبين جماعة من المصائب والنوائب، وما يصدر منه، وما يرد عليه، وما يتعلق به ويراد منه على الخصوص أو العموم.

(وخبر السماء والأرض) يعني فيه خبر جوهر السماء وسكانها وحركات الأفلاك ودورانها وأحوال الملائكة ومقاماتها وحركات الكواكب ومداراتها ومنافع تلك الحركات وتأثيراتها إلى غير ذلك من الأمور الكائنة في العلويات، وفيه خبر جوهر الأرض وكيفية إيجادها وانتهائها، وخبر ما في سطحها وأرجائها، وما في تحتها وأهوائها، وخبر ما فيها من المعدنيات، وما في جوف فلك القمر من البسائط والمركبات إلى غير ذلك من الأحوال المتعلقة بالسفليات.

(ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك) أي عما في القرآن من العلوم والحقائق والأسرار والدقائق، وما كان وما يكون وما هو كائن. (لتعجبتم منه) لسمو حاله وعلو كماله ونهاية لطافته وغاية غرابته، والحاصل أنكم متعجبون منه لو علمتم ما فيه، واحتمال أنكم تتعجبون ممن يخبر عما فيه فكيف لا تتعجبون منه مع أنه مخبر عنه أيضا بعيد، لأن التعجب بعد العلم لا يستلزم التعجب قبله فتأمل.

* الأصل:

ص:14


1- -الکافی :599/2.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي، ثم امتي، ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي).(1)

* الشرح:

قوله: (ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي) هذا خبر وفي الحقيقة أمر بمتابعتهما، والتمسك بهما لئلا يضلوا، وقد روى أحمد بن حنبل في مسنده، عن أبي سعيد الخدري، ومسلم في صحيحه بإسناده إلى زيد بن أرقم عنه (صلى الله عليه وآله) مثله ذكرناه في كتاب الحجة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى، فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور).(2)

* الشرح:

(إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى) الإضافة الأولى لامية والثانية الظرفية، والدجى بالضم الظلمة وإطلاقها على الشبهة والبدعة من باب الاستعارة، كإطلاق للمنار والمصباح وهما محل النور والضوء، يعني العلم على ما في القرآن من الآيات التي أعظمها الأئمة عليهم السلام (فليجل جال.. اه) قد مر تفسيره قبيل ذلك.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي جميلة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

(كان في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه: اعلموا أن القرآن هدى النهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاته).(3)

* الشرح:

قوله: (إن القرآن هدى النهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة) كان تامة والجهد المشقة والفاقة الفقر والحاجة، والظاهر أن على متعلق بهدى ونور، وبمعنى في للظرفية كما في قوله تعالى (ودخل المدينة على حين غفلة)(4) يعني أن القرآن هدى للمؤمنين في النهار ونور لهم في الليل المظلم في حال شدة ومشقة من التباس الفتن وتوارد الشبهات، إذ يهديهم إلى الحق

ص:15


1- -الکافی :600/2.
2- -الکافی :600/2.
3- -الکافی :600/2.
4- -سورة القصص:15.

وسلوك سبيله، وفي حال الفقر والفاقة إذ يحملهم على الصبر لجزيل الأجر، أو يدفعها عنهم بالخاصية أو بعض الآيات والسور الموجبة لزيادة الرزق، وفيه حث على التزام قراءته والتذكر فيه في الليل والنهار بذكر فائدتين أحديهما: للأخروية، والأخرى للدنيوية، هذا ما خطر بالبال، والله أعلم.

* الأصل:

7 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله، عن آبائه (عليه السلام)، قال: (شكا رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وجعا في صدره، فقال (صلى الله عليه وآله): استشف بالقرآن، فإن الله عزوجل يقول: (وشفاء لما في الصدور)).(1)(2)

* الشرح:

قوله: (استشف بالقرآن) أي بقراءته مطلقا، أو على قصد الشفا، وإطلاق القرآن يقتضي أن كل آية وكل سورة شفاء، وقد روي الإستشفاء ببعض الآيات وبعض السور في خصوص بعض الأمراض، والحمد مجرب للجميع خصوصا سبعين مرة (إن الله عز وجل) يقول في وصف القرآن:

(وشفاء لما في الصدور) عمومه شامل لجميع الأمراض الصدرية من الأوجاع والأحزان والهموم والجهالات وغيرها ولا وجه لتخصيصها بالجهل.

* الأصل:

8 - أبو علي الأشعري، عن بعض أصحابه، عن الخشاب، رفعه، قال: قال أبو - عبد الله (عليه السلام): لا والله لا يرجع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر وعمر أبدا، ولا إلى بني امية أبدا ولا في ولد طلحة والزبير أبدا، وذلك أنهم نبذوا القرآن، وأبطلوا السنن، وعطلوا الأحكام، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار).(3)

* الشرح:

قوله: (لا والله لا يرجع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر وعمر أبدا.. اه) أشار (عليه السلام) إلى أن أمر الإمامة والخلافة التي هي الرئاسة العظمى، إنما يرجع إلى من علم القرآن ظاهره وباطنه وعمل به وهو علي (عليه السلام) وأهل العصمة من أولاده، لا إلى المذكورين أولادهم الجاهلين بالقرآن، النابذين له وراء ظهورهم، المعطلين لأحكامه وحدوده، التابعين لأهواء نفوسهم الأمارة، الضالين المضلين، وذلك ظاهر، لأن خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن يكون مثله عالما بالقرآن عاملا به، ليكون

ص:16


1- -الکافی :600/2.
2- -سورة الجمعة:9.
3- -الکافی :600/2.

مرجعا للخلائق في جميع ما يحتاجون إليه.

(القرآن هدى من الضلالة) «من» هنا إما لابتداء الغاية، أو بمعنى في كما في قوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) يعني أن القرآن يهدي من الضلالة، أو فيها إلى الحق ويبين سبيله (وتبيان من العمى) التبيان الكشف والإيضاح، والعمى الضلالة والجهالة، يعني أن القرآن يكشف الحق من الجهل ويوضحه.

(واستقالة من العثرة) العثرة العثار من المشي والسقوط على الوجه، واستعيرت هنا للسقوط في الذنوب، والمراد بالإستقالة طلب التجاوز عنها من الإستقالة في البيع، وهي طلب فسخه ورفع عقده، والمداومة على القرآن سبب للحفظ عنها ورفع ما وقع منها.

(ونور من الظلمة) يدفع ظلمة الشبهة والجهالة عمن تمسك به (وضياء من الأحداث) جمع الحدث، وهو الأمر المنكر الذي ليس بمعروف في السنة، يعني أنه ضياء يعرف به المعروف من المنكر ويفرق بينهما.

(وعصمة من الهلكة) لأنه يبين ما يوجب الهلاك والعقاب ويحفظ صاحبه منه (ورشد من الغواية) الغواية الضلال والانهماك في الباطل، والرشد خلافها، يعني أنه يرشد الخلائق إلى الحق والصواب وسبيل الهداية ويزجرهم عن الباطل والغي وسلوك سبيل الغواية.

(وبيان من الفتن) يظهر المقصود بأبلغ وجه ويميزه من الفتن وهي كل ما يصرف عنه (وبلاغ من الدنيا والآخرة) البلاغ الإيصال أي موصل من الدنيا بالمنع من الركون إليها والرغبة فيها إلى أمر الآخرة والحث على ما يوجب رفع الدرجة فيها.

(وفيه كمال دينكم) أي ما يوجب كماله ومنه ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما روي في تفسير قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) (1)أنه أكمله بولايته (عليه السلام).

(وما عدل عن القرآن أحد إلا إلى النار) العدول عنه يشمل إنكاره، وانكار بعضه كإنكار مخالفينا ولاية علي (عليه السلام)، وترك العمل بما فيه، فإن كل ذلك ذنب عظيم يوجب الدخول في النار.

* الأصل:

9 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن القرآن زاجر وآمر يأمر بالجنة ويزجر عن النار).(2)

* الشرح:

قوله: (يأمر بالجنة ويزجر عن النار) أي يأمر بما يوجب الدخول في الجنة، ويزجر عما يوجب الدخول في النار، وهذا في المعنى أمر بالامتثال بأمره ونهيه والمداومة عليه.

* الأصل:

ص:17


1- -سورظ المائدة :3.
2- -الکافی :600/2.

10 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن سعد الإسكاف قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اعطيت السور الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل ثمان وستون سورة، وهو مهيمن على سائر الكتب، فالتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والزبور لداود (عليهم السلام)).(1)

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعطيت السور الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل ثمان وستون سورة) في مجمع البيان الطوال: جمع «طولى» تأنيث «الأطول». وهي سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع التوبة، لأنهما تدعيان القرينتين، ولذلك لم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وقيل: السابعة سورة يونس، وإنما سميت هذه السور الطوال لأنهما أطول سور القرآن، والمثاني قيل: هي جمع مثنى كمعنى ومعاني، وقال الفراء: جمع مثناة، وهي أيضا سبع سور: سورة يونس، وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل وإنما سميت مثاني لأنها تثنت الطول، أي تلتها فكان الطول المبادي، والمثاني لها ثواني، وقيل المثاني: سور القرآن طوالها وقصارها من قوله تعالى: (كتابا متشابها مثاني) ووجه التسمية أنها يثنى فيه الحدود والأمثال، وقيل هي سورة الحمد، وهو المروي عن الأئمة (عليهم السلام) سميت بذلك لأنها تثنى في كل صلاة وكل سورة تكون مائة آية أو فويق ذلك أو دوينه، وهي أيضا سبع سور بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون. وقيل: المئون ما ولى السبع الطول والمثاني بعدها، وهي التي يقصر من المئين وتزيد عن المفصل سميت مثاني لأن المئين مبادئها وهي مثانيها، والمفصل ما بعد الحواميم إلى آخر القرآن، وهو ثمان وستون سورة طواله من سور محمد (صلى الله عليه وآله) إلى النبأ، ومتوسطاته منه إلى الضحى، وقصاره منه إلى آخر القرآن وسمي مفصلا لكثرة الفصول ببسم الله الرحمن الرحيم.

وفي النهاية السابعة من الطول، وهي التوبة ولم يذكر الأنفال لا إنفرادا ولا إنضماما معها.

وفي القاموس المثاني القرآن أو ما ثني به منه مرة بعد مرة أو الحمد أو البقرة إلى براءة أو كل سورة دون الطول ودون المئين وفوق المفصل أو سورة الحج والنمل والقصص والعنكبوت من النور والأنفال ومريم والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والملائكة وإبراهيم وص ومحمد (صلى الله عليه وآله) ولقمان والغرف والزخرف والمؤمن والسجدة والأحقاف والجاثية والدخان والأحزاب.

أقول: في قوله من قال إن المثاني بعد المئين؟ وأقصر منها نظر لأنه إن أراد أنها أقصر بحسب

ص:18


1- -الکافی :601/2.

الآية ورد عليه أن سورة يونس أقل بحسب الآية من بني إسرائيل والكهف والأنبياء والمؤمنون وهود والنحل أقل بحسبها من المؤمنون وسورة يوسف بحسبها مساو لبني إسرائيل والكهف والأنبياء وأقل من المؤمنون، وإن أريد أنها أقل بحسب الكتابة، ورد عليه أن سورة الرعد والحجر أكثر بحسب الكتابة من بني إسرائيل إلى آخر المثاني وهو المؤمنون، وسورة إبراهيم أقل بحسبها من سورة الأنبياء والحج والمؤمنون.

(وهو مهيمن على سائر الكتب) أي شاهد عليها ولولا شهادته لما علم أنها كتب سماوية لعدم بلوغها حد الإعجاز.

* الأصل:

11 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يجيىء القرآن يوم القيامة في أحسن منظور إليه صورة، فيمر بالمسلمين فيقولون: هذا الرجل منا فيجاوزهم إلى النبيين، فيقولون: هو منا فيجاوزهم إلى الملائكة المقربين، فيقولون: هو منا حتى ينتهى إلى رب العزة عزوجل فيقول: يا رب فلان بن فلان أظمأت هواجره وأسهرت ليله في دار الدنيا، وفلان بن فلان لم أظمأ هواجره، ولم أسهر ليله، فيقول تبارك وتعالى: أدخلهم الجنة على منازلهم، فيقول فيتبعونه فيقول للمؤمن: إقرأ وارقه، قال: فيقرء ويرقى حتى يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي له فينزلها.(1)

* الشرح:

قوله: (اظمأت هواجره وأسهر ليله في دار الدنيا) الهواجر جمع الهاجرة، وهي نصف النهار عند إشتداد الحر أو من زوال الشمس إلى العصر سمي بذلك لأن الناس يهاجرون فيه من شدة الحر ويستكنون في بيوتهم، وإسناد الإظماء والإسهار إلى القرآن إسناد مجازي، لكونه سببا لهما وكذا تعلقهما بالهواجر، والليل تعلق مجازي لكونهما ظرفا لهما.

(وفلان ابن فلان لم أظمأ هواجره ولا أسهر ليله) قيل: هذا مجاز عقلي بالاتفاق، ولا يصدق عليه تعريفه لأنه إسناد الشيء إلى غير ما هو له وإيقاعه على غير ما حقه أن يوقع عليه وفيه نفي الإسناد ونفي التعلق، وأجيب بأن المتصف بالتجوز هو الإسناد والتعلق بحسب الذات مع قطع النظر عن النفي والإثبات، فكما أنهما متصفان بالتجوز في حال الإثبات كذلك متصفان به في حال النفي، (فيقول للمؤمن:) الذي عمل به في الليل والنهار (اقرأ وارقه) رقى إليه كرضى صعد كارتقى وترقى، والهاء للوقف (قال: فيقرأ ويرقى) أي يقرأ آية ويصعد درجة فوق الأولى وهكذا.

(حتى يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي له فينزلها) الفعلان وهما يبلغ وينزل، إما من البلوغ

ص:19


1- -الکافی :601/2.

والنزول، أو من الإبلاغ والإنزال، وكل رجل على الأول فاعل، وعلى الثاني مفعول.

* الأصل:

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن يونس بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان فيه النعم وديوان فيه الحسنات وديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات، فتستغرق النعم عامة الحسنات، ويبقى ديوان السيئات فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة، فيقول: يا رب أنا القرآن، وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي، ويطيل ليلة بترتيلي، وتفيض عيناه إذ تهجد، فأرضه كما أرضاني، قال: يقول العزيز الجبار: عبدي ابسط يمينك فيملأها من رضوان الله العزيز الجبار، ويملأ شماله من رحمة الله، ثم يقال: هذه الجنة مباحة لك، فأقرأ واصعد، فإذا قرأ آية صعد درجة).(1)

* الشرح:

قوله: (إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة) في مصباح اللغة الديوان جريدة الحساب، ثم أطلق على موضع الحساب، وهو معرب، والأصل دوان فأبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف، ولهذا يرد في الجمع إلى أصله دواوين وبالتصغير دويوين لأن التصغير وجمع التكسير يردان الأسماء إلى أصولها، ودونت الديوان أي وضعته وجمعته.

(فتستغرق النعم عامة الحسنات) أي جميعها، وفي لفظ الاستغراق إيماء إلى أنه يبقى بعض النعم، بل أكثرها بلا مقابل له من الحسنات أي جميعها.

(ويطيل ليله بترتيلي) في الصحاح الترتيل في القراءة الترسل والتبيين بغير بغي وكلام رتل بالتحريك أي مرتل، وفي القاموس الرتل محركة حسن تناسق الشيء، والحسن من الكلام، والطيب من كل شيء، ورتل الكلام ترتيلا أحسن تأليفه، وترتل فيه ترسل. وفي النهاية الترتيل الجودة، وتبيين الحروف بحيث يتمكن السامع عندها، وقال بعض الأصحاب: هو حفظ الوقوف وأداء الحروف أي كمال أدائها.

والإطالة كناية عن السهر وترك النوم، لأن الليل عند الساهر طويل. (وتفيض عيناه إذا تهجد) التهجد النوم في الليل، والإستيقاظ فيه ضد والمراد هنا هو الثاني. (فأرضه كما أرضاني.. إلى آخره) تلاوته وترتيله من جملة الحسنات التي قوبلت بالنعماء لكن شفاعته المقبولة سبب للنجاة وعلو الدرجات ورفع السيئات، ولعل بسط اليمين وملؤها من الرضوان، وملء الشمال من الرحمة

ص:20


1- -الکافی :602/2.

من باب التمثيل لأن كل من أخذ شيئا من غيره أخذه بيمينه وشماله.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي). وكان (عليه السلام) إذا قرأ (مالك يوم الدين) يكررها حتى كاد أن يموت.(1)

* الشرح:

قوله: (لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) أراد أن من كان معه القرآن بالتلاوة والتدبر في آياته والتفكر فيما فيه من أسراره وأحكامه وقصصه وحكاياته لا يستوحش من الوحدة ولا يهتم بالانقطاع عن الخلق، والظاهر أن المراد بالموت المعنى المعروف مع احتمال أن يراد به انقطاع الخلق كلهم عنه إذ فيه موت نفوسهم بالضلالة والجهالة. (وكان إذا قرأ (مالك يوم الدين) يكررها حتى كاد أن يموت) خوفا من ملاحظة عظمة المالك وكمال كبريائه وجبروته ومشاهدة شدائد ذلك اليوم وأهواله وأحوال الخلائق فيه.

* الأصل:

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن إسحاق بن غالب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إذا جمع الله عزوجل الأولين والآخرين إذا هم بشخص قد أقبل لم ير قط أحسن صورة منه، فإذا نظر إليه المؤمنون وهو القرآن قالوا: هذا منا هذا أحسن شيء رأينا، فإذا انتهى إليهم جازهم، ثم ينظر إليه الشهداء، حتى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم، فيقولون: هذا القرآن فيجوزهم كلهم حتى إذا انتهى إلى المرسلين، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم حتى ينتهي إلى الملائكة فيقولون: هذا القرآن فيجوزهم ثم ينتهي حتى يقف عن يمين العرش فيقول الجبار: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأكرمن اليوم من أكرمك، ولاهينن من أهانك).(2)

* الشرح:

قوله: (ثم ينظر إليه الشهداء حتى إذا انتهى إلى آخرهم.. اه) هذا لا ينافي ما دل عليه الخبر الأول من أنهم لا يعرفونه، وأنهم يقولون هذا منا، لوجهين: الأول أنهم لم يعرفوه في بادي النظر، فقالوا ذلك ثم بعد التفكر أو الإلهام عرفوه، وقالوا: هو القرآن، ومثل ذلك كثير شائع. والثاني أن القائل بعضهم والقائل الثاني بعض آخر، وبالجملة لا منافاة عند مغايرة الوقتين أو مغايرة القائلين.

ص:21


1- -الکافی :602/2.
2- -الکافی :602/2.

باب فضل حامل القرآن

اشاره:

1اشاره - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي، عن سليمان بن الجعفر الجعفري، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلال النبيين والمرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكانا [عليا]).(1)

* الشرح:

قوله: (إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين) المراد به من تعلمه وحفظه وواظب على تلاوته والعمل بما فيه، فإن كل ذلك يصدق عليه أن من أهل القرآن بل صدقه على العامل أولى من صدقه على القارئ، لأن العمل هو المقصود بالذات، والقراءة تابعة وصدقة على القارئ العامل أولى من صدقه على أحدهما.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة).(2)

* الشرح:

قوله: (الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة) من طريق العامة «مثل الماهر بالقرآن مثل السفرة» في النهاية هم الملائكة جمع سافر، والسافر في الأصل الكاتب سمي به لأنه يبين الشيء يوضحه، قوله تعالى: (بأيدي سفرة كرام بررة)(3)وفي كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم هو الملائكة سموا بذلك لنزولهم بما يقع به الصلاح بين الناس تشبيها بالسفير، وهو الذي يصلح بين الرجلين، وقيل: لأنهم يسفرون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام بالوحي، وقيل: هم الكتبة من الملائكة، لأنهم ينتسخون الكتب من اللوح المحفوظ، وقيل: هم الأنبياء، لأنهم سفراء بينه تعالى وبين عباده.

والمراد بكونهم كراما أنهم أعزاء على الله تعالى أو متعطفون على المؤمنين، مستغفرون لهم.

وبكونهم بررة أنهم مطيعون له تعالى، فاعلون للخيرات، منزهون عن النقائص والسيئات. والظاهر

ص:22


1- -الکافی :603/2.
2- -الکافی :603/2.
3- -سورة عبس :16.

أن المراد بكونه الحافظ للقرآن معهم أنه معهم في درجتهم ومنازلهم في الآخرة ورفيق لهم فيها لاتصافه بصفتهم في جملة كتاب الله عز وجل، وقيل: المراد أنه عامل بعملهم كما يقال: فلان مع بني فلان، أي في الرأي والمذهب، كما قال لوط (عليه السلام): (ونجني ومن معي).. الآية.

* الأصل:

3 - وبإسناده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تعلموا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل شاحب اللون، فيقول له القرآن: أنا الذي كنت أسهرت ليلك، وأظمأت هواجرك، وأجففت ريقك، وأسلت دمعتك أؤول معك حيثما الت، وكل تاجر من وراء تجارته، وأنا اليوم لك من وراء تجارة كل تاجر، وسيأتيك كرامة [من] الله عزوجل فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويعطى الأمان بيمينه، والخلد في الجنان بيساره، ويكسى حلتين، ثم يقال له: إقرأ وارق، فكلما قرأ آية صعد درجة ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين، ثم يقال لهما: هذا لما علمتماه القرآن).(1)

* الشرح:

قوله: (وكل تاجر من وراء تجارته) يطلب ربحها لنفسه بنفسه في هذا اليوم وهو حاجته (وأنا لك اليوم من وراء تجارة كل تاجر) أطلب لك كل ربح يطلبه كل تاجر من تجارته، هذا محض الاحتمال، والله أعلم بحقيقة الحال.

(فيؤتى بتاج ويوضع على رأسه) التاج الإكليل، وهو ما يصاغ للملوك، ويرصع بالجواهر والجمع تيجان، والياء في الأصل واو.

(ويعطى الأمان) من العذاب والخذلان (بيمينه والخلد في الجنان بيساره) أي يعطى كتاب الأمان والخلد أو يعطى الأمان والخلد في ملكته فاستعار اليمين والشمال لأن الأخذ والقبض بهما.

(ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين) وقد يخفف العذاب عنهما إن كانا كافرين، كما يشعر به كلام بعض الأكابر.

(ويقال: هذا لما علمتماه القرآن) الظاهر أن «ما» مصدرية والقرآن مفعول ثان للتعليم، قال بعض المفسرين: إذا قال الولد عند التعلم: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وكان أبواه معذبين رفع الله تعالى عنهم العذاب ببركة تعلم الولد.

* الأصل:

4 - ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن منهال القصاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من قرأ

ص:23


1- -الکافی :603/2.

القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله عزوجل مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة، يقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غيره عاملي فبلغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، فيعطى الأمن بيمينه، والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم. قال: ومن قرأ كثيرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه الله عزوجل أجر هذا مرتين).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن) لعل المراد أن تكون القراءة دأبه وعادته، وأن تكون من باب التفهم والتدبر، لا مجرد المرة ولا مجرد النطق مع إحتماله.

(اختلط القرآن بلحمه ودمه) يعني يؤثر في ظاهره وباطنه، ويوجب استقامة أعضائه، وقلبه وجوارحه، وتستقر فيها المواعظ الربانية والنصائح القرآنية استقرارا تاما، لعدم اعوجاجها بالمعاصي المانعة من قبول الحق بعد، ومن ثم اشتهر أن التعلم في الصغر كالنقش في الحجر.

(وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة) أي كان مانعا يمنع عنه ذلك اليوم أهواله ومكارهه، وحذف المفعول للدلالة على التعميم.

(قال: ومن قرأ كثيرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه الله عز وجل أجر هذا مرتين) هذا الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة، روى مسلم بإسناده عن عائشة، قالت: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران» وفي رواية أخرى «والذي يقرؤه وهو يشتد عليه له أجران» قيل: المراد بالتتعتع التردد فيه لقلة حفظه، والأجران أحدهما في قراءة حروفه والآخر في تعبه ومشقته، وليس المراد أنه أكثر أجرا من الماهر، بل الماهر أكثر أجرا لأنه مع السفرة عليهم السلام وله أجور كثيرة وكيف يلتحق من لم يعتن بكتاب الله بمن اعتنى به حتى مهر فيه، وقيل: أحد الأجرين تعاهد المشقة في تعلمه والآخر تعاهدها من شدة حفظه ورجحه على الأول بأن به يظهر الفرق بينه وبين من لم يكن له مشقة لا بالأول إذ لكل قارىء أجران أحدهما للتعلم والحفظ، وإن لم يكن فيهما مشقة والآخر لأجل القراءة.

أقول: ظاهر رواياتنا وروايتهم هو الأول.

ص:24


1- -الکافی :603/2.

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي بن عبد الله، وحميد بن زياد، عن الخشاب، جميعا عن الحسن بن علي بن يوسف، عن معاذ بن ثابت، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أحق الناس بالتخشع في السر والعلانية لحامل القرآن، وإن أحق الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن، ثم نادى بأعلى صوته: يا حامل القرآن تواضع به يرفعك الله، ولا تعزز به فيذلك الله، يا حامل القرآن تزين به لله يزينك الله [به]، ولا تزين به للناس فيشينك الله به، من ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه، ومن جمع القرآن فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه، ولا يغضب فيمن يغضب عليه، ولا يحد فيمن يحد، ولكنه يعفو ويصفح، ويغفر، ويحلم لتعظيم القرآن، ومن اوتي القران فظن أن أحدا من الناس اوتي أفضل مما اوتي، فقد عظم ما حقر الله وحقر ما عظم الله).

* الشرح:

قوله: (إن أحق الناس بالتخشع في السر والعلانية) أي في الباطن بتقويم النفس بالأخلاق الفاضلة والعقائد الحقة الراسخة، وفي الظاهر بتسديد الجوارح والأعضاء بالأعمال الفاضلة، والأفعال الكاملة. (لحامل القرآن) المراد به القارئ العالم المتدبر فيه، العامل به، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)(1).

(وإن أحق الناس في السر والعلانية) لعل المراد بهما هنا حالة الانفراد والاجتماع (بالصلاة والصوم) وغيرهما من العبادات.

(لحامل القرآن) أذله مرتبة المراقبة بالعبادات والمحافظة عليها والأمر بها والنهي من ضياعها لما شاهد فيه من الوعد والوعيد، والأمر والتهديد، ودرجات المطيعين، ودركات الفاسقين، وعقوبات العاصين (يا حامل القرآن تواضع به) أي بسبب القرآن وحمله لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين. (يرفعك الله) في الدنيا والآخرة فتكون من المقربين (ولا تغزز به) عند الخلائق (فيذلك الله) فيهما فتكون من الهالكين.

(يا حامل القرآن تزين به) أي بالقرآن وترتيله وجواهر أسراره وحلل حقائقه ولطائف رقائقه (يزينك الله) بحلل الجنان وكرائم الإحسان، أو يمدحك في أعلى عليين وزمرة المقربين وفي الكنز زين آراستن ومدح كردن.

ص:25


1- -سورة الحشر:21.

(ولا تزين به للناس) طلبا للعزة والتقرب والمدح والإحسان منهم (فيشينك الله به) أي يعيبك الله به عند الصالحين، ويقبحك عند إكرام الحاملين العاملين لله، وفي الكنز شين عيب كردن.

(ومن ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة في جنبيه) يعني في قلبه، لأن آثار النبوة وهي كل ما أوحى الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله) دخل في قلبه تفصيلا وإجمالا فوقع التشابه.

(لكنه لا يوحى إليه) كما أوحى إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فحصل به التميز والتفارق، ثم أشار إلى بعض خواص حامل القرآن وصفاته التي ينبغي أن يكون عليها بقوله:

(ومن جمع القرآن) قراءة وعلما وعملا به (فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه) بالإستخفاف والاستهزاء، والتجبر، والتكبر، والغلظة في القول، والمعاشرة، وترك الحقوق، وأمثال ذلك، بل شأنه الملاينة والمداراة عملا بقوله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما)(1) والنول بالفتح الحظ والنصيب وما ينبغي (ولا يغصب فيمن يغصب عليه ولا يحد فيمن يحد) «في» في الموضعين بمعنى مع أو على، و «يحد» في بعض النسخ بالحاء المهملة والدال المشددة من الحدة بالكسر وهي الطيش والنزق والوثوب والخفة عند الغضب، وفي بعضها بالجيم والدال المخففة من الوجد وهو الغضب، ويقال: وجد عليه يجد وجدا وجدة وموجدة إذا غضب، ولعل المراد بقوله: «لا يغضب» زجر عن إجراء أحكامه صونا للكلام عن التكرار. والله أعلم.

* الأصل:

6 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي بن عبد الله، عن عبيس بن هشام قال: حدثنا صالح القماط، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الناس أربعة، فقلت: جعلت فداك وما هم؟ فقال: رجل اوتي الإيمان ولم يؤت القرآن، ورجل اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان، ورجل اوتي القرآن واوتي الإيمان، ورجل لم يؤت القرآن ولا الإيمان. قال: قلت: جعلت فداك فسر لي حالهم، فقال: أما الذي اوتي الإيمان ولم يؤت القرآن فمثله كمثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها، وأما الذي اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان فمثله كمثل الاس ريحها طيب وطعمها مر، وأما من اوتي القرآن والإيمان فمثله كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، وأما الذي لم يؤت القرآن ولا الإيمان فمثله كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها).(2)

* الشرح:

قوله: (قال الناس أربعة) التأنيث باعتبار الجامعة، أو المراد أربعة أصناف (فقلت: جعلت فداك وما هم؟) سأل عن صفاتهم وخواصهم التي يتميز بها كل صنف عن الآخر. (فقال: رجل أوتي

ص:26


1- -سورة الفرقان:3.
2- -الکافی :604/2.

الإيمان ولم يؤت القرآن) أريد بالإيمان التصديق بالله ورسوله وبما جاء به الرسول، وعدم إتيان القرآن شامل لعدم قدرته على قراءته وعدم قراءته مع القدرة عليها، وعدم اتخاذ قراءته دأبا وعادة. (ورجل اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان) كالمنافق الذي يقرأ القرآن.

(ورجل أوتي القرآن وأوتي الإيمان) وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتخذ القراءة دأبا وعادة. (ورجل لم يؤت القرآن ولا الإيمان) كالمنافق الذي لا يقرأ القرآن.

(قال: قلت: جعلت فداك فسر لي حالهم؟) سأل بعد معرفتهم بالصفات المذكورة عن تفسير حالهم بمثال جزئي طلبا لزيادة الانكشاف.

(فقال: أما الذي أوتي الإيمان ولم يؤت القرآن فمثله كمثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها) لعل المراد أنه لا ريح لها ريح فائق مشتهي، وإلا فللتمرة ريح في الجملة.

(وأما الذي اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان فمثله كمثل الاس ريحها طيب وطعمها مر) الاس شجر معروف واحدتها آسة.

(وأما من اوتي القرآن والإيمان فمثله كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب) الأترج بضم الهمزة والراء بينهما تاء مثناء ساكنة وآخرها جيم ثقيلة، وقد تخفف ويزاد قبلها نون ساكنة ويقال بحذف الألف مع الوجهين.

(وأما الذي لم يؤت الإيمان ولا القرآن فمثله كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها) مثل هذا الحديث موجود في كتب العامة روى مسلم بإسناده عن أنس عن أبي موسى الأشعري: قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس فيها ريح وطعمها مر» قال صاحب كتاب إكمال الإكمال: وجه التشبيه في التمثيل بالأترجة مجموع الأمرين طيب الطعم وطيب الرائحة لا أحدهما على التفريق، كما في بيت امرئ القيس:

كان قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي ولما كان طيب الطعم وطيب الرائحة في النفس المؤمنة عقليان، وكانت الأمور العقلية لا تبرز عن موصوفها ألا بتصويرها بصورة المحسوس المشاهد شبه (عليه السلام) بالأترجة الموجود فيها ذلك حسا تقريبا للفهم والإدراك، فطيب الطعم في النفس المؤمنة الإيمان، لأنه ثابت في النفس هي به طيبة باطنا كثبوته في الأترجة، وطيب الرائحة فيها يرجع إلى قراءته القرآن لأن القراءة قد يتعدى نفعها بالغير فينتفع بها المستمع كما أن طيب رائحة الأترجة يتعدى وينتفع بها المستروح أي الشام،

ص:27

بقي أن يقال لم خص التمثيل بما يخرج من الشجر من الثمار، ثم خص الأترجة دون غيرها مع وجود الأمرين في غيرها كالتفاحة؟ فيقال: في الجواب عن الأول خص الثمار للشبه الذي بينها وبين الأعمال لأن الأعمال ثمار النفوس، ويقال: في الجواب عن الثاني أما لأن وجود الأمرين في الأترجة أظهر، وأما لبقائها وعدم سرعة تغيرها، وأما لأن الجن لا يقرب البيت الذي فيه الأترجة فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا يقر به الشياطين، وأما لأن غلاف حبها أبيض فناسب قلب المؤمن، وأما لأنها أفضل الثمار كما أن المؤمن أفضل الإنسان ووجه كونها أفضل الثمار أنها جامعة للصفات المطلوبة قبل الأكل وبعده وأنها في ذاته تنقسم على الطبائع، أما قبل الأكل فكبير الجرم وحسن المنظر صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وطيب الريح، ولين اللمس اشتركت فيه الحواس الأربع: البصر، والذوق، والشم، وأما بعد الأكل فالالتذاذ بذوقها وطيب النكهة، ودباغ المعدة قوة الهضم، وأما انقسامها على الطبائع فقشرها حار يابس، ولحمها حار رطب، وحامضها بارد يابس، وبزرها حار مجفف، مع ما فيها من المنافع التي يذكرها الأطباء في المفردات، ثم قيل: خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح، لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح، فقد يذهب الريح من الجوهر ويبقى طعمه.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري قال: قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام) أي الأعمال أفضل؟ قال: (الحال المرتحل.) قلت: وما الحال المرتحل؟ قال: (فتح القرآن وختمه، كلما جاء بأوله ارتحل في آخره وقال: قال رسول الله 9: من أعطاه الله القرآن فرأى أن رجلا اعطي أفضل مما اعطي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا).(1)

* الشرح:

قوله: (قال قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام) أي الأعمال أفضل؟ قال: الحال المرتحل قلت: وما الحال المرتحل؟ قال: فتح القرآن وختمه) هذا مجمل فسره بقوله: (كلما جاء بأوله ارتحل في آخره). الحال بشد اللام النازل من حل المكان إذا نزل به والمرتحل بكسر الحاء المنتقل والإرتحال الإنتقال، وكان آخره ظرف للانتقال منه إلى أوله ولو كانت «في» بمعنى «من» لكان أظهر، ومثل هذا الحديث موجود في كتب العامة قال ابن الأثير: (هو الذي يختم القراءة بتلاوته، ثم يفتتح التلاوة من أوله شبهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحل فيه، ثم يفتح سيره) أي يبتدء به ولذلك قراء مكة إذا

ص:28


1- -الکافی :605/2.

ختموا القرآن بالتلاوة ابتدأوا وقرأوا الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة إلى قوله (هم المفلحون) ثم يقطعون القراءة ويسمون فاعل ذلك الحال المرتحل، أي أنه ختم القرآن وابتدأ بأوله ولم يفصل بينهما بزمان.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن سليمان بن رشيد، عن أبيه، عن معاوية بن عمار قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (من قرأ القرآن فهو غني ولا فقر بعده وإلا ما به غنى).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ القرآن فهو غني لا فقر بعده وإلا ما به غنى) لعل المراد من قرأ القرآن ودارسه فهو غني عن غيره، لاشتماله على أقسام العلوم وأصناف الحقائق كلها وليس بعده فقر يحوجه إلى الغير وإن لم يقرأ ما به غنى عن غيره والغير لا يغنيه منه شيئا بل ربما يضله وفي حديث العامة «من لم يتغن بالقرآن فليس منا» قال ابن الأثير: أي من لم يستغن بالقرآن عن غيره، ويحتمل أن يراد بالغنى الغنى الأخروي بسبب تلك العبادة، وهي القراءة وما يتبعها من الأخلاق الصالحة والأعمال الفاضلة وما يترتب عليها من المثوبات الجزيلة والتفضلات الجميلة يؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الغنى والفقر يظهران بعد العرض» يعني بعد العرض على الله يوم القيامة.

* الأصل:

9 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن أبي نجران، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله 9: يا معاشر قراء القرآن اتقوا الله عزوجل فيما حملكم من كتابه فإني مسؤول وإنكم مسؤولون، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب الله وسنتي).(2)

* الشرح:

قوله: (يا معاشر قراء القرآن، اتقوا الله عز وجل فيما حملكم من كتابه) أمر قارىء القرآن وحامله بالاجتناب عن عقوبة الله وسخطه في شأن القرآن بالانقياد لأوامره ونواهيه، والإتعاظ بنصائحه ومواعظه، والتسليم لأحكامه وحدوده والامتثال بها، والقيام على إجرائها على الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورغب فيه بأن كل أحد مسؤول يوم القيامة عما أمر به، فالنبي (صلى الله عليه وآله) مسؤول عن تبليغ الرسالة، وقد بلغها كما أمر، والقراء والعلماء مسؤولون عن حفظ ما بلغه (صلى الله عليه وآله) من القرآن والسنة.

ص:29


1- -الکافی :605/2.
2- -الکافی :606/2.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص قال: سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول لرجل: (أتحب البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم. فقال:

ولم؟ قال: لقراءة قل هو الله أحد، فسكت عنه فقال له بعد ساعة: يا حفص، من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علم في قبره ليرفع الله به من درجته فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال له: اقرأ وارق، فيقرأ ثم يرقى. قال حفص: فما رأيت أحدا أشد خوفا على نفسه من موسى بن جعفر (عليهما السلام) ولا أرجا الناس منه وكانت قراءته حزنا، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنسانا.(1)

* الشرح:

قوله: (فما رأيت أحد أشد خوفا على نفسه من موسى بن جعفر ولا أرجا الناس منه) يعرف خوف أحد ورجاؤه من علاماتها، وعلامة شدة الرجاء الإتيان عن كل ما يؤثم ويوجب البعد عن الحق، بل عن ترك خلاف الأولى، وعلامة شدة الخوف التحرز عن كل ما يؤثم ويوجب البعد عن الحق بل عن ترك خلاف الأولى وعلامة شدة الرجاء الإتيان بالطاعات والخيرات كلها والإقبال إليها والعكوف عليها مع غاية الخضوع والتضرع والابتهال.

(كانت قراءته حزنا) أي موجبا لحزن القلب ورقته، وقد يجعل الحزن كناية عن البكاء. (فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنسانا) لعل المراد أنه كان يبين الحروف، ولا ينثرها نثر الرمل، وهو معنى الترتيل كما سيجيء، وفيه إشعار بأنه لم يكن يقرأ بالصوت المشتمل على النغمة، وإن كان جائزا لما سيجيء.

* الأصل:

11 - علي. عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والمجتهدون قواد أهل الجنة والرسل سادة أهل الجنة).(2)

* الشرح:

قوله: (حملة القرآن عرفاء أهل الجنة) أي رؤساءهم جمع عريف وهو القيم بأمور القبيلة.

(والمجتهدون قواد أهل الجنة) القواد بالضم، والقادة جمع القائد، والمجتهدون هم الذين عملوا الكتاب والسنة النبوية ظاهرهما وباطنهما واستنبطوا ما هو المقصود منهما وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الراسخون في العلم، ثم العلماء التابعون لهم. (والرسل سادة أهل الجنة) لما أعطاهم الله تعالى من زيادة الفضل والشراف والكرامة حتى صاروا بذلك سادات أهل الجنة وسلاطينهم وغيرهم من المذكورين أمراء ورؤساء على تفاوت مراتبهم وتفاضل درجاتهم.

ص:30


1- -الکافی :606/2.
2- -الکافی :606/2.

باب من يتعلم القرآن بمشقة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (إن الذي يعالج القرآن ويحفظه بشمقة منه وقلة حفظ له أجران).(1)

* الشرح:

قوله: (من شدد عليه في القرآن) أي من شدد عليه في تعلمه وتعليمه وتحفظه وقراءته (كان له أجران) وقد مر تفسيرهما.

(ومن يسر عليه كان مع الأولين) أي من يسر عليه في تعلمه وحفظه وتلاوته كان مع الأولين الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد سماعهم من غير توان ولا تراخ أو مع الأنبياء الأولين ويؤيده قوله (صلى الله عليه وآله): «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وفيه دلالة على أن الميسر عليه أكثر أجرا من المشدد عليه.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن الصباح بن سيابة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من شدد عليه في القرآن كان له أجران ومن يسر عليه كان مع الأولين).

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد، عن سليم الفراء، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه).(2)

* الشرح:

قوله: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه) الذي يسبق إلى الأفهام من تعلم القرآن وتعليمه غالبا تحفظه بدوام الدرس والتلاوة وحملها على إطلاقها بحيث يتناول ضبطه تحفظا وتلاوة وفهما وتفقها ودراية أنسب ويدل عليه بعض أخبارنا. وكان هذا هو الأغلب عليهم في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ويؤيده ما روى من طرق العامة عن ابن مسعود قال: «كان أقرأنا للقرآن أعلمنا به ما كان أحدنا يحفظ خمس آيات فيجاوزها حتى يعلم علمها».

ص:31


1- -الکافی :606/2.
2- -الکافی :606/2.

باب من حفظ القرآن ثم نسيه

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن أبي إسحاق ثعلبة بن ميمون، عن يعقوب الأحمر، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

جعلت فداك إني كنت قرأت القرآن ففلت مني فادع الله عزوجل أن يعلمنيه، قال: فكأنه فزع لذلك، فقال: (علمك الله هو وإيانا جميعا) قال: ونحن نحو من عشرة، ثم قال: (السورة تكون مع الرجل قد قرأها، ثم تركها فتأتيه يوم القيامة في أحسن صورة وتسلم عليه فيقول: من أنت فتقول أنا سورة كذا وكذا فلو أنك تمسكت بي وأخذت بي لأنزلتك هذه الدرجة فعليكم بالقرآن) ثم قال:

(إن من الناس من يقرء القرآن ليقال: فلان قارىء، ومنهم من يقرء القرآن ليطلب به الدنيا ولا خير في ذلك، ومنهم من يقرء القرآن لينتفع به في صلاته وليله ونهاره).(1)

* الشرح:

قوله: (فقلت مني) من تفلت وأفلت وانفلت بمعنى. قوله (ثم قال إن من الناس من يقرء القرآن ليقال فلان قارىء ومنهم من يقرأ.. اه) دل على أن ثواب القراءة ليس إلا لمن قرأ القرآن اخلاصا لله تعالى ودل عليه أيضا أحاديث «إنما الأعمال بالنيات» ويؤيده ما رواه مسلم في حديث طويل «رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن أتى به يوم القيامة قال فما فملت فيها؟ قال تعلمت القرآن وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارىء، ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى ألقى في النار» قال الأبي قراءته ليتخلص به من الجهل من وجوه قراءته محبة لله تعالى، وقال ابن رشد الوعيد إنما هو لمن أصل قراءته الرياء فأما من كان أصل قراءته لله تعالى وعلى ذلك عقد فلا يضره الخطرات التي تقع بالقلب ولا يملك دفعها وإنما هي من الشيطان ليمنعه من العمل فمن وجد شيئا من ذلك فلا يكسله عن التمادي في فعل الخير وليدرأ الشيطان عن نفسه ما استطاع ويجرد النية لله تعالى.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير، عن أبي العزا، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من نسي سورة من القرآن مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة فإذا رآها

ص:32


1- -الکافی :607/2.

قال: ما أنت ما أحسنك ليتك لي؟ فيقول: أما تعرفني؟ أنا سورة كذا وكذا ولو لم تنسني رفعتك إلى هذا.(1)

* الشرح:

قوله: (ولو لم تنسني لرفعتك إلى هذا) إشارة إلى الدرجة باعتبار المقام أو المنزل.

* الأصل:

3 - ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

إن علي دينا كثيرا وقد دخلني ما كان القرآن يفلت مني، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (القرآن، القرآن، إن الآية من القرآن والسورة لتجيىء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة - يعني في الجنة - فيقول: لو حفظتني لبلغت بك هاهنا.(2)

* الشرح:

قوله: (إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة.. اه) يحتمل أن يحمل هذا على ظاهره من أن الدرجات منازل بعضها فوق بعض، وهذه صفة منازل أهل الجنة كما ورد من طرقنا وطرق العامة، وفي بعض أخبارهم «أنهم يتراؤون كالكوكب الدري» ويحتمل أن يريد به كثرة النعيم وعظمة أهل الإحسان ورفعة قدر الجزاء مما لم يخطر على قلب بشر، وإن أنواع النعيم يتباعد ما بينهما في الفضل تباعد ما بين السماء والأرض.

* الأصل:

4 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، جميعا، عن محسن بن أحمد، عن أبان بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن الرجل إذا كان يعلم السورة ثم نسيها، أو تركها ودخل الجنة أشرفت عليه من فوق في أحسن صورة فتقول: تعرفني؟ فيقول: لا، فتقول: أنا سورة كذا وكذا لم تعمل بي وتركتني أما والله لو عملت بي لبلغت بك هذه الدرجة وأشارت بيدها إلى فوقها).

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي بن عبد الله، عن العباس بن عامر، عن الحجاج الخشاب، عن أبي كهمس الهيثم بن عبيد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قرأ القرآن ثم نسيه - فرددت عليه ثلاثا - أعليه فيه حرج؟ قال: (لا).(3)

* الشرح:

قوله: (فرددت عليه ثلاثا أعليه فيه حرج؟ قال: (لا) يعني ليس فيه أثم، ولا ينافي

ص:33


1- -الکافی :607/2.
2- -الکافی :608/2.
3- -الکافی :608/2.

ذلك فوات أجر عظيم عنه.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن عبد الله بن مسكان، عن يعقوب الأحمر، قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إنه أصابتني هموم وأشياء لم يبق شيء من الخير إلا وقد تفلت مني منه طائفة حتى القرآن لقد تفلت مني طائفة منه، قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن، ثم قال: (إن الرجل لينسى السورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتى تشرف عليه من درجة من بعض الدرجات فنقول: السلام عليك، فيقول: عليك السلام من أنت؟ فتقول: أنا سورة كذا وكذا ضيعتني وتركتني أما لو تمسكت بي بلغت بك هذه الدرجة) ثم أشار بأصبعه، ثم قال: (عليكم بالقرآن فتعلموه فإن من الناس من يتعلم القرآن ليقال: فلان قارىء، ومنهم من يتعلمه فيطلب به الصوت، فيقال: فلان حسن الصوت، وليس في ذلك خير، ومنهم من يتعلمه فيقوم به في ليله ونهاره ولا يبالي من علم ذلك ومن لم يعلمه(1))

* الشرح:

قوله: (ثم أشار بأصبعه) ضمير المرفوع والمجرور راجعان إلى السورة باعتبار القرآن، ويحتمل عودهما إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، ويؤيد الأول قوله سابقا، وأشارت بيدها إلى فوقها.

ص:34


1- -الکافی :608/2.

باب في قراءته

* الأصل:

1 - علي، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية).

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، عن حفص بن غياث، عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: (آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها).(1)

* الشرح:

قوله (آيات القرآن خزائن.. الخ) إذ فيها أنواع من جواهر المعاني والأسرار والحقائق وأصناف من فرائد اللطائف والفوائد والدقائق ولذلك كان القرآن مع قلة لفظه وصغر حجمه مشتملا على جميع ما كان وما هو كائن، وما يكون إلى يوم القيامة. وفيه.

ص:35


1- -الکافی :609/2.

باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الفضيل ابن عثمان، عن ليث بن أبي سليم، رفعه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): (نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورا كما فعلت اليهود والنصارى، صلوا في الكنائس والبيع وعطلو بيوتهم، فإن البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره واتسع أهله، وأضاء لأهل السماء كما تضييء نجوم السماء لأهل الدنيا).(1)

* الشرح:

قوله: (نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن) العبادة مثل التلاوة والصلاة والدعاء ونحوها بحسب الحقيقة نور عند ذوي البصيرة الكاملة، وإنما اختفى نورانيتها عن الأكثر في هذه النشأة لمصالح لا يعلمها إلا هو، فقوله: (نوروا بيوتكم) على حقيقته، والظاهر من التلاوة حقيقتها.

ويمكن أن يراد بها الصلاة من باب تسمية الشيء باسم أشرف أجزائه ليكمل التناسب مع قوله: (كما فعلت اليهود والنصارى صلوا في الكنائس.. اه) ففيه - حينئذ - حث على فعل الصلاة في البيوت، ولا يبعد حملها على النافلة فإن السر فيها أفضل بخلاف المكتوبة، فإنها في المسجد أفضل كما دل على هذا التفصيل بعض الروايات، والحث على فعل بعض الصلاة في البيت، وقع من طرق العامة أيضا روى مسلم بإسناده عن ابن عمر، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا»، وعن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا»، وقد خص أكثرهم الصلاة بالنافلة لما رووه من حديث «صلاة أحدكم في البيت أفضل إلا المكتوبة»، وقال بعضهم:

المراد بها الفرض، وإنما أمر بفعلها في البيت ليقتدى بهم من لا يخرج بهم من النساء والعبيد والمرضى، وقال: والمتخلف عن الجماعة للصلاة في جماعة دونها ليس بمتخلف.

(ولا تتخذوها قبورا كما فعلت اليهود والنصارى.. اه) يعني لا تتخذوها مهجورة من التلاوة وهو من التمثيل البديع، لأنه شبه النائم بالميت وشبه البيت الذي لا تلاوة فيه بالقبر الذي لا تتأتى العبادة من ساكنه، لأن العمل إنما يكون من الحي ويمكن أن يكون تشبيه البيت بالقبر في معنى الظلمة، بل هو الظاهر بالنظر إلى قوله: «نوروا بيوتكم» إلى قوله فيما بعد: «وأضاء».

ص:36


1- -الکافی :610/2.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو القرآن يتراءاه أهل السماء كما يتراءا أهل الدنيا الكوكب الدري في السماء)، (1)

* الشرح:

قوله: (قال: إن البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو القرآن) ليلا ونهارا.

(يتراءاه أهل السماء) أي ينظرون ويرون، كذا في النهاية أو المراد أن بعضهم يريه بعضا كما يتراءاه أهل الدنيا الكوكب الدري في السماء تشبيه، معقول بمحسوس لقصد الإيضاح، وفي النهاية الكوكب الدري الشديد الإنارة كأنه نسب إلى الدر تشبيها بصفاته، وقال الفراء: الكوكب الدري عند العرب هو العظيم المقدر، وقيل هو: أحد الكواكب الخمسة السيارة.

* الأصل:

3 - محمد، عن أحمد، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا، عن جعفر بن محمد بن عبيد الله، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزوجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيىء لأهل السماء كما يضيىء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن، ولا يذكر الله عزوجل فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين.

ص:37


1- -الکافی :610/2.

باب ثواب قراءة القرآن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن معاذ بن مسلم، عن عبد الله ابن سليمان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قرأ القرآن قائما في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة، ومن قرأ في صلاته جالسا كتب الله له بكل حرف خمسين حسنة، ومن قرأ في غير صلاته كتب الله له بكل حرف عشر حسنات). قال ابن محبوب: وقد سمعته عن معاذ على نحو مما رواه ابن سنان.(1)

* الشرح:

قوله: (كتب الله له بكل حرف مائة حسنة.. اه) أريد به الحرف التهجي دون الكلمة، والآية كما سيجيء.

* الأصل:

2 - ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فتكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات، ويمحي عنه عشر سيئات).(2)

* الشرح:

قوله: (فيكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات، ويمحي عنه عشر سيئات) هذا المجموع أكثر من وجه مما ذكر من أنه يكتب له بكل حرف عشر حسنات، وكتابة الكل من باب التفضل، وللتفضل مراتب.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم أو غيره، عن سيف بن عميرة، عن رجل، عن جابر، عن مسافر، عن بشر بن غال الأسدي، عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: (من قرأ آية من كتاب الله عزوجل في صلاته قائما يكتب له بكل حرف مائة حسنة فإذا قرأها في غير صلاة كتب الله له بكل حرف عشر حسنات وإن استمع القرآن كتب الله له بكل حرف حسنة وإن ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن ختمه نهارا صلت عليه الحفظة

ص:38


1- -الکافی :611/2.
2- -الکافی :611/2.

حتى يسمي، وكانت له دعوة مجابة، وكان خيرا له مما بين السماء إلى الأرض). قلت: هذا لمن قرأ القرآن فمن لم يقرأ؟ قال: (يا أخا بني أسد، إن الله جواد ماجد كريم، إذا قرأ ما معه أعطاء الله ذلك.(1)

* الشرح:

قوله (وإن ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح.. اه) الظاهر من ختمه ليلا قراءة كله فيه مع احتمال أن يكون اتمامه فيه، والظاهر من الملائكة العموم مع احتمال إرادة الموكلين على أمور بني آدم أو الحفظة، وذكر الحفظ في آخر الحديث لا يؤيد الأخير، لأن الختم في الليل أشق فلا يبعد أن يكون أجره أكمل.

قوله: (فمن لم يقرأ) هكذا في أكثر النسخ وفي بعضها «فمن لم يقدر أن يقرأ» وهو بالجواب أنسب.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن سعيد، عن خالد بن ماد القلانسي، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من ختم القرآن بمكة من جمعة إلى جمعة أو أقل من ذلك أو أكثر وختمه في يوم جمعة كتب له الاجر والحسنات من أول جمعة كانت في الدنيا إلى آخر جمعة تكون فيها، وإن ختمه في سائر الأيام فكذلك).(2)

* الشرح:

قوله: (عن نضر بن سعيد) هو غير مذكور في رجال الوسيط للاسترآبادي وفي بعض النسخ «عن النضر بن سويد» ويؤيده أن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب يروي عنه، وفي بعضها عن النضر بن شعيب، والمؤيد أنه يروي عن خالد بن ماد، وإنه في هذا السند بعينه في فهرست الشيخ وأسانيد الفقيه.

(ومن ختم القرآن بمكة) وإن كان في غير المسجد (من جمعة إلى جمعة) بأن يبتدء في جمعة ويختم في جمعة بعدها (أو أقل من ذلك) بأن يبتدأ في الأربعاء مثلا ويختم في جمعة بعدها (أو أكثر) بأن يبتدء في جمعة مثلا ويختم في جمعة ثالثة فقوله: (وختمه في يوم جمعة) تفسير للختم في الجميع (كتب له من الأجر والحسنات من أول جمعة كانت في الدنيا إلى آخر جمعة تكون فيها) لعل المراد أنه كتب له أجر ختم كل جمعة في الدنيا من أولها إلى آخرها، ويحتمل أجر كل عبادة وقعت في كل جمعة في الدنيا، واشتراك الفروض الثلاثة في هذا الأجر لا

ص:39


1- -الکافی :612/2.
2- -الکافی :612/2.

يوجب التساوي من جميع الوجوه لجواز التفاوت بينهما في الفضل باعتبار قلة الزمان وكثرته وجودة التدبر والترتيل وعدمها.

(وإن ختمه في سائر الأيام فكذلك) فإن ختمه في يوم الاثنين مثلا كتب له من الأجر والحسنات من أول يوم اثنين في الدنيا إلى آخر يوم اثنين فيها.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن محمد بن مروان، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله 9: من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر، والقنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، والمثال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل احد، وأكبرها ما بين السماء إلى الأرض).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين) عدم كتب الأول من الغافلين فضيلة شريفة له، ولا يستلزم ذلك من كتبه من الذاكرين على أنه لو استلزم لأمكن أن يكون المراد الذاكرين في الجملة، والمراد بالذاكرين في الثاني الذاكرون كثيرا.

(ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين) هم المطيعون لله والقائمون بوظائف طاعته، من القنوت بمعنى الطاعة والقيام (ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين) هم الذين قاموا بوظائف العبادات القلبية والبدنية مع التذلل وسكون القلب إلى الله عز وجل.

(ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين) هم الذين ظفروا بالطاعات والخيرات ونجوا من المهلكات والعقوبات.

(ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين) هم الذين بذلوا الوسع في أمر الدين وطلب اليقين وإقامة الشرع وحفظه، والاجتهاد افتعال من الجهد وهو الطاقة.

(ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر) أي من حسنة (القنطار خمسة عشرة ألف مثقال من الذهب والمثقال أربعة وعشرون قيراطا) فالقنطار ثلاثمائة ألف قيراط وستون ألف قيراط يحصل

ص:40


1- -الکافی :612/2.

ذلك بضرب خمسة عشر ألف في أربعة وعشرين، والمقصود من ذكر هذا العدد أن له حسنات بقدره وسماها قراريط باعتبار أن الأعمال توزن (أصغرها بقدر جبل احد وأكبرها ما بين السماء إلى الأرض) هذا التفاوت مع أن القراريط متساوية في الوزن والمقدار إما باعتبار النمو فبعضها ينمو حتى يبلغ وزنه أو مقداره جبل احد، وبعضها ينمو حتى يبلغ وزنه أو مقداره ما بين السماء والأرض، على حسب تفاوت الأحوال والأوقات، وأما باعتبار أن القيراط المستعمل في بيان كمية الثواب غير ما هو المتعارف عند الناس لغة وعرفا وتساوي الأوزان والمقدار معتبر في هذا دون الأول، وهذا الوجهان ذكرهما صاحب كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم، ثم قال: وكان صاحب الصحاح أشار إلى الوجه الأخير بقوله، والقيراط نصف دانق، وأما القيراط الذي جاء في الحديث فقد جاء تفسيره فيه أنه مثل جبل احد.

أقول: وبهذا يمكن أن يوجه أيضا قوله (عليه السلام): «والمثقال أربعة وعشرون قيراطا» مع أن المعروف أنه عشرون قيراطا. واعلم أن للقنطار تفسيرا آخر سيجيء بينهما تخالف، ويمكن دفعه كما سنشير إليه.

* الأصل:

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن علي بن حديد، عن منصور، عن محمد بن بشير، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: وقد روي هذا الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من استمع حرفا من كتاب الله عزوجل من غير قراءة كتب الله له حسنة ومحا عنه سيئة ورفع له درجة ومن قرأ نظرا من غير صوت كتب الله بكل حرف حسنة ومحا عنه سيئة ورفع له درجة ومن تعلم منه حرفا ظاهرا كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات). قال: (لا أقول بكل آية ولكن بكل حرف باء أو تاء أو شبههما) قال: (ومن قرأ حرفا ظاهرا وهو جالس في صلاته كتب الله له خمسين حسنة، ومحا عنه خمسين سيئة، ورفع له خمسين درجة، ومن قرأ حرفا وهو قائم في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، ورفع له مائة درجة، ومن ختمه كان دعوة مستجابة مؤخرة أو معجلة. قال: قلت: جعلت فداك ختمه كله؟ قال: (ختمه كله).(1)

* الشرح:

قوله: (وقد روى هذا الحديث) الذي يذكره، وروي على البناء للمفعول، والظاهر هو أنه من كلام المصنف قال في بعض النسخ قال وقد روي والقائل أحد من الرواة.

ص:41


1- -الکافی :612/2.

(من استمع حرفا من كتاب الله عز وجل من غير قراءة) قوله: من غير قراءة تقييد إذ لو استمع وقرأ كان له أجر الاستماع والقراءة أو لتأكيد محتمل.

(ومن قرأ نظرا غير صلاة... اه) أي نظرا إلى القرآن بالعين أو المراد بالنظر التدبر والتفكر فيه، وفي بعض النسخ «من غير صوت».

(ومن تعلم حرفا ظاهرا.. اه) إما تميز للتعلم أو صفة ل (حرفا)، والمراد به على الأول ظاهر القلب، وعلى الثاني الحرف الملفوظ عند القراءة دون المستور، والله أعلم.

(قال: لا أقول بكل آية ولكن بكل حرف باء أو تاء أو شبههما) لما كان الحرف في اللغة تطلق على حرف التهجي وعلى الطرف، والطرف يصدق على الجملة والآية أيضا، لأن كلا منهما في طرف من الأخرى بين أن المراد هو الأول.

(ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخرة أو معجلة) تفصيل للدعوة بكونها متعلقة بأمر الآخرة أو بأمر الدنيا أو للإستجابة بأنها متحققة قطعا بالاستقبال أو بالفعل.

* الأصل:

7 - منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعت أبي (عليه السلام) يقول: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ختم القرآن إلى حيث يعلم).(1)

* الشرح:

قوله: (ختم القرآن إلى حيث يعلم) أي يعلم القارئ كلا أو بعضا، فإذا علم بعضه وقرأه ولم يقدر على غيره فله أجر ختم القرآن كله يدل عليه رواية بشر بن غالب الأسدي المذكورة في هذا الباب، وفي بعض النسخ «ختم القرآن إلى ربي حيث يعلم» لعل المراد به ما ذكرناه، وفي بعضها ربي بدل إلى ربي، والظاهر أن ضمير يعلم - حينئذ - راجع إلى الرب، ولعل المراد أن بجميع معلوماته عز وجل في القرآن، لأن معلومه شيء وكل شيء في القرآن، فمن قرأ كله فقد أحاط بجميع معلوماته تفصيلا وإجمالا، وفيه ترغيب في ختمه كله، والله أعلم.

ص:42


1- -الکافی :613/2.

باب قراءة القرآن في المصحف

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن يعقوب بن يزيد، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره، وخفف عن والديه وإن كانا كافرين).

* الأصل:

2 - عنه، عن علي بن الحسين بن الحسن الضرير، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(إنه ليعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله عزوجل به الشياطين).

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن فضال، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(ثلاثة يشكون إلى الله عزوجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه).

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن محمد بن عمر بن مسعدة، عن الحسن بن راشد عن جده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قراءة القرآن في المصحف تخفف العذاب عن الوالدين ولو كانا كافرين).

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن معاوية بن وهب، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك إني أحفظ القرآن على ظهر قلبي فأقرؤه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال لي: (بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أن النظر في المصحف عبادة).(1)

* الشرح:

قوله (أما علمت أن النظر في المصحف عبادة) فالقاريء في المصحف له أجران: أحدهما للنظر فيه، والآخر للقراءة.

ص:43


1- -الکافی :613/2.

باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سليمان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (ورتل القرآن ترتيلا) (1)قال: (قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: بينه تبيانا ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة).(2)

* الشرح:

قوله: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (ورتل القرآن ترتيلا) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) بينه تبيانا) أشار إلى أن الترتيل أداء الحروف عن مخارجها وإظهارها متميزة بحيث يقرع السمع ويمكن عدها.

(ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل)، هذ القرآن هذا أسرع في قراءته كما يسرع في قراءة الشعر، والهذ سرعة القطع ونصبه على المصدر، واعلم أنه لا خلاف بين العلماء في أن الهذ المفضى إلى لف الكلمات وعدم إقامة الحروف لا يجوز لأنه لحن، وأما بعد إقامتها فالأفضل عند علمائنا وعند أكثر العامة الترسيل والترتيل، لأنه من تحسين القراءة المأمور به في الآية، ولأنه المستفيض من كلام أهل البيت (عليهم السلام)، ولأنه مظنة التدبر والوقوف على حدوده، ورجح بعض العامة الهذ تكثيرا للأجر بعدد الكلمات، وقال مالك: من الناس من إذا هذ خف عليه، وإذا رتل خطأ، ومنهم من لا يحسن الهذ وكل واسع ولا يخفى أن من اختار الهذ لاحظ له إلا التلاوة، وأما من وفقه الله تعالى لتلاوته بتفكر وتدبر وتفهم لمعانيه واستنباط لأحكامه فلا مرية أن تلاوته وإن قلت أفضل من ختمات لا تدبر فيها.

(ولكن افزعوا قلوبكم القاسية) الإفزاع الإخافة يعني أخيفوا قلوبكم القاسية الغليظة الغافلة بالتدبر فيه والتفكر في أوامره ونواهيه وزواجره ووعده ووعيده وما نطق به من إهلاك الأمم الماضية بالمخالفة، ومن البين أن ذلك لا يحصل بدون الترتيل، وفي بعض النسخ اقرعوا بالقاف في بعضها افرغوا بالغين المعجمة.

* الأصل:

ص:44


1- -سورة المزمل:4.
2- -الکافی :614/2.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن القرآن نزل بالحزن فاقرؤوه بالحزن).(1)

* الشرح:

قوله: (إن القرآن نزل بالحزن) لاشتماله على ما يوجب الحزن من أحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب وأحوال الأمم الماضية وإهلاكهم ومسخهم وغير ذلك مما يتطاير عند سماعه قلوب أولي الألباب، والمراد بالحزن إما ضد السرور أو رقة القلب.

وقوله: (فاقرؤوه بالحزن) معناه اقرؤوه بصوت يوجب الحزن، وإنما أمر بذلك لأنه يوجب للنفس خشية وخضوعا وميلا إلى الآخرة ويؤثر في قلوب السامعين.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن إبراهيم الأحمر، عن عبد الله بن حماد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنه سيجئ من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، وقلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم).(2)

* الشرح:

قوله: (اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها) اللحن هنا اللغة يعني اقرؤوا القرآن بلغات العرب بأداء الحروف وإظهارها وحفظ الوقوف رعاية الحركات والسكنات وبصوت مناسبة لأصواتهم.

(وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر) اللحون جمع اللحن كالألحان، والمراد هذا التطريب في القراءة والخطأ فيها.

(فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء) قيل: الترجيع ترديد القراءة، ومنه ترجيع الأذان، وقيل: هو يتفاوت بضروب الحركات في الصوت، وقيل: هو مد الصوت في القراءة (والنوح والرهانية) مثل ما يفعله بعض المتصوفة.

(لا يجوز تراقيهم) أي لا يجوز القرآن حناجرهم ولا يصل إلى قلوبهم، وفي المغرب التراقي جمع الترقوة وهي عظام وصل بين نقرة النحر والعاتق من الجانبين، ويقال لها بالفارسية: چنبر گردن (قلوبهم مقلوبة) كالكوز المقلوب لا يستقر فيها شيء.

(وقلوب من يعجبه شأنهم) أيضا مقلوبة، واعلم أن قراءة القرآن بإخراج الحروف من مواضعها

ص:45


1- -الکافی :614/2.
2- -الکافی :614/2.

واعتبار صفاتها بدون تلبسها بصوت حسن حسن ومع تلبسها به أحسن بما ستعرفه وستعرف أيضا مفهومه وقراءته بالتغني به حرام عندنا، وعند أكثر العامة وعرفه جماعة من أصحابنا بأنه الترجيع المطرب فلا يتحقق مهيته بدون الترجيع والإطراب ولا يكفي أحدهما، ورده بعضهم إلى العرف فما سماه أهل العرف غناء حرم طرب أو لم يطرب، ولا يخلو من قوة لأن الشائع في مثله مما لا نعرف مغزاه لغة ولم يعرف مقصوده شرعا هو الرجوع إلى العرف.

وقال بعض العامة: قراءة القرآن بالتغني قراءته بالألحان، وهي قراءته بطريق أهل علم الموسيقى في الألحان، أي في النغم والأوزان حسبما رتبوه في صنعة الغناء، وسمع عارفها قاريا يقرأ فاستحسن قراءته، وقال أنه يقرأ من نغمة كذا، وقيل: هي قراءته بالتطريب والترجيع وتحسين الصوت، ثم قال: واختلفوا في قراءته بالألحان، فقال الشافعي مرة لا بأس به، ومرة مكروه، وقال بعض أهل مذهبه: مراده أنه إن أفرط في المد واشباع الحركة حتى تولد عن الفتحة ألف، وعن الضمة واو وعن الكسرة ياء أو ادغم في غير موضع الإدغام كره وإلا جاز، وقال بعض آخر منهم إذا انتهى إلى ذلك فهو حرام يفسق فاعله ويعزر ويأثم المستمع، وهو مراد الشافعي بالكراهة، وكيف يؤخذ في كلام الله تعالى بأخذ أهل الألحان في النشد والغزل. انتهى.

أقول: تفسير الغناء بما مر وإن لم يثبت من جهة الشرع لكن الاحتياط والتقوى يوجبان الاحتراز عنه عما دون ذلك، وإما قراءته بالترجيع فظاهر بعض الروايات الآتية تشعر برجحانها، حيث وقع الأمر به، وظاهر هذه الرواية يشعر بأنه أعم من الغناء، فلا يكون راجحا على الإطلاق، بل هو راجح في فرد وحرام في فرد آخر، فلابد للعامل به من التميز بين الفردين، وهو في غاية الإشكال، فالأولى بل الواجب على غير المميز تركه.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن حسن بن شمون قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: ذكرت الصوت عنده فقال: (إن علي بن الحسين 8 كان يقرأ فربما مر به المار فصعق من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك لما احتمله الناس من حسنه). قلت: ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون).(1)

* الشرح:

قوله: (إن علي بن الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن فربما مر به المار فصعق) أي غشي عليه أو

ص:46


1- -الکافی :615/2.

صاح صيحة شديدا، وسر ذلك أن الأصوات الطيبة والأحان الموزونة والنغمات المناسبة لها مدخلا عظيما في نشاط النفس وفرح الروح، ولها تأثيرا عظيما، فمنها ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها ما يندم، ومنها ما يضحك، ومنها ما يبكي، ومنها ما يصعق، ومنها ما يزعج القلب إلى الحق ويحركه من بلاد الغربة إلى الوطن الأصلي، ويختلف الإنزعاج بالنسبة إلى الأشخاص بحسب قوة الاستعداد وضعفه، فلا استحالة عقلا أن يوجب الصعقة وغيرها، وقد يقع مثل ذلك عند المصائب الشديدة، وأية مصيبة أعظم من خروج الروح من موطنها الأصلي، وفراقها من الكرامات الأبدية، واحتباسها في سجن هذه الدار والبلية.

(من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك) أي من حسن صوته (لما احتمله الناس من حسنه) دل هذا الخبر على جواز تحسين الصوت بالقراءة، ودلت الأخبار الآتية على رجحانه، وكذا دل عليه أيضا، ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» قال بعض العامة: معنى ما أذن ما استمع، والمراد بالشيء المسموع والمضاف مقدر قبل نبي أي لصوت نبي. والحاصل أنه ما استمع الله لصوت كما استمع لصوت نبي، والمراد بالاستماع إجزال ثواب القارئ أو الرضا به، ومعنى قوله: «يتغنى بالقرآن» عند الشافعية، والأكثر يحسن الصوت بالقرآن، وعند ابن عباس يستغني به عن الناس، وقال مرة يستغني به عن غيره من الكتب، وعن سفيان بن عيينة يقال: تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت فعلى أن المراد به تحسين الصوت، فهو من الغناء المحمود، وكل من رفع صوته ومده ووالى به فهو عند العرب غناء، وعلى أنه من الاستغناء فهو من الغنى ضد الفقر وهو مقصور، والمراد بتحسين الصوت تزيينه بالترتيل والجهر والتحزين والترقيق فهو مستجب ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم انتهى، فقد ظهر مما ذكرنا أن أخبار العامة والخاصة متفقة في الدلالة على رجحان تحسين الصوت بالقرآن وعلى حسن صوت النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن لابد من ترك الإفراط فيه لئلا يبلغ حد الإلحان والغناء ولا يمكن ذلك إلا للعارف بوجوه التحسين.

(قلت ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن) أي ولم يكن من باب الاستفهام ولعل غرضه من هذا السؤال أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان أحسن صوتا منه (عليه السلام) وكان يقرء ويرفع صوته بالقراءة ويسمعه الصحابة ولم يصعق أحد من حسن صوته فكيف لحسن الصوت نحو هذا التأثير؟ (فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون) فلم يظهر من حسن صوته ما

ص:47

يصعقهم ولذلك أيضا ما كلم الناس قط إلا بقدر عقولهم وهذا الجواب أحسن مما قاله بعض العامة من أن الغشى لضعف العقل عن تحمل ما ورد عليه وعقول الصحابة لما كانت أكمل لم يطرء عليهم الغشى، لأن كون عقول كلهم أكمل من عقول غيرهم ممنوع.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سليم الفراء، عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أعرب القرآن فإنه عربي.(1)

* الشرح:

قوله (اعرب القرآن فإن عربي) إما من أعرب كلامه إذا ظهر إعرابه ولم يلحن فيها، أو من أعرب بكلامه إذا أفصح به ولم يلحن في حروفه ومواده وهذا مثل ما سبق من قوله (عليه السلام) «واقرؤوا القرآن بألحان العرب».

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عزوجل أوحى إلى موسى بن عمران 7: إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير، وإذا قرأت التوراة فاسمعنيها بصوت حزين).(2)

* الشرح:

قوله (وإذا قرأت التوراة فاسمعنيها بصوت حزين) الحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزين وحزن، فوصف الصوت بالحزن على سبيل المبالغة، لأن الحزين في الحقيقة صاحب الصوت، ويحتمل أن يكون الصوت مضافا إليه بتقدير اللام، وعلى التقديرين يحتمل أن يجعل الحزن كناية عن البكاء، وعلى التقدير الأول يمكن أن يجعل بمعنى الرقة، قال في الصحاح:

فلان يقرء التحزين إذا رق صوته، فالوصف - حينئذ - على سبيل الحقيقة.

* الأصل:

7 - عنه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لم يعط امتي أقل من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ).(3)

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يعط أمتي أقل من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ) الجمال بالفتح حسن الخلق والخلق والحفظ قلة الغفلة عن القرآن أو عن الحق مطلقا، ولعل المراد

ص:48


1- -الکافی :615/2.
2- -الکافی :615/2.
3- -الکافی :615/2.

أن هذه الخصال الشريفة أقل ما أعطيت الأمة المجيبة من الخصال العظيمة التي لا تعد ولا تحصى، والله يعلم.

* الأصل:

8 - عنه، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن يونس، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن من أجمل الجمال الشعر الحسن، ونغمة الصوت الحسن).(1)

* الشرح:

قوله (من أجمل الجمال الشعر الحسن للمرء) الظاهر فتح الشين والكسر محتمل لما في بعض الروايات (أن من طيب عيش المرأة شعره الذي يتغنى به). والمراد بحسنه اشتماله على المرغبات في أمر الآخرة أو على مدح أهل الذكر.

(ونغمة الصوت الحسن) في القراءة، والنغم محركة ويسكن الكلام الخفي الواحدة بهاء، يقال: فلان حسن النغمة، إذا كان حسن الصوت في القراءة.

* الأصل:

9 - عنه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله): لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن).(2)

* الشرح:

(وحلية القرآن الصوت الحسن) روى الصدوق في العيون بإسناده، عن الرضا (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال «حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، ويزيد في الخلق ما يشاء».

* الأصل:

10 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن موسى بن عمر الصيقل، عن محمد ابن عيسى، عن السكوني، عن علي بن إسماعيل الميثمي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما بعث الله عزوجل نبيا إلا حسن الصوت).

* الأصل:

11 - سهل [بن زياد] عن الحجال، عن علي بن عقبة، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان علي بن الحسين صلوات الله عليه أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه، يسمعون قراءته، وكان أبو جعفر (عليه السلام) أحسن الناس صوتا).(3)

ص:49


1- -الکافی :615/2.
2- -الکافی :615/2.
3- -الکافی :616/2.

* الشرح:

قوله: (كان علي بن الحسين (عليهم السلام) أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون، فيقفون ببابه يسمعون قراءته) فيه حث على تحسين الصوت بالقرآن، وعلى الإصغاء إلى سماع الصوت الحسن به، فإن سماعه يزيد حسنا في العقائد، ويوجب الخشوع، ورقة القلب وميله إلى الآخرة والخيرات.

* الأصل:

12 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الأسدي، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن أبان بن عثمان، عن محمد بن الفضيل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يكره أن يقرأ (قل هو الله أحد) بنفس واحد).(1)

* الشرح:

قوله: (يكره أن يقرأ (قل هو الله أحد) بنفس واحد) لما فيه من ترك التعظيم والتفكر فيما فيه من الأسرار الغريبة الإلهية.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال:

قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان، فقال: إنما ترائي بهذا أهلك والناس قال: (يا أبا محمد اقرأ قراءة ما بين قراءتين تسمع أهلك، ورجع بالقرآن صوتك، فإن الله عزوجل يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا).(2)

* الشرح:

قوله: (ورجع بالقرآن صوتك) دل على استحباب ترجيع الصوت بالقرآن، كما دل عليه ما رواه مسلم عن عبد الله بن مغفل «إن النبي (صلى الله عليه وآله) قرأ عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته»، وقال في رواية أخرى «على ناقته». ثم قال معاوية فقرأ ابن مغفل، ورجع حكاية لقراءته، ولولا أني أخاف أن يجتمع الناس لحكيت قراءته.

وفي الصحاح: ترجيع الصوت: ترديده في الحلق كقراءة أصحاب الألحان، وقال في المغرب رجعه ردده، ومنه الترجيع في الأذان، لأنه يأتي الشهادتين خافضا بهما صوته، ثم يرجعهما رافعا بهما صوته وفسره بذلك أيضا الطبري من علماء العامة ونقل ذلك البخاري أيضا، وأنه قال في صفته «آ» ثلاث مرات، وقال ابن الأثير في النهاية: قيل: هو تقارب ضروب الحركات في الصوت،

ص:50


1- -الکافی :616/2.
2- -الکافی :616/2.

وقد حكى ابن مغفل ترجيعه بمد الصوت في القراءة نحو اآالآآ لاه، وقال ابن حجر هو تقارب ضروب الحركات في القراءة وأصله الترديد وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسر في حديث ابن مغفل «اآا» بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى. وأنكر ترجيع القرآن جماعة من العامة وقالوا: ترجيعه (صلى الله عليه وآله) محمول على إشباع المد أو على حصوله بهز الناقة وتحركها وتنزيها، ولذلك ورد في حديث آخر أنه كان لا يرجع ووجهه أنه لم يكن - حينئذ - راكبا، فلم يحدث في قراءته ترجيع.

أقول: للترجيع مراتب بعضها الغناء، كما دل عليه قوله (عليه السلام) في الحديث السابق «سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء» فمن عرف مراتبه وميز بينها وعرف مرتبة الغناء، فالظاهر أنه يجوز له ما دون هذه المرتبة ولكن التميز بينها مشكل جدا، والترجيع أكثر ما يبلغ الغناء كما هو المتعارف من قراءة أهل الحزب، ولا سيما عند إرادة الفراغ لما فيها من الخروج عن التلاوة، فالاحتياط تركه إلا ما علم قطعا أنه لا يضر بالتلاوة.

ص:51

باب فيمن يظهر الغشية عند [قراءة] القرآن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن إسحاق الضبي: عن أبي عمران الأرمني، عن عبد الله بن الحكم، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: إن قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن أوحد ثوابه صعق أحدهم حتى يرى أن أحدهم لو قطعت يداه أو رجلاه لم يشعر بذلك؟ فقال: (سبحان الله ذاك من الشيطان ما بهذا نعتوا، إنما هو اللين والرقة والدمعة والوجل).

أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان عن أبي عمران الأرمني، عن عبد الله بن الحكم، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.(1)

* الشرح:

قوله: (إن قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن) أي قرؤوها (أو حدثوا به) أي تعريفه وبيانه وهو عطف على شيئا وكونه ماضيا مجهولا لا معطوفا على ذكروا بعيد جدا.

(صعق أحدهم) أي غشي عليه (حتى يرى أن أحدهم) يرى مبني للمفعول من أراه أرائة أي يظن أو من الرؤية، وأحدهم من باب وضع الظاهر موضع الضمير.

(لو قطعت يداه أو رجلاه لم يشعر بذلك) لزوال العقل والحس (فقال: سبحان الله) استعجاب أو استبعاد مما ذكر أو تنزيه لله تعالى أن يكون ذلك من قبله وهو أنسب بقوله:

(ذاك من الشيطان) لتصرفه فيه حتى جعله على هذه الحالة أو لإغوائه حتى يتصنع ذلك لإظهار كماله عند الناس (ما بهذا نعتوا) أي ما بهذا وصف الذين لهم أهلية التأثر من القرآن (إنما هو) أي نعتهم ووصفهم:

(اللين والرقة والدمعة والوجل) قال الله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذ تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) وقال: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم).. إلى قوله (ويخرون للأذقان ويبكون ويزيدهم خشوعا) وهذه الأوصاف وهي الوجل وزيادة الإيمان والخشوع والبكاء والخرور للأذقان لا تنفك عن اللين والرقة والدمعة؟ والظاهر أنه لا منافاة بين هذا الخبر وما مر من خبر السكوني الدال على صعق المار من حسن صوت علي بن الحسين (عليهما السلام) بالقراءة لجواز أن يكون هذا التأثير لصوت الإمام دون غيره، ويؤيده ما مر في ذلك الخبر من أن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس من حسنه على أنه يمكن أن يكون المراد بهذا الخبر هو الحث على ضبط النفس حتى لا تبلغ تلك الحالة الموجبة لزوال العقل

ص:52


1- -الکافی :617/2.

والحرمان عن ثواب سماع الأسرار القرآنية.

باب في كم يقرأ القرآن ويختم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن الحسين بن المختار، عن محمد بن عبد الله قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أقرء القرآن في ليلة؟ قال: (لا يعجبي أن تقرأه في أقل من شهر).(1)

* الشرح:

قوله: (لا تعجبني أن تقرأه في أقل من شهر) والأدب أن تجزأه ثلاثين جزءا، وتقرء كل يوم وليلة جزء واحد بترتيل، وترسل، وتفكر في معانيه الظاهرة والباطنة، ويقف عند آية فيها ذكر الجنة، وآية فيها ذكر النار، وتطلب الأولى وما يوجب الدخول فيها، وتتعوذ من الثانية وما يوجب الوصول إليها مع تضرع، وخشوع، وبكاء على قدر الإمكان.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابه، عن علي بن أبي حمزة قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير: جعلت فداك أقرء القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال:

(لا، قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، قال: ففي ثلاث؟ قال: ها وأشار بيده، ثم قال: يا أبا محمد إن لرمضان حقا وحرمة لا يشبهه شيء من الشهور وكان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل. إن القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلا وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها واسأل الله عزوجل الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار.(2)

* الشرح:

قوله (قال ففي ثلاث قالها وأشار بيده) «هاء» كلمة تنبيه للمخاطب ينبه على ما يساق إليه من الكلام كذا في النهاية وكأنه (عليه السلام) أشار بيده إلى الرخصة ويؤيده حديث آخر الباب والإشارة إلى السكوت محتملة والرخصة حينئذ مستفاد من قوله:

(ثم قال يا أبا محمد ان لرمضان حقا وحرمة) التنكير للتعظيم أو للتكثير (ولا يشبهه شيء عمن الشهور) لكثرة العبادة المطلوب فيه ومن جملتها تلاوة القرآن فتلاوته في كل ثلاث حسن وفي كل شهر أو أقل منه أو أكثر من ثلاث أحسن كما أشار بقوله:

(وكان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل) لرعاية الترتيل والتفكر فيه

ص:53


1- -الکافی :617/2.
2- -الکافی :617/2.

كما أشار إليه بقوله (إن القرآن لا يقرأ هذرمة) هي السرعة في الكلام والمشي ويقال للتخليط هذرمة كذا في النهاية (ولكن يرتل ترتيلا) فيه آداب التلاوة في الصلاة وغيرها ومثله موجود من طرق العامة أيضا، روى مسلم عن حذيفة قال «قرأ النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلاة مترسلا وإذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ» قال المازري: مذهبنا استحباب هذه الآداب في غير الصلاة وفي الصلاة للإمام والمأموم والفذ.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن يعقوب بن شعيب عن حسين بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: في كم أقرء القرآن؟ فقال: (إقرأه أخماسا، إقرأه أسباعا، أما إن عندي مصحفا مجزى أربعة عشر جزءا).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن علي بن المغيرة، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلت له: إن أبي سأل جدك عن ختم القرآن في كل ليلة، فقال له جدك: (في كل ليلة)، فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدك: في شهر رمضان، فقال له أبي: نعم ما استطعت فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثم ختمته بعد أبي فربما زدت وربما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ختمة ولعلي (عليه السلام) اخرى ولفاطمة (عليها السلام) اخرى، ثم للأئمة (عليهم السلام) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في هذا الحال فأي شيء لي بذلك؟ قال: (لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة). قلت: الله أكبر [ف] لي بذلك؟! قال: (نعم). ثلاث مرات.(1)

* الشرح:

قوله: (عن علي بن المغيرة عن أبي الحسن (عليه السلام).. اه) هو أبو الحسن الأول والمراد بالحال في قوله منذ صرت في هذا الحال التشيع أو العمل المذكورة، وفي هذا الخبر دلالة على جواز الختم أو أكثر في ليلة واحدة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة قال:

سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال له: جعلت فداك اقرأ القرآن في ليلة؟ فقال: (لا). فقال في ليلتين؟ فقال: (لا). حتى بلغ ست ليال فأشار بيده، فقال: ها، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا أبا

ص:54


1- -الکافی :618/2.

محمد إن من كان قبلكم من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ القرآن في شهر وأقل، إن القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلا إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها وتعوذت بالله من النار).

فقال أبو بصير: اقرأ القرآن في رمضان في ليلة؟ فقال: (لا). فقال في ليلتين؟ فقال: (لا)، فقال في ثلاث؟ فقال: (ها) وأومأ بيده، (نعم. شهر رمضان لا يشيهه شيء من الشهور. له حق وحرمة. أكثر من الصلاة ما استطعت).

* الشرح:

(يا أبا محمد ان [من كان قبلكم] من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ القرآن في شهر وأقل) هذا نحو ما تقدم من الإرشاد إلى القصد في التلاوة وفي كتاب إكمال الإكمال: للسلف في ختم القرآن عادات مختلفة فبعضهم كان يختم في كل شهر وبعضهم في كل عشرين وبعضهم في كل عشرة وأكثرهم في سبعة وكثير منهم في ثلاث وبعضهم في يوم وليلة وبعضهم في كل ليلة وبعضهم في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وبعضهم ثماني ختمات.

ص:55

باب أن القرآن يرفع كما أنزل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): (إن الرجل الأعجمي من امتي ليقرأ القرآن بعجمته فتعرفه الملائكة على عربيته).(1)

* الشرح:

قوله: (إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمته) أي يلحن في الحروف والحركات ولا يخرجها عن مخارجها ولا يراعي صفاته المميزة لعدم الاقتدار عليها.

(فترفعه الملائكة على عربيته) في الكنز عجمة: «عربى نا بودن كلام وكند زبانى». وفي القاموس: العجم بالضم والتحريك خلاف العرب ورجل وقوم أعجم الأعجم لا يفصح كالأعجمي.

وفي الصحاح: الأعجم من لا يقدر على الكلام أصلا والأعجم أيضا الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وفي النسبة يقال: لسان أعجمي وكتاب أعجمي ولا يقال: رجل أعجمي فننسبه إلى نفسه إلا أن يكون أعجم وأعجمي بمعنى دوار ودواري.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: (لا اقرؤوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم).(2)

* الشرح:

قوله: (إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها) هكذا في النسخ كلها والأصوب ليست ولعل السؤال من آيات مسموعة عنهم (عليهم السلام) في قرآن علي (عليه السلام) ليست في هذا القرآن (ولا نحسن أن نقرأها) أي آيات القرآن.

(كما بلغنا عنكم) من الترتيل والترسل وأداء الحروف ورعاية الصفات وهذا سؤال آخر (فهل نأثم) بعدم قراءة الآيات في قرآنكم إذ ليست في هذا القرآن وبعدم الترتيل في آيات هذا القرآن إذ لا نقدر عليه.

(فقال لا أقرؤوا كما تعلمتم) في هذا القرآن باللسان الأعجمي (فسيجيئكم من يعلمكم) حق التعليم وهو الصاحب (عليه السلام) أو الملك في القبر، وقد روي أن الشيعة بعد الموت يتكلمون بالعربية وأن الملك يعلمهم القرآن هذا الذي ذكرنا من باب الاحتمال، والله أعلم.

ص:56


1- -الکافی :619/2.
2- -الکافی :619/2.

باب فضل القرآن

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بدر، عن محمد بن مروان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قرأ (قل هو الله أحد) مرة بورك عليه ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى أهله وعلى جيرانه ومن قرأها اثنى عشر مرة بنى الله له اثنى عشر قصرا في الجنة فيقول الحفظة: اذهبوا بنا إلى قصور أخينا فلان فننظر إليها، ومن أقرأها مائة مرة غفرت له ذنوب خمسة وعشرين سنة ما خلا الدماء والأموال ومن قرأها أربعمائة مرة كان له أجر أربعمائة شهيد كلهم قد عقر جواده وأريق دمه ومن قرأها ألف مرة في يوم وليلة ولم يمت حتى يرى مقعده في الجنة أو يرى له).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ (قل هو الله أحد) مرة بورك عليه) أي زيد في تشريفه وكرامته وإحسانه ولطفه وتوفيقه يقال: بارك الله فيك ولك وعليك وباركك وقال تعالى (أن بورك من في النار).

(ومن قرأها ألف مرة في يوم أو ليلة لم يمت حتى يرى مقعد من الجنة) أي يرى في المنام منزلة منها، وفي بعض النسخ «في» بدل «من» أو تراءى له يظهر مقعده له بالكشف في حال الاحتضار أو قبله على احتمال وفي النهاية: تراءا إلى الشيء أي ظهر حتى رأيته.

* الأصل:

2 - حميد بن زياد، عن الحسين بن محمد، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لما أمر الله عزوجل هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش وقلن: أي رب إلى أين تهبطنا إلى أهل الخطايا والذنوب فأوحى الله عزوجل إليهن أن اهبطن فوعزتي وجلالي لا يتلوكن أحد من آل محمد وشيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كل يوم إلا نظرت إليه - بعيني المكنونة - في كل يوم سبعين نظرة أقضي له في كل نظرة سبعين حاجة وقبلته على ما فيه من المعاصي وهي أم الكتاب و (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) وآية الكرسي وآية الملك).(2)

* الشرح:

قوله: (لما أمر الله تعالى هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش) أي

ص:57


1- -الکافی :619/2.
2- -الکافی :619/2.

توسلن بعلم الله تعالى بما يقع في دار الغرور وعالم السرور أو تعلقن بالعرش الجسماني الذي هو مطاف الملائكة المقربين، وقد مر أن القرآن يتصور بمثل جسداني وهيكل إنساني فنسبة التعلق إليه صحيحة وهنا شيء لابد في توضيحه من تقديم مقدمة، وهي أنه روى أن القرآن نزل جملة واحدة في أول ليلة من شهر رمضان وأنه نزل إلى الأرض تدريجا لا جملة واحدة، فقال السيد المحقق ابن طاووس: أنه نزل جملة واحدة من بعض المقامات العالية بأمر الله جل شأنه إلى مقام آخر ثم نزل من هذا المقام تدريجا إلى الأرض فلا منافاة بين نزوله جملة ونزوله تدريجا.

أقول: سيجيء في باب النوادر ما يدل على ذلك التوجيه وأن هذا المقام هو البيت المعمور إذا عرفت هذا فتقول: يحتمل أن يراد بهبوط هذه الآيات هبوطها أول مرة وهو هبوطها في ضمن الكل وقوله «إلى الأرض» باعتبار أن هذا الهبوط آيل إلى هبوطها إلى الأرض بالآخرة وسبب له في الجملة وحينئذ فالظاهر من قوله. «يتلوكن» تلاوة مجموعها من حيث المجموع وترتب الجزاء المذكور أعني قوله تعالى (نظرت إليه.. اه) على تلاوة المجموع لا على تلاوة كل واحد منها، ويحتمل أن يراد بهبوطها هبوطها مرة ثانية إلى الأرض وظاهر أن هذا الهبوط كان تدريجيا وأن هبوط هذه الآيات لم يكن دفعة واحدة ولم ينقل أحد حينئذ، فالظاهر أن الجزاء المذكور يترتب على تلاوة كل واحدة على حدة إذ الظاهر حينئذ أن زمان تعلق كل واحدة بالعرش غير زمان تعلق الأخرى به وكذلك الوحي إليها بذلك الجزاء غير الوحي إلى الأخرى به فليتأمل.

* الأصل:

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن محمد بن سكين، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

(من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم، وإن مات كان في جوار محمد النبي (صلى الله عليه وآله)).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم (عليه السلام)) قيل المسبحات سور أولها سبح أو يسبح أو سبحان واعلم أن ظاهر مضمون الشرط يفيد أن ادراك القائم (عليه السلام) يتحقق بتحقق القراءة مرة واحدة وكذلك الجوار ولكن الظاهر بحسب المقام حيث أن المقصود الحث على قراءتها والترغيب في أخذها دأبا وعادة هو أن الإدراك والجوار يتحققان بالتكرار والعادة والظاهر أن تركها في بعض الأحيان لا يضر بالتكرار المستلزم للإدراك والجوار، ثم الظاهر أن المراد

ص:58


1- -الکافی :619/2.

بإدراك القائم (عليه السلام) بأنه القائم (عليه السلام) والسبب في ذلك إما لاشتمال المسبحات على ذكر القائم وصفاته وأحواله وأن لم يعلمها بخصوصها وأما بالخاصية وكذلك السبب في غيرها من السور والآيات المترتب عليها ثواب وجزاء معين.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن طلحة، عن جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ (قل هو الله أحد) مائة مرة حين يأخذ مضجعه غفر الله له ذنوب خمسين سنة).

* الأصل:

5 - حميد بن زياد، عن الخشاب، عن ابن بقاح، عن معاذ، عن عمرو بن جميع رفعه إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ولا يقربه شيطان ولا ينسى القرآن).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها) الظاهر أن آية الكرسي من قوله (الله.. إلى العلي العظيم) والآيتين بعدها من قوله (لا كراه إلى هم فيها خالدون) وثلاث آيات من آخرها أي آخر البقرة، روي مسلم أربع روايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة واحدة كفتاه» قوله: كفتاه قيل: معناه أجزأتا عنه من قيام الليل أو كفتاه ومنعتاه من أن يكون ممن ترك القراءة أو كفتاه أذى الشيطان، وقيل: كفتاه أي منعتاه شر الجن والإنس ويبعد أن يكون من الكفاية أي كفتاه ملازمة التلاوة وقيل: كفتاه عن الآفات وقيل: كفتاه عن الجميع. قال ابن الحجر: المراد بالآيتين قوله تعالى (آمن الرسول) إلى آخر السورة. فآخر الآية الأولى «المصير» ومن ثمة إلى آخر السورة آية واحدة وأما «ما اكتسبت» فليس رأس آية باتفاق القراء. انتهى.

أقول: والمراد بثلاث آيات كما في روايتنا هذه «آمن الرسول.. إلى آخر السورة» يجعل «ما اكتسبت» آخر الآية الثانية واتفاق القراء على خلافه لا يقدح لأن ذلك من طرق العامة أو المراد بها قوله (لله ما في السماوات) إلى آخر السورة.

* الأصل:

ص:59


1- -الکافی :621/2.

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن سيف بن عميرة، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر، يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله ومن قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله ومن قرأها مرات غفرت له على نحو ألف ذنب من ذنوبه).

* الأصل:

7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن يعقوب ابن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان أبي صلوات الله عليه يقول: (قل هو الله أحد) ثلث القرآن (وقل يا أيها الكافرون) ربع القرآن).(1)

* الشرح:

قوله: ((قل هو الله أحد) ثلث القرآن) كان المراد أن له أجرا مقدرا يملكه القارئ من باب الاستحقاق إلا أنه تعالى يضاعف ثوابه من باب التفضل بقدر أجر يستحقه قارىء الثلث وإن كان لقارىء الثلث أيضا ثواب مضاعفا بمقتضى الوعد الصادق وبالجملة ثوابه مع التضعيف مثل أجر الثلث بدونه وكذا ثوابه ثلاث مرات معه مثل أجر ختمة بدونه وإن كان ثواب الثلث والختم بالتضعيف وبدونه أكثر من أجره باعتبار الاستحقاق بدونه وحينئذ لا يرد أن كون أجره مرة كأجر الثلث وثلاث مرات كأجر الختم خلاف الإجماع والمنقول من «أن أفضل الأعمال أحمزها» وأنه لو كان كذلك لآثروا قراءته على قراءة الثلث والكل طلبا للتسهيل والله يعلم، واعلم أن مثل هذا الحديث رواه مسلم عن قتادة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل (قل هو الله أحد) جزءا من أجزاء القرآن».

وعن أبي هريرة «ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أحشدوا أي اجتمعوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد فقرأ (قل هو الله)» وهم اختلفوا في توجيه ذلك وقال بعضهم: كان ثلث القرآن لأنه ثلاثة أنحاء قصص وأحكام وصفات و (قل هو الله أحد) مشتملة على الصفات فهي ثلثه بهذا الاعتبار، وقال بعضهم: ثواب قراءتها يعدل ثواب ثلث القرآن دون تضعيف أي يعدل ثواب ثلث ختمه ليس فيها (قل هو الله أحد)، وقال بعضهم: إنما قال ذلك لرجل بعينه قصده، وقيل: لمن ردد قرأتها فحصل له من قراءتها قدر قراءة ثلث القرآن ولا يخفى عليك بعد هذين القولين وتنافيهما لحديث احشدوا لقراءته (صلى الله عليه وآله) مرة واحدة، وقال بعضهم: معنى يعدل ثلث القرآن أن ما رتب من الثواب على ختمه واحدة ثلثه لها وثلثاه لبقيتها وليس معناه أن من قرأها وحدها يكون له مثل ثواب

ص:60


1- -الکافی :621/2.

ثلث كل القرآن ولو كان كذلك لآثر العلماء قراءتها على قراءة السور الطوال في الصلاة ولم يفعلوا وقد أجمعوا على أن من قرأها ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيى الليل ختم القرآن وهذا كالثواب المترتب على الصلاة أكثره للنية وباقيه لغيرها من قيام وقعود وغيرهما لحديث «نية المؤمن خير من عمله» وفيه نظر لأن الإجماع المذكور غير مسلم بل من كررها ثلاثا يكون له ثواب ختمه وعدم إثار العلماء قراءتها على قراءة السور الطوال لأن المطلوب الثواب والتدبر والإتعاظ واقتباس الأحكام.

((قل يا أيها الكافرون) ربع القرآن) لعل الوجه فيه أن القرآن نزل على أربعة أرباع ربع في المؤمنين وربع في الكافرين وربع في السنن والأمثال وربع في الفرائض والأحكام وهذه السورة مشتملة على ربع الكافرين وسائر الوجوه المذكورة للتوحيد جارية هنا أيضا.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن الحسن بن الجهم، عن إبراهيم بن مهزم، عن رجل سمع أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله ومن قرأها في دبر كل فريضة لم يضروه ذو حمة وقال: من قدم (قل هو الله أحد) بينه وبين جبار منعه الله عزوجل منه، يقرأها من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فإذا فعل ذلك رزقه الله عزوجل خيره ومنعه من شره، وقال: إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن من حيث شئت ثم قل: اللهم اكشف عني البلاء - ثلاث مرات).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ آية الكرسي) الظاهر إلى (هم فيها خالدون) وهي تجمع أصول الأسماء والصفات من الإلهية والحياة والوحدانية والعلم والملك والقدرة والإرادة.

(عند منامه) حين أخذ مضجعه أو أراد النوم (لم يخف الفالج: إن شاء الله) ذلك اليوم، والليلة أو مطلقا إذا اعتاد قراءتها أو مطلقا. والفالج داء معروف يرخى بعض البدن لإنصباب خلط بلغمي تنسد منه مسالك الروح.

(ومن قرأها في دبر كل فريضة لم يضره ذو حمة) الحمة بالضم والتخفيف وقد تشدد السم ويطلق على أبرة العقرب والزنبور وناب الحية للمجاورة لأن السم يخرج منها وأصلها حموا وحمى بوزن صرد والهاء فيها عوض من الواو أو لياء.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن إسحاق بن عمار، عن أبي

ص:61


1- -الکافی :621/2.

عبد الله (عليه السلام) قال: (من قرأ مائة آية يصلي بها في ليلة كتب الله عزوجل له بها قنوت ليلة، ومن قرأ مائتي آية في غير صلاة لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية في يوم وليلة في صلاة النهار والليل كتب الله عزوجل له في اللوح المحفوظ قنطارا من [ال] حسنات والقنطار ألف ومائتا وقية، والوقية أعظم من جبل احد).(1)

* الشرح:

قوله: (من قرأ مائة آية) حيث شاء (يصلي بها في ليلة) في نافلة وكذا إن قرأ سورة مشتملة على مائة آية في فريضة.

(كتب الله له بها قنوت ليلة) أي عبادتها أو صلاتها أو قيامها بالطاعة (ومن قرأ مائتي آية) حيث شاء على الترتيب أو مطلقا إذا كانت كل واحدة تامة.

(لم يحاجه القرآن يوم القيامة) أي لم يخاصمه فيما ضيعه وأعرض عنه (ومن قرأ خمسمائة آية في صلاة النهار والليل) في فريضة أو نافلة أو فيهما.

(كتب الله له عز وجل في اللوح المحفوظ قنطارا من حسنات والقنطار ألف ومائتا أوقية والوقية أعظم من جبل احد) هذا التفسير للقنطار يخالف التفسير المذكور في باب ثواب قراءة القرآن وهو أن القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب المثقال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل احد وأكبرها ما بين السماء والأرض، وفسره هنا بألف ومائتي أوقية، قال في الصحاح:

الأوقية في الحديث أربعون درهما وكذلك كان فيما مضى فأما اليوم فما يتعارفها الناس ويقدر عليه الأطباء والأوقية عندهم وزن عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم وهو أستار وثلثا أستار فالقنطار بالتفسير المذكور هنا ثمانية وأربعون ألف درهم وهو أكثر من القنطار المذكور سابقا وكل قنطار درهم وثلاثة أسباع درهم ويمكن أن يقال ليس المراد بالأوقية هنا - يعني في تقدير الثواب - الأوقية المتعارفة عند الناس لغة وعرفا أعني ما قدروها بأربعين درهما بل المراد بها ما هو أعظم من جبل احد وقد أشرنا إلى نظير ذلك سابقا فليتأمل.

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من مضى به يوم واحد فصلى فيه بخمس صلوات ولم يقرأ

فيها ب (قل هو الله أحد) قيل له: يا عبد الله لست من المصلين).(2)

* الشرح:

قوله: (من مضى به يوم واحد فصلى فيه خمس صلوات) مفروضات (ولم يقرأ

ص:62


1- -الکافی :621/2.
2- -الکافی :622/2.

فيها ب (قل هو الله أحد) قيل له: يا عبد الله لست من المصلين) في هذا اليوم والمقصود نفي الكمال وفيه مبالغة على قراءته في الصلوات وعلى أنه لا ينبغي أن يترك في الصلوات اليومية كلها وقد وقع النهي في بعض الروايات عن قراءة سورة واحدة في الركعتين إلا سورة التوحيد وفي روايات العامة أيضا دلالة على ذلك روى مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب (قل هو الله أحد) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «سلوه لأي شيء فعل ذلك»؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أخبروه أن الله يحبه».

* الأصل:

11 - وبهذا الإسناد، عن الحسن بن يوسف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة ب (قل هو الله أحد)، فإنه من قرأها جمع الله له خير الدنيا والآخرة، وغفر له ولوالديه وما ولدا).(1)

* الشرح:

قوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) إيمانا كاملا لا يتصف بالنقص (فلا يدع أن يقرأ) أمر أو خبر (في دبر الفريضة) الظاهر المتبادر هو الترغيب إلى قراءتها بعد الفراغ منها وقد ذكر فضل التعقيب به في بعض الروايات واحتمال الحث على قراءتها بعد الحمد كما في السابق بعيد.

* الأصل:

12 - عنه، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن سورة الانعام نزلت جملة شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد (صلى الله عليه وآله) فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عزوجل فيها في سبعين موضعا ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها).(2)

* الشرح:

قوله: (فعظموها أو بجلوها) أمر أو خبر، والتبجيل التعظيم فالعطف للتفسير والتأكيد ويحتمل أن يكون من البجل بالتحريك وهو الحث والكفاية أي اجعلوها بالمداومة عليها كفاية لأموركم.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام). ان النبي (صلى الله عليه وآله) صلى على سعد بن معاذ فقال: لقد وافى من الملائكة سبعون ألفا وفيهم جبرئيل (عليه السلام) يصلون عليه فقلت له: يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءته (قل هو الله أحد) قائما وقاعدا

ص:63


1- -الکافی :622/2.
2- -الکافی :622/2.

وراكبا وماشيا وذاهبا وجائيا).(1)

* الشرح:

قوله: (لقد وافى من الملائكة سبعين ألفا) (كذا) أي أتاهم يقول: وافيت القوم إذا أتيتهم أو أشرف وأطلع عليهم.

* الأصل:

14 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد بن بشير، عن عبيد الله الدهقان، عن درست، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ (ألهكم التكاثر) عند النوم وقي فتنة القبر).(2)

* الشرح:

قوله: (من قرأ (ألهكم التكاثر) عند النوم وقى فتنة القبر) هي ما يمتحن به الميت في القبر من ضغطه ومسائلة منكر ونكير وغير ذلك مما يؤذيه.

* الأصل:

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عبد الله بن الفضل النوفلي رفعه قال: (ما قرئت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن).(3)

* الشرح:

قوله: (ما قرئت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن) الظاهر أن قرئت مبني للمفعول والتأنيث باعتبار السورة والحمد شفاء من كل داء وسيجئ من لم يبرأه الحمد لم يبرأه كل شيء وهذا أمر متفق عليه بين العامة والخاصة روى مسلم بإسناده عن أبي سعيد الخدري «أن ناسا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوا، فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرء الرجل فأعطي قطيعا من غنم فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب فتبسم، وقال: (ما أدريك أنها رقية) ثم قال:

«خذوا منهم» وفي بعض رواياتهم حين قال له: وما أدريك أنها رقية يعني أي شيء أعلمك أنها رقية قال: يا رسول الله شيء ألقى في روعي قبل وكان الرجل أخذ ذلك من أنها خصت بأمور ومشتملة على علوم القرآن من الثناء على الله تعالى والأمر بالعبادة والإخلاص فيها والاعتراف بالعجز على القيام بشيء منها إلا بإعانة الله تعالى وهم قد اختلفوا فقيل: أن كلها رقية نظرا إلى ظاهر

ص:64


1- -الکافی :622/2.
2- -الکافی :623/2.
3- -الکافی :623/2.

الرواية المذكورة وقيل: موضع الرقية منها (إياك نعبد وإياك نستعين).

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو قرئت الحمد على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان ذلك عجبا).

* الأصل:

17 - عنه، عن أحمد بن بكر، عن صالح، عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: (ما من أحد في حد الصبي يتعهد في كل ليلة قراءة (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) كل واحدة ثلاث مرات و (قل هو الله أحد) مائة مرة فإن لم يقدر فخمسين إلا صرف الله عزوجل عنه كل لمم أو عرض من أعراض الصبيان والعطاش وفساد المعدة وبدور الدم أبدا ما تعوهد بهذا حتى يبلغه الشيب فإن تعهد نفسه بذلك أو تعوهد كان محفوظا إلى يوم يقبض الله عزوجل.(1)

* الشرح:

قوله: (ما من أحد في حد الصبي يتعهد في كل ليلة قراءة (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس)) المعوذتان من القرآن لدلالة الرواية من العامة والخاصة عليه أما من طرق الخاصة فلما سيجيء من رواية صابر مولى بسام قال أمنا أبو عبد الله (عليه السلام) في صلاة المغرب فقرأ المعوذتين ثم قال (هما من القرآن) وأما من طرق العامة فلما رواه مسلم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم أر مثلهن قط (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس)) ولم يقل أحد بخلاف ذلك إلا ما نقل عن ابن مسعود ولم يثبت وما نقل عن بعض أن لفظة قل ليست من السورتين وإنما أمر أن يقول فقال وقال بعض العامة والإجماع وكتبها في المصحف يرده، وقيل: قوله «لم ير مثلهن» معناه أنه لم يكن سورة آياتها كلها تعويذ من شر الأشرار غيرهما ولذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتعوذ من شر الجن والإنس بغيرهما فلما نزلتا ترك التعوذ بما سواهما ولما سحر استشفى بهما، وقيل: معناه لم «ير مثلهن» في الفضل ولا بما نقل في الحمد وآية الكرسي ونحوهما لأنه عام مخصوص.

(كل واحد ثلاث مرات) بأن يقرأ الأولى ثلاث مرات ثم الثانية كذلك أو يقرأهما متواليتين ثم يستأنف كذلك مرتين.

(و (قل هو الله أحد) مائة مرة فإن لم يقدر فخمسين) لعل المراد بعدم القدرة حصول المشقة

ص:65


1- -الکافی :623/2.

أو المانع أو كلال النفس وتضجرها (إلا صرف الله عز وجل عنه كل لمم) اللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه وأيضا صغار الذنوب ومقاربة معصية من غير إيقاع فعل ونوازل الدهر ومخاطرات النفس ووسوسة الشيطان.

(أو عرض من أعراض الصبيان) وهي ما يعرضهم فيه من الجن وغيره من الآفات. والعرض بالتحريك ما يعرض الإنسان من مرض ونحوه.

(والعطاش وفساد المعدة وبدورة الدم أبدا ما تعوهد بهذا حتى يبلغه الشيب) العطاش بالضم: داء يصيب الإنسان ويشرب ولا يروي، والمعدة ككلمة وبالكسر موضع الطعام قبل انحدار إلى الأمعاء وهي للإنسان بمنزلة الكرش للأظلاف والأخفاف، والبدورة والبدور كما في بعض النسخ الإسراع والحدة ولعل المراد بها غلبته بحيث لا يقدر على معالجته ودفعه.

(فإن تعهد نفسه بذلك أو تعوهد) بأن يقرأ هوءان قدر أو يقرأ عليه إن لم يقدر وكون الترديد من الراوي وإن ناسبه السابق بعيد.

(كان محفوظا) من المكاره المذكورة أو مطلقا (إلى يوم يقبض الله عز وجل نفسه) دل على أن المراد بقوله «حتى يبلغه الشيب» آخر العمر.

* الأصل:

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن أحمد المنقري قال: سمعت أبا إبراهيم (عليه السلام) يقول: (من استكفى بآية من القرآن من الشرق إلى الغرب كفى إذا كان بيقين).(1)

* الشرح:

قوله: (من استكفى بآية من القرآن.. اه) يعني من طلب الكفاية من شر أهل الشرق إلى الغرب كفى من شرهم (إذا كان بيقين) وهو أصل لحصول المطالب بالدعاء والقراءة وغير موجود في بعض النسخ.

* الأصل:

19 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن بكر بن محمد الأزدي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في العوذة قال: (تأخذ قلة جديدة فتجعل فيها ماء ثم تقرأ عليها (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ثلاثين مرة ثم تعلق وتشرب منها وتتوضأ ويزداد فيها ماء إن شاء الله).(2)

* الشرح:

قوله: في العوذة قال: (تأخذ قلة جديدة) العوذ الالتجاء وبالهاء الرقية، والقلة

ص:66


1- -الکافی :623/2.
2- -الکافی :623/2.

بالضم، الحب العظيم أو الجرة العظيمة أو عامة أو من الفخار والكوز الصغير ضد كذا في القاموس (تجعل فيها ماء ثم تقرأ (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ثلاثين مرة) الأولى أن يكون القراءة متوالية من غير نفث ولا نفخ ولا نقل وثم هنا لمجرد الترتيب من غير اعتبار مهلة.

(ثم يعلق) في الكنز التعليق «در آويختن» (ويزداد فيها ماء إن شاء) ليمتزج بالباقي ويؤثر للمجموع تأثيره.

* الأصل:

20 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إدريس الحارثي، عن محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا مفضل احتجز من الناس كلهم ب (بسم الله الرحمن الرحم) و ب (قل هو الله أحد) اقرأها عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك ومن فوقك ومن تحتك، فإذا دخلت على سلطان جائر فاقرأها حين تنظر إليه ثلاث مرات واعقد بيدك اليسرى ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده.(1)

* الشرح:

(احتجز من الناس كلهم) أي امتنع من شرهم من الحجز بمعنى المنع (ب (بسم الله الرحمن الرحيم) وب (قل هو الله أحد)) الظاهر وحدة التسمية والتعدد محتمل.

(اقرأها عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك ومن فوقك ومن تحتك) الظاهر هو الترتيب المذكور مع احتمال تقديم القراءة بين اليدين على اليمين، ثم اليسار على الخلف، ولعل المعتبر في الفوق والتحت رفع الرأس وخفضه وفي الجهات الباقية التوجه بالوجه ومقاديم البدن إليها مع احتمال الاكتفاء بالقصد في الجميع (ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده) نفى أو نهى أي لا تفارق قراءة التوحيد وعقد اليسري والتخصيص بأحدهما بعيد.

* الأصل:

21 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن جعفر، عن السياري، عن محمد بن بكر عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنه قال: (والذي بعث محمد 9 بالحق وأكرم أهل بيته ما من شيء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابة من صاحبها أو ضالة أو آبق إلا وهو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني عنه) قال: فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عما يؤمن من الحرق والغرق؟ فقال: اقرأ هذه الآيات (الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)(2) (وما قدروا الله حق

ص:67


1- -الکافی :624/2.
2- -سورة الأعراف:16.

قدرة) - إلى قوله - سبحانه تعالى (وعما يشركون) فمن قرأها فقد أمن الحرق والغرق) قال:

فقرأها رجل واضطرمت النار في بيوت جيرانه وبيته وسطها فلم يصبه شيء، ثم قام إليه آخر فقال:

يا أمير المؤمنين إن دابتي استصعبت علي وأنا منها على وجل، فقال: (اقرأ في اذنها اليمنى (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون)) فقرأها فذلت له دابته وقام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين إن أرضي أرض مسبعة وإن السباع تغشى منزلي ولا تجوز حتى تأخذ فريستها.

فقال: إقرأ (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) فقرأهما الرجل فاجتنبته السباع ثم قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إن في بطني ماء أصفر فهل من شفاء؟ فقال: (نعم بلا درهم ولا دينار ولكن اكتب على بطنك آية الكرسي وتغسلها وتشربها وتجعلها ذخيرة في بطنك فتبرأ بإذن الله عز وجل) ففعل الرجل فبرأ باذن الله، ثم قام اليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الضالة؟ فقال: (إقرأ يس في ركعتين وقل: يا هادي الضالة رد علي ضالتي) ففعل فرد الله عز وجل عليه ضالته، ثم قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الآبق؟ فقال: (اقرأ (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج) - إلى قوله: - (ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور). فقالها الرجل فرجع إليه الآبق، ثم قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن السرق فإنه لا يزال قد يسرق لي الشيء بعد الشيء ليلا؟ فقال له: (اقرأ إذا أويت إلى فراشك (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) - إليه قوله: (وكبره تكبيرا) ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من بات بأرض قفز فقرأ هذه الآية (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) - إلى قوله: تبارك الله رب العالمين) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين) قال: فمضى الرجل فإذا هو بقرية خراب فبات فيها ولم يقرأ هذه الآية فتغشاه الشيطان وإذا هو آخذ بخطمه فقال له صاحبه: أنظره واستيقظ الرجل فقرأ الآية فقال الشيطان لصاحبه: أرغم الله أنفك احرسه الآن حتى يصبح فلما أصبح رجع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخبره وقال له: رأيت في كلامك الشفاء والصدق، ومضى بعد طلوع الشمس، فإذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعا في الأرض.(1)

* الشرح:

قوله: (من حرق أو غرق أو سرق) هذه الثلاثة بفتح الراء وقد تسكن في الأولين وتكسر في

ص:68


1- -الکافی :624/2.

الأخير مصادر وقد يطلق الأول على النار أيضا.

(الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) هذه الآية في سورة الأعراف وصدرها (إن ولي الله الذي) وفي عدم ذكره إيماء إلى جواز الاقتصار في التعويذ على ما ذكر والظاهر أن ذكره أولى (وما قدروا الله حق قدره) في سورة الزمر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) وقد مر تفسيره، والظاهر أن الأثر وهو الأمن من الحرق والغرق مترتب على مجموع الآيتين وترتبه على كل واحدة منهما أيضا محتمل.

(ولقد جاءكم رسول)) التنكير للتعظيم (من أنفسكم) أي من نوعكم وهو صفة لرسول أو متعلق بجاء (عزيز عليه ما عنتم) ما مصدرية أي شاق شديد عليه ولحوق الإثم والهلاك والفساد والمشقة بكم (حريص عليكم) أي على إيمانكم بالله وصلاحكم وهدايتكم إليه.

(بالمؤمنين) منكم (رؤوف رحيم) ذكر الرحمة بعد الرأفة وهي أشد الرحمة من باب ذكر العام بعد الخاص (فإن تولوا) عنك وأعرضوا عن الإيمان بك (فقل حسبي الله) أي يكفي عنكم وينصرني عليكم.

(لا إله إلا هو) كالدليل على السابق ((عليه توكلت) في جميع الأمور فلا أرجو غيره ولا أطلب النصر إلا منه (وهو رب العرش العظيم) أي الملك العظيم أو الجسم المحيط.

(ولكن اكتب على بطنك آية الكرسي) إلى (العلي العظيم) والأولى (إلى هم فيها خالدون) والأفضل أن يكون الكتابة بتربة الحسين (عليه السلام) لما روي من أنه شفاء.

(وتغسلها وتشريها وتجعلها ذخيرة في بطنك) الذخيرة ما يبقى ويحفظ من الطعام والشراب مثلا لوقت الحاجة إليه والظاهر أن «في» للتعليل والظرفية محتملة (اقرأ يس في ركعتين) يعني بعد الحمد على الظاهر.

(وقل) بعد الفراغ من الركعتين أو قبله على احتمال (: يا هادي الضالة) يعني إلى طريق الصواب وهو طريق العود إلى صاحبها.

(حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين) نظيره في كتب العامة قال أبو عبد الله شارح مسلم: شرط حصول تلك الحراسة والتباعد القبول. فمن قاله ورأى خلاف ذلك فهو دليل على أن الله سبحانه لم يقبله وكذا غيره من الأذكار.

(وإذا هو آخذ بخطمه) بخطمه بالباء الموحدة في أكثر النسخ وهو من الدابة مقدم أنفها وفيها، وفي بعضها بالياء المثناة التحتانية على صيغة المضارع يقال: خطمه يخطمه إذا ضرب أنفه وخطمه صک69

بالخطام إذا جعله على أنفه وإذا جر ليضع عليه الخطام وفي بعضها بلحيته.

(فقال الشيطان لصاحبه: أرغم الله أنفك أحرسه الآن حتى يصبح) لعل المراد بصاحبه الذي أمره بالإنظار هو الملك ولو أريد به الشيطان لورد أن الحراسة فعل الملك دون الشيطان كما مر ويمكن دفعه بأنه لا منافاة بين إثبات الحراسة للملك سابقا وللشيطان هنا فليتأمل (فإذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعا في الأرض) دل على أن الشيطان جسم له شعر ويمكن أن يراد بالشعر شعر ذلك الرجل الساقط منه لجذب الشيطان وإضافته إليه لأدنى ملابسة.

* الأصل:

22 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن سلمه بن محرز قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شيء).

* الأصل:

23 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من قرأ إذا أوى إلى فراشه: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) كتب الله عزوجل له براءة من الشرك).

* الأصل:

24 - علي من إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن أبيه، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (لا تملوا من قراءة (إذا زلزلت الأرض زلزالها) فانه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه الله عزوجل بزلزلة أبدا ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت، وإذا مات نزل عليه ملك كريم من عند ربه فيقعد عند رأسه فيقول: يا ملك الموت ارفق بولي الله فإنه كان كثيرا ما يذكرني ويذكر تلاوة هذه السورة، وتقول له السورة مثل ذلك ويقول ملك الموت: قد أمرني ربي أن أسمع له وأطيع ولا اخرج روحه حتى يأمرني بذلك فإذا أمرني أخرجت روحه، ولا يزال ملك الموت عنده حتى يأمره بقبض روحه وإذا كشف له الغطاء فيرى منازله في الجنة فيخرج روحه من ألين ما يكون من العلاج، ثم يشيع روحه إلى الجنة سبعون ألف ملك يبتدرون بها إلى الجنة).

* الشرح:

قوله: (لا تملوا من قراءة (إذا زلزلت الأرض).. الخ) دل على أن الجزاء المذكور مترتب على إكثار القراءة وأخذها عادة فإذا مات يعني إذا حضره الموت.

ص:70

باب النوادر

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن عبيس بن هشام، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قراء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده وأقامه إقامة القدح فلا كثر الله هؤلاء من حملة القرآن ورجل، قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه، فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء وبأولئك يديل الله عزوجل من الأعداء وبأولئك ينزل الله عزوجل الغيث من السماء فوالله لهؤلاء في قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر).(1)

* الشرح:

قوله: (فاتخذه بضاعة) هي بالكسر قطعة من المال تعد للتجارة يعني اتخذ القرآن رأس ما يطلب منه المنافع والأرباح عند الناس.

(واستدر به الملوك.. اه) استدر الشيء إذا استجلبه يعني استجلب بسبب القرآن المال من الملوك واستطال بسببه على الناس لكثرة المال وعزة السلاطين له.

(ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه) وكلماته وحركاته وسكناته وغيرهما مما يعد من المحسنات اللفظية والاعتبارات العربية.

(وضيع حدوده) بترك ما نطق به من الأوامر والنواهي والأخلاق والمواعظ والآداب والأمثال (وإقامة القدح) القدح بالكسر السهم قبل أن يراش وينصل وهذا تأكيد لحفظ الحروف وتضييع الحدود جميعا إذ فيه حفظ لبعض الحقوق وترك لأعظمها كما في القدح وكذا إن قرأ القدح بالتحريك لأنه انتفع به من بعض الوجوه وضيعه من وجه آخر حيث جعله وراء ظهره كما ينتفع أحد من القدح ويشرب منه ثم يعلقه في آخر رحله عند ترحاله ويجعله خلفه وإليه أشار (صلى الله عليه وآله) بقوله:

«ولا تجعلوني كقدح الراكب».

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب،

ص:71


1- -الکافی :627/2.

عن أبي حمزة، عن أبي يحيى، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام).

* الشرح:

قوله (نزل القرآن أثلاثا.. اه) الغرض منه هو الإخبار عما في الواقع مع الحث على الإقرار بالولاية والبراءة من أعدائها والإتعاظ بالعبر والأمثال والعمل بالسنن والفرائض والأحكام وينبغي أن يعلم أن مثل هذا التقسيم وهو تقسيم الكل إلى الأجزاء قد يتفاوت بحسب الاعتبار ولا يجب فيه التساوي في المقدار. نعم لابد من عدم خروج جزء منه فلو دخل جزء في جزء أو عد جزئين جزءا لصح فلذلك دخل الثلث الأول من هذا التقسيم في الربع الأخير من التقسيم الثاني إذ فصل ما بينكم يشمله وجعل هذا الثلث جزئين في التقسيم الثالث حيث قال (عليه السلام) (ربع فينا وربع في عدونا) ومن هذا تبين أنه لا منافاة بين هذا التقسيم والتقسيمين الباقيين له وأنه لا يرد أن القرآن سبعة عشر ألف آية كما سيجيء وآيات الفرائص والأحكام خمسمائة فكيف يكون ثلثه؟.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن علي بن عقبة، عن داود بن فرقد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم).

* الأصل:

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام).

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، عن منصور بن العباس، عن محمد ابن الحسن السري، عن عمه علي بن السري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أول ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك) وآخره (إذا جاء نصر الله).(1)

* الشرح:

قوله: (إن أول ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك)) مثله في رواية العامة وفيه دلالة على أن البسملة جزء من هذه السورة وتأويل الشاطبي بأنه دليل على أنه

ص:72


1- -الکافی:628/2.

لابد منها لا على أنه جزء من السورة بعيد جدا وفي بعض رواياتهم أن أول ما نزل (اقرأ باسم ربك) واستدل بعضهم بذلك على أن البسملة ليست من السورة لأن اقرأ أول سورة نزلت ثم قال فيه دلالة على بطلان مذهب الشافعي وهو أن البسملة آية من كل سورة أقول فيه نظر من وجهين: الأول أن المذكور في الرواية أن (اقرأ باسم ربك) أول ما نزل وليس فيها أنه أول سورة نزلت فيجوز أن يكون البسملة نزلت بعد ذلك وقد صح عندهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا نزلت آية يقول: (اجعلوها في موضع كذا) ولعله قال في البسملة: (اجعلوها في كل سورة فهي جزء منه.) ومما يدل على ذلك أنهم قالوا أول ما نزل اقرأ إلى قوله تعالى (ما لم يعلم) ثم نزل (يا أيها المزمل) و (يا أيها المدثر) فكما أن بقية السورة نزلت بعد ذلك ثم ضم مع ما نزل أولا ثم صار جزءا للسورة فكذلك نزول البسملة بعد ضمها إلى ما نزل أولا لا ينافي أن يكون جزءا من السورة والثاني: يجوز أن يكون (اقرأ باسم ربك) علما للسورة التي أولها البسملة فلا دلالة في الرواية على أن البسملة ليست جزءا من السورة قطعا.

(وآخره) أي آخر ما نزل (إذا جاء نصر الله) اختلف العامة في أول سورة (1) نزلت كاملة فقيل:

براءة وقيل (إذا جاء نصر الله) وكانوا يسمونها بسورة التوديع واختلفوا في وقت نزولها على أقوال:

أشبهها أنها نزلت في حجة الوداع، ثم نزل بعدها (اليوم أكملت لكم دينكم) فعاش بعدها ثمانين يوما ثم نزلت بعدها آيت الكلالة (يستفتونك.... في الكلالة) فعاش بعدها خمسين يوما ثم نزل بعدها (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما وقيل: سبعة أيام.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وإنما انزل في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله):

نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وأنزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان).(2)

* الشرح:

قوله: (وإنما انزل) القرآن (في عشرين سنة) الغرض منه بيان طول زمان النزول لا تحديد زمانه

ص:73


1- - في بعض النسخ «آخر سورة».
2- -الکافی:628/2.

بحسب الواقع أو أهمل ذكر الكسر بحسب المتعارف وإلا فهو أنزل في ثلاثة وعشرين سنة.

(وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان) هذا مع قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) دليل واضح على أن ليلة القدر ثلاث وعشرين من شهر رمضان ويدل عليه روايات أخر.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تتفأل بالقرآن).(1)

* الشرح:

قوله: (لا تتفأل بالقرآن) التفاؤل مهموز فيما يسر ويسوء يقال: تفألت بالتشديد وتفألت بالتخفيف وتفايلت بالقلب وقد أولع الناس بترك همزة تخفيفا وقالوا الفال بوزن المال والفأل بالقرآن متصور بوجوه الأول أن يقصد مطلبا ويسمع مقارنا له آية يستنبطه منها الخير والشر أو من أول حرف منها كما يفعله أصحاب الحروف الناظرون إلى خواصها، الثاني أن يفتح المصحف ويستنبط الخير والشر من الآية الأولى في الصفحة اليمنى أو من أول حرف منها، الثالث أن يفتحه ويعد اسم الله في الصفحة اليمنى ويعد بعدده أوراقا من اليسرى وبعدده سطورا من اليسرى وينظر إلى أية بعد تلك السطور أو إلى أول حرف منها ولعل النهي عنه محمول على الكراهية جميعا بينه وبين ما دل على الجواز مع أن الخلف والسلف عملوا به ولم ينكر عليهم من يعتد به وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشاف في آية الإستقسام بالأزلام ومن المعاصرين من حمل النهي على التحريم وخصه بذكر الأمور الغيبية وبيان الأشياء الخفية هذا حال التفأول بالقرآن وأما التفأول بديوان الشعراء كما هو المتعارف عند العوام فالظاهر أنه حرام وأنه من الأزلام والله يعلم.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن محمد بن الوراق قال: عرضت على أبي عبد الله (عليه السلام) كتابا فيه قرآن مختم معشر بالذهب وكتب في آخره سورة بالذهب فأريته إياه فلم يعب شيئا إلا كتابة القرآن بالذهب وقال: (لا يعجبني أن يكتب القرآن إلا بالسواد كما كتب أول مرة).

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن ياسين الضرير عن حريز،

ص:74


1- -الکافی:629/2.

عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال تأخذ المصحف في الثلث الثاني من شهر رمضان فتنشره وتضعه بين يديك وتقول: «اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه وفيه اسمك الأعظم الأكبر واسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار» وتدعو بما بدا لك من حاجة.

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمر وابن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان).(1)

* الشرح:

قوله: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) سمي شهر رمضان ربيع القرآن وشبهه بربيع الأزمنة وهو أول ما يظهر فيه النور والكمأة إلى أن يدرك الثمار والوجه نشاط القلوب في شهر رمضان وميلها إلى تلاوة القرآن ومشاهدة أسراره كنشاطها وميلها إلى مشاهدة الربيع ومشاهدة أزهاره وأنواره وأثماره أو نمو أجر التلاوة وثواب القراءة فيه زيادة على غيره من الشهور كنمو النباتات والأشجار والأثمار والله يعلم.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن سنان أو عن غيره، عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد؟ فقال (عليه السلام): (القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به).(2)

* الشرح:

قوله: (القرآن جملة الكتاب) القرآن في الأصل مصدر بمعنى الجمع تقول قرأت الشيء قرآنا إذا جمعته، ثم نقل إلى هذا الكتاب لأنه جمع القصص والأمثال، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والسور وغيرهما من الأسرار التي لا تحصيها.

قوله: (الفرقان المحكم الواجب العمل به) الفرقان في الأصل مصدر بمعنى الفرق ثم نقل إلى الواجب العمل به على الوجه المطلوب لأنه فارق فاصل بين الواجب والحرام وغيرهما من الأحكام وقد يطلق على جملة الكتاب أيضا لأنه فاصل بين الحق والباطل والمراد بالمحكم الحكم المتقن الباقي إلى آخر الدهر.

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد، عن الوشاء، عن جميل بن دراج، عن محمد بن

ص:75


1- -الکافی:630/2.
2- -الکافی:630/2.

مسلم، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيىء من قبل الرواة.(1)

* الشرح:

قوله: (إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة) (2) لعل المراد القرآن نزل بلغة واحدة على قراءة واحدة هي لغة قريش وقراءتهم يدل عليه قوله تعالى:

(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) والنبي (صلى الله عليه وآله) كان قريشيا وإنما جاء إختلاف القراءة في اللغاة من قبل الرواة كما تعرفه بعيد ذلك.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن الفضيل بن يسار، قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال: (كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد).

ص:76


1- -الکافی:630/2.
2- - قوله: (لكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة) هذه الرواية موافقة لمقتضى العقل والعادة في نقل الكتب ورواياتها والأشعار والخطب وغيرها إذا لم نرى كتابا أو قصيدة أو خطبة حفظ الرواة واتفقوا على جميع ألفاظها وحركاتها وتقديمها وتأخيرها وزيادتها ونقصانها مهما اهتموا بضبطها وحفظها من أولها إلى آخرها يعلم ذلك المتتبعون للكتب القديمة بل الغال إختلاف النسخ في سطور وصفحات أقل أو أكثر من أن المصنف لم يعمل كتابه وشعره إلا على وجه واحد ولو ادعى أن حفظ جميع الرواة لجميع الألفاظ محال لم يبعد لكن لما كان العلم بما هو الواقع محالا لم يؤمر أحد بتحصيله واختياره وجاز الاكتفاء بإحدى الروايات والقرآن احفظ ما بقي وأقل ما وقع الخلاف فيه ولعل إختلاف القراءة فيه مما لا يعبأ به لكونه تافها جدا وشرط ما يقرء أن يكون متواترا عن أحد الأئمة الذين اتفقوا على اتقانهم وضبطهم ممن يعلم أنهم لم يقرؤوا إلا بما تواتر لديهم. وهذا غاية ما يمكن فيه التحري ولذا اتفق المسلمون قاطبة على عدم قبول غير المتواتر وإن القرآن لا يثبت بإخبار الآحاد ولا طريق لنا إلى قراءة أمثال ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما إلا بطريق الآحاد لعدم شهرة قراءتهم بين الأنام وإنما نقل ما نقل عنهم شاذا وأما قراءة السبعة فكانت مشهورة متداولة في مشارق الأرض ومغاربها من عهدهم إلى زماننا بحيث يمتنع تواطؤ الناقلين عنهم على الكذب عمدا أو سهوا كما يمتنع تواطؤ الناقلين مواضع المشاعر وقبور الأئمة وحدود مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) والمسجد الحرام والمسعى وعرفات ومنى وحفظ أيام الأسابيع ولو كنا في زمن الأئمة عليهم السلام وأمكننا تحصيل التواتر على قراءة ابن مسعود مثلا لجاز لنا اختيارها في عرض سائر القراءات لاحتمال وجود القراءة الأولى التي نزل بها جبرئيل فيها وفي غيرها على السواء ولكن لم يبق لنا طريق متواتر إلا إلى السبع ولا يبعد عندي تواتر العشر أيضا وأما ما سواها فلا يجوز لنا قطعا والقراءة المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام) منقولة لنا أيضا بطريق الآحاد ولا نثق بصحة النسبة والله العالم. (ش)

* الشرح:

قوله: (فقال: كذبوا أعداء الله) التركيب من باب (وأسروا النجوى الذين ظلموا) في أن الظاهر يدل من الضمير أو فاعل والضمير علامة الجمعية.

قوله: (ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد) لا بأس أن نشير إلى بعض رواياتهم واختلاف علمائهم وأن طال لإيضاح المقام (1) وللإحاطة بأطراف الكلام فنقول روى مسلم سبع روايات على أن القرآن نزل على سبعة أحرف منها ما رواه عن عمر يقول: سمعت هشام ابن حكيم حزام يقرء سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم كببته بردائه فجئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله اني سمعت هذا يقرء سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أرسله يقرأ). فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال: (هكذا أنزلت) ثم قال لي: (اقرأ) فقرأت فقال: (هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) ومنها ما رواه عن أبي بن كعب قال: «أن جبرئيل (عليه السلام) أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: (اسأل الله تعالى معافاته ومغفرته وإن أمتي لا يطيق ذلك) ثم أتاه الثانية فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين فقال: (اسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا يطيق ذلك).

ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا يطيق ذلك) ثم جاءه الرابعة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا» قال العامة: سبب إنزاله عليها التسهيل والتخفيف على الأمة فلذا قال فاقرؤوا ما تيسر منه» وقال: «أمتي لا يطيق ذلك» واختلفوا فقيل:

ص:77


1- - قوله: «وإن طال لإيضاح المقام» ولكن ليس للتطويل فائدة معتد بها لأن الرواية إن كانت صحيحة أو ضعيفة والمراد من السبع سبع قراءات أو سبع لغات أو سبعة أقسام من أصناف المطالب أو غيرها لم يؤثر في تكليفنا في القراءة بعد عصر النبي (صلى الله عليه وآله) إذ الحصول على الواقع محال كما قلنا والاختلاف قليل جدا ولا محيص عن القراءة بهذه القراءات المشهورة فإن اكتفينا بالمتواتر فهو وإلا فيجب تجويز كل ما روي بطريق الآحاد والشواذ ويعظم الخرق ويزيد الاختلاف على ما هو موجود أضعافا مضاعفة وطبع المسلم الموحد يأبى ذلك قطعا. وقد بينا ذلك بالتفصيل في حواشي الوافي فراجع إليه. واعلم أن أمثال هذا الاختلاف في القراءات لو وقعت في غير القرآن من الكتب والأشعار لا يعد اختلافا أصلا مثلا في قول امرئ القيس: «وقوفا بها صحبي على مطيهم» أو مطيهم بضم ياء مطيهم أو فتحها وكذا «الأعم صباحا أيها الطلل البالي» أو «ألا أنعم صباحا» لا يعد إختلافا وإنما الاختلاف المنظور فيها زيادة جملة أو نقصانها أو تبديل كلمة بمغايرتها في الكتابة والتلفظ ولذلك يصح لنا أن ندعي أنه ليس في القرآن إختلاف إذ لو قلنا أن فيه ما في سائر الكتب لذهب الوهم إلى ما هو المتعارف فيها من الاختلاف وليس كذلك (ش)

ليس المعنى الحصر في السبعة لأن بعض الكلمات تقرأ على أكثر من سبعة أوجه وإنما هو توسعة وتسهيل وقال الأكثر هو حصر للعدد في السبعة لأن الزيادة على السبعة وفي بعض الكلمات إما لا يثبت وأما يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوهما. واختلفوا أيضا فقالت طائفة منهم: المراد بالأحرف السبعة اللغات لما نقل عن ابن عباس أنه قال «نزل القرآن على سبع لغات» وهؤلاء قد اختلفوا فقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبعة مفرقة فيه فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوزان، وبعضه بلغة اليمن وغيرهم، وبعض هذه اللغات أسعد بها من بعض وأكثر نصيبا وقال ابن حجر: المراد أن القرآن نزل على سبعة أوجه يجوز أن يقرء بكل وجه منها وليس المراد أن كل كلمة وجملة منه تقرأ على سبعة أوجه بل المراد أن غاية ما ينتهي إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة سبعة فتقرأ الكلمة بوجه وبوجهين إلى سبعة، وقيل: اللغات السبعة كلها من مضر وهم سبع قبائل هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش وقال أبو حاتم السجستاني: نزل القرآن بلغة هذيل وقريش وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر وقال ابن قتيبة اللغات السبعة كلها في بطون قريش واحتج بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) والنبي (صلى الله عليه وآله) كان قريشيا وبذلك جزم أبو علي الأهوازي ونقل أبو اسامة عن بعض شيوخهم أنه نزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم بإستعمالها على خلافهم في الألفاظ والإعراب ولم يكلف أحد منهم الإنتقال من لغة إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية وطلب تسهيل فهم المراد مع اتفاق المعنى وعلى هذا ينزل اختلافهم في القراءة.

وقال ابن حجر: وتتمة ذلك أن يقال أن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعي في ذلك السماع عن النبي (صلى الله عليه وآله) ويشير إليه قول كل من عمر وهشام في الحديث المذكور: أقرأني النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعا له وقال الصحابي: الأحرف السبعة إنما كانت في أول الأمر لاختلاف لغات العرب ومشقة تكلمهم بلغة واحدة فلما كثر الناس والكتب عادت إلى قراءة واحدة وقيل: أجمعوا على أن ليس المراد كما تقدم أن كل لفظ منه يقرأ على سبعة أوجه بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل عبد الطاغوت (ولا تقل لهما أف) وحاصل ما ذهب إليه هؤلاء أن القرآن نزل سبع لغات للتوسعة على القارئ بأن يقرأه بأي لغة أراد منها على البدل من صاحبها وذلك للتسهيل إذ لو أخذوا بأن يقرؤوه على لغة واحدة

ص:78

لشق عليهم فلذلك جوز لهم أن يقرؤوه بلغات متعددة وقال بعضهم: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات واختلف هؤلاء على أقوال فقيل: هي في المعاني يعني أنه نزل القرآن على سبعة أصناف من المعاني واحتج بحديث ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (كان الكتاب الأول منزلا من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال) ورد أولا بعدم ثبوت هذا الحديث من طريق معتبر وثانيا بأن قوله: (زاجر) وما بعده استيناف كلام آخر أي هو يعني القرآن زاجر لا تفسير للأحرف أو تفسير للأبواب لا للأحرف يعني أن القرآن سبعة أبواب من أبواب الكلام وقيل: هي في إختلاف اللفظ واتحاد المعنى مثل أقبل وأسرع عجل وهلم وتعال وقد جاء هذا مبينا في قوله تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) مضوا فيه مروا فيه وقيل: هي في صفة التلاوة الإظهار والإدغام والتخفيف والتفخيم والترقيق والمد والإمالة لأن العرب كانت تختلف لغاتها في هذه الوجوه فسهل الله سبحانه ويسر أن يقرأ كل بلغته.

وقيل هي: تبديل خواتم الآي كجعل سميع بصير مكان غفور رحيم وقال محيي الدين: هذا القول فاسد لأنه استقر الإجماع على منع التغيير في القرآن ولو شدد إنسان ما هو مخفف لبادر الناس إلى الإنكار فكيف بتبديل كثيره وكذلك القول الثاني لإجماع المسلمين على امتناع تبديل آيات الأحكام بآيات الأمثال ورجح القول الثالث وقال ابن قتيبة: المراد التغاير في سبعة أشياء الأول ما يتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل «ولا يضار كاتب ولا شهيد» بنصب الراء ورفعها. الثاني ما يتغير بتغير الفعل مثل «بعد بين أسفارنا» و «باعد بين أسفارنا» بصيغة الطلب والفعل الماضي. الثالث ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل ننشرها بالراء والزاي. الرابع ما يتبدل بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل طلح منضود وطلع منضود. والخامس ما يتغير بالتقدم والتأخر مثل وجاءت سكرة الموت بالحق وجاءت سكرة الحق بالموت. السادس ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى) هذا في النقصان وأما في الزيادة فكما في قراءة من قرأ (وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين). السابع ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة كما في العهن المنفوش والصوف المنقوش وقال بعضهم: المراد بسبع أحرف وجوه القراءة التي اختارها القراء وهي السبعة المشهورة وقال صاحب المغرب هذا أحسن الأقوال فيها وهو ظاهر كلام الباقلاني وقال أبو أسامة ظن قوم أن القراءة السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل ويقرب منه قول ابن عمار وقال محمد بن أبي صغرة القراءات السبع التي يقرأها الناس اليوم إنما هي حرف

ص:79

واحد من تلك الأحرف السبعة ويقرب منه قول مكي بن أبي طالب حيث قال: هذه القراءات التي يقرأ بها الناس اليوم وصحت روايتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم قال: وأما ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم وابن كثير وابن عامر وحمزة وكسائي وأبي عمرو هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما يثبت عن غيرهم من الأئمة ووافق خط المصحف لا يكون قرآنا وهذا غلط عظيم فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين كأبي عبيد القسم بن سلام وأبي حاتم السجستاني وأبي جعفر الطبري وإسماعيل بن إسحاق القاضي قد ذكروا اضعاف هؤلاء قال ابن حجر ذكر أبو عبيد في كتابه خمسه عشر رجلا من كل مصر ثلاثة أنفس فذكر من مكة ابن كثير وابن محيصن وحميد الأعرج ومن أهل المدينة أبا جعفر وشيبة ونافعا، ومن أهل البصرة أبا عمرو وعيسى بن عمر وعبد الله بن أبي إسحاق ومن أهل الكوفة يحيى بن وثاب وعاصما والأعمش.

ومن أهل الشام عبد الله بن عامر ويحيى بن الحرث قال: وذهب عني اسم الثالث ولم يذكر في الكوفيين حمزة ولا الكسائي بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة ولم يجتمع عليه جماعتهم قال: وأما الكسائي فكان ينجزي القراءات فأخذ من قراءة الكوفيين بعضا وترك بعضا وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلا ولم يذكر فيهم ابن عامر ولا حمزة ولا الكسائي، وذكر الطبري في كتابه اثنين وعشرين رجلا، ثم قال مكي وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير وبالمدينة على قراءة نافع واستمروا على ذلك فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراءة من هو أجل منهم قدرا وأكثر منهم عددا أن الراة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا فلما تقاصرت الهمم به اقتصورا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وينضبط القراءة به فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إماما واحدا ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي جعفر وشيبة وغيرهم وقد صنف ابن جبير المكي وكان قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة اقتصر من كل مصر إماما وإنما اقتصر على ذلك، لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى هذه الأمصار كانت خمسة.

ويقال أنه وجه سبعة هذه الخمسة ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى البحرين لكن لما لم يسمع لهذين المصحفين خبر وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف استبدلوا من غير البحرين

ص:80

واليمن قاريين كمل بهما العدد فصادف ذلك العدد الذي ورد الخبر به وهو «ان القرآن أنزل على سبعة أحرف» فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسئلة ولم يكن له فطنة فظن أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع ولا سيما قد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة فقالوا قرأ بحرف نافع وبحرف ابن كثير فتأكد الظن بذلك وليس الأمر كما ظنه والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أن الذي يصح سنده في السماع ويستقيم وجهه في العربية ويوافق خط المصحف وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه ويراد بالاتفاق ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم وقال وربما يراد بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين قال وأصح القراءة سنة قراءة نافع وعاصم وأفصحها قراءة أبي عمرو والكسائي. وقال البغوي المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنسخ في المصاحف وجمع الناس عليه وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعدوا في اللفظ إلى ما هو خارج من الرسم، ويقرب منه قول الباجي حيث قال لا سبيل إلى تغيير حرف من تلك الحروف التي في هذا المصحف لأن عثمان والصحابة حرقوا المصاحف الأول ما سوى هذا المصحف ولو كان فيها شيئا من بقية تلك الحروف التي أنزل عليها القرآن لم يحرقوه وأيضا حرقوه لأنها كانت على غير ترتيب هذا المصحف المتفق على ترتيبه.

وبالجملة اتفقت العامة على أن القرآن نزل على سبعة أحرف وان اختلفوا في تفسيرها وتعيينها حتى نقل عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولا. وبالغ الصادق (عليه السلام) في الرد عليهم وقال: أنه نزل على حرف واحد والاختلاف إنما جاء من قبل الرواة فالتبس ذلك الحرف المنزل بغيره على الأمة لأجل ذلك فيجوز لهم القراءة بأحد هذه الحروف حتى يظهر الأمر كما دل عليه الحديث الآتي عن سفيان بن السمط قال: «سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن تنزيل القرآن قال: (اقرؤوا كما علمتم)» ودل عليه أيضا أخبار أخر.

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة).

وفي رواية اخرى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (معناه ما عاتب الله عزوجل به على نبيه (صلى الله عليه وآله) فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) عنى بذلك غيره).(1)

ص:81


1- -الکافی:630/2.

* الشرح:

قوله: (نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة) الجارة بالتخفيف ضرة المرأة من المجاورة بينهما والمراد أنه نزل بعض آيات القرآن وهو أيضا قرآن على سبيل التعريض وهو توجيه الخطاب إلى شخص وإرادة غيره لكونه أدخل في النصح وأقرب إلى القبول أو لغرض آخر ومنه قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله): (لئن أشركت ليحبطن عملك) فإنه تعريض لغيره.

قوله: (معناه) أي معنى نزول القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة (ما عاتب الله به عز وجل على نبيه (صلى الله عليه وآله)) العتب الموجدة والملامة كالعتاب والمعاتبة والظاهر أنه مبتدء وخبره ما في آخر الحديث وهو قوله: «عني بذلك غيره» (فهو يعني به ما قد مضى في القرآن) أي أوحى فيه.

(مثل قوله: (ولولا ثبتناك)) خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله) (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) الظاهر أن قوله «فهو» إلى آخر كلام الراوي أو المصنف وقع بعد المبتدء وقبل الخبر تفسيرا للمبتدء وتمثيلا له وإن ضمير «هو» و «يعني» راجع إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وضمير «به» إلى الموصول (عنى بذلك غيره) لتنزهه (صلى الله عليه وآله) عن الركون إليهم وذلك إشارة إلى الموصول والله يعلم.

* الأصل:

15 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله ابن جندب، عن سفيان بن السمط قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن تنزيل القرآن قال: (اقرؤوا كما علمتم).(1)

* الشرح:

قوله: (اقرؤوا كما علمتم) القرآن نزل على حرف واحد من غير إختلاف فيه ولا يعلمه إلا أهل الذكر عليهم السلام، والاختلاف إنما جاء من قبل الناس فأمر (عليه السلام) بقراءته على وجه علموه لنا إلى أن يخرج الصاحب (عليه السلام)، فإذا خرج حمل الناس على ما أنزله تعالى على رسوله كما سيجيء.

* الأصل:

16 - علي بن محمد، عن بعض أصحابه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إلي أبو الحسن (عليه السلام) مصحفا وقال: (لا تنظر فيه) ففتحته وقرأت فيه (لم يكن الذين كفروا) فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم قال: فبعث إلي (ابعث إلي بالمصحف).(2)

* الشرح:

قوله: (عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إلي أبو الحسن (عليه السلام) مصحفا وقال لا تنظر فيه.. الخ) أحمد بن محمد بن أبي نصر معروف بالبزنطي ثقة جليل القدر وكان له اختصاص بأبي

ص:82


1- -الکافی:631/2.
2- -الکافی:631/2.

الحسن الرضا وأبي جعفر عليهما السلام وكان عظيم المنزلة عندهما وكان هذا المصحف المدفوع إليه هو الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفات النبي (صلى الله عليه وآله) وأخرجه وقال: (هذا هو القرآن الذي أنزله سبحانه). ورده قومه ولم يقبلوه وهو الموجود عند المعصوم ومن ذريته كما دل عليه الأخبار وفي هذا الخبر دلالة على وجود مصحف غير هذا المشهور بين الناس وعلى وجود التحريف والتغيير والحذف فيما أنزله الله تعالى من القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله) ورفعه لا يضر لإعتضاده بأخبار أخر من طرقنا وهي كثيرة مذكورة في كتاب الروضة وغيره، وقد دل الأخبار من طرقهم أيضا على وقوع التغيير لأنهم رووا أن القرآن نزل على سبعة أحرف وقد فسره كثير منهم بأن المراد بالأحرف لغات العرب وبأن العرب كانوا يقرؤونه بلغاتهم إلى عهد عثمان فلما ملك عثمان أمر الأمة أمر الصحابة بجمع مصحف غير المصاحف التي جمعوها قبل ذلك فلما امتثلوا بأمره حرق المصاحف الأول، وقال أبو عبد الله الأبي من علمائهم: إنما حرقها لأنها كانت على غير ترتيب المصحف الذي اتفقوا على ترتيبه أو لأن بعض ما فيها لم يكن من القرآن أو لأنه القرآن ثم نسخ ولم يعلم بعضهم نسخه فقرأه على ما أنزل وحمل عليه قراءة ابن مسعود (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى) وأمثال ذلك كثير فهي إما أن يكون من القرآن أو لم يكن وعلى التقديرين لزم التحريف وإدخال الصحابة ما ليس بقرآن من القرآن مستبعد جدا وثبوت النسخ في أمثال ذلك إما أن يكون باعتقاد بعضهم أو بإجماعهم أو بالنقل والأول ليس بحجة والثاني ليس بمتحقق قطعا لأن إنكار بعضهم لفعله وضربه لابن مسعود مشهور، والثالث يستبعد وقوعه مع غفلة مشاهير الصحابة عنه وعلى تقدير تحققه فلا يجري في الجميع لأنه لم يدع أحد نقل النسخ في جواز القراءة بسبع لغات وليس في المصحف المشهور بين الناس إلا بعض اللغات دون جميعها فليتأمل.

* الأصل:

17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن حسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبي (عليه السلام): (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر).(1)

* الشرح:

قوله: (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر) يحتمل وجهين: الأول أن يراد بالضرب المعنى المعروف فإن كان من باب الاستخفاف فهو كفر جحود وإلا فهو كفر النعمة وترك الأدب.

الثاني أن يستعمل الرأي في المجمل والمؤول والمطلق والعام والمجاز والمتشابه وغيرها من

ص:83


1- -الکافی:632/2.

المعضلات ويجمع بينها بإعتبارات خيالية وإختراعات وهمية ويستنبط منها أحكاما يعمل بها ويفتي بها من غير أن يكون له مستند صحيح ونقل صريح عن أهل الذكر عليهم السلام، وقد نقل عن الصدوق أنه قال في كتاب معاني الأخبار «سألت محمد بن الحسن عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن يجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى».

* الأصل:

18 - عنه، عن الحسين بن النضر، عن القاسم بن سليمان، عن أبي مريم الأنصاري، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (وقع مصحف في البحر فوجدوه وقد ذهب ما فيه ألا هذه الآية (ألا إلى الله تصير الامور).(1)

* الشرح:

قوله: (وقد ذهب ما فيه إلا هذه الآية إلا (إلى الله تصير الأمور)) فيه إظهار شرفه وكماله لانبائه عن فناء كل شيء ورجوعه إلى الله وحثه إلى غاية هو غاية الغايات المطلوبة من الإنسان وهو الفناء في الله المتوقف على رفض ما سواه بالمرة تقويم الظاهر والباطن بكل ما هو مطلوب منهما.

* الأصل:

19 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن ميمون القداح قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (اقرأ) قلت: من أي شيء أقرأ؟ قال: (من السورة التاسعة) قال: فجعلت ألتمسها فقال: (أقرأ من سورة يونس) قال: فقرأت (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) قال: (حسبك) قال: (قال رسول الله 9: إني لاعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن).(2)

* الشرح:

قوله: (عن أبان بن ميمون القداح) هكذا في النسخ وهو غير مذكور في كتب الرجال التي رأيناها وكتب في بعض النسخ المعتبرة «عن» بدل ابن ولعل المراد بأبان حينئذ أبان بن تغلب بن رياح وكان ثقة جليل القدر عظيم المنزلة قاريا فقيها لغويا وله قراءة مفردة مشهورة عند القراء وقال له أبو جعفر (عليه السلام) «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك» كذا في كتب الرجال.

قوله: (قال قال: لي أبو جعفر (عليه السلام) (اقرأ) قلت من أي شيء؟ أقرأ قال من السورة التاسعة.. اه) وهي سورة التوبة ولعل سبب أمره بالقراءة أنه اشتهى أن يسمعه من غيره أو ليعلمه طريق الأداء أو

ص:84


1- -الکافی:632/2.
2- -الکافی:632/2.

لأنه أبلغ في قبوله التفهيم لأنه يتفرغ في الشغل بالقراءة وتخصيصه ابن القداح يحتمل أنه لم يحضره غيره أو لم يحضره أعلم منه أو لحسن صوته وجودة قراءته ثم الظاهر أنه قرأ من أول السورة إلى قوله: (ولا ذلة) فلما بلغها قال له حسبك ويمكن أن يحتج به أهل التجويد على جواز الوقف الكافي من المقاطع والفصل لأن الآية لم تستقل وتمامها بما بعدها، ويحتمل أن يكون قوله «حسبك» تنبيها على ما في الآية، والإحسان هو الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات وان تعبده كأنك تراه وأنه يراك والمراد بالحسنى المثوبات الحسنى وبالزيادة التفضلات زائدة على تلك المثوبات، والرهق الغشية رهقة كفرح رهقا غشيه والقتر والقترة محركتين الغبرة. (قال: قال:

رسول الله (صلى الله عليه وآله) إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن) لاشتماله على الحزن والغم من عقوبات يوم القيامة وعقباته وشدائده وأهواله ووخامة الأمم الماضية وعقوباتهم في الدنيا بالمخالفة ولذلك قال الله تعالى (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) وهذا القول لكونه صادقا ويفيد تحقق الجزاء قطعا على تقدير تحقق الشرط مع أن الشرط متحقق بالنسبة إلى الإنسان ولا يتصدع قلبهم منه لا يظهر أن قلوبهم أصلب وأقسى من الصخرة الصماء كما نطق به القرآن الكريم.

* الأصل:

20 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحجال، عمن ذكره، عن أحدهما (عليهما السلام) قال:

سألته عن قول الله عز وجل: (بلسان عربي مبين) قال: (يبين الألسن ولا تبينه الألسن).(1)

* الشرح:

قوله: (سألته عن قول الله عز وجل «بلسان عربي مبين» قال: يبين الألسن ولا يبينه الألسن) قيل المراد أن القرآن لا يحتاج إلى الاستشهاد بأشعار العرب وكلامهم بل الأمر بالعكس لأنه أفصح الكلام وفيه أن الله سبحانه أخبر بأنه بلسان العرب فلو وقع فيه ما لا يوافق لسانه بحسب الظاهر وتمسك به المنكرون في القدح والتكذيب لابد من الاستشهاد لإخراجه من الكذب والأصوب أن المبين من الإبانة بمعنى القطع، وإن القرآن يقطع بالفصاحة والبلاغة البالغة حد الإعجاز ألسنة الفصحاء والبلغاء عن المعارضة والإتيان بمثله ولا يقطعه ألسنتهم بالمعارضة.

* الأصل:

21 - أحمد بن محمد بن أحمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن محمد بن الوليد، عن أبان، عن عامر بن عبد الله بن جذاعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما من عبد يقرأ آخر الكهف إلا تيقظ في

ص:85


1- -الکافی:632/2.

الساعة التي يريد).

* الأصل:

22 - أبو علي الأشعري وغيره، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عثمان بن عيسى، عن سعيد ابن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سليم مولاك ذكر أنه ليس معه من القرآن إلا سورة يس، فيقوم من الليل فينفد ما معه من القرآن أيعيد ما قرأ؟ قال: (نعم لا بأس).

* الأصل:

23 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم (عليه السلام) قرأ كتاب الله عزوجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي (عليه السلام) وقال أخرجه علي (عليه السلام) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله عزوجل كما أنزله [الله] على محمد (صلى الله عليه وآله) وقد جمعته من اللوحين. فقالوا هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: (أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا، إنما كان علي أن اخبركم حين جمعته لتقرؤوه).(1)

* الشرح:

قوله: (قد جمعته من اللوحين) اللوح كل صحيفة عريضة خشبا أو كتفا وقد كانوا في صدر الإسلام يكتبون فيه لقلة القراطيس و «من» إما ابتدائية أو بمعنى في فعلى الأول كان مكتوبا قبل الجمع فيهما وعلى الثاني جمع فيهما، وحمل اللوحين في الأول على القلبين الطاهرين قلبه وقلب النبي (صلى الله عليه وآله) وهما بمنزلة اللوح المحفوظ بعيد جدا.

* الأصل:

24 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن سعيد بن عبد الله الأعرج قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقرأ القرآن ثم ينساه ثم يقرأ ثم ينساه أعليه فيه حرج؟ فقال: لا.

* الأصل:

25 - علي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبي (عليه السلام): (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر).

* الأصل:

26 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى،

ص:86


1- -الکافی:634/2.

جميعا، عن ابن محبوب، عن جميل، عن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سورة الملك هي المانعة تمنع من عذاب القبر وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلته فقد أكثر وأطاب ولم يكتب بها من الغافلين وإني لأركع بها بعد عشاء الآخرة وأنا جالس وإن والدي (عليه السلام) كان يقرؤها في يومه وليلته ومن قرأها إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير من قبل رجليه قالت رجلاه لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقوم علي فيقرأ سورة الملك في كل يوم وليلة، وإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد أوعاني سورة الملك، وإذا أتياه من قبل لسانه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقرأ بي في كل يوم وليلة سورة الملك.

* الأصل:

27 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن فرقد والمعلى بن خنيس قالا: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) ومعنا ربيعة الرأي فذكرنا فضل القرآن فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

(إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال). فقال ربيعة: ضال؟ فقال: (نعم ضال) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): (أما نحن فنقرأ على قراءة أبي).(1)

* الشرح:

قوله: (ومعنا ربيعة الرأي) في المغرب هو كان فقيه أهل المدينة (أما نحن فنقرأ على قراءة أبي) ضبط أبي في بعض النسخ بضم الهمزة وفتح الباء وشد الياء، فقيل: أنه عليه السلام قال ذلك تقية من ربيعة.

* الأصل:

28 - علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن القرآن الذي جاء به جبرئيل 7 إلى محمد 9 سبعة عشر ألف آية).(2)

* الشرح:

قوله: (إن القرآن الذي جاء به جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) سبعة عشر ألف آية) قيل: في كتاب سليم بن قيس الهلالي (3) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) لزم بيته وأقبل على

ص:87


1- -الکافی:634/2.
2- -الکافی:634/2.
3- - قوله: «قيل في كتاب سليم» أقول: أما كلمة سبعة عشر ألف آية في هذا الخبر فكلمة «عشر» زيدت قطعا من بعض النساخ أو الرواة وسبعة ألاف تقريب كما هو معروف في إحصاء الأمور لغرض آخر غير بيان العدد كما يقال أحاديث الكافي ستة عشر ألف والمقصود بيان الكثرة والتقريب لا تحقيق العدد فإن عدد آي القرآن بين الستة والسبعة آلاف، والعجب من هذا القائل الذي لا أعرفه ومن جماعة يعمدون إلى كتاب غير ثابت الصحة، ثم إلى كلمات منه كانت في معرض التغيير والتصحيف ورأوا الاختلاف فيها أكثر من مائة مرة ثم يطمئن أنفسهم بالمشكوك ويعتمدون عليه ويجعلونه دليلا على ثبوت التغيير في القرآن العظيم الذي تداولته آلاف ألوف من النفوس، وهل يتصور من عاقل أن يجعل كتاب سليم بن قيس مقدما على القرآن وأليق بالاعتماد وأولى بالقبول منه وقد حكم جل محققي الطائفة بكونه مجعولا ورأوا من إختلاف نسخة ما لا يحصى واشتماله على ما هو خلاف المعلوم بالتواتر، ولا أدري ما أقول فيمن يتظاهر بالخروج عن معتاد النفوس السالمة وأما دفع تواتر التحريف فقد بيناه في حاشية الوافي تفصيلا فلا نطيل بالتكرار. (ش)

القرآن يجمعه ويؤلفه فلم يخرج من بيته حتى جمعه كله وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه والمحكم والمتشابه والوعد والوعيد وكان ثمانية عشر ألف آية. انتهى.

وقال صاحب إكمال الإكمال شارح مسلم نقلا عن الطبرسي: أن آي القرآن ستة آلاف وخمسمائة منها خمسة آلاف في التوحيد وبقيتها في الأحكام والقصص والمواعظ.

أقول: كان الزائد على ذلك مما في الحديث سقط بالتحريف وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها تم كتاب فضل القرآن بمنه وجوده ويتلوه كتاب العشرة من كتاب الكافي تصنيف محمد بن يعقوب رحمه الله تعالى.

ص:88

كتاب العشرة

باب ما يجب من المعاشرة

* الأصل:

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن مرازم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس وإقامة الشهادة وحضور الجنائز، إنه لابد لكم من الناس إن أحدا لا يستغني عن الناس حياته والناس لابد لبعضهم من بعض).(1)

* الشرح:

كتاب العشرة

اشاره:

العشرة بالكسر الصحبة والخلطة من المعاشرة وهي المصاحبة والمخالطة.

قوله: (عليكم بالصلاة في المساجد) جماعة وفرادى والمراد بالصلاة الفريضة لأن النافلة في المنزل أفضل (وحسن الجوار للناس) بأن تحفظ الجار غايبا وتكرمه شاهدا وتنصره مظلوما وتستر عيوبه وتغفر ذنوبه وتخلص بصحبته وتقيل عثرته ولا تسلمه عند شدائده، وبالجملة تفعل ما يرضيه وتترك ما يؤذيه.

(وإقامة الشهادة) لهم وعليهم (وحضور الجنائز) ذكر في هذا الخبر من الحقوق أربعا بعضها واجب وبعضها مندوب (أنه لابد لكم من الناس) أي من مخالطتهم ومعاشرتهم ومعاملتهم ثم أكد ذلك بقوله: (أن أحدا لا يستغني عن الناس حياته) أي في حال حياته وبقائه في الدنيا.

(والناس لابد لبعضهم من بعض) ومن ثمة قيل: الناس [مدنين] بالطبع يحتاج بعضهم إلى بعض في التمدن والتعيش والبقاء، إذا لا يقدر أحد على إصلاح جميع ما يحتاج إليه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وغيرها وفيه دلالة على أفضلية الاجتماع والتآلف.

ص:89


1- -الکافی:635/2.

من رجح العزلة مطلقا فقد أخطأ وما دل على رجحانها ينبغي حمله على الاعتزال من شرار الناس وأهل البدعة تحرزا عن الدخول فيما هم فيه وصرح بعضهم بأن العزلة أفضل بشرط رجاء السلامة بتحصيل منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى.

* الأصل:

2 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ قال: فقال: (تؤدون الأمانة إليهم وتقيمون الشهادة لهم وعليهم وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم).(1)

* الشرح:

قوله: (فقال: تؤدون الأمانة إليهم) وإن كانوا كفارا (وتقيمون الشهادة لهم وعليهم وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم) ذكر في هذا الخبر أيضا من الحقوق أربعا وجمع بين الواجب وغيره فإن أداء الأمانة وإقامة الشهادة واجبان لدلالة القرآن والسنة عليه وعيادة المريض مستحبة إلا إذا لم يقم أحد بأمره فيجب القيام على الكفاية لئلا يموت جوعا وعطشا، وأصل العيادة لتفقد الأحوال والقيام بها وشهود الجنائز فرض كفاية إلا أن لا يوجد من العدد ما يقوم به فيتعين.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، ومحمد بن خالد، جميعا عن القاسم بن محمد، عن حبيب الخثعمي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (عليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى واحضروا مع قومكم مساجدكم وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره).(2)

* الشرح:

قوله: (عليكم بالورع) في الدين بفعل الطاعات وترك المنهيات والتمسك بالآداب الشرعية والآثار النبوية (والاجتهاد) لله في العلم والعمل وإصلاح النفس وإرشاد الخلق.

(وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم) هذا هو الإنصاف التابع للإستقامة في القوة الشهوية والعقلية والغضبية ولعل المراد بالناس الفرقة الناجية لأن المحبة وهي أمر قلبي غير مطلوبة بالنسبة إلى غيرهم وإنما المطلوب مع غيرهم حسن المعاشرة بحسب الظاهر لدفع الضرر وتكميل النظام (أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره) الحياء حالة نفسانية مانعة

ص:90


1- -الکافی:635/2.
2- -الکافی:635/2.

من القبايح للفرار من اللوم، وفيه ترغيب في رعاية حقوق الجار سيما إذا كان أحد الجارين مراعيا لها لأن معاملة الإحسان بالإحسان أحسن وأتم ومعاملته بالإساءة أقبح وألوم.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال: (تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهن فتصنعون ما يصنعون فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة إليهم).

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن أبي اسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام وأوصيكم بتقوى الله عزوجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله)، أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برا أو فاجرا، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائر كم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم فان الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر، فوالله لحدثني أبي (عليه السلام) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان إنه لادانا للأمانة وأصدقنا للحديث).(1)

* الشرح:

قوله: (وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع) التقوى: كف النفس عما يؤثم، والورع: كفها عنه وعما يشغله عنه تعالى وإن كان حلالا.

(كان يأمر بأداء الخيط والمخيط) الخيط السالك والمخيط كمنبر الإبرة.

(صلوا عشائركم) عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته لأنه يعاشرهم ويعاشرونه من العشرة وهي الصحبة والخلطة (قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك) هذا بعض فوايد تلك الخصال ولها فوائد كثيرة في الدنيا والآخرة مذكورة في محلها.

(فيكون زينها آداهم للآمانة) آداهم بعد الألف يقال: فلان آدى منك للأمانة إذا كان أحسن أداء.

ص:91


1- -الکافی:636/2.

باب حسن المعاشرة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام):

(من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليهم فافعل).(1)

* الشرح:

قوله: (من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليهم فافعل) يدك اسم تكون والعليا عليهم خبره وجعلها صفة لليد عليهم خبره بعيد، وهو كناية عن الإحسان وإيصال النفع الديني والدنيوي إليهم بقدر الإمكان.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن محمد بن حفص، عن أبي الربيع الشامي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) والبيت غاص بأهله فيه الخراساني والشامي ومن أهل الآفاق فلم أجد موضعا أقعد فيه فجلس أبو عبد الله (عليه السلام) وكان متكئا قال: (يا شيعة آل محمد اعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه ومن لم يحسن صحبة من صحبه ومخالقة من خالقه ومرافقة من رافقه ومجاورة من جاوره وممالحة من مالحه، يا شيعة آل محمد اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله).(2)

* الشرح:

قوله: (اعلموا أنه ليس منا) أي من زمرتنا وشيعتنا أو من مذهبنا وملتنا (من لم يملك نفسه عند غضبه) مبادي الغضب - وهو حركة النفس نحو الانتقام بسبب الطغيان في القوة الغضبية - داخلة تحت قدرة العبد فلابد له من الأقدام على دفعها بملاحظة الآيات والروايات الدالة على ذم الغضب وحسن المعافات.

(ومن لم يحسن صحبة من صحبه) في السفر أو الحضر ومن حسنها طلاقة الوجه والبشاشة والسلام والكلام والمصافحة والمؤاكلة معه وتحصيل ما يحتاج إليه ورفع ما يغتم منه والإنتظار له إذا نزل والإرتحال معه إذا ارتحل، ونقل عن بعض المسافرين أنه قال: أدركنا المطر ليلة في صحراء فدعاني صاحبي وأجلسني إلى جنب حائط ثم أحنى علي متكئا بيديه على الحائط يظلني من

ص:92


1- -الکافی:637/2.
2- -الکافی:637/2.

المطر حتى سكن المطر.

(ومخالقة من خالقه ومرافقة من رافقه) خالقهم عاشرهم بحسن خلق. في الكنز: مخالقت با كسى خوش خلقي نمودن ومرافقت با كسى همراهى كردن ويارى كردن وگرمى نمودن) (ومجاورة من جاوره) المجاورة بالجيم في النسخ التي رأيناها يقال جاوره مجاورة إذا صار جاره وإذا استجاره وفي الكنز: «مجاورة همسا يكى كردن ودر زنهار كسى شدن». والمراد بالمجاورة على الأول رعاية حقوق الجار وعلى الثاني إجارته وانقاذه عن المكاره كلها، والقراءة بالحاء المهملة محتملة (وممالحة من مالحه) الممالحة المؤاكلة في الكنز: «ممالحة با كسى همنمكى كردن».

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (إنا نريك من المحسنين) قال: (كان يوسع المجلس ويستقرض للمحتاج ويعين الضعيف).(1)

* الشرح:

قوله: (في قول الله تعالى) حكاية عن أخوة يوسف: (إنا نريك من المحسنين) قالوا ذلك حين أخذهم لسرقة الصاع وهم توصلوا بإحسانه العام وجعلوه شفيعا في استخلاصه وأخذ أحدهم مكانه.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن علاء بن الفضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: عظموا أصحابكم ووقروهم ولا يتهجم بعضكم على بعض ولا تضاروا ولا تحاسدوا وإياكم والبخل كونوا عباد الله المخلصين).(2)

* الشرح:

قوله (عظموا أصحابكم ووقروهم) التوقير التعظيم فالعطف للتأكيد والمبالغة في الإتيان بجميع أنحائه وتخصيص أحدهما بفعل ما يوجب التعظيم والآخر بترك ما يوجب التحقير بعيد (ولا يتهجم بعضهم على بعض) أي لا يدخل عليه بغتة وغفلة من غير اذن حذرا من المخافة ورؤية ما يكرهه وقد كان الاستيذان دأب الأنبياء والصالحين.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن داود بن أبي يزيد وثعلبة وعلي بن عقبة، عن بعض ما رواه، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (الانقباض من الناس مكسبة للعداوة).

ص:93


1- -الکافی:637/2.
2- -الکافی:637/2.

باب من يحب مصادقته ومصاحبته

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن حسين بن الحسن، عن محمد بن سنان، عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا عليك أن تصحب ذا العقل وإن لم تحمد كرمه ولكن انتفع بعقله واحترس من سيىء أخلاقه ولا تدعن صحبة الكريم وإن لم تنتفع بعقله ولكن انتفع بكرمه بعقلك وافرر كل الفرار من اللئيم الأحمق).(1)

* الشرح:

قوله: (لا عليك أن تصحب ذا العقل) وإن كان سئ الخلق غير كريم فإنك (وإن لم تحمد كرمه) في بعض النسخ لم تجد (ولكن انتفع بعقله) في أمر المعاش والمعاد (واحترس من سييء أخلاقه) ولا تتبعه. وفيه إرشاد إلى متابعته في مقتضيات العقل وترك متابعته في مقتضيات الأخلاق الذميمة (ولا تدعن صحبة الكريم) وإن لم يكن له عقل.

(فإن لم تنتفع بعقله) لضعفه (لكن انتفع بكرمه بعقلك) واكتسب نوائله لنفسك وخصلة كرمه بعقلك (وافرر كل الفرار من اللئيم الأحمق) لأنه ليس كريما لتنتفع بكرمه ولا عاقلا لتنتفع بعقله مع أن في صحبة مفاسد من وجوه شتى:

الأول: أن يشغلك عن طاعة الله وذكره ومناجاته واستكشاف أسراره في خلق السماوات والأرض وما بينهما لأن ذلك يستدعي فراغا ولا فراغ مع صحبته.

الثاني: إمكان مسارقة طبعك عن رذائل أخلاقه وقبايح أعماله.

الثالث: إمكان وقوعك في الفتن والمصيبات التي لا ينفك عنها غالبا.

الرابع: أنه ربما يؤذيك تارة بالغيبة ومرة بسوء الظن والتهمة وتارة بالإقتراحات والأطماع الكاذبة التي يشكل الوفاء عليها وتارة بالنميمة والكذب فربما يسمع منك قولا أو يرى منك ما لا يوافقه فيتخذه ذخيرة عنده ليوم يكون له فيه فرصة لتداركه.

الخامس: أن رؤية الأحمق والثقيل ثقيلة، وكذا سماع كلماته الركيكة ومشاهدة أطواره وأخلاقه القبيحة، وقد قيل: قال بعض الحمقاء للأعشى: لم أعشيت عينك.

فقال: لئلا ننظر إلى الثقلاء والحمقاء، وقال جالينوس: لكل شيء حمى وحمى الروح النظر إلى

ص:94


1- -الکافی:638/2.

الثقلاء.

وبالجملة مفاسد صحبته أكثر من أن تحصى.

* الأصل:

2 - عنه، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن محمد بن الصلت، عن أبان، عن أبي العديس قال:

قال أبو جعفر (عليه السلام): (يا صالح اتبع من يبكيك وهو لك ناصح ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش وستردون إلى الله جميعا فتعلمون).(1)

* الشرح:

قوله (اتبع من يبكيك وهو لك ناصح) بزهادته وعبادته وتلاوته وموعظته وحسن أفعاله وزواجر أمثاله والمراد باتباعه التزام ملازمته ومجالسته ومصاحبته واقتفاء آثاره وأطواره.

(ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش) حيث يريد فساد حالك واشتغال بالك عن أمر الآخرة بذكر الهزليات ونقل المضحكات المفسدة للدين.

* الأصل:

3 - عنه، عن محمد بن علي، عن موسى بن يسار القطان، عن المسعودي، عن أبي داود، عن ثابت بن أبي صخرة، عن أبي الزعلي قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): انظروا من تحادثون فإنه ليس من أحد ينزل به الموت إلا مثل له أصحابه إلى الله إن كانوا خيارا فخيارا وإن كانوا شرارا فشرارا، وليس أحد يموت إلا تمثلت له عند موته).(2)

* الشرح:

قوله: (انظروا من تحادثون) أمر باعتبار حال المصاحب في الصلاح والفساد والعلم والعمل والإثم للتمسك بذيل المصلح والتحرز عن المفسد وعلل ذلك ترهيبا وترغيبا بقوله:

(فإن ليس أحد يموت إلا مثل له أصحابه إلى الله) أي مثل أصحابه الذين يسيرون إلى الله ويحشر هو معهم (إن كانوا خيارا فخيارا) يبشرهم ويبشرونه فيفرح ويكرم.

(وإن كانوا شرارا فشرارا) يوبخهم ويوبخونه فيتحير ويندم (وليس أحد يموت) من محبينا ومنكرينا (إلا تمثلت له عند موته) أما المحبون فلتكريمهم وإبشارهم وأما المنكرون فلتوبيخهم وانذارهم وهذا كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) وتمثلهما متواتر عندنا معنى.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض الحلبيين، عن عبد الله بن مسكان،

ص:95


1- -الکافی:638/2.
2- -الکافی:638/2.

عن رجل من أهل الجبل لم يسمه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (عليك بالتلاد وإياك وكل محدث لا عهد له ولا أمان ولا ذمة ولا ميثاق وكن على حذر من أوثق الناس عندك).(1)

* الشرح:

قوله: (عليك بالتلاد وإياك وكل محدث لا عهد له.. اه) التلاد والتالد من المال القديم الأصلي الذي ولد عندك نقيض الطارف ولعل فيه حث على مصاحبة الإمام القديم وهو من كانت إمامته عن النبي (صلى الله عليه وآله) دون الحادث بعده عند الناس وعلى مصاحبة من علم صلاحه بالتجربة مرارا دون غير المجرب وعلى مصاحبة الشيوخ الذين علموا الخير والشر بالتجربة دون الشبان الذين ليست لهم تجربة وكانت طبايعهم مايلة إلى الشرور.

(وكن على حذر من أوثق الناس عندك) فلا تظهر عليه كل سرك فإنه يتغير عليك، أو لا تأخذ صديقا بدون الاختبار نظرا إلى ظاهر الوثوق.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أحب إخواني إلي من أهدى إلي عيوبي).(2)

* الشرح:

قوله: (أحب إخواني إلي من أهدى إلي عيوبي) وذلك لأن الإنسان يحب نفسه فلا يرى عيوبه فإذا أظهرها له صديقه بمقتضى الصداقة والنصيحة تركها طلبا لكماله وذلك من أجل منافع الصداقة وعظمها. وفيه حث للصديقين على إظهار كل منهما عيب صاحبه وعلى عد ذلك الإظهار عطية وهدية لا منقصة موجبة للتفارق والعدوان كما هو شأن أكثر أبناء الزمان.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن عبيد الله الدهقان، عن أحمد بن عائذ، عن عبيد الله الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة فأولها أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثاني أن ترى زينك زينه وشينك شينه، والثالثة أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال، والرابعة أن لا يمنعك شيئا تناله مقدرته، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - أن لا يسلمك عند النكبات).(3)

* الشرح:

قوله: (لا يتحقق الصداقة إلا بحدودها) وهي أمور بتحقق مهية الصداقة بكل

ص:96


1- -الکافی:638/2.
2- -الکافی:639/2.
3- -الکافی:639/2.

واحدة منها (فمن كانت فيه هذه الحدود كلها أو شيء منها) واحد واثنان أو ثلاث أو أربع.

(فانسبه إلى الصداقة وإن كانت متفاوتة في الشدة والضعف ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة) ولا تتخذه صديقا ولا يتحقق العلم بوجود تلك الحدود وعدمه في أحد إلا بمجالسة متعددة ومخالطة متكررة ومصاحبة باطنية ومعاشرة ظاهرية أو بشهادة حاله مع اشتهاره بالاتصاف بها عند المعتمدين.

(فأولها) أي أول الحدود ورجوع الضمير إلى الصداقة بعيد والتذكير هنا باعتبار لفظ الحد والتأنيث في البواقي باعتبار إرادة الخصلة منه.

(أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة) لعل المراد أن يكون كل قوله موافقا لضميره وإلا لكان نفاقا منافيا للصداقة لا أن لا يكتم سرا من أسراره إذ كتمان بعض السر من باب الحزم قد يكون مطلوبا كما دل عليه بعض الروايات.

(والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه) فيريد ويكره لك ما يريد ويكره لنفسه.

(والثالثة: أن لا يغيره عليك ولاية أو مال) بأن يكون صداقته بعد وجدان الحكومة والمال كما يكون قبله بلا تفاوت وهي نادرة.

(والرابعة: أن لا يمنعك شيئا يناله مقدرته) هي مثلثة الدال القدرة والغنا واليسار وهي أيضا نادرة.

(والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات) النكبة بالفتح المصيبة وما يصيب الإنسان من الحوادث والإسلام هنا الخذلان والإلقاء إلى الهلكة يقال: أسلم فلان فلانا إذا خذله ولم ينصره أو إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه وقوله: «وهي تجمع هذه الخصال» جملة معترضة بين المبتدء والخبر والظاهر أنه من كلام الصادق (عليه السلام) ويحتمل أن يكون من الراوي وشمولها للخصال المذكورة يظهر بأدنى تأمل.

ص:97

باب من تكره مجالسته ومرافقته

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عمرو بن عثمان، عن محمد ابن سالم الكندي، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا صعد المنبر قال: (ينبغي للمسلم أن يتجنب مواخاة ثلاثة: الماجن الفاجر والأحمق والكذاب فأما الماجن الفاجر فيزين لك فعله ويحب أنك مثله ولا يعينك على أمر دينك ومعادك ومقاربته جفاء وقسوة ومدخله ومخرجه عار عليك، وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه. وربما أراد منفعتك فضرك فموته خير من حياته وسكوته خير من نطقه وبعده خير من قربه، وأما الكذاب فإنه لا يهنئك معه عيش، ينقل حديثك وينقل إليك الحديث كلما أفنى أحدوثة مطرها بأخرى مثلها حتى أنه يحدث بالصدق فما يصدق ويفرق بين الناس بالعداوة فينبت السخائم في الصدور، فاتقوا الله عزوجل وانظروا لأنفسكم).(1)

* الشرح:

قوله: (الماجن الفاجر) مجن مجونا صلب وغلط ومنه الماجن لمن لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه والفاجر هو المنبعث في المعاصي والمحارم.

(والأحمق والكذاب) الأحمق قليل العقل ضعيف الرأي والكذاب كثير الكذب المعروف به وهو الذي صار الكذب عادة له يدل عليه ما رواه ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الكذاب هو الذي يكذب في الشيء؟ قال: «لا ما من أحد إلا أن يكون ذلك منه ولكن المطبوع على الكذب».

(ومقاربته جفاء وقسوة ومدخله ومخرجه عار عليك) الحمل في الثلاثة من باب حمل المسبب على السبب للمبالغة، وفي الكنز: «جفا ستم كردن وقرار نگرفتن چيزى بر جاى خود» ولعل وجه الجفاء أنه لما لم يبال بما قال وما فعل وشق ستر الديانة لا يحفظ حق الصداقة فيقول ويفعل ما يؤذيه ويبيعه باليسير ويهتك عرضه بالحقير، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه» ووجه القسوة أنه قسى القلب والقساوة مسرية ووجه العار ظاهر (وربما أراد منفعتك فضرك) في الدين والدنيا لعدم علمه بأن كلامه حق أو باطل وفعله

ص:98


1- -الکافی:639/2.

حسن أو قبيح فيتكلم بالباطل ويفعل القبيح لقصد المنفعة وهو يضرك ولذلك ورد النهي عن الاستشارة بالأحمق (كلما افنى أحدوثة مطرها بأخرى مثلها) الأحدوثة ما يتحدث به. والمطر الإسراع مطرت الطير يمطر مطرا إذا أسرع في هويها والخيل إذا جاءت يسبق بعضها بعضها وفي بعض النسخ مطها أي مدها (حتى أنه يحدث بالصدق فما يصدق) ولذلك تركوا العمل برواية الكذابين وهنا حكاية مناسبة وهي أن جماعة وخلوا في بيئة فانفرد واحد في ناحية فنادى السبع فاجتمعوا عليه فوجدوه كاذبا فتفلوا في وجهه ورجعوا ثم فعل وفعلوا ذلك مرتين والمرة الرابعة وهي مرتبة صدقه لم يصدقوه ولم يجتمعوا عليه فافترسه السبع.

(ويعرف بين الناس بالعداوة) يعرف بالعين المهملة والفاء وفي بعض النسخ يفرق من التفريق وفي بعضها يغري من الإغراء (فينبت السخائم في الصدور) السخيمة الحقد والضغن والغضب.

* الأصل:

2 - وفي رواية عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا ينغبي للمرء المسلم أن يواخي الفاجر فإنه يزين له فعله ويحب أن يكون مثله ولا يعينه على أمر دنياه ولا أمر معاده ومدخله إليه ومخرجه من عنده شين عليه).

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن يوسف عن ميسر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا ينبغي للمرء المسلم أن يواخي الفاجر ولا الأحمق ولا الكذاب).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن بعض أصحابه عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قال عيسى بن مريم 7: إن صاحب الشر يعدي وقرين السوء يردي فانظر من تقارن).(1)

* الشرح:

قوله: (إن صاحب الشر يعدي) أي يظلم صاحبه من أعدى عليه إذا ظلمه أو يسري شره إليه من أعداه الداء يعديه أعداء إذا أصابه مثل ما يصاحب الداء أو صرفه عن الحق وشغله بالباطل من عداء عن الأمر بالتخفيف والتشديد إذا صرفه وشغله.

(وقرين السوء يردي) ردى كرضى ردى هلك وأرداه أهلكه والإضافة في قرين السوء على

ص:99


1- -الکافی:640/2.

الأول لامية وعلى الثاني بيانية (فانظر من تقارن) يعني فانظر أولا إلى صفات رجل واختبره مرارا فإذا وجدته أهلا للأخوة والصداقة فاتخذه صديقا لأن أخذ الصديق قبل الاختبار يؤدي سريعا إلى الفراق ومفاسده كثيرة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، ومحمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمار بن موسى قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا عمار إن كنت تحب أن تستب لك النعمة وتكمل لك المروءة وتصلح لك المعيشة، فلا تشارك العبيد والسفلة في أمرك فإنك إن ائتمنتهم خانوك، وإن حدثوك كذبوك، وإن نكبت خذلوك، وإن وعدوك أخلفوك).(1)

* الشرح:

قوله: (إن كنت تحب أن تستتب لك النعمة) استتيب لك الأمر أي تهيأ واستقام واستمر (فلا تشارك العبيد والسفلة في أمرك) في الصحاح السافل نقيض العالي والسفالة بالفتح النذالة والسفلة بكسر الفاء السقاط من الناس يقال هو من السفلة ولا تقل هو سفلة لأنها جمع والعامة تقول: رجل سفلة من قوم سفل قال ابن السكيت: وبعض العرب تخفف فيقول: فلان من سفلة الناس فينقل كسرة الفاء إلى السين (حب الأبرار للأبرار وثواب للأبرار) الظاهر أن المراد بالأبرار المحب والمحبوب كلاهما فعلى هذا يتعدد ثوابهما على قدر تعددهما.

* الأصل:

6 - قال: وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (حب الأبرار للأبرار ثواب للأبرار وحب الفجار للأبرار فضيلة للأبرار وبغض الفجار للأبرار زين للأبرار وبغض الأبرار للفجار خزي على الفجار).(2)

* الشرح:

قوله: (وحب الفجار للأبرار فضيلة للأبرار) إذ ليس مما يتوقعه البار ولا من مقتضيات البر والفجور بل من فضل الله عز وجل حيث جعل قلب الفاجر مايلا إليه نافعا له في بعض الأمور الدنيوي (وبغض الفجار للأبرار زين للأبرار) إذ هو ما يقتضيه البر والفجور ويتوقعه البار لإنقطاع الربط بالمرة (وبغض الأبرار للفجار خزي للفجار) لم يذكر حب الأبرار لهم للتنبيه على أنه ينبغي أن لا يكون وقد دل على الأمرين قول خليل الرحمن: (بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) إلى يوم القيامة.

ص:100


1- -الکافی:640/2.
2- -الکافی:640/2.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن عذافر، عن بعض أصحابهما، عن محمد بن مسلم وأبي حمزة عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قال لي أبي علي بن الحسين صلوات الله عليهما: يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، فقلت: يا أبة من هم عرفنيهم؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عزوجل في ثلاثة مواضع قال الله عزوجل: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) وقال عزوجل:

(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) وقال في البقرة: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك هم الخاسرون).(1)

* الشرح:

قوله: (قال: إياك ومصاحبة الكذاب) المصاحبة شاملة للمجالسة والمخالطة والمحادثة والمرافقة والكذاب كما يطلق على من يأتي بخبر لا يطابق الواقع كذلك يطلق على من يرغب في أمر لا أصل له ومنه قول العرب: كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد تكون وذلك مما يرغب الرجل فيما لا يعنيه ويبعثه على التعرض له.

(فإنه بمنزلة السراب) الضمير المنصوب راجع إلى الكذاب أو إلى الكذب المستفاد منه والسراب الأول اللامع في المغازة وقت الهاجرة شبيه بالماء سمي سرابا لانسرابه وجريانه في مرأى العين ويطلق أيضا على ما لا حقيقة له وأشار إلى وجه الشبه بقوله:

(يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب) إذ كل منهما يقرب لك البعيد وهو ما ليس بواقع في نفس الأمر بإخباره وإحضاره في مرأى العين ويبعد القريب لعدم صفاء اللفظ وبقاء النطق به وانسرابه وجريانه في مرأى العين فالقريب حينئذ هو الذي قرباه ويمكن أن يكون في طرف المشبه الحق لأن تقريب الباطل يستلزم تبعيد الحق والله يعلم.

(وإياك ومصاحبة الفاسق) مفاسد مصاحبته كثيرة أشار إلى بعضها بقوله:

ص:101


1- -الکافی:641/2.

(فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك) الأكلة بالفتح المرة من الأكل وبالضم اللقمة والقرص من الخبز وذلك لأنه لا زاجر له من القبيح فإذا قصرت فيه بهذا القدر من الطعام يذمك عند الناس أو يذهب إلى عدوك فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه بجائزة فيهتك ستر المصاحبة (وإياك ومصاحبة البخيل) الذي يبخل في الفرائض المالية فضلا عن مندوباتها.

(فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه) أحوج خبر تكون وضمير إليه للبخيل وما مصدرية زمانية يعني يخذلك في وقت كونك محتاجا إليه أشد احتياج فكيف في غير هذا الوقت (وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه) بترك حقوقها اللازمة.

(فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع) وأول من دخل فيه بنو أمية وبنو عباس حيث قطعوا أرحام النبي (صلى الله عليه وآله) وهي رحمهم بالقتال والظلم والتجاذب للخلافة.

(قال الله تعالى: (فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) من القطع أو التقطيع للمبالغة (أرحامكم) أن توليتم معترضة وأن تفسدوا وما عطف عليه خبر عسى والاستفهام للتقرير والتوبيخ يعني يتوقع منكم قطعا أن توليتم أمور الناس أو أعرضتم عن الدين بالفساد في الأرض وقطع الأرحام لضعفكم في الدين وحرصكم إلى الدنيا وميلكم إلى الجور، ثم أشار إلى ثمرة عملهم وصرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على بعدهم من الحق بقوله (أولئك الذين) الموصوفون بالصفات المذكورة.

(لعنهم الله) وبعدهم عن الرحمة الشاملة لمن يستعد قبولها (فأصمهم) عن اسماع الحق (وأعمى أبصارهم) الظاهرة والباطنة عن إدراكه الاهتداء إلى سبيله (وقال تعالى) في سورة الرعد (الذين ينقضون عهد الله) المأخوذ عليهم بقوله: (ألست بربكم قالوا: بلى) أو بالعقل الدال على وجوده وتوحيده وصدق رسوله وما جاء به بعد مشاهدة المعجزات أو بإرسال الرسل وإنزال الكتب الدالة على أمر المبدء والمعاد والحلال والحرام وغيرها مما يتم به نظام الدارين وكمال السعادتين.

(من بعد ميثاقه) أي من بعد احكامه تعالى ذلك العهد بالآيات والكتب أو بعد أحكامهم إياه بالإقرار والقبول والإذعان (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) كترك صلة الأرحام وموالاة أهل الولاية وغيرهما مما يوجب الوصل بينه تعالى وبين العبد.

(ويفسدون في الأرض) بالظلم والجور وتحريك الفتن هذا في القرآن موجود وفي نسخ هذا الكتاب مكتوب مضروب.

(أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) عذاب النار أو قبح عاقبة الدنيا.

ص:102

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن موسى بن القاسم قال: سمعت المحاربي يروى عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاثة مجالستهم تميت القلب:

الجلوس مع الأنذال والحديث مع النساء والجلوس مع الأغنياء).(1)

* الشرح:

قوله: (ثلاثة مجالستهم تميت القلب) أي تغفلهم عن أمر الآخرة وتميله إلى الشهوات وزهرات الدنيا لضعف عقولهم وشدة ميلهم إلى الدنيا فلا يأمن الجليس من الاغترار بخدائعهم.

والأنذال: جمع النذل وهو الخسيس من الناس المحتقر في جميع أحواله، وقد نذل ككرم فهو نذل ونذيل أي خسيس محتقر.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عمن ذكره، رفعه، قال: قال لقمان (عليه السلام) لابنه: (يا بني لا تقترب فتكون أبعد لك ولا تبعد فتهان، كل دابة تحب مثلها، وإن ابن آدم يحب مثله، ولا تنشر بزك إلا عند باغيه كما ليس بين الذئب والكبس خلة كذلك ليس بين البار والفاجر خلة، من يقترب من الزفت يعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرقه، من يحب المراء يشتم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم ومن لا يملك لسانه يندم).(2)

* الشرح:

قوله: (قال: لقمان لابنه يا بني لا تقترب فيكون أبعد لك ولا تبعد فتهان) هذا الكلام من المتشابهات ولعل معناه لا تقترب من الفاجر فيكون اقترابه أبعد لك من الخير أو يكون عدم اقترابه أبعد لك من الشر ولا تبعد من البار فتهان وتخزى في الدنيا والآخرة أو معناه لا تقترب من الناس اقترابا تاما ولا تبعد منهم والمقصود هو الحث على الإعتدال في المخالطة معهم أو معناه لا تقترب من الصديق كثيرا ليكون أبعد لك من زوال المحبة والصداقة ولا تبعد منه كثيرا فتهان والمشهور «زر غبا تزدد حبا» والله يعلم.

(إن كل دابة تحب مثلها وأن ابن آدم يحب مثله) أي كل صنف من الدابة، وكل صنف من بني آدم يحب مثله وهذا كالتأكيد للسابق.

(ولا تنشر برك إلا عند باغيه.. اه) البر الصلة والإحسان والطاعة وكل وصف يتصف به البار،

ص:103


1- -الکافی:641/2.
2- -الکافی:641/2.

والباغي الطالب وفيه حث على مصاحبة البار دون الفاجر. وفي بعض النسخ «بزك» بالزاي المعجمة وهو الثياب والمتاع، والمراد به المعاني المذكورة والمآل واحد الخلة بالكسر الصداقة والمحبة والزفت بالكسر القار.

(ومن لا يملك لسانه يندم) ميدان اللسان في الخير والشر واسع فمن لا يملك لسانه ولا يتفكر في صحة قوله وفساده ولا في عاقبته يتكلم كثيرا بما يعود ضرره إليه أو إلى أحد من المؤمنين فيندم ولا ينفعه الندم قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لسان العاقل ولاء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه» ومن ثم قال بعض الأفاضل: لا تتكلم بلسانك وما تكسر به أسنانك.

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن بن أبي نجران، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المرء على دين خليله وقرينه).(1)

* الشرح:

قوله: (المرء على دين خليله وقرينه) أي عند الناس أو في نفس الأمر لأنه يعدي.

* الأصل:

11 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحجال، عن علي بن يعقوب الهاشمي، عن هارون بن مسلم، عن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إياكم ومصادقة الأحمق فإنك أسر ما تكون من ناحيته أقرب ما يكون إلى مساءتك).(2)

* الشرح:

قوله: (ومصادقة الأحمق فإنك أسر ما تكون من ناحيته أقرب ما يكون إلى مساءتك) لأن الأحمق شأنه أن لا يضع شيئا في موضعه فربما يطلب شيئا يزعم أنه خير وهو شر عليك.

ص:104


1- -الکافی:642/2.
2- -الکافی:642/2.

باب التحبب إلى الناس والتودد إليهم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن أعرابيا من بني تميم أتى النبي 9 فقال له: أوصني، فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك).

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: (مجاملة الناس ثلث العقل).(1)

* الشرح:

قوله (مجاملة الناس ثلث العقل) المجاملة المعاملة بالجميل فلعل السر في كونه ثلث العقل تكميل القوة والحكمة العلمية والحكمة العملية ينقسم إلى ما بين الخالق وبين العبد وإلى ما بينه وبين المخلوق والمجاملة من هذا القسم.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول (صلى الله عليه وآله): ثلاث يصفين ود المرء لأخيه المسلم: يلقاه بالبشر إذا لقيه ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه ويدعوه بأحب الأسماء إليه).

* الأصل:

4 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (التودد إلى الناس نصف العقل).

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (التودد إلى الناس نصف العقل).(2)

* الشرح:

قوله: (التودد إلى الناس نصف العقل) لأن العقل نصفان: عقل المعاد ونصف عقل المعاش وهذا هو هكذا في شرح النهج.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن

ص:105


1- -الکافی:643/2.
2- -الکافی:643/2.

منصور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يدا واحدة ويكفون عنه أيديا كثيرة).(1)

* الشرح:

قوله: (من كف يده عن الناس) بأن يترك مجاملتهم ومعاملتهم ومخالطتهم ومودتهم وحسن الأخلاق معهم فإنما يكف عنهم يدا واحدة ويكفون عنه أيدي كثيرة وهي أيدي ذلك الرجل وأتباعه وحشمه وأحباؤه وأولاده وأنصاره وأقرباؤه فكيف إذا كف يده عن جماعة.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن صالح بن عقبة، عن سليمان بن زياد التميمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال الحسن بن علي (عليهما السلام): القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه والبعيد من بعدته المودة وإن قرب نسبه، لا شيء أقرب إلى شيء من يد إلى جسد وإن اليد تغل فتقطع وتقطع فتحسم).(2)

* الشرح:

قوله: (لا شيء أقرب إلى شيء من يد إلى جسد وإن اليد تغل) غلو غلولا وأغل خان في الفيء على الخصوص ويراد به هنا مطلق الخيانة.

(فتقطع وتقطع فتحسم) يحتمل أن يراد بالقطع الأول قطع البعض وبالثاني قطع الكل وأن يكون العطف للتفسير والتأكيد والحسم القطع والكي، قال في القاموس: العرق قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه، وفي التمثيل تنبيه على المهاجرة عن القريب وإن كان شاقه باعتبار القرابة النسبية لكن لابد منها إن كان خائنا فاسقا.

ص:106


1- -الکافی:643/2.
2- -الکافی:643/2.

باب إخبار الرجل أخاه بحبه

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن عمر، عن أبيه، عن نصر بن قابوس قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إذا أحببت أحدا من إخوانك فأعلمه ذلك فإن إبراهيم (عليه السلام) قال: (رب أرني كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).(1)

* الشرح:

قوله: (إذا أحببت أحدا من إخوانك فأعلمه ذلك) إعلام المحبة موجب لثباتها في الطرفين وحصولها للآخر إن لم تكن وهو مجرب، وقد أخبرني بعض أخواني بها وبالغ في صدقة فلم أنسه منذ أخبرني بها وأنا أخبرت بعضا آخر ثم لقيته بعد سنين كثيرة فأخبرني بأنه لم ينسني منذ أخبرته بها.

(فإن إبراهيم (عليه السلام) قال (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) على الخلة وبهذا التقرير يتضح التقريب والذي يدل عليه ما رواه الصدوق في الباب الخامس عشر من كتاب العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى عليهما السلام، فقال المأمون له (عليه السلام): أخبرني عن قول إبراهيم (رب أرني...) الآية، قال الرضا (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) إني اختار من عبادي خليلا أن سألني أحياء الموتى أجبته فوقع في نفسه (عليه السلام) أنه ذلك الخليل فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى قال: أولم تؤمن بي قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي على الخلة».

* الأصل:

2 - أحمد بن محمد بن خالد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعا، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أحببت رجلا فأخبره بذلك فإنه أثبت للمودة بينكما).

ص:107


1- -الکافی:644/2.

باب التسليم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): السلام تطوع والرد فريضة).(1)

* الشرح:

قوله: (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): السلام تطوع والرد فريضة) البداية بالسلام سنة بإجماع الأمة ولا عبرة بقول بعض العامة أنه لا خلاف في أنه سنة أو فرض كفاية أن أراد به ما هو الظاهر وأول كلامه القرطبي بأنه ليس قوله أو فرض كفاية مخالفا للإجماع على أنه سنة لأن معناه إقامة السنة وإحياؤها فرض كفاية، ثم الرد فريضة عينية أن كان المسلم عليه واحدا معينا ولو كانوا جماعة لظاهر قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) إن وجوب الرد عيني لتبادره منه لكن الأخبار الواردة في الباب الثاني من هذا الباب وإجماع الأمة إلا أبو يوسف من علماء العامة فإنه قال: لا يرد إلا الجميع هو أنه كفائي يسقط رد واحد منهم وجوب الرد عن الباقين، وهنا زيادة تحقيق سنذكره إن شاء الله تعالى، ثم أن قوله تطوع والرد فريضة مختص بما إذا كان المسلم والمسلم عليه بالغين مكلفين ولو كانوا صبيين مميزين أولا أو كان أحدهما صبيا والآخر بالغا فلا تطوع ولا فرض، وقيل: بوجوب الرد إذا كان المسلم مميز أو المسلم عليه مكلفا وهذا على تقدير كون أفعال المميز شرعيا ظاهر والاحتياط واضح.

* الأصل:

2 - وبهذا الإسناد قال: (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) وقال: (إبدؤوا بالسلام قبل الكلام فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه).(2)

* الشرح:

قوله: (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) لأن ترك السنة الموكدة والاستخفاف بها وبالمؤمن خصوصا إذا كان بالتجبر يقتضي مقابله التارك بالإستخفاف.

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام).(3)

ص:108


1- -الکافی:644/2.
2- -الکافی:644/2.
3- -الکافی:644/2.

* الشرح:

قوله: (أولى الناس بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله) من بدأ بالسلام) أي أولى الناس برحمة الله وإكرامه وأقربهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحبهم وأحسنهم مقاما وأفضلهم وأكثرهم ثوابا من بدأ بالسلام لأنه البادي بإظهار التودد والتآلف وطلب الخير والسلامة المطلوبة شرعا، ويفهم منه أن الابتداء بالسلام أفضل من رده مع أنه واجب.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان سلمان رحمه الله يقول: افشوا سلام الله فان سلام الله لا ينال الظالمين).(1)

* الشرح:

قوله: (كان سليمان (عليه السلام)) في بعض النسخ سلمان (رحمه الله) بدون الياء بعد اللام (يقول: افشوا السلام فإن سلام الله لا ينال الظالمين) سلام الله هو الرحمة والسلام من الآفات في الدنيا والمكاره في الآخرة والمراد بإفشاء السلام أن السلام على كل من تلقاء من المسلمين خصوصا الفقراء والمساكين عرفته أولم تعرفه ولم تخص به جماعة دون آخرين وإن كانوا من الظالمين، فإن السلام لا ينفعهم ولا يضرك بل ينفعك إذ تستوجب به كمال نظامك ومغفرة ذنوبك وحسن مقامك بينهم ومما ينبغي الإشارة إليه أنه هل يجوز لنا أن نقول قال زيد عليه السلام: كذا فالذي يقتضيه الدليل جواز ذلك وعليه علماؤنا وأكثر العامة قال أبو محمد الجويني: لا يجوز ذلك لأن السلام تحية مختصة بالأنبياء كالصلاة فلا يقال علي عليه السلام: كما لا يقال: علي صلى الله عليه وآله أقول: دعوى الإختصاص لا دليل عليها لا من طرقنا ولا من طرقهم وقد بسطنا الكلام عليه فيما سبق.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله عزوجل يحب إفشاء السلام).

* الأصل:

6 - عنه، عن ابن فضال، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عزوجل قال:

[إن] البخيل من يبخل بالسلام).(2)

ص:109


1- -الکافی:644/2.
2- -الکافی:645/2.

* الشرح:

قوله: (البخيل من يبخل بالسلام) إعطاء السلام أسهل من إعطاء المال فالبخل بالسلام أشد وأقبح من البخل بالمال حتى كان البخيل منحصر فيه.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سلم أحدكم فليجهر بسلامه لا يقول: سلمت فلم يردوا علي ولعله يكون قد سلم ولم يسمعهم فإذا رد أحدكم فليجهر برده ولا يقول المسلم: سلمت فلم يردوا علي، ثم قال:

كان علي 7 يقول: لا تغضبوا ولا تغضبوا افشوا السلام واطيبوا الكلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ثم تلا 7 عليهم قول الله عزوجل: (السلام المؤمن المهيمن).(1)

* الشرح:

قوله: (ثم كان صلوات الله عليه يقول لا تغضبوا ولا تغضبوا) نهى عن الغضب والإغضاب مطلقا لأن تركهما من أعظم أسباب حسن النظام أو عن الغضب بترك الجواب إذا لم يجهر بالسلام وعن إخفاء الجواب الموجب للإغضاب.

(افشوا السلام وأطيبوا الكلام) تأكيد للسابق على الاحتمالين ولذا ترك العاطف. والنيام بالفتح والتخفيف والتشديد جمع نائم، وأما بالكسر فهو النعاس والرقاد (تدخلوا الجنة بسلام) أي متلبسين بسلامة من الآفات والمكاره كلها.

(ثم تلا (عليه السلام) قوله تعالى: (السلام المؤمن المهيمن) من أسمائه تعالى السلام لسلامته من النقص والآفات أو لأنه مسلم عباده من المهالك أو لأنه مسلم عليهم في الجنة فهو على الأول من أسماء التنزيه كالقدوس وعلى الثاني راجع إلى القدرة وعلى الثالث إلى الكلام ومن أسمائه المؤمن من الإيمان التصديق لأنه يصدق وعده أو من الأمن ضد الخوف يؤمنهم في القيامة عذابه ومن أسمائه المهيمن لأنه الراقب الشهيد، وفي ذكر هذه الآية إيماء إلى أنه تعالى يحب سلام العباد بعضهم بعضا ويجزيهم له يوم الجزاء.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (البادي بالسلام أولى بالله وبرسوله).

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان، عن الحسن

ص:110


1- -الکافی:645/2.

بن المنذر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من قال: السلام عليكم فهي عشر حسنات، ومن قال: [ال] سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي عشرون حسنة، ومن قال: [ال] سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي ثلاثون حسنة.(1)

* الشرح:

قوله: (من قال: سلام عليكم فهي عشر حسنات.. اه) قال بعض العامة: السلام اسم من أسمائه تعالى أو معنى السلام عليكم كما يقال: الله معك أي حفيظ عليك والظاهر أن المراد بالسلام هنا معنى السلامة من الآفات والنجاة من النار، وقد فسره بذلك كثير من الفضلاء ورحمته سبحانه عبارة من ألطافه وإحسانه وإكرامه وإنعامه والمراد بالبركة هنا إما زيادة الخير أو الثبات على ذلك من قولهم: بركت الإبل إذا ثبت على الأرض أو التطهير من المعايب وتضاعيف الحسنات هنا من باب «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» فكل كلمة من الكلمات الثلاث حسنة، ثم الظاهر أنه يصح السلام بكل صيغة صحيحة متعارفة في الشرع والعرف بالقواعد المقررة في العربية مثل سلام عليك سلام عليكم بالتنكير والإفراد والجمع وإن كان المخاطب واحدا، والجمع أولى وأفضل كما دل عليه ما بعد هذا الخبر ومثله تعريف السلام في الصيغتين وتقديمه أفضل لتقدمه في القرآن والإخبار وتأخيره أيضا جائز مثل وعليك السلام وقال بعض العامة: يكره أن يقدم لفظ عليكم على لفظ السلام وجاء في رواياتهم النهى عنه وأنها تحية الموتى فقيل معنى كونها تحية الموتى أنها من عادة الشعراء في رثائهم الموتى وخطابهم مثل:

عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما ولا يعني أنها السنة في تحية الموتى فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) فحياهم بتحية الاحياء وقيل: وجه الكراهة إن عادة العرب تقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم: عليه لعنة الله وغضبه، وقوله تعالى: (وإن عليك لعنتي) ورد بأن الله تعالى في آية اللعان قدم اللعنة والغضب على الاسم وقيل: السلام اسم الله فهو أولى بالتقديم وهذا أحسن لو سلم عن المعارضة فإنه قدم عليكم على الاسم الصادر عن الرحمة وهل يتحقق السلام والتحية بمثل السلام بحذف الخبر كما هو المتعارف بين بعض الناس فالظاهر نعم لأنه مندرج تحت القانون ويحتمل العدم لعدم كونه متعارفا شرعا وعرفا ويتفرع عليه وجوب الرد وعدمه.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن منصور بن

ص:111


1- -الکافی:645/2.

حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ثلاثة ترد عليهم رد الجماعة وإن كان واحدا: عند العطاس يقال:

يرحمكم الله وإن لم يكن معه غيره، والرجل يسلم على الرجل فيقول: السلام عليكم والرجل يدعو للرجل فيقول: عافاكم الله وإن كان واحدا فإن معه غيره).(1)

* الشرح:

قوله: (ثلاثة ترد عليهم رد الجماعة وإن كان واحدا) أي تخاطبهم خطاب الجماعة فيشمل الابتداء والجواب.

(عند العطاس يقول: يرحمكم الله وإن لم يكن معه غيره) أي بحسب الظاهر فلا ينافي ما في آخر الحديث فإن معه غيره يعني معه غيره من الملائكة والمؤمنين والمؤمنات بحسب القصد والواقع.

* الأصل:

11 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، رفعه قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: (ثلاثة لا يسلمون، الماشي مع الجنازة، والماشي إلى الجمعة، وفي بيت حمام).(2)

* الشرح:

قوله: (ثلاثة لا يسلمون) محمول على الكراهة (الماشي مع الجنازة والماشي إلى الجمعة وفي بيت حمام) ولعل السر في الأولين أنه ينافي التعجيل المطلوب فيهما أو المراد أنهما لا يبتدئان بالسلام على غيرهما بل ينبغي العكس لفضل المشي مع الجنازة وإلى الجمعة وفي الأخير أنه يوجب النظر إلى ما يكره والاطلاع عليه والله أعلم.

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من التواضع أن تسلم على من لقيت).(3)

* الشرح:

قوله: (من التواضع أن تسلم على من لقيت) وإن وقعت الملاقاة في اليوم مرارا كما دلت عليه رواية أبي عبيدة المذكور في باب المصافحة عن أبي جعفر (عليه السلام).

* الأصل:

13 - أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام)

ص:112


1- -الکافی:645/2.
2- -الکافی:645/2.
3- -الکافی:645/2.

قال: (مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته رضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجاوزا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم (عليه السلام) إنما قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت).

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن من تمام التحية للمقيم المصافحة وتمام التسليم على المسافر المعانقة).(1)

* الشرح:

قوله: (وتمام التسليم على المسافر المعانقة) عند قدومه وظني أنه مروي وقد مر فضل المعانقة في بابها.

* الأصل:

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (يكره للرجل أن يقول: حياك الله ثم يسكت حتى يتبعها بالسلام).(2)

* الشرح:

قوله (يكره للرجل أن يقول: حياك الله ثم يسكت حتى يتبعها بالسلام) الحياة البقاء ضد الموت والحياء بالفتح والقصر الخصب والرخاء والملك والتحية وهي السلام ومعنى حياك الله أبقاك من الحياة أو رزقك رزقا حسنا أو ملكك وفرحك أو سلام عليك من الحيا بالمعاني المذكور.

ص:113


1- -الکافی:646/2.
2- -الکافی:646/2.

باب من يجب ان يبدأ بالسلام

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير).(1)

* الشرح:

قوله: (يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير) أما بداية الصغير على الكبير فلأن للكبير على الصغير فضلا في السن فحصل له بذلك مزية التقدم بالتحية نعم لو كان للصغير فضائل نفسانية مثل العلم والأدب دون الكبير لا يبعد القول بالعكس لأن مراعاة الفضل البدني يقتضي مراعاة الفضائل النفسانية بالطريق الأولى ولأن العالم له نسبة مؤكدة إلى النبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام) دون الجاهل ومن اعتبر حال بعض الأئمة وبعض الأنبياء (عليه السلام) علم أن تقدمهم على غيرهم مع صغر سنهم إنما كان لأجل كمالاتهم وحمل الصغير والكبير على الصغير المعنوي والكبير المعنوي مستبعد، وأما بداية المار على القاعد فلأن القاعد قد يقع في نفسه خوف من القادم فإذا ابتدء القادم بالسلام أمن أو لأن القاعد لو أمر بالبداية على المارين شق عليه لكثرة المارين بخلاف العكس وأما بداية القليل على الكثير فلفضيلة الجماعة وأيضا لو بدأت الجماعة على الواحد خيف منه الكبر ويحتمل غير ذلك والله تعالى يعلم.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (القليل يبدؤون الكثير بالسلام والراكب يبدأ الماشي وأصحاب البغال يبدؤون أصحاب الحمير وأصحاب الخيل يبدؤون أصحاب البغال).(2)

* الشرح:

قوله: (والراكب يبدأ الماشي.. اه) اما بداية الراكب الماشي فلأن الراكب فضلا دنيويا فعدل الشرع بينهما فجعل للماشي فضيلة أن يبدأ بالسلام، واما لأن الماشي قد يخاف من الراكب فإذا سلم عليه أمن أو لأنه لو ابتدأ الماشي بالسلام على الراكب خيف من الراكب الكبر وهذه التعاليل

ص:114


1- -الکافی:646/2.
2- -الکافی:646/2.

يجري فيما بعد أيضا.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن ابن بكير عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد وإذا لقيت جماعة جماعة سلم الأقل على الأكثر، وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة).(1)

* الشرح:

قوله: (وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة) هذا من الآداب سواء كان الواحد أفضل وأعلم من الجماعة أم لا لما مر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر بقوم فسلم عليهم، نعم لو سلم الجماعة على الواحد إذا كان أفضل منهم كان لهم مع ثواب فضيلة التقدم بالسلام ثواب فضيلة التعظيم للعالم.

* الأصل:

4 - سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(يسلم الراكب على الماشي والقائم على القاعد).

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا كان قوم في مجلس ثم سبق قوم فدخلوا فعلى الداخل الأخير إذا دخل أن يسلم عليهم).(2)

* الشرح:

قوله: (إذا كان قوم في مجلس ثم سبق قوم فدخلوا فعلى الداخل أخيرا أن يسلم عليهم) أي على أهل المجلس جميعا الكائنين فيه والسابقين في الدخول سواء استقر السابقون في القعود أم لا، وسواء فصل بينهم وبين الأخير زمان أم لا.

ص:115


1- -الکافی:646/2.
2- -الکافی:647/2.

باب إذا سلم واحد من الجماعة أجزأهم وإذا رد واحد من الجماعة أجرأ عليهم

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن ابن بكير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم، وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم).(1)

* الشرح:

قوله: (إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم) دل هذا وما بعده على أن وجوب الرد كفائي إذا رد أحد من جماعة كفى وهو مذهب جماعة من أصحابنا وأكثر العامة ويؤيده أنه سلم سلاما واحدا فليس له إلا عوض واحد فإذا تحقق خرجوا من العهدة وعليه يحمل قوله تعالى: (إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) إلا أن يحمل الأمر على الندب لعدم وجوب الأحسن وهو ضعيف لأن الجواب غير منحصر في الأحسن بل هو مردد بين المثل والأحسن ثم رد واحد منهم إنما يكفي لو كان داخلا في المجموع المسلم عليهم وكان مكلفا بالجواب فلو لم يكن داخلا أو كان داخلا ولم يكن مكلفا لا يسقط جوابه عن الباقين لأنه قد وجب الرد عليهم ولم يأت أحد بذلك الواجب إذ لا يجب على غير الداخل ولا على غير البالغ، وقال الفاضل الأردبيلي: يمكن أن يقال لو سلم على جماعة يدخل فيهم غير البالغ وهو مقصود بالسلام أيضا يكفي رده عن الباقين إذ المسلم كأنه ما أوجب الرد بل جاء بكلام يريد عوضه بواجب وغير واجب فيكفي غير الواجب.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال:

(إذا سلم الرجل من الجماعة أجزأ عنهم).

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم وإذا رد واحد أجزأ عنهم).

ص:116


1- -الکافی:647/2.

باب التسليم على النساء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله 9 يسلم على النساء ويرددن عليه السلام وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسلم على النساء وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن ويقول: أتخوف أن تعجبني صوتها فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر).(1)

* الشرح:

قوله: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسلم على النساء ويرددن عليه السلام وكان أمير المؤمنين (عليه السلام).. اه) دل هذا الخبر على جواز السلام على النساء وإن كانت شابة وعلى جواز ردهن وسماع صوتهن ويؤيده الأصل وتكلم فاطمة عليها السلام مع سلمان وبلال وغيرهما من الأصحاب وهو الظاهر من مذهب بعض الأصحاب، وظاهر عبارات أكثر الأصحاب أن صوتهن عورة واستماعه حرام وان سلامهن على الأجنبي حرام، وكذا سلامه عليهن وأن الجواب في الصورتين ليس بمشروع لأن الشارع لا يأمر برد الجواب عن الحرام وأنه ليس ذلك بتحية شرعا فلا يوجب الأجر والعوض ويدل عليه ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لا تبدؤوا النساء بالسلام» وما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا تسلم على المرأة» ويمكن حمل النهي فيهما على الكراهة مطلقا أو عند توهم الفتنة أو إذا كانت شابة للجمع بين الأخبار ويؤيده ما في آخر هذا الحديث لأن الظاهر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد بما نسب إلى نفسه غيره، واختلف العامة أيضا فأجاز مالك والجمهور السلام على المسنة وكرهوا على الشابة خوف الفتنة من مكالمتها وردها وقال بعضهم: يسلم عليهن ولا يرددن لأنه إذا سقط عنهن الأذان والإقامة والجهر بالقراءة سقط عنهن الرد، وقال بعضهم: لا يسلم الرجال على النساء ولا النساء على الرجال، وقال المازري: إذا كانت النساء جماعة يسلم عليهن وإن كانت واحدة مسنة لا تشتهي يسلم عليها وتسلم هي وإن كانت تشتهي أو شابة لا يسلم عليها ولا تسلم هي ومن سلم منهما لم يستحق جوابا.

ص:117


1- -الکافی:648/2.

باب التسليم على أهل الملل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

قال: (دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده فقال: السام عليكم فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليكم، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما رد على صاحبيه فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا إخوة القردة والخنازير، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه ولم يرفع عنه قط إلا شأنه، قالت: يا رسول الله أما سمعت إلى قولهم السام عليكم؟ فقال: بلى أما سمعت ما رددت عليهم؟ قلت: عليكم. فإذا سلم عليكم مسلم فقولوا: سلام الله عليكم وإذا سلم عليكم كافر فقولوا: عليك.(1)

* الشرح:

قوله (دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده فقال: السلام عليكم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم.. اه) نظير ذلك في كتب العامة كثير منها ما روي عن عروة عن عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا السام عليكم فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة فقال رسول الله: «يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله قالت: ألم تسمع ما قالوا قال: قد قلت وعليكم» وفي حديث آخر «قد قلت عليكم» ولم يذكر الواو، وفي حديث آخر «قاتل ألم تسمع ما قالوا قال بلى قد سمعت ورددت عليهم وأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا» قال القرطبي: السام الموت ومنه الحديث «لكل داء دواء إلا السام) فقيل: يا رسول الله ما السام؟ فقال: «الموت» وفيه دلالة على الإنتصار للسلطان وأهل الفضل ووجوب ذلك على حواشيهم والمسلمين، وقال القتادة:

المراد بالسام السامة أي تسئمون دينكم مصدر سئمت سامة وساما مثل رضاعا، وقال المازري: في زجره (عليه السلام) لعائشة وقوله: أن الله يحب الرفق في الأمر كله دلالة على عظمة خلقه وكمال حلمه وعلى الحث على الحلم والصبر والرفق ما لم يدع إلى المخاشنة، والفحش ما يقبح من القول وفيه أمر عام بترك الجفاء في الكلام بالنسبة إلى كافة الناس وبالتثبيت والرفق وعدم الاستعجال باللعن والطعن

ص:118


1- -الکافی:648/2.

وغيرهما وقد كان (صلى الله عليه وآله) يستألف الكفار بالأموال الظاهرة فكيف بالكلام الخشن.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تبدؤوا أهل الكتاب بالتسليم وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم.(1)

* الشرح:

قوله (لا تبدؤوا أهل الكتاب بالتسليم.. اه) دل على تحريم ابتدائهم بالتسليم ولا ينافي ذلك ما سيجيء في هذا الباب، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): أرأيت أن احتجت إلى متطبب وهو نصراني أن أسلم عليه وأدعوا له؟ قال: «نعم ولا ينفعه دعاؤك» لأن هذا محمول على حال الضرورة والاحتياج إليه والتحريم على حال الاختيار وكذا لا ينافي ما مر «افشوا سلام الله فإن سلام الله لا ينال الظالمين» لأن هذا عام مخصوص بهذا الحديث وقوله «فقولوا وعليكم» بالواو وفي الرواية المتقدمة على هذه الرواية «فقولوا عليك» وفي رد الرسول (صلى الله عليه وآله) عليكم وفي الرواية المتأخرة عليها قل: عليك ويقول: عليكم بدون الواو وروايات العامة أيضا مختلفة في بعضها بالواو وفي بعضها بدونها والمعنى بدون الواو ظاهر لأن المقصود حينئذ أن الذي تقولون علينا مردود عليكم، وأما مع الواو فمشكل لأن الواو يقتضي اثبات ما قالوا على نفسه وتقريره عليها حتى يصح العطف فيدخل معهم فيما دعوا به ولهذا قال محيى الدين البغوي نقلا عن بعضهم والمختار في الرد عليكم بدون الواو.

وقال ابن الأثير: قال الخطابي: عامة المحدثين يروون وعليكم بإثبات واو العطف وكان ابن عيينة يرويه بغير واو وهو الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه نفسه مردودا عليهم خاصة، وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم فيما قالوه لأن الواو تجمع بين الشيئين والمثبتون للواو اختلفوا فقال بعضهم: إنها للإستيناف لا للعطف فلا يقتضي المشاركة. وقال عياض: هذا بعيد والأولى أن يقال: الواو على بابها من العطف غير أنا نجاب فيهم ولا يجابون فينا كما دل عليه الحديث ثم قال: حذف الواو أحسن معنى واثباتها أصح رواية وأشهر. أقول: ما اختاره ليس بأولى لأن المفسدة هي قبول المجيب دعاءهم على نفسه وتقريره عليها وقبوله المشاركة وهي باقية غير مدفوعة بما ذكره، ثم أقول: يمكن أن يقال: إذا علم أنهم قالوا: السام عليك يجيب بعليكم دون واو كما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا علم أنهم قالوا: السلام عليك كما هو المعروف في التحية يجيب وعليكم

ص:119


1- -الکافی:648/2.

فيقبل سلامهم على نفسه ويقررها عليها ويأتي بلفظ يفيد ذلك إلا أن ذلك لا ينفعهم وفائدته مجرد الرفق وتأليف القلوب وكذا يصح أن يجيب بعليك دون واو وبذلك يتحقق الجمع بين الروايات. ثم ان الأمر بردهم على سبيل الرخصة والجواز دون الوجوب وان احتمل نظرا إلى ظاهره كما نقل عن ابن عباس والشعبي وقتادة من علماء العامة واستدلوا بعموم الآية (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) حيث قالوا: بأحسن منها للمسلمين وقوله: (أو ردوها) لأهل الكتاب، والحق أن كليهما للمسلمين لعدم وجوب الرد بالأحسن للمسلمين اتفاقا بل الواجب أحد الأمرين إما الرد بالأحسن أو بالمثل.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اليهودي والنصراني والمشرك إذا سلموا على الرجل وهو جالس كيف ينبغي أن يرد عليهم؟ فقال: (يقول: عليكم).

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سلم عليك اليهودي والنصراني والمشرك فقل:

عليك).

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن آلهة، قال:

فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعاه، فلما دخل النبي (صلى الله عليه وآله) لم ير في البيت إلا مشركا فقال:

السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاؤوا له فقال: أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال أبو جهل: نعم وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون: لا إله إلا الله، قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هرابا وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق فأنزل الله تعالى في قولهم: (ص والقرآن ذي الذكر) - إلى قوله - (إلا اختلاف).(1)

* الشرح:

قوله: (فادعه ومر فليكف عن آلهتنا ونكف عن آلهة) الظاهر أن الواو في قولهم

ص:120


1- -الکافی:649/2.

ونكف عن آلهة للحال عن فاعل يكف أو بمعنى الفاء لا للعطف على يكف لأنه لا يخلو عن مناقشة ودفعه بأن التقدير ومره ومرنا أن يكف إلى اه بعيد فليتأمل.

(لم ير في البيت إلا مشركا) غير أبي طالب أو المراد لم ير في البيت من الواردين إلا مشركا أو المراد بالمشرك المشرك بحسب الواقع أو الظاهر وقد كان أبو طالب يخفي إيمانه منهم ويريهم أنه مشرك والله أعلم.

(فقال: السلام على من ابتع الهدى) فيه بيان لكيفية التسليم على أهل الملل الباطلة وإنما لم يسلم على أبي طالب وحده مع أنه كان مسلما لئلا يفهموا بذلك إسلامه (ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاء له) خبره تخبيرا بمعنى أخبره.

فقال: أو هل له في كلمة خير لهم من هذا؟) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر ولهم متعلق بمحذوف وخير خبر مبتدء والتقدير أقالوا هذا وهل لهم رغبة في كلمة هي خير لهم من هذا الذي طلبوه.

(فوضعوا أصابعهم في آذانهم) تحاشيا من استماع هذه الكلمة الشريفة الدالة على التوحيد المطلق (وخرجوا هرابا) بضم الهاء وشد الراء للمبالغة في الهرب.

(وهم يقولون ما سمعنا بهذا) الذي يقول والواو للحال (في الملة الآخرة) هي ملة آبائهم أو ملة عيسى التي هي آخر الملل لأن النصارى كانوا على التثليث (ان هذا إلا اختلاق) أي كذب اختلقه وافتراه.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تقول في الرد على اليهودي والنصراني: سلام).(1)

* الشرح:

قوله: (تقول في الرد على اليهودي والنصراني: سلام) يحتمل أن يكون سلام بفتح ويؤيده قوله تعالى: (سأستغفر لك ربي) وقوله تعالى: (وقل سلام فسوف تعلمون) والوجه في جواز ذلك انه لم يقصد بهذا السلام التحية وإنما قصد به المباعدة والمشاركة ويحتمل أن يكون بكسر السين ويؤيده مذهب بعض العامة من أنه ينبغي أن يقول في الرد عليكم السلام بكسر السين والسلام بالكسر الحجارة.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي

ص:121


1- -الکافی:649/2.

الحسن موسى (عليه السلام): أرأيت إن احتجت إلى متطبب وهو نصراني أن اسلم عليه وأدعو له؟ قال:

(نعم لا ينفعه دعاؤك).

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): أرأيت إن احتجت إلى الطبيب وهو نصراني [أن] اسلم عليه وأدعو له؟ قال: (نعم إنه لا ينفعه دعاؤك).

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد ابن عرفة، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أدعو لليهودي والنصراني قال: تقول له: (بارك لك في دنياك).

* الأصل:

10 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني قال: (من وراء الثوب فإن صافحك بيده فاغسل يدك).(1)

* الشرح:

قوله: (فإن صافحك بيده فاغسل يدك) وجوبا مع الرطوبة وندبا مع عدمها والظاهر أن للمؤمن ثواب المصافحة كما أن له ثواب الجماعة لو صلى خلف من لا يقتدى به.

* الأصل:

11 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عباس بن عامر، عن علي بن معمر، عن خالد القلانسي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألقى الذمي فيصافحني قال: (أمسحها بالتراب وبالحائط). قلت: فالناصب؟ قال: (اغسلها).(2)

* الشرح:

قوله: (اسمحها بالتراب أو بالحائط) بدون الرطوبة تطييبا للقلب وأما معها فالظاهر وجوب الغسل كما مر.

* الأصل:

12 - أبو علي الأشعري، عن محمد عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل صافح رجلا مجوسيا قال: (يغسل يده ولا يتوضأ).(3)

* الشرح:

قوله: (يغسل يده ولا يتوضأ) أما غسل اليد وجوبا مع الرطوبة وندبا بدونها فظاهر وأما عدم الوضوء فلأنه ليس بمبطل له كملاقاة النجاسات بالبدن.

ص:122


1- -الکافی:650/2.
2- -الکافی:650/2.
3- -الکافی:650/2.

باب مكاتبة أهل الذمة

* الأصل:

1 - أحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن الحسن بن علي، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن أبي بصير قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له الحاجة إلى المجوسي أو إلى اليهودي أو إلى النصراني أو أن يكون عاملا أو دهقانا من عظماء أهل أرضه فيكتب إليه الرجل في الحاجة العظيمة أيبدأ بالعلج ويسلم عليه في كتابه وإنما يصنع ذلك لكي تقضى حاجته؟ قال: (أما ان تبدأ به فلا ولكن تسلم عليه في كتابك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كان يكتب إلى كسرى وقيصر).(1)

* الشرح:

قوله: (أو دهقانا.. اه) الدهقان بضم الدال وكسرها: القوى على التصرف مع حدة والتاجر وزعيم فلاحي العجم ورئيس الأقليم والقرية، والعلج بالكسر: الرجل من كفار العجم وغيرهم وقوله (عليه السلام):

«أما أن تبدأ به فلا» محمول على الكراهة جمعا بينه وبين ما دل على جواز تقديم اسمه كحديث ابن سنان.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكتب إلى رجل من عظماء عمال المجوس فيبدأ باسمه قبل اسمه؟ فقال:

(لا بأس إذا فعل لاختيار المنفعة).

باب الاغضاء

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن محمد الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عنده قوم يحدثهم إذ ذكر رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): (وأنى لك بأخيك كله - وأي الرجال المهذب -).(2)

* الشرح:

قوله: (فوقع فيه وشكاه) وقع فلان في فلان سبه وثلبه وذكر عيوبه ولعل الوقوع فيه من باب إظهار التظلم كما يشعر به قوله «وشكاه» وهو جائز عند الحاكم.

قوله: (فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): وأنى ذلك بأخيك كله) أنى بمعنى أين للإستبعاد يعني من أين

ص:123


1- -الکافی:651/2.
2- -الکافی:651/2.

لك أخوك كل الأخ أي الكامل في الأخوة المنزه عما يوجب النقص فيها ثم آكد ذلك بقوله (وأي الرجال المهذب) يعني الرجل المهذب الخالص عن العيب والنقص نادر جدا مستبعد وجوده فلابد للصديق من الأغضاء والإغماض عن عيوب صديقه لئلا يبقى بلا صديق.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، ومحمد بن سنان، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تفتش الناس فتبقى بلا صديق).(1)

* الشرح:

قوله: (لا تفتش الناس فتبقى بلا صديق) يعني أن وجدت صديقا صالحا بحسب ظاهر حاله فحسبك صداقته فلا تفتش في باطن أمره فإنك إن فتشت تجده فاسدا فتتركه وتبقى بلا صديق والبقاء بلا صديق غير مستحسن لأن الإنسان في السراء والضراء والشدة والرخاء والتعيش والبقاء محتاج إليه.

باب نادر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن الفضيل وحماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (انظر قلبك فإذا أنكر صاحبك فإن أحد كما قد أحدث).(2)

* الشرح:

قوله: (انظر قلبك فإذا انكر صاحبك) أي أبغضه وهو لا محالة أبغضك أيضا (فإن أحدكما أحدث) سببه فإن بغضك له أمر ممكن ولكل ممكن سبب فإن كان احداثه منه سببا لبغضك له كان إحداثه منك أيضا سببا لبغضه لك لعدم الفرق، وهذا التعليل في غاية اللطف في الدلالة على أن البغض من الطرفين.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، الحسن بن يوسف، عن زكريا بن محمد، عن صالح بن الحكم قال: سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال:

الرجل يقول: أودك فكيف أعلم أنه يودني؟ فقال: (امتحن قلبك فإن كنت توده فإنه يودك).(3)

ص:124


1- -الکافی:651/2.
2- -الکافی:652/2.
3- -الکافی:652/2.

* الشرح:

قوله: (امتحن قلبك فإن كنت توده فإنه يودك) أريد بالود الحب في الله وهو بين الطرفين ولا يزول إلا الله وأما الود المجازي لأغراض الدنيا فهو قد لا يكون من الطرفين وكثيرا ما يزول لعدم حصول تلك الأغراض.

* الأصل:

3 - أبو بكر الحبال، عن محمد بن عيسى القطان المدائني قال: سمعت أبي يقول: حدثنا مسعدة ابن اليسع قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام): إني والله لأحبك فأطرق ثم رفع رأسه فقال:

(صدقت يا أبا بشر، سل قلبك عما لك في قلبي من حبك فقد أعلمني قلبي عما لي في قلبك).

* الشرح:

قوله: (صدقت يا أبا بشر سل قلبك عما لك في قلبي من حبك فقد اعلمني قلبي عما لي في قلبك) يريد أن حبك لي مستلزم لحبي لك وبالعكس فإذا سألت قلبك الذي وجد الأول استدل به على وجود الثاني فيخبرك به كما أن قلبي الواجد للثاني استدل به على وجود الأول فأخبرني به.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): لا تنسني من الدعاء، قال: ([أ] وتعلم أني أنساك؟) قال: تفكرت في نفسي وقلت: هو يدعو لشيعته وأنا من شيعته، قلت: لا، لا تنساني، قال: (وكيف علمت ذلك؟) قلت:

إني من شيعتك وإنك لتدعو لهم. فقال: (هل علمت بشيء غير هذا؟) قال: قلت: لا، قال: (إذا أردت أن تعلم مالك عندي فانظر [إلى] مالي عندك.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: انظر قلبك فإن أنكر صاحبك فاعلم أن أحدكما قد أحدث.(1)

* الشرح:

قوله (وينصح له إذا غاب) بأن يمنع عنه المغتاب ويجلب له ولأهله المنافع ويدفع عنهم المضار (ويسمته إذا عطس) قال ابن الأثير التسميت بالسين والشين، والمعجمة أعلاهما يقال شمت فلانا وشمت عليه تشميتا فهو مشمت واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله تعالى وقيل معناه أبعدك الله من الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك، واشتقاق المهملة من السمت وهو الهيئة الحسنة أي جعلك الله على سمت حسن لأن هيئته تتزعج للعطاس. وقال القرطبي شمت وسمت والمعجمة أعلا. وقال ابن الأنباري كل داع بالخير مشمت ومسمت، وقال ثعلب والأصل المهملة من السمت وهو القصد وحسن المودة ومنه

ص:125


1- -الکافی:652/2.

الحديث «دعا لفاطمة وسمت عليها».

باب العطاس والتسميت

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر ابن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (للمسلم على أخيه من الحق أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض وينصح له إذا غاب ويسمته إذا عطس يقول:

«الحمد لله رب العالمين لا شريك له» ويقول له: «يرحمك الله» فيجيبه فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم» ويجيبه إذا دعاه ويتبعه إذا مات).(1)

* الشرح:

(يقول: الحمد لله رب العالمين لا شريك له) الظاهر أن يقول: حال عن فاعل عطس وضميره للعاطس فيفيد أن استحباب التسميت مشروط بقول العاطس ذلك وساقط بدونه ونظيره موجود في كتب العامة قال القرطبي: تسميت العاطس فرض كفاية وشرطه أن يقول العاطس: الحمد لله ولا يبعد القول بأن التسميت مستحب مطلقا لظواهر الروايات الآتية ويتأكد إذا قال العاطس ذلك (ويجيبه إذا دعاه) إلى طعامه وغيره من الأمور المشروعة كالإعانة والنصرة ونحوهما.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا عطس الرجل فسمتوه ولو كان من وراء جزيرة، وفي رواية اخرى ولو من وراء البحر).

* الشرح:

قوله: (إذا عطس الرجل فسمتوه ولو من وراء جزيرة) دل على تأكد استحبابه والأحوط أن لا يترك، وقال عياض: اختلف في حكم التسميت فمذهب مالك وهو قول جماعة أنه فرض كفاية وقال بعض أهل الظاهر: أنه فرض عين وذهب الأكثر إلى أنه مستحب.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن مثنى، عن إسحاق ابن يزيد ومعمر بن أبي زياد وابن رئاب قالوا: كنا جلوسا عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذا عطس رجل فما رد عليه أحد من القوم شيئا حتى ابتدأ هو فقال: (سبحان الله ألا سمتم إن من حق المسلم على

ص:126


1- -الکافی:653/2.

المسلم أن يعوده إذا اشتكى وأن يجيبه إذا دعاه وأن يشهده إذا مات وأن يسمته إذا عطس).

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى قال: كنت عند الرضا (عليه السلام) فعطس: فقلت له: صلى الله عليك، ثم عطس، فقلت: صلى الله عليك ثم عطس فقلت:

صلى الله عليك وقلت له: جعلت فداك إذا عطس مثلك يقال له كما يقول بعضنا لبعض: يرحمك الله؟ أو كما نقول؟ قال: نعم أليس تقول: (صلى الله على محمد وآل محمد؟) قلت: بلى قال:

(ارحم محمد وآل محمد؟) قال: بلى وقد صلى الله عليه ورحمه وإنما صلواتنا عليه رحمة لنا وقربة.(1)

* الشرح:

قوله: (عن صفوان بن يحيى قال: كنت عند الرضا (عليه السلام) فعطس فقلت له صلى الله عليك ثم عطس فقلت له صلى الله عليك ثم عطس فقلت صلى الله عليك) دل على استحباب التسميت في الثالثة كما دل عليه أيضا حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في آخر الباب إلا أنه دل أيضا على عدمه بعدها وهو أيضا مذهب مالك، قال صاحب كتاب إكمال الإكمال: ذهب مالك إلى أنه يسمت ثلاثا ثم يمسك، ثم قال: وإن تكرر العطاس سقط التسميت وليقل في الثالثة والرابعة: انك مزكوم وقيل:

في الثانية أيضا لما رواه مسلم ان رجلا عطس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: (يرحمك الله) ثم عطس أخرى فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (الرجل مزكوم). قال المازري: يعني أنك لست ممن يسمت بعد هذا لأن هذا لذي بك مرض، ثم أورد عليه بأنه ان كان مريضا كان أحق بالدعاء له وأجاب بأنه يستحب أن يدعى له بالعافية لا بدعاء العاطس.

(وقلت: جعلت فداك إذا عطس مثلك من أهل العصمة عليهم السلام نقول له كما يقول بعضنا لبعض يرحمك الله أو كما نقول) الترديد من الراوي ولعل بناء السؤال على أن مثلكم مرحومون قطعا فلا فائدة في طلب الرحمة لهم لأنه تحصيل الحاصل (قال: نعم) قولوا كما تقولون لغيرنا ثم أشار إلى أن الفائدة لكم لا لنا مع البيان. (وقال: أليس يقول صلى الله عليه وآل محمد قلت بلى) الاستفهام للتقرير وكذا في قوله (ارحم) أي أرحم الله (محمد وآل محمد) ثم بادر (عليه السلام) إلى الجواب والتقرير. (فقال: بلى وقد صلى) أي وقد صلى عليه ورحمه ففائدة صلواتنا عليه ورحمتنا له لا تعود إليه لحصولهما له من الله تعالى على وجه الكمال.

(وإنما صلواتنا عليه رحمة لنا وقربة) إلى الله تعالى وإليه (صلى الله عليه وآله) فكذلك صلواتكم لنا رحمة وقربة لكم وقد صرح بذلك الشهيد الثاني في شرح اللمعة حيث قال وغاية السؤال بها أي بالصلاة عائد إلى المصلي لأن الله تعالى قد أعطى نبيه (صلى الله عليه وآله) من المنزلة والزلفى لديه ما لا يؤثر فيه صلاة

ص:127


1- -الکافی:653/2.

مصل كما نطقت به الأخبار وصرح به العلماء الأخيار.

* الأصل:

5 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (التثأب من الشيطان والعطسة من الله عزوجل).(1)

* الشرح:

قوله: (سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: التثأب من الشيطان والعطسة من الله عز وجل) روى مسلم بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «التثأب من الشيطان» وفي رواية أخرى له: «إذا تثأب أحدكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخل» قال عياض: التثأب بشد الهمزة والاسم الثوباء بالمد، وقال ابن دريد: أصله من ثأب الرجل فهو مثؤوب إذا استرخى وكسل وقيل: التثأب بالهمز التنفس الذي ينفتح منه الفم وإنما نسبه إلى الشيطان لأنه من تكسيله وسببه وقيل: أضيف إليه لأنه يرضيه وقيل:

إنما ينشأ من امتلاء وثقل النفس وكدورة الحواس ويورث الغفلة والكسل وسوء الفهم ولذاكره الله تعالى وأحبه الشيطان وضحك منه. والعطاس لما كان سببا لخفة الدماغ، واستفراغ الفضلات وصفاء الروح وتقوية الحواس كان أمره بالعكس ولكونه من الشيطان قيل: إنه ما تثأب نبي قط.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد قال: سألت العالم (عليه السلام) عن العطسة وما العلة في الحمد لله عليها؟ فقال: (إن لله نعما على عبده في صحة بدنه وسلامة جوارحه وأن العبد ينسى ذكر الله عزوجل على ذلك وإذا نسي أمر الله الريح فتجاوز في بدنه ثم يخرجها من أنفه فيحمد الله على ذلك فيكون حمده عند ذلك شكرا لما نسي).

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن جعفر ابن يونس، عن داود بن الحصين قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأحصيت في البيت أربعة عشر رجلا فعطس أبو عبد الله (عليه السلام) فما تكلم أحد من القوم فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): (ألا تسمتون ألا تسمتون، من حق المؤمن على المؤمن إذا مرض أن يعوده وإذا مات أن يشهد جنازته وإذا عطس أن يسمته - أو قال: يسمته - وإذا دعا أن يجيبه).

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ألا تسمتون ألا تسمتون) بالتكرير وفي بعض النسخ بدونه وفي بعضها بالمهملة وفي بعضها بالمعجمة، وإلا بالفتح والشد حرف تخصيص والتخفيف على أن يكون الهمزة للاستفهام والتوبيخ محتمل.

ص:128


1- -الکافی:654/2.

* الأصل:

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (نعم الشيء العطسة تنفع في الجسد وتذكر بالله عزوجل). قلت: إن عندنا قوما يقولون: ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في العطسة نصيب فقال: (إن كانوا كاذبين فلا نالهم شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله)).

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه قال: عطس رجل عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: الحمد لله، فلم يسمته أبو جعفر (عليه السلام) وقال: (نقصنا حقنا)، ثم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وأهل بيته)، قال: فقال: الرجل، فسمته أبو جعفر.(1)

* الشرح:

قوله: (عطس رجل عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: الحمد لله رب العالمين فلم يسمته أبو جعفر (عليه السلام) وقال: نقصنا حقنا.. اه) نقصه ونقصه بالتخفيف والتشديد بمعنى ولعل في نقصنا حذف وإيصال أي نقص منا أو علينا والحاصل لم يعطنا حقنا وهو الصلاة عليهم وطلب الرحمة لهم وفيه دلالة على أن استحباب التسميت موقوف على تحميد العاطس والصلاة النبي وآله عليهم السلام فلو لم يأت بذلك لم يستحق التسميت، ومن طرق العامة أيضا دلالة على أنه لا يستحب إذا لم يأت من عطس بالحمد روى مسلم عن أنس بن مالك قال: «عطس عند النبي (صلى الله عليه وآله) رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته عطس فلان فشمته وعطست أنا فلم تشمتني فقال أن هذا حمد الله عز وجل وإنك لم تحمد الله عز وجل.

* الأصل:

10 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسماعيل البصري، عن الفضيل بن يسار قال:

قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن الناس يكرهون الصلاة على محمد وآله في ثلاثة مواطن: عند العطسة وعند الذبيحة وعند الجماع، فقال أبو جعفر (عليه السلام): (ما لهم ويلهم نافقوا لعنهم الله).

11 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) إذا عطس فقيل له: يرحمك الله قال: (يغفر الله لكم ويرحمكم الله) وإذا عطس عنده إنسان قال: (يرحمك الله عز وجل).

12 - عنه، عن أبيه، عن النوفلي، أو غيره، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عطس غلام لم يبلغ الحلم عند النبي (صلى الله عليه وآله): فقال: الحمد لله، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): (بارك الله فيك).

ص:129


1- -الکافی:654/2.

13 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا عطس الرجل فليقل: الحمد لله [رب العالمين] لا شريك له وإذا سمت الرجل فليقل: يرحمك الله وإذا رد [دت] فليقل: يغفر الله لك ولنا، فإن رسول الله 9 سئل عن آية أو شيء فيه ذكر الله فقال: كلما ذكر الله فيه فهو حسن).(1)

* الشرح:

قوله: (فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئل عن آية) يقال عند العطسة (أو شيء فيه ذكر الله فقال: كلما ذكر الله فيه فهو حسن) لا خلاف بين الأمة أن تحميد العاطس والتسميت له ورده للمسمت مطلوب والظاهر على التخيير في عبارات جميع ذلك مثل أن يقول العاطس: الحمد لله أو يضيف إليه رب العالمين أيضا على كل حال أو غير ذلك ومثل أن يقول المسمت هذه العبارات أو يرحمك الله أو يرحمنا وإياكم إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة على ثناء الواجب والدعاء بالخير للعاطس.

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن الحسين بن نعيم، عن مسمع بن عبد الملك قال: عطس أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: (الحمد لله رب العالمين ثم جعل أصبعه في أنفه فقال: رغم أنفي لله رغما داخرا).

15 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن محمد بن مروان رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من قال إذا عطس: (الحمد لله رب العالمين على كل حال لم يجد وجع الأذنين والأضراس).

16 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد أو غيره، عن ابن فضال، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في وجع الأضراس ووجع الأذان إذا سمعتم من يعطس فابدؤوه بالحمد).

17 - علي بن إبراهيم [عن أبيه] عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عثمان، عن أبي اسامة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (من سمع عطسة فحمد الله عزوجل وصلى على النبي وأهل بيته (صلى الله عليه وآله) لم يشتك عينه ولا ضرسه،) ثم قال: (إن سمعتها فقلها وإن كان بينك وبينه البحر).

18 - أبو علي الأشعري، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي نجران، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (عطس رجل نصراني عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: القوم هداك الله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فقولوا: يرحمك الله، فقالوا له: إنه نصراني؟ فقال: لا يهديه حتى يرحمه).

19 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال

ص:130


1- -الکافی:656/2.

(رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا عطس المرء المسلم ثم سكت لعلة تكون به قالت الملائكة عنه: الحمد لله رب العالمين، فإن قال: الحمد لله رب العالمين، قالت الملائكة: يغفر الله لك. قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): العطاس للمريض دليل العافية وراحة للبدن.

20 - محمد بن يحيى، عن محمد بن موسى، عن يعقوب بن يزيد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الصمد بن بشير، عن حذيفة بن منصور، [عن أبي عبد الله (عليه السلام)] قال: قال: (العطاس ينفع في البدن كله ما لم يزد على الثلاث فإذا زاد على الثلاث فهو داء وسقم).(1)

* الشرح:

قوله: (العطاس ينفع البدن كله ما لم يزد على الثلاث فإذا زاد على الثلاث فهو داء وسقم) كالزكام ونحوه وفيه مع حديث آخر الباب دلالة على ترك التسميت في الرابعة وما بعدها وحمله على الرخصة ونفي التأكيد غير مستبعد وفي رواية العامة دلالة على سقوطه في الثانية وأقوالهم في الثالثة والرابعة كما مر والأولى التسميت في جميع المراتب لظاهر قول الصادق (عليه السلام) فيما مر وان يسمته إذا عطس والأولى أيضا أن يضيف العاطس إلى التحميد في الرابعة وما بعدها العافية.

* الأصل:

21 - أحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن الحسن، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) قال: (العطسة القبيحة).(2)

* الشرح:

قوله (العطسة القبيحة) هي المشتملة على الصوت الشديد المستنكر له في السمع يعني أنها مندرجة تحت الآية الا ان الآية مختصة بها وفيه ارشاد للعاطس إلى مراعاة الاعتدال فيها.

* الأصل:

22 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن ابن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من عطس ثم وضع يده على قصبة أنفه ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمدا كثيرا كما هو أهله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم خرج من منخره الأيسر طائر أصغر من الجراد وأكبر من الذباب حتى يسير تحت العرش يستغفر الله له إلى يوم القيامة

23 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه رواه، عن رجل من العامة قال:

ص:131


1- -الکافی:656/2.
2- -الکافی:656/2.

كنت أجالس أبا عبد الله (عليه السلام) فلا والله ما رأيت مجلسا أنبل من مجالسة قال: فقال لي ذات يوم: من أين تخرج العطسة؟ فقلت: من الانف، فقال لي: أصبت الخطاء، فقلت: جعلت فداك من أين فقال:

(من جميع البدن كما أن النطفة تخرج من جميع البدن ومخرجها من الإحليل) ثم قال: أما رأيت الإنسان إذا عطس نفض أعضاؤه وصاحب العطسة يأمن الموت سبعة أيام).

* الشرح:

قوله (وما رأيت مجلسا أنبل من مجالسه) أي أفضل أو أنجب وأعظم وأكبر من النبل وهو الفضل والنجابة والكبار وفعله ككرم.

(وصاحب العطسة يأمن الموت سبعة أيام) لخروج الريح المنتشر في الأعضاء وحصول خفه البدن وصفاء الروح واستقامة المزاج وميله إلى الإعتدال في الجملة.

* الأصل:

24 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تصديق الحديث عند العطاس).

25 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا كان الرجل يتحدث فعطس عاطس فهو شاهد حق).

26 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري عن ابن القداح، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تصديق الحديث عند العطاس.

27 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محسن بن أحمد، عن أبان ابن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا عطس الرجل ثلاثا فسمته ثم اتركه).(1)

* الشرح:

قوله: (تصديق الحديث عند العطاس) لعل السر فيه أن العطسة رحمة من الله تعالى للعبد ويستبعد نزول الرحمة في مجلس يكذب فيه خصوصا عند صدور الكذب فإذا قارنت الحديث دلت على صدقه.

باب وجوب إجلال ذي الشيبة المسلم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إن من إجلال الله عزوجل إجلال

ص:132


1- -الکافی:657/2.

الشيخ الكبير).(1)

* الشرح:

قوله: (إن من إجلال الله تعالى إجلال الشيخ الكبير) أي توقيره وتعظيمه في جميع الأحوال والأوقات بالسلام والكلام والاحترام وحسن المعاشرة والمعاملة والمعاونة والمصادقة والنصرة والمداراة والمحبة وترك كل ما يؤذيه من المخاصمة والمناقشة والمماراة وغيرها من الأمور المنافية للعظمة كل ذلك لكونه أكبر سنا وأضعف بدنا وأعظم تجربة وأكيس حزما وأقدم إسلاما وأكثر عبادة وأقرب خروجا من الدنيا ورجوعا إلى المولى.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عرف فضل كبير لسنه فوقره أمنه الله من فزع يوم القيامة).

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من وقر ذا شيبة في الإسلام أمنه الله عز وجل من فزع يوم القيامة).

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا الخطاب يحدث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ثلاثة لا يجهل حقهم إلا منافق معروف [ب] النفاق: ذو الشيبة في الإسلام وحامل القرآن والإمام العادل).

5 - عنه، عن أبيه، عن أبي نهشل، عن عبد الله بن سنان قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (من إجلال الله عزوجل إجلال المؤمن ذي الشيبة ومن أكرم مؤمنا فبكرامة الله بدأ ومن استخف بمؤمن ذي شيبة أرسل الله إليه من يستخف به قبل موته).

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعد بن مسلم، عن أبي بصير وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: (من إجلال الله عز وجل إجلال ذي الشيبة المسلم).

باب اكرام الكريم

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخل رجلان على أمير المؤمنين (عليه السلام): فألقى لكل واحد منهما وسادة فقعد عليها أحدهما وأبي الآخر فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اقعد عليها فإنه لا يأبى الكرامة إلا حمار). ثم

ص:133


1- -الکافی:658/2.

قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه).(1)

* الشرح:

قوله: (فإنه لا يأبى الكرامة إلا الحمار) ترغيب في قبول الكرامة والتشريف والتعظيم وتنبيه على أنه لا يردها إلا الأحمق الخسيس اللئيم خصوصا إذا كانت من الشريف الكريم ولا يبعد إدراج التحف والهدايا في هذا النحو من الإكرام لشمول التعليل وعموم الدليل.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه).

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن عبد الله العلوي، عن أبيه، عن جده قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لما قدم عدي بن حاتم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أدخله النبي (صلى الله عليه وآله) بيته ولم يكن في البيت غير خصفة ووسادة من ادم فطرحها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعدي بن حاتم).(2)

* الشرح:

قوله: (لما قدم عدي بن حاتم إلى النبي (صلى الله عليه وآله).. اه) عدي بن حاتم الطائي كان رئيس قبيلة بني طي وكان من مشاهير العرب وكان هو وقومه مشركين يعبدون الأصنام فقاتلهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) وغلبهم وكسر أصنامهم وأخذ غنائمهم وهرب عدي إلى الشام ثم تفكر في أن محمدا إما سلطان أو نبي مرسل وعلى التقديرين لابد من صحبته فرجع إلى المدينة فأكرمه النبي (صلى الله عليه وآله) وأدخله بيته كما ذكر فلما رأى شيئا من أخلاق النبوة وآثارها وأسرارها أسلم. والخصفة بالخاء المعجمة واحدة الخصف بالتحريك فيهما من الخصف بالفتح والتسكين وهو ضم الشيء إلى الشيء ويطلق على الثوب الغليظ جدا وعلى الحصير المنسوج من خوص النخل ولعله المراد هنا. والوسادة بفتح الواو وكسرها المتكأ والمخدة والادم بضمتين جمع أديم كرغف ورغيف وهو الجلد أو أحمره أو مدبوغة وبالضم والسكون للجمع.

باب حق الداخل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن من حق الداخل على أهل البيت أن يمشوا معه هنيئة إذا دخل وإذا خرج. وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم في بيته فهو أمير عليه حتى يخرج).(3)

ص:134


1- -الکافی:659/2.
2- -الکافی:659/2.
3- -الکافی:659/2.

* الشرح:

قوله: (إن من حق الداخل على أهل البيت أن يمشوا معه هنيئة إذا دخل وإذا خرج) هنئة بالتخفيف والترحيك معناها شيء وهنيئة مصغر هنة وأصلها هنيوة أي شيء يسير قلبت الواو ياء وأدغمت ويروي هنيهة بإبدال الياء هاء والمراد بالمشي معه عند الخروج المشايعة وعند الدخول الاستقبال وفي من دلالة على أن حقوق الداخل كثيرة المذكورة بعضها.

(وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم في بيته فهو أمير عليه حتى يخرج) أي الداخل أمير على صاحب البيت حتى يخرج من بيته فينبغي لصاحب البيت أن يطيعه في مقاصده المشروعة ويسعى في أداء حقوقه وإرجاع ضمير هو إلى الأخ بناء على أن له أيضا حقا على الداخل بعيد جدا.

باب المجالس بالأمانة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد، جميعا عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عوف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (المجالس بالأمانة).

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المجالس بالأمانة).(1)

* الشرح:

قوله: (المجالس بالأمانة) نهى عن إعادة ما يجري في المجالس من قول أو فعل فكان ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه فإنه يجب عليه حفظه فإنه قد يترتب على إفشائه مفاسد كثيرة.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المجالس بالأمانة وليس لأحد أن يحدث بحديث يكتمه صاحبه إلا بإذنه إلا أن يكون ثقة أو ذكر له بخير).(2)

* الشرح:

قوله: (وليس لأحد أن يحدث بحديث يكتمه صاحبه إلا بإذنه) عموما أو خصوصا لشخص ومع ذلك لابد من كتمانه إن كان في إظهار سوء عاقبة لا يعلمه صاحبه.

(إلا أن يكون فقها أو ذكرا له بخير) فإن إظهارهما لا يحتاج إلى الإذن إلا أن يكون في إظهاره الفقه ضرر. وفي بعض النسخ «ثقة» بدل فقها.

ص:135


1- -الکافی:660/2.
2- -الکافی:660/2.

باب في المناجاة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن مالك ابن عطية، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى منهم اثنان دون صاحبهما فإن في ذلك [م] ما يحزنه ويؤذيه).(1)

* الشرح:

قوله: (إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى منهم اثنان دون صاحبهما فإن ذلك مما يحزنه ويؤذيه) وكذلك الجماعة دون الواحد للاشتراك في العلة، ثم حزنه إما لكتمان السر عنه وعدم ايتمانه بحفظه أو لتوهمه أنهما يقولان في حقه شيئا مما يكرهه أو لتخصيص البر ومكاره الأخلاق وحسن المبرة ولطف المعاشرة بغيره فيقدر في نفسه أنهما لم يرياه أهلا لان يشركون يشركوه في حديثهم وذلك يوحش صدره ويوجب حزنه إلى غير ذلك من تسويلات النفس وأحاديث الشيطان، لا يبعد تخصيص ذلك بما إذا لم يحتاجا إلى السر شرا أو عرفا أو لم يعلما عدم حزن الخارج إذ لو اضطرا إليه في أمر الدين أو الدنيا أو علما أنه لم يحزنه كما إذا كان الخارج خادما أو عبدا لا يتوقع أن يكون من أهل السر، فالظاهر أنه لا يكره وفي مفهوم الشرط دلالة على أنه إذا كان القوم أربعة أو أكثر جاز مناجاة الاثنين دون صاحبهما لانتفاء العلة وهي الحزن والإيذاء لأن كل واحد من الصاحبين قد يقدر في نفسه أن محل الأسرار عنه هو الآخر فلا يدخل في واحد منهما حزن وإذاء مثل ما يدخل في الواحد، ثم أن هذا الحكم باق إلى يوم القيامة غير مختص عندنا بالسفر ولا بمكان الخوف ولا بزمان خلافا للعامة فإنه قال بعضهم: هذا خاص بالسفر وبالمواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ويخاف غدره وأما في الحضر والعمارة فلا، وقال بعضهم: كان ذلك في أول الإسلام حين كان المنافقون يفعلونه بمحضر المؤمنين ليحزنوهم قال الله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان.. الآية) وقال عبد الله بن عمرو ومالك: على العموم وهو الحق.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد أبي عبد الله، عن محمد بن علي، عن يونس بن يعقوب، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (إذا كان ثلاثة في بيت فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما

ص:136


1- -الکافی:660/2.

فإن ذلك مما يغمه).

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عرض لأخيه المسلم [المتكلم] في حديثه فكأنما خدش وجهه).(1)

* الشرح:

قوله: (من عرض لأخيه المسلم المتكلم في حديث فكأنما خدش في وجهه) عرض له ظهر وبرز وعرضت له الشيء بالتخفيف فيهما أظهرته وأبرزته والمعنى على الثاني وهو الأظهر من أبرز كلاما في كلام وأدخل فيه ومنعه عن اتمامه فكأنما خدش في وجه أخيه وفعل ما يشينه لأنه عمل ما يوجب استخفافه واحتقاره وكسر قلبه ووضع قدره، وعلى الأول من برز له في حديثه السر ليسمعه خدش في وجه نفسه لأن ذلك موجب لاستخفاف نفسه وكلاهما مذموم شرعا أو عقلا.

ص:137


1- -الکافی:660/2.

باب الجلوس

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن النوفلي، عن عبد العظيم بن عبد الله بن الحسن العلوي رفعه قال: (كان النبي (صلى الله عليه وآله) يجلس ثلاثا: القرفصا وهو أن يقيم ساقيه ويستقبلهما بيديه ويشد يده في ذراعه وكان يجثوا على ركبتيه وكان يثنى رجلا واحدة ويبسط عليها الأخرى ولم ير (صلى الله عليه وآله) متربعا قط.(1)

* الشرح:

قوله: (قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) يجلس ثلاثا) أي ثلاث جلسات.

(القرفصا وهو أن يقيم ساقيه ويستقبلهما بيديه ويشد يده في ذراعه) وفاعل قال غير معلوم يحتمل أن يكون كلام المعصوم والمصنف وغيره وفي القاموس: القرفصا مثلثة القاف والفاء مقصورة والقرفصا بضم القاف والراء على الاتباع أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه على بطنه ويحتبى بيديه يضعهما على ساقيه أو يجلس على ركبتيه منكبا ويلصق بطنه على فخذيه ويتأبط كفيه. وفي الصحاح: القرفصة أن يجمع الإنسان ويشد يديه ورجليه والقرفصا ضرب من القعود يمد ويقصر فإذا قيل: قعد فلان القرفصا فكأنك قلت: قعد قعودا مخصوصا وهو أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنيه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبي بالثوب يكون يداه مكان الثوب عن أبي عبيد وقال أبو المهدي: هو أن يجلس على ركبتيه منكبا ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه وهي جلسة الاعراب.

(وكان يجثو على ركبتيه) جثى كدعا ورمى جثوا وجثيا بضمهما جلس على ركبتيه ففيه تجريد (وكان يثني رجلا واحدة ويبسط عليها الأخرى) وهو التورك.

(ولم ير (صلى الله عليه وآله) متربعا قط) تربع في مجلسه جلس مربعا وهو أن يقعد على وركيه ويمد ركبته اليمنى إلى جانب يمينه وقدمه اليسرى إلى جانب يساره ويمد ركبته اليسرى إلى جانب يساره وقدمه اليسرى إلى جانب يمينه.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي حمزة الثمالي قال: رأيت

ص:138


1- -الکافی:661/2.

علي بن الحسين (عليهما السلام) قاعدا واضعا إحدى رجليه على فخذه فقلت: إن الناس يكرهون هذه الجلسة ويقولون: إنها جلسة الرب، فقال: (إني إنما جلست هذه الجلسة للملالة والرب لا يمل ولا تأخذه سنة ولا نوم).(1)

* الشرح:

قوله: (عن أبي حمزة الثمالي قال: رأيت علي بن الحسين عليهما السلام قاعدا واضعا إحدى رجليه على فخذه) وهي التورك والتربع وتمتار عنهما بوضع الرجل على الفخذ.

(فقلت: إن الناس يكرهون هذه الجلسة ويقولون: هذا جلسة الرب) أراد بالناس اليهود أو الأعم منهم ومن العامة القائلين: بأنه تعالى جسم، والغرض من السؤال إما مجرد حكاية قولهم أو الشك في أصل الكراهة لا في استنادها إلى العلة المذكورة لأن أبا حمزة ثابت بن دينار من أكابر الشيعة وثقاتهم وقد روى أنه في زمانه مثل سلمان في زمانه فلا يشك أنه ليس للرب جلسة.

(فقال: اني إنما جلست هذه الجلسة للملالة) من جلسات اخر والتحول من نوع منها إلى آخر سبب للاستراحة (والرب لا يمل أبدا) لأن الملال تابع لضعف المزاج والقوى الجسمانية وهو على الله سبحانه محال.

(ولا تأخذه سنة ولا نوم) السنة النعاس وقيل: فتور يتقدم النوم والهاء فيها عوض عن الواو المحذوفة. والنوم حال يعرض للحيوان لاسترخاء أعصاب الدماغ من الرطوبات والأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الإحساس ولعل المراد بيان فساد قولهم بأن اتصافه تعالى بالجلوس مستلزم لاتصافه بالملال، والسنة والنوم واللازم باطل بالاتفاق فالملزوم مثله.

* الأصل:

3 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن مرازم، عن أبي سليمان الزاهد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من رضي بدون التشرف من المجلس لم يزل الله عزوجل وملائكته يصلون عليه حتى يقوم).(2)

* الشرح:

قوله: (من رضى بدون التشرف من المجلس لم يزل الله تعالى وملائكته يصلون عليه حتى يقوم) صدر المجلس وأعلاه وإن كان للعالم وأهل الكمال لكنه إن جلس دونه تواضعا لله وللمؤمنين وهضما لنفسه وحفظا لها من التفاخر والتجبر استحق الصلاة والرحمة.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص:139


1- -الکافی:661/2.
2- -الکافی:661/2.

(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله): أكثر ما يجلس تجاه القبلة).(1)

* الشرح:

(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر ما يجلس تجاه القبلة) في حال الاجتماع والانفراد فلابد من التأسي فيه وفيه فوائد جمة لا تخفى على العارف والظاهر أن «ما» مصدرية.

* الأصل:

5 - أبو عبد الله الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان قال: جلس أبو عبد الله (عليه السلام) متوركا رجله اليمنى على فخذه اليسرى فقال له رجل: جعلت فداك هذه جلسة مكروهة، فقال: (إنما هو شيء قالته اليهود، لما أن فرغ الله عز وجل من خلق السماوات والأرض واستوى على العرش جلس هذه الجلسة ليستريح فأنزل الله عز وجل (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) وبقي أبو عبد الله (عليه السلام) متوركا كما هو.(2)

* الشرح:

قوله: (فأنزل الله تعالى لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) هذه الآية الشريفة إلى آخرها رد عليهم لدلالتها على أنه منزه عن الوسن والنوم والتحيز والحلول والتغير والفتور والمناسبة بالأشباح وقبول ما تقبله ذوات الأمزجة والأرواح إلى غير ذلك من مسائل التوحيد.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل).(3)

* الشرح:

قوله: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل) هذا الجلوس مع اشتماله على الهضم والتواضع أبعد من الأذية والكلفة وأقرب من الدعة والألفة والاستراحة من مؤونة الزحام وسهولة التصرف والقعود والقيام ومراعاة حق الوارد من التوسعة والتفسح والإكرام.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يحيى، عن طلحة ابن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل) قال: (وكان لا يأخذ على بيوت السوق

ص:140


1- -الکافی:661/2.
2- -الکافی:661/2.
3- -الکافی:661/2.

كراء).(1)

* الشرح:

قوله: (سوق المسلمين كمسجدهم) التشبيه يفيد أن الحكم في المشبه به كان معروفا مشهورا ويمكن أن يكون المقصود إفادة الحكم فيهما لا إلحاق غير المشهور بالمشهور وأشار إلى وجه الشبه أو إلى الحكم بقوله: (فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل) لأنه لسبقه اختص به وملك الانتفاع فهو أحق به ما دام فيه ولا يجوز لأحد أن يقيمه ويجلس فيه ولا خلاف فيه عندنا وإليه ميل أكثر العامة لما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) «لا يقيمن الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه» وقال بعضهم:

النهي للكراهة لأنه غير مملوك له قبل الجلوس فكذا بعده ولا يخفى ضعفه نعم لو قام إعراضا أو تواضأ للغير ليجلس فيه جاز ذلك للغير فإذا جلس فهو أحق به ما دام فيه.

قوله: (وكان لا يأخذ على بيوت السوق كراء) الكراء بالكسر والمد الأجرة والسوق يشرك فيه الناس بحق المرور ويجوز الجلوس فيه وضرب البيوت من الشعر والكرباس ونحوهما للتجارة بشرط أن لا يمنع المارة ولا يضرهم ولا كراء لها لأن السوق ليس ملكا لأحد بخصوصه.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ينبغي للجلساء في الصيف أن يكون بين كل اثنين مقدار عظم الذراع لئلا يشق بعضهم على بعض في الحر).(2)

* الشرح:

قوله: (ينبغي للجلساء في الصيف أن يكون بين كل اثنين مقدار عظم الذراع لئلا يشق بعضهم على بعض في الحر) من الحرارة والرائحة الكريهة من العرق وغيره وروي أيضا «إن حريم المؤمن في الصيف مقدار باع» ولعل المراد أن الباع وهو مقدار مد اليدين حريم مجموع الجانبين فيكون في كل جانب ذراعات وعلى التقديرين بين الروايتين اختلاف ويمكن الجمع بأن ذلك باعتبار ضيق المكان وسعته وقيل: الذراع في صلاة الجماعة والباع في غيرها وقيل: إن هذا الحريم من باب الاستحسان فيتخير.

* الأصل:

9 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يجلس في بيته عند باب بيته قبالة الكعبة.

ص:141


1- -الکافی:662/2.
2- -الکافی:662/2.

باب الاتكاء والاحتباء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإتكاء في المسجد رهبانية العرب، إن المؤمن مجلسه مسجده وصومعته بيته).(1)

* الشرح:

قوله: (الإتكاء في المسجد) انتظارا للصلاة وغيرها من الطاعات (رهبانية العرب) وهي بفتح الراء منسوبة إلى رهبنة النصارى بزيادة الألف وأصلها من الخوف من الرهبة حيث كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة من أهلها وتعهد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه ويترك اللحم ويلبس المسوح وغير ذلك من أنواع التعذيب وأنحاء المشقة فنفاها (صلى الله عليه وآله) عن هذه الأمة وألزمهم لزوم المساجد والإنتظار فيها للصلاة وغيرها من العبادات والطاعات.

(إن المؤمن مجلسه مسجده) للعبادة والإنتظار له.

(وصومعته بيته) عند الفراغ من العبادة للاستراحة والصومعة بيت للنصارى ويقال لبيت:

الخلوة أيضا.

* الأصل:

2 - عنه، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

الاحتباء في المسجد حيطان العرب).(2)

* الشرح:

قوله: (الاحتباء في المسجد حيطان العرب) الاحتباء هو أن يضم الإنسان ساقيه إلى بطنه يجمعهما به مع ظهره ويشده عليهما وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب وشبهه بالحيطان لأنه يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار.

* الأصل:

3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الاحتباء حيطان

ص:142


1- -الکافی:662/2.
2- -الکافی:662/2.

العرب).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحتبي بثوب واحد؟ فقال: (إن كان يغطي عورته فلا بأس).(1)

* الشرح:

قوله: (إن كان يغطي عورته فلا بأس) بأن يكون طويلا يبلغ ذيله الأرض عند رفع الركبتين ويفهم منه البأس عند عدم التغطية سواء كان هناك ناظر أم لا.

* الأصل:

5 - عنه، عن محمد بن علي، عن علي بن أسباط، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(لا يجوز للرجل، أن يحتبي مقابل الكعبة).

ص:143


1- -الکافی:664/2.

باب الدعابة والضحك

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سألت أبي الحسن (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟ فقال: (لا بأس ما لم يكن)، فظننت أنه عنى الفحش، ثم قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأتيه الأعرابي فيهدي له الهدية ثم يقول: مكانه أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان إذا اغتم يقول:

ما فعل الأعرابي ليته أتانا).(1)

* الشرح:

قوله: (الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون فقال: لا بأس.. اه) المزح الدعابة وقد مزح يمزح مزحا كمنع يمنع والاسم المزاح بالضم والمزاحة أيضا إما المزاح بالكسر فهو مصدر مازح وهما يتمازحان واعلم أن أصل المزاح جائز ومزاح النبي (صلى الله عليه وآله) مع العجوز وكذا مزاح الوصي أمير المؤمنين معروف بالروايات الدالة على جواز متكثرة مستفيضة فعلى هذا ما ورد في ذمه مأول مثل ما نقله السيد الرضي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «ما مزح رجل مزحة إلا مج عن عقله مجة» واستعار (عليه السلام) قوله مج من مج فلان الماء من فيه أي رمى به قليلا قليلا أراد أن العقل يأمر بالوقار واشتغال الأوقات بالطاعات والأذكار فإذا داعب وخالف فكأنه مجه والتأويل فيه على أحد الوجهين أحدهما أنه (عليه السلام) تكلم بهذا الكلام في المقام المقتضي للنهي عن المزاح وثانيهما ان المنهي عنه ما يسقط الوقار والمهابة، وأما ما سلم من هذا وهو الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله) يفعله وكذلك الوصي (عليه السلام) على الندرة لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو سنة مستحبة يعظم الاحتياج إليه، وبالجملة الضحك جائز ما لم يؤد إلى خلاف الشرع فإنه حرام وإلى خلاف مروءة فإنه مكروه ولكن يكره الإكثار منه لأنه يميت القلب وصفة أهل البطالة المستحسن منه اللائق بأهل الفضل التبسم وهو كان أكثر ضحكه (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن شريف بن سابق، عن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما من مؤمن إلا وفيه دعابة). قلت: وما الدعابة؟ قال: (المزاح).(2)

ص:144


1- -الکافی:663/2.
2- -الکافی:663/2.

* الشرح:

قوله: (ما من مؤمن إلا وفيه دعابة) الدعابة بالضم والتخفيف اللعب والمزاح ورجل دعابة بالفتح والشد كثير المزاح واللعب، ودعب ككتف ودعيب كقنفذ وداعب لاعب مازح (قلت وما الدعابة قال: المزاح) لما كان الدعابة يطلق أيضا على معان أخر ولو مجازا في بعضها كالأسود والأحمق والضعيف الذي يهزيء منه والنشيط سأل عن المراد عنه فأجاب (عليه السلام) بأن المراد هو المزاح.

* الأصل:

3 - عنه، عن محمد بن علي، عن يحيى بن سلام، عن يوسف بن يعقوب، عن صالح بن عقبة، عن يونس الشيباني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كيف مداعبة بعضكم بعضا؟) قلت: قليل، قال: (فلا تفعلوا فإن المداعبة من حسن الخلق وإنك لتدخل به السرور على أخيك ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يداعب الرجل يريد أن يسره).

* الأصل:

4 - صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (إن الله عزوجل يحب المداعب في الجماعة بلا رفث).(1)

* الشرح:

قوله: (إن الله تعالى يحب المداعب في الجماعة بلا رفث) الرفث الفحش والقول القبيح.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن كليب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ضحك المؤمن تبسم).(2)

* الشرح:

قوله: (ضحك المؤمن تبسم) التبسم أقل الضحك وأحسنه ومن خصال الكرام وهو الذي لم يبلغ حد القهقهة وهي من خصال اللئام.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كثرة الضحك تميت القلب). وقال: (كثرة الضحك تميث الدين كما يميث الماء الملح).

* الشرح:

قوله: (كثرة الضحك تميت القلب) أي تفسده وتهلكه بالجهل والغفلة عن الحق

ص:145


1- -الکافی:663/2.
2- -الکافی:664/2.

والميل إلى الباطل وفي بعض النسخ تميث بالثاء المثلثة أي تذيبه يقال: مثثت الشيء أموثه إذا أذبته.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ([إن] من الجهل الضحك من غير عجب) قال: وكان يقول: (لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة ولا يأمن البيات من عمل السيئات).(1)

* الشرح:

قوله: (إن من الجهل الضحك من غير عجب) العجب محركة ما يتعجب منه الإنسان لحسنه أو قبحه مع عظم موقعه عنده وخفاء سببه عليه ولا خفاء في أن من ضحك بدونه فهو جاهل ضعيف العقل سخيف الرأي وأن العاقل لا يضحك من قليله فكيف مع عدمه.

(وكان يقول: لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة) أبديت الشيء أظهرته فمن زائده أو الإبداء متضمن للكشف و «لا» فيه وفيما بعده للنهي والواضحة الأسنان لاتصافها بالوضح وهو البياض (ولا يأمن البيات من عمل السيئات) المراد بالبيات هنا نزول العذاب والبلاء في الليل أو مطلقا بغته من غير علم وشعور به.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه).

* الشرح:

قوله: (إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه) كان التحذير عن كثرة المزاح أو عن أصله إذا كان قبيحا أو مع لئيم فإنه الذي يذهب بماء الوجه ويوجب سقوط العزة والوقار والمهابة ونزول الذلة والحقارة والمهانة.

* الأصل:

9 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أحببت رجلا فلا تمازحه ولا تماره).

* الشرح:

قوله: (إذا أحببت رجلا فلا تمازحه ولا تماره) إذا لممارات والمجادلة وكثرة المزاح والمداعبة

ص:146


1- -الکافی:664/2.

تورث البغضة والعداوة وتوجب العزلة والمفارقة.

* الأصل:

10 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(القهقهة من الشيطان).(1)

* الشرح:

قوله: (القهقهة من الشيطان) التبسم من صفات أهل النجدة والصالحين وأما القهقهة فهي من قهقة الرجل إذا رجع في ضحكه أو اشتد ضحكه فهي من صفات الجاهلين الغافلين وإنما نسبها إلى الشيطان لأنها تنشأ من تزيينه وتحسينه للباطل وإغفاله لهم عن الحق.

* الأصل:

11 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن عنبسة العابد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (كثرة الضحك تذهب بماء الوجه).

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إياكم والمزاح فانه يجر السخيمة ويورث الضغينة وهو السب الأصغر).

* الشرح:

قوله: (وإياكم والمزاح فإنه يجر السخيمة) وهي الحقد في النفس.

(ويورث الضغينة) وهي الحقد والعداوة والبغضاء (وهو السب الأصغر) كثيرا ما يجر إلى السب الأكبر، واعلم أن المزاح مشروع مطلوب إلا أنه يتفاوت باعتبار الكمية والكيفية والأزمنة والمقام والأشخاص والعاقل اللبيب يعلم كيفية استعماله بحسب تلك الاعتبارات بخلاف غيره فلذلك ورد الأمر به تارة والنهي عنه أخرى.

* الأصل:

13 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن خالد بن طهمان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا قهقهت فقل حين تفرغ: اللهم لا تمقتني).(2)

* الشرح:

قوله: (إذا قهقهت فقل حين تفرغ: اللهم لا تمقتني) في المصباح مقته من باب قتل أبغضه أشد البغض من قبيح.

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن داود بن فرقد وعلي بن

ص:147


1- -الکافی:664/2.
2- -الکافی:664/2.

عقبة وثعلبة، رفعوه إلى أبي عبد الله وأبي جعفر أو أحدهما (عليهما السلام) قال: (كثرة المزاح تذهب بماء الوجه وكثرة الضحك تمج الايمان مجا).(1)

* الشرح:

قوله: (كثرة الضحك تمج الإيمان مجا) أي ترميه من الصدر وتقذفه من القلب من مج الشراب من الفم إذا رماه والمقصود أنها تنقض الإيمان وتنقصه.

* الأصل:

15 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن عنبسة العابد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (المزاح السباب الأصغر).

16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه ومهابة الرجال).

17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن أبي العباس، عن عمار ابن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تمار فيذهب بهاؤك ولا تمازح فيجترأ عليك).

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عمار بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تمازح فيجترأ عليك).

19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن سعد بن أبي خلف، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال في وصية له لبعض ولده - أو قال: قال أبي لبعض ولده -: (إياك والمزاح فإنه يذهب بنور إيمانك ويستخف بمروءتك).

20 - عنه، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، عن إبراهيم بن مهزم، عمن ذكره، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (كان يحيى بن زكريا (عليه السلام) يبكي ولا يضحك وكان عيسى بن مريم (عليهما السلام) يضحك ويبكي وكان الذي يصنع عيسى (عليه السلام) أفضل من الذي كان يصنع يحيى (عليه السلام)).(2)

* الشرح:

قوله: (كان يحيى بن زكريا يبكي ولا يضحك.. اه) كثرة بكائه مشهورة وشدة حزنه معروفة وفي كتب السير والتفاسير مذكورة قيل: البكاء لغفران الذنوب فما وجه بكاء المعصوم المنزه عنها وأجيب عنه بأن العارفين يبكون شوقا إلى المحبوب والمذنبين يبكون خوفا من الذنوب ولذا قال بعض العرفاء: البكاء رشحات قراب القلوب عند حرارة الشوق والعشق، على أن بكاء المعصوم يمكن أن يكون بملاحظة شدائد القيامة بالنظر إلى ضعفاء الأمة.

ص:148


1- -الکافی:665/2.
2- -الکافی:665/2.

باب حق الجوار

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن يحيى، عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن علي بن فضال، عن فضالة بن أيوب، جميعا، عن معاوية بن عمار، عن عمر بن عكرمة قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: لي جار يؤذيني؟ فقال: (ارحمه)، فقلت:

لا رحمه الله، فصرف وجهه عني، قال: فكرهت أن أدعه، فقلت: يفعل بي كذا وكذا [ويفعل بي] ويؤذيني، فقال: (أرأيت إن كاشفته انتصفت منه؟). فقلت: بلى اربى عليه فقال: (إن ذا ممن يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فإذا رأى نعمة على أحد فكان له أهل جعل بلاءه عليهم وإن لم يكن له أهل جعله على خادمه فإن لم يكن له خادم أسهر ليله وأغاظ نهاره، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه رجل من الأنصار فقال: إني اشتريت دارا في بني فلان وإن أقرب جيراني مني جوارا من لا أرجو خيره ولا آمن شره، قال: فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) وسلمان وأبا ذر - ونسيت آخر وأظنه المقداد - أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه، فنادوا بها ثلاثا، ثم أومأ بيده إلى كل أربعين دارا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله).(1)

* الشرح:

قوله: (عن عمر بن عكرمة) عمر بدون الواو كأبيه عكرمة بالكسر مجهول وفي بعض النسخ بالواو وهو غير ثابت.

(فقال: أرحمه فقلت: لا رحمه الله فصرف وجهه عني) طلب منه الرحمة العفو لجاره على سبيل الشفاعة والندب فأساه الأدب بترك المطلوب والإتيان بضده فلذلك صرف وجهه عنه (قال:

فكرهت أن أدعه) أي أتركه ولم أذكر شيئا من أفعاله القبيحة.

(فقلت: يفعل بي كذا وكذا ويؤذيني) إشارة إلى بعض قبايحه المنافية لحق الجوار وفي بعض النسخ «كذا وكذا ويفعل بي..».

(فقال: أرأيت) أي أخبرني (إن كاشفته انتصفت منه) أي أن أظهرت العداوة له استوفيت منه حقك وعدلت (فقلت: بلى أربى عليه) في الكنز: «أربا نوا دادن وإحسان كردن» يعنى بل أزيد في الإحسان إليه والحاصل أن الصادر مني هو الإحسان دون المكاشفة.

ص:149


1- -الکافی:666/2.

(فقال: إن ذا ممن يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله) «ذا» إشارة إلى الجار ووجه التفريع أن ايذاء أحد لجاره غالبا اما بسبب إيذاء الجار له أو للحسد وحيث انتفى الأول تحقق الثاني فإذا رأى أي راء أو الحاسد مطلقا.

(نعمة على أحد فكان له) أي لذلك الأحد (أهل جعل) أي الحاسد (بلاءه عليهم) أي على أهل ذلك الأحد المحسود ويؤذيهم مبالغة لإيذاء المحسود.

(وإن لم يكن له أهل جعله) أي بلاءه (على خادمه وإن لم يكن له خادم أسهر ليله وأغاظ نهاره) ضمير المجرور عائد إلى الأحد المحسود وتعلق الاسهار والاغاظة بالليل والنهار تعلق مجازي والأصل أسهره في ليله وأعاظه في نهاره بالإيذاء له وإيصال المكاره هذا من باب الاحتمال والله يعلم.

(وإن أقرب جيراني مني جوارا من لا أرجو خيره ولا آمن شره) جوازا منصوب على التميز يجوز فيه الحركات الثلاث والكسر أفصح.

(لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه) البوائق جمع البائقة وهي الداهية والغائلة والشر والظلم.

والظاهر أنه خبر لادعاء ويمكن أن يراد به نفي الإيمان الكامل إذ الإيمان عند أهل العصمة كأنه هذا حتى كان غيره ليس بإيمان وإنما أولناه بذلك لما مر في كتاب الكفر والإيمان من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أدنى ما يكون العبد مؤمنا أن يعرفه الله تعالى نفسه فيقر له بالطاعة. ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة ويعرفه أمامه وحجته على أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة فقيل يا أمير المؤمنين وان جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟ قال نعم إذا أمر أطاع وإذا نهى انتهى» إن قلت:

من لم يأمن جاره بوائقه إن وقعت منه إذاية أو تسبب فيها فالأمر واضح وإن لم يقع فغايته أنه هم بها فيعارض ما مر في باب من هم بالسيئة والحسنة ان من هم سيئة ولم يعمل لم تكتب عليه، قلت: أو لا عدم الكتابة لا يدل على عدم نقص الإيمان به، وثانيا أن المراد بمن لم يأمن جاره بوائقه من أوصل بوائقه وأذاه إلى جاره على أن الهم الذي لا يكتب إنما هو الهم الذي لم يقع متعلقه بالخارج كالهم بشرب الخمر ولم يشرب وهذا وقع متعلقه بالخارج لتأذى جاره بتوقعه ذلك كالمحارب يخيف السبيل ولم يصب.

(ثم أومأ بيده.. اه) الظاهر أنه أومأ النبي (صلى الله عليه وآله) وهذا الخبر على تقدير صحته حجة لمن ذهب إلى الجار بأربعين دارا من كل جانب وسيجئ في الباب الآتي أيضا ونذكر الأقوال هناك إن شاء الله تعالى.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن طلحة بن زيد،

ص:150

عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قرأت في كتاب علي 7 أن رسول الله 9 كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار كحرمة أمه) الحديث مختصر.(1)

* الشرح:

قوله: (وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه) فيه مبالغة عظيمة في حرمة الجار لأن حرمة الأم مقرونة بحرمة الله تعالى والروايات في احترام الجار متظافرة من طرق الخاصة والعامة قال أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله): «الله الله في جيرانكم فإنه وصية نبيكم وما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم» وفي خبر العامة «لا تحقرن جارة جارتها ولو فرس شاة» قيل: هو من النهي عن الشئ والأمر بضده كناية عن التحاب والتواد كأنه قيل: لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة والفرس عظم قليل اللحم والترغيبات في الإشفاق على الجار ودفع المضار عنهم كثيرة وفي الفقيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ما زال جبرئيل (عليه السلام) يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» ومثله في كتاب مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» قال القرطبي: لما أكثر جبرئيل (عليه السلام) من الوصية عليه غلب على ظنه (صلى الله عليه وآله) أن الله سيحكم بالإرث بين الجارين وقيل: إنما خرج الكلام بذلك مخرج التأكيد والمبالغة ورجح الأبى هذا بأنه لو غلب على ظنه ذلك لوقع لأن ظنونه (صلى الله عليه وآله) صادقة واقع متعلقها وما ذكره ابن الحاجب في باب الإجتهاد في كتابه الأصلي من اجتهاده ليس هو بمعصوم فيه لم يزل الشيوخ ينكرونها عليه قديما وحديثا، ثم قال: وهذا الحديث يدل على أنه لا شفعة للجار لأنه خرج مخرج أخص أوصاف الاتصاف وأخص أوصافه الإرث ولو كان في غير ذلك بينه أقول وفيه دلالة على المبالغة في مراعاة أولي الأرحام.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن إبراهيم بن أبي رجاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حسن الجوار يزيد في الرزق.(2)

* الشرح:

قوله: (حسن الجوار يزيد في الرزق) من حسن الجوار أن تعينه في أموره وتقرضه ان احتاج اليه وتهديه بهدية من الأطعمة والأشربة والفواكه وغيرها وتدفع عنه كربه وظلمه وان لا ترفع بناء مشرفا على داره ولا تنظر إلى حرمه وجواريه ولا تمنع وضع خشبة على جدارك ولا تمنعه

ص:151


1- -الکافی:666/2.
2- -الکافی:666/2.

الماعون وأن تستر عورته وعيوبه إلى غير ذلك من المحاسنات القولية والفعلية.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن إسحاق بن عمار، عن الكاهلي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن يعقوب (عليه السلام) لما ذهب منه بنيامين نادى يا رب أما ترحمني أذهب عيني واذهبت ابني؟ فأوحى الله تبارك وتعالى لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشيوتها وأكلت وفلان وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئا).(1)

* الشرح:

قوله: (ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشويتها وأكلت وفلان وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئا) الظاهر صائمان ولم تنلهما والأفراد بتأويل كل واحد وفيه تأديب على ترك إصابة الجار بمعروف قليلا كان أو كثيرا والجار غنيا كان أو فقيرا ولو لم يكن عنده إلا القليل المحتقر فليهده ولا يترك الهدية لأجل احتقاره والمهدي له مأمور بقبوله والمكافأة عليه ولو بالشكر لأنه وإن كان محتقرا فهو دليل المحبة وفي كتاب مسلم «عن أبي ذر قال أن خليلي (صلى الله عليه وآله) أوصاني إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف» قال القرطبي: هذا تنبيه لطيف على تيسير الأمر على البخيل إذ الزيادة إنما هي شيء لا ثمن له إذ لم يقل أكثر لحمها إذ لا يتسير ذلك على كل أحد وأعني بالإكثار غير المفسد.

* الأصل:

5 - وفي رواية اخرى قال: (فكان بعد ذلك يعقوب (عليه السلام) ينادي مناديه كل غداة من منزله على فرسخ: ألا من أراد الغداء فليأت إلى يعقوب، وإذا أمسي نادى: ألا من أراد العشاء فليأت إلى يعقوب).

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسحاق بن عبد العزيز، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاءت فاطمة (عليها السلام) تشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض أمرها فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كربة (2) وقال: تعلمي ما فيها فإذا فيها: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت).(3)

ص:152


1- -الکافی:666/2.
2- - في بعض النسخ «كريسة» مصغر الكراسة وهي الجزء من الصحيفة.
3- -الکافی:666/2.

* الشرح:

قوله: (فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كربة) (1) الكرب بالتحريك أصول النخل الغلاظ أمثال الكتف والواحد بهاء.

(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) الضيف القادم ويقع على الواحد والكثير والذكر والأنثى ويجمع على أضياف وضيوف وضيفان ويقال ضفته وتضيفته إذا نزل به وضيفته إذا أنزلته، والمراد بإكرامه تعظيمه ورعاية حقوقه والتكلم معه والاستفسار عن حاله وإظهار حسن الخلق معه ولا ينقبض وجهه لديه ولا يشتم ولا يضرب خدمه عنده لئلا يضجر والضيافة ليست بواجبة فالأمر للاستحباب المؤكد ولكنها من أخلاق النبيين وآداب المرسلين وإجادة الطعام مستحبة ما لم تبلغ حد التكلف والإسراف لأنهما مذمومان اما الإسراف فظاهر وأما التكلف فلما فيه من المشقة ولأنه يمنع من الإخلاص والسرور بالضيف وربما ينجر ذلك إلى حد يتأذى الضيف بذلك فهو ينافي اكرامه المأمور به بخلاف إجادة الطعام مما لا يتعذر عليه ولم يبلغ حد المشقة فإنها من السنة فقد ذبح إبراهيم (عليه السلام) لاضيافه عجلا.

(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت) المراد بالخير ما يثاب عليه سواء كان واجبا أو مندوبا فالأمر لمطلق الطلب الراجح، والمراد بالسكوت السكوت عما لا يثاب عليه فيدخل في المسكوت عنه المباح والحرام والمكروه فالنهي أيضا لمطلق الطلب عن الكف ولذلك قيل هذا الخطاب من باب التهييج أي من صفة المؤمن الكامل أن يتكلم بما يثاب عليه أو يسكت لأمن سكت نجا، والحق أن المباح يكتب لما ذكر آنفا، ونقل عن ابن عباس أنه لا يكتب إذ لا يجازى عليه والجواب عنه قد ذكراه آنفا فتدبر.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد خالد، عن أبيه، عن سعدان وعن أبي مسعود، قال:

قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (حسن الجوار زيادة في الأعمار، وعمارة الديار).(2)

* الشرح:

قوله: (حسن الجوار يعمر الديار وينسي في الأعمار) نسأه كمنعه وأنسأه أخره والحديث محمول على ظاهره لأن العمر مما يزيد وينقص، واختلف العامة فقال عياض والطيبي: المراد بتأخير الأجل بقاء الذكر الجميل بعده فكأنه لم يمت دون تأخير الأجل لأن الأجل لا يزيد ولا ينقص، وقال بعضهم: معنى الزيادة في العمر أنه بالبركة فيه بتوفيقه إلى أعمال الطاعة وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة والتوجيه ببقاء ذكره بعد الموت ضعيف ورد بعضهم هذين القولين بأن

ص:153


1- - في بعض النسخ «كرية» مصغر الكراسة وهي الجزء من الصحيفة.
2- -الکافی:667/2.

العمر يزيد وينقص إذ قد يكون قد سبق في أم الكتاب أنه إن فعل كذا وكذا فعمره كذا وإن لم يفعله فكذا.

* الأصل:

8 - عنه، عن النهيكي، عن إبراهيم عن عبد الحميد، عن الحكم الخياط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

(حسن الجوار يعمر الديار ويزيد في الأعمار).

* الأصل:

9 - عنه، عن بعض أصحابه، عن صالح بن حمزة، عن الحسن بن عبد الله، عن عبد صالح (عليه السلام) قال: قال: (ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى).

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عبيس بن هشام، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسن الجوار يعمر الديار وينسى في الأعمار).

* الأصل:

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إسماعيل بن مهران، عن محمد بن حفص، عن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال - والبيت غاص بأهله -: (اعلموا أنه ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره).

* الأصل:

12 - عنه، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (المؤمن من آمن جاره بوائقه). قلت: وما بوائقه؟ قال: (ظلمه وغشمه).(1)

* الشرح:

قوله: (ظلمه وغشمه) الغشم بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين الجور والظلم.

* الأصل:

13 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فشكا عليه أذى من جاره فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اصبر، ثم أتاه ثانية فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) اصبر، ثم عاد إليه فشكاه ثالثة فقال النبي (صلى الله عليه وآله) للرجل الذي شكا: إذا كان عند رواح الناس إلى الجمعة فأخرج متاعك إلى الطريق حتى يراه من يروح إلى الجمعة، فإذا سألوك فأخبرهم. قال: ففعل فأتاه جاره المؤذي له فقال: رد متاعك فلك الله علي أن لا أعود).

* الأصل:

ص:154


1- -الکافی:668/2.

14 - عنه، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي الحسن البجلي، عن عبيد الله الوصافي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، قال: (وما من أهل قرية يبيت [و] فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة).(1)

* الشرح:

قوله: (ما آمن بي من مات شبعان وجاره جايع) فيه حث على تفقد أحوال الجار وإكرامه وإطعامه لما فيه من حسن العشرة وجلب المحبة والألفة ودفع الحاجة المفسدة عنه إذ قد يكون الجار لضعفه وكثرة عياله وصغار ولده لا يقدر على تحصيل ما يكفيه وقد يكون يتيما وأرملة ثم أنه لو لم يقدر على القيام بمطالب الجميع كان عليه تقدير الأقرب فالأقرب ولو كان الأبعد ذا رحم فلا يبعد القول بتقديمه.

* الأصل:

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من القواصم الفواقر التي تقصم الظهر جار السوء، إن رأى حسنة أخفاها وإن رأى سيئة أفشاها).(2)

* الشرح:

قوله: (من القواصم الفواقر) الفاقرة الداهية الشديدة الكاسرة يقال: فقرته الفاقرة أي كسرت فقار ظهره.

* الأصل:

16 - عنه، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة، تراك عيناه ويرعاك قلبه، إن رآك بخير ساءه وإن رآك بشر سره).

ص:155


1- -الکافی:668/2.
2- -الکافی:668/2.

باب حد الجوار

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن عمر بن عكرمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله).(1)

* الشرح:

قوله: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار بن عمر بن عكرمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل أربعين دار أجيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله) كان هذا الحديث هو المذكور في صدر الباب السابق وفيه اقتصار على المتن والسند. واعلم أن ما دل عليه هذا الحديث والذي بعده من أن الجوار أربعون دارا من كل جانب مذهب طائفة من أصحابنا وذهب جماعة منهم الشهيد الأول في اللمعة إلى أنه أربعون ذراعا، وقال الشهيد الثاني: الأقوى في الجيران الرجوع إلى العرف لأن مستند الأول رواية عامية روتها عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «الجار إلى أربعين دارا» والثاني وإن كان مشهورا مستنده ضعيف وكأنه «ره» غفل عن هاتين الروايتين وجعل مستند الأول رواية عائشة.

* الأصل:

2 - وعنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (حد الجوار أربعون دارا من كل جانب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله).

ص:156


1- -الکافی:669/2.

باب حسن الصحابة وحق الصاحب في السفر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان قال:

أوصاني أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: (اوصيك بتقوى الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الصحابة لمن صحبت ولا قوة إلا بالله).(1)

* الشرح:

قوله: (وحسن الصحابة لمن صحبت) في السفر والحضر بالحلم والرفق والصفح كظم الغيظ وحسن الخلق وكف الأذى وحفظ السر والدعوة إلى الزاد والقيام بالخدمة في الصحة والمرض وقضاء الحوائج والاقتراض عند الحاجة والإرشاد إلى المصالح والتكلم والمزاج بما يوجب إنبساط القلب.

*اصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليه فافعل).

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله 9: ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عزوجل أرفقهما بصاحبه).

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن عدة من أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حق المسافر أن يقيم عليه أصحابه إذا مرض ثلاثا).

5 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام):

إن أمير المؤمنين (عليه السلام) صاحب رجلا ذميا فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ فقال: اريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له الذمي: ألست زعمت أنك تريد الكوفة؟ فقال له: بلى، فقال له الذمي: فقد تركت الطريق؟ فقال له: قد علمت: قال: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا (صلى الله عليه وآله) فقال له الذمي: هكذا قال؟ قال: نعم، قال الذمي لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة فأنا أشهدك أني على دينك ورجع الذمي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما عرفه أسلم).

ص:157


1- -الکافی:669/2.

باب التكاتب

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (التواصل بين الاخوان في الحضر التزاور وفي السفر التكاتب).(1)

* الشرح:

قوله: (التواصل بين الأخوان في الحضر التزاور وفي السفر التكاتب) التواصل مطلوب عقلا وشرعا لحسن النظام وتحقق الإلتيام وبه ينتظم أمور الدين والدنيا بين الأنام وهو يتحقق في الحضر بالتزاور وبسط بساط الوفاق وفي السفر بالتكاتب وإظهار السلامة والمحبة والإشتياق والتألم بالفراق.

* الأصل:

2 - ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (رد جواب الكتاب واجب كوجوب رد السلام، والبادي بالسلام أولى بالله ورسوله).(2)

* الشرح:

قوله: (رد جواب الكتاب واجب كوجوب رد السلام) هذا من باب الحاق النظير بنظيره في الحكم إذ السلام تحية وتحفة من الحاضر والكتاب تحفة وتحية من الغائب فكما يجب رد السلام بالسلام يجب رد الكتاب بالكتاب، وأيضا رعاية حقوق الأخوة وكمال المروءة وثبات الألفة مقتضية لرد الكتاب بالكتاب.

ص:158


1- -الکافی:670/2.
2- -الکافی:670/2.

باب النوادر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، قال: ولم يبسط رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجليه بين أصحابه قط وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله 9 يده من يده حتى يكون هو التارك فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قال بيده فنزعها من يده).(1)

* الشرح:

قوله: (وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية) اللحظات النظرات وفي تسوية النظر فوائد منها عدم انكسار قلوب بعضهم ومنها ميل القلوب إلى الناظر لحسن خلقه ولطف سيرته ومنها حصول المروءة وزيادة المحبة بين المنظورين لأن تخصيص بعضهم بزيادة الالتفات يورث العداوة بينهم وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض عماله:

«واخفض للرعية جناحك وواس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة».

قوله: (قال بيده فنزعها من يده) في النهاية: العرب يجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ويطلقه على ا غير اللسان والكلام فيقول: قال بيده أي أخذ وقال برجله أي مشى وقالت له العينان:

سمعا وطاعة أي أو مات وقال بالماء على يده أي قلب وقال بثوبه أي رقعة كل ذلك على سبيل المجاز والاتساع.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (إذا كان الرجل حاضرا فكنه وإذ كان غائبا فسمه).

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا أحب أحدكم أخاه المسلم فليسأله، عن اسمه، واسم أبيه واسم قبيلته وعشيرته فإن من حقه الواجب وصدق الإخاء أن يسأله عن ذلك وإلا فإنها معرفة حمق).(2)

* الشرح:

قوله: (وصدق الإخاء) الإخاء بالكسر والمد مصدر كالمواخاة يقال: آخاه مؤاخاة وأخاه إذا

ص:159


1- -الکافی:671/2.
2- -الکافی:671/2.

اتخذه أخا وصديقا وفي الكنز: «أخا بأهم برادرى داشتن».

(وإلا فإنها معرفة حمق) الحمق ككتف الأحمق وهو قليل العقل وسخيف الرأي والحمق بضمتين جمع الأحمق وضمير التأنيث راجع بقرينة المقام إلى المعرفة الحاصلة بمجرد النظر إلى شخصه وهذه المعرفة غير مختصة بالعاقل لثبوتها للأحمق الجاهل وغيره من الحيوانات.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن علي بن جعفر، عن عبد الملك بن قدامة، عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما لجلسائه: تدرون ما العجز قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: العجز ثلاثة أن يبدر أحدكم بطعام يصنعه لصاحبه فيخلفه ولا يأتيه. والثانية أن يصحب الرجل منكم الرجل أو يجالسه يحب أن يعلم من هو ومن أين هو فيفارقه قبل أن يعلم ذلك، والثالثة أمر النساء يدنو أحدكم من أهله فيقضي حاجته وهي لم تقض حاجتها) فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يتحوس ويمكث حتى يأتي ذلك منهما جميعا. قال: وفي حديث آخر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن من أعجز العجز رجل لقى رجلا فأعجبه نحوه فلم يسأله عن اسمه ونسبه وموضعه).(1)

* الشرح:

قوله: (فقال: العجز ثلاثة) لعل المراد به العجز عن الإتيان بالآداب الشرعية والضعف عن الوفاء بحسن المصاحبة وأداء حقوق المعاشرة والمخالطة.

(فقال: يتحوس ويمكث حتى يأتي ذلك منهما جميعا) يتحوس أي يتحبس ويبطيء ومنه تحوس المسافر إذا أبطيء وأقام مع إرادة السفر وتحوس فلان إذا تحبس وأبطاء في أمره وفي بعض النسخ بالشين المعجمة أي يتنحى عن الحركة ويتأنى فيها.

* الأصل:

5 - وعنه عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: (لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك أبق منها فإن ذهابها ذهاب الحياء).(2)

* الشرح:

قوله: (لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك.. اه) الحشمة بالكسر وهي الإنقباض عن بعض الأمور حياء وإذا ذهب الحياء منهما بالمرة وبطلت العزة والحرمة صدرت منهما أفعال وأقوال

ص:160


1- -الکافی:671/2.
2- -الکافی:672/2.

شبيهة بأفعال الأراذل واللئام وأقوالهم.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن إسماعيل، عن عبد الله بن واصل عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تثق بأخيك كل الثقة فإن صرعة الاسترسال لن تستقال).(1)

* الشرح:

قوله: (لا تثق بأخيك كل الثقة) قال الحكماء: وجب اختبار الرجل ثم اختياره للصداقة إذ اختياره قبل اختباره ينجر سريعا إلى وحشة الفراق وذل الإنكسار ثم بعد اختياره لابد من الحزم وعدم الوثوق به كل الوثوق فلا يظهر عليه جميع الأسرار بل يحفظ منها ما يخاف اللوم وسوء العاقبة من افشائه وانتشاره.

(فإن صرعة الاسترسال لن تستقال) في القاموس: الصرع ويكسر الطرح على الأرض صرعة كمنعه والصرعة بالكسر للنوع ومنه المثل سوء الإستمساك خير من حسن الصرعة، ويروي بالفتح بمعنى المرة، وبالضم من يصرعه الناس، وكهمزة من يصرعهم. والاسترسال الاستيناس والانبساط والطمأنينة فيما يحدثه. والاستقالة طلب فسخ البيع وهذا كمثل يقال لمن دخل في أمر من غير تأمل وروية فوقع في محنة وبلية لا طريق إلى دفعها وإقالتها ولا سبيل إلى علاجها وإزالتها.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن معلى بن خنيس وعثمان بن سليمان النخاس، عن مفضل بن عمر، ويونس بن ظبيان قالا: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (اختبروا إخوانكم بخصلتين فإن كانتا فيهم وإلا فاعزب ثم اعزب ثم اعزب: محافظة على الصلوات في مواقيتها والبر بالإخوان في العسر واليسر).

ص:161


1- -الکافی:672/2.

باب(فضل البسمله)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل بن دراج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تدع بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان بعده شعر).(1)

* الشرح:

قوله: (لا تدع بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان بعده شعر) سواء كتبته أو قرءته والنهي للتنزيه الدال على الاستحباب.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن الحسن بن علي، عن يوسف بن عبد السلام، عن سيف بن هارون مولى آل جعدة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من أجود كتابك ولا تمد الباء حتى ترفع السين).(2)

* الشرح:

قوله: (عن سيف بن هارون مولى آل جعدة) جعدة بالفتح والسكون اسم رجل وآل جعدة حي، وسيف بن هارون غير مذكور فيما رأيناه من كتب الرجال والمراد بكونه مولاهم أنه غير العربي ونشأ فيهم منتسب إليهم.

(اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من أجود كتابك) أي حسن موضعه وهو الصدر، ويحتمل أن يراد بالكتاب المصدر ويجعل الجودة وصفا لكتب البسملة بإظهار الحروف وترصيفها وغير ذلك «مما له مدخل في جودتها».

(ولا تمد الباء حتى ترفع السين) كما هو المعروف في المصاحف وقبل استحباب رفع السين قبل مد الباء مخصوص بخط الكوفي.

* الأصل:

3 - عنه، عن علي بن الحكم، عن الحسن بن السري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: (لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم لفلان ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب لفلان).(3)

* الشرح:

ص:162


1- -الکافی:672/2.
2- -الکافی:672/2.
3- -الکافی:672/2.

قوله: (لا تكتب) في داخل الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم لفلان) بل اكتب إلى فلان (ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب لفلان) ليعرف من غير فتح سيما إذا كان مختوما والفرق أن المراد بالأول إبلاغ الدعاء والسلام والأحوال وإرسالها إليه ومن الثاني هو الإعلام بأن الكتاب لمن. ومفاد هذا الحديث وتاليه واحد.

* الأصل:

4 - عنه، عن محمد بن علي، عن النضر بن شعيب، عن أبان بن عثمان، عن الحسين بن السري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تكتب داخل الكتاب لأبي فلان واكتب «إلى أبي فلان» واكتب على العنوان لأبي فلان).

5 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبدأ بالرجل في الكتاب، قال: (لا بأس به، ذلك من الفضل، يبدأ الرجل بأخيه يكرمه).(1)

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبدأ بالرجل في الكتاب) بأن يكتب بعد التسمية من فلان إلى فلان.

* الأصل:

6 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبان بن الأحمر، عن حديد بن حكيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بأن يبدأ الرجل باسم صاحبه في الصحيفة قبل اسمه).(2)

* الشرح:

(قال: لا بأس) بذلك (ذلك من الفضل يبدأ الرجل بأخيه يكرمه) قال بعض العامة: الأولى بداية الإنسان بنفسه في الدعاء ونحوه من أمور الآخرة يرشد إليه قوله تعالى حكاية (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)(3) بخلاف حظوظ الدنيا فإن الأدب أن يبدأ باسم غيره وأما الرسائل فقيل بتقديم المكتوب إليه إلا أن يكون الكاتب الأمير أو الأب لابنه أو السيد لعبده وقيل بتقديم نفسه كيف كان ومنه كتبه (صلى الله عليه وآله) محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم وقوله (عليه السلام) في هذا الخبر والذي بعده «لا بأس» يشعر بالتساوي بين الأمرين والله يعلم.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن مرازم بن حكيم قال: أمر أبو عبد الله (عليه السلام) بكتاب في حاجة فكتب ثم عرض عليه ولم يكن فيه استثناء فقال: (كيف رجوتم أن يتم هذا وليس

ص:163


1- -الکافی:673/2.
2- -الکافی:673/2.
3- -سورة إبراهیم:41.

فيه استثناء انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه).(1)

* الشرح:

قوله: (ولم يكن فيه استثناء) ينبغي لمن قال: أفعل أو سأفعل ونحوها أن يقول: إن شاء الله متصلا به أو منفصلا إذا ذكر بعد النسيان لأن له مدخلا عظيما في تيسير المقصود.

* الأصل:

8 - عنه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه كان يترب الكتاب وقال: (لا بأس به).(2)

* الشرح:

قوله: (أنه كان يترب الكتاب وقال: لا بأس به) يترب أما من الإتراب أو من التتريب قال الجوهري ترب الشيء بالكسر أصابه التراب وتربت الشيء تتريبا فتترب أي تلطخ بالتراب وأتربت الشيء جعلت عليه التراب. وفي الحديث أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة وفي مجمع البحار معنى الحديث اجعلوا عليه التراب أو أسقطوا على التراب اعتمادا على الله تعالى في إيصاله إلى المقصد أو ذروا التراب على المكتوب أو خاطبوا في الكتاب خطابا في غاية التواضع للمكتوب إليه.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية أنه رأى كتبا لأبي الحسن (عليه السلام) متربة.

ص:164


1- -الکافی:673/2.
2- -الکافی:673/2.

باب النهي عن احراق القراطيس المكتوبة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الملك بن عتبة، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن القراطيس تجتمع هل تحرق بالنار وفيها شيء من ذكر الله؟ قال: (لا، تغسل بالماء أولا قبل).(1)

* الشرح:

قوله: (يمحوه الرجل بالتفل) ان احتاج إلى محوه والتفل بالضم البصاق.

* الأصل:

2 - عنه، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (لا تحرقوا القراطيس ولكن امحوها وخرقوها).

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الاسم من أسماء الله يمحوه الرجل بالتفل قال: (امحوه بأطهر ما تجدون).

4 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

امحوا كتاب الله [تعالى] وذكره بأطهر ما تجدون ونهى أن يحرق كتاب الله ونهى أن يمحى بالأقلام).(2)

* الشرح:

قوله: (امحو كتاب الله وذكره باطهر ما تجدون) إن كان محوه مطلوبا بأن وقع فيه الغلط أو وقع في غير موضعه أو وقع في موضع يوطأ ونحو ذلك.

(ونهى عن أن يحرق كتاب الله ونهى أن يمحي بالأقلام) النهي الأول للتحريم والثاني للتنزيه.

وفي نسخة بالاقدام والظاهر أنه تحريف.

* الأصل:

5 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن إسحاق بن عمار، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في الظهور التي فيها ذكر الله عزوجل قال: (اغسلها).(3)

* الشرح:

ص:165


1- -الکافی:673/2.
2- -الکافی:674/2.
3- -الکافی:674/2.

قوله: (في الظهور) أي الجلود التي فيها ذكر الله تعالى (قال: اغسلها) إن كانت غير مذكاة أو كانت هي والمداد نجسة أو وجد شيئا آخر من أسباب المحو التي ذكرنا بعضها.

* الأصل:

تم كتاب العشرة ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.(1)

* الشرح:

هذا آخر كتاب العشرة وبه تم قسم الأصول من الكافي) نحمد الله ونشكره على جزيل نعمائه وجميل فعاله وعلى أن وفقنا لإتمام هذا الأثر القيم الخالد وذلك من فضله ومنه.

ولرواد الفضيلة والأجلاء الذين وازرونا في هذا المشروع لا سيما الأستاذ العظم العلامة الحجة (الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني) دامت بركاته، شكر متواصل غير مقطوع ولا ممنوع.

علي أكبر الغفاري عفا الله عنه

ص:166


1- -الکافی:674/2.

كتاب الروضة

* الشرح:

(بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الروضة) وهي في اللغة: البستان ومستنقع الماء أيضا مستعارة لهذا الكتاب بتشبيه ما فيه من المسائل الشريفة والخصايل العجيبة والفضايل الغريبة بهما في البهجة والصفا والنضارة والبهاء أو في كونه سببا لحياة النفوس كالماء.

* الأصل:

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثني علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضال عن حفص المؤذن، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.

قال: وحدثني الحسن بن محمد، عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي، عن القاسم ابن الربيع الصحاف، عن إسماعيل بن مخلد السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام). قال: (خرجت هذه الرسالة من أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه:

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد:

فاسألوا ربكم العافية وعليكم بالدعة والوقار والسكينة وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزه عنه الصالحون قبلكم وعليكم بمجاملة أهل الباطل تحملوا الضيم منهم وإياكم ومما ظنتهم دينوا بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام، فإنه لابد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم

ص:167

فإذا ابتليتم بذلك منهم فإنهم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر ولولا أن الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم وفي صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم مجالسكم ومجالسهم واحدة وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف، لا تحبونهم أبدا ولا يحبونكم غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله فتجاملونهم وتصبرون عليهم وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء وحيلهم وسواس بعضهم إلى بعض فان أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق، فيعصمكم الله من ذلك فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير.

وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربكم من أن تذلقوا ألسنتكم به فان ذلق اللسان فيما يكره الله وما [ي] - نهى عنه مرادة للعبد عند الله ومقت من الله وصم وعمي وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة فتصيروا كما قال الله: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)(1) يعني لا ينطقون (ولا يؤذن لهم فيعتذرون)(2).

وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه وأكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء على الله والتضرع إليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عما نهى الله عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهله خلودا في النار من مات عليها ولم يتب إلى الله ولم ينزع عنها، وعليكم بالدعاء فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء والرغبة إليه والتضرع إلى الله والمسألة [له] فارغبوا فيما رغبكم الله فيه وأجيبوا الله إلى ما دعاكم إليه لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء مما حرم الله فانه من انتهك ما حرم الله عليه ها هنا في الدنيا حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنة أبد الأبدين.

واعلموا أنه بئس [الحظ] الخطر لمن خاطر الله بترك طاعة الله وركوب معصيته فاختار أن ينتهك محارم الله في لذات دنيا منقطعة زائلة عن أهلها على خلود نعيم في الجنة ولذاتها وكرامة أهلها. ويل لأولئك ما أخيب حظهم وأخسر كرتهم وأسوء حالهم عند ربهم يوم القيامة، استجيروا الله أن يخزيكم (3) في مثالهم أبدا وأن يبتليكم بما ابتلاهم به ولا قوة لنا ولكم إلا به.

ص:168


1- -سورة البقرة :18.
2- -سورة المرسلات:36.
3- - كذا وفي بعض النسخ «يجيركم».

فاتقوا الله أيتها العصابة الناجية إن أتم الله لكم ما أعطاكم به فإنه لا يتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم وحتى تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا فتصبروا وتعركوا بجنوبكم وحتى يستذلوكم ويبغضوكم وحتى يحملوا [عليكم] الضيم فتحملوا منهم تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله عزوجل يجترمونه إليكم وحتى يكذبوكم بالحق ويعادوكم فيه ويبغضوكم عليه فتصبروا على ذلك منهم، مصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل (عليه السلام) على نبيكم (صلى الله عليه وآله) سمعتم قول الله عزوجل لنبيكم (صلى الله عليه وآله): (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم)(1) ثم قال: (وإن يكذبوك) (لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا) فقد كذب نبي الله والرسل من قبله وأوذوا مع التكذيب بالحق فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل - أصل الخلق - من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه فانه من يجهل هذا وأشباهه مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عن ترك دين الله وركب معاصيه فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار.

وقال: أيتها العصابة المرحومة المفلحة إن الله أتم لكم ما آتاكم من الخير واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء وجعل القرآن ولتعلم القرآن أهلا لا يسمع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الامة بسؤالهم وهم الذين من سألهم، وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم، أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله باذنه إلى جميع سبل الحق وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظله فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم. وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتى دخلهم الشيطان لأنهم جعلوا أهل الايمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم

ص:169


1- -سورة الأحقاف:35.

الله في كثير من الأمر حلالا فذلك أصل ثمرة أهوائهم وقد عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل موته فقالوا: نحن بعد ما قبض الله عزوجل رسوله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعدما قبض الله عزوجل رسوله (صلى الله عليه وآله) وبعده عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ولرسوله 9 فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسمعه والله إن لله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته هل يستطيع اولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحدا ممن أسلم مع محمد (صلى الله عليه وآله) أخذ بقوله ورأيه ومقائيسه؟ فإن قال: نعم، كذب على الله وضل ضلالا بعيدا وإن قال: لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه، فقد أقر بالحجة على نفسه وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد قال الله وقوله الحق (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)(1) وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد قبض الله محمد (صلى الله عليه وآله) وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمد (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافا لأمر محمد (صلى الله عليه وآله) فكذلك لم يكن لأحد من الناس بعد محمد (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه.

وقال: دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلا مرة واحدة حين تفتتح الصلاة فان الناس قد شهروكم بذلك والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال: أكثروا من أن تدعوا الله فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه وقد وعد الله عباده المؤمنين بالاستجابة والله مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهما به في الجنة فأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار فان الله أمر بكثرة الذكر له والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين، واعلموا أن الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير، فأعطوا لله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته فان الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه التي حرم الله في ظاهر القرآن وباطنه فان الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحق: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)(2) واعلموا أن ما أمر الله به أن تجتنبوه فقد حرمه واتبعوا آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلوا فان أضل الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه بغير هدى من الله، وأحسنوا إلى أنفسكم ما استطعتم فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم، تجمعوا مع ذلك طاعة ربكم وإياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبوا الله عدوا بغير علم وقد ينبغي لكم أن

ص:170


1- -سورة آل عمران:124.
2- -سورة الأنعام:120.

تعلموا حد سبهم لله كيف هو؟ إنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله ومن أظلم عند الله ممن استسب لله ولأولياء الله فمهلا مهلا فاتبعوا أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال: أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم! عليكم بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده وسنتهم، فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى ومن ترك ذلك ورغب عنه ضل، لأنهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله):

المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء، ألا إن اتباع الأهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار ولن ينال شيء من الخير عند الله إلا بطاعته والصبر والرضا لأن الصبر والرضا من طاعة الله، واعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به على ما أحب وكره ولن يصنع الله بمن صبر ورضي عن الله إلا ما هو أهله وهو خير له مما أحب وكره، وعليكم بالمحافظة على الصلوات والصلاة والوسطى وقوموا لله قانتين كما أمر الله به المؤمنين في كتابه من قبلكم وإياكم، وعليكم بحب المساكين المسلمين فانه من حقرهم وتكبر عليهم فقد زل عن دين الله والله له حاقر ماقت وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أمرني ربي بحب المساكين المسلمين [منهم]» واعملوا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه والمحقرة حتى يمقته الناس والله له أشد مقتا، فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين فان لهم عليكم حقا أن تحبوهم فان الله أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) بحبهم فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله ومن عصى الله ورسوله ومات على ذلك مات وهو من الغاوين.

وإياكم والعظمة والكبر، فان الكبر رداء الله عزوجل:، فمن نازع الله رداءه قصمه الله عزوجل وأذله يوم القيامة، وإياكم أن يبغي بعضكم على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين فانه من بغي صير الله بغيه على نفسه وصارت نصرة الله لمن بغي عليه ومن نصره الله غلب وأصاب الظفر من الله، وإياكم أن يحسد بعضكم بعضا فان الكفر أصله الحسد. وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو الله عليكم ويستجاب له فيكم فان أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة» وليعن بعضكم بعضا فان أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «إن معونة المسلم خير وأعظم أجرا من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام» وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بالشيء يكون لكم قبله وهو معسر فإن أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «ليس لمسلم أن يعسر مسلما ومن أنظر معسرا أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله».

وإياكم أيتها العصابة المرحومة المفضلة على من سواها، وحبس حقوق الله قبلكم يوما بعد

ص:171

يوم وساعة بعد ساعة فانه من عجل حقوق الله قبله كان الله أقدر على التعجيل له إلى مضاعفة الخير في العاجل والآجل، وإنه من أخر حقوق الله قبله كان الله أقدر على تأخير رزقه ومن حبس الله رزقه لم يقدر أن يرزق نفسه فأدوا إلى الله حق ما رزقكم يطيب الله لكم بقيته وينجز لكم ما وعدكم من مضاعفته لكم الأضعاف الكثيرة التي لا يعلم عددها ولا كنه فضلها إلا الله رب العالمين.

وقال: اتقوا الله أيتها العصابة وإن استطعتم أن لا يكون منكم محرج الأمام فإن محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل الصلاح من أتباع الإمام، المسلمين لفضله، الصابرين على أداء حقه، العارفين بحرمته، واعملوا أنه من نزل بذلك المنزل عند الإمام فهو محرج الإمام، فإذا فعل ذلك عند الإمام أحرج الإمام إلى أن يلعن أهل الصلاح من أتباعه، المسلمين لفضله، الصابرين على أداء حقه، العارفين بحرمته، فإذا لعنهم لاحراج أعداء الله الإمام صارت لعنته رحمة من الله عليهم وصارت اللعنة من الله ومن الملائكة ورسله على اولئك.

واعلموا أيتها العصابة أن السنة من الله قد جرت في الصالحين قبل. وقال: من سره أن يلقى الله وهو مؤمن حقا فليتول الله ورسوله والذين آمنوا وليبرأ إلى الله من عدوهم ويسلم لما انتهى إليه من فضلهم لأن فضلهم لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك، ألم تسمعوا ما ذكر الله من فضل أتباع الأئمة الهداة وهم المؤمنون قال: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا)(1) فهذا وجهه من وجوه فضل أتباع الأئمة فكيف بهم وفضلهم؟ ومن سره أن يتم الله له إيمانه حتى يكون مؤمنا حقا حقا فليف لله بشروطه التي اشترطها على المؤمنين فانه قد اشترط مع ولايته وولاية رسوله وولاية أئمة المؤمنين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإقراض الله قرضا حسنا واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن فلم يبق شيء مما فسر مما حرم الله إلا وقد دخل في جملة قوله، فمن دان الله فيما بينه وبين الله مخلصا لله ولم يرخص لنفسه في ترك شيء من هذا فهو عند الله في حزبه الغالبين وهو من المؤمنين حقا، وإياكم والاصرار على شيء مما حرم الله في ظهر القرآن وبطنه وقد قال الله تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) - إلى ها هنا رواية القاسم بن الربيع - يعني المؤمنين قبلكم إذا نسوا شيئا مما اشترط الله في كتابه عرفوا أنهم قد عصوا الله في تركهم ذلك الشيء فاستغفروا ولم يعودوا إلى تركه فذلك معنى قول الله: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).

واعملوا أنه إنما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهى عما نهى عنه، فمن اتبع أمره فقد أطاعه

ص:172


1- -سورة النساء:69.

وقد أدرك كل شيء من الخير عنده ومن لم ينته عما نهى الله عنه فقد عصاه فإن مات على معصيته أكبه الله على وجهه في النار.

واعملوا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلا طاعتهم له، فجدوا في طاعة الله، إن سركم أن تكونوا مؤمنين حقا حقا ولا قوة إلا بالله. وقال: وعليكم بطاعة ربكم ما استطعتم فان الله ربكم اعلموا أن الاسلام هو التسليم والتسليم هو الإسلام فمن سلم فقد أسلم ومن لم يسلم فلا إسلام له ومن سره أن يبلغ إلى نفسه في الاحسان فليطع الله فإنه من أطاع الله فقد أبلغ إلى نفسه في الاحسان.

وإياكم ومعاصي الله أن تركبوها فانه من انتهك معاصي الله فركبها فقد أبلغ في الإساءة إلى نفسه وليس بين الاحسان والإساءة منزلة، فلأهل الاحسان عند ربهم الجنة ولأهل الإساءة عند ربهم النار، فاعملوا بطاعة الله واجتنبوا معاصيه واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه شيئا لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه واعلموا أن أحدا من خلق الله لم يصب رضا الله إلا بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمره من آل محمد صلوات الله عليهم. ومعصيتهم من معصية الله ولم ينكر لهم فضلا عظم أو صغر واعملوا أن المنكرين هم المكذبون وأن المكذبين هم المنافقون وأن الله عزوجل قال للمنافقين وقوله الحق: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا)(1) ولا يعرفن أحد منكم ألزم الله قلبه طاعته وخشيته من أحد من الناس أخرجه الله من صفة الحق ولم يجعله من أهلها فان من لم يجعل الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الانس والجن وإن لشياطين الانس حيلة ومكرا وخدائع ووسوسة وبعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يردوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الأنس من أهله إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشك والانكار والتكذيب فيكونون سواء كما وصف الله تعالى في كتابه من قوله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءا)(2). ثم نهى الله أهل النصر بالحق أن يتخذوا من أعداء الله وليا ولا نصيرا فلا يهولكم ولا يردنكم عن النصر بالحق الذي خصكم الله به حيلة شياطين الانس ومكرهم من أموركم تدفعون أنتم السيئة بالتي هي أحسن فيما بينكم وبينهم، تلتمسون بذلك وجه ربكم بطاعته وهم لا خير عندهم لا يحل لكم أن تظهروهم على اصول دين الله فإنهم إن سمعوا منكم فيه شيئا عادوكم عليه ورفعوه عليكم وجهدوا على هلاككم واستقبلوكم بما تكرهون ولم يكن لكم النصفة منهم في دول

ص:173


1- -سورة النساء:145.
2- -سورة النساء:89.

الفجار، فاعرفوا منزلتكم فيما بينكم وبين أهل الباطل فانه لا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل لأن الله لم يجعل أهل الحق عنده بمنزلة أهل الباطل ألم يعرفوا وجه قول الله في كتابه إذ يقول: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) أكرموا أنفسكم عن أهل الباطل ولا تجعلوا الله تبارك وتعالى - وله المثل الأعلى - وإمامكم ودينكم الذي تدينون به عرضة لأهل الباطل فتغضبوا الله عليكم فتهلكوا، فمهلا مهلا يا أهل الصلاح لا تتركوا أمر الله وأمر من أمركم بطاعته فيغير الله ما بكم من نعمة، أحبوا في الله من وصف صفتكم وابغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم [لمن وصف صفتكم] ولا تبتذلوها لمن رغب عن صفتكم وعاداكم عليها وبغالكم الغوائل.

هذا أدبنا أدب الله فخذوا به وتفهموه واعقلوه ولا تنبذوه وراء ظهوركم، ما وافق هداكم أخذتم به وما وافق هواكم طرحتموه ولم تأخذوا به، وإياكم والتجبر على الله واعلموا أن عبدا لم يبتل بالتجبر على الله إلا تجبر على دين الله، فاستقيموا لله ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. أجارنا الله وإياكم من التجبر على الله ولا قوة لنا ولكم إلا بالله.

وقال (عليه السلام): إن العبد إذا كان خلقه الله في الأصل - أصل الخلق - مؤمنا لم يمت حتى يكره الله إليه الشر ويباعده عنه ومن كره الله إليه الشر وباعده عنه عافاه الله من الكبر أن يدخله والجبرية فلانت عريكته وحسن خلقه وطلق وجهه وصار عليه وقار الاسلام وسكينته وتخشعه وورع عن محارم الله واجتنب مساخطه ورزقه الله مودة الناس ومجاملتهم وترك مقاطعة الناس والخصومات ولم يكن منها ولا من أهلها في شيء، وإن العبد إذا كان الله خلقه في الأصل - أصل الخلق - كافرا لم يمت حتى يحبب إليه الشر ويقر به منه فإذا حبب إليه الشر وقربه منه ابتلي بالكبر والجبرية فقسا قلبه وساء خلقه وغلظ وجهه وظهر فحشه وقل حياؤه وكشف الله ستره وركب المحارم فلم ينزع عنها وركب معاصي الله وأبغض طاعته وأهلها فبعد ما بين حال المؤمن وحال الكافر سلوا الله العافية واطلبوها إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، صبروا النفس على البلاء في الدنيا فان تتابع البلاء فيها والشدة في طاعة الله وولايته وولاية من أمر بولايته خير عاقبة عند الله في الآخرة من ملك الدنيا وإن طال تتابع نعيمها وزهرتها وغضارة عيشها في معصية الله وولاية من نهى الله عن ولايته وطاعته فان الله أمر بولاية الأئمة الذين سماهم الله في كتابه في قوله: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)(1) وهم الذين أمر الله بولايتهم وطاعتهم والذين نهى الله عن ولايتهم وطاعتهم وهم أئمة الضلالة الذين قضى الله أن يكون لهم دول في الدنيا على أولياء الله الأئمة من آل محمد يعملون

ص:174


1- -سورة الأنبیاء:73.

في دولتهم بمعصية الله ومعصية رسوله (صلى الله عليه وآله) ليحق عليهم كلمة العذاب وليتم أن تكونوا مع نبي الله (صلى الله عليه وآله) والرسل من قبله فتدبروا واما قص الله عليكم في كتابه مما ابتلى به أنبياءه وأتباعهم المؤمنين، ثم سلوا الله أن يعطيكم الصبر على البلاء في السراء والضراء والشدة والرخاء مثل الذي أعطاهم، وإياكم ومماظة أهل الباطل وعليكم بهدي الصالحين ووقارهم وسكينتهم وحلمهم وتخشعهم وورعهم عن محارم الله وصدقهم ووفائهم واجتهادهم لله في العمل بطاعته فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم تنزلوا عند ربكم منزلة الصالحين قبلكم.

واعلموا أن الله إذا أراد بعبد خيرا شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحق وعقد قلبه عليه فعمل به فإذا جمع الله له ذلك تم له إسلامه وكان عند الله إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقا، وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه وكان صدره ضيقا حرجا، فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من المنافقين وصار ما جرى على لسانه من الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه ولم يعطه العمل به حجة عليه يوم القيامة، فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للاسلام وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحق حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك وأن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين قبلكم ولا قوة إلا بالله والحمد لله رب العالمين.

ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا، ألم يسمع قول الله عزوجل لنبيه (صلى الله عليه وآله):

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)(1)؟ والله لا يطيع الله عبد أبدا إلا أدخل الله عليه في طاعته اتباعنا ولا والله لا يتبعنا عبد أبدا إلا أحبه الله ولا والله لا يدع أحد اتباعنا أبدا إلا أبغضنا ولا والله لا يغضنا أحد أبدا إلا عصى الله ومن مات عاصيا لله أخزاه الله وأكبه على وجهه في النار والحمد لله رب العالمين.

* الشرح:

(محمد بن يعقوب الكليني) هذا كلام الرواة عنه أو كلامه بلسانهم أو أخبار عنه بطريق الغيبة «عن محمد بن إسماعيل» عطف على قوله «عن ابن فضال» لأن في مرتبته ولرواية إبراهيم بن هاشم عنه وعطفه على «علي» بعيد جدا كما لا يخفى (كتب بهذه الرسالة) هي بالفتح والكسر الكتاب والمكتوب الذي يرسل إلى الغير.

(وأمرهم بمدارستها) أي بقراءتها وتعليمها وتعلمها (والنظر فيها) بالتفكر والتدبر أو بالبصر أو بهما (وتعاهدها) أي اتيانها مرة بعد أخرى وتجديد العهد بها (والعمل بها) فيما يتعلق بالعمل أو

ص:175


1- -سورة آل عمران:31.

أريد به ما يشمل الإعتقاد بحقيتها أيضا.

(قال: وحدثني الحسن بن محمد) الواو للعطف على «حدثني» وكانت في المنقول لا في كلام الناقل وإلا لدخلت على قال.

واعلم أن الحديث وإن كان ضعيفا بأسانيده الثلاثة عند المتأخرين لكنه غير مضر لأن أثر الصحة في مضمونه لايح مع تأيده بالعقل والنقل.

(بسم الله الرحمن الرحيم) دل على رجحان التسمية في صدر المكاتيب والرقاع تيمنا وتشرفا وتعظيما لمضمونها (أما بعد) التسمية الاستعانة بالله تعالى في جميع الأمور (فاسئلوا ربكم العافية) من الأسقام والبلايا أو من الذنوب أو من أذى الناس قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «فنسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة الأبدان».

(وعليكم بالدعة والوقار والسكينة) الدعة الراحة والرفاهية في العيش أمر بالتزامها لا باعتبار أكثار المال بل لإصلاح الحال فإن من أصلح بينه وبين الخلق صديقا كان أو عدوا طاب عيشه وترفه حاله واستقر باله، والوقار بالفتح: رزانة النفس بالله وسكونها إليه وفراغها عن غيره قال الله تعالى:

(ما لكم لا ترجون لله وقارا) والسكينة سكون الجوارح وهي تابعة للوقار لأن من شغل قلبه بالله اشتغلت جوارحه بما طلب منها وفرغ عن كل ما يليق بها وهذا أحسن من القول بترادفها.

(وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزع عنه الصالحون قبلكم) الحياء: كيفية نفسانية مانعة من القبيح والتقصير في الحقوق خوفا من اللوم وقد يتخلق به من لم يجبل عليه وهو الحياء المكتسب وإطلاقه على ما هو مبدأ الانفعال من الإتيان بالحقوق على سبيل المجاز كما ذكرناه في شرح أحاديث العقل، والمراد بالصالحين من الأنبياء والأوصياء أو الأعم منهم وبما تنزه المنهيات وترك المأمورات والأخلاق الردية والآداب الذميمة وارتكاب أمور الدنيا التي لا حاجة إليها وبالجملة كل ما يصد عن السير إلى الله تعالى.

(وعليكم بمجاملة أهل الباطل) المجاملة بالجيم: المعاملة بالجميل ولما كان هنا مظنة أن يقولوا: كيف نجاملهم؟ أجاب على سبيل الإستيناف بقوله:

(تحملوا الضيم) أي الظلم (منهم) ولا تقابلوهم بالانتقام فإن الانتقام منهم في دولتهم لقلة ناصركم يوجب زيادة الظلم عليكم، وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: الظاهر قراءتها بالحاء المهملة فإن الظاهر قوله: «تحملوا الضيم» بيان لها وكذا قوله فيما يأتي: «وتصبرون عليهم» بيان لقوله: «فتحاملونهم» ويمكن قراءتها بالجيم كما في بعض النسخ وعليه فقس.

(وإياكم ومماظتهم) حذر عن منازعتهم ومناقشتهم في أمور الدين والدنيا لأنها تميت القلب

ص:176

وتثير العداوة واضطراب القلب بإستماع الشبهات وهي مذمومة مع أهل الحق فكيف مع أهل الباطل ولذلك قال سبحانه: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)(1) إما نصحية من استعد منهم لقبولها فيكفيه أدنى الإشارة وأقل البيان ومن لم يستعد له لم ينفعه السيف والسنان كما ورد في بعض الروايات.

(دينوا فيما بينكم وبينهم) في الأمور المختلفة لأنها محل التقية، والدين بالكسر العادة والعبادة والمواظبة أي عودوا أنفسكم بالتقية أو اعبدوا الله أو أطيعوه بها أو واظبوا عليها فقوله فيما بعد:

(بالتقية) متعلق بدينوا ثم أشار إلى زمان الحاجة إليها بقوله:

(إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام) أي خاصمتموهم في الكلام المتعلق بأصول الدين وفروعه أو الأعم منه ومن المحاورات وأصل المنازعة الجذب والقلع كان أحد المتخاصمين يجذب الآخر ويقلعه ثم أشار إلى جواز المجالسة وما بعدها بل على رجحانها بقوله (فإنه لابد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم) لأجل التقية أو لأن الإنسان مدني بالطبع يحتاج في تحصيل مطالبته وتكميل مآربه إلى بني نوعه ولا يتم ذلك إلا بالمجالسة وإذا تحققت تحققت المنازعة والمخاصمة في (الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها) في قوله عز وجل: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) (2)قال الصادق (عليه السلام) «بما صبروا على التقية». وفي قوله: (يدرؤن بالحسنة السيئة). وفي قوله: (لا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال (عليه السلام): «الحسنة التقية والسيئة الإذاعة» وفي قوله: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) قال (عليه السلام): «التي هي أحسن التقية» وفي قوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) والظاهر أنه لا خلاف في وجوب التقية عند الحاجة إليها وأن تاركها آثم ولكن أثمه لا يوجب دخول النار لما روي عن أبي جعفر (عليه السلام): «في رجلين من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما: ابرئا من أمير المؤمنين (عليه السلام) فبرئ واحد منهما وأبى الآخر فخلى سبيل الذي برئ وقتل الآخر فقال (عليه السلام): أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة» وقد أوضحنا ذلك في محله.

(فإذا ابتليتم بذلك منهم) الظاهر أن جزاء الشرط محذوف أي فاعملوا بالتقية ولا تتركوها بدليل ما قبله وما بعده وأن قوله:

(فإنم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر) من القول والشتم والغلظة ونحوها دليل على الجزاء المذكور وقائم مقامه وأمثال ذلك كثيرة في كلام الفصحاء والبلغاء، ويحتمل أيضا أن يكون

ص:177


1- -سورة العنکبوت:46.
2- -سورة فصلت :34.

جزاء الشرط (ولولا أن الله تعالى يدفعهم عنكم) بتقرير التقية أو يصرف قلوبهم (لسطوا بكم) السطو: القهر والبطش. يقال: سطا عليه وبه وفي كنز اللغة «السطو بعنف گرفتن وشكستن» (وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم) لأن ما يبدون من بحر عداوتهم يلقيه بالتموج وبعبارة أظهر قصدهم إيصال كل فرد من أفراد الإيذاء وافراد الايذاء غير محصورة قطعا وما يبدونه قليل، والبغض ضد الحب كالعداوة والبغضة والبغضاء شدته ثم استأنف كلاما من باب التأكيد مشتملا على سبب المفارقة الروحانية والمصابرة على فعالهم فقال:

(مجالسكم ومجالسهم واحدة) لتحقق الدواعي وهي جلب النفع ودفع الضرر والتشارك في الجسمية والاحتياج في الوجود والبقاء إلى التعاون في أمور الدنيا فلذلك كانت مجالستهم مطلوبة بشروطها وهي الملاينة والمداراة والتقية لئلا يقع ضد ما هو المطلوب منها.

(وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف) لأن ذوات أرواحكم وصفاتها نورانية ومن عليين وذوات أرواحهم وصفاتها ظلمانية ومن سجين ولا يقع الايتلاف بين النور والظلمة ولذلك قال خليل الرحمن: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) ويحتمل أن يراد بالاختلاف الاختلاف الواقع في عالم الأرواح لأن أرواح المؤمنين كانت مايلة إلى الحق والطاعة وأرواح الكفار كانت مايلة إلى الباطل والمعصية فمن ثم وقع الاختلاف والتعارف بينهما ولا يقع الايتلاف أبدا كما روي: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وفيه تنبيه على أن اتحاد المنازل في العالم الجسماني لا يستلزم اتحادها في العالم الروحاني ولا بالعكس (لا تحبونهم أبدا ولا يحبونكم) لأن الشيء لا يحب ضده ولا يميل إليه ولذلك ترى كلا من صاحب الخير والشر يميل إلى الجنة مثله ويحبه.

(غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله) المراد بالحق جميع ما أنزل الله تعالى على رسوله وأمره بتبليغه وأعظمه الولاية وقد أكرمكم بجميع ذلك جعلكم على بصيرة منه ولم يجعلهم من أهله لسلب التوفيق عنهم لإبطالهم الفطرة الأصلية الداعية إلى الخير (فتجاملونهم وتصبرون عليهم) لأنكم على خصال شريفة منها المجاملة والمصابرة (وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء) لفقدهم جل الفضائل بل كلها إلا ما شذ ومن المعلوم أن بقاء المخالطة متوقف على الصبر والمجاملة بين الطرفين أو بتحققهما من أحدهما ولا يتصوران فيهم لما ذكر فوجبا عليكم لأنهما مطلوبان منكم ولعلمكم بأن فيهما فوائد كثيرة كنجدة النفس وإبقاء النظام وحوالة الانتقام إلى الله وترقب أجر الصابرين وتوقع الأمن من القتل والأسر والبهت سيما إذا كان الظالم قويا وتوقع صداقته وترحمه بمشاهدة العجز والانكسار وفي ضدهما مفاسد كثيرة

ص:178

ولذلك صبر جميع الأنبياء والأوصياء على ما وصل إليهم من جهلاء الأمة ثم أشار إلى أن كل واحد منهم لا يكتفي بما عنده من قصد الإيذاء والصد عن الحق بل هم يتعاونون فيه لشدة الاهتمام به بقوله:

(وحيلهم وسواس بعضهم إلى بعض) الحيلة المكر والروية في الأمور والتصرف فيها للتوصل بها إلى المقصود والوسواس بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، والوسوسة الصوت الخفي يقال وسوس الرجل بلفظ ما سمى فاعله إذا تكلم بكلام خفي يكدره وهو فعل لازم ورجل موسوس بالكسر ولا يقال بالفتح ولكن وسوس له أو إليه أي يلقى إليه الوسوسة ثم علل ذلك بقوله:

(فإن أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق) إذ اهتمامهم بالصد المتوقف على الاستطاعة يقتضي الإجتهاد في تحصيلها من كل وجه ومن التعاون ثم أشار إلى أن تلك الحيل لا تنفعهم ولا تضركم بقوله (يعصمكم الله من ذلك) لأنه إما خير أو دعاء وعلى التقديرين لا يضر كيدهم مع عصمة الله تعالى (فاتقوا الله) لأنها حرز من المكاره الدنيوية ومن يتق الله يجعل له مخرجا وطريقا إلى المثوبات الأخروية إن الله يحب المتقين.

(وكفوا ألسنتكم إلا من خير) وهو ما ينفع في الآخرة وفي الدنيا أيضا بشرط أن لا بكون مخالفا للعقل والنقل وبه يخرج غير النافع ان كان مباحا.

(وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم) أي تحدوها يقال: ذلق السكين بالذال المعجمة كنصر وفرح وذلقه واذلقه) إذا حده.

(بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان) المراد بالزور الكذب والباطل والتهمة وتدخل شهادة الزور قال الله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور)(1) والبهتان والبهت الكذب في حق أحد والافتراء عليه وكل ما قلت مما لم يكن فيه فهو من قول الزور والكذب المطلق والإثم أريد به القول المقتضي له كالغيبة والأقوال الفاحشة ونقلها ونقل الأقوال الكاذبة والعدوان الظلم ولعل المراد به الأمر بالظلم كالقتل والضرب والحبس ونحوها، وبالجملة حذر عن مقابح اللسان وأصولها الأربعة المذكورة وكل ما سواها مندرح تحت واحد منها ثم علل التحذير المذكور وحفظ اللسان بذكر مفاسده ومنافعه بقوله:

(فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه) تنزيها وتحريما كان خيرا لكم عند ربكم في الدنيا والآخرة والتفضيل باعتبار فرض الخير وتقديره في المفضل عليه وذلك شايع والمراد به أصل الفعل.

(من أن تذلقوا ألسنتكم فإن ذلق اللسان) أي حديد اللسان أو حدته والأخير أنسب بالأخبار المذكورة (فيما يكره الله) وهو اللغو من الكلام ومنه إكثار المباح (وفيما ينهى عنه) وهو المحرم

ص:179


1- -سورة الفرقان :72.

منه كالشتم والقذف ونحوهما (مرداة للعبد عند الله) بالكسر أو الفتح اسم آلة أو مكان من ردى كرضي إذا هلك وأصله مردية كمفعلة قلبت الياء الفاء.

(ومقت من الله) مقته تعالى للعبد عبارة عن سلب الإحسان والإفضال والتوفيق إلى الخيرات ووكوله على نفسه المشتاقة إلى الطغيان والعصيان وترك القربات حتى تؤديه إلى الجهالة والبطالة والخسارة والعقوبات.

(وصم وعمي وبكم) الصم بالفتح والصم محركة انسداد الأذن وثقل السمع، والعمى ذهاب البصر كله، والبكم محركة الخرس أو مع عي وبله، أو أن يولد لا ينطق وإنما حملناها على المصدر دون الجمع كما في الآتي ليصح حملها على اسم إن ولا يصح في الجمع إلا بتكلف بعيد وحمل هذه الأخبار على اسم إن من باب حمل المسبب على السبب للمبالغة (يورثه الله إياه يوم القيامة) الضمير الأول راجع إلى ذلق اللسان والثاني إلى كل واحد من الأمور الثلاثة وإنما سماها ميراثا لأنها ثمرة ذلاقة لسانه تصل إليه بعد فنائها (فتصيروا) بهذه الخصال المذمومة (كما قال الله: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)) الصم جمع الأصم والبكم جمع الأبكم، والعمى جمع الأعمى والمراد بهم في الدنيا من لا يسمع نداء الحق فكأنه لا سمع ولا يتكلم به فكأنه لا نطق له ولا يبصر طريقه فكأنه لا بصر له وفي الآخرة من لا يسمع نداء الرحمة ولا يقدر على التكلم بالمعذرة ولا يبصر وجه الجنة فلذلك قال: (يعني لا ينطقون) في الآخرة بالمعذرة لانتفائها فلذلك قال: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) لاستحالة أن يكون لهم معذرة لا يؤذن لهم التكلم بها وقال بعض المفسرين: معناه لا يرجعون من الضلالة إلى الهدى وتفسيره (عليه السلام) أحسن منه بدليل ما بعده، وإنما خص التفريع بالبكم لأنه يعلم منه حال جاريه بالمقايسة أو أريد بهما الحقيقة (وإياكم وما نهيكم عنه أن تركبوه) أي تقترفوه من ركبت الذنب اقترفته أو تتبعوه من ركبت الأثر تبعته أو تعلوه من ركبت الفرس علوته وقد شبه المنهي عنه بالمركوب في أنه يصل صاحبه إلى مقام البعد من الحق كما يشبه الطاعة به في الإيصال إلى مقام القرب ولما كانت عرصة اللسان وسبعة وهو يحكي عن أحوال المبدء والمعاد والشرايع والأشياء الموجودة والموهومة وعقائد القلوب وأفعال الجوارح كانت خطيئاته غير محصورة وزلاته غير معدودة فلذلك بالغ حفظه مكررا وقال:

(وعليكم بالصمت في كل شيء إلا فيما ينفعكم الله به في أمر آخرتكم) وفي بعض النسخ «من» بدل «في» (ويأجركم عليه) مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والنصيحة وإرشاد الخلق وغير ذلك فإنه راجح بل قد يكون واجبا، ولما أمر بالتكلم بالنافع إجمالا أشار إلى بعضه تفصيلا بقوله:

ص:180

(وأكثروا من التهليل) وهو قول: لا إله إلا الله (والتقديس والتسبيح) وهما التطهير والتنزيه عن العيوب والنقائص والثاني تأكيد ويمكن أن يراد بأحدهما إذ اجتمعا تنزيه الصفات وبالاخر تنزيه الذات عن الشريك والتركيب.

(والثناء على الله) قيل: المفهوم من الصحاح والكشاف وغيرهما من الكتب أن الثناء هو الإتيان بما يدل على التعظيم والتمجيد كلاما كان أو غيره إلا أن في المجمل خصه بالكلام الجميل وهو أنسب بهذا المقام.

(والتضرع إليه) في طلب الحاجات والتوفيق للطاعات والقبول لها وحفظ النفس عن المنهيات وعدم الركون إليها وطلب العافية وخير الخاتمة.

(والرغبة فيما عنده) مع الإتيان بما يوجب الوصول إليه لأن الرغبة في الشيء من غير تمسك بأسبابه حماقة كما دل عليه بعض الأخبار.

(من الخير الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد) أحد فاعل الفعلين على سبيل التنازع والقدر والتقدير بيان قدر الشيء وكميته وكيفيته، يقال: قدرت الشيء قدرا من باب ضرب وقتل وقدرته تقديرا بمعنى والاسم القدر بفتحتين والمراد بالخير نعيم الجنان وما فوقها وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإذا كان كذلك فكيف يقدر أحد يقدر قدره ويبين مقداره ويبلغ كنهه؟! (فاشغلوا ألسنتكم بذلك.. إلى آخره) الشغل بالضم وضمتين ضد الفراغ. شغله كمنعه وأشغله لغة، و «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من الكلام النافع وإكثار التهليل وما بعده، وفيه إشارة إلى وجه الفرار من الكلام الباطل بجعل اللسان مشغولا بما ذكر دائما أو في أكثر الأوقات فإن شغله بذلك مانع من صدور ضده ضرورة لأن ما ذكر حينئذ يصير عادة وهي أيضا مانعة منه، ثم أن أريد بأقاويل الباطل ما يوجب الخروج من الإيمان فالخلود ظاهر، وإن أريد بها ما لا يوجبه فالمراد بالخلود طول الزمان واستعماله فيه شايع.

(من مات عليها ولم يتب إلى الله) توبة خالصة يوجب الخروج تبعتها وعدم الرجوع إليها كما أشار إليه بقوله:

(ولم ينزع عنها) فإن التوبة بدون ذلك غير نافعة بل هي استهزاء، وينبغي لمن ابتلي بالمعصية أن يذكر الله تعالى ويتداركها بالتوبة ولا يؤخرها فإن تأخيرها معصية أخرى وأحسن التوبة توبة الشبان وهي تورث محبة الله تعالى وأما توبة الشيوخ وهي وإن كانت مقبولة أيضا لكنه بعد في مقام التقصير، وقد قيل: إن الشيخ الهرم إذا تاب قالت له الملائكة الآن وقد خمدت حواسك وبردت

ص:181

أنفاسك.

(وعليكم بالدعاء) لأنفسكم ولأخوانكم بظهر الغيب فإن الدعاء لهم في نجاح حوائجهم كما دلت عليه الروايات ففي بعضها «لكم مثلا ما دعوتم لهم» وفي بعضها «مائة ألف ضعف».

(فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج) الدنيوية والأخروية، النجاح بالفتح الظفر بالمطلوب واصابته والحوايج جمع الحاجة على غير قياس أو مولدة.

(عند ربهم بأفضل من الدعاء) المقصود أن الدعاء أفضل من غيره في إصابة الحوايج وذلك ظاهر لأنه من عرف أنه تعالى كريم رحيم قادر بمصالح العباد وغيرها وأنه لا ينفعه المنع ولا يضره الإعطاء ورجع إلى العقل والنقل والتجربة والوعد علم أنه إذا رفع حاجته المشروعة إليه تعالى بقلب تقي نقي ونية خالصة كانت مقرونة بالإجابة وأما غيره من الوسائل مثل الاعتماد بالكسب والرجوع إلى الخلق فلا علم له بترتب الحاجة عليه وعلى تقدير ترتبها فهو وسيلة أيضا بأذن الله تعالى فالدعاء أفضل منه وأصل لجميع الحاجات.

(والرغبة إليه) في الخيرات كلها (والتضرع) إليه في تحصيلها (والمسئلة له) هي والسؤال واحد (فارغبوا فيما رغبكم الله فيه) من الأمور النافعة لكم.

(وأجيبوا الله إلى ما دعاكم إليه) من الدعاء بقوله (ادعوني استجب لكم) وغيره، أو الأعم منه ومن غيره والأول أنسب بالمقام والثاني أنسب بقوله:

(لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله) فإن الفلاح والنجاة منه متوقف على إجابته في جميع ما دعاه إليه ولما نهى عن مناهي اللسان نهى عن المناهي مطلقا واكثارها بقوله:

(وإياكم وإن تشره أنفسكم إلى شيء مما حرم الله عليكم) صغيرا كان أو كبيرا ظاهرا كان أو باطنا. والشره غلبة الحرص وفعله من باب فرح.

(فإنه من انتهك.. اه) الإنتهاك التناول على وجه المبالغة من النهك وهو مبالغة في كل شيء (وهاهنا) ظرف للإنتهاك وفيها [في الدنيا] بدل منه وكرامتها كزيارة الملائكة والفيوضات الإلهية كما قال (ولدينا مزيد) أو الأعم مما ذكر.

(القائمة الدائمة لأهل الجنة) لعل المراد بقيامها ثباتها وعدم زوالها وبدوامها استمرارها بلا تخلل انقطاع أو العطف للتفسير.

(أبد الآبدين) كأرضين والجمع باعتبار القطاعات ولو كانت موهومة والأبد الزمان الذي لا نهاية له والإضافة للمبالغة وفي دوامها.

(واعلموا أنه بئس الخطر لمن خاطر الله بترك طاعة الله وركوب معصيته) الخطر الحظ

ص:182

والنصيب وما يتراهن عليه المتراهنان والمخاطرة المراهنة، ولعل المراد أن من خاطر الله واستبق إلى الخطر الذي أخرجته النفس الأمارة وهو ترك الطاعة وفعل المعصية وانتهى إليه ولا محالة كان معه علمه تعالى حتى انطبق على المعلوم فهو ذو حظ قبيح في الدنيا والآخرة وأما من خاطره واستبق إلى ما جعله تعالى خطرا للعباد وهو فعل الطاعة وترك المعصية وانطبق علمه تعالى بذلك على المعلوم فهو ذو حظ جميل وثواب جزيل ومن الطاعة والمعصية بل أصلهما الإقرار بولاية علي (عليه السلام) وإنكارها ويحتمل أن يراد بالمخاطرة لازمها وهو المبارزة.

وأما حملها على المخاطرة من الخطور والمذاكرة أي من ذكر الله تعالى وذكره سبحانه بهذه الخصلة الذميمة فهو بعيد (فاختار أن ينتهك محارم الله في لذات دنيا منقطعة زايلة عن أهلها على خلود نعيم في الجنة ولذاتها وكرامة أهلها) «في» متعلق بينتهك أو بالمحارم و «منقطعة» صفة للدنيا ولذاتها. «على» متعلق باختار أي اختار هذا الرجل لفقد بصيرته وغلبة شهوته وتوهمه أن الحاضر الفاني خير من الغائب الباقي أن يتناول ما حرمه الله تعالى لذات الدنيا المنقطعة الزايلة بزوال الدنيا أو بالموت أو قبله في حال الحياة أيضا ويؤثره على نعيم الجنة وما يوجب الوصول إليها مع أن تلك اللذات وإن كانت حلالا ينبغي تركها فكيف إذا كانت حراما لبقاء خسارتها بعد زوالها كما أشار إليه بقوله:

(ويل لأولئك) الويل حلول الشر والفضيحة وكلمة العذاب أو واد في جهنم أو بئر فيها أو باب لها، ولاحظ في الموصول الأفراد سابقا والجمع هنا نظرا إلى اللفظ والمعنى.

(ما أخيب حظهم) الخيبة الحرمان و «ما» للتعجب أي أي شيء عظيم قبيح لا يدرك حقيقة قبحه عقول العقلاء يجعل حظهم خائبا من الوصل إليهم أن أريد به الحظ المقدر لهم في الجنة بشرط الطاعة أو من رحمة الله أن أريد به الحظ الواصل إليهم بالمعصية ويستلزم ذلك خيبتهم منها أيضا وقس عليه قوله: (أخسر كرتهم) أي رجوعهم إلى الله تعالى فإن خسران الكرة مستلزم لخسرانهم أيضا وإسناد الخيبة إلى الحظ والخسران إلى الكرة اسناد مجازي.

(وأسوء حالهم عند ربهم يوم القيامة) حين شاهدوا ما أعد لهم من العقوبة والخذلان ورأوا ما وصل إلى الصالحين من الكرامة والإحسان.

استجيروا الله أن يخزيكم في مثالهم أبدا) أي اطلبوا من الله أن يجيركم ويعيذكم من أن يخزيكم في صفاتهم مثل ترك الولاية ورفض الهداة والعقايد الداثرة والأعمال الخاسرة والظاهر أن يخزيكم من الخزي، يجزيكم من الجزاء تصحيف.

(وأن يبتليكم بما ابتلاهم به) من الميل إلى الباطل وحب أهله والفرار من الحق وبغض أهله

ص:183

فأبطلوا بذلك فطرتهم الأصلية وقوتهم الفطرية واستحقوا الخذلان وسلب التوفيق وهو معنى البتلاء فيهم وفيه تنبيه على أنه ينبغي لطالب الحق أن لا يثق بنفسه ولا بعمله لأن النفس أمارة بالسوء والعمل لا يخلو من التقصير فيه بل يرجع إلى ربه ويلوذ به ويطلب منه أن يجيره من صفة أهل الباطل باللطف والتوفيق والامداد وصرف همته عنها.

(ولا قوة لنا ولكم إلا به) أي لا قوة لنا على طاعة الله والفرار من معصيته والنجاة من صفة أعدائه وما ابتلاهم به إلا بمعونته وتوفيقه وهذه أعظم كلمة يقولها العبد لإظهار الفقر إليه وطلب المعونة منه على ما يحاول من الأمور وهو حقيقة العبودية.

ثم أشار إلى أنه وإن انتفى عنكم ابتلاء الفاسقين لكن ثبت فيكم ابتلاء الصالحين والفرق بينهما ظاهر لأن الأول يوجب زيادة الكفر والخذلان والثاني يوجب كمال القرب والإيمان فقال (فاتقوا الله) من العقوبة والمخالفة بالصبر على الطاعة والبلية الواردة عليكم لرفع درجتكم واعلاء منزلتكم (أيتها العصابة الناجية) من العقوبة الأبدية بولاية علي أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين (عليهم السلام)، والعصب محركة خيار القوم وقوم الرجل الذي يتعصبون له والعصابة بالكسر ما بين العشرة إلى الأربعين وإنما سماهم بها لشرافتهم وتعصبهم في الدين مع قلتهم (إن أتم الله لكم ما أعطاكم به) من الإيمان به وبرسوله وبأئمة الهدى (فإنه لا يتم الأمر) أي أمر الدين والثبات عليه والثواب والجزاء الأوفى:

(حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم) من الابتلاء والامتحان والشدايد كما قال عز وجل (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله قريب)(1) (حتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم) بالمصائب والمحن والنوائب والفتن والأمراض والأسقام والبلايا والآلام والجهاد مع الكفار وتلف الأموال والنقص والنهب والغصب وأداء الحقوق الواجبة والمندوبة والإنفاق في وجوه البر كما قال عز شأنه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)(2).

(وحتى تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا) أي كلاما كثيرا يؤذيكم بالسب والشتم واللعن والقذف والتحريش والغيبة والبهتان ونحوها.

(فتصبروا) على ذلك كما صبر الصالحون قبلكم (وتعركوا بجنوبكم) أي تحملوا الأذى منهم بجنوبكم كما يحمل البعير حمله يقال هو يعرك الأذى بجنبه أي يتحمله وفيه إشارة إلى قوله تعالى:

(لنبلونكم في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا

ص:184


1- -سورة البقرة :214.
2- -سورة البقرة :155.

أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).

(وحتى يستذلوكم) بكل وجه يمكن أو المراد يروكم أذلاء يقال استذله أي رآه ذليلا (ويبغضوكم) البغض ضد الحب وأشد العداوة وفعله من باب كرم ونصر وفرح.

(وحتى يحملوا عليكم الضيم) من كل جهة توجبه (فتحملوا منهم) من التحمل بحذف احدى التائين يقال حملة الأمر تحميلا فتحمله تحملا.

(تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة) الجملة في محصل النصب على الحال من فاعل تحملوه والإلتماس الطلب وذلك إشارة إلى الصبر على ما ذكر وتحمل الضيم والوجه الذات والجانب والثواب، والدار الآخرة الجنة ومنازلها الرفيعة التي أعدت للصابرين.

(وحتى تكظموا الغيظ في الأذى في الله) أي في سبيل الله، وكظم الغيظ تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه وحبس النفس فيه مهما أمكن ولفظ «في» الثاني متعلق بالأذى و «في» الأول متعلق بتكظموا أو بالغيظ وهي للظرفية مجازا أو بمعنى الباء في الأخير.

(تجترمونه إليكم) حال من فاعل تكظموا والإجترام بالجيم الكسب وفي القاموس اجترم لأهله كسب وإلى بمعنى اللام أو بمعناها مع تضمين معنى الضيم ونحوه والضمير راجع إلى الكظم وفيه تنبيه على أنه من جملة الأعمال الصالحة وقيل الإجترام وفي الجناية القاموس: اجترم عليهم وإليهم جريمة جنى جناية مصداق وذلك كله في كتاب الله أشار بذلك إلى ما دخل على الصالحين من الابتلاء والافتتان والأذى والاستدلال وتكذيب الحق مع صبرهم وكظم غيظهم.

(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) المقصود منه هو الترغيب في الصبر الكامل باعتبار أنه من خصايل أولي العزم دون إلحاق الناقص بالكامل (ولا تستعجل لهم) بالانتقام منهم والدعاء عليهم والإعراض عنهم.

(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا) الجزاء محذوف وما بعد الفاء قائم مقامه ودال عليه وفيه تسكين لقلبه المقدس على أذى قومه وإن كان ساكنا كما يفعل ذلك المحب بحبيبه (فقد كذب نبي الله) فعليكم الأسوة به.

(فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل أصل الخلق من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل) الأمر واحد الأمور وهو الفعل والموصول صفة له (الخلق) أما بمعنى الإيجاد والتقدير واللام في له للعاقبة كما قيل في قوله (عليه السلام) «لدوا للموت وابنوا للخراب» أو للغاية المجازية وإلا فالغاية الحقيقية هي العبادة كما قال عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا

ص:185

ليعبدون)(1) والمراد بأصل الخلق الوجود الظلي وهو عالم الأرواح أو الأعم منه والوجود العيني «من الكفر» بيان للموصول وهو شامل لكفر الجحود والمخالفة وتكذيب أهل الحق وإيذائهم ومعاداتهم وبغضهم وجميع قبايحهم المذكورة وغيرها وفي قوله: «الذي سبق في علم الله» إيماء إلى أن علمه تعالى بصدور الكفر منهم اختيارا سبب لخلقهم له لوجوب المطابقة بين العلم والمعلوم.

(ومن الذين سماهم الله في كتابه) في قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يدعون إلى النار) الظاهر أنه عطف على فيهم وفي لفظة من إشعار بأن أمر الله نشأ من سوء أعمالهم وقبح أفعالهم ولعل المراد بذلك الأمر شدة العقوبة أو سوء الخاتمة أو ختم القلوب أو جعلهم أئمة ضلال باعتبار حبهم للرئاسة وصرف همتهم وتحصيلها وتخليته تعالى بينه وبين ما أرادوا وعدم جبرهم على تركها فكأنه جعلهم أئمة، والفرق بين المعطوف عليه والمعطوف أن الأول أعم من الثاني لصدقه على التابع والمتبوع بخلاف الثاني فإنه صادق على المتبوع فقط (فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه) جزاء لقوله: «فإن سركم أمر الله» والضمائر للأمر وقد عرفت شموله لجميع صفاتهم القبيحة، ودبر كل شيء عقبه يقال تدبر الأمر تدبر أو دبره تدبيرا إذا نظر في عاقبته ورأى فيها ما لم يره في صدره وإنما أمر بتدبر وعقله أي إدراكه ونهى عن الجهل به ابتداء ونسيانه بعد معرفته مبالغة في الإحاطة به والعلم بحقيقته وغايته كما هي، ووجه السرور بما ذكر أنهم أعداء ونكال العدو وخذلانه موجب للسرور، ووجه ترتب الجزاء عليه أن السرور بنكال العدو يقتضي التدبر في سببه ليمكن التخلص منه والفرار عنه، ثم علل الأمر بالتدبر فيه وفي غيره مما يجب العلم به بذكر ما يتعلق على ضده من المفاسد فقال: (فإنه من يجهل هذا وأشباهه) فيه وفي غيره مما يجب العلم به بذكر ما يتعلق على ضده من المفاسد فقال (فإنه من يجهل هذا وأشباهه) في وجوب معرفته كما دل عليه قوله:

(مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه) لأن جاهل هذا كثيرا ما يدخل فيه ويترك دين الله وجاهل أشباهه يترك الامتثال بالأوامر والنواهي فاستوجب سخط الله (وأكبه الله على وجهه في النار) استيجاب الأول أبدى دون الثاني وفي الإكباب مبالغة في التعذيب والإذلال، يقال: كبه وأكبه إذا ألقاه على وجهه فأكب هو فكب متعد وأكب متعد ولازم على خلاف المعهود، وفيه تنبيه على أنه ينبغي لأهل الحق أن يعلموا ما يخرجهم عن دينه وما يكمل به دينهم.

(إن الله أتم لكم ما أتاكم من الخير) هو دين الإسلام وإتمامه وإكماله بولاية علي (عليه السلام) وهو إشارة

ص:186


1- -سورة الذاریات :56.

إلى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)(1) يعني بولاية علي (عليه السلام) أو هو ذكر كل ما يحتاج إليه العباد فيه وهذا تمهيد لما يجيء من أنه لا يجوز فيه القول بالهوى والرأي والقياس بل يجب الرجوع إلى العالم (عليه السلام) (واعملوا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس) أي ليس الأخذ بما ذكر من علم الله المنزل إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) أوليس من علمه بأنه حق في دينه ومما أمر به أحدا. وإذا كان كذلك فهو باطل اخترعه أهله لزعمه أن دين الله ناقص لم ينزل فيه جميع ما يحتاج إليه الأمة وفوض تكميلة إليهم ولئلا ينسب الجهل اليه بالسكوت عما لا يعلم ثم أشار إلى أن جميع ما يحتاجون اليه قد أنزله الله تعالى في القرآن بقوله:

(قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء) حال عن الله أو استيناف لبيان أنهم لا يحتاجون إلى الأخذ بما ذكر لأن القرآن تبيان كل شيء يحتاجون إليه أولا، ثم العلم كله وإن كان في القرآن لكن لا يعلمه كل أحد بالتجربة والاتفاق بل إنما يعلمه جماعة مخصوصون كما أشار إليه بقوله:

(وجعل للقرآن ولعلم القرآن أهلا) يعلمه ويدفع من لفظه ومعناه تحريف المبطلين مع احتمال أن يكون العطف للتفسير. ثم أشار إلى أنه لا يجوز لأهل علم القرآن الأخذ بما ذكر فقال (لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه كله) كما آتاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) (أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس) فإذا لم يجز ذلك لهم مع كمال نفوسهم وقوة عقولهم وشمول علمهم الأحكام وعللها كيف يجوز ذلك لغيرهم، ثم أشار بعد التصريح بعدم جواز أخذهم بما ذكر إلى عدم احتياجهم إلى الأخذ به أيضا بقوله:

(أغناهم الله تعالى عن ذلك بما آتاهم الله من علمه) دل على أن هذا العلم موهبي والضمير للقرآن أو لله تعالى.

(وخصهم به ووضعه عندهم) فلا يشاركهم غيرهم وهم يحفظونه ولا ينسونه أبدا (كرامة من الله أكرمهم بها) مفعول له لآتاهم أو ما عطف عليه والإستيناف محتمل.

(وهم أهل الذكر) الذكر القرآن أو محمد (صلى الله عليه وآله) (الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم) في قوله:

(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ثم رغب في الرجوع إليهم بقوله:

(وهم الذين من سألهم، وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم، أرشدوه) إلى مسؤله، الواو للحال دون الاعتراض لأن هذه الجملة لها محل من الإعراب (وأعطوه من علم القرآن) لا من الهوى والرأي والقياس.

(ما يهتدي به إلى الله باذنه) أي بتوفيقه أو بعلمه أنه يقبل الهداية وفيه حينئذ كما في الجملة

ص:187


1- -سورة المائدة :3.

الحالية إشارة إلى أن إرشادهم للسائل واهتدائه لا يكونان إلا مقرونا بعلمه تعالى في الأزل بتصديقه واستعداده بقبول الهداية، ثم أشار بقوله:

(وإلى جميع سبل الحق) إلى أنهم كما يرشدون السائل إلى ما سأله كذلك يرشدونه إلى جميع سبل الحق لأنهم أدلاء يدلون العباد إذا وجدوهم مصدقين لهم إلى طرق الخيرات كلها مع السؤال وبدونه ولما ذكر الراغبين فيهم والمصدقين لهم في علم الله تعالى وأنهم لا يأخذون بالهوى والرأي والقياس كما لا يأخذ بها أئمتهم أشار إلى الراغبين عنهم والمكذبين لهم في علمه تعالى والأخذين بما ذكر مثل أئمتهم بقوله:

(وهم الذين لا يرغب عنهم ولا عن مسئلتهم وعن علمهم الذين أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة) هي عالم الأرواح الصرفة أو عالم الذر وهو عالم المثال وإطلاق الظل على الروح والمثال مجاز تشبيها لهما بالظل في عدم الكثافة وتقريبا لهما إلى الفهم.

(فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر) بعد الوجود في الأعيان (وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم) لما ذكرناه سابقا، ويفهم منه أن المصدق بأئمة الحق في الأعيان هو المصدق لهم في علم الله وتحت الأظلة، والمكذب لهم فيها هو المكذب لهم هناك ويدل عليه أيضا صريح كثير من الروايات ثم ذكر للأخذ بها غايتين أشار إلى أوليهما وهي توجب الغلط في الأصول بقوله (حتى دخلهم الشيطان) دخولا تاما يقتضي كفرهم (لأنهم جعلوا أهل الإيمان) المذكورين (في علم القرآن) والظرف متعلق بأهل الإيمان باعتبار أنه عبارة عن المؤمنين (عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين) والظرف يحتمل الأمرين وأشار إلى الثانية وهي توجب الغلط في الفروع بقوله: (وحتى جعلوا) عطف على قوله: «حتى دخلهم» (ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم الله في كثير من الأمر حلالا) كما هو شأن أصحاب الرأي والقياس لأن قلوبهم المنقلبة مائلة إلى القلب في أمر الله وأحكامه.

(فذلك أصل ثمرة أهوائهم) ذلك إشارة إلى رغبتهم عن سؤال أهل الذكر وإعراضهم عنه وإضافة الأولى لامية والثانية بيانية والمراد بأهوائهم مهويات نفوسهم ومشتهياتها كجعل المؤمن كافرا وجل الكافر مؤمنا وجعل الحلال حراما وبالعكس وبغض المؤمن ومعاداته وقتله وأسره ونهب ماله وتكذيب الحق وتصديق الباطل ونحوها، وبالجملة رغبتهم عن سؤال أهل الذكر أصل بنو عليه جميع أهوائهم المذكورة وغيرها إذ لو رغبوا في سؤالهم وتمسكوا بأقوالهم وأعمالهم وعقايدهم لم يقع منهم شيء من ذلك كما لم يقع من الشيعة، ويحتمل أن يكون الإضافة الثانية أيضا لامية إلا أنه لا يفيد صريحا أن الأهواء أيضا من ثمرة ذلك.

ص:188

(وقد عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل موته) أي أوصاهم بولاية وصيه ورعايتها وحفظها في مواضع عديدة منها يوم الغدير.

(فقالوا: نحن بعد ما قبض الله رسوله يسعنا) «يسعنا» خبر لنحن وبعد متعلق به أو بقالوا أي لم يكتفوا بالرغبة عن سؤال أهل الذكر بل قالوا: يجوز لنا.

(أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس) وهو رأيهم في خلافة الأول متمسكين بإجماعهم عليها وهو غير متحقق بالاتفاق كما ذكرنا في كتاب الحجة وعلى تقدير تحققه ليس بحجة.

(بعدما قبض الله تعالى رسوله) متعلق بيسعنا أو بأخذ أو بإجتمع أو بالجميع على سبيل التنازع وهو في بعض الاحتمال تأكيد للسابق (وبعد عهده) وهو عهد الولاية.

(مخالفا لله ولرسوله) حال عن فاعل اجتمع وتلك المخالفة كفر بهما لإنكار قولهما.

(فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسعه) من التفضيلية متعلق بأجرا وأبين على سبيل التنازع وذلك إشارة إلى الرأي المذكور والمقصود أن كل من أخذ من هذه الأمة بذلك الرأي وزعم أنه يجوز له الأخذ فهو أجرأ على الله أو أبين ضلالة وخروجا عن سبيل الحق من غيره مطلقا سواء كان ذلك الغير من هذه الأمة أم من غيرها لأنه أنكر قولهما مع علمه به وأخذه بخلافه وهو كفر بالله العظيم بخلاف من لم يأخذ من هذه الأمة بذلك الرأي فإنه لو خالفهما في أفعاله لم يكن بذلك كفرا وجحودا، وأما من أنكر قولهما في نصب الخلافة من غير هذه الأمة فإنه وأن كان كافرا أيضا لكن إنكاره ليس مسبوقا بالعلم والفرق بين الإنكار مع العلم وعدمه واضح، ثم قال تأكيدا لما ذكر وتمهيدا لما يأتي:

(والله إن الله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته) لأن وجوب طاعته ومتابعة أمره مطلق غير مقيد بحياة محمد (صلى الله عليه وآله) ولا بشخص دون آخر فيجب عليهم ذلك في حياته وبعد موته فمن أنكره بعد موته فهو كافر منكم بالرسالة والغرض المطلوب منها (هل يستطيع أولئك أعداء الله) الذين أخذوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) برأيهم ونصبوا إماما خلافا لأمره، والاستفهام على حقيقته لا على الإنكار لأنه غير مناسب لسياق الكلام وأعداء الله بدل عن أولئك للتصريح بأنهم خرجوا بذلك عن الدين وصاروا من الكافرين المعاندين، توضيح المقام يحتاج إلى تقديم مقدمة هي أن قول الرسول قول الله تعالى وأن متابعته واجبة وأن وجوبها غير مقيد بحياته وأن الأخذ بالرأي على خلافه في حياته غير جائز وكل ذلك أمر بين لا ينكره أحد إلا من خرج عن دين الإسلام وأنكر الرسالة، وليس الكلام معه.

(أن يزعموا.. اه) الزعم بالضم والفتح الظن ويطلق غالبا على ما لا أصل ولا سند له (مع رسول

ص:189

الله (صلى الله عليه وآله) ومخالفة له) في أكثر النسخ وهو حال عن فاعل أخذ.

(فإن قال: نعم) أي فإن قال قائل منهم: نعم يجوز ذلك والظاهر قالوا عدل إلى الأفراد للتشبيه على أن اعتباره أولى من الجميع في مقام النصح كما قال عز وجل (قل انما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة).

(فقد كذب على الله) لما ذكرنا من المقدمات (وضل ضلالا بعيدا) أكد الفعل بالمصدر والمصدر بالبعد المفرط للمبالغة في خروجه بذلك عن حد الإسلام كما خرج الثاني بإنكار عدول المفرد إلى التمتع وإنكار صلح الحديبية وإنكار الأمر بإحضار الدوات والقلم.

(وإن قال: لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه) لم يكن إما بدل لقوله لا أو جزاء الشرط والتقدير على الأول لم يكن له ذلك مع الرسول خلافا لأمره وعلى الثاني لم يكن له ذلك بعد موته وقوله: (فقد أقر بالحجة على نفسه) على الأول جزاء الشرط وعلى الثاني متفرع على الجزاء ووجه الإقرار أن القول بعدم جواز الأخذ بالرأي في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) على خلاف أمره يستلزم القول بعدم جوازه بعد موته هو ظاهر لا ينكره إلا كافر وإبداء الفرق بينهما بأنه (صلى الله عليه وآله) كان مجتهدا وأن قول الميت كالميت يوجب بطلان دينه بعده بالمرة ولا يقدم على التزامه إلا ملحدا. ووجه آخر هو أن الدين واحد والتكليف واحد لا تختلف في حياته وبعد موته فلا يجوز التمسك بالرأي والقياس بعد موته خلافا لأمره كما لا يجوز ذلك في حياته.

(وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)) الظاهر أنه حال عن فاعل أقر وإشارة إلى أن الاعتراف بوجوب طاعته واتباع أمره في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) مستلزم للاعتراف به بعد موته كما أن الاعتراف بعدم جواز الاخذ بالرأي في حياته مستلزم للاعتراف بعدم جوازه بعد موته وفي لفظ الزعم إيماء إلى أنه يلزمه ذلك وإن لم يكن مذهبا له، ولما أشار إلى الدليل إلزامي أو عقلي على المطلوب أراد أن يشير إلى دليل تحقيقي أو نقلي عليه فقال (وقد قال الله وقوله الحق) وهو جملة حالية أو إعتراضية: (وما محمد إلا رسول) لا يجاوز الرسالة إلى التبري من الموت أو القتل.

(قد خلت من قبله الرسل) بالموت أو القتل (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) قال القاضي: هذا إنكار لارتدادهم على أعقابهم عن الدين بموته أو قتله بعد علمهم بموت الرسل أو قتلهم وبقاء دينهم متمسكا به.

(ومن ينقلب على عقبيه) بإرتداده (فلن يضر الله شيئا) بل يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) على نعمة الإسلام بالثبات عليه (وذلك لتعلموا.. اه) ذلك إشارة إلى قول الله تعالى

ص:190

ذلك القول ومحصله أن الآية تدل على وجوب متابعة أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته وعلى عدم جواز الأخذ بالرأي مخالفا لأمره في حياته وبعد موته فمن أنكر شيئا من ذلك فهو مرتد خارج عن الإسلام.

(وقال) (عليه السلام): (دعوا رفع أيديكم في الصلاة الأمرة واحدة حين تفتتح الصلاة) والأمر بترك رفع اليدين في الصلاة مع أنه عندنا مستحب عند كل تكبرة والقول بالوجوب نادر إنما هو للتقية كما صرح به (عليه السلام) في قوله:

(فإن الناس قد شهروكم بذلك) أي برفع اليدين ويوجب ذلك لحوق الضرر العظيم بكم وبامامكم، وشهر اما بتخفيف الهاء أو تشديدها.

(والله المستعان) في رفع كيد الأعداء وإضرارهم وإنما استثنى الرفع في الإفتتاح لأن العامة كلهم قائلون أيضا بإستحبابه كما صرح به المازري وإنما اختلفوا في غيره فأشهر الروايات عند مالك سقوطه وقال ابن القصار: لا يستحب الرفع في شيء من الصلاة وظاهره عدم الاستحباب في الإفتتاح أيضا وعلى أي تقديرهم كانوا يتركون الرفع رغما للشيعة وخلافا لهم ويجعلونه من علامة الرفض وليس مختصا بالرفع بل هم يتركون الصلاة على آل النبي (صلى الله عليه وآله) وتسطيح القبور التسنيم رغما لهم مع وجود الدلايل عليهما عنهم كما صرح به صاحب الكشاف وإذا كانوا كذلك وجب علينا ترك الرفع عند الخوف منهم.

(وقال) (عليه السلام): (أكثروا من أن تدعوا الله) أمر بإكثار الدعاء وهو يتحقق بالاشتغال به دائما أو في أكثر الأوقات ويورث جلاء القلب وقرب الحق ثم علل ذلك ورغب فيه بقوله:

(فإن الله يحب من المؤمنين أن يدعوه.. اه) فذكر أنه تعالى يحب من عباده المؤمنين ويستجيب لهم كما قال: (ادعوني أستجب لكم) ويصيره عملا يوجب علو الدرجة في الجنة وأما دعاء الكافرين وإن كان مستجابا فهو مبغوض وليس بعمل ينفعه يوم القيامة.

(فأكثروا ذكر الله.. اه) كل عبادة لها حد إلا ذكر الله تعالى فإنه مطلوب على قدر الاستطاعة والقدرة منه فإن الله تعالى أمر بكثرة الذكر له بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) وبقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والمراد به ذكره باللسان والقلب وعند المصيبة والطاعة والمعصية وفي جميع الأحوال.

(والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين) أي مثيب له، سمي ثواب الذكر ذكرا لوقوعه في صحبته، أو المراد أنه ذاكر له في الملاء الأعلى وزمرة الروحانيين ويراد بخير فيما يأتي هذا المعنى أيضا.

ص:191

(فاعطوا الله من أنفسكم الإجتهاد في طاعته) الطاعة شاملة للذكر وغيره بل كل طاعة ذكر كما يرشد إليه قوله تعالى: (أقم الصلاة لذكري) ثم رغب فيها بقوله:

(فان الله لا يدرك شيء من الخير) الأخروي بالاستحقاق (عنده إلا بطاعته) أما الخير الدنيوي فقد يدركه الكافر أيضا والخير الأخروي بالتفضل قد يدرك بدون الطاعة إلا أن يقال منشأه الطاعة أيضا (واجتناب محارمه التي حرم الله في ظاهر القرآن وباطنه) باطنه لا يعلمه كل أحد فلابد أن يرجع إلى العالم به ولعل المراد بالمحرمات الباطنة ولاية أئمة الجور يدل على ذلك ما ذكره المصنف في باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل بإسناد عن محمد بن منصور قال: «سألت عبد صالحا (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن)(1) قال فقال: إن القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرم الله تعالى في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق».

ثم استشهد لذلك بقوله: (فإن الله تعالى قال في كتابه وقوله الحق: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) دل الاستشهاد على أن ظاهر الإثم ما ظهر تحريمه من ظاهر القرآن، وباطن الإثم ما ظهر تحريمه من باطنه وهو على تأويل العبد الصالح ولاية أئمة الجور وقيل: ظاهر الإثم ما يعلن أو ما يصدر بالجوارح وباطنه ما يسر أو ما يصدر بالقلب وقيل: غير ذلك.

(واعلموا أن ما أمر الله به أن يجتنبوه فقد حرمه) على أن الأوامر القرآنية للوجوب إلا ما أخرجه الدليل وتخصيص الأمر بصيغة اجتنبوا أو حمل التحريم على الأعم من معناه الحقيقي والتنزيهي محتمل بعيد، ويمكن أن يراد بالأمر باجتناب الطاغوت.

(واتبعوا آثار سول الله وسنته فخذوا بها) أمر باتباع آثاره وسنته على وجه العموم وأعظمها أثرا الولاية كما يرشد إليه قوله:

(ولا تتبعوا أهوائكم وآرائكم) في أصول الدين وفروعه خصوصا في الأمة (فتضلوا) من الحق، ثم علل ذلك بقوله:

(فإن أضل الناس عند الله من ابتع هواء ورأيه بغير هدى من الله) الظرف حال عن فاعل أتبع أي متمسكا بغير هاد منصوب من قبل الله تعالى يدل على ذلك ما رواه أيضا في باب من دان الله عز وجل بغير إمام من الله بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله عز وجل (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)(2) قال: يعني من اتخذ دينه رأيه بغير إمام من أئمة الهدى. وتعميمه بشموله آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته محتمل.

ص:192


1- -سورة الأعراف :33.
2- -سورة القصص:50.

(وأحسنوا إلى أنفسكم ما استطعتم) المراد بالإحسان إليها الإتيان بما ينفعها يوم القيامة وتهذيب الظاهر والباطن عن الأخلاق والأعمال الفاسدة وتزيينها بالأخلاق والأعمال الفاضلة.

(فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) رغب في الإحسان وترك الإساءة بأن النفع والضرر راجعان إليكم لا إلى غيركم والعلم به محرك عظيم إلى الإحسان لأن كل أحد يطلب النفع له ويدفع الضر عنه (وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم) جاملوا بالجيم أو الحاء المهملة كما مر وفيه إشارة إلى حسن المعاشرة معهم ظاهرا ولابد منه فإن النفوس العاصية المطيعة لإبليس وجنوده إن وقع الافتراق منهم بالمرة أو وقع المخالطة معهم على وجه الشقاق وإظهار العداوة وثبوا لما فيهم من الغواية والضلالة والغلظة وخشونة الوجه وقلة الحياء إلى الأذى والضرب والشتم والقتل والنهب والمعاشر على هذا الوجه فرد من الطاعة مضافا إلى الرب ظاهرا وباطنا وبه يتم نظام الدين والدنيا جميعا كما أشار إليه بقوله:

(تجمعوا مع ذلك طاعة ربكم) تجمعوا مجزوم بالشرط المقدر بعد الأمر وذلك إشارة إلى الأمر المستفاد من الكلام السابق والمراد بالطاعة التقية أو الأعم منها ومن غيرها (وإياكم وسب أعداء الله..) إلخ أي أئمة الجور وأتباعهم.

(حيث يسمعونكم) دل على جواز الشتم حيث لا يسمعونه ويجوز أن يقرأ بضم الياء من أسمعه إذا شتمه فدل على النهي عن شتمهم مع شتمهم إياكم فكيف مع عدمه.

(فيسبوا الله عدوا بغير علم) هذه العبارة يحتمل وجهين أحدهما ما ذكر الفاضل الأمين الأسترآبادي: وهو أنهم يسبون من رباكم ومن علمكم السب ومن المعلوم أن المربي والمعلم هو الله تعالى بواسطة النبي وآله عليهم السلام فينتهي سبهم إلى الله من غير علمهم به وثانيهما أنهم يسبون أولياء الله كما دل عليه بعض الروايات صريحا ودل عليه أيضا ظاهر هذه الرواية كما أشار إليه بقوله: (وقد ينبغي لكم أن تعلموا حد سبهم لله) أي معناه كيف هو.

(أنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله) أي دخل فيه وتناوله وقد عد سبهم سب الله تعظيما لهم من ذلك ونظيره في آخر كتاب التوحيد.

(ومن أظلم عند الله ممن استسب الله ولأوليائه) قال الفاضل الأسترآبادي: فيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز السب حيث يسمعون مطلقا عند الخوف والأمن.

(فمهلا مهلا) منصوب مقدر والتكرير للمبالغة، والمهل بالتسكين الرفق بالتحريك الثاني ويطلق على الواحد والاثنين والجمع المذكر والمؤنث (فاتبعوا أمر الله) في جميع الأمور ومنها الولاية والمجاملة مع الناس والتقية منهم.

ص:193

(وقال: أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم) الدنيوي والأخروي والجملة الوصفية إما دعائية أو خبرية وإشارة إلى أنه ينبغي التوسل بالله وحفظه في جميع الأمور وعدم الاعتماد بحولهم وقوتهم (عليكم بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده.. آه) أي بأحاديثه وأحاديث الأئمة عليهم السلام أو بطريقتهم وهي عدم التكلم في الدين بالرأي والقياس.

(وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله): المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى لله..

آه) لأن القليل المداوم عليه إذا كان موافقا للقانون الشرعي يوجب القرب ويوصل إلى المطلوب بخلاف الكثير المخالف له; واسم التفضيل على معناه بفرض الفعل في المفضل عليه (إلا أن اتباع الأهواء) كما هو شأن أتباعهم (بغير هدى من الله) تأكيد لأن اتباع الأهواء والبدع يكونان بغير هدى من الله قطعا (ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار) فيه ترغيب في ترك الآراء المخترعة والأهواء المبتدعة معللا بأن اتباعهما ضلالة وأن الضلالة توجب الدخول في النار لان التمسك بها يقود إلى حمل أثقال الخطايا وقد ذكر نظير ذلك في كتب العامة روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) «إن شر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة» قال المازري: البدعة ما أحدثت ولم يسبق لها مثال وحديث كل بدعة في النار من العام المخصوص لأن من البدع واجب كترتيب الأدلة على طريقة المتكلمين للرد على الملاحدة ومنها مندوب كبناء المدارس والزوايا. ومنها مباح كالبسط في أنواع الأطعمة والأشربة.

أقول: هذا إن فسرت البدعة بما ذكروا أما إن فسرت بما خالف الشرع أو بما نهى عنه الشارع فلا تصدق على الأمور المذكورة.

(ولن ينال شيء من الخيرات عند الله إلا بطاعته والصبر والرضا) أي الصبر على المصائب والمكاره وفعل الطاعات وترك المنهيات والرضا بقضاء الله لأن الصبر والرضا من طاعة الله ونيل الخير بالطاعة أمر مسلم لا يحتاج إلى تعليل والقول بأنه ينال بالصبر والرضا حينئذ لا يتم إلا ببيان أنهما من الطاعة فالتعليل لبيان ذلك وحينئذ ذكرهما بعد الطاعة من قبيل ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام (واعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به) العائذ إلى الموصول وهو المفعول الأول محذوف. محبوب أن عدي إلى الثاني بإلى ومكروه إن عدى بالباء في الأغلب وقد يقوم كل منهما مقام الآخر كما يجيء فقوله: (على ما أحب وكره) لف ونشر مرتب والمراد بالإيمان الإيمان الكامل بدليل ان من لم يبلغ مرتبة الرضا لم يخرج معن أصل الإيمان، وفيه دلالة على أنه كما لابد في كماله من الرضا بالمكروه كذلك لابد فيه من الرضا بالمحبوب مثل الصحة والأمن والغنى ونحوها على تفاوت درجاتها (ولن يصنع الله بمن

ص:194

صبر ورضى عن الله إلا بما هو أهله وهو خير له) من خلافه لأنه تعالى عالم بمصالح العبد يصنع له ما هو يصلح له فإن أفقره كان خيرا له وإن أغناه كان خيرا له وكذلك جميع الحالات المتضادة وفيه دلالة على أن الخيرية مشروطة بالرضا والصبر وإلا فجرت عليه المقادير وهو محروم عن أجر الصابرين.

(مما أحب وكره) الظاهر أنه بيان للموصول وتعلقه بخير بعيد من حيث المعنى، ويؤيده أنه وقع «فيما» بدل «مما» في بعض النسخ.

(عليكم بالمحافظة على الصلوات) بإيقاعها مع شرائطها في أوقاتها (والصلاة الوسطى) أي الفضل أو الواقعة في الوسط فيها أقوال على عدد اليومية والمشهور أنها العصر ولعل السر في اخفائها هو الترغيب في محافظة جميعها.

(وقوموا لله قانتين) ظاهر الصدوق أنه القنوت المعروف وأنه واجب، وظاهر ابن أبي عقيل وجوبه في الجهرية والمشهور أنه مندوب وقيل: المراد به الخشوع والإطاعة والدعاء مطلقا (كما أمر الله به المؤمنين في كتابه من قبلكم وإياكم) دل على أن خطاب القرآن شامل للحاضرين والغائبين وقت النزول من باب التغليب كما صرح به بعض أرباب الأصول فهو حجة على من خصه بالأول وأجرى الحكم في الغائب بالإجماع.

(وعليكم بحب المساكين المسلمين) الحب: ميل القلب وهو مطلوب لجميع المسلمين وتخصيص المساكين بالذكر لزيادة الاهتمام بحالهم أو للكشف والإيضاح فإن المسلمين وهم المؤمنون كلهم مساكين في دولة الباطل على تفاوت درجاتهم ومن المحبة لهم أن تحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك.

هر كسى را لقب مكن مؤمن * گرچه از سعى جان وتن كاهد تا نخواهد برادر خود را * آنچه از بهر خويشتن خواهد (فإنه من حقرهم وتكبر عليهم) حقره حقرا كضربه ضربا وحقره تحقيرا إذا أذله وأهانه. وتكبر عليهم إذا تعظم وترفع عليهم بأن يرى نفسه أعظم وأرفع منهم والتحقير والتكبر متلازمان مهلكان خصوصا إذا ظهر آثارهما بالجوارح واللسان.

(فقد زل عن دين الله) أي عن أصله أو عن كماله إن سلمت عاقبته (والله له حاقر ماقت) يفعل به ما يوجب ذله وأهانته ويعاقبه ويسلب عنه رحمته وقد كرر الأمر بحب المسلمين المؤمنين لأنهم عياله وعيال الله وغرباء فقراء في هذه الدار فاقتضى المقام المبالغة فيه لشده الاهتمام والإغتمام بحالهم.

ص:195

(واعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه والمحقرة) وهي بالفتح المذلة (حتى يمقته الناس) أو المراد بهم الأنبياء والأوصياء والصلحاء أو الأعم لأن الفساق و المتكبرين يمقتون المتكبر، والفاسق قد يذم الفاسق وهو غافل عن فسقه.

(فإن لهم عليكم حقا أن تحبوهم) أي بأن تحبوهم وحذف الجار في مثله قياس وهو بدل عن حقا وهو من الغاوين الذين أوعد الله عليهم بالنار قال: (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) (وإياكم والعظمة والكبر) العطف للتفسير أو العظمة عبارة عن اعتبار كمال ذاته ووجوده وصفاته والكبر هذا مع اعتبار فضله على الغير.

(فإن الكبر رداء الله) شبه الكبر وهو العظمة بحسب الذات والصفات والرفعة على الغير من جميع الجهات بالرداء في الإحاطة والشمول فهي موجودة في المشبه تخييلا وفي المشبه به تحقيقا أو في الإختصاص لأن رداء كل شخص مختص به لا يشاركه غيره والمقصود من هذا التشبيه إخراج المعقول إلى المحسوس لقصد الإيضاح والإفهام.

(فمن نازع الله رداءه قصمه الله) أي كسره (وأذله يوم القيامة) وفي الخبر: «أنه يجعل في صورة الذر يتوطأه الناس حتى يفرع الله من الحساب».

(وإياكم أن يبغى بعضكم على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين) ضمير التأنيث راجع إلى البغي باعتبار الخصلة وهو الظلم والميل عن الحق والترفع والاستطالة والكذب والخروج عن طاعة الإمام وأصله المجاوزة عن الحد.

(فإنه من بغى صير الله بغيه على نفسه) لعود ضرره إليها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم)(1).

(وإياكم أن يحسد بعضكم بعضا) بتمني زوال نعمته ما لا كان أو حالا (فإن الكفر أصله الحسد) كما كفر إبليس بإنكار السجود لآدم حسدا له. وكفر بعضهم بغصب الخلافة وإنكار الولاية كذلك والحاسد كافر بالله العظيم لنسبة الجور إليه في القسمة وكافر بنعمته لتحقيرها وكافر بمخالفة الأمر بترك الحسد، ومفاسد الحسد أكثر من أن تحصى.

(وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم) الإعانة إذا عدى بعلى للضر وبنفسه للنفع كما سيجيء (إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة) دل على جواز الدعاء على الظالم لأن التحذير من قبوله إقرار له وقد وقع الأمر بالدعاء عليه في بعض الأخبار ولا فرق في ذلك بين من عم ظلمه ومن خص بواحد ولا بين من يكون ظلمه متجاوزا عن الحد ومن لا يكون، ولا بين أن يكون الظالم مؤمنا أو

ص:196


1- -سورة یونس :23.

كافرا إلا أن الأولى ترك الدعاء على الظالم المؤمن عم ظلمه أو لا لأنه أوفر للأجر (وإياكم وإعسار أحد.. اه) الإعسار: طلب الحق من الغريم على عسره وضيق حاله والإعسار أيضا الافتقار ومنه المعسر بمعنى المفتقر كما سيجيء.

(ومن أنظر معسرا أظله الله بظله) أي بظل عرش أو برحمته شبهها بالظل في نجاة من استقر فيها من حر الشدائد واستعار لفظه.

(يوم لا ظل إلا ظله) أي رحمته كما قال تعالى: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم)(1) (وحبس حقوق الله قبلكم) أمر بأداء الحقوق الموقتة في أوقاتها والمشروطة بشروطها والمطلقة والثابتة في أول أوقات إمكانها وهي أعم من الواجبات والمندوبات.

(كان الله أقدر على التعجيل له إلى مضاعفة الخير في العاجل والآجل) من كان لله كان الله له والخير في العاجل أعم من الطاعة والنعمة في الأجل الثواب والرحمة وهو يدل على أن أداء حقوق الله سبب زيادة الرزق كما قال: (من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (فأدوا إلى الله حق ما رزقكم) من النعماء الظاهرة والباطنة التي لا يمكن احصاؤها وحق ذلك هو الطاعة والشكر والوفاء به سبب لبقاء الواصل، وحصول غير الحاصل، كما قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وزوال النعمة عذاب أيضا وقد قيل: إن النعمة صيد والشكر قيد.

(وإن استطعتم أن لا يكون منكم محرج الإمام فإن محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل الصلاح من أتباع الإمام، المسلمين لفضله الصابرين على أداء حقه العارفين بحرمته) في النهاية: أحرجه بالحاء المهملة أوقعه في الحرج، وفي الصحاح: أحرجه إليه ألجأه، وفيه سعى به إلى الوالي إذا وشى به أي نقل أمره إليه ونمه ليؤذيه والظاهر أن المراد بالمحرج هنا من يسعى بأهل الصلاح وينهى حاله إلى الإمام بإذاعة السر والإتيان بالمعصية الموبقة ونحوها، واحتمال سعايته إلى الوالي الجائر بعيد لأنه فيما بعد: «فإذا فعل ذلك عند الإمام» ينافيه في الجملة فعلى الأول لعن الإمام إياه باعتبار ما افتراه الساعي ولما لم يكن هو على ما إفتراه يرجع اللعن إلى الساعي وأما على الثاني فلأن الجائر يؤذيه ولما لم يكن له ناصر يدفع أذاه عنه (واعلموا أنه من نزل بذلك المنزل عند الإمام) هو منزل السعاية والغمز ونسبة السوء إلى المؤمن الصالح وهذا كما هو قبيح عند الإمام كذلك قبيح مطلقا.

(يلعن الإمام أهل الصلاح) لعدم نصرتهم إياه وتخاذلهم له ويعود اللعن إلى الساعي في

ص:197


1- -سورة هود:43.

الحقيقة.

(فإذا لعنهم لاحراج أعداء الله الإمام صارت لعنته رحمة من الله عليهم.. اه) الإمام فاعل لعنهم ومفعول لإحراج على سبيل التنازع وإضافة الإحراج إلى الأعداء إضافة المصدر إلى الفاعل والمراد بهم الساعون بأهل الصلاح إلى الإمام أو إلى الجائر على الاحتمال ويحتمل أن يكون فاعل لعنهم ضمير راجع إلى الإمام.

(قال: ومن سره أن يلقى الله وهو مؤمن حقا حقا.. اه) تأكيد لمضمون جملة أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي ايمانا حقا والتكرير لزيادة التأكيد.

(فليتول الله ورسوله والذين آمنوا وليبرء إلى الله من عدوهم) المراد بالذين آمنوا أمير المؤمنين وأولاده الطاهرون عليهم السلام وفيه دلالة على أن أصل الإيمان لا يتحقق بدون أمور أربعة وأن البراءة من عدوهم جزء منه كما دل عليه غيره من الأخبار.

(ويسلم لما انتهى إليه من فضلهم) أي يصدقه تصديقا جازما وإن لم يعرف حقيقته.

(لأن فضلهم لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك) تعليل لما سبق وإشارة إلى أن فضلهم البالغ إليه وإن كان في غاية الكمال التي يستبعده ضعفاء العقول ينبغي أن لا ينكره بل يسلمه ويذعنه لأن ما بلغ إليه ليس في حد الكمال بالنسبة إلى ما هو لهم في الواقع من الفضل والجمال (لم تسمعوا ما ذكر الله من فضل أتباع الأئمة الهداة) الاستفهام للتقرير ووصف الأئمة بالهداة للمدح أو للتقييد بإخراج أئمة الضلالة (وهم المؤمنون) التابعون لهم في العقائد والأعمال والأخلاق والتعريف للحصر.

(قال: (أولئك)) قال الله ومن يطع الله ورسوله فأولئك (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)(1) الإشارة للموصول وهم المطيعون لله وللرسول في جميع الأمور وأعظمها النهي عن طاعة الأئمة الغواة والأمر بطاعة الأئمة الهداة فقد ظهر أن الآية في فضل أتباعهم والفرق بين الفرق الأربعة أن كل لاحق أعم مطلقا من السابق إن أريد بالشهداء في العباد وأما إن أريد بهم الشهداء في الجهاد فالنسبة بينهم وبين من قبلهم أعم من وجه، ويمكن أن يراد بالثلاثة الأخيرة الأئمة الهداة وذكر هذه الصفات للدلالة على اتصافهم بها وللمفسرين فرق آخر بين هؤلاء لا يخلوا من تكلف.

(وحسن أولئك رفيقا) في معنى التعجب ورفيقا نصب على التميز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق أو لأنه أريد وحسن كل واحد منهم رفيقا كذا في تفسير القاضي

ص:198


1- -سورة النساء:69.

(فهذا وجه من وجوه فضل اتباع الأئمة) أشار إلى أن هذا فضل واحد وأن لهم فضائل كثيرة غير محصورة.

(فكيف بهم وفضلهم) أي فكيف يبلغ بذواتهم وحقيقة فضلهم أحد والاستفهام للإنكار.

(ومن سره أن يتم الله له إيمانه.. اه) دل على أن الإيمان هو التصديق بالولايات المذكورة وأن الأعمال خارجة عنه وشروط لكماله كما دل عليه أيضا روايات أخر (أقام الصلاة) حذفت التاء من المصدر للتخفيف من ثقل الإضافة.

(وإقراض الله قرضا حسنا) بفعل الطاعات والإحسان إلى الخلق وإقراضهم والإنفاق في وجوه البر وصلة الإمام. روى المصنف في باب صلة الإمام بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال «ما من شيء أحب إلى الله من إخراج الدرهم إلى الإمام وإن الله ليجعل له الدرهم في الجنة مثل جبل أحد، ثم قال إن الله يقول في كتابه: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) قال: وهو والله صلة الإمام خاصة» ولعل المقصود من قوله خاصة أن الآية نزلت قصدا وبالذات في صلة الامام ولا ينافي تعميمها بإدخال جميع ما ذكر فيها، والمراد بحسنه خلوصه عن غير وجه الله مع طيب النفس من غير من ولا أذى وغير ذلك من موجبات النقص وإنما سمي قرضا لأن الفاعل يأخذ العوض وهو الأجر الجزيل والثواب الجميل منه تعالى.

(واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن) مر تفسيره آنفا (فلم يبق شيء مما فسر مما حرم الله إلا وقد دخل في جملة قوله) الفسر الإبانة وكشف الغطاء كالتفسير والفعل كضرب ونصر ومما حرم بيان لما فسر أو لشيء والأول أظهر والثاني أشمل، والمراد بالجملة على الأول الفواحش يعني أن هذا المجمل شامل لجميع المحرمات في الآيات والروايات وعلى الثاني أقام الصلاة إلى آخره فإنه شامل لجميع الطاعات أيضا.

(فمن دان الله فيما بينه وبين الله مخلصا لله) أي من عنده سرا أو في الدين الذي بينه وبين الله تعالى لا في دين الرأي والقياس حال كونه مخلصا لله منزها لعمله أن يكون لغير الله فيه شرك ونصيب.

(ولم يرخص لنفسه في ترك شيء من هذا) الذي ذكر من الولايات وشروطها والترخيص عدم الاستقصاء، رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو أي لم يستقص ولم يبلغ الغاية فالمراد بعدم الترخيص في الترك هو المبالغة في عدمه.

(فهو عند الله في حزبه الغالبين) على النفس الأمارة بالكسر أو على المذاهب الباطلة بالحجة، أو على الأعداء بالغلبة وهم حزب الإمام المنتظر أو الأعم ومن حزب الأنبياء والرسل كما قال

ص:199

تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)(1).

(إلى ها هنا رواية القاسم بن الربيع) وما يأتي رواية حفص المؤذن وإسماعيل بن جابر وإنما لم يقل إلى ها هنا رواية إسماعيل بن مخلد السراج لأنه لو قال ذلك لفهم أنه لم يروا الباقي وذلك ليس بمعلوم لجواز روايته وعدم نقله للقاسم أو نقله له وإختصار القاسم على القدر المذكور.

(يعني المؤمنين قبلكم إذا نسوا شيئا.. اه) الظاهر أنه كلام المصنف لتفسير الآية المذكورة والنسيان كناية عن الترك ما دل عليه ما بعده وفسره أبو جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) بالترك، وبالجملة إطلاقه على الترك شايع فلا يرد أن النسيان ليس بعصيان.

(واعلموا أنه إنما أمر ونهى ليطاع - إلى آخره) أعظم الأمر والنهي الامر بطاعة الأئمة الهداة والنهي عن طاعة الأئمة الغواة.

(واعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلا طاعتهم له فجدوا في طاعة الله) الظاهر أن ملك اسم ليس ومن خلقه متعلق بأحد واحتمال جعله اسم ليس بزيادة من وجعل ملك مجرورا بدلا عن لفظه ومرفوعا بدلا عن محله بعيد فكأنه رغب كل واحد في العلم بأن كل بلية بينه وبين الله كانت طاعتهم له ليجتهد فيها ولا يتخلف في السباق عنهم والأظهر أن ملك بدل من الخلق وأن اسم ليس محذوف أي ليس بين الله وبين أحد من الخلائق شيء نافع إلا الطاعة فجدوا فيها.

(وقال: عليكم بطاعة ربكم ما استطعتم) أمر (عليه السلام) في هذا الحديث بطاعة الرب مكررا لاقتضاء المقام المبالغة فيه لأن القايل بالحق قليل واللسان عن الصدق كليل والناس معتكفون على العصيان وراغبون في المعصية والطغيان.

(فإن الله ربكم) أخرجكم من العدم وأفاض علكيم الوجود وتوابعه من الكمالات وأعطاكم نعمه ظاهرة وباطنة ورباكم في جميع الحالات وكل ذلك يقتضي طاعتكم له بقدر الإمكان (واعلموا أن الإسلام هو التسليم والتسليم هو الإسلام) أي الإسلام هو التسليم لله ولرسوله ولأولي الأمر والانقياد لهم في الأوامر والنواهي وليس هو بمجرد القول وفي تعريفها باللام وتوسيط الضمير دلالة على الحصر والتأكيد فيه هذا بناء على التلازم بينهما ويمكن حمله على إتحاد الحقيقة يعني أن عرفت معنى الإسلام والتسليم وحقيقتهما فهذا ذاك فمن سلم فقد أسلم ومن لم يسلم فلا إسلام له لأن وجود اللازم على وجود الملزوم وعدمه على عدمه وعلى القول بالاتحاد

ص:200


1- -سورة المجادلة :21

فالأمر ظاهر.

(ومن سره أن يبلغ إلى نفسه في الإحسان فليطع الله.. اه) الإبلاغ الإيصال يقال: أبلغ إليه شيئا أي أوصله إليه وفي زائدة للتأكيد مثل (اركبوا فيها بسم الله مجريها) (1)أو هي كإلى متعلقة بيبلغ بتضمين معنى الإجتهاد أو بمفعول مقدر أي من سره أن يوصل إلى نفسه إجتهادا في الإحسان فليطع الله في أوامره ونواهيه ويحتمل أن يراد بالإبلاغ المبالغة وهي الإجتهاد يقال: بالغ في كذا إذا اجتهد فيه، وإلى حينئذ متعلقة بالإحسان وتقديم معمول المصدر إذا كان ظرفا ونحوه جائز (وإياكم ومعاصي الله أن تركبوها) أي تتبعوها من ركبت الأثر إذا تبعته أو تعلوها بتشبيه المعصية بالدابة في إيصال صاحبها لي منزل الشقاوة ونسبة الركوب إليها مكنية وتخييلية.

(وليس بين الإحسان والإساءة منزلة فلأهل الإحسان عند ربهم الجنة) ولأهل الإساءة عند ربهم النار كما قال تعالى: (فريق في الجنة وفريق في السعير) قال الأمين الأسترآبادي: قد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار بأن الناس ثلاثة أصناف منهم من هو تحت المشية فالظاهر أن مراده (عليه السلام) أن الذي أبرم الله أمره قسمان.

أقول: يريد أن الذي وقع الحتم فيه قسمان لا ثالث لهما لأنه إما مقر بالولايات المذكورة متمسك بشروطها أو منكر لشيء منها فالأول محسن والثاني مسيء وأما المستضعف وهو من لم يقر ولم ينكر فهو خارج عن المقسم فلا يرد أنه قسم ثالث (واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد) أي لا يصرف ولا يكف عنكم أحد ممن ذكر شيئا من عقوبة الله إلا برضاه عنكم ولم يذكر الاستثناء لظهوره ولدلالة التفريع عليه وهو قوله: (فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند الله فيطلب متضرعا إلى الله) أي فليرغب إليه من طلب إليه رغب.

(أن يرضى عنه) المراد بطلب الرضا طلب وسيلة له وهي طاعة الله وطاعة الرسول وطاعة ولاة الأمر بعده فإنه أن صدر منه حينئذ ما يوجب سخط الله من ترك بعض الطاعات أو فعل بعض المنهيات وتدركه الرحمة والشفاعة بإذن الله لرضائه عنه من وجه آخر فاستحق بذلك قبولهما.

(واعلموا أن أحدا من خلق الله لم يصب رضا الله بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمره من آل محمد (صلى الله عليه وآله)) طاعتهم مع كونها سببا للرضا سبب أيضا لبقاء النظام بالتناصر والتعاون وقمع طمع الناكثين والمارقين والقاسطين والمنافقين الذين ليس لهم من الإسلام نصيب.

(ومعصيتهم من معصية الله ولم ينكر لهم فضلا عظم أو صغر) المراد بالفضل العظيم ما لا يصل إليه الفهم ويستبعده العقل ولا يعرف حقيقته، والصغير ما هو خلاف ذلك والظاهر أن قوله:

ص:201


1- -سورة هود 41.

«ومعصيتهم» عطف على اسم «أن» وقوله «لم ينكر» على خبرها وفيه شيء لأن كثيرا من الناس أنكروا فضلهم بل نصبوا عداوتهم، ولعل المراد بعدم إنكار أحد عدم الإنكار ولو حين الاحتضار ولدلالة بعض الروايات على أن المنكرين يعترفون بفضلهم حينئذ أو المراد به العلم بفضلهم وإن لم يصدقوا به أو المراد أنه ينبغي عدم إنكار فضلهم أو المراد بالخلق الأنبياء والأوصياء وأهل المعرفة من الأمم السابقة ومن هذه الأمة والله أعلم.

(واعلموا أن المنكرين هم المكذبون.. اه) يريد أن منكر واحد منهم ومنكر فضلهم مكذب لله ولرسوله في الأمر بطاعتهم ومنافق داخل (في الدرك الأسفل من النار) قيل: أي الطبقة السفلى من جهنم وقيل وهي توابيت من نار تطبق على أهلها (ولن تجد لهم نصيرا) ينصرهم ويدفع عنهم العقوبة بالشفاعة ونحوها، وفيه دلالة على خلودهم في النار.

(ولا يعرفن أحد منكم ألزم الله قلبه طاعته وخشيته من أحد من الناس) «من أحد» متعلق بلا يعرفن على صيغة المجرد المجهول والمراد بهم المخالفون وألزم صفة لأحد والمراد به القائل بولاية على وأولاده الطاهرين عليهم السلام أي لا يفعل أحد منكم عندهم ما يعرف به وتميز عنهم وفيه ترغيب في التقية للإحتراز من ضررهم.

(ممن أخرجه الله من صفة الحق ولم يجعله من أهلها) إنما نسب الإخراج من صفة الحق وهي القول بالولاية إلى الله تعالى لعلمه أزلا بعدم اتصافها واضطراب قلبه من قبولها فأخرجه منها ولم يجعله من أهلها جبرا لأن الجبر مناف للحكمة، ومنه يظهر الزامه تعالى قلب أحد طاعته وصفة الحق لأنه لما علم منه قبولها إختيارا وفقه لقبولها ونصره عليه وهذا معنى الإلزام فانتفى الجبر في الموضعين وملك كل أحد ماله باختياره.

(فإن لم يجعله الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجن فإن لشياطين الإنس حيلة ومكرا وخدايع ووسوسة بعضهم إلى بعض) الظاهر أنه تعليل لقوله: «لا يعرفن أحد منكم» من أحد من الناس لتضمنه معنى الشيطنة التي تقتضي الحذر منهم بالتقية وحينئذ يكون قوله: «فإن الشياطين الإنس» بيانا وتفصيلا لما تضمنه معنى الشيطنة وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يكون تفصيلا وبيانا لإثبات معنى آخر للمخرجين من صفة الحق وهو التمرد والشيطنة والقول المذكور حينئذ تعليل لقوله: «لا يعرفن» ثم أن أريد بمن الموصولة الإنس والجن فحمل شياطين الإنس والجن عليهم ظاهر، وإن أريد به الإنس فحمل شياطين الجن عليهم من باب التشبيه في التمرد والشيطنة والمراد بالحيلة استعمال الحذق والتصرف في الأمور للتوصل بها إلى المقصود وبالمكر إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يعلم الخديعة هذا المعنى أو تلبيس شبهات باطلة

ص:202

بلباس الحق لإنخذاع الغير بها وبالوسوسة مشاورة بعضهم بعضا في تحصيل أسباب الغلبة والإضرار ولما كان هذا مظنة أن يقال ما غرضهم من الحيلة وما عطف عليها أجاب على سبيل الإستيناف بقوله:

(يريدون إن استطاعوا أن يردوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الإنس من أهله) وهو الدين الذي أنزله إلى رسوله وأكمله للناس بولاية علي (عليه السلام) والمراد بالنظر فيه العلم به والتصديق بحقيته.

(إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشك والإنكار والتكذيب.. اه) مفعول له ليريدون والأصل أن يستوون هم وأهل الحق عدل عن الضمير إلى الظاهر لقصد دمهم صريحا بنسبة العداوة إليهم ولعدم حاجة صحة العطف إلى الضمير الفصل والمراد بالشك دينهم الباطل أو الشك في دين الحق وبالإنكار الإنكار لقول الله تعالى وبالتكذيب التكذيب لقول رسوله في التنصيص بالولاية.

(فلا يهولنكم ولا يردنكم عن النصر بالحق الذي خصكم الله من حيلة شياطين الإنس ومكرهم من أموركم) في القاموس: هاله يهوله هولا: أفزعه كهوله فاهتال فعلى هذا يجوز في لا يهولنكم تخفيف الواو وتشديدها ورده عن الأمر صرفه عنه فارتد هو وضمير الجمع الفاعل المحذوف راجع إلى أعداء الله أو إلى شياطين الإنس ولعل النهي راجع إلى الإهتيال والارتداد المقصودين من الفعلين وقوله: «من حيلة شياطين الإنس» متعلق بالفعلين و «من» إما ابتدائية أو للتعليل أو بمعنى الباء والأصل من حيلتهم عدل عن الضمير إلى الظاهر لنسبة الشيطنة إليهم وتوبيخهم عليها ومن أموركم متعلق بمكرهم ومن كالمذكورة في المعاني الثلاثة أو بمعنى في أي لا تخافوا ولا ترتدوا عن نصرة الحق من أجل حيلتهم ومكرهم من أموركم واخيالهم في صرفكم عنها فإنهم شياطين الإنس «وأن كيد الشيطان كان ضعيفا».

(تدفعون عنهم السيئة بالتي هي أحسن.. اه) لعل المراد بالسيئة عداوتهم وإضرارهم وبالتي هي أحسن التقية وفيه ترغيب، في دفع ضررهم بها.

(لا يحل لكم أن تظهروهم على أصول دين الله) هي الولاية وعدم الجبر والتفويض وزيادة الصفات وجواز الرؤية ونحوها أو الأعم منها ومن الأحكام المختصة بالشيعة مثل وجوب المسح واستحباب القنوت ورفع اليدين بالتكبيرات المندوبة وأشباهها.

(فإنهم إن سمعوا منكم فيه شيئا) من الأمور المخصوصة بكم (عادوكم عليه) وآذوكم به بل ربما قتلوكم (ورفعوه عليكم) إلى الجائر أو إلى الناس بالتشهير والإفشاء (وجهدوا على هلاككم) بقدر الإمكان (واستقبلوا بما تكرهون) من الأقوال الغليظة وغيرها.

ص:203

(ولم يكن لكم النصفة منهم في دون الفجار) النصف والنصفة محركتين والإنصاف داد دادن والمنصف داد دهنده يعني أنهم وحاكمهم يجورون عليكم ولا يعدلون فيكم وفيه ترغيب بالتقية منهم وعدم إظهار ما يخالف مذهبهم عندهم لأنهم حينئذ يجتهدون على هلاككم وليس لكم من يدفع الظلم عنكم.

(اعرفوا منزلتكم فيما بينكم وبين أهل الباطل) المنزلة موضع النزول والدرجة يعني وجب عليكم معرفة منزلتكم فيما بين الناس وهي الإيمان بالله وما يليق به وبالرسول وما جاء به وبالولاية ومن اتصف بها، وإظهار أصول الدين وأحكامه على أهلها والاتصاف بآدابه وأخلاقه والامتثال بأوامره ونواهيه ليحصل لكم التميز بينها وبين منزلة أهل الباطل والتمكن من التحرز عنها وإنطباق الدليل عليه وهو قوله:

(فإنه لا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل) ظاهر لأن أهل الحق ينبغي أن يكونوا مع الحق فلا ينبغي لهم الاتصاف بالباطل كأهله، وهنا احتمال أخر وهو أنه يجب عليكم معرفة منزلتكم فيما بينكم وهي ما ذكر ومنزلتكم فيما بين أهل الباطل وهي حسن المعاشرة معهم ظاهرا والتقية منهم للإحتراز من ضررهم إلا أن في انطباق الدليل المذكور عليه خفاء إلا أن يراد بأهل الباطل في الدليل أعم من أهل الخلاف وتارك التقية لأن تاركها أيضا في باطل والله أعلم.

(لأن الله لم يجعل أهل الحق عنده بمنزلة أهل الباطل) دليل لقوله لا ينبغي وبيان لشرافة منزل أهل الحق وخساسة منزل أهل الباطل عنده تعالى لأن منزل أهل الحق جنات النعيم أعدها لعباده المؤمنين الذين تمسكوا في الدين بالأئمة الطاهرين ومنزل أهل الباطل نار ذات عقارب وأغلال وذات سلاسل وأنكال فلا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا منزلهم.

(لم يعرفوا وجه قول الله عز وجل في كتابه: إذ يقول أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) وهذا وصف أهل الباطل وبيان لضعف عقولهم حيث لم يعرفوا معنى الآية فإن قلت: أكثرهم أهل اللسان فكيف لم يعرفوا معناها؟ قلت:

المراد أنهم لاذهانهم السقيمة وأفكارهم العقيمة أخطأوا في المقصود منها فزعموا أنهم المؤمنون الصالحون المتقون وأن من عداهم ممن رفض طريقتهم هم الفجار المفسدون فقلبوا المقصود لفساد قلبهم ذلك مبلغهم من العلم ولذلك أدرج لفظ الوجه لأن وجه الكلام هو السبيل المقصود منه.

(أكرموا أنفسهم عن أهل الباطل) لعله استيناف ولذلك ترك العاطف كأنهم قالوا إذا أوجب علينا النزول في منزلتنا والفرار من منزلتهم فكيف نصنع إذا كنا معهم فأجاب بما ذكر يعني عظموا

ص:204

أنفسكم وشرفوها عن ظلم أهل الباطل وجورهم بالموافقة في العمل تقية منهم (فلا تجعلوا لله تعالى وله المثل الأعلى) أي الشرف الأعلى من جميع الوجوه والواو للعطف (وإمامكم ودينكم الذي تدينون به) أي تعبدون ربكم وتطيعونه.

(عرضه لأهل الباطل) العرضة بالضم المنصوب تقول جعله عرضة للناس أي نصبة لهم فلا يزالون يقعون فيه ويذكرون عيوبه وفي كنز: «اللغة العرضة در ميان انداخته».

(فتغضبوا الله عليكم) بفعل ما يوجب غضبه وعقوبته (فتهلكوا) على صيغة المجهول من الإهلاك أو المعلوم من الهلاك، وفعله كضرب ومنع وعلم.

(لا تتركوا أمر الله وأمر من أمركم بطاعته) كما قال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (فيغير الله ما بكم من نعمة) متفرع على الترك وقد جرت سنة الله أن لا يغير ما بقوم من النعمة حتى يغيروا ما عليهم من الطاعة كما وقع ذلك في كثير من الأمم الماضية.

(أحبوا في الله من وصف صفتكم) أي في سبيل الله أو بسبب الله، منشأ تلك المحبة هي الاشتراك في دين الحق واتحاد المطلوب والطريق الموصل إليه والرفاقة فيه واتحاد الأصل لأن المؤمنين أخوة بل هم كنفس واحدة وكونها في الله مشروط بأن لا يشوب بشيء من أغراض الدنيا فإنه لا اعتناء بها ولاثبات لها وقس على ذلك البغض في الله.

(وابذلوا مودتكم ونصيحتكم لمن وصف صفتكم) النصيحة إرادة الخير للمنصوح له ويعتبر في حقيقتها الخلوص عن الغش والمراد ببذلها إرشاده إلى الخير وببذل المودة بذل آثارها ولوازمها ومن جملتها دفع المكاره والشر عنه وجلب المنافع والخير له.

(وبغاكم الغوايل) أي الدواهي والمكاره وفي دستور: «اللغة الغائلة بدى».

(هذا أدبنا أدب الله) لأنه بأمره ووحيه وهو شامل للمحاسن والمحامد كلها وفي كنز: «اللغة الأدب كار پسنديده» ولكل عضو منه نصيب فأدب العين النظر إلى المصنوعات مثل الإستدلال بها على وجود الصانع وقدرته وحكمته وأدب السمع استماع الآيات وغيرها من الكلام الحق وأدب التكلم التكلم بما ينبغي والسكوت عن غير من الفضول وأدب القلب معرفة الله وما يليق به ومعرفة الرسول والاحكام والأخلاق والاتصاف بها وقس على ذلك.

(فخذوا به وتفهموه واعقلوه) أمر أولا: بالأخذ به وهو تناوله وقبوله بالقلب.

وثانيا: بتفهمه وهو معرفته ومعرفة حسنه وكماله.

وثالثا: بعقله وهو الغور فيه وإدراك حسن عاقبته أو إمساكه وحفظه من عقلت الشيء إذا أمسكته وحفظته وهذه أمور ثلاثة لابد منها في كل مطلوب (ولا تنبذوه وراء ظهوركم) النبذ الرمي ونبذه

ص:205

كناية عن عدم الالتفات إليه دائما.

(ما وافق هداكم أخذتم وما وافق هواكم طرحتموه ولم تأخذوا به) الهدى القرآن والطريق المستقيم أيضا والهوى مشتهيات النفس وأمانيها وهو الهها ومعبودها كما قال عز شأنه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) والإضافة فيهما لامية والخبر بمعنى الأمر على الظاهر وفيه إشارة إجمالية إلى أنه يجب على كل عاقل أن يزن ما ورد عليه بميزان العقل والشرع فما وافق الحق يأخذه وما وافق الباطل يتركه.

(وإياكم والتجبر على الله) حذر عن التجبر على الله لأنه مهلك والمراد به ترك الامتثال بأوامره ونواهيه وآدابه وأحكامه ومواعظه نصايحه أو المراد به التجبر على أولياء الله أو على الناس كلهم.

(واعلموا أن عبدا لم يبتل بالتجبر على الله إلا تجبر على دين الله) وهو ظاهر لأن التجبر بالمعنيين المذكورين يوجب ترك ما اشتمل عليه دين الله وأيضا المتجبر يترك كل كمال وفضيلة حفظا لمرتبته كما هو شأن الجبارين.

(فاستقيموا لله) بالثبوت على ولايته وولاية الرسول والأئمة عليهم السلام والانقياد لأوامرهم ونواهيهم وآدابهم (ولا ترتدوا على أعقابكم) بإنكار شيء من ذلك بعد إذ هديتم.

(فتنقلبوا خاسرين) كما هو حال المخالفين. وذلك هو الخسران المبين.

(أجارنا الله وإياكم من التجبر على الله) هذا دعاء لنفوسهم القدسية ولمن تبعهم إلى يوم الدين، والتجاء إلى الله من التخلص عن هذه الخصلة الذميمة.

(ولا قوة لنا ولكم إلا بالله) أي لا قوة في الطاعة والتحلي بالفضائل والتخلي من الرذائل وترك التجبر إلا بعون الله، وفيه انقطاع عن الغير بل عن نفسه والتجاء إلى الله تعالى وطلب لتوفيقه على الخيرات كلها وإظهار للعجز والمسكنة والافتقار إليه في جميع الأمور.

(وقال: إن العبد إذا كان خلقه الله في الأصل الخلق مؤمنا) المراد بالخلق الإيجاد أو التقدير وبأصل الخلقة الوجود الظلي والعيني وقوله: «مؤمنا» حال عن مفعول خلقه أو تميز عن النسبة فيه واللازم على التقديرين أن يكون خلق العبد مقرونا بإيمانه في علم الله ولا يلزم أن يكون إيمانه من فعله تعالى كما في قولك: ضربت زيدا قائما إذا كان قائما حالا عن زيد وهذا العبد المؤمن إذا ارتكب شرا وإن كان كفرا في بعض الأزمان بإغواء النفس الأمارة والشيطان (لم يمت حتى يكره الله إليه الشر) كره الشر تكريها صيره لديه كريها وذلك لأنه لحسن استعداده ونداء الملك الموكل بقلبه يهتدي إلى الخير وحسنه وحسن عاقبته ويعرف الشر وقبحه وقبح خاتمته فيميل إلى الخير ويحبه ويكره الشر ويبغضه وحينئذ يباعده الله منه بلطفه وتوفيقه وحيلولته بينه وبين الشر مع تأثر قلبه

ص:206

اللطيف من دعاء الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والأرواح القديسين.

(ومن كره الله إليه الشر وباعده منه عافاه الله من الكبر أن يدخله والجبرية) المراد بالكبر أن يعتقد العبد أنه أعظم من غيره وليس لأحد حق عليه بالجبرية بسكون الباء مع كسر الجيم وفتحها أن يظهر بأقواله وأفعاله وكلاهما من المهلكات لأنهما من أخص صفاته تعالى ومن ادعاهما فقد جعل لله شريكا.

(فلانت عريكته) أي نفسه وطبيعته، دل التفريع كالتجربة على أن حصول اللينة متوقف على زوال الكبر إذ المتصف به خشن فظ غليظ القلب وهذه الأمور تنافي اللينة فلعدمه مدخل في حصولها ويتبعها كثير من الفضايل.

(وحسن خلقه) وهو إنما يحصل من الإعتدال بين الإفراط والتفريط في القوة العقلية والشهوية والغضبية ويعرف ذلك بمخالطة الناس بالجميل والتودد والصلة والصدق واللطف والمبرة وحسن الصحبة والمراعاة والمواساة والرفق والحلم والاحتمال لهم والإشفاق عليهم وبالجملة هو تابع لإستقامة جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة.

(وطلق وجهه) بانبساطه وتهلله عند لقاء المؤمنين (وصار عليه وقار الإسلام وسكينته) مر تفسيرهما والفرق بينهما، ويمكن الفرق بينهما بوجه آخر وهو أن الوقار سكون النفس في مقتضى القوة الشهوية، والسكينة سكونها في مقتضى القوة الغضبية ويؤيده أن المحقق الطوسي عد الأول من أنواع العفة الحاصلة بإعتدال القوة الأولى، وعد الثاني من أنواع الشجاعة الحاصلة بإعتدال القوة الثانية.

(وتخشعه) وهو التذلل والتضرع وإنما أضاف الثلاثة إلى الإسلام لأنها من أعظم ما يقتضيه الإسلام ولها فوائد جمة وإن كان الكل كذلك ثم الخضوع، والخشوع والتواضع متقاربة في المعنى ويمكن الفرق بينهما بأن لينة القلب من حيث أنها توجب الخوف والخشية والعمل خشوع، ومن حيث أنها توجب الإنكسار والافتقار خضوع ومن حيث أنها توجب إنحطاط الرتبة عن الغير وتعظيمه تواضع.

(وورع عن محارم الله واجتنب مساخطه) هذا من آثار الحياء والحياء من آثار اللينة لأن اللين ينفعل قلبه سريعا عن إرادة المحارم والمساخط فيكف نفسه عنهما خوفا من اللوم وذلك الانفعال هو الحياء والكف هو الورع (ورزقه الله مودة الناس) المراد بهم الشيعة إذ لا ينبغي المودة لغيرهم.

(ومجاملتهم) في المعاملات والمحاورات والإحسان إليهم وفعل ما هو جميل لهم وهي من لوازم المودة. والرزق كلما ينتفع به فإطلاقه على المودة والمجاملة حقيقة ولهما منافع كثيرة لأن

ص:207

العاقل يعلم أن مودته ومجاملته لهم يستلزم مودتهم ومودة اتباعهم وخدمهم وحواشيهم ومجاملتهم له فيجلب لنفسه من مودة واحد ومجاملته مودة أشخاص كثيرة ومجاملتهم له وميل قلوبهم إليه وأنسهم به ومدافعتهم عنه وبذلك يتم نظامه وصلاح حاله في الدنيا وفي الآخرة (وترك مقاطعة الناس والخصومات) لأنها موجبة لنفارهم عنه وإضرارهم إياه وبعدهم عنه وعداوتهم له وبذلك يفسد نظامه والمراد بالناس كلهم ولذلك أتى باسم الظاهر (ولم يكن منها ولا من أهلها في شيء) أي لم يكن ثابتا في شيء من المقاطعة والخصومات، صغيرها وكبيرها، جليلها، وحقيرها، ولا في شيء من صفة أهلها من التباغض والتحاسد والتشاتم والتفاحش ونحوها.

(وإن العبد إذا كان الله خلقه في الأصل أصل الخلق كافرا لم يمت حتى يحبب إليه الشر ويقربه منه) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: معناه التخلية بينه وبين شيطانه وإخراج الملك عن قلبه وهذا من باب جزاء العمل في الدنيا كما وقع التصريح به في الأحاديث وفي كلام ابن بابويه (فإذا حبب إليه الشر وقربه منه) بالتخلية وسلب اللطف والتوفيق لسوء استعداده وفساد قلبه (ابتلى بالكبر والجبرية) المندرج فيهما جميع الرذائل النفسانية.

(فقسا قلبه) أي صلب وغلظ واسود بحيث لا يهتدي إلى الخير ولا يقبله (وساء خلقه) لأن المتصف بالكبر والجبرية بترك محاسن الأخلاق كلها مثل السلم والكلام والتواضع والإنصاف والملاينة والمداراة ونحوها ويتصف بأضدادها لزعمه أنها منافية، لمرتبته وموجبة لإنكسار عظمته (وغلظ وجهه) كناية عن عبوسة وتصعره وعدم انبساطه وبشاشته.

(وظهر فحشه) هو ما اشتد قبحه من الذنوب ويندرج فيه الغيبة والبهتان وسائر أكاذيب اللسان (وقل حياؤه) فلا يبالي وقوع شيء من القبايح والظاهرة والباطنة.

(وكشف الله ستره) لعل المراد بالستر هو الحجاب بين الذنوب وبين المقربين فإذا كشفه فضحه عندهم فيبغضونه ويلعنونه والله سبحانه ستار يستر ذنوب العبد إذا لم يتجاوز عن الحد أو المراد به لطف الحق وتوفيقه الحاجز بين العبد والمعصية أو الملك الموكل بقلبه لدلالته على الخيرات فإذا رفعه منه وقع في الشرور والفرق بينه وبين التخلية كالفرق بين اللازم والملزوم لأن كشف الستر مستلزمة للتخلية.

(فبعد ما بين حال المؤمن وحال الكافر) «بعد» بالضم والتنوين مبتدأ و «ما» زائدة للمبالغة في التعظيم والظرف خبر، والفعل محتمل والمقصود أن بينهما مباينة في الذات والصفات لأن ذات المؤمن وصفاته نورانية وذات الكافر وصفاته ظلمانية فلا جامع بينهما (سلوا الله العافية) من حال الكافر أو من الذنوب والأسقام أيضا.

ص:208

(صبروا النفس على البلاء في الدنيا) تصبر النفس حملها على الصبر، والبلاء بالفتح الامتحان وشاع استعماله فيما يختبر به مثل التكاليف والأمراض والمصائب والفقر وتحمل الأذى ونحوها ومما يسهل الصبر النظر فيما ورد على الصلحاء من البلاء مما يعجز عن إدراك كميته عقول الأعلام وعن بيان كيفيته بيان الأقلام من تدبر فيه وفي حسن عاقبته وصبرهم عليه تيقن أن ذلك ليس لأجل استحقاقهم واستحقارهم بل لرفع درجتهم وإعلاء منزلتهم تلقاء بالقبول تأسيا بهم (فإن تتابع البلاء فيها والشدة في طاعة الله وولايته وولاية من أمر بولايته خير عاقبة عند الله في الآخرة من ملك الدنيا وإن طال تتابع نعيمها وغضارة عيشها في معصية الله وولاية من نهى الله عن ولايته) الشدة بالنصب عطف على التتابع واحتمال نصبها على المعية بعيد كاحتمال جرها عطفا على البلاء والولاية بالفتح النصرة وبالكسر السلطان والإمارة، وزهرة الدنيا زينتها وبهجتها وكثرة خيرها وغضارة عيش الدنيا طيبها ولذتها يقال: إنهم لقى غضارة من العيش أي في خصب وخير، و «في» متعلق بملك الدنيا ومن متعلق بخير والتفضيل باعتبار فرض الفعل وتقديره في المفضل عليه والمقصود أن المشقة في الدنيا مع الطاعة خير من الراحة فيها مع المعصية أما الطاعة فظاهرة وأما المشقة فلأن فيها ثواب وفي الراحة حساب، ولو قال: في طاعة الله لفهم أن المشقة في الدنيا خير من الراحة فيها وليس ذلك بمقصود وإنما المقصود ما ذكر لترغيب أهل الحق في الصبر على المشقة والطاعة وبيان أنهما خير من الراحة والمعصية التي من جملتها ترك الولاية ورفض طاعة الإمام (عليه السلام)، ولما أمر بصبر النفس على البلاء والطاعة وولاية من أمر الله بولايته ورفض ولاية من نهى الله عن ولايته أراد أن يشير على وجه المبالغة إلى تحقيقه وسببه وبيان من اتصف بالولاية الأولى ومن اتصف بالولاية الثانية وبيان شيء من أحوالهما والغاية المترتبة على جميع ذلك.

(فقال: إن الله أمر بولاية الأئمة الذين سماهم الله في كتابه في قوله وجعلناهم أئمة) بتطهير ظاهرهم وباطنهم عن الأرجاس كلها ونصبهم للخلافة والإمامة وهي كالرسالة من قبله تعالى إذ هي متوقفة على قدرة كاملة مانعة من الخطأ مطلقا ولا يعلم تلك القوة إلا هو.

(يهدون بأمرنا) لا بأمر الناس، يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم وقد مر في كتاب الحجة تفسيره بذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو يهدون بسبب أمرنا لهم بالهداية لا يحب الدنيا ورئاسة أهلها أو بسبب أمرنا فيهم وهو اللطف والعصمة المانعة من الزلل أو إلى أمرنا وهو ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله).

(وهم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم) في قوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وفي قوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا.. )الآية.

ص:209

(والذين نهى الله عن ولايتهم وطاعتهم) بقوله: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) فإن الغرض منه النهي عن اعتقاد ولايتهم وبقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) فإنه وإن ورد لسبب خاص يتناول النهي عن اعتقاد ولاية كل عدو لله.

(هم أئمة الضلالة) يقدمون أمرهم وحكمهم قبل حكم الله ويتخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) فيضلون ويضلون كما مر في كتاب الحجة تفسيره بذلك عنه (عليه السلام).

(الذين قضى الله لهم أن يكون لهم دول في الدنيا) هي مثلثة جمع الدولة بالضم في المال والجاه وبالفتح في الحرب. وقيل هما فيهما سواء (على أولياء الله الأئمة من آل محمد) أي حكم بذلك وأمر به وفي هذا القضاء حكمة لا يعلمها إلا هو ولا يبعد أن يكون فيها إختبارهم وإختبار هذه الأمة بهم كإختبار جميع الأمم بالشيطان ليتميز الخبيث منهم من الطيب وله الحكم وهو المستعان، والظاهر أن الموصول الأول وهو قوله: (والذين نهى الله) مبتدأ والموصول الثاني وهو قوله: (الذين قضى الله) صفة لائمة الضلالة وقوله: (يعملون في دولتهم بمعصية الله ومعصية رسوله (صلى الله عليه وآله)) خبر المبتدأ ويحتمل أن يكون الموصول الثاني بيانا وتفسيرا للموصول الأول وأن يكون خبرا وحينئذ قوله يعملون حال عن ضمير لهم أو استيناف كأنه قيل ما يصنعون في دولتهم فأجاب بما ذكر.

(ليحق عليهم كلمة العذاب) وهي أمر الله به أو الآيات الدالة عليه كما يقال كلمة التوحيد ويراد بها الكلام الدال عليه أي فعل ما فعل وقضى ما قضى لتحق تلك الكلمة عليهم وعلى أتباعهم حقا مطابقة للإيمان أو ليثبت ثبوتا ظاهرا لا يخفى استحقاقهم له عليهم ولا على غيرهم، إذ قد جرت حكمة الله تعالى أن لا يعذب أحدا بسبب علمه بما يوجب استحقاقهم له وحكمة الله تعالى أن لا يعذب له حتى يتحقق المعلوم في الخارج ويطابق علمه به ويظهر استحقاقه للخلق.

(وليتم أن تكونوا مع نبي الله تعالى محمد (صلى الله عليه وآله) والرسل من قبله) صلوات الله عليهم لعل المراد بقوله: «ليتم» ليحق وإنما عدل إليه للتفنن ووجهه يعلم مما ذكر، ويمكن أن يكون فيه إيماء إلى أن علمه تعالى بإستحقاقهم للثواب كاف في الإثابة ولأعمالهم مدخل في تمامها وكمالها ويؤيده ظاهر بعض الآيات والروايات.

(فتدبروا ما قص الله عز وجل عليكم في كتابه الكريم مما ابتلى به أنبياءه عليهم السلام وأتباعهم المؤمنين) يظهر ذلك بالتأمل في أحوال الماضين من المؤمنين كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء كانوا أثقل الخلايق عناء وأجهدهم بلاء وأضيقهم حالا وأقلهم مالا، اتخذهم الفراعنة عبيدا وآذوهم شديدا وساموهم سوء العذاب وراموهم إلى أشد العقاب فلم تبرح الحال

ص:210

بهم في الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع ولا وسيلة إلى دفاع وقد جرت سنة الله في عباده الصالحين بالاختبار والامتحان والتمحيص وما يلقاها إلا الصابرون الفائزون وهم خير عاقبة عند الله تعالى في الدنيا والآخرة وهم المؤمنون المفلحون فتأس بهم عند نزول البلاء وقل: مرحبا بشعار الصالحين.

(ثم سلوا الله أن يعطيكم الصبر على البلاء في السراء والضراء) الصبر وإن كان من فعل البعد ولذلك وقع التكليف به لكن التوفيق والقوة المعدة له من فعله تعالى، والضراء الحالة التي تضر وهي نقيض السراء وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر لهما (والشدة والرخاء) لعل المراد بالفقرة الأولى ما يتعلق بالبدن مثل الصحة والسلامة والأمراض ونحوها وبالثانية ما يتعلق بالمال كضيق العيش وسعته وفي الرخاء والسراء أيضا ابتلاء لكثرة ما يطلب فيهما وقد ذكرنا توضيح ذلك في أول كتاب الكفر والإيمان.

(مثل الذي أعطاهم) من الصبر والتوفيق له والقوة عليه والعائد إلى الموصول محذوف.

(وإياكم ومماظة أهل الباطل) هي شدة المخاصمة والمنازعة مع طول اللزوم في أمر الدين والدنيا وقد ذكرنا مفاسدها آنفا.

(وعليكم بهدى الصالحين) الهدى بفتح الهاء وفد تكسر وسكون الدال السيرة والطريقة والهيئة وأما ضم الهاء وفتح الدال هنا بمعنى الرشاد فبعيد، ثم ذكر للصالحين ثمانية أوصاف هي أمهات الفضايل وأمر بالاقتداء بهم فيها أولها الوقار وهو أصل للسبعة الباقية لأن الوقار سكون النفس بالله وعدم اضطرابها لشيء مما سواه وهو في الحقيقة يتحقق بالإعتدال في القوة العقلية والشهوية والغضبية فإذا تحقق هذا حصلت سكينة الأعضاء وصفة الحلم الموجب للعفو عن الأنام والصفح عن الانتقام، وصفة التخشع لله ولرسوله ولجميع المؤمنين، وصفة الورع عن المحارم، وصدق اللسان في الأقوال كلها، والوفاء بعهد الله وعهد الناس، والاجتهاد في العمل لله خالصا ثم رغب في الأمور المذكورة بقوله:

(فإنكم إن لم تفعلوا ذلك) المذكور من الصبر على البلاء والاحتراز عن المماظة والاتصاف بسيرة الصالحين.

(لم تنزلوا عند ربكم منزلة الصالحين قبلكم) لأن تلك المنزلة المقررة للصلحاء لا ينزلها من لم يتصف بصفاتهم.

(وأعلموا أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا) لعل المراد بالخير اللطف والتوفيق لاستعداد العبد في قبولهما، أو خلق حب الحق وكراهة الباطل في قلبه - عند الفاضل الأمين الأسترآبادي - أو

ص:211

الأذن في دخول الجنة - عند بعض المفسرين - أو الهداية إليها في الآخرة بسبب إيمانه في الدنيا وهذا مروي عن الرضا (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) أو المراد بالإرادة العلم وصح إطلاقها عليه كما ذكره بعض المحققين وعلى التقادير لا يرد أنه تعالى أراد خير العباد كلهم فلا وجه للتخصيص ببعضهم.

(شرح صدره للإسلام) أي بكشف الحجب المانعة منه حتى يقبله أو يبسطه ويوسعه لقبوله وقبول أحكامه ومعارفه والتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه ولا محالة يصير عالما بها ولذلك قال:

(فإذا أعطاه ذلك) أي شرح الصدر اللازم لإرادة الخير والمستلزم للعلم (نطق لسانه بالحق وعقد قلبه عليه) عقدا ثابتا لا يزول بالشبهات وغيرها والمراد بالحق ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) والإقرار بالولاية وذلك لظهور أن النطق به وعقد القلب عليه فرع العلم فتأمل.

(إذا جمع الله تعالى له ذلك) المذكور وهو إرادة الخير وشرح الصدر والنطق بالحق والعقد عليه والعمل به وإنما نسب الجميع إليه سبحانه مع أن أكثر ذلك فعل العبد باعتبار توفيقه إياه ثم إسلامه دل على أن حق العمل خارج عن حقيقته متمم له موجب لكماله.

(وكان عند الله عز وجل إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقا حقا) مفعول مطلق لفعل مقدر تأكيد للحق المستفاد من مضمون الجملة لرفع احتمال الباطل، والحال يذكر ويؤنث فلذلك ذكره هنا وأنثه فيما يأتي.

(وإذا لم يرد الله تعالى بعبد خيرا) يعرف ذلك بما مر وإنما لم يرد ذلك له لإبطاله الاستعداد الفطري والعقل النظري بسوء أعماله واعراضه عن الإيمان بالله وبمن أمر بطاعته.

(وكله إلى نفسه) أي خلاه مع نفسه جزاء لعمله والنفس أمارة بسوء (فكان صدره ضيقا حرجا) الحرج الضيق أو أشد أفراده فعلى الأول تأكيدا وعلى الثاني تأسيس ومبالغة في عدم قبوله للحق وإنكاره لأهله.

(فإن جرى على لسانه حق) على سبيل الاتفاق أو لغرض من الأغراض (لم يعقد قلبه) لعدم اعتقاده به إذا لم يعقد قلبه عليه.

(لم يعطه الله العمل به) ولم يوفقه له ضرورة أن العمل قد يتوقف على الإعتقاد به (فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت) دل على قبول توبته إن تاب، وإنما لم ينسب الجمع هنا إلى الله تعالى كما في السابق لأن ذلك من سوء صنيعه وعوج تدبيره (وهو على تلك الحال) باقيا على الباطل (كان عند الله من المنافقين) الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم (وصار ما جرى على لسانه من

ص:212

الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه) لإنقلاب قلبه عنه.

(ولم يعطه العمل به) بسبب خذلانه وسلب توفيقه عنه ووكوله إلى نفسه وهو معنى الإضلال في قوله تعالى (يضل الله من يشاء).

(حجة عليه يوم القيامة) لتصوره إياه مع عدم اعتقاده به فيلوم نفسه متأسفا بفواته.

(فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام.. اه) أمر بالاتقاء من عقوبة الله وخذلانه والتحرز من صفات المنافقين بالسؤال المذكور للإشعار بأن ذلك لا ينال إلا بتوفيق الله والاستعانة به، واعلم أن فعل العبد وإن كان منه لكن يتوقف حصوله على أسباب ومسببات وشرائط متكثرة لو انتفت واحدة منها أو انتقصت لم يتحقق الفعل أو انتقص، وأكثرها من الله تعالى وبعضها وإن كان من العبد يتوقف على توفيق ولطف واستعانة به كما روى «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسبابها» مثلا كف بصرك عن المحارم يتوقف على العلم بنفعه وضرر ضده والقدرة عليه وإلهام حتى تنتهي إلى الكف وكل ذلك من الله تعالى إلا الأخير وهو الإرادة الجازمة المقارنة للفعل وقد ذكرنا في كتاب التوحيد جملة منها على سبيل الإجمال ولكن لا تجب علينا معرفة تفاصيل ذلك وإنما الواجب علينا عقلا ونقلا وتجربة أن نعرف أنا نحتاج في أفعالنا إلى التوسل بالله تعالى والاستعانة به وطلب التوفيق واللطف منه كما في هذه الرواية وغيرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأخبار العلوية فلذلك كرر (عليه السلام) الأمر بالتوسل به والسؤال عنه والاستعانة منه والله ولي التوفيق.

(وإن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين قبلكم) الانقلاب الرجوع والمنقلب بضم الميم وفتح اللام أما مكان أو زمان أو مصدر أي يجعل مرجعكم أو رجوعكم إلى الله تعالى في جميع الأوقات أو في وقت الاحتضار أو في القيامة مثل مرجع الصالحين أو رجوعهم في الاشتمال على السرور والكرامة والروح والراحة المعرى عن الحسرة والندامة.

(ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا) أشار إلى أن محبة الله تعالى لعبده مسببة عن طاعة الله ومتابعة الأئمة عليهم السلام استشهد لذلك بقوله:

(ألم يسمع قول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله): «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) تطبيقه على المدعى من جهة أن متابعته متابعة النبي (صلى الله عليه وآله) أو سبب لها وهي سبب لمحبة الله تعالى للعبد.

ص:213

صحيفة علي بن الحسين عليهما السلام وكلامه في الزهد

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة قال: ما سمعت بأحد من الناس كان أزهد من علي بن الحسين (عليهما السلام) إلا ما بلغني من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال أبو حمزة: كان الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا تكلم في الزهد ووعظ أبكى من بحضرته، قال أبو حمزة: وقرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين (عليهما السلام) وكتبت ما فيها ثم أتيت علي بن الحسين صلوات الله عليه فعرضت ما فيها عليه فعرفه وصححه وكان ما فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون إليها المفتتنون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غدا، واحذروا ما حذركم الله منها وأزهدوا فيما زهدكم الله فيه منها ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، والله إن لكم مما فيها عليها [ل] - دليلا وتنبيها من تصريف أيامها وتغير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها، إنها لترفع الخميل وتضع الشريف وتورد أقواما إلى النار غدا ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمتنبه، إن الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن تنبهها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله، فليس يعرف تصرف أيامها وتقلب حالاتها وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله ونهج سبيل الرشد وسلك طريق القصد، ثم استعان على ذلك بالزهد فكرر الفكر واتعظ بالصبر فازدجر، وزهد في عاجل بهجة الدنيا وتجافى عن لذاتها ورغب في دائم نعيم الآخرة وسعى لها سعيها وراقب الموت وشنىء الحياة مع القوم الظالمين، نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة حديدة البصر، وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة، فلقد لعمري استدبرتم الامور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق فاستعينوا بالله وارجعوا إلى طاعة الله وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتبع فاطيع.

ص:214

فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله والوقوف بين يديه وتا الله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم وساء مصيرهم وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه وحثه الخوف على العمل بطاعة الله وإن أرباب العلم وأتباعهم: الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه وقد قال الله تعالى:

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فلا تلتمسوا شيئا مما هذه الدنيا بمعصية الله واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله واغتنموا أيامها واسعوا لما فيه نجاتكم غدا من عذاب الله فان ذلك أقل للتبعة وأدنى من العذر وأرجا للنجاة، وقدموا أمر الله وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الامور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت من زهرة الدنيا بين يدي الله وطاعته وطاعة اولي الأمر منكم. واعلموا أنكم عبيد الله ونحن معكم يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا وهو موقفكم، ومسائلكم فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمسائلة والعرض على رب العالمين، يومئذ لا تكلم نفس إلا باذنه. واعملوا أن الله لا يصدق يومئذ كاذبا ولا يكذب صادقا ولا يرد عذر مستحق ولا يعذر غير معذور، له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل فاتقوا الله عباد الله واستقبلوا في إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادما قد ندم فيما فرط بالأمس في جنب الله وضيع من حقوق الله، واستغفروا الله وتوبوا إليه فانه يقبل التوبة ويعفو عن السيئة ويعلم ما تفعلون. وإياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنه من خالف أولياء الله ودان بغير دين الله واستبد بأمره دون أمر ولي الله كان في نار تلتهب، تأكل أبدانا قد غابت عنها أرواحها وغلبت عليها شقوتها، فهم موتى لا يجدون حر النار ولو كانوا أحياء لوجدوا مضض حر النار، واعتبروا يا أولى الأبصار واحمدوا الله على ما هداكم، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته وسيرى الله عملكم ورسوله ثم إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة وتأدبوا بآداب الصالحين.(1)

* الشرح:

(صحيفة علي بن الحسين عليهما السلام وكلامه في الزهد) الزهد ترك الدنيا وصرف الإرادة عنها والفرار عن متاعها ومناهيها وقيل: الزهد ثلاثة أحرف:

فالزاء ترك الزينة والهاء ترك الهوى والدال ترك الدنيا، وقيل: هو صرف الهمة إلى الله تعالى ورفض حلال الدنيا فضلا عن حرامها، وقال علي بن الحسين عليهما السلام: إن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).

ص:215


1- -الکافی:2/8.

(كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين) في النهاية: كفاه الله الأمر إذا قام مقامه فيه والفرق بين الثلاثة أن الظالم الخارج عن الدين مكره وخدعته لقصد إخراج الغير منه تابع لفساد قوته العقلية، والحاسد بغيه وعداوته في زوال نعمة الغير على الأنحاء الممكنة وإرادتها لنفسه تابع لفساد قوته الشهوية، والجبار تسلطه وبطشه تابع لفساد قوته الغضبية والكل خارج عن حد العدل داخل في رذيلة الإفراط.

(أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون إليها المفتتنون بها المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غدا) الطاغوت: الطاغي المتمرد عن أمر الله وكل ما عبد من دون الله ويأتي للواحد والجمع والمراد به هنا الراغب المنهمك في الدنيا وجمع أسبابها كسلطان الجور ومن دونه على تفاوت درجاتهم فلا يضلنكم ولا تمدن عينيك إلى ما هم فيه من كثرة النعم والتسلط على الغير فإنها حجب حائلة بين العبد والرب لو كانت مباحة فكيف إذا كانت محرمة، والحطام بالضم: «خرد وشكسته وريزه چيزى» والهامد: البالي المسود المتغير، واليابس من النبات والهشيم: «كياه ريزنده خشك درهم شكسته وضعيف»، والهاشم: الكاسر والبائد الزائل الهالك، و «غدا» ظرف له أو للهامد أيضا وهو كناية عن وقت الموت أو قبله في أقرب الأوقات أو بعده يوم القيامة أو الجميع والمراد بالحطام والهشيم متاع الدنيا سماه بهما ووصفه بما ذكر تحقيرا له وتنفيرا عنه على سبيل الاستعارة ووجه المشابهة أن معناهما وهو النبات اليابس كما أنه لا نفع له بالنسبة إلى ما تبقى خضرته ونضرته ويكون ذا ثمرة كذلك متاع الدنيا بالنسبة إلى الأعمال الصالحة النافعة الباقية في الآخرة على أن في الهشيم لو كان بمعنى الهاشم إشارة إلى معنى آخر وهو أنه يكسر عقله في الدنيا وقدره في الآخرة كما أن في وصفه بالبائد إشارة إلى انقطاعه وزواله سريعا فلا ينبغي أن يتوجه العاقل إلى الكاسر له والزائل عنه وقد ذكر للطواغيت وأتباعهم أوصاف أربعة مترتبة:

الأول: الرغبة في الدنيا وهي بمنزلة إرادتها بعد تصور منافعها الزائلة، والثاني: الميل إليها وهي بمنزلة العزم لها.

والثالث: الافتتان بها أي إصابة فتنتها وقبول ضلالها حتى يذهب العقل الداعي إلى الخيرات الأخروية ويحصل القوة الداعية إلى الدنيا وجمع زخارفها.

و لرابع: الإقبال عليها وصرف العمر في تحصيلها وضبطها.

(وأحذروا ما حذركم الله منها) ضمير الموصول محذوف وضمير التأنيث راجع إلى الدنيا ورجوعه إلى الموصول باعتبار إرادة الدنيا والمعصية منه لا يناسب قوله: (وأزهدوا فيما زهدكم الله فيه منها) كما لا يخفى وآيات التحذير والتزهيد أكثر من أن تحصى.

ص:216

(ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان) الركون الميل والسكون وفعله من باب علم ونصر ومنع والمراد أن الدنيا مذمومة من هذه الجهة وهي الرضا بذاتها واتخاذها وطنا ودار إقامة كما يتخذها كذلك أبناء الدنيا وإلا فهي ممدوحة من حيث أنها محل للعبادة واتخاذ زاد الآخرة وما فيها سبب للقوة عليهما وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:

«ولنعم دار من لم يرض بها دارا ومحل من لم يوطنها محلا».

(والله أن لكم مما فيها عليها لدليلا وتنبيها من تصريف أيامها وتغير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها) لعل المراد من تصريف أيامها ذهاب قوم ومجئ آخرين، لا في الذاهبين رجوع إلى الدنيا ولا في الآخرين سكون فيها ويتغير انقلابها تغير الأمن والصحة والرخاء والسراء ونحوها إلى الخوف والسقم والشدة والضراء وبالعكس، وبمثلاتها صورها وأشكالها وشدائدها وهي جمع المثلة بفتح الميم وضم الثاء بمعنى العقوبة والشدائد ويتلاعبها بأهلها عرض زينتها وأسبابها عليهم فإذا ركنوا إليها أدبرت عنهم كما أدبرت عن الماضين أو البأس أسبابها الخسيسة بالصور الحسنة وتزيينها عند أهلها وهذا العمل شبيه بالملاعبة وفي الصيغة الدالة على وقوع الفعل من الطرفين دلالة على وقوعه منها على وجه الكمال وهذا العمل كما يسمى ملاعبة كذلك يسمى خدعة وغرارا على سبيل المكنية والتخييلية وفيه ترغيب لتنبيه اللبيب في الإتعاظ من تصاريفها وتقلبها على أهلها وتغيراتها وعدم ثباتها على وجه واحد كما تشهد عليه الديار الخاوية والمنازل الخالية فإن المنتبه إذا عرف هذه الأمور اتعظ بها وعبر منها ولا يركن إليها.

(أنها لترفع الخميل وتضع الشريف وتورد أقواما إلى النار غدا) بإعطاء لذاتها الموجبة للدخول فيها ونسبة أمثال هذه الأفعال إلى الدنيا باعتبار أنها سبب متأدي لها والمراد بالخميل من خفي ذكره وصوته والساقط الذي لا نباهة له، وهذه الفقرة يحتمل أن يكون بيانا لما قبلها فإن مضمونها شبه الملاعبة.

(وفي هذا معتبر ومختبر وزاجر) أي ما ذكر من تصريف أيام الدنيا إلى آخره اعتبار وإختبار أو محل لهما، زاجر عن الميل إليها لمنتبه عاقل. وخصصه بالذكر لكونه المقصود بالخطاب وكل ذلك ظاهر لأن الدنيا ماضية بأهلها على طريقة واحدة وحالها مع القرون الباقية كحالها مع القرون الماضية والمنتبه إذا نظر إلى آفات الدنيا وتغيراتها والعقوبات النازلة فيها على اتخذها دار إقامة وشاهد أن كل ذلك أمور باطلة وأظلال زائلة ظهر في قلبه نور يمنعه عن التقحم فيها والركون إليها.

(أن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن) الظاهر أن من بيانية للأمور مع احتمال أن يكون ابتدائية لبيان منشأها والإضافة من باب جرد قطيفة، وفي بعض النسخ «من

ص:217

ملمات الفتن» والملمة: النازلة من نوازل الدهر والمراد بالفتنة: فتنة الخلفاء وبني أمية وأضرابهم وأتباعهم الجارية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا وكونها فتنة ومحنة ظاهر لشدتها على الإيمان وأهله وكثرة بلوى أهل الدين فيها بالقتل والأذى ونحوهما ويكفي في عظمتها هتكهم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتلهم الحسين (عليه السلام) وذريته وأصحابه وشيعته وسب أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمانين سنة وما أحدثوا من البلاء على شيعتهم إلى غير ذلك من منكراتهم المعروفة الجارية إلى آخر الدهر وإنما وصفها بالظلمة لأن الواقع فيها لا يجد إلى الناصر سبيلا وإلى سبيل الخلاص دليل كالساير في الظلمة وحمل الفتنة على الأعم محتمل.

(وحوادث البدع) البدعة كل ما أحدث في الدين مما لم يكن في عهد سيد المرسلين وصفها بالحدوث للكشف والإيضاح وقد أحدث العادلون عنه أحكاما غير محصورة خارجة من قانون الشرع وقع به الهرج والمرج وأنواع الشرور على أهل الإيمان (وسنن الجور) هو الظلم والضلال عن طريق الحق والسنة إذا أطلقت يراد بها ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا أضيفت يراد بها معنى تقتضيه الإضافة فالمراد بها هنا طريقة الجاير وسيرته الخبيثة كغصب الفيء والأموال وقتل النفوس والإضلال وغير ذلك من أنواع الظلم والعدوان وأنحاء البغي والطغيان. (وبوائق الزمان) أي غوائله وشروره واحدها بايقة وهي الداهية وكل ما يصعب على النفس تحمله (وهيبة السلطان) هاب الشيء يهابه إذا أخافه والهيبة المخافة وإضافتها إضافة المصدر إلى المفعول.

(ووسوسة الشيطان) لمن وجده أهلا لها ومستعدا لقبولها ليرده عن طريق الحق بالارتداد كما رد بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كثيرا من الصحابة والتابعين والشيعة ولم يبق منهم على دين الحق إلا أعناق الإسلام وأعراق الإيمان.

(لتثبط القلوب عن تنبهها) أي تشغلها وتعوقها لكمال حيرتها ودهشتها عن فطنتها ويقظتها أو عن إدراكها وجه فسادها وكيفية التخلص منها وهذا في اللفظ خبر وفي المعنى زجر عن تثبط القلوب بأمثال هذه الموانع عن الحق ومعرفة أهله بالتفكر في أن هذه الأمور خارجة من القوانين العدلية وزمانها قليل منصرم وعقوبة مخالفة الحق وأهله شديدة دائمية.

(وتذهلها عن موجود الهدى) أي تنسيها عن الهدى الموجود بينهم وهو الإمام المنصوب من قبل الله تعالى أو دينه الحق والقرآن الكريم وعرفة أهل الحق وهم الأوصياء وأتباعهم ولعل الذهول المفهوم من الإذهال كناية عن الترك والخروج من الحق إلى الباطل (إلا قليلا ممن عصم الله) وهم الذين آمنوا بالله وبرسوله وبالأئمة عليهم السلام في الميثاق وقد مر في كتاب الحجة أن من آمن بهم في الدنيا ولم يؤمن بهم في العهد الأول كان إيمانه غير مستقر ويخرج من الدنيا بغير إيمان.

ص:218

(وعاقبة ضرر فتنتها) ضررها الخروج من الدين وعاقبته الدخول في النار والإضافة بيانية (نهج سبيل الرشد) أي سلكه والرشد الهداية والاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه (وسلك طريق القصد) وهو طريق العدل وضد الإفراط كالإقتصاد. (بالزهد) في فضول الدنيا وزوائدها وإن كانت حلالا (فكرر الفكر في أحوالها) وانتقل إلى مآلها وتكراره يوجب ملكة الاعتبار وقوة الإزدجار.

(واتعظ بالصبر فازدجر) الإتعاظ: قبول الوعظ من الواعظ الأمين والإزدجار: منع النفس من الميل إلى الدنيا أي اتعظ من أحوال الماضين أو من أحوال الدنيا مع أهلها متلبسا بالصبر على مكارهها ونوازلها فازدجر من الركون إليها والوقوف عليها وجعل الباء صلة للإتعاظ بعيد.

(وزهد في عاجل بهجة الدنيا) بهجة الدنيا نعيمها وحسنها وزينتها وإضافة العاجل إليها اما بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف.

(وتجافى عن لذتها) التجافي من الجفاء وهو البعد عن الشيء (ورغب في دائم نعيم الآخرة) الذي لا ينقطع طول الزمان.

(وسعى لها سعيها) في ذكر المصدر وإضافته إلى الآخرة مبالغة وترغيب في السعي والاجتهاد لها والإتيان بأسبابها ومنافعها على قدر الإمكان.

(وراقب الموت) مراقبة الموت وإنتظاره يزعج النفوس إلى الاستعداد لأمور الآخرة وقطع طريق الجنة وسلوك سبيلها ومما يعين على مراقبته أن يتصور أيام عمره فراسخ وساعاته أميالا وأنفاسه خطوات فكم من شخص بقيت له فراسخ وآخر بقيت له أميال وآخر بقيت له خطوات ولما لم يكن له علم ببقاء شيء من ذلك فليجوز وجود الموت في الآن الموجود هو فيه وليتعوذ بالله من وروده على غير عدة.

(وشنيء الحياة مع القوم الظالمين) شنأه كمنعه وسمعه شنئا أبغضه وذلك لعلمه بأن في الميل إليهم فساد الدين وفي الرغبة عنهم هلاك النفس مع كراهته مشاهدة معصية الرب.

(نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة) ظاهرة وباطنة وهذا كالتأكيد للسابق ولذا ترك العاطف (حديدة النظر) يبلغ نظره إلى أقصى ما فيها من المفاسد والمقابح.

(وأبصر حوادث الفتن) المذكورة وغيرها مما في الاعصار السابقة والحاضرة (وضلال البدع) الحادثة في الدين من ابتدع المضلين.

(وجور الملوك الظلمة) بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من سيرتهم الخبيثة وسنتهم السيئة.

(فقد لعمري استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة) أي فقد استدبرتم، حذف الفعل لوجود المفسر وقد لتقريب الماضي إلى الحال لإحضار مضمونه عند

ص:219

المخاطب وهو أدخل في التحريص على التفكر فيه واللام للابتداء والخبر محذوف وجوبا لقيام جواب القسم مقامه أي لواهب عمري على حذف المضاف أو المراد به صورة القسم تأكيدا لمضمون الكلام وترويجه وليس المراد به القسم حقيقة فلا يرد أنه لا يقسم بغير الله والعمر بالضم والفتح وفي القسم بالفتح فقط البقاء والزمان المقدر له، والركم بالسكون جمع شيء فوق آخر حتى يصير ركاما مركوما كركام الرمل وارتكم الشيء وتراكم اجتمع.

(والانهماك فيما تستدلون به) عطف على الفتن أو على الأمور احتمال بعيد واللام عوض عن الإضافة أي انهماكهم ولجاجهم وتماديهم فيما يستدلون به من غيهم وبدعهم وبغيهم وفسادهم في الأرض وما ورد عليهم بسبب ذلك من الإستيصال والنكال والعقوبات الدنيوية فإنكم إذا تأملتم في قوم نوح وعاد وشداد وثمود وفي قوم لوط وفرعون وقارون وهود إلى غير ذلك مما اشتمل عليه القرآن الكريم والخبر وذكره أرباب الأثر والسير يمكنكم الإستدلال به (على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض) بغير الحق فإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وازدجار لأهل الاعتبار. (فاستعينوا بالله) على التجنب منهم ومن صفاتهم، أو على دفع الشدائد كلها فإن الانقطاع إلى الله وإلى معونته مادة كل مطلوب ووسيلة كل مرغوب والسعيد من استعان به في جلب الفوائد ورفع الشدائد (وارجعوا إلى طاعة الله وطاعة من هو أولى بالطاعة) وهم النبي والأوصياء عليهم السلام.

(ممن اتبع فاطيع) كالخلفاء وأضرابهم في الجور والتفريع يدل على أن الاتباع غير الإطاعة وهو كذلك لأن الأول اعتقاد أنه حق والثاني اقتفاؤه في أقواله وأفعاله وسيرته المبتدعة والمراد بالاتباع اتباع الأولين وبالإطاعة إطاعة الآخرين كالأغنام يعد وبعضهم عقب بعض (فالحذر الحذر) أي ألزمو الحذر والاحتراز من موافقة الغواة وأهل البدع والبغي والفساد أو من مخالفة الله ومخالفة من وجبت طاعته أو من جميع القبايح أو من الجميع والتكرير للتأكيد (من قبل الندامة والحسرة) حيث لا تنفعان وهو وقت الموت وما بعده والفرق بينهما أن الندامة على فعل ما لا ينبغي والحسرة على ترك ما ينبغي.

(والقدوم على الله والوقوف بين يديه) للحساب والجزاء والعطف للتفسير ويمكن أن يكون القدوم في البرزخ الوقوف في الحشر.

(وتالله ما صدر قوم عن معصية الله إلا إلى عذابه) أي ما رجعوا عن معصية لله تعالى وما فرغوا منها إلا إلى عذابه، فيدل مقارنة العذاب للمعصية من غير مفارقة بينهما ولا مهلة فإن جهنم لمحيطة بالكافرين.

ص:220

(وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم وساء مصيرهم) إيثارهم إما بطلب الزائد عن قدر الحاجة أو بطلبه من شبهة أو من غير حل أو بمنع الحقوق خوفا من النقص أو بطلبها المفضى إلى التقصير في العمل للآخرة أو إلى تركه رأسا أو إلى إنكاره وإنكار أهله سيما الإمام الهادي، وسوء المنقلب متفاوت وكل لاحق أسوء منقلبا من السابق.

(وما العلم بالله والعمل إلا الفان مؤتلفان) وفي المصباح: ألفته من باب علم آنسته وأحببته واسم الفاعل أليف مثل عليم وآلف مثل عالم، وفي القاموس: الألف بالكسر والألف ككتف الأليف وعلى هذا يجوز في الفان مد الألف وكسرها وفتحها مع كسر اللام، وفي وصفهما بالإيتلاف مبالغة في وجود الألفة بينهما حتى لا يرضى أحدهما وجوده بدون الآخر كما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«العلم مقرون إلى العمل فمن علم عمل ومن عمل علم والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه».

(فمن عرف الله خافه) لظهور أن من عرف عظمته وكبرياءه وغناه عن الخلق وغضبه وقهره وكمال قدرته عليهم وعلى تعذيبهم واهلاكهم من غير أن يسأله سائل أو يمنعه مانع أو يعود إليه ضرر وعرف كمال إحتياجهم إليه في الوجود والبقاء في جميع الحالات حصلت له حالة نفسانية موجبة لاضطرابه تحت الهيبة وهذه الحالة تسمى خوفا ولها مراتب غير محصورة بحسب تفاوت مراتب المعرفة.

(وحثه الخوف على العمل بطاعة الله) لأن الخوف يحرك الخائف إلى ما يوجب القرب والاستعداد لفيضه ورفض ما يورث البعد عنه والاستحقاق لفيضه فيعمل بطاعته ويطهر ظاهره وباطنه عن الرذايل الموجبة للعقوبة والخذلان وبزينهما بالفضايل الموجبة للأمن والأمان (وأن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله وعملوا له ورغبوا إليه) الموصول خبر ان والمراد بأرباب العلم الأئمة عليهم السلام أو علماء الشيعة أيضا وبأتباعهم الشيعة وأما غيرهم فلم يعرفوا الله ولم يعملوا له لأن أصولهم فاسدة وطاعتهم باطلة.

(وقد قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)) هم العلماء الربانيون الذين لهم معرفة بالله وبدينه على وجه يمنعهم من الركون إلى الدنيا وشهواتها ويزجرهم عن متابعة النفس ومشتهياتها ويبعثهم على عمل الآخرة وهم الموصوفون بالخشية وغيرها من الكمالات، ثم الخوف والخشية في اللغة بمعنى واحد فتم الاستشهاد بالآية إلا أن بينهما في عرف العارفين فرقا كما أشار إليه المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف وهو أن الخوف ألم النفس من المكروه والمنتظر والعقاب المتوقع بسبب احتمال فعل المنهيات وترك الطاعات، والخشية: حالة نفسانية تنشأ من الشعور بعظمة الرب وهيبته وخوف الحجاب عنه بسبب الوقوف على النقصان والتقصير

ص:221

في أداء حقوق العبودية ورعاية الأدب فهي خوف خاص وإليه يرشد قوله تعالى: (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب).

(فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله) نهى عن اكتساب المعصية مطلقا ومنها الدنيا المانعة من الطاعة أو المفيضة إلى ترك الطهارة كبعض الأسفار للتجارة (واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله) في أوقاتها بشرايطها.

(واغتنموا أيامها) إذ لا يمكن التدارك بعد الفراغ من الدنيا وضمير التأنيث لها وللطاعة (واسعوا لما فيه نجاتكم غدا) من عذاب الله من المفروضات والمندوبات.

(فإن ذلك أقل للتبعة وأدنى من العذر) أي أقرب منه والتبعة بفتح التاء وكسر الباء على أحد من حق الغير سمي بها لأن صاحبه يتبعه ويطلبه ويطلب منه، وفيه تنبيه على أن العبد وإن اجتهد في الطاعة هو بعد في مقام التقصير إلا أن عذره لقلة تبعته قريب من القبول. (وأرجى للنجاة من العقوبة) وفيه إشعار بأن العامل المطيع لا ينبغي له الجزم بنجاته والاعتماد بعمله وإنما له رجاء النجاة كما دلت عليه الآيات والروايات والله سبحانه لا يخيب رجاءه إن شاء الله.

(وقدموا أمر الله.. اه) أمر بتقديم أمر الله تعالى وطاعة الإمام المنصوب من قبله على جميع الأمور الدنيوية وإن كانت مباحة ولا يتحقق ذلك إلا بمراقبة العبد جميع حركاته وسكناته (ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت.. اه) من الأولى بيان للأمور أو ابتدائية لها وكذا الثانية يعطفها على الأولى من غير عاطف وتركها شايع ويحتمل أن يكون الثانية بيانا لطاعة الطواغيت أو ابتدائية لها والمراد بزهرة الدنيا متاعها سمي بها لحسنه وزينته ونضارته وكثرة خيره عند أهله وقد نهى (عليه السلام) عن تقديم طاعة الطواغيت من الجن والإنس وتقديم زهرات الدنيا ومتاعها على أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر كما هو شأن أكثر الناس ذلك يوجب الدخول في النار وغضب الجبار كما نطق به الآيات والروايات.

(واعلموا أنكم عبيد الله ونحن معكم) أي بين أظهركم إن أريد به المعية في الوجود أو عالمون بأحوالكم وأعمالكم وقد مر في الأصول أنهم عليهم السلام يعلمونها وفيه على الأول إشارة إلى أنه ينبغي تصحيح جميع الأعمال والأخلاق.

(يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا) أي يحكم علينا من جهة الهداية والإرشاد وعليكم من جهة الطاعة والانقياد سيد متول لأمور الخلائق، حاكم عليهم غدا صبح يوم القيامة لا يرد أحد حكمه.

(وهو موقفكم ومسائلكم) عن دينكم وإمامكم وعقائدكم وأعمالكم ومكسب أموالكم ومصرفها لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وهو يسألها.

(فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمسائلة والعرض على رب العالمين) أي فأعدوا الجواب

ص:222

النافع لكم وحاسبوا أنفسكم قبل الوقوف بين يدي الله عز وجل وقبل المسائلة والعرض عليه ولعل الغرض من الأمر بإعداد الجواب هو الحث على الإتيان بما فيه رضاه وفي ذكر الرب ترغيب فيه لأن من أخرجكم من العدم إلى الوجود ورباكم من حد النقص إلى الكمال استحق منكم الإتيان بمراضيه والاجتناب من مناهيه.

(يومئذ لا تكلم نفس إلا بإذنه) هذه الكلمة الشريفة محركة إلى الخيرات كلها فإن كل أحد يتشبث يوم القيامة بأمر ينجيه من العذاب مثل الشفاعة والطاعة والإحسان إلى الخلق وغيرها مما فيه رضاه تعالى وكلفه به فإنه كان صادقا يؤذن له ويصدق وإلا فلا كما أشار إليه بقوله (واعلموا أن الله لا يصدق يومئذ كاذبا) فإن الكذب غير مصدق خصوصا في ذلك اليوم الذي لا رواج للكذب فيه وهو يوم بروز الكامنات وظهور الفاضحات ولا يكذب صادقا فيما توسل به كيف وهو يوم ينفع الصادقين صدقهم ولا يرد عذر مستحق لقبوله كمن ترك الصلاة قائما وصلاها جالسا أو موميا أو مع النجاسة لعدم القدرة أو تبرء من الإمام ظاهرا أو لم يظهر الإيمان للتقية وأمثال ذلك مما له عذر.

(ولا يعذر غير معذور) عذرته فيما صنع عذرا من باب ضرب رفعت منه اللوم فهو معذور أي غير ملوم والاسم العذر أي يلوم ويعاقب من ليس له عذر في ترك ما أمر به من طاعته وطاعة رسوله وطاعة ولي الأمر بعدها إذ ليس له حجة وعذر على الله بعد البيان وإنما الحجة لله عليه كما أشار إليه بقوله: (له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل) فمن أعرض عنهم ورجع إلى الطاغوت واتبع هواه في زهرات الدنيا وأصول الدين وفروعه محجوج معاقب يوم التناد وملوم معاقب على رؤوس الأشهاد ولما كانت التقوى أعظم ما ينتفع به العبد في الدنيا والآخرة حث عليها بقوله: (فاتقوا الله عباد الله بلزوم خوفه) في مراعاة حقوقه وحقوق خلقه، والتقوى: ملكة واقية للعبد عما يورث الندامة يوم القيامة وموصلة له إلى أرفع المقام وأشرف الكرامة كما قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

(واستقبلوا في إصلاح أنفسكم) فيما بينكم وبين الخالق والمخلوق وحقيقته تهذيب النفس عن الرذائل وتزيينها بالفضائل، وتعدية الاستقبال في باعتبار تضمينه بمعنى السعي أو الشروع أو هي بمعنى على كما في قوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل)(1).

(وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها) أول الطاعة معرفتهم والتصديق بما يليق بهم ثم الانقياد والتسليم لهم في الأوامر والنواهي ثم الاستعانة بهم والتوصل إليهم في جميع الأمور.

(لعل نادما قد ندم فيما فرط بالأمس في جنب الله وضيع من حقوق الله) الجنب يطلق على

ص:223


1- -سورة طه: 71.

الأمر وعلى معظم الشيء والولاية معظم أمر الله وحقوقه. ولعل كلمة رجاء وطمع وشك وإنما رجا (عليه السلام) وجود نادم من التفريط والتضييع فيما مضى من الحقوق اللازمة لقلة وجوده، وقيل: معناه أنه يمكن أن يندم نادم يوم القيامة على ما فرط وضيع في الدنيا وإمكان ذلك كاف في الحذر فكيف مع تحققه.

(واستغفروا الله وتوبوا إليه) الاستغفار: طلب الغفر وهو الستر من الذنوب خوفا من مخالفة رب العالمين وإكشاف القبايح عند المقربين وهو سبب للعوض في الدنيا بإنزال البركات وفي الآخرة برفع الدرجات كما قال الله تعالى حكاية: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) والتوبة: الندم على الذنب وتركه لقبحه والعزم على عدم العود إليه مع تدارك ما أمكن تداركه من الأعمال الفائتة ورد المظالم إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه (فإنه يقبل التوبة ويعفوا عن السيئة) كما دلت عليه الآيات والروايات وإجماع أهل الإسلام ولعل المراد بقبولها إسقاط العقاب المرتب على الذنب الذي تاب منه تفضلا ورحمة بعباده كما ذهب إليه الأشاعرة والشيخ الطوسي في الإقتصاد والعلامة في بعض كتبه الكلامية وعلى هذا قوله: (ويعفو عن السيئة) التي تاب منها وقال المعتزلة: إن قبول التوبة واجب على الله تعالى حتى لو عاقب بعدها كان ظلما وتوقف المحقق في التجريد ومال الشيخ في الأربعين إلى الأول حيث قال: ومختار الشيخين هو الظاهر ودليل الوجوب مدخول (ويعلم ما تفعلون) فيه وعد بالثواب بفعل الطاعات ووعيد بالعقاب بفعل المنهيات وترغيب في تركها لأن المرايد لها إذا علم أن عليه رقيبا يتركها حياء.

(وإياكم وصحبة العاصين) إلا مع إرادة نصحهم مع توقع التأثير وذلك للفرار من اللعن والعذاب النازل عليهم ولئلا يميل الطبع إلى طبعهم.

(ومعونة الظالمين) في ظلمهم أو فيما يعود إليه أو يوجبه والأحوط ترك معونتهم مطلقا لعموم الآية والرواية (ومجاورة الفاسقين) بالسكنى في دارهم أو في جوارهم أو في بلادهم كما يظهر من بعض الروايات (احذروا فتنتهم) الفتنة الإضلال والفضيحة والمحنة والعذاب والإثم وهذا ناظر إلى الأولين أو إلى الأخير أيضا.

(وتباعدوا من ساحتهم) أي ناحيتهم وفناء ديارهم وهو ناظر إلى الأخير.

(واعلموا أنه من خالف أولياء الله) برد أقوالهم أو أفعالهم أو عقايدهم أو أوامرهم ونواهيهم وآدابهم أو بالشك فيها والأولياء هم السالكون طريق الحق بالمحبة الصادقة والرغبة التامة وهم الأئمة عليهم السلام. (ودان بغير دين الله) أي من أخذ دينا مغايرا لدين الله أو عبد الله وأطاعه بغير دينه الذي جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) (واستبد بأمره دون أمر ولي الله) انفرد بأمره وعمل برأيه متجاوزا

ص:224

عن أمر ولي الله غير متمسك به.

(كان في نار تلتهب) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: كان بالتشديد ليكون من الحروف المشبهة بالفعل والمراد أن حاله هكذا ي الدنيا في نظر أولياء الله، أقول الجزاء حينئذ غير مرتبط بالشرط وتقدير العائد خلاف الظاهر والظاهر أن كان ناقصة وأنه شبه أعماله القبيحة وأخلاقه الذميمة وعقايده الفاسدة بالنار في الإهلاك واستعار لفظ النار لها ورشح بذكر الإلتهاب أو سماها نارا مجازا مرسلا باعتبار أنها تصير نارا في القيامة. قال الشيخ في الأربعين: نقلا عن بعض العارفين مع تصويبه أن الحيات والعقارب والميزان في القيامة بعينها تلك الأعمال والأخلاق والعقائد الباطلة وإن اسم الفاعل في قوله تعالى: (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) للحال وعلى حقيقته لا للاستقبال كما قيل وأن قبايحهم الخلقية والعملية والاعتقادية محيطة بهم في هذه النشأة وهي بعينها جهنم التي ستظهر عليهم في النشأة الأخروية بصورة النار وعقاربها وحياتها، ويحتمل أن يراد بالنار البعد والحرمان والسخط والخذلان على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل من باب تسمية السبب باسم المسبب. (تأكل أبدانا) أي تحرقها أو تحكها أو تفسدها بتشبيه النار بالأكل في الفناء والإفساد وإثبات الأكل لها مكنية وتخييلية.

(قد غابت عنها أرواحها) من باب نسبة الجمع إلى الجمع بالتوزيع والمراد بغيوبها فسادها بالمهلكات (وغلبت عليها شقوتها) الشقوة بالكسر ضد السعادة والشقوة الغالبة هي المخرجة عن الإيمان. (فهم موتى لا يجدون حر النار) كما لم يجده الميت لفقد شرطه وهو الروح والشعور وبالجملة كما أنه لابد في إدراك المعقولات من شعور خاص كذلك لابد في إدراك المحسوسات أيضا من شعور خاص ولم يوجد فيهم لأنهم بمنزلة الموتى مع أن الحكمة مقتضية لعدم وجدانه (ولو كانوا أحياء) كما يكون يوم القيامة (لوجدوا مضض حر النار) كما يجدون فيه والمضض محركة الألم والوجع (فاعتبروا يا أولي الأبصار) خطاب للشيعة وإنما أمرهم بالاعتبار من أحوالهم للفرار من مآلهم. (واحمدوا الله على ما هداكم) دل على أن الهداية موهبة من الله تعالى يلقيها في القلب ويوفق من قبلها.

(واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته) لأن قدرته دائمة أبدية فلا مفر لكم إلى غيره ففروا إلى الله، أو المراد منه سلب القدرة والقوة عن النفس والتمسك بقدرة الله وقوته في جميع الأمور (وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون) فيه وعد ووعيد وترغيب في العمل الصالح وتنفير عن القبايح روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن الرضا عليهم السلام «إن أعمال العباد تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة عليهم السلام قرأوا قوله تعالى: (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قالوا: المؤمنون علي بن أبي طالب والأئمة

ص:225

عليهم السلام وفي رواية أخرى «فلا تسوؤا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسروه». (فانتفعوا بالعظة) هي بالكسر المنع من الدخول فيما منعه الله تعالى وحرمه. (وتأدبوا بآداب الصالحين) أدبه فتأدب أي علمه فتعلم أو الأدب كل ما فيه صلاح النفس سمي أدبا لأنه تعالى دعاهم إليه.

* الأصل:

3 - أحمد بن محمد بن أحمد الكوفي وهو العاصمي، عن عبد الواحد بن الصواف، عن محمد ابن إسماعيل الهمداني، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي أصحابه ويقول: أوصيكم بتقوى الله فإنها غبطة الطالب الراجي وثقة الهارب اللاجي واستشعروا التقوى شعارا باطنا واذكروا الله ذكرا خالصا تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طريق النجاة، انظروا في الدنيا نظر الزاهد المفارق لها فإنها تزيل الثاوي الساكن وتفجع المترف الآمن ولا يرجى منها ما تولى فأدبر ولا يدري ما هو آت منها فينتظر، وصل البلاء منها الرخاء والبقاء منها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، والبقاء فيها إلى الضعف والوهن، فهي كروضة اعتم مرعاها وأعجبت من يراها، عذب شربها، طيب تربها، تمج عروقها الثرى، وتنطف فروعها الندي، حتى إذا بلغ الشعب إبانه واستوى بنانه هاجت ريح تحت الورق وتفرق ما اتسق فأصبحت كما قال الله:

(هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا) انظروا في الدنيا في كثرة ما يعجبكم وقلة ما ينفعكم.(1)

* الشرح:

(قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي أصحابه ويقول: أوصيكم بتقوى الله) بالتجنب عن المعاصي والتنزه عما يشغل القلب عنه تعالى وهي أكمل ما ينفع في الدنيا والآخرة ولذلك بعد الوصية بها ذكر لها غايتين للترغيب فيها الأول أنها لعظم ثوابها في الآخرة يتمنى الناظر إليها منزلة صاحبها، الثانية أنها واقية تقي صاحبها عن المكاره والعقوبات الدنيوية والأخروية وإلى الأولى أشار بقوله: (فإنها غبطة الطالب الراجي) الغبطة بالكسر: النعمة والمسرة وحسن الحال من غبطته كضربته وسمعته إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ما يكون له من غير أن يزول عنه فأنت غابط وذاك مغبوط ولعل المقصود أن التقوى غبطة لطالب لقاء الله الراجي له ونعمة عظيمة توجب علو منزلته ورفع درجته إلى حد يتمنى الناظر إليه منزلته وإنما جعلنا الطالب مغبوطا لا غابطا لأن إضافة الغبطة إليه بتقدير اللام المفيدة للاختصاص تقتضي ذلك وأشار إلى الثانية بقوله: (وثقة الهارب اللاجي) الثقة مصدر بمعنى: الأحكام والاعتماد وغير مصدر بمعنى المحكم والمعتمد، والظاهر أن المراد هنا هو الثاني يعني أن التقوى ثقة للهارب من المكاره والعقوبات في الدنيا والآخرة واللاجي إلى

ص:226


1- -الکافی:15/8.

الله منها وإلى هاتين الغايتين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله: «فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة وفي غد الطريق إلى الجنة» أراد باليوم مدة الحياة وبالغد القيامة يعني أن التقوى في حال الحياة حرز من المكاره وفي الآخرة حرز من العقوبات والشدائد كما ينطق به قوله تعالى:

(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) حيث دل على أن التقوى مناط للخروج من المضائق والمفاسد والوصول إلى المنافع والفوائد ثم أمر بالتزامها بقوله: (واستشعروا التقوى شعارا باطنا) الشعار بالكسر وقد يفتح الثوب الذي تلى الجسد لأنه يلي شعره واستشعره لبسه وشعارا إما حال عن التقوى أو مفعول بتضمين معنى الجعل والإتخاذ وإطلاقه على التقوى على وجه استعارته من الثوب لها والوجه ملازمة الجسد والإحاطة به مع الإشعار بلزوم خفائها وخلوصها عن الرياء والسمعة كخفاء الشعار بالدثار وفي وصفه بالباطن لقصد الإيضاح إيماء إليه ثم أمر بعد الحث على التقوى بما هو عبادة وأصل لجميع العبادات بل هو روح لها بقوله:

(واذكر الله) بالقلب واللسان وعند الطاعة والمعصية (ذكرا خالصا) من الرياء والسمعة فإنكم إن ذكرتموه (تحيوا به أفضل الحياة) في الجنة مع الأبرار أو أراد به حياة القلب بروح الأذكار (تسلكوا به طريق النجاة) من العقوبات وهي طريق الجنة فإن الذكر مع كونه عبادة وسببا لسلوك طريقتها سبب أيضا لكمال غيره من العبادات الباعثة للنجاة (انظروا في الدنيا نظر الزاهد المفارق لها) أمر بترك الدنيا واحتقارها إلا بمقدار الضرورة، علل ذلك بذكر معايبها المنفرة عنها بقوله:

(فإنها تزيل الثاوي الساكن) أي تزيل المقيم الساكن المطمئن إليها عما ركن إليه منها (وتفجع المترف الأمن) الفجع: الإيجاع والإيلام فجعه كمنعه أوجعه كفجعه والترفة بالضم: النعمة والطعام الطيب والشيء الطريف أترفته النعمة أطعمته والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء والمتنعم لا يمنع من تنعمه الحياء. أي الدنيا تفجع المتنعم بها الذي خدعته بأمانيها بسلب ما ركن إليه وأمن عليه زوال ماله وتغير حاله أو المراد بالأمن الأمن من الموت وما بعده فإن المترف الغافل حال إنهماكه في لذات الدنيا لا يعرض له خوف الموت بل يكون في تلك الحال آمنا منه (ولا يرجى منا ما تولى فأدبر) أي أعرض وولى الدبر من شباب وصحة ومال وعمر ونحوها.

(ولا يدري ما هو آت منها فينتظر) إذ لا علم بالمستقبل منها من خير فينتظر وروده ولا من شر فيحترز منه (وصل البلاء منها بالرخاء والبقاء منها إلى فناء) وصل الشيء بالشيء وصلا وصلة بلغة وانتهى إليه وفيه تحريك للغافل بأن لا يرضى بالرخاء المتصل بالفناء.

(فسرورها مشوب بالحزن) أي مختلط مشبك به وفي بعض النسخ مشرب والإشراب: خلط لون بلون آخر كان أحد اللونين سقي اللون الآخر والتشريب مثله مع المبالغة والتكثير، والمراد به

ص:227

هنا مطلق الخلط وهذا ناظر إلى وصل البلاء بالرخاء.

(والبقاء فيها إلى الضعف والوهن) كما قال عز وجل: (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) ولعل العطف للتفسير ويمكن أن يراد بالضعف ضعف القوى والحواس وبالوهن وهن العظم وسائر الأعضاء وهذا ناظر إلى وصل البقاء بالفناء.

(فهي كروضة اعتم مرعاها) اعتم النبت بشد الميم: اكتهل أي أتم طوله وظهر نوره (وأعجت من يراها) بحسن منظرها وكمال زينتها.

(عذب شربها) استعار الشرب بالكسر وهو الماء للذات الدنيا ورشحها بذكر العذب في ميل الطبع إليها (طيب تربها) لما فيه من أنواع الأشجار والأزهار والأثمار وغيرها مما يعجب النفس ويبعث الميل إليها.

(تمج عروقها الثرى وتنطف فروعها الندى) الثرى بفتح الثاء والراء: الندى التراب الندى أو الذي إذا بل لم يصر طينا لازبا ولعل المراد هو الأول والمج الرمي يقال: مج الرجل الماء من فمه من باب نصر إذا رماه. ونطف الماء من باب نصر وضرب إذا قطر قليلا قليلا أو إذا سال والمقصود بيان كثرة مائها بحيث ترميه عروقها وفروعها وإنما قلنا: لعل لأنه لو أريد الثاني لكان له أيضا وجه وهو أي عروقها ترمي التراب عن جنبيها وتنقب فيه لقوتها.

(حتى إذا بلغ العشب أبانه) العشب بالضم: الكلاء ما دام رطبا وأبان الشيء وقت ظهوره وكماله والنون أصلية فيكون فعالا بكسر الفاء وقيل: هي زايدة وهو فعلان من أب الشيء إذا تهيأ للذهاب.

(واستوى بنانه) وتم قوته (هاجت ريح تحت الورق وتفرق ما اتسق) حت الورق بتشديد التاء فركها وقشرها فانحتت وتحاتت أي سقطت والورق محركة من الشجر معروفة والواحدة بهاء وتطلق على جمال الدنيا وبهجتها أيضا، وتفرق من التفريق وعطف على تحت والمراد به تفريق انتظامها وإزالة اجتماعها حتى كان لم تكن كما أشار إليه بقوله: (كما قال الله تعالى (هشيما)) أي مهشوما مكسورا (تذروه الرياح) أي اطارته من مكانه إلى أمكنة متفرقة (وكان الله على كل شيء مقتدرا) في غاية الاقتدار على إيجاده وإفنائه بلا مانع يمنعه ولا دافع يدفعه (انظروا في الدنيا في كثرة ما يعجبكم وقلة ما ينفعكم) ختم الكلام بعد ذم الدنيا والركون إليها بالنهي عن الاغترار بكثرة ما يعجبكم منها وعلله بقلة ما ينفعكم منها وقوله: «في كثرة» بدل لقوله: «في الدنيا» أو «في» بمعنى على أو مع والله ولي التوفيق.

ص:228

خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

4 - محمد بن علي بن معمر، عن محمد بن علي بن عكاية التميمي، عن الحسين بن النضر الفهري، عن أبي عمرو الأوزاعي، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: يا بن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها فقال: يا جابر ألا أوقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ومن أي جهة تفرقوا؟ قلت: بلى يا بن رسول الله.

قال: فلا تختلف إذا اختلفوا يا جابر إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أيامه، يا جابر اسمع وع، قلت: إذا شئت، قال: اسمع ودع وبلغ حيث انتهت بك راحلتك إن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه فقال: الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده وحجب العقول أن تتخيل ذاته لامتناعها من الشبه والتشاكل بل هو الذي لا يتفاوت في ذاته ولا يتبعض بتجزئة العدد في كماله، فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ويكون فيها لا على وجه الممازجة، وعلمها لا بأداة، لا يكون العلم إلا بها وليس بينه وبين معلومه علم غيره به كان عالما بمعلومه، إن قيل: كان فعلى تأويل أزلية الوجود وإن قيل: لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم، فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلها غيره علوا كبيرا.

نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه وأوجب قبوله على نفسه وأشهد أن لا إله إلا الله حده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خف ميزان ترفعان منه وثقل ميزان توضعان فيه وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار والجواز على الصراط بالشهادة تدخلون الجنة بالصلاة تنالون الرحمة، أكثروا من الصلاة على نبيكم (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) صلى الله عليه وآله وسلم تسليما.

أيها الناس إنه لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى ولا معقل أحرز من الورع ولا شفيع أنجح من التوبة ولا لباس أجمل من العافية ولا وقاية أمنع من السلامة ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقناعة ولا كنز أغنى من القنوع ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة، والرغبة مفتاح التعب والاحتكار مطية النصب والحسد آفة الدين والحرص داع إلى التقحم في الذنوب وهو داع إلى الحرمان والبغي سائق إلى الحين والشره جامع لمساوي العيوب

ص:229

رب طمع خائب وأمل كاذب ورجاء يؤدي إلى الحرمان وتجارة تؤول إلى الخسران، ألا ومن تورط في الامور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفضحات النوائب وبئست القلادة قلادة الذنب للمؤمن.

أيها الناس إنه لا كنز أنفع من العلم، ولا عز أرفع من الحلم، ولا حسب أبلغ من الأدب ولا نسب أوضع من الغضب، ولا جمال أزين من العقل، ولا سوأة أسوء من الكذب، ولا حافظ أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.

أيها الناس [إنه] من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته، ومن نسي زلله استعظم زلل غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه على الناس شتم، ومن خالط الأنذال حقر، ومن حمل ما لا يطيق عجز.

أيها الناس إنه لا مال [هو] أعود من العقل، ولا فقر [هو] أشد من الجهل ولا واعظ [هو] أبلغ من النصح، ولا عقل كالتدبر، ولا عبادة كالتفكر، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا وحشة أشد من العجب، ولا ورع كالكف عن المحارم، ولا حلم كالصبر والصمت.

أيها الناس في الإنسان عشر خصال يظهرها لسانه: شاهد يخبر عن الضمير، حاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع يدرك به الحاجة، وواصف يعرف به الأشياء، وأمير يأمر بالحسن، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعز تسكن به الأحزان، وحاضر تجلى به الضغائن، ومونق تلتذ به الأسماع.

أيها الناس إنه لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل وأعلموا أيها الناس إنه من لم يملك لسانه يندم، ومن لا يعلم بجهل، ومن لا يتحلم لا يحلم، ومن لا يرتدع لا يعقل، ومن لا يعقل يهن، ومن يهن لا يوقر، ومن لا يوقر يتوبخ، ومن يكتسب مالا من غير حقه يصرفه في غير أجره، ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم، ومن لم يعط قاعدا منع قائما، ومن يطلب العز بغير حق يذل، ومن يغلب بالجور يغلب، ومن عاند الحق لزمه الوهن، ومن تفقه وقر، ومن تكبر حقر، ومن لا يحسن لا يحمد.

أيها الناس إن المنية قبل الدنية، والتجلد قبل التبلد، والحساب قبل العقاب، والقبر خير من الفقر، وغض البصر خير من كثير من النظر، والدهر يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فبكليهما تمتحن - وفي نسخة: وكلاهما سيختبر -.

أيها الناس أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها فإن سنح له

ص:230

الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة - وفي نسخة: أخذته الغرة، - وإن جددت له نعمة أخذته العزة، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء - وفي نسخة: جهده البكاء - وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد.

أيها الناس إنه من قل ذل، ومن جاد ساد، ومن كثر ماله رأس، ومن كثر حلمه نبل، ومن أفكر في ذات الله تزندق، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته.

فسد حسب من ليس له أدب، إن أفضل الفعال صيانة العرض بالمال، ليس من جالس الجاهل بذي معقول، من جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال، لن ينجو من الموت غني بماله ولا فقير لإقلاله. أيها الناس لو أن الموت يشترى لاشتراه من أهل الدنيا الكريم الأبلج واللئيم الملهوج.

أيها الناس إن للقلوب شواهد تجري الأنفس عن مدرجة أهل التفريط، وفطنة الفهم للمواعظ ما يدعو النفس إلى الحذر من الخطر، وللقلوب خواطر للهوى، والعقول تزجر وتنهى، وفي التجارب علم مستأنف، والاعتبار يقود إلى الرشاد، وكفاك أدبا لنفسك ما تكرهه لغيرك، وعليك لأخيك المؤمن مثل الذي لك عليه، لقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبر قبل العمل فإنه يؤمنك من الندم، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ ومن أمسك عن الفضول عدلت رأيه العقول، ومن حصن شهوته فقد صان قدره، ومن أمسك لسانه أمنه قومه ونال حاجته، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال، والأيام توضح لك السرائر الكامنة، وليس في البرق الخاطف مستمتع لمن يخوض في الظلمة، ومن عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار والهيبة، وأشرف الغنى ترك المنى، والصبر جنة من الفاقة، والحرص علامة الفقر، والبخل جلباب المسكنة، والمودة قرابة مستفادة، ووصول معدم خير من جاف مكثر، والموعظة كهف لمن وعاها، ومن أطلق طرفه كثر أسفه، وقد أوجب الدهر شكره على من نال سؤله، وقل ما ينصفك اللسان في نشر قبيح أو إحسان، ومن ضاق خلقه مله أهله، ومن نال استطال، وقل ما تصدقك الأمنية، والتواضع يكسوك المهابة، وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق، كم من عاكف على ذنبه في آخر أيام عمره.

ومن كساه الحياء ثوبه خفي على الناس عيبه، وانح القصد من القول فإن من تحرى القصد خفت عليه المؤن، وفي خلاف النفس رشدك، من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد، ألا وإن من كل جرعة شرقا وإن في كل أكلة غصصا، لا تنال نعمة إلا بزوال اخرى. ولكل ذي رمق قوت ولكل حبة آكل وأنت قوت الموت.

ص:231

اعلموا أيها الناس إنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها، والليل والنهار يتنازعان، وفي نسخة: اخرى يتسارعان - في هدم الأعمار.

يا أيها الناس كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، إن من الكرم لين الكلام، ومن العبادة إظهار اللسان وإفشاء السلام، إياك والخديعة فإنها من خلق اللئيم، ليس كل طالب يصيب ولا كل غائب يؤوب، لا ترغب فيمن زهد فيك، رب بعيد هو أقرب من قريب، سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار، ألا ومن أسرع في المسير أدركه المقيل، استر عورة أخيك لما يعلمها فيك، اغتفر زلة صديقك ليوم يركبك عدوك، من غضب على من لا يقدر على ضره طال حزنه وعذب نفسه، من خاف ربه كف ظلمه - وفي نسخة: من خاف ربه كفي عذابه - ومن لم يزغ في كلامه أظهر فخره، ومن لم يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة، إن من الفساد إضاعة الزاد، ما أصغر المصيبة مع عظم الفاقة غدا، هيهات هيهات وما تناكرتم إلا لما فيكم من المعاصي والذنوب، فما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعيم وما شر بشر بعده الجنة وما خير بخير بعده النار وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية، وعند تصحيح الضمائر تبدو الكبائر تصفية العمل أشد من العمل، وتخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد هيهات لولا التقى لكنت أدهى العرب.

أيها الناس: إن الله تعالى وعد نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) الوسيلة ووعده الحق ولن يخلف الله وعده ألا وإن الوسيلة على درج الجنة وذروة ذوائب الزلفة ونهاية غاية الأمنية لها ألف مرقاة ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام وهو ما بين مرقاة درة إلى مرقاة جوهرة، إلى مرقاة زبرجد إلى مرقاة لؤلؤة، إلى مرقاة ياقوتة، إلى مرقاة زمردة، إلى مرقاة مرجانة، إلى مرقاة كافور، إلى مرقاة عنبر، إلى مرقاة يلنجوج، إلى مرقاة ذهب، إلى مرقاة غمام، إلى مرقاة هواء، إلى مرقاة نور قد أنافت على كل الجنان ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يومئذ قاعد عليها، مرتد بريطتين ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله، عليه تاج النبوة وإكليل الرسالة قد أشرق بنوره الموقف وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته وعلي ريطتان ريطة من ارجوان النور وريطة من كافور، والرسل والأنبياء قد وقفوا على المراقي، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا، وقد تجللهم حلل النور والكرامة، لا يرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا، وعجب من ضيائنا وجلالتنا، وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسول (صلى الله عليه وآله) غمامة بسطة البصر يأتي منها النداء: يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي العربي ومن كفر فالنار موعده، وعن يسار الوسيلة عن يسار الرسول (صلى الله عليه وآله) ظلة منها النداء: يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي، والذي له الملك الأعلى لا فاز أحد ولا نال الروح والجنة إلا من لقي خالقه بالإخلاص لهما والاقتداء بنجومهما، فأيقنوا يا أهل

ص:232

ولاية الله ببياض وجوهكم وشرف مقعدكم وكرم مآبكم وبفوزكم اليوم على سرر متقابلين ويا أهل الانحراف والصدود عن الله عز ذكره ورسوله وصراطه وأعلام الأزمنة أيقنوا بسواد وجوهكم وغضب ربكم جزاء بما كنتم تعملون وما من رسول سلف ولا نبي مضى إلا وقد كان مخبرا أمته بالمرسل الوارد من بعده ومبشرا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وموصيا قومه باتباعه ومحليه عند قومه ليعرفوه بصفته وليتبعوه على شريعته ولئلا يضلوا فيه من بعده، فيكون من هلك [أ] وضل بعد وقوع الإعذار والإنذار عن بينة وتعيين حجة.

فكانت الأمم في رجاء من الرسول وورود من الأنبياء ولئن أصيبت بفقد نبي بعد نبي على عظم مصائبهم وفجائعها بهم فقد كانت على سعة من الأمل، ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن الله ختم به الإنذار والإعذار وقطع به الاحتجاج والعذر بينه وبين خلقه وجعله بابه الذي بينه وبين عباده ومهيمنه الذي لا يقبل إلا به ولا قربة إليه إلا بطاعته، وقال في محكم كتابه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) فقرن طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته فكان ذلك دليلا على ما فوض إليه وشاهدا له على ما اتبعه وعصاه وبين ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم، فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه والترغيب في تصديقه والقبول لدعوته: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) فاتباعه (صلى الله عليه وآله) محبة الله ورضاه غفران الذنوب وكمال الفوز ووجوب الجنة وفي التولي عنه والاعراض محادة الله وغضبه وسخطه والبعد منه مسكن النار وذلك قوله: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) يعني الجحود به والعصيان له فان الله تبارك اسمه امتحن بي عباده وقتل بيدي أضداده وأفنى بسيفي جحاده وجعلني زلفة للمؤمنين وحياض موت على الجبارين وسيفه على المجرمين وشد بي أزر رسوله وأكرمني بنصره وشرفني بعلمه وحباني بأحكامه واختصني بوصيته واصطفاني بخلافته في أمته فقال (صلى الله عليه وآله) وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصت بهم المحافل:

أيها الناس إن عليا مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وامه كما كان هارون أخا موسى لأبيه وامه ولا كنت نبيا فاقتضى نبوة ولكن كان ذلك منه استخلافا لي كما استخلف موسى هارون (عليهما السلام) حيث يقول:

(اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) وقوله (صلى الله عليه وآله) حين تكلمت طائفة فقالت: نحن موالي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى حجة الوداع ثم صار إلى غدير خم فأمر فأصلح له شبه المنبر ثم علاه وأخذ بعضدي حتى رئي بياض إبطيه رافعا صوته قائلا في محفله: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فكانت على ولايتي ولاية الله وعلى عداوتي

ص:233

عداوة الله.

وأنزل الله عزوجل في ذلك اليوم: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الرب جل ذكره وأنزل الله تبارك وتعالى اختصاصا لي وتكرما نحلنيه وإعظاما وتفضيلا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) منحنيه وهو قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله موليهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين)، في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع فطال لها الاستماع ولئن تقمصها دوني الأشقيان ونازعاني فيما ليس لهما بحق وركباها ضلالة واعتقداها جهالة فلبئس ما عليه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا. يتلاعنان في دورهما ويتبرأ كل واحد منهما من صاحبه يقول لقرينه إذا التقيا: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، فيجيبه الأشقى على رثوثة: يا ليتني لم أتخذك خليلا، لقد أضللتني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا، فأنا الذكر الذي عنه ظل السبيل الذي عنه مال والإيمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب، ولئن رتعا في الحطام المنصرم والغرور المنقطع وكانا منه على شفا حفرة من النار لهما على شر ورود، في أخيب وفود، وألعن مورود، يتصارخان باللعنة ويتناعقان بالحسرة مالهما من راحة ولا عن عذابهما من مندوحة، إن القوم لم يزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان، يقيمون لها المناسك وينصبون لها العتائر ويتخذون لها القربان ويجعلون لها البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ويستقسمون بالأزلام، عامهين عن الله عز ذكره، حائرين عن الرشاد، مهطعين إلى العباد، وقد استخوذ عليهم الشيطان، وغمرتهم سوداء الجاهلية ورضعوها جهالة وانفطموها ضلالة فأخرجنا الله إليهم رحمة وأطلعنا عليهم رأفة وأسفر بنا عن الحجب نورا لمن اقتبسه وفضلا لمن اتبعه وتأييدا لمن صدقه.

فتبوؤا العز بعد الذلة والكثرة بعد القلة وهابتهم القلوب والأبصار وأذغنت لهم الجبابرة وطوائفها وصاروا أهل نعمة مذكورة وكرامة منشورة وأمن بعد خوف وجمع بعد كوف وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان وأولجانهم باب الهدى وأدخلناهم دار السلام وأشلمناهم ثوب الإيمان وفلجوا بنا في العالمين وأبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين من حام مجاهد ومصل قانت، ومعتكف زاهد، يظهرون الأمانة ويأتون المثابة حتى إذا دعا الله عزوجل نبيه (صلى الله عليه وآله) ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة أو وميض من برقة إلى أن رجعوا على الأعقاب وانتكصوا على الأدبار وطلبوا بالأوتار وأظهروا الكتائب وردموا الباب وفلوا الديار وغيروا آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورغبوا عن أحكامه وبعدوا من أنواره واستبدلوا بمستخلفه بديلا اتخذوه وكانوا ظالمين وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ممن اختار رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمقامه وأن مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف ألا وإن أول

ص:234

شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان رجعوا عن ذلك وقالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مضى ولم يستخلف فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطيب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام وعن قليل يجدون غب ما يعلمون وسيجدون التالون غب ما أسسه الأولون ولئن كانوا في مندوحة من المهل وشفاء من الأجل وسعة من المنقلب واستدراج من الغرور وسكون من الحال وإدراك من الأمل فقد أمهل الله عزوجل شداد بن عاد وثمود بن عبود وبلعم بن باعور وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وأمدهم بالأموال والأعمار وأتتهم الأرض ببركاتها ليذكروا آلاء الله وليعرفوا الإهابة له والإنابة إليه ولينتهوا عن الاستكبار فلما بلغوا المدة واستتموا الأكلة أخذهم الله عزوجل واصطلمهم فمنهم من حصب ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من أحرقته الظلة ومنهم من أودته الرجفة ومنهم من أردته الخسفة (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

ألا وإن لكل أجل كتابا فإذا بلغ الكتاب أجله لو كشف لك عما هوى إليه الظالمون وآل إليه الأخسرون لهربت إلى الله عزوجل مما هم عليه مقيمون وإليه صائرون. ألا وإني فيكم أيها الناس كهارون في آل فرعون وكباب حطة بني إسرائيل وكسفينة نوح في قوم نوح إني النبأ العظيم والصديق الأكبر وعن قليل ستعلمون ما توعدون وهل إلا كلعقة الآكل ومذقة الشارب وخفقة الوسنان، ثم تلزمهم المعرات خزيا في الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون فما جزاء من تنكب محجته وأنكر حجته، وخالف هداه، وحاد عن نوره واقتحم في ظلمه واستبدل بالماء السراب وبالنعيم العذاب وبالفوز الشقاء وبالسراء الضراء وبالسعة الضنك، إلا جزاء اقترافه وسوء خلافه فليوقنوا بالوعد على حقيقته وليستيقنوا بما يوعدون، (يوم تأتي الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الأرض عنهم سراعا) - إلى آخر السورة -.(1)

* الشرح:

قوله (خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهي خطبة الوسيلة) لاشتمالها على ذكر الوسيلة ومقامها وكيفيتها ومن عليها.

عن جابر بن يزيد قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: يا بن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها) أي أحرقني وأوجعني اختلافهم واختيار كل صنف منهم مذهبا حتى صاروا فرقا كثيرة مختلفة في الأصول والفروع.

(فقال: يا جابر ألا أوقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ومن أي جهة تفرقوا) قيل

ص:235


1- -الکافی:16/8.

وقفه عليه قبل ذلك لا في هذه الخطبة. أقول: ذكر (عليه السلام) فيها اختلاف الصحابة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ورجوعهم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى خلفاء الجور وصار ذلك محلا لاختلاف الشيعة وسببا له إذ لو رجعوا إليه لما ادعى الكاذب الإمامة ولم يطمعها أحد ولما حصل الاختلاف بينهم فاختلاف الصحابة معنى يقتضي اختلاف الشيعة ومحله وسببه.

(قلت بلى يا بن رسول الله. قال فلا تختلف إذا اختلفوا) لكثرتهم أو لشبهتهم وتلبيسهم كما اختلف لذلك كثير من الناس (يا جابر: إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أيامه) لأنه مكذب له فيما جاء به والمكذب له جاحد وذكر الصاحب (عليه السلام) على سبيل التمثيل، (يا جابر اسمع وع) أمر بالمحافظة والفهم بعد السماع لأن السماع لا ينفع بدونهما ثم أمر بتبليغه لينشر بين أهله (قلت: إذا شئت) بفتح التاء بمنزلة إن شاء الله لأن مشيئته مشيئة الله تعالى وفي إذا دلالة على وقوع المشيئة المستفاد في الأمر والجزاء محذوف بقرينة المقام أي إذا شئت أسمع أو بضم التاء واذن بالتنوين كما قيل.

(إن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب الناس بالمدينة) في مسجدها على رؤوس الأشهاد كما سيصرح به (حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه) وجاء به للصحابة فلم يقبلوه لاشتماله على ما ينافي مذهبهم صريحا وهو عند الصاحب (عليه السلام).

(فقال: الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده) لأن الأوهام لا تدرك إلا المعاني الجزئية المعلقة بالمحسوسات والمواد الجسمانية كالوضع والتحيز والمقدار ونحوها والله سبحانه ليس شيئا من هذه الأمور فلا يمكن للأوهام أن تدركه وتطلع على حقيقته نعم لها أن تنال وجوده لظهوره في صورة وجودها ووجود سائر مدركاتها وعوارض وجوداتها والتغيرات اللاحقة بها من جهة ما هو صانعها وموجدها إذ الوهم عند مشاهدة هذه المدركات المشخصة يحكم بذاته أو بمعونة العقل بوجوده تعالى لحاجتها إلى موجد ومقيم ومغير، ونسبة هذا الحكم إلى الوهم على الأول ظاهر وأما على الثاني فلأن العقل لما حكم بوجوده بتوسط هذه المعاني الجزئية مع مشاركة الوهم نسب الحكم به إليه وللعقل طريق آخر للحكم بوجوده وهو المفهومات الكلية والمعقولات العارية عن التشخصات فإنه يجعلها عنوانات للحكم بوجوده ومن هنا تسمعهم ينسبون الحكم بوجوده تارة إلى الوهم وتارة إلى العقل وظهر لك الفرق بينهما ولا يخفى عليك أن حمل الأوهام هنا على العقول أو الأعم منهما كما ظن غير معقول أما أولا فلأنه مجاز لا قرينة له لجواز حملها على الحقيقة وأما ثانيا فلأنها في مقابل العقول ولما بين (عليه السلام) أن الأوهام قاصرة عن إدراكه تعالى بذاته وصفاته أشار إلى أن العقول المدركة للكليات قاصرة عن إدراكه أيضا لسد باب من يدعي إدراكه لأن الإدراك لا يخلو من أحد هذين الوجهين فإذا امتنعا امتنع فقال:

ص:236

(وحجب العقول أن تتخيل ذاته) أي تدركها وعبر عنه بالتخيل للتنبيه على أن العقل في عدم قدرته على إدراك ذاته كالخيال إذ الصور العقلية كالصور الخيالية في الحدوث والتجزي والتحليل والتحيز والاتصاف بالعوارض والافتقار إلى محل وعلة، وقدس الحق منزه عن جميع ذلك وإنما غاية عرفان العقل له أن يحكم بوجوده بالعنوانات العقلية ويعرفه بصفاته الإضافية والسلبية ثم علل المنع والحجب بقوله: (لامتناعها من الشبه والتشاكل) في التحليل والتوصيف والتصوير والتحيز والحلول والحاجة والتكيف والتشبه بالخلق وكل ذلك ممتنع في ذاته تعالى وبالجملة إدراك العقل والوهم حقيقة ذاته وصفاته يستلزم تشاكله وتشابهه بالخلق في الأمور المذكورة ونحوها وهي ممتنعة في حقه تعالى بل (هو الذي لا يتفاوت في ذاته) إشارة إلى نفي التركيب عنه مطلقا لأن كل مركب من أجزاء ذهنية أو خارجية له تفاوت في ذاته وذاتياته بالعموم والخصوص والمغايرة المباينة ونحوها أو إلى نفي اتصافه بصفات الخلق وتحقق التشابه بينه وبينهم لأن ذلك يوجب تحقق التفاوت في ذاته وأنه باطل بيان ذلك أن هويته المستفادة من قوله «بل هو» ذاتية مطلقة غير مضافة إلى الغير ومن كان كذلك فهو هو دائما من غير تبدل وتغير في ذاته وهويته فلو طرأ عليه المعاني وصفات الخلق لزم انتقاله من هويته الذاتية إلى هويته الإضافية فلزم التفاوت في ذاته وأنه محال ولما نفى التركيب واتصافه بصفات الخلق أشار إلى نفي اتصافه بصفات كماله كما زعمه طائفة من المبتدعة بقوله:

(ولم يتبعض بتجزية العدد في كماله) أي في صفات كماله أو بسببها لأن كلها عين ذاته وقد مر معنى العينية في كتاب التوحيد والمراد بتجزية العدد تحليله بأجزائه المستلزم للكثرة وإنما نفى التبعض والتجزى للتنبيه على أنه يلزم القائلين لزيادة الصفات أن يكون الواجب مجموع الصفة والموصوف لأن الواجب كامل بالاتفاق والبرهان والكامل هذا المجموع لا كل واحد منها بانفراده بالضرورة والقول بأن المجموع واجب الوجود أقبح وأشنع للزوم التركيب والحدوث والإمكان والافتقار من جهات شتى وإن كان القول بأن الواجب أحدهما دون الآخر أيضا باطلا بالضرورة.

(فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن) لاستحالة أن يكون له مكان ويكون البعد والفراق بينه وبينها مكانيا كما هو بين الأشياء المتباعدة بحسب الأمكنة بل المراد بمفارقته للأشياء مباينة ذاته وصفاته عن مشابهة شيء منها وهذه أمر سلبي اعتبره العقل له تعالى بعد الحكم بوجوده ولما كانت هنا مظنة أن يتوهم القاصرون من عدم كونه في مكان أنه غافل عن المكان وعما فيه كما يفعل عنها الخلق أشار إلى دفعه بقوله:

(ويكون فيها لا على وجه الممازجة) أي المداخلة والحواية كما يقتضيهما الظرفية بل بالعلم والإحاطة بها وبما فيها فقوله: لا على وجه الممازجة، قرينة صارفة للظرفية عن مقتضاها إلى ما

ص:237

ذكرنا ولما كان في وهم القاصر أن علمه تعالى بالمكان والمكانيات كعلمنا بها في الافتقار إلى الحواس والآلات دفعه بقوله:

(وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلا بها) لأن علمه تعالى بالمحسوسات ليس من جهة الحواس والآلات الجسمانية والقوى البدنية كعلمنا بها وذلك لأنه منزه عن الصفات الجسمانية والأدوات البدنية ولاستحالة افتقاره في علمه إلى الغير لأنه من خواص الإمكان وفي قوله «لا يكون العلم إلا بها» إيماء إلى أن نفي كون علمه تعالى بأداة إنما يحتاج إليه في العلم بالمحسوسات لأنه محل الوهم لا مطلقا.

(وليس بينه وبين معلومه علم غيره.. اه) بالتنوين والتوصيف أي ليس بينه وبين معلومه علم مغاير له تعالى بسببه كان عالما بمعلومه بل ذاته تعالى علم بمعلوماته ولو قرىء علم بالإضافة كان معناه ليس بينهما علم مغاير له تعالى بعلم ذلك العالم كان عالما بمعلومه وهو حينئذ رد على من ذهب إلى أنه يعلم الأشياء بصورها الحالة في المبادي العالية والعقول المجردة أو على من ذهب إلى أن إيجاده للخلق ليس من باب الاختراع والاهتداء، توضيحه أنه ليس إنشاؤه للخلق على وجه التعليم من الغير بحيث يشير عليه وجه الصواب حتى يكون أقرب إليه كما أشار إليه جل شأنه بقوله (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) وأشار إليه أمير المؤمنين في بعض خطبه بقوله «مبتدع الخلائق بعلمه بلا اقتداء ولا تعليم».

(إن قيل: كان فعلى تأويل أزلية الوجود) لما فهم من قولنا: فلان كان موجودا، حدوث وجوده في الزمان الماضي لدلالة «كان» عليه، أشار عليه الصلاة والسلام إلى نفي ذلك بأن المراد به أزلية وجوده. والأزل عبارة عن عدم الأولية والابتداء وذلك أمر يلحق واجب الوجود لما هو بحسب الاعتبار العقلي وهو ينافي لحوق الابتداء والأولية لوجوده لاستحالة اجتماع النقيضين (وإن قيل:

لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم) لما فهم من قولنا: لم يزل موجودا كون وجوده في الزمان وعدم زواله عنه، أشار إلى نفي ذلك - إذ لا زمان لوجوده - بأن معناه نفي العدم عنه وأن وجوده ليس مسبوقا.

(فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلها غيره) أشار إلى أن من لم يعرفه على الوجه المذكور واعتقد أنه تعالى يدرك بالعقل والوهم بكنه ذاته وصفاته ويشابه الخلق بوجه من الوجوه أو يدخل التفاوت والتجزية في ذاته أو يحيط به المكان أو يعلم الأشياء بعلم زائد أو بعلم عالم آخر أو يلحق الزمان بوجوده إلى غير ذلك مما لا ينبغي له فقد اتخذ إلها غيره وعبد من لم يستحق العبودية فهو شرك بالله العظيم.

(نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه وأوجب قبوله على نفسه) حمده بعد الحمد على سبيل الدوام والثبات بما يدل على التجدد والاستمرار في جميع الأوقات للتنبيه على لزوم

ص:238

الاهتمام بحمده ويتجدد إرادته في جميع الآنات لأنه من أعظم الطاعات والقربات فلا ينبغي أن يكون مغفولا عنه في شيء من الساعات وأشار بالوصف الأول له إلى طلب كماله بالإخلاص الشافي النفس عن الرذايل الموجب للرضا والاختصاص وبالوصف الثاني إلى رجاء قبوله الموجب لمزيد الامتنان في الدنيا والرضوان في الآخرة. وهو حجة على من أنكر وجوب شيء عليه.

(وأشهد أن لا إله إلا الله) قالوا: هذه الكلمة أشرف كلمة منطبقة على جميع مراتب التوحيد (وحده لا شريك له) حال بتأويل منفردا وتأكيدا للحصر (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) قدم العبودية لتقدمها في الواقع ولتحقق معنى الترقي ولئلا يكون ذكرها بلا فائدة وإنما لم يقل: نشهد، كما قال نحمد للتنبيه على قلة المشارك في الأول وكثرته في الثاني (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)(1).

(شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل) أي كل واحدة من هاتين الشهادتين من صميم القلب وإذعانه وهي ترفع القول إلى درجة القبول كما قال سبحانه: (إليه يصعد الكلم الطيب) وهي التي صدرت من جهة الإذعان وصميم القلب لا بمجرد التقول بها وهذه الشهادة موجبة لتضاعف العمل لأن إخلاصها أصل لقبول الأعمال والعبادات وسبب لتضاعف الحسنات ولو لم تكن لم تقبل الأعمال فضلا عن المضاعفة.

(خف ميزان ترفعان منه وثقل ميزان توضعان فيه) قال الشيخ في الأربعين: ثقل الميزان كناية عن كثرة الحسنات ورجحانها على السيئات وقد اختلف أهل الإسلام في أن وزن الأعمال الوارد في الكتاب والسنة هل هو كناية عن العدل والإنصاف والتسوية أو المراد به الوزن الحقيقي فبعضهم على الأول لأن الأعراض لا يعقل وزنها وجمهورهم على الثاني للوصف بالخفة والثقل في القرآن والحديث.

والموزون صحائف الأعمال أو الاعمال نفسها بعد تجسمها في تلك النشأة، ثم قال: الحق أن الموزون في النشأة الأخرى هو نفس الأعمال لا صحايفها وما يقال من أن تجسم العرض طور خلاف طور العقل فكلام ظاهري عامي والذي عليه الخواص من أهل التحقيق أن سنخ الشيء أي أصله وحقيقته أمر مغاير بصورته التي يتجلى بها على المشاعر الظاهرة ويلبسها لدى المدارك الباطنة وأنه يختلف ظهوره في تلك الصور بحسب اختلاف المواطن والنشآت فيلبس في كل موطن لباسا ويتجلبب في كل نشأة بجلباب كما قالوا: إن لون الماء لون إنائه وأما الأصل الذي يتوارد هذه الصور عليه ويعبرون عنه تارة بالسنخ ومرة بالوجه وأخرى بالروح فلا يعلمه إلا علام الغيوب

ص:239


1- -سورة الإسراء:44.

فلا بعد في كون الشيء في موطن عرضا وفي آخر جوهرا، ألا ترى إلى الشيء المبصر فإنه إنما يظهر لحس البصر إذا كان محفوفا بالجلابيب الجسمانية ملازما لوضع خاص وتوسط بين القرب البعد المفرطين وأمثال ذلك وهو يظهر بالحس المشترك عريا من تلك الأمور التي كانت شرط ظهوره لذلك الحس، ألا ترى إلى ما يظهر في اليقظة من صورة العلم فإنه في تلك النشأة أمر عرضي ثم أنه يظهر في النوم بصورة اللبن فالظاهر في الصورتين سنخ واحد تجلى في كل موطن بصورة وتحلى في كل نشأة بحلية وتزيا في كل عالم بزي ويسمى في كل مقام باسم فقد تجسم في مقام ما كان عرضا في مقام آخر.

(وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار والجواز على الصراط) الحصر إما للمبالغة في توقف الأمور الثلاثة عليهما أو لأن غيرهما من الأعمال الصالحة سبب لرفع الدرجة في الجنة، ثم المراد بهما أن لهما هذه الفضيلة بشروطها ومن شروطها الإقرار بالولاية بل له مدخل في تحقيق حقيقتها عند أهل الحق.

واعلم أن الصراط الموعود به في القرآن والسنة حق يجب الإيمان به وإن اختلف الناس في حقيقته فظاهر الشريعة والذي عليه جمهور المسلمين ومن أثبت المعاد الجسماني يقتضي أنه جسم في غاية الدقة والحدة ممدود على جهنم وهو طريق إلى الجنة يجوزه من أخلص لله ومن عصاه سلك عن جنبيه أحد أبواب جهنم وقيل: هو دين الإسلام والحق أن كلا القولين صادق ويؤيده ما ذكره بعض العلماء من أنه روي عن الحسن العسكري (عليه السلام) «إن الصراط صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة فأما الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير واستقام ولم يعدل إلى شيء من الباطل» وصراط الآخرة هو طريق المؤمنين إلى الجنة لا يعدلون عن الجنة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة والناس في ذلك متفاوتون فمن استقام على هذا الصراط وتعود سلوكه مر على صراط الآخرة مستويا ودخل الجنة أما قوله (عليه السلام): «فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير» ما ذهب إليه بعض الحكماء في تفسير الصراط وقالوا: هو الوسط الحقيقي بين الأخلاق المتضادة كالسخاوة بين التبذير والبخل والشجاعة بين التهور والجبن والاقتصاد بين الإسراف والتقصير والتواضع بين التكبر والمهانة والعفة بين الجمود والشهوة والعدالة بين الظلم والانضلام فالأوساط بين هذه الأوصاف المتضادة هي الأخلاق المحمودة ولكل واحد منها طرفا تفريط وإفراط هما مذمومان والصراط المستقيم وهو الوسط (وبالصلاة تنالون الرحمة) المراد بالصلاة الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وبالرحمة القرب والكرامة، ورفع الدرجة (أكثروا من الصلاة على نبيكم) ذكر أم لم يذكر ومرجع الإكثار العرف واختلف الأمة في وجوبها فقال بعض العامة وجبت في العمر مرة، وقال بعضهم: في كل مجلس، وقال بعضهم: كلما ذكر، منهم

ص:240

الزمخشري وهو منقول عن ابن بابويه من أصحابنا: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) قيل: المراد بالتسليم الانقياد له.

وقيل: السلام عليك أيها النبي وهو المنقول من الزمخشري والقاضي في تفسيرهما ومن الشيخ في تبيانه، واستدل بهذه الآية من قال بجواز استعمال المشترك في معنييه فإن الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وهي مستعملة فيهما وأجاب المانع أولا بأن المراد بالصلاة هنا معنى واحد وهو الاعتناء بإظهار الشرف ولو مجازا وثانيا بتقدير فعل للأول أي: إن الله يصلي، ومثله شايع.

(أيها الناس أنه لا شرف أعلى من الإسلام) يعني متابعة الشريعة والإعراض عن الطبيعة وظاهر أنه لا شرف أعلى من شرف الإسلام إذ هو في الدنيا والعقبى.

(ولا كرم أعز من التقوى) في كنز اللغة: الكرم بزرگوارى والمراد أن التقوى كرم فيها غاية عزة ليست في غيرها والعزة إما العظمة أو القدرة أو الغلبة والتقوى مستلزم لجميع ذلك لأنها تحمى أولياء الله محارمه وألزمت قلوبهم مخافته حتى أسهرت لياليهم وأظمأت هواجرهم وتربط الأبدان بالعبادات من الصيام والصلاة ونحوها فصاروا بذلك من أهل العظمة والقدرة والغلبة لأنهم حزب الله وحزبه هم الغالبون.

(ولا معقل أحرز من الورع) المعقل كمنزل الملجأ والحصن يعني أن الورع عن محارم الله وعن ملاذ الدنيا أحرز حصن وأقوى ملجأ في دفع المخاطرات ومنع أسباب العقوبات ورد سهام الشيطان وكيد أرباب الطغيان لأن تلك المفاسد إنما تنشأ من الميل إلى الدنيا والورع بمعزل عنها.

(ولا شفيع أنجح من التوبة) النجح بالضم والنجاح بالفتح الظفر بالشيء والذب يظفر بالتوبة النصوح بما لا يظفر به أحد من الشفاعة ونحوها لأن التوبة ماحية للذنوب كلها والشفاعة قد لا يتحقق ومع تحققها قد لا تقبل ومع قبولها قد لا تكون إلا بعد عقوبة شديدة في مدة طويلة (ولا لباس أجمل من العافية) أي العافية من الأسقام والبلاء والشدة والضراء والذنوب والكروب أجمل لباس وزينة والوجه في تشبيه العافية باللباس وهو الحسن والزينة في المشبه به حسي وفي الشبه عقلي.

(ولا وقاية أمنع من السلامة) عن إيذاء الناس وبغضهم وغير ذلك مما يوجب التنافر بينهم وهي أمنع وقاية لدفع شرورهم.

(ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقناعة) الرضا بالقناعة والاختصار بالواصل وعدم الاعتماد بغير الحاصل أقوى في إذهاب الفاقة من المال لأن القانع لا يفتقر إلى الغير إلى سؤاله بخلاف غير القانع فإنه في فقر وفاقه دائما وإن كان له مال.

(ولا كنز أغنى من القنوع) أغنى من غنى بالكسر إذا ثبت وبقي يعني أن القنوع وهو الرضا

ص:241

بالقوت أثبت وأبقى من الكنز لأنه لا ينقص ولا يغني بخلاف الكنز.

(ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة) البلغة ما تبلغ به من العيش، الكفاف من الرزق القوت وهو ما كف عن الناس وأغنى عنهم والدعة الخفض والسكون والراحة والتبوؤ النزول والاتخاذ يقال: تبوأ منزلا نزله واتخذه، والمراد به النزول في الراحة والسعة والتزامهما.

(والرغبة مفتاح التعب) شبه الرغبة بالمفتاح من حيث أن الرغبة في الزيادة عن الكفاف وإرادتها آلة فتح باب التعب لأن في تحصيلها وحفظها تعبا شديدا مع عدم الحاجة إليها وفيه زجر عنها ومنع من تحملها، قال بعض المحققين: فيه إشارة إلى مسألة وهي أن الإتيان بالفعل الاختياري لا يتصور إلا لمن رغب فيه أولا وقد برهن عليه في موضعه.

(والاحتكار مطية النصب) الاحتكار اللجاجة والظلم والاستبداد بالشيء وإساءة المعاشرة واحتباس الغلة لانتظار الغلاء والكل مناسب وتشبيه الاحتكار بالمطية من حيث أن النصب يرد عليه فكأنه يركب.

(والحسد آفة الدين) أي مرض مفسد له لأن الحاسد يضاد إرادة الله تعالى في التقسيم والتدبير والإفضال والإنعام ويحتقر نصيبه ويكفر به ويلتذ طبعه بمضار الناس وزوال نعمتهم ويغتم بمصالحهم ومنافعهم ويشتغل بالهم والحزن بمشاهدة انتظام أحوالهم ويصرف الفكر في تحصيل أسباب زوالها حتى لا يفرغ لتحصيل ما يعود نفعه إليه من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة وحفظ ما حصل له من الملكات الخيرية والصور العلمية وكل ذلك موجب لفساد الدين ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».

(والحرص داع إلى التقحم في الذنوب) لأن الحريص لا يبالي الدخول في المحارم من المكاسب والمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والحرص على المباح أيضا مذمومة ألا ترى أن أبانا آدم (عليه السلام) لما حمله الحرص على الأكل من الشجرة مع كونه مباحا لحقه وذريته ما لحقه من المحنة والمصايب التي يعجز عن تحملها الجبال الرواسي.

(وهو داع إلى الحرمان) الظاهر أن الضمير راجع إلى التقحم في الذنوب لأن الدخول فيها بلا روية وإلقاء النفس عليها من غير مبالاة داع إلى الحرمان من الرزق ولكن يكون ذلك غالبا في المؤمن الممتحن وقد روي: «إن الله عز وجل إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله ذنب ابتلاه بالسقم فإن لم يفعل به ذلك ابتلاه بالحاجة فإن لم يفعل ذلك شدد عليه بالموت ليكافيه بذلك الذنب» ويحتمل أن يعود الضمير إلى الحرص لأن الحرمان عن المطلوب لازم للحرص إذ مراتب الحرص على الأمور غير محصورة وحصول تلك الأمور كلها متعسر جدا فالحريص دائما في ألم الحرمان.

ص:242

(والبغي سائق إلى الحين) البغي الزنا والخروج طاعة الإمام والاستطالة والكذب. والحين بفتح الحاء المهملة الهلاك والمحنة والبغي بالمعاني المذكورة مستلزم لهما كما دلت عليه روايات أخر.

(والشر جامع لمساوي العيوب) في كنز اللغة: شر سوء وبدى ومساوى بديها والمقصود أن الشر أمر كلي يندرج فيه جميع أفراد المساوي والعيوب كما أن ضده وهو الخير كلي جامع لجميع المحاسن والمتصف بالمحاسن والمساوي يشمله الوعد والوعيد في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)(1) وقال بعض المحققين: كل واحد من الخير والشر إما مطلق كالعقل وعدمه وإما مقيد كالمال ونحوه وفي النسخ المصححة «الشره» بالهاء وفتح الراء وهي غلبة الحرص.

(رب طمع خائب) الطمع بما في أيدي الناس مع كونه مهانة ظاهرة ومذلة حاضرة أكثره خائب والعاقل لا يرتكب العار مع الفوائد العظيمة فكيف ترتكبه مع عدمها.

(وأمل كاذب) الأمل في المقتنيات الفانية مع كونها مانعا من التوجه إلى الآخرة وسبب لزوال ما حصل من أحوالها في الذهن أكثره كاذب لا يحصل أبدا والعاقل لا يعقد قلبه عليه (ورجاء يؤدي إلى الحرمان) من المرجو وإن كان من الله كرجاء ثوابه والتجاوز عن عقابه مع الاستمرار في العصيان لأن ذلك الرجاء حماقة كما دل عليه بعض الروايات وكذا من الخلق فإن حصول المرجو منهم نادر جدا، وبالجملة الرجاء من الله حسن بشرط الطاعة ومن الخلق مذموم مطلقا واعلم أن الطمع والأمل والرجاء متقاربة في اللغة ويمكن الفرق بأن المطلوب من الطمع أقرب في الحصول من المرجو ويؤيده أن الحرص معتبر في مفهوم الطمع والحرص على الشيء لا يكون إلا إذا كان ذلك الشيء ممكنا قريب الوقوع والمرجو أقرب في الحصول من المأمول والله أعلم.

(وتجارة تؤول إلى الخسران) كما يكون في تجارة الدنيا كذلك يكون في تجارة الآخرة من كسب الأعمال والعقايد والأخلاق فإن العمل كثيرا ما لا يقع على الأمر المعتبر في ذاتياته وصفاته وشروطه ويحصل بذلك انحراف عن الدين وضلال عن الحق فيضيع العمل ويخسر كما في الخوارج وأضرابهم وفي هذه الفقرات توبيخ للناس على إدبارهم عن الآخرة وإقبالهم إلى الدنيا وتنفير لهم عنها بذكر الخيبة والكذب والحرمان والخسران وليست الدنيا كل من طلبها وجدها، عن النبي (صلى الله عليه وآله) «من جعل الدنيا أكثر همه فرق الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته منها إلا ما كتب له».

(ومن تورط في الأمور) أي وقع فيها فلم يسهل المخرج منها، والورطة الغامض والهلكة وكلما يعسر النجاة منه وأصله الهوة العميقة والوهدة من الأرض ثم استعيرت للأمر المذكور (غير

ص:243


1- -سورة الزلزلة:8،7.

ناظر في العواقب) يعرف حسنها وقبحها وصلاحها وفسادها.

(فقد تعرض لمفضحات النوائب) التي توجب فضيحته وإهانته وصعوبة التخلص منها، وفي بعض النسخ «المقطعات النوائب» والتركيب على الأول من باب جرد قطيفة. وعلى الثاني من باب لجين الماء بتشبيه النوائب بالمقطعات وهي الثياب التي قطعت كالقميص والجبة ونحوهما دون غير المقطوعة كالإزار ونحوه وإنما شبهها بها لكونها أشد اشتمالا وأقوى إحاطة ونقل الشيخ عن بعض أهل اللغة في الأربعين أن المقطعات جمع لا واحد لها من لفظه واحدها ثوب والحاصل أنه لا يقال: للجبة مثلا مقطعة بل يقال: لجملة الثياب مقطعات وللواحد ثوب كما صرح به الشهيد في شرح النفلية ويمكن أن يقرأ المفظعات بالفاء والظاء المعجمة جمع المفظعة بكسر الظاء من فظع الأمر بالضم فظاعة وهو فظيع أي شديد شنيع كما فسر بذلك بعض الأصحاب في دعاء الوضوء.

(وبئست القلادة قلادة الذنب للمؤمن) شبه الذنب بالقلادة في لزومهم للمذنب لزوم القلادة للأعناق ووجه الذم العام أن الذنب مع كونه موجبا للعقوبة الأخروية والمذلة الأبدية يوجب نقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات في الدنيا والغرض منه هو الحث على رفع حجب النفوس التي هي الذنوب والمعاصي واستعدادها بذلك لقبول الرحمة بالتوبة والإقلاع من المعصية والانزجار عنها والتذكر للمبدء الأول وما أعد لأوليائه الأبرار في دار القرار.

(أيها الناس أنه لا كنز أنفع من العلم) شبه العلم بالكنز في الخفاء والنفع وميل الطبع إليه ورجحه عليه لكونه روح النفس وحياة القلب وكمال الإنسان وسببا لبقائه ونجاته مع زيادته بالإنفاق والغرض منه هو الحث على تحصيل علم الدين وما يتعلق به.

(ولا عز أرفع من الحلم) الحلم هو الأناة والتثبت في الأمور يحصل بالاعتدال في القوة الغضبية ويمنع النفس من الانفعال عن الواردات المكروهة المؤذية والجزع عند الأمور الهائلة والطيش في المؤاخذة وصدور حركات غير منتظمة وإظهار للمزية على الغير والتهاون في حفظ ما يجب حفظه شرعا وعقلا وهو أرفع وأعظم ما يوجب العز في الآخرة برفع الدرجات وفي الدنيا عند الخلائق بوجوه الاعتبارات ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحلم عشيرة» يعني أن كما أن الرجل يتمنع بالعشيرة يتمنع بالحلم ويتوقر لأجله.

(ولا حسب أبلغ من الأدب) قيل: الأدب وضع الأشياء موضعها ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم والعمل، والحسب الشرف بالإباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم، وقيل: هو الشرف المكتسب في الرجل وإن لم يكن آباؤه أشرافا والغرض منه الترغيب إلى تحصيل الأدب لأنه أشرف الكمالات للإنسان وأكملها والتزهد في التفاخر بشرف الإباء لأنه اعتباري لا نصيب فيه للولد حقيقة، والإيماء إلى أن الآباء ينبغي أن يورثوا الآداب.

ص:244

(ولا نصب أوضع من الغصب) النصب والتعب والنصب بالضم والضمتين الداء والبلية والمحنة والغضب، وهو ثوران النفس وحركتها بسبب تصور المؤذي والضار إلى الانتقام، من أخس أفراد النصب وأقبحه لكثرة مفاسده من الأفعال الشنيعة والأقوال القبيحة والأخلاق الذميمة والحركات الخارجة عن القوانين الشرعية والعقلية.

(ولا جمال أزين من العقل) عد العقل جمالا وهو الحسن في الخلق والخلق ورجحه عليه في الرتبة لأن بالعقل يستقيم الظاهر والباطن ويتم الكمالات الدينية والدنيوية وكل خير يصلح التزين به تابع له والغرض منه هو الحث على تكميله بالعلوم والآداب.

(ولا سوء أسوأ من الكذب) لأن الكذب مع أنه ليس من خصلة الصالحين يوجب خراب الدنيا والدين وقتل النفوس وفساد النظام وهلاك الأموال وغيرها من المفاسد ألا ترى أن إبليس اللعين كيف أفسد بكذب واحد نظام آدم وأولاده إلى يوم الدين وأن الأول وناصره كيف أفسدا به دين سيد المرسلين.

(ولا حافظ أحفظ من الصمت) رغب إلى الصمت بذكر فائدته وهي أنه أقوى حافظ من آفات الدنيا وعذاب الآخرة لأن آفات اللسان ومعاصيه لكثرة موارده من الموجودات والمعدومات والموهومات وغيرها كثيرة جدا فمن صمت إلا عن خير نجا.

(ولا غايب أقرب من الموت) حث على ذكر الموت وانتظاره في كل نفس لاحتمال حضوره آنا فآنا كما روي في قوله تعالى: (وما تدري نفس بأي أرض تموت)(1) أنها لا تدري بأي قدم تموت، والغرض منه هو الاستعداد له والعمل للآخرة والتحرز عن الاشتغال بالدنيا.

(أيها الناس من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره) أمر بالكف عن عيب غيره باعتبار ما يعلم من عيب نفسه اتحد العيب أو اختلف بل ينبغي أن يذم نفسه ويشتغل بالتدارك ورفعه إن أمكن ولو لم يعلم في نفسه عيبا فهو مع كونه عيبا فليكن الشكر شاغلا له على معافاته مما ابتلى به غيره. قال الشهيد الثاني: وردت الرخصة في غيبة الفاسق المتجاهر بفسقه كالخمار والعشار والمخنث الذين ربما يفتخرون بفسوقهم ولا يستحيون منها قال النبي (صلى الله عليه وآله): «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» لكن تركها إلى السكوت ونصحه إن نفع أولى.

(ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره) الأسف محركة أشد الحزن، أسف كفرح وعليه غضب يعني من رضي بقسمه من رزق الله لا يتوقع الزائد عليه مما في يد غيره فلا يحزن بفواته والغرض منه الأمر بالرضا بما في يده وعدم الحزن على ما في يد غيره فلا يحزن بفواته من

ص:245


1- -سورة لقمان:34.

الزائد لأن في ذلك نسبة الجور إلى قاسم الأرزاق وتحقيرا لقسمته وكفرانا له وتوقع ما لا يحتاج إليه والتحزن بفواته وهو ألم شديد.

(ومن سل سيف البغي قتل به) يحتمل الظاهر والإضافة للملابسة ويحتمل أن يشبه البغي بالسيف وإضافته إليه للبيان والسل ترشيح.

(ومن حفر لأخيه بئرا) فيها تحذير عن مكر المؤمن وخدعته وإرادته والوسوسة به وإيقاعه عليه بأن مثل ذلك يقع على الماكر في الدنيا مع ما عليه في الآخرة كما قال تعالى: (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)(1).

(ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته) قد جرت السنة بكشف عورة من كشف عورة غيره من المؤمنين في نفسه وعرضه روى عن النبي (صلى الله عليه وآله): «ألا لا تغابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فمن يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ويفضحه في جوف بيته».

(ومن نسي زلله استعظم زلل غيره) لأن استعظام زلل الغير وانحرافه عن سبيل الحق إنما هو لعظمة قبحه وقبح المخالفة ولا يرتكب ذلك إلا من نسي زلل نفسه وإلا لاشتغل بإصلاحها تحرزا من القبيح وخوفا من اللوم وحياء من الله.

(ومن أعجب برأيه ضل) أي من أعجب برأيه وعقله من جهة كمال اكتسبه في ظنه ضل عن طريق الحق لأن العجب ضلالة ومرض مهلك ومانع من الازدياد مع احتمال أن يكون رأيه فاسدا (ومن استغنى بعقله زل) عن المطلوب في أمور الدين والدنيا ولابد في الأول من المشورة مع العقلاء الأمناء وفي الثاني إلى الرجوع إلى صاحب الشريعة.

(ومن تكبر على الناس ذل) في الدنيا والآخرة عند المقربين والخلائق أجمعين وما يرى في بعض المتكبرين من استعظام الخلق له أمر اعتباري لا حقيقة له يرتكبه بعض المنافقين وأما العزة الحقيقة الباقية فإنها لله ورسوله وللمؤمنين الذين تنزهوا عن التكبر وكانوا من الخاشعين (ومن سفه على الناس شتم) السفه الخفة والطيش والاضطراب وإيذاء الناس وعدم تحمل شيء منهم وقد نفر عنه بذكر شيء من مفاسده وهو شتم الناس له ووقوعهم عليه والعاقل لا يرتكب ما لا يليق بذي المروة.

(ومن خالط الأنذال حقر) الأنذال وهي جمع النذل وهي الخسيس المحتقر من الناس عندهم في جميع أحواله.

(ومن حمل ما لا يطيق عجز) أي من حمل من الأعمال والمطالب والمعاملة والمعاجلة التي

ص:246


1- -سورة فاطر:43.

لا تكون في وسعه عجز عنها أو عن كمالها واستحق بذلك التحقير والإهانة ولا يرتكب ذلك إلا الأحمق كما قال (عليه السلام): «ومن الخرق العجلة قبل الإمكان» وقال «من عجز عن أعماله أدبر في أحواله» أي صارت أحواله متغيرة منكوسة منقلبة.

(أيها الناس، إنه لا مال أعود من العقل) أعود من العائدة وهي النعمة والمقصود أن العقل أنفع الأموال لأن نفعه في الدنيا والآخرة وبه كمال الإنسان فيهما بخلاف غيره من الأموال وفي عد العقل من أفراد المال تجوز واستعارة والوجه الانتفاع وفيه ترغيب في اكتساب العقل بالعلوم والآداب (ولا فقر أشد من الجهل) لأن الفقر عدم النافع وأشد النافع هو العلم ولا فقر أشد من الجهل لاشتراك الفقر والجهل في العجز عن تحصيل المرام وعجز الثاني أشد لأنه في الدنيا والعقبى وعجز الأول في الدنيا فقط وفي التنفير عن الجهل بجعله من أشد أفراد الفقر تنفير عن الفقر أيضا وهذا ينافي ما ورد من مدح الفقر والفقراء والترغيب فيه ويمكن دفعه أولا بأن المراد بالفقر هنا ما يكسر الظهر ويدفع الصبر وهو الذي وقع الاستعاذة منه في بعض الروايات، وثانيا بأن المراد به الفقر الظاهري مع الفقر الباطني والمتصف به من جمع فيه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وثالثا بأن المراد به الفقر المعروف المتنفر عند الناس وهذا القدر كاف في تشبيه الجهل به والتنفير عنه.

(ولا واعظ أبلغ من النصح) الواعظ يدعو إلى الخيرات ويمنع عن المنهيات ونصح القرآن والسنة أبلغ منه فهو أولى بالاستماع لأن النداء الرباني أولى بالاتباع من النداء الإنساني وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله: «كيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة»؟ أي كيف يحفظ الصوت الخفي من أصمته الصيحة الإلهية والنبوية؟ استعار (عليه السلام) النبأة لدعائه (عليه السلام) لهم وندائه إلى سبيل الحق والنصيحة لخطاب الله ورسوله وهي كناية عن ضعف دعائه بالنسبة إلى قوة دعاء الله تعالى وتقرير ذلك أن الصوت الخفي لا يسمع عند القوى لاشتغال الحواس به وكان كلامه (عليه السلام) أضعف في جذب الخلق إلى الحق من كلام الله وكلام رسوله فأجراه مجرى الصوت القوي وأجرى كلامه مجرى الصوت الخفي، واسناد الإصمام إلى الصيحة ترشيح له للاستعارة إذ من شأن الصيحة العظيمة الإصمام ذا قرعت السمع.

(ولا عقل كالتدبر) في العواقب ليسلم عن المكاره والنوايب والعقل قوة بها إدراك المعقولات والمحسوسات بتوسط الآلات وقد يطلق على الإدراك أيضا، والتدبر النظر في عاقبة الامر وهو دليل على العقل حتى أن من لا تدبر له لا عقل له، فلذلك فضله عليه ورغب فيه (ولا عبادة كالتفكر) في الأمور من حيث الصدور وعدمه إذ بالتفكر يشاهد صور المعقولات ويبصر وجوه العبادات فهو مع كونه عبادة أصل للبواقي والأصل أفضل من الفرع.

ص:247

(ولا مظاهرة أوثق من المشاورة) في الأمور مع الأصدقاء وأصحاب العقول والأذكياء فإن معاونة العقول أقرب من الوصول إلى المطلوب وأدخل في حصول الألفة بينهم ولذلك خاطب الله تعالى حبيبه مع كمال عقله ولطف جوهره بقوله: (وشاورهم في الأمر).

(ولا وحشة أشد من العجب) لأن المعجب لما رأى في نفسه من الفضل والكمال واعتنى به حتى أخرجه عن حد الاعتدال يستوحش من غيره وذلك الغير أيضا يستوحش منه ويتنفر عنه إلا إذا كان سلطانا أو ذا مال فتقرب منه الراغب في الدنيا مع الوحشة للضرورة وقد مر حقيقة العجب وبيان أنه من المهلكات في بابه.

(ولا ورع كالكف عن المحارم) الورع عبارة عن لزوم الأعمال الجميلة المفيدة في الآخرة والغفلة معه عن الأمور الدنيوية والمصالح المتعلقة بجزئياتها ليست بضارة بل ربما كانت سببا للنجاة من عذاب الآخرة له أفراد متكثرة أفضلها الكف عن محارم الله خوفا من الله تعالى (ولا حلم كالصبر والصمت) لما كان الحلم هو ملكة العفو والصفح عن الأنام والتجاوز عن الانتقام لا يحصل إلا بالصبر على المكاره والشدايد والسكوت في مقام البطش عن المقابح والمفاسد عدهما أفضل منه لأن الأصل أفضل من الفرع، وإنما أورد (عليه السلام) هذه النصايح وما يأتي في صورة الأخبار للاهتمام بشأنها.

(أيها الناس في الإنسان عشر خصال يظهرها) مبتدأ لشاهد فعلى الأول المبتدأ محذوف وعلى الثاني فاعل يظهر ضمير راجع إلى الإنسان وهذه الخصال يحتاج إليها الإنسان في بقائه ونظامه والغرض من ذكرها وذكر آلاتها الترغيب في معرفة قدرها ومنعمها وشكرها وصرفها في وجوه البر وهي الوجوه التي طلبها المنعم.

(لسانه شاهد يخبر عن الضمير) فليكن ما في الضمير لا يضره غيره ولا يوجب وباله في الدنيا ونكاله في الآخرة.

(وحاكم يفصل بين الخطاب) الحق والباطل والبليغ وغيره ويمكن أن يراد بالفصل تقطيع الحروف وجعل بعضها خطابا وبعضها خطابا آخر واضح الدلالة على المقصود.

(وناطق يرد به الجواب) بعد السؤال عن أمور الدين والدنيا ولابد أن يكون الجواب على وجه الصواب (وشافع يدرك به الحاجة) لنفسه ولغيره ولابد أن تكون مشروعة لأن غيرها كفران للنعمة (وواصف يعرف به الأشياء) ذواتها وصفاتها تصورا وتصديقا تعليما وتعلما (وأمير يأمر بالحسن) العقلي والنقلي، الديني والدنيوي.

(وواعظ ينهى عن القبيح) نهي تحريم أو تنزيه كذلك (ومعز تسكن به الأحزان) من المصائب والنوائب والتعزية هي الحمل على الصبر بذكر ما يسهله.

ص:248

(وحاضر تجلى به الضغاين) الضغينة هي الحقد والعداوة والبغضاء ولعل المراد أنه حاضر يعرف وجوه الكلام يأتي به على وجه يكشف الضغاين عن القلوب.

(ومونق يلهي الأسماع) المونق المعجب من أنقه إيناقا أعجبه وألهاه عن كذا أشغله ووصفه بالإيناق باعتبار حاله وهو الكلام وفي بعض النسخ «تلتذ به الأسماع».

(أيها الناس لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل) دل على أن كتمان العلم والحق مع القدرة على إظهارهما مثل إفشاء الجهل والباطل في الحرمة وأما بدون القدرة فقد يجب الكتمان كما دلت عليه الروايات المتكثرة.

(واعلموا أيها الناس أنه من لم يملك لسانه يندم) يعني من لم يملك لسانه وأجراه في ميدانه وتكلم في كل طور من الأسرار والعلوم والمجادلة والمخاصمة والجرح والغيبة والتهمة والكذب والتكذيب والمضحكة والمزاح الكثير وكل ما لا يعني من غير تفكر في حسن حاله وقبح مآله يندم بالآخرة لما رآه من الإفساد وذل النفس واحتقارها وسفهها واستهزاء الحاضرين ومعاداة السامعين ولا ينفعه الندم وقد روي: «إن نجاة المؤمن من حفظ لسانه» وبالجملة في كثرة الكلام وإظهار ما ينبغي إخفاؤه وبال الدنيا ونكال الآخرة وإنما أمر بالعلم أو لا للاعتناء بمضمون هذه النصيحة وليس المقصود مجرد العلم به بل المراد به العمل بمقتضاه.

(ومن لا يعلم يجهل) يعلم مجهول من التعليم والتعليم إنما يكون من معلم رباني وفيه إشارة إلى أن الناس يحتاجون في رفع الجهل عنهم إليه، أو معلوم من العلم أي من ليس له حقيقة العلم فهو جاهل إذ لا واسطة بينهما فوجب تحصيله أو المراد من لم يعلم قدره فهو جاهل لأن العلم مستلزم لمعرفته وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم ويؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره».

(ومن لا يتحلم لا يحلم) التحلم إظهار للحلم واستعماله إياه بنوع كلفة حتى يظن أنه متصف به وفيه ترغيب في التحلم لتحصيل الحلم لأن الحلم المكتسب إنما يحصل به حتى يصير ملكة (ومن لا يرتدع لا يعقل) ردعه عنه كمنعه كفه ورده فارتدع أي من لا يرتدع عن القبايح وطريق الضلال ولا يكف نفسه عنهما لا يعقل أصلا أو لا يعقل قبحها وفسادها وسوء خاتمتها إذ لو عقلها لارتدع عنها وفيه لوم للصحابة أيضا حيث تركوه وأقبلوا إلى الباطل (ومن لا يعقل يهن) بالاستخفاف والاستحقار والاستهزاء لأن غير العاقل سفيه مستحق لجميع ذلك في الدنيا والآخرة (ومن يهن لا يوقر) بالضرورة لأن الإهانة ضد للتوقير والتعظيم ووجود أحد الضدين يستلزم نفي الآخر.

(ومن لا يتوقر يتوبخ) وبخه توبيخا فتوبخ لامه وعذله وأنبه وهدده وقبول هذه المعاني لازم لعدم التوقير، وهذه المقدمات إذا اعتبرت انتاجها ينتج أن من لم يرتدع يتوبخ وفي بعض النسخ

ص:249

المعتبرة «ومن يتق ينج» بدلا للمذكور.

(ومن يكتسب مالا من غير حقه) الضمير للكسب أو للمال والأخير أولى ليوافق الضمائر الآتية (يصرفه في غير أجره) وإن أعطاه مسكينا أو أطعمه جائعا لأن الواجب عليه رده إلى صاحبه والغرض أنه لا آجر في صرفه وأما أنه يعاقب به فيعلم من مقام آخر.

(ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم) أي من لم يترك الدنيا والقبايح بالاختيار وهو ممدوح يتركها بالاضطرار وهو مذموم والعاقل لا يؤثر الذم على المدح لأمر يتركه بالاضطرار.

(ومن لم يعط قاعدا منع قائما) يحتمل وجهين الأول وهو الأظهر أن يكون الفعلان مجهولين يعني من لم يعط زائدا على القوت حال كونه قاعدا غير طالب له منع منه حال كونه قائما طالبا له لأن المقدر يأتيه طلبه أو لم يطلبه وغير المقدر لا يحصل وإن طلبه كما دل عليه بعض الروايات.

والثاني أن يكونا معلومين يعني من لم يعط قاعدا غير سائل منع قائما سائلا لاشتراكهما في علة المنع وهي البخل وفيه ترغيب في إعطاء غير السائل.

(ومن يطلب العز بغير حق يذل) عند الله في الدنيا والآخرة كما طلبه الخلفاء الثلاثة وأضرابهم (ومن يغلب بالجور يغلب) وقتا ما إما في الدنيا أو في الآخرة والإمهال في الجملة للاستدراج أو لغرض آخر لا ينفعه لأنه تعالى ينتقم منه (والله عزيز ذو انتقام) (1)ولأن المظلوم من حزب الله وحزب الله هم الغالبون وفيه أيضا تعريض لمن غلبه بالخلافة.

(ومن عاند الحق لزمه الوهن) كما قال الله تعالى في وصف المنافقين: (يحسبون كل صيحة عليهم) وقال في وصف الكفار: (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) ويحتمل أن يكون المراد أن المطلوب إذا كان أمرا عظيما كإظهار دين الحق لا يمكن حصوله إلا بعد قوتهم وتظاهر بعضهم ببعض وفيه تنبيه على وجوب الألفة والاتحاد في الدين وعدم تشتت الآراء والتعاند فيه فإن ذلك يدعو إلى التفرق والتحزب ودخول الوهن والضعف عليهم وكل ذلك مناف لمطلوب الشارع ألا ترى أن الملك في تحصيل الملك يحتاج إلى تعاون العساكر وتآلفهم وتظاهرهم حتى يحصل له القوة وتتجلى له صورة النصر وفيه أيضا تعريض لمن ذكر.

(ومن تفقه وقر) دل على أن التوقير والتعظيم من لوازم التفقه في الدين والآيات والروايات الدالة عليه أكثر من أن تحصى ويكفي في ذلك أن الملائكة تضع أجنحتها له رضى به وأنه من ورثة الأنبياء وأنه يستغفر له جميع الموجودات حتى الحوت في البحر.

(ومن تكبر حقر) عند الله وعند الأنبياء والمرسلين بل عند جميع المخلوقين والله سبحانه

ص:250


1- -سورة آل عمران:7.

يوصل إليه ضد ما قصده.

(ومن لا يحسن لا يحمد) الإحسان ضد الإساءة يعني من لا يحسن إلى الخلائق لا يكون محمودا عندهم وقد اشتهر أن الإنسان عبيد الإحسان وأن الإحسان وإن كان ثقيلا إلا أن فيه أثرا جميلا وإن ذا القرنين قال لأستاذه أرسطاطاليس: انصح لي، فقال: «ملكت البلاد بالفرسان فاملك القلوب بالإحسان».

(أيها الناس أن المنية قبل الدنية) المنية الموت والدنية الخصلة المذمومة يعني احتمال الموت قبل احتمال ما يعيبك وخير منه.

(والتجلد قبل التبلد) الجلد محركة الشدة والقوة والجليد القوى الشديد وجلد ككرم جلادة وتجلد تكلف الجلادة والتبلد ضد التجلد تبلد أي تحير في أمره مترددا وفي كنز اللغة: تجلد جلدي كردن، تبلد كند كشتن وبرهم زدن از پشيمانى ومتردد شدن از حيرت، ولعل المراد أن التجلد في الأمور المطلوبة عقلا ونقلا ينبغي أن يكون قبل التبلد فيها إذ التبلد يوجب فواتها وفيه لوم لمن تجلد في الباطل وتبلد في الحق وحث لخلص أصحابه على الثبات والمتابعة (والحساب قبل العقاب) بالضرورة فلا ينبغي تأخيره إلى القيامة لإمكان ظهور الخيانة عند المحاسبة فيها ولا يمكن التدارك حينئذ بل ينبغي تقديمه والاشتغال به في الدنيا بأن يراقب المكلف أعضاءه ويعطي كل عضو منها ما طلب منه ويمنعه عما نهى عنه فإن صدر منه خلاف ما ينبغي تداركه بالتوبة والقضاء والأداء والإبراء ونحوها وهكذا يراعي حاله حتى يخرج من الدنيا سالما من المحاسبة في العرض الأكبر.

(والقبر خير من الفقر) أي من الفقر القلبي والإفلاس الحقيقي وهو فقر الآخرة لوجود الأعمال الباطلة وفقد الأعمال الصالحة أو من الفقر المعروف الذي لا يكون معه شيء ولا صبر ولا ورع حاجز عن المهلكات.

(وغض البصر خير من كثير من النظر) أمر بغض البصر وترك النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه إذ أكثر المفاسد والخطر إنما يحصل من إرسال النظر.

(والدهر يوم لك ويوم عليك) بإعطاء المطالب ومنعها (فإذا كان لك فلا تبطر) البطر محركة النشاط والأشر والطغيان والتكبر وفعل الكل كفر.

(وإذا كان عليك فاصبر) لأن الصبر في مواطن المكاره والشدائد من صفات الأنبياء والأولياء وهو مع كونه سببا للمقامات العلية الدرجات الرفيعة سبب أيضا لسهولة المحنة ونزول الفرج (فبكلهما تمتحن) فأنت دايما في الاختبار أما بأسباب تبطر والبغي والاستكبار أو بأسباب الجزع والشكاية والاصطبار.

ص:251

وفي نسخة: (وكلاهما ستختبر) الاستخبار الاستعلام من الخبر بالكسر والضم العلم بالشيء كالاختبار وإفراد الفعل باعتبار اللفظ إن كان غائبا وإن كان خطابا يحتاج إلى إضمار.

(أيها الناس أعجب ما في الإنسان قلبه) كل ما في الإنسان من الجوارح والأعضاء والعروق الساكنة والمتحركة والعظام الصغيرة والكبيرة والأعصاب الغليظة والدقيقة والرباطات الدقيقة وغيرها مما يشتمل على قليل منها علم التشريح أمر عجيب ووضع غريب يدل على قدرة الصانع وحكمته وتدبيره بحيث يعجز عن دركه عقول العقلاء وعن فهمه فحول العلماء وأعجب ما فيه قلبه وهو الجوهر المجرد المسمى بالنفس الناطقة التي خلقت له ساير الجوارح والقوى ووجه كونه أعجب ما أشار إليه إجمالا بقوله: (وله مواد من الحكمة) النظرية والعملية لأن له قوة نظرية بها يدرك المعقولات الكلية والأسرار الإلهية وصور المجردات وحقايق الأشياء كما هي ويطير بأجنحة الكمال إلى عالم الروحانيات ويدرك أيضا صور المحسوسات ووجوه الصناعات بتوسط الآلات وقوة أخرى عليه بها بتصرف في البدن وقواه فيأمر اللسان بالتكلم فيتكلم ويأمر البصر بالإبصار فيبصر وهكذا وهو بهذه القوة مع الاستعانة بالأولى يتخلى من الرذايل ويتحلى بالفضايل إن كانت القوى تابعة له ومحصورة على ما يليق بها ويجعله نصيبا لها، ثم أشار إلى أنه مع كماله وشرفه وكونه من العالم العلوي أمير في هذا العالم الجسماني فقير عاجز للهوى والحواس والقوى بقوله:

(وأضداد من خلافها) منشأ هذه هو القوة العملية وأشار إلى تفسير الأضداد إجمالا وهي أحواله العارضة المتولدة بعضها من بعض بقوله:

(فإن سنح له الرجاء) من الدنيا وأهلها (إذ له الطمع) فيها (وإن هاج به الطمع) فيها وحركه إلى الرغبة إليها (أهلكه الحرص) عليها وهو عدم الرضا بالواصل وصرف العمر في تحصيل غير الحاصل وهذه الصفات مترتبة في الوجود ناشية من الإفراط في القوة الشهوية مذلة للنفس والنفس مع كونها من عالم القدس ونظرها إليه بالذات كثيرا ما تصير مغلولة أسيرة لها والنجاة من حبسها إنما تكون بردها إلى الوسط وتقريرها عليه.

(وإن ملكها اليأس) من الدنيا العالية أو السافلة (قتله الأسف) والحزن الشديد على فواتها والأسف على اليأس من الأولى أقبح من الثاني والكل دليل على ضعفه من حيث انقياده لتلك القوة المتجاوزة على الوسط إلى حد الإفراط والتفريط حتى أنه يغتم بفوات مطلوبها.

(وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ) غضبه حركته نحو الانتقام أو انفعاله عن تلك الحركة ومبدؤه الطغيان في القوة الغضبية والأنفة عن تحمل ما هو ثقيل عليه والغيظ ثمرة الغضب يحصل من احتقانه وغليان النفس منه وسبب قريب لطريان أحكامه (وإن أسعد بالرضا) أسعده أعانه والمراد أنه أعين بالرضا وتهيأت له مقاصد الدنيا على الوجه المرضي عنده.

ص:252

(نسي التحفظ) والتحرز عن مخاطرات النفس ومكائد الشيطان فيقع بذلك في مهاوي العصيان وفيه ترغيب في التيقظ وترك الغفلة في تلك الحالة.

(وإن ناله الخوف) من الخلق أو من فوات الدنيا (شغله الحذر) من المخوف عن أمر الآخرة وأما خوفه من الله والحذر من موجباته فهو من كماله وقوته.

(وإن اتسع له الأمن) في النفس والمال والجاه (استلبته الغرة) الشيطانية وأوقعته في موارد الشهوة النفسانية والاستمتاع بلذات الدنيا والاستلاب والاختلاس. والغرة بكسر الغين المعجمة الغفلة (وإن جددت له نعمة أخذته العزة) في نفسه وهي العجب أو على الغير فهي الكبر وكلاهما من جهة نقصه في القوة العقلية وأسره في يد القوى البدنية.

(وإن أفاد مالا) أفاده استفاده وأعطاه ضد، والمراد هنا الأول (أطغاه الغنى) جعله طاغيا عاصيا بالعجب والتكبر والتفاخر والضلال عن الحق كما قال عز وجل (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)(1) (وإن عضته فاقة) وفقر وفيه مكنية وتخييلية.

(شغله البلاء) والمحنة والحزن على ما فاته خصوصا بعد حصوله عن الله وعن سلوك سبيله والعمل الخالص لوجهه.

(وفي نسخة: جهده البكاء) أي أتعبه لأن الفقير الطالب للدنيا المتعلق قلبه بها يبكي على فواتها كبكاء الثكلى وهذا أقبح من الأصل وأدل على كمال ضعفه.

(وإن أصابته مصيبة) في النفس والمال والحال (فضحه الجزع) والاضطراب الدال على خفته وسفاهته حتى يكشف مس