شرح أصول الكافي
تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه
المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه
تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور
سنة الطبع :1929ه. 2008م
دار احياء التراث العربي
بيروت _ لبنان
ص: 1
جمیع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثّانیة
1929ه. 2008م
الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة
بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559
- فاکس: 850717
850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-
www.dartourath.com
Email:info@dartourath.com
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب 1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن جابر قال: قال: أبو جعفر (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان. فما ورد عليكم من حديث آل محمد (صلى الله عليه وآله) فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمد، وإنما الهالك أن يحدث أحدكم بشيء منه لا يحتمله، فيقول: والله ما كان هذا، والله ما كان هذا، والإنكار هو الكفر.(1)
من شرافة الذات ونورانيتها والكلمات الفاضلة والأخلاق الكاملة والأشراق التي تختص بها عقولهم والقدرة على ما لا يقدر عليه غيرهم من العلم بالأمور الغيبية والأسرار الإلهية والأخبار الملكوتية والآثار اللاهوتية والأطوار الناسوتية والأوضاع الفلكية والأوصاف الملكية والوقايع الخالية والبدائع الآتية والحالية والأحكام الغريبة والقضاء العجيبة، صعب في نفسه، مستصعب فهمه على الخلق، لا يؤمن به ولا يقبله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان وأعده بتطهيره وامتحانه وابتلائه بالتكاليف العقلية والنقلية وكيفية سلوك سبيله لحصول الإيمان الكامل بالله وبرسوله وبالأئمة وباليوم الآخر حتى يتحلى بالكمالات العلمية والعملية والفضائل الخلقية والنفسية ويعرف مبادئ كمالاتهم وقدرتهم وكيفية صدور مثل هذه الغرايب والعجائب عنهم، فيصدقهم ولا يستنكر ما ذكر من فضائلهم وما يأتون به من قول وفعل وأمر و نهي وإخبار ولا يتلقاهم بالتكذيب، كما كان جماعة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) يفعلون ذلك معه فيما كان يخبر به من الفتن والوقايع حتى فهم ذلك منهم فقال: يقولون يكذب، قاتلهم الله فعلى من أكذب؟ أعلى الله وأنا أول من آمن به، أو على رسوله وأنا أول من صدقه؟ بل يحمل كل ما يقولون ويفعلون ويأتون به على وجهه وينسبه إلى مبدئه ويتلقاه بالقبول عليه ويحمله على الصواب إن عرفه ووجد له محملا صحيحا، وإن اشمأز قلبه وعجز عن معرفته تثبت فيه وآمن به على سبيل الإجمال وفوض علم كنهه إلى الله وإلى الرسول وإلى عالم من آل محمد ولا ينسبهم إلى الكذب; إذ كما أن للقرآن ظاهرا وباطنا ومحكما ومتشابها ومجملا ومفسرا كذلك ما صدر منهم، ومن نسبهم إلى الكذب فقد كفر بالله العظيم، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: «أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان. فإذا انكشف لكم أو وضح لكم أمر فاقبلوه وإلا فأمسكوا تسلموا، وردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع ما بين السماء والأرض».
ص:4
قوله: (فما ورد عليكم من حديث آل محمد (صلى الله عليه وآله) - إلى آخره - سواء دل ذلك الحديث على أسرار المبدأ والمعاد أو على الأحكام والأخلاق (1)، أو على أحوال القرون الماضية والآتية، أو على صفاتهم وكمالاتهم الفايقة على كمالات غيرهم فما ورد عليكم من هذه الأحاديث فإن لانت له قلوبكم واحتملته ولم تستصعبه وعرفت المراد منه إما لكونه ظاهرا أو لكونه مؤولا بتأويل موافق لقوانينهم عقلا ونقلا فاقبلوه واعملوا به إن كان متعلقا بالعمل، وإن اشمأزت منه قلوبكم وتقبضت منه وأنكرته أي لم تعرف المراد منه ولم تجد له محملا صحيحا فلا تردوه ولا تقولوا هو كاذب بل ردوا علم كنهه و حقيقته إلى أهله هذا إذا لم تجده مخالفا للكتاب والسنة النبوية مخالفة لا يمكن معها الجمع بينهما وإلا فلا ضير في رده; لما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) من «أن كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» وعنه (عليه السلام) «ما جاءكم عني يخالف كتاب الله فلم أقله».
قوله (لا يحتمله) لصعوبة فهمه عليه وخروجه عن وسعه إما لقصور في عقله أو لغموض في المقصود.
قوله (والإنكار هو الكفر) أي إنكارهم أو إنكار حديثهم ونسبة الكذب إليه مع العلم أو الظن بأنه حديثهم سواء سمعه شفاها أو بواسطة.
2 - أحمد بن إدريس، عن عمران بن موسى، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكرت التقية يوما عند علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال: والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله. ولقد آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق، إن علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فقال: وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبته إلى العلماء.(2)
قوله (فقال والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله) المراد بما في قلب سلمان العلوم
ص:5
والأسرار و منشأ القتل هو الحسد (1) والعناد، وفيه مبالغة على التقية من الإخوان فضلا عن أهل الظلم والعدوان، فان قلت: هل فيه لوم لأبي ذر؟ قلت: لا لأن المقصود في مواضع استعمال «لو» هو أن عدم الجزاء مترتب على عدم الشرط، وأما ثبوته فقد يكون محالا لابتنائه على ثبوت الشرط وثبوت الشرط قد يكون محالا عادة أو عقلا كعلم أحدنا بجميع ما في القلب وثبوت حقيقة الملائكة للمتكلم في قوله: «لو كنت ملكا لم أعص»
ص:6
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (ولئن أشركت ليحبطن عملك) (1)على أنه يمكن أن يكون المقصود من التعليق هو التعريض بوجوب التقية وكتمان الأسرار على من يخاف منه الضرر كما في قولك: «و الله لو شتمني الأمير لضربته» فإنه تعريض بشاتم آخر وتهديد له بالضرب بدليل أن الأمير ما شتمك ولو شتمك; لما أمكنك ضربه. فليتأمل. قوله: (ان علم العلماء) منهم سلمان كما يصرح به.
قوله: (وإنما صار سلمان من العلماء لأنه) قال القرطبي: سلمان يكنى أبا عبد الله وكان ينسب إلى الإسلام فيقول: أنا سلمان ابن الإسلام، ويعد من موالي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه أعانه بما كوتب عليه; فكان سبب عتقه، وكان يعرف بسلمان الخير، وقد نسبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بيته فقال: «سلمان منا أهل البيت» وأصله فارسي من رامهرمز قرية يقال لها جي، وقيل: بل من أصبهان، وكان أبوه مجوسيا فنبهه الله تعالى على قبح ما كان عليه أبوه وقومه وجعل في قلبه الشوق إلى طلب الحق فهرب بنفسه وفر عن أرضه فوصل إلى المقصود بعد مكابدة عظيم الشعاب والصبر على المكابدة.
وقال علي (عليه السلام): «سلمان علم العلم الأول والآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منا أهل البيت» وعنه أيضا:
«سلمان مثل لقمان» وله أخبار حسان وفضائل جمة.
قوله: (فلذلك نسبته إلى العلماء) أراد بالعلماء أهل البيت (عليهم السلام).
3 - علي إبراهيم، عن أبيه، عن البرقي، عن ابن سنان أو غيره رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن حديثنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا صدور منيرة، أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة. إن الله أخذ من شيعتنا الميثاق كما أخذ على بني آدم (ألست بربكم) فمن وفى لنا وفى الله له بالجنة ومن أبغضنا ولم يؤد إلينا حقنا، ففي النار خالدا مخلدا.(2)
قوله: (لا يحتمله إلا صدور ومنيرة) (3) وهي صدور الأنبياء شبه نفوسهم القدسية بالشمس لمكان المشابهة بينهما في اتصافهما بأنوار الكمالات وحصول الهداية عنها مع لطفها وصفائها.
قوله: (وقلوب سليمة) وهي قلوب العلماء، لسلامتها من الآفات والجهالات، فنفى ما يلقى
ص:7
إليها من تلك الأسرار ولا يحملها سماع تلك الغرايب على الاستنكار.
قوله: (أو أخلاق حسنة) أي صاحب أخلاق حسنة، بحذف المضاف. ويحتمل أن يكون إطلاق الأخلاق مجازا عن إطلاق اسم المتعلق على المتعلق، واسم الحال على المحل وهي قلوب أعدها الله تعالى من أجل اتصافها بالأخلاق الحسنة; لقبول الصواب والحق من أهل العلم، فإن عرفوا له محملا صحيحا حملوه، وإن عجزوا عن معرفته ردوا علم كنهه وحقيقته إلى أهل العلم والترديد من باب منع الخلو.
قوله: (إن الله أخذ) أي إن الله أخذ من شيعتنا في عالم الأرواح الميثاق على ولايتنا كما أخذ من بني آدم كلهم الميثاق على ربوبيته، وفيه دلالة على أن غير الشيعة لم يقروا لهم في عالم الأرواح بالولاية، كما لم يقروا لهم بها في عالم الأبدان، يدل على ذلك ما روي عن الباقر (عليه السلام) «من أن الله تعالى دعا الخلق في الظلال إلى ولايتنا فأقر بها لله من أحب، وأنكرها من أبغض وهو قوله: (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (1) ثم قال (عليه السلام) كان التكذيب ثم».
قوله (فمن وفى لنا) قال الفاضل الأسترآبادي: قد وقع التصريح في كلامهم (عليهم السلام) بأن فعل الأرواح في عالم الأبدان موافق لفعلهم يوم الميثاق فالمراد: من وفى لنا في عالم الأرواح وعالم الأبدان بما كلفه الله تعالى من التسليم، وفى الله له بالجنة.
قوله (ومن أبغضنا) أي ومن أبغضنا في عالم الأبدان كما أبغضنا في عالم الأرواح ولم يرد الينا حقنا الذي هو الولاية ولم يسلم لنا فهو في النار خالدا مخلدا ولم ينفعه الإقرار بالربوبية كما لا ينفعه مع انكار النبوة، لأن النافع إنما هو الإيمان والإيمان إنما هو الإقرار بالجميع.
4 - محمد بن يحيى وغيره، عن محمد بن أحمد، عن بعض أصحابنا قال: كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) جعلت فداك ما معنى قول الصادق (عليه السلام) «حديثنا لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان» فجاء الجواب إنما معنى قول الصادق (عليه السلام) «أي لا يحتمله ملك ولا نبي ولا مؤمن»: أن الملك لا يحتمله حتى يخرجه إلى ملك غيره والنبي لا
ص:8
يحتمله حتى يخرجه إلى نبي غيره والمؤمن لا يحتمله حتى يخرجه إلى مؤمن غيره، فهذا معنى قول جدي (عليه السلام).(1)
قوله (ما معنى قول الصادق (عليه السلام) حديثنا لا يحتمله ملك مقرب) لما كان ظاهر هذا الحديث أن حديث فضائلهم (عليهم السلام) لا يحتمله هؤلاء المقربون ولا يؤمنون به وهو باطل، سأله سائل عن محمل صحيح (2) له فأجاب (عليه السلام) بأن الغاية محذوفة ومعناه أنهم لا يحتملونه حتى يؤدونه ويخرجون
ص:9
غيرهم ممن هو أهل له. أقول وله محمل آخر وهو أن لهم (عليهم السلام) علوما وأسرارا مخصوصة بهم لا يحتملها ولا يعلمها هؤلاء المقربون كما يأتي في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ولكن ما أجاب به (عليه السلام) وجب التسليم به.
قوله (و المؤمن لا يحتمله حتى يخرجه إلى مؤمن غيره) انما قال إلى مؤمن للتنبيه على أن المؤمن المحتمل لحديث فضائلهم يجب أن يكون أمينا يعني ما يلقى إليه منه يوصله إلى أمين مثله ويحفظ عن الإذاعة إلى من لا يحتمله ولا ينتفع به ولا يكون أهلا له. وقد دلت الروايات المتكثرة على وجوب كتمان العلم عن غير أهله.
5 - أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن منصور بن العباس، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن عبد الخالق وأبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا أبا محمد إن عندنا والله سرا من سر الله وعلما من علم الله والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان والله ما كلف الله ذلك أحدا غيرنا ولا استعبد بذلك أحدا غيرنا وإن عندنا سرا من سر الله وعلما من علم الله، أمرنا الله بتبليغه؟ فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه حتى خلق الله لذلك - أقواما خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته، ومن نور الله منه محمدا وذريته، وصنعهم بفضل رحمته التي صنع منها محمدا وذريته، فبلغنا عن الله ما امرنا بتبليغه فقبلوه واحتملوا ذلك [فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه] وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا، فلولا أنهم خلقوا من هذا، لما كانوا كذلك، لا والله ما احتملوه.
ثم قال: إن الله خلق أقواما لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه وكذبوا به وقالوا: ساحر كذاب، فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك، ثم أطلق الله لسانهم ببعض الحق، فهم ينطقون به وقلوبهم منكرة ليكون ذلك دفعا عن أوليائه وأهل طاعته، ولولا ذلك ما عبد الله في أرضه، فأمرنا بالكف عنهم والستر والكتمان، فاكتموا عمن امر الله بالكف عنه واستروا عمن أمر الله بالستر والكتمان عنه، قال: ثم رفع يده
ص:10
وبكى وقال: اللهم إن هؤلاء لشرذمة قليلون فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ولا تسلط عليهم عدوا لك فتفجعنا بهم، فإنك إن أفجعتنا بهم لم تعبد أبدا في أرضك و صلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.(1)
قوله (إن عندنا والله سرا من سر الله) إن كان «من» للتبعيض يستفاد منه أن بعض الأسرار والعلوم مختص به سبحانه وبعضها أظهر لهم (عليهم السلام) وهو على قسمين قسم يختص بهم وقسم لا يختص بهم بل هم مأمورون بتبليغه إلى الخلق ولا يقبله منهم إلا من كان بينه وبينهم مناسبة ذاتية وموافقة روحانية ولا بد من استثناء نبينا (عليه السلام) من قوله «ولا نبي مرسل» لأنه أولى بالاختصاص بذلك العلم المختص بهم إذ منه وصل إليهم.
قوله (فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة) الظاهر أن الحمالة بتشديد الميم من صيغ المبالغة، والتاء إما للمبالغة كعلامة أو للتأنيث بتقدير موصوف مؤنث أي طائفة حمالة، ثم القابل لذلك العلم باعتبار أنه يوضع فيه يسمى موضعا، وباعتبار أنه مستعد لقبوله يسمى أهلا، وباعتبار أنه يحتمله يسمى حمالة، فهي بالذات واحد، وبالاعتبار مختلف.
قوله (حتى خلق الله لذلك أقواما من طينة) لما علم الله تعالى أن أقواما يقبلون حديث محمد وذريته (صلى الله عليه وآله) خلقهم لطفا وتفضلا من طينتهم وأصلهم; ليكون ذلك معينا لهم في القبول والتحمل وليرجعوا في الدنيا والآخرة إلى أصلهم فلا يلزم الجبر ولا الظلم في خلق من عداهم من غير طينتهم، وحينئذ قوله فيما بعد «فلو لا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك» معناه أن كونهم كذلك أي قائلين محتملين لحديثهم، لأجل تحقق خلقهم من هذا معين لهم في القبول والتحمل أو لأن تحقق المسبب دليل على تحقق السبب وعدم نقيضه، وبعبارة أخرى: لما خلق الله تعالى طينتهم (عليهم السلام) وأرواحهم نورانيين وأشرقت أنوارهم على طينة كل من يحتمل حديثهم وسلم لهم في عالم الأعيان وعلى أرواحهم بحيث يستضيء بنورهم في عالم الأنوار، كل من يستضيء بنورهم في عالم الأبدان على أن يكون ذاك سببا عن هذا كما أن ظل الشيء مسبب عنه خلقه الله تعالى من نور طينتهم وأرواحهم فهو نوراني في العالمين كما أن من لم ينتفع بحديثهم ولم يسلم لهم ظلماني فيهما، وهذا الذي ذكرته من باب الاحتمال (2) والله - تعالى شأنه - عالم بحقيقة الحال.
ص:11
قوله (و صنعهم بفضل رحمته) يعني رحمته تعلقت أولا بصنع محمد وذريته (عليهم السلام) ولذلك سماه رحمة للعالمين، وثانيا بصنع شيعتهم ومواليهم وهم الذين كانوا في علم الله تعالى تابعين لأقوالهم وأعمالهم قابلين لاشراقاتهم وأنوارهم ثم خلق من عقبه أقواما كانوا في علم الله تعالى نافرين من نورهم مائلين إلى الظلمة وهو الذي سبقت رحمته غضبه.
قوله (فقبلوه واحتملوا ذلك) (1) لعل المراد بالاحتمال: الإذعان بالجنان، وبالقبول: التصديق باللسان بأن يقول هذا حق ويحتمل العكس كما يحتمل التأكيد.
قوله (فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه) الظاهر أنه تأكيد للأول، ويحتمل أن يكون الأول مختصا بمن سمع مشافهة، والثاني بمن سمع بواسطة.
قوله (إلى معرفتنا وحديثنا) العطف إما على المضاف، أو على المضاف إليه، والمراد بالمعرفة:
التصديق بولايتهم والإذعان بصدق حديثهم.
قوله (ثم قال: إن الله خلق أقواما لجهنم والنار) اللام للعاقبة لا للتعليل يعني أنه خلق أقواما عاقبة عملهم دخول النار لردهم التكليف الأول بالولاية (2) في عالم الأرواح والتكليف الثاني بها في عالم الأبدان والفائدة في التكليف الثاني هي التأكيد وإلزام الحجة والتنبيه عن الغفلة ولجريان الحكمة على عدم التعذيب بدونه كما قال جل شأنه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
قوله (واشمأزوا من ذلك إلى قوله ساحر كذاب) يريد أنهم أنكروا ذلك ظاهرا وباطنا، أما باطنا فلأنه لم يحصل لهم التصديق. والإذعان به وأما ظاهرا فلأنهم نسبوا الكذب والافتراء إليه، كل ذلك لمانع اختياري لهم هو معارضة الحق الصريح والنص الصحيح بمقدمات باطلة خيالية، والقدح فيهما باحتمالات فاسدة وهمية كاحتمال السحر ونحوه.
قوله (فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك) لما أعرضوا عن الحق وأنكروه وأبطلوا استعدادهم
ص:12
الفطري (1) استحقوا سلب اللطف عنهم، فشبه ذلك بالطبع لأنه مانع من دخول الحق في قلوبهم كالطبع، قال الفاضل الأسترآبادي: هذا صريح في أن إضلال الله تعالى بعض عباده من باب المجازاة لا الابتداء كما زعمته الأشاعرة.
قوله (ثم اطلق الله لسانهم) أي وفقهم لذلك وهداهم إليه لا لأن ينفعهم به بل لأن يدفع به ضررهم عن أوليائه.
قوله (فاكتموا عمن أمر الله بالكف عنه) قال الله تعالى فيما ناجى موسى بن عمران (عليه السلام) «إني أنا الله فوق العباد والعباد دوني وكل لي داخرون، فاتهم نفسك ولا تأتمن ولدك على دينك إلا أن يكون ولدك مثلك يحب الصالحين».
قوله (فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم) المحيا: مفعل من الحياة وهو ضد الموت، أي اجعل حياتهم مثل حياتنا في صرفها إلى طاعاتك والتوصل إلى مرضاتك، واجعل موتهم مثل موتنا في الابتهاج بدخول جنانك والسرور بمشاهدة رضوانك، ويحتمل أن يكون المراد اجعل زمان حياتهم و موتهم مثل زمان حياتنا وموتنا فيما ذكر.
قوله (ولا تسلط عليهم عدوا لك) طلب دفع قدرته عنهم ورفع امضاء شوكته منهم.
قوله (فتفجعنا بهم) أي فتوجعنا بسبب تسلط العدو عليهم أو فتوجعنا معهم وقد يكنى به عن الهلاك وهو الأنسب هنا بالسياق.
ص:13
1 - عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان ابن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطب الناس في مسجد الخيف فقال: نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافى دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم.
و رواه أيضا عن حماد بن عثمان، عن أبان، عن ابن أبي يعفور، مثله، وزاد فيه: وهم يد على من سواهم، وذكر في حديثه أنه خطب في حجة الوداع بمنى في مسجد الخيف.(1)
قوله (في مسجد الخيف) بفتح الخاء وسكون الياء ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل، ومسجد منى يسمى مسجد الخيف; لأنه في سفح جبلها.
قوله (نضر الله عبدا) نضره ونضره وأنضره أي نعمه، فنضر ينضر من باب نصر وشرف يتعدى ولا يتعدى، وفي النهاية: روى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره، وفي المغرب عن الأزدي: ليس هذا من الحسن في الوجه، وانما هو في الجاه والقدر، واستدل النافي لنقل الحديث بالمعنى بهذا الحديث، الجواب لا يدل هذا على المطلوب لأنه دعا لمن نقله بصورته لأنه أولى وأحسن ولا نزاع في أن نقله بصورته أولى، وقد مرت الروايات الدالة على جواز نقله بالمعنى على أنه يمكن حمل هذا الحديث على مطلق حفظه وتبليغه الشامل لحفظ المعنى وتبليغه فإن من سمع الحديث وضبط معناه وبلغه صح أن يقال أداه كما سمعه ولذلك صح أن يقول المترجم أديته كما سمعته.
قوله (قرب حامل فقه) (2) تعليل للتبليغ وإشارة إلى فائدته فإن المبلغ إليه قد يكون فقيها دون
ص:14
المبلغ وقد يكون أفقه منه فهو ينتفع منه ما لا ينتفع به المبلغ ويفهم منه إن نقل بصورته مالا يفهمه الناقل فالأولى أن يكون نقله بصورته لئلا يفوت شيء من الأغراض.
قوله (ثلاث لا يغل قلب امرئ مسلم) أي يغل فيها وهذا إما نهي أو خبر في معناه، ويغل إما بضم الياء من الإغلال وهو الخيانة في كل شيء، بخلاف الغلول فإنه خيانة في المغنم خاصة أو بفتحها من الغل وهو الحقد والشحناء أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق أو من الوغول وهو الدخول في الشر يقال: يغل - بالتخفيف - إذا دخل فيه والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر كما صرح به ابن الأثير.
ص:15
قوله (والنصيحة لأئمة المسلمين) النصيحة إرادة الخير للمنصوح والمراد بها طاعة الأئمة وإعانتهم على الحق وتأليف القلوب إلى انقيادهم والصلاة خلفهم والجهاد معهم وبالجملة إرادة كل ما هو خير في الدنيا والآخرة لهم وترك الغش عليهم ويمكن تعميم الأئمة بحيث يتناول العلماء أيضا، ومن النصح لهم قبول رواياتهم والرجوع إليهم في الأحكام وحسن الظن بهم والذب عنهم وعن أعراضهم وتوقيرهم وجلب المنافع المشروعة إليهم وسد خلتهم وترك حسدهم وغشهم ودفع الضرر عنهم.
قوله (و اللزوم لجماعتهم) أي الحضور فيها والدوام عليها والاهتمام بها على قدر الإمكان وانما خص الثلاثة المذكورة بالذكر لأنها أصول لجميع الخيرات وفروع للإيمان الحقيقي بالله وبرسوله وباليوم الآخر.
قوله (فان دعوتهم محيطة من ورائهم) تعليل للزوم الجماعة وترغيب في حضورها والدعوة أخص من الدعاء لأنها للمرة الواحدة، والمراد أن دعوتهم تحيط بهم أي تحدق بهم من جميع جوانبهم وتحفظهم من جميع جهاتهم، يقال: حاطه يحوطه حوطا وحياطة إذا حفظه وذب عنه، وأحاط به إذا أحدقه من جميع جوانبه، ومنه قولك: أحطت به علما أي أحدق علمي به من جميع جهاته وعرفه من كل وجه.
قوله (والمسلمون إخوة تتكافى دماؤهم) أي يتساوى في القصاص والجنايات والديات لا تفاوت بين الشريف والوضيع، وا لكفؤ النظير والمساوي.
قوله (و يسعى بذمتهم أدناهم) المراد بالذمة عهد الأمان الذي يجعله بعض المسلمين للعدو، يعني إذا أعطى أحد من المسلمين وإن كان أدناهم العدو أمانا جاز ذلك على جميع المسلمين (1)
ص:16
وليس لهم أن يظفروا ولا أن ينقضوا عليه عهده.
قوله (و رواه أيضا) فاعل «رواه» غير معلوم ولعله أحمد بن محمد أبي نصر فهو رواه عن أبان بن عثمان تارة بلا واسطة وتارة بواسطة مع زيادة وهي قوله (وهم يد على من وسواهم) أي هم متناصرون على أعدائهم ومجتمعون عليهم وعلى عداوتهم، وهو خبر بمعنى الامر يعنى لا يجوز لهم التخاذل بل يجب عليهم أن يعاون بعضهم بعضا على جميع الأديان والملل بحيث يكون أيديهم كيد واحدة وفعلهم كفعل واحد.
قوله (بمنى) منى بكسر الميم: اسم لهذا الموضع المعروف، والغالب عليه التذكير والصرف، وقد يكتب بالألف.
2 - محمد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن علي بن الحكم، عن حكم بن مسكين، عن رجل من قريش من أهل مكة قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمد، قال: فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفيان: يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد الخيف، قال: دعني حتى أذهب في حاجتي فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك. فقال:
أسألك بقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما حدثتني. قال: فنزل، فقال له سفيان مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته، فدعا به ثم قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد الخيف: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه: يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم
ص:17
محيطة من ورائهم، المؤمنون إخوة تتكافى دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم» فكتبه سفيان ثم عرضه عليه وركب أبو عبد الله (عليه السلام) وجئت أنا وسفيان.
فلما كنا في بعض الطريق قال لي: كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث، فقلت له: قد والله ألزم أبو عبد الله (عليه السلام) رقبتك شيئا لا يذهب من رقبتك أبدا فقال: وأي شيء ذلك؟ فقلت له: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله قد عرفناه، والنصيحة لأئمة المسلمين من هؤلاء الأئمة الذين تجب علينا نصيحتهم؟ معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وكل من لا تجوز شهادته عندنا ولا تجوز الصلاة خلفهم؟ وقوله: واللزوم لجماعتهم فأي الجماعة؟ مرجئي يقول من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح امه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل؟ أو قدري يقول: لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس؟ أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب وشهد عليه بالكفر؟ أو جهمي يقول: إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شيء غيرها؟!! قال: ويحك وأي شيء يقولون؟ فقلت: يقولون: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) والله الإمام الذي يجب علينا نصيحته، ولزوم جماعتهم: أهل بيته، قال: فأخذ الكتاب فخرقه ثم قال: لا تخبر بها أحدا.(1)
قوله (مر لي بدواة) في بعض النسخ «من لي بدواة» وهو بضم الميم وشد النون أمر من «المن» والاستفهام بعيد.
قوله (كما أنت) أي قف في مكانك وألزمه كما أنت فيه.
قوله (مرجئي) المرجئة بالهمزة والمرجية بالياء: فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا بذلك لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم، يقال: أرجأت الامر وأرجيته بالهمزة أو الياء إذا أخرته، والنسبة إلى المهموز «مرجئي» بضم الميم وسكون الراء وكسر الجيم وتشديد الياء وإلى غيره مرجي بياء مشددة عقيب الجيم.
قوله (أو قدري) قد ذكرنا في باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين أن القدرية تطلق على معنيين أحدهما - وهو الأشهر - أنهم الفرقة المجبرة الذين يثبتون كل الأفعال بقدر الله وينسبون القبايح كلها إليه، وثانيهما المفوضة الذين يقولون فوض الله جميع أفعال العباد إليهم بحيث يخرجون عن ربقة الانقياد له من غير أن يكون له تصرف وتدبير وإرادة فيها، والأخير هو الأنسب هنا بقرينة قوله: «لا
ص:18
يكون ما شاء الله ويكون ما شاء إبليس» فنفى أن يكون له تعالى مشية وإرادة وتدبير وتصرف في أفعال العباد وأثبت ذلك لإبليس، وقد مر فساد ذلك في ذلك الباب.
قوله (أو حروري) الحرورية: فرقة من الخوارج منسوبة إلى «حروراء» بالمد والقصر وفتح الحاء فيهما، وهي قرية قريبة من الكوفة كان أول جماعتهم وتحكيمهم فيها وإنما سموا بذلك لأنهم لما رجعوا عن الصفين وأنكروا التحكيم نزلوا بحروراء وتآمروا فيها على قتال علي (عليه السلام) فسموا حرورية.
قوله (أو جهمي) في المغرب: رجل جهم الوجه: عبوس، وبه سمى جهم بن صفوان المنسوب إليه الجهمية وهي فرقة شايعته على مذهبه وهو القول بان الجنة والنار تفنيان وأن الإيمان هو المعرفة فقط دون الإقرار ودون سائر الطاعات وأنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا الله وأن العباد فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجر تحركه الريح فإن الإنسان لا يقدر على شيء إنما هو في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الأفعال فيه على حسب ما يخلق في الجمادات (1) وتنسب إليه مجازا كما تنسب إليها ولا يجوز الاقتداء بالجهمي.
قوله (إنما هي معرفة) الضمير راجع إلى الإيمان، والتأنيث باعتبار الخبر.
قوله (ليس الإيمان شيء غيرها) (2) «شيء» مرفوع في جميع النسخ التي رأيناها، ولعل وجهه أن اسم ليس ضمير الشأن والجملة بعدها خبرها، أو أن خبرها - وهو الإيمان - مقدم على اسمها وهو «شيء».
3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جمعيا، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما نظر الله عز وجل إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة إلا كان معنا في الرفيق الأعلى.(3)
قوله (في الرفيق الأعلى) قيل يعني به الملائكة والنبيين الذين يسكنون أعلى عليين وهو اسم
ص:19
جاء على فعيل ومعناه الجماعة كالصديق والخليط يقع على الواحد والجمع ومنه قوله تعالى (و حسن أولئك رفيقا) والرفيق: المرافق في الطريق وقيل يعني به الله تعالى يقال الله رفيق بعبادة من الرفق وهو الرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل والمراد في قربه.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.(1)
قوله (من فارق جماعة المسلمين قيد شبر) يقال بينهما قيد شبر وقادة شبر أي قدره وفيه ترغيب في الكون معهم ظاهرا أو باطنا والمراد بهم الأئمة عليهم السلام أو الأعم منهم بشرط أن لا يكونوا من أهل البدعة وبالمفارقة المفارقة على وجه الاستنكاف والاستكبار والشناعة والمراد بها ترك السنة واتباع البدعة، والربقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها أو رجلها تمسكها وإضافتها إلى الإسلام من باب إضافة المشبه به إلى المشبه والوجه هو الحفظ من الوقوع في المهالك، وذكر الخلع والعتق ترشيح للتنبيه، أو من باب الإضافة بتقدير اللام بأن يراد بها على سبيل الاستعارة ما يشد به المسلم نفسه من حدود الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه وتجمع الربقة على ربق ك (لقحة) على لقح وكسرة على كسر، ويقال للحبل الذي فيه الربقة ربق ويجمع على رباق وأرباق مثل قداح على أقداح وحمل على أحمال.
5 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإبهام جاء إلى الله عز وجل أجذم.(2)
قوله (صفقة الإبهام) في بعض النسخ «صفقة الإمام» في المغرب: الصفقة ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، ثم جعلت عبارة عن العقد نفسه. وفي النهاية: هي أن يعطى الرجل عهده وميثاقه لأن المتعاقدين يضع أحدهما يده في يد الآخر كما يفعل المتبايعان وهي المرة من التصفيق باليدين، والصفق: الضرب الذي يسمع له صوت وكذلك التصفيق.
قوله (أجذم) قال في النهاية: وفيه «من تعلم القرآن ثم نسيه لقى الله يوم القيامة وهو أجذم» أي مقطوع اليد من الجذم القطع ومنه حديث علي «من نكث بيعته لقى الله وهو أجذم ليست له يد»
ص:20
وقال القتيبي: الأجذم ليس مخصوصا بمقطوع اليد بل المراد به كل من ذهبت أعضاؤه كلها وليست اليد أولى بالعقوبة من باقي الأعضاء، يقال: رجل أجذم ومجذوم إذا تهافتت أطرافه من الجذام وهو الداء المعروف. وقال ابن الأنباري: معنى الحديث أنه لقي الله وهو أجدم الحجة لا لسان له يتكلم ولا حجة في يده، وقول علي (عليه السلام) «ليست له يد» أي لا حجة له وقيل معناه لقيه منقطع السبب، وقال الخطابي: معنى الحديث ما ذهب إليه ابن الأنباري وهو أن من نسي القرآن لقى الله خالي اليد من الثواب فكنى باليد عما يحويه ويشتمل عليه من الخير.
إذا عرفت هذا فنقول: الأجذم في حديثنا هذا يحتمل معاني أحدها مقطوع اليد، وثانيها مقطوع الأعضاء كلها، وثالثها مقطوع الحجة لا لسان له يتكلم به، ورابعها مقطوع السبب لا سبب له يتمسك به، وخامسها مقطوع الخير كله. والأول أرجح لأن البيعة تباشر اليد من بين الأعضاء; لأن المبايع يضع يده في يد الإمام عند عقد البيعة وأخذها عليه ثم الثالث; لأن اللسان يتكلم بالتعاهد والميثاق.
ص:21
1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن حماد بن عثمان عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الإمام على الناس؟ قال: حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قلت: فما حقهم عليهم؟ قال: يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية، فإذا كان ذلك في الناس فلا يبالي من أخذ ههنا وههنا.(1)
قوله (قال حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا) أي حقه عليهم أن يسمعوا لأقواله وأوامره ونواهيه ومواعظه ونصايحه وندائه إلى الجهاد وأن يطيعوه في جميع ذلك، لأن نظام الكلي الجامع لهم معه لا يتم بدون ذلك، وهذان الحقان وإن كانا له عليهم إلا أنه يطلبهما منهم لما يعود عليهم من نفع الدنيا والآخرة فإن السماع من الداعي إلى الله وإطاعته جاذبان للسامع والمطيع في الدنيا والآخرة إلى الخير والكرامة عنده تعالى.
قوله (قال يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية) أي حق الرعية على الإمام أن يقسم الفيء بينهم بالسوية (2) لا يفرق بين الشريف والوضيع كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلافته على خلاف ما فعله الثلاثة حتى أنه أعطى عمارا وعتيقه وطلحة والزبير على السواء فغضب طلحة والزبير ونكثا البيعة ورجعا عن الحق. وأن يعدل بين الرعية في التأديب والتعليم والتقسيم والتحديد
ص:21
والنصيحة وفي جميع الأمور ولا يجوز فيهم; إذ بذلك يحصل صلاح الدنيا والدين ويتم نظام الألفة والاجتماع والتودد والعزة، وبخلافه يظهر معالم الجور والفساد ويفشو أسباب الظلم والعناد وتفترق الكلمة بين العباد. والعدل متوقف على العلم والحكمة والعفة والشجاعة والسخاوة وهذه الأمور لا تحصل إلا لمن تخلى عن جميع الرذائل وتحلى بجميع الفضائل.
قوله (فإذا كان ذلك في الناس) أي فإذا كان ذلك المذكور وهو السماع والإطاعة من الرعية، والتسوية والعدل من الإمام ظاهرا في الناس لا يبالي ولا يكترث (1) بمن أخذ ههنا وههنا أي ذهب إلى اليمين والشمال وأي جهات شاء أي بمن ذهب إلى مذاهب مختلفة، قال الفاضل الأسترآبادي:
معناه أن صاحب حق اليقين في دينه لا يحتاج إلى موافقة الناس إياه وإنما يحتاج إليه من يكون متزلزلا في دينه.
2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله إلا أنه قال: هكذا وهكذا وهكذا [وهكذا] يعني [من] بين يديه وخلفه وعن يمينه عن شماله.(2)
قوله (إلا أنه قال: هكذا وهكذا وهكذا) في أكثر النسخ ثلاث مرات وفي بعضها أربع مرات وهو الأنسب بالتفسير، والظاهر أن هذا العبارة وقعت موضع ههنا وههنا.
3 - محمد بن يحيى العطار، عن بعض أصحابنا، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تختانوا ولاتكم ولا تغشوا هداتكم ولا تجهلوا أئمتكم ولا تصدعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم، وعلى هذا فليكن تأسيس اموركم
ص:23
والزموا هذه الطريقة، فإنكم لو عاينتم ما عاين من قد مات منكم ممن خالف ما قد تدعون إليه لبدرتم وخرجتم ولسمعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريبا ما يطرح الحجاب.(1)
قوله (لا تختانوا ولاتكم) خانه في كذا خونا وخيانة واختانه أي عده خاينا ونسب الخيانة إليه، وهي تدخل في المال وغيره وفي جميع أعضاء الإنسان، ومنه خائنة الأعين أي ما تخونون فيه من مسارقة النظر إلى ما لا يحل، والخاينة بمعنى الخيانة وهي من المصادر التي جاءت على لفظ الفاعل، يعني: لا تنسبوا الخيانة إلى ولاة الحق وأئمة الصدق في الأموال والأحكام والعقايد والأقوال والأفعال والحركات والسكنات.
قوله (ولا تغشوا هداتكم) الغش بالكسر خلاف النصح - غشه يغشه - من باب نصر - غشا بالكسر: إذا لم ينصحه وأظهر عليه شيئا وأراد غيره، ومن الغش أن يريد بهم سوءا ومكروها وأن لا يأتمر بأوامرهم ولا ينتهي بنواهيهم ولا يذب عنهم ولا يتساوى نسبته إليهم في السراء والضراء.
قوله (ولا تجهلوا أئمتكم) (2) أي لا تنسبوا الجهل بأمر من الأمور مطلقا لا مركبا ولا بسيطا إليهم فإنهم حكماء ربانيون وعلماء إلهيون، خلقوا لبيان الحق وهداية الخلق إليه سبحانه فلا يجوز لهم الجهل بشيء وإلا لفات الغرض.
قوله (ولا تصدعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم) الصدع الشق ومنه تصدع الناس إذا تفرقوا، والحبل: النور، ومنه كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض أي نور ممدود يعني نور هداه، والعرب تشبه النور الممدود بالحبل والخيط. والحبل أيضا: العهد والميثاق والوسيلة والسبب والنصرة والقوة، والفشل: الفزع والجبن والضعف، والريح معروف وقد يكون بمعنى الغلبة والقوة وتستعمل أيضا في الدولة مجازا «وتفشلوا» وما عطف عليه مجزومان على أنهما جواب النهي، يعني: لا تتفرقوا عن النور الذي هو الإمام أو عن السبب الذي جعله الله وسيلة للتقرب منه والوصول إليه وهو التمسك بذيله أو عن عهده وميثاقه أو عن نصرته وقوته فإنكم إن تتفرقوا عنه تفزعوا باستيلاء الأعداء وتضعفوا عن مقاومتهم وتذهب غلبتكم عليهم وقوتكم في دفع صولتهم أو تذهب دولتكم باستعارة الريح لها من حيث أنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بالريح في هبوبه
ص:24
ونفوذه أو تذهب ريحكم الطيب وهو نور الإيمان، ويحتمل أن يراد بالريح المعنى المعروف فإن النصرة لا يكون إلا بريح يبعثه الله وفي الحديث «نصرت بالصبا وأهلك عادا بالدبور» وبالجملة:
التفرق عن الحبل المذكور وعدم التمسك به موجب لغلبة الأشرار ومذلة الأبرار.
قوله (وعلى هذا فليكن) «على» متعلق بالتأسيس، قدم للحصر، يقول: أسست البناء تأسيا إذا أحكمته، والمقصود: اجعلوا بناء أموركم الدنيوية والأخروية على هذا الأساس الذي ذكرته لكم والزموا هذه الطريقة المستقيمة في السير إلى الله تعالى ولا تفارقوها.
قوله (فإنكم لو عاينتم) تعليل لما ذكر، وترغيب فيه، وحث على قبوله، و «ممن خالف» بيان ل «من»، والخطاب لطايفة من عساكره، فإن أكثرهم لم يعرفوه حق معرفته، ويندرج فيه من يحذو حذوهم إلى يوم القيامة، يعني: أنكم لو عاينتم وشاهدتم بالمعاينة ما عاين من الأهوال والعقوبات من قد مات منكم وهو من خالف ما قد تدعون إليه (1) من بناء أموركم على ما ذكر ولزوم الطريقة المذكورة لبدرتم إلى ما تدعون إليه وأسرعتم إلى قبوله، وخرجتم عن المخالفة إلى الموافقة، وعن التثاقل من متابعة الهداة إلى التبادر فيها، ولسمعتم ما أقول لكم وأحرضكم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا لاقتضاء حكمة التكليف ذلك وقريبا ما - وهو وقت الموت أو يوم القيامة - يطرح الحجاب فترون وخامة عاقبتهم وشدة عقوبتهم.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الرحمن بن حماد وغيره، عن حنان بن سدير الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نعيت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه وهو صحيح ليس به
ص:25
وجع، قال: نزل به الروح الأمين، قال: فنادى (صلى الله عليه وآله) الصلاة جامعة وأمر المهاجرين والأنصار بالسلاح واجتمع الناس، فصعد النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر فنعى إليهم نفسه ثم قال: «اذكر الله الوالي من بعدي على امتي ألا يرحم على جماعة المسلمين فأجل كبيرهم ورحم ضعيفهم ووقر عالمهم ولم يضر بهم فيذلهم ولم يفقرهم فيكفرهم، ولم يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم ولم يخبزهم في بعثهم فيقطع نسل امتي، ثم قال: [قد] بلغت ونصحت فاشهدوا». وقال أبو عبد الله (عليه السلام) هذا آخر كلام تكلم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) على منبره.(1)
قوله (نعيت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه) النعي خبر الموت، وهو يتعدى بنفسه، يقال نعى الميت ينعاه - من باب علم - إذا أذاع موته وأخبر به وإذا ندبه، فتعديته بإلى للتأكيد والمبالغة أو لتضمين معنى الإلقاء، والناعي ههنا هو نفسه المقدسة بإلهام رباني أو بنفخ روح القدس وهو الأظهر لقوله (نزله به الروح الأمين).
قوله (وأمر المهاجرين والأنصار بالسلاح) السلاح - بالكسر -: آلة الحرب، ولعل الغرض من أمرهم بالسلاح هو أن ينظر إلى شدة بأسهم واستعدادهم.
قوله (أذكر الله الوالي) (2) تقول أذكرته إذا جعلته على ذكر منه.
قوله (ألا يرحم) «الا» حرف التحضيض للتحريض على الرحمة والحث عليها.
قوله (فأجل كبيرهم) عدل عن المضارع إلى الماضي لإظهار الحرص على وقوع الفعل، وقد روى عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال «من إجلال الله ذي الشيبة المسلم» قيل وسر ذلك أنه أكبر سنا وأعظم تجربة (3) وأكيس حزما وأقرب من الرجوع إلى الله تعالى.
ص:26
قوله (ورحم ضعيفهم) (1) يشمل الصغير والفقير والنساء، والروايات الدالة على الترحم عليهم والإحسان إليهم والشفقة بهم أكثر من أن تحصى.
قوله (ووقر عالمهم) في بعض النسخ «عاملهم» وفي بعضها «عاقلهم» بالقاف، وقد دلت الآيات المتكثرة والروايات المتظافرة على توقير العالم (2) والعاقل وتعظيمهم وهم المقصودون من ايجاد الإنسان.
قوله (و لم يضر بهم فيذلهم) للإضرار أفراد متفاوتة (3) في الشدة والضعف، منها ترك الإجلال والترحم والتوقير المذكورة، ومنها إيصال السوء والمكروه إليهم، ومنها عدم ودفع الظلم عنهم، وكل هذه وأمثالها مما يوجب لحوق الذل بهم ورفع العز عنهم، وإذلال المؤمن وفعل ما يوجب إذلاله مذموم قطعا وموجب لتبدد النظام وانقطاع الألفة المطلوبة شرعا.
قوله (و لم يفقرهم فيكفرهم) (4) أفقره وأكفره أي جعله فقيرا وكافرا يعني لم يجعلهم فقراء
ص:27
ذوي الفاقة لا صبر لهم بمنع حقوقهم فيجعلهم كفارا لأنهم ربما ارتدوا إذا منعوا عن الحق; ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) - كما روي عنه -: «الفقر كاد أن يكون كفرا» وأصل الكفر تغطية الشيء تغطية تستهلكه.
قال في النهاية: الكفر صنفان أحدهما بأصل الإيمان وهو ضده، والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإيمان، وقيل: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به، وكفر جحود ككفر إبليس يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه، وكفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ولا يدين به حسدا وبغيا ككفر أبي جهل وأضرابه، وكفر نفاق وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه.
قوله (و لم يغلق الباب [كذا] دونهم) تقول أغلقت الباب إغلاقا فهو مغلق إذا سددته، وأما غلقت الباب غلقا على صيغة المجرد فهي لغة ردية متروكة، وإغلاق الباب كناية عن منع الوالي رعيته من الدخول عليه والوصول إليه وعرض الأحوال عليه، وعدم تفقده لأحوالهم غفلته عنها فإن ذلك يوجب وقوع الهرج والمرج فيهم وأكل قويهم ضعيفهم وتسلط الظلمة والأعداء عليهم.
قوله (و لم يخبزهم في بعوثهم) الخبز بفتح الخاء المعجمة فالباء الموحدة الساكنة فالزاي المعجمة: السوق الشديد، عن أبي زيد، وأنشد:
لا تخبزوا خبزا وبسا بسا * و لا تطيلا بمناخ حبسا والبس: السوق اللين، والبعوث: الجيوش، جمع بعث وهو الجيش، تقول كنت في بعث فلان أي في جيشه الذي بعث معه، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن الوالي لا ينبغي له أن يسوق جيشه إلى العدو سوقا شديدا بل ينبغي أن يسوقهم سوقا لينا ويطلب الماء والكلأ والمرعى في سيرهم فإنه أبقى لقوتهم وقوة دوابهم وبهما يتوقع الغلبة على العدو، وثانيهما أنه ينبغي أن لا ينهض المسلمين كلهم دفعة فإنه قد يوجب قتل جميعهم فينقطع نسل الأمة بل ينبغي أن ينهض طائفة منهم كما قال جل شأنه: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) وفي بعض النسخ: «ولم يجنزهم» بالجيم والنون أي لم يجمعهم، وفي بعضها «ولم يجمرهم» بالجيم والميم والراء المهملة.
قال في النهاية: تجمير الجيش جمعهم في الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم، ومنه حديث الهرمزان كسرى جمر بعوث فارس.
ص:28
قوله (قال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا آخر الكلام - الخ) الغرض منه إما لبيان الواقع أو للدلالة على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يمض إلا وقد كان له ولي يقوم مقامه وهو ليس بالاتفاق غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) فبطل قول من زعم بخلافه.
5 - محمد بن علي وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن رجل عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحا، قدحا، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية الآباء.(1)
قوله (قال جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عسل وتين من همدان وحلوان) همدان قبيلة من اليمن وبلد في العجم، وحلوان بالضم: اسم قرية قريبة من كردستان (2). والظاهر أن فيه لفا ونشرا مرتبا وأن إسناد «جاء» إلى «عسل وتين» إسناد مجازي.
قوله (فأمر العرفاء) جمع عريف بمعنى عارف مثل عليم بمعنى عالم، والمراد به هنا النقيب وهو دون الرئيس.
قوله (فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها) الأزقاق جمع زق بالكسر وهو السقاء واللعق
ص:29
«ليسيدن» والفعل من باب علم يقال لعقت الشيء العقه لعقا أي لحسته.
قوله (برعاية الآباء) دل على أنه ينبغي رعاية الأطفال والأيتام واحترامهم وأنها الحقيقة رعاية احترام للآباء كما دل عليه أيضا حفظ موسى وخضر (عليهم السلام) للطفل الكنز الذي تحت الجدار بإقامته لكون أبيه صالحا وقد نقل أنه كان الأب السابع.
6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن القاسم بن محمد الأصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه وعلي أولى به من بعدي، فقيل، له: ما معنى ذلك؟ فقال: قول النبي (صلى الله عليه وآله) من ترك دينا أو ضياعا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته، فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة والنبي وأمير المؤمنين (عليهما السلام) ومن بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنهم أمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم.
قوله (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) هذا الحديث مع تفسيره الآتي مذكور في كتب العامة أيضا.
روى مسلم بإسناده في باب خطبة الجمعة عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في آخرها:
«أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فعلي وإلي» قال الآبي:
و «أولي» إما من الولي بمعنى القرب أو المالكية كما في قوله تعالى (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) أي مالكهم، أو من الولاية بالكسر، ومنه: ولي اليتيم والقتيل أي من يتولى أمرهما، والوالي في البلد، أو من الولاية بالفتح بمعنى النصرة، ومنه قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) أي ناصرهم، واستدل المازري وغيره بقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» على أنه لو اضطر (صلى الله عليه وآله) طعام أو غيره وهو بيد ربه وربه أيضا مضطر إليه لكان أحق به من ربه ووجب على ربه بذله له، وهذا وان جاز لكنه لم يقع و لم ينقل.
نقل محيي الدين البغوي عن ابن قتيبة أن الضياع بفتح الضاد: العيال وهو مصدر في الأصل يسمى به العيال، ضاع ضياعا كقضى قضاء، وأما الضياع بالكسر فجمع ضايع كجياع جمع جايع، الضيعة: ما يكون منه عيش الرجل من حرفة أو تجارة يقال ما ضيعته فيقال كذا. وفي الصحاح:
ص:30
الضيعة: العقار وقوله «فعلي» معناه فعلي قضاء دينه وكفاية ضياعة أي عياله (1). وهذا الحكم عندنا ليس مختصا به (صلى الله عليه وآله) بل هو جار في أوصيائه من بعده كما دل عليه قوله وعلي وإلي» فعليهم أيضا إنفاق ذرية المسلمين وقضاء ديونهم بل قضاء ديون الأحياء إذا عجزوا عن قضائها كما دل عليه حديث آخر هذا الباب. وأما عندهم فقد اختلفوا فيه، قال المازري الأصح أنه ليس مختصا به بل يجب ذلك على الأئمة من بيت المال إن كان فيه سعة وليس ثمة ما هو أهم منه وقال بعضهم: إنه من خصايصه فلا يجب على الأئمة (عليهم السلام).
ثم الظاهر من هذا الحديث والصريح من كلام المازري أن ذلك كان واجبا لا أن فعله تكرمة وتفضل، هذا ينافي ما روي في طرقنا وطرقهم من أنه (صلى الله عليه وآله) ترك الصلاة على من توفي وعليه دين وقال: «صلوا على صاحبكم» وفي طرقنا «حتى ضمنه بعض أصحابه» ويمكن الجواب بأن هذا كان قبل ذلك عند التضيق وعدم حصول الغنائم، وذلك كان بعد التوسع في بيت المال والفتوحات والغنائم، ويؤيده ما روي من طرقهم أنه كان يؤتى بالمتوفى وعليه دين فيقول (صلى الله عليه وآله): هل ترك لدينه قضاء؟ فإن قيل ترك صلى فلما فتح الله تعالى الفتوح قال (صلى الله عليه وآله): «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك دينا فعلي ومن ترك مالا فلورثته» وقال المازري: تركه الصلاة على من مات ولم يترك وفاء إنما كان يفعله لئلا يتسامح الناس في عدم قضاء الدين. وفيه أنه يلزم أن يترك ما هو واجب عليه وهو قول لا يجوز التقول به فالأولى ما مر أو يقال إن ذلك في قضية مخصوصة إما لأن الدين لم يحصل على وجه مشروع أو لغير ذلك، والله أعلم.
قوله (فالرجل ليست له على نفسه ولاية) أي ليست له ولاية في أداء ديونه إذا عجز عنه ولا له على عياله أمر ونهي في الإنفاق وصرف النفقة وتقدير المعيشة إذا لم يقدر على اجراء النفقة عليهم وإنما الولاية في ذلك للرسول وأوصيائه (عليهم السلام).
قوله (و النبي وأمير المؤمنين ومن بعدهما) تفسير لقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه وعلي أولى به من بعدي» وضمير التثنية راجع إلى النبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما، وضمير الفاعل في ألزمهم لله تعالى، وضمير المفعول للنبي وأمير المؤمنين ومن بعدهما وهذا إشارة إلى ما ذكر من الولاية المذكورة.
ص:31
قوله (وما كان سبب إسلام عامة اليهود) إشارة إلى بعض فوائد هذا القول حيث إن عامة اليهود مع تصلبهم في دينهم آمنوا بعد سماعه طمعا في وعده الصادق; لأن الإنسان عبيد الإحسان.
7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن صباح ابن سيابة، عن أبي عبد الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيما مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك، إن الله تبارك وتعالى يقول: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين» الآية فهو من الغارمين وله سهم عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه.(1)
قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيما مؤمن مسلم) فيه دلالة على أنه لا يقضيه عن الحي بحسب المفهوم إلا أنه معارض بما هو أقوى منه فلا عبرة به وعلى أنه يقضيه عن مسلم غير مؤمن والروايات تنافيه إلا أن يكون الترديد من الراوي ويكون المراد بالمسلم المعنى الأخص أو يراد بالمؤمن من علم إيمانه وبالمسلم مجهول الحال، ويؤيده ما وراه سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أطعم سائلا أعرفه مسلما؟ فقال: نعم أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق إن الله يقول (وقولوا للناس حسنا) ولا تطعم من نصب بشيء من الحق أو دعا إلى شيء من الباطل، وعلى أنه لا يقضيه ان كان في فساد ومعصية ولا في إسراف وتبذير، هذا إن كان ميتا، وأما إذا كان حيا وتاب - إن شرطنا العدالة - فيجوز أن يعطى من سهم الفقراء دون الغارمين فيقضي هو، ثم هذا إن علم مصرف ديونه وأما إن جهل فقد جوز بعض الأصحاب إعطاءه من حق الغرماء.
قوله (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) وهما من قصر ماله - ولو بالحرفة اللايقة - عن مؤونة السنة له ولعياله على الوجه اللائق به ولا لتحديدهما بمالا يملك نصابا ولا قيمة، وقد بسط العلماء الكلام في أن أيهما أسوأ، ولا يليق ذكره في هذا المقام.
قوله (فهو من الغارمين) أي من مات وله دين فهو من الغارمين الذين جعل الله تعالى لهم سهما عند الإمام وأوجب عليه إعطاؤه، فإن حبسه مع عدم كون الدين في فساد وإسراف فإثمه عليه، والضمير في إثمه راجع إلى الحبس أو إلى الدين أو إلى الغارم.
8 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن حنان عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن
ص:32
معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم.
وفي رواية اخرى: حتى يكون للرعية كالأب الرحيم.(1)
قوله (لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال) إذ لو يكن فيه تلك الخصال لاحتاج هو إلى إمام آخر يأمره بالطاعة وينهاه عن المعصية، فلا يكون هو الإمام الذي فرض الله تعالى طاعته على الخلق أجمعين، والخصلتان الأخيرتان من حق الرعية عليه، وأما الأولى فليست من حقه على الرعية ولا من حق الرعية عليه إلا بتكلف وهو أن الورع هو لزوم الأعمال الجميلة والكف عن المحارم كلها ومن جملتها حقوق الرعية.
قوله (و حلم يملك به غضبه) الحلم ملكة نفسانية تحت الشجاعة وهي الرزانة عند الغضب بحيث لا يستحقه شيء من موجباته ولا يستفزه نحو الانتقام.
قوله (و حسن الولاية) من جملته ما ذكر من إجلال الكبير وترحم الضعف وتوقير العالم وعدم الإضرار بالرعية وعدم منع حقوقهم والقسمة بينهم بالسوية.
9 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن معاوية بن حكيم، عن محمد بن أسلم، عن رجل من طبرستان يقال له: محمد قال: قال معاوية: ولقيت الطبري محمدا بعد ذلك فأخبرني قال: سمعت علي ابن موسى (عليهما السلام) يقول المغرم إذا تدين، أو استدان في حق - الوهم من معاوية - اجل سنة، فإن اتسع وإلا قضى عنه الإمام من بيت المال.(2)
1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) (أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (1)أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، يؤدي خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها، كما حواها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم.(2)
قوله (أنا وأهل بيتي) أشار إلى أن المراد بمن يشاء أهل البيت (عليهم السلام) ومن في قوله «من عباده» إما بيان للموصول والإضافة لكمال الاختصاص، أو ابتدائية، والعباد حينئذ تشتمل الخلص وغيرهم وفيه إشارة إلى أنهم هم المقصودون من إيجاد الدنيا والآخرة وأن كل من له نصيب فيهما فبتوسطهم واحسانهم (عليهم السلام).
قوله (والأرض كلها لنا) أي الأرض معمورها ومواتها كلها لنا، ونحن مالكها، أما المعمورة فإن كان المتصرف فيها كافرا وفاءت إليهم (عليهم السلام) بحرب وقتال فلهم الخمس والبواقي للمسلمين كافة.
وإن فاءت إليهم بلا حرب ولا قتال فهي لهم (عليهم السلام) بلا شركة وإن كان المتصرف مسلما فهي له باذن الإمام ولا شيء عليه في حال غيبته سوى الزكاة في حاصلها، وعليه في حال حضوره الخراج أيضا وأما الموات فيجوز للمسلم إحياؤها بإذنه مع حضوره وعليه طسقها له بدون إذنه مع غيبته ولا طسق عليه بل قد وقع الاذن لشيعته عموما مع إسقاط الخراج. وإنما قلنا يجوز للمسلم فإن الكافر لا يجوز له إحياؤها ولا يملكها مع الحضور والغيبة، ومع الإذن وعدمه عند جماعة الأصحاب، وجزم المحقق الشيخ علي (رحمه الله) بحصول الملك مع حضور الإمام بإذنه ووجد في بعض كلام الشهيد انه
ص:34
يملك في حال الغيبة أيضا والله أعلم.
قوله (فمن أحيى أرضا من المسلمين) هذا حجة لمن خص جواز الإحياء بالمسلم.
قوله (فإن تركها أو أخربها) هذا دل بإطلاقه على ما ذهب إليه أكثر الأصحاب من أن كل من سبق إلى إحياء ميتة فهو أحق بها وإن كان لها مالك معروف وعليه طسقها وذهب بعضهم (1) إلى أن المالك الأول أحق بها وأن له انتزاعها منه، وإنما قلنا بإطلاقه لأنه يحتمل أن يراد بتركها تركها قبل التعمير.
قوله (إلا ما كان في أيدي شيعتنا) دل هذا على أن المراد بالمسلمين الذين أذن لهم إحياء الموات أعم من أن يكون شيعته أو غيرهم بدليل أنه يمنع غير الشيعة منها بعد الظهور وأما قبله فلا.
قوله (فإن يقاطعهم على ما في أيديهم) القطيعة طائفة من أرض الخراج يقطعها السلطان من يريد وهو يتصرف فيها ويعطي خراجها والمقاطعة من الطرفين لأن الإقطاع لا يتحقق بدون رضائهما.
2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد قال: أخبرني أحمد بن محمد بن عبد الله، عمن رواه قال: الدنيا وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا، فمن غلب على شيء منها فليتق الله وليؤد حق الله تبارك وتعالى وليبر إخوانه، فإن لم يفعل ذلك فالله ورسوله ونحن برآء منه.(2)
قوله (فمن غلب على شيء منها فليتق الله) أمر أولا بالاتقاء من عقوبة الله تعالى لأن الاتقاء سبب لأداء حق الله تعالى مثل الزكاة والخمس والخراج ومنشأ للبر بالإخوان وقضاء حوائجهم وسد خلتهم، ويمكن أن يكون المراد بالاتقاء الاتقاء في الغلبة بأن لا يغلب على المتصرف ولا يمنع الحق عن ذوي الحق ولا يغصبه منه.
قوله (براء منه) البراء بضم الباء وفتح الراء والمد: جمع بريء كشرفاء جمع شريف وكرماء جمع كريم، ووجه براءتهم منه انتفاء اعتقاده بهم وعدم تدينه بدينهم، وفيه دلالة على أن مانع
ص:35
الحقوق المالية كافر بالله العظيم.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد قال: رأيت مسمعا بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تلك السنة مالا فرده أبو عبد الله (عليه السلام) فقلت له:
لم رد عليك أبو عبد الله (عليه السلام) المال الذي حملته إليه؟ قال: فقال: إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت وليت البحرين الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم وقد جئتك بخمسها بثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك وأن أعرض لها وهي حقك الذي جعله الله تبارك وتعالى في أموالنا، فقال: أو مالنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس؟ يا أبا سيار إن الأرض كلها لنا فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا، فقلت له: وأنا أحمل إليك المال كله؟ فقال: يا أبا سيار قد طيبناه لك، وأحللناك منه فضم إليك مالك وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم صغرة.
قال عمر بن يزيد: فقال لي أبو سيار: ما أرى أحدا من أصحاب الضياع وممن يلي الأعمال يأكل حلالا غيري إلا من طيبوا له ذلك.(1)
قوله (وليت البحرين الغوص) وليت إما بفتح الواو وكسر اللام المخففة يقال ولي الأمر يليه بالكسر فيهما، وتولاه إذا فعله بنفسه من غير أن يوليه أحدا، وبضم الواو وكسر اللام المشددة من التولية يقال: ولاه الأمير عمل كذا فتولاه وتقلده، والغوص وهو استخراج اللئالي من تحت الماء على التقديرين إما بدل من البحرين أو مفعول، والتقدير وليت في البحرين لغوص.
قوله (و قد جئتك بخمسها بثمانين ألف درهم) دل على أنه كان المتعارف عندهم نقل جميع الخمس إلى الإمام في حال حضوره وقد صرح بوجوب ذلك جماعة من الأصحاب للرواية عن الكاظم (عليه السلام) وفي قول المحقق: «لو أخر المكلف حصة الأصناف أجزأ» لا يدل على عدم الوجوب وقد صرح بعضهم بأن الخمس كله سهم الإمام إلا أنه مأمور بتقسيم سهمه على ستة أقسام ثلاثة له.
وثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل، وقول مسمع «وهي حقك» مؤيد لهذا كتقريره (عليه السلام).
قوله (يا أبا سيار إن الأرض كلها لنا) فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا وإن كان لعمل الغير
ص:36
واكتسابه، هذا وأمثاله مما ذكر في هذا الباب من جملة حديثهم الذي مر أنه صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
قوله (يا أبا سيار قد طيبناه لك) دل على أن الإمام لا يجب عليه قبول الخمس وله الإبراء كما كان ذلك لكل ذي حق ولما كان الخمس للإمام و هو يعطي الفرق الثلاثة من نصف ماله على قدر مؤونة سنتهم ولذلك لو نقص النصف عنه أتمه ولو فضل عنه كان الفاضل له، جاز له إحلال صاحبه من الجميع فلا يرد أنه كيف يجوز ذلك وفيه حق الفرق الثلاثة، على أن للامام ولاية على الجميع وهو أولى بكل مؤمن من نفسه فيجوز له ذلك كما يجوز لكل ولي مع المصلحة.
قوله (وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا (عليه السلام)) أشار هنا بعد ما ذكر أن الأرض كلها لهم إلى أن شيعتهم في حل من التصرف فيها وفي حاصلها ومن خراجها حتى يظهر القائم (عليه السلام) فيأخذ منهم خراجها وتركها في أيدهم، وأما غير الشيعة فإن حاصلها حرام عليهم وإذا قام القائم (عليه السلام) يأخذها منهم ويخرجهم صاغرين، ولا منافاة بين كونهم أولى بالأرض التي في أيديهم في زمان الغيبة وبين كون حاصلها حراما عليهم.
قوله (فيجيبهم طسق ما كان في أيديهم) الجباية: الخراج، تقول جبيت الخراج جباية، أخذته، والتقدير فيجبى منهم، من باب الحذف والإيصال، والطسق بالفتح: ما يوضع من الخراج على الجربان أو شبه ضريبة معلومة، وكأنه مولد أو فارسي معرب.
قوله (و يخرجهم صغرة) الصغرة بالتحريك: جمع الصاغر: الراضي بالذل، كالكتبة جمع الكاتب.
قوله (من أصحاب الضياع) الضياع بالكسر جمع الضيعة وهي العقار أي الأرض والنخل كذا في الصحاح، وقال ابن الأثير: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك.
قوله (ألا من طيبوا له ذلك) ضمير الجمع راجع إلى الأئمة (عليهم السلام) وضمير المجرور للموصول، والمراد به الشيعة و «ذلك» إشارة إلى الأكل.
4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن أبي عبد الله الرازي، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أما على الإمام زكاة؟ فقال:
أحلت يا أبا محمد أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله، إن الإمام يا أبا محمد! لا يبيت ليلة أبدا ولله في عنقه حق يسأله عنه.(1)
ص:37
قوله (فقال أحلت) أحال الرجل أتى بالمحال وتكلم به وذلك لأن وجوب الزكاة على الإمام محال، والسؤال عن وقوع المحال محال. والمحال من الكلام بالضم: ما عدل عن وجهه.
قوله (جايز له ذلك من الله) كأنه استيناف جواب عما يقال من أين جاز له ذلك.
قوله (إن الإمام يا أبا محمد) تعليل لما سبق من عدم وجوب الزكاة على الإمام ولذا ترك العاطف; توضيحه أن الإمام لا يبيت ليلة أبدا ولله في عنقه حق يسأله عنه فلو وجب عليه الزكاء لزم أن يبيت ليلة بل أكثر منها ولله في عنقه حق يسأله عنه; وذلك لأن الزكاة في الغلات تجب عند بدو الصلاح وهو انعقاد الحصرم واشتداد الحب واحمرار التمرة أو اصفرارها ولا تخرج إلا عند التصفية فلو وجب الزكاة عليه لزم اشتغال ذمته بإخراجها في تلك المدة الطويلة، وقس على الغلات الأنعام وغيرها فإن الأنعام مرعاها قد تكون بعيدا عن بلده ولو وجب عليه الزكاة فيها لزم اشتغال ذمته بواجب في مدة هي ما بين وقت الوجوب ووقت الإخراج.
5 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عبد الله بن أحمد، عن علي بن النعمان عن صالح بن حمزة، عن أبان بن مصعب، عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما لكم من هذه الأرض؟ فتبسم ثم قال: إن الله تبارك وتعالى بعث جبرئيل (عليه السلام) وأمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض، منها سيحان وجيحان وهو نهر بلخ والخشوع وهو نهر الشاش ومهران وهو نهر الهند ونيل مصر ودجلة والفرات، فما سقت أو استقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدونا منه شيء إلا ما غصب عليه وإن ولينا لفي أوسع فيما بين ذه إلى ذه - يعني بين السماء والأرض - ثم تلا هذه الآية: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا (المغصوبين عليها) خالصة (لهم) يوم القيامة) بلا غصب.(1)
قوله (بابهامه) أي بإبهام رجله لما سيأتي.
قوله (منها سيحان وجيحان) لفظة «من» في «منها» للتبعيض، فلا يرد أن الموعود ثمانية والمعدود سبعة، وقد فسر جيحان بأنه نهر بلخ، وفي النهاية: سيحان وجيحان نهران بالعواصم قريبا من المصيصة وطرطوس، والمصيصة بكسر الصاد المخففة بلد بالشام. وفي الصحاح سيحان نهر بالشام وفي القاموس على ما نقل عنه: سيحان نهر بالشام وآخر بالبصرة، ويقال له ساحين وسيحان
ص:38
نهر بما وراء النهر ونهر بالهند. وفي المغرب سيحان فعلان نهر معروف بالروم وسيحون نهر الترك.
وفي صحيح مسلم في باب صفة الجنة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» قال عياض: الأنهار الأربعة أكبر أنهار الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق.
سيحان وجيحان - ويقال سيحون وجيحون - هما بخراسان وما وراها، قال المازري: في كلامه إنكار من وجوه، منها قوله الفرات بالعراق ليس هذا بالعراق وانما هو فاصل بين العراق والجزيرة، ومنها أن قوله ويقال سيحون وجيحون يقتضى أن هذه الأسماء مترادفة وليس كذلك فإن سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق ومنها قوله إنهما بخراسان وليس كذلك فإن سيحان وجيحان ببلاد الأردن بقرب الشام فسيحان نهر اردنة وجيحان نهر المصيصة، واتفقوا على أن جيحون بالواو و راء خراسان عند بلخا ثم قال عياض: قوله كل من أنهار الجنة، يحتمل أنها من الجنة حقيقة ويدل عليه حديث الأسرى فإنه رآها يخرج تحت سدرة المنتهى ويحتمل أنها كناية عن أن الإيمان يعم بلادها وأن الأجسام المتغذية بمائها تصير إلى الجنة، وقال المازري: والأظهر أنها على ظاهرها في أنها من الجنة والجنة مخلوقة عند أهل السنة.
قوله (وهو نهر الشاش) نقل عن القاموس: أن الشاش بلد بما وراء النهر (1) وموضع بأرض بابل فيها قبر ذي الكفل.
قوله (ونيل مصر) في المغرب النيل نهر مصر، وبالكوفة نهر يقال له: النيل.
قوله (ودجلة) في المغرب دجلة بغير تعريف نهر بغداد وإنما سميت بذلك لأنها تدجل أرض أي تغطيها بالماء إذا فاضت.
قوله (والفرات) في المغرب الفرات نهر في الكوفة.
قوله (فما سقت أو استقت فهو لنا) أي فما سقته تلك الأنهار بالإضافة من الزروع وغيرها أو استقت بالدولاب وحفر البئر فهو لنا، ونسبة الاستقاء إلى تلك الأنهار مجاز لأن الاستقاء في الحقيقة فعل لمن يخرج الماء منها بالحفر والدولاب، يقال: استقيت من البئر أي أخرجت الماء منها، وبالجملة يعتبر في الاستقاء ما لا يعتبر في السقي من المبالغة في الكسب والاعتمال.
قوله (إلا ما غصب عليه) الغصب: أخذ مال الغير ظلما وعدوانا وفعله من باب «ضرب» تقول
ص:39
غصبه منه وغصبه عليه بمعنى، وضمير المجرور في «عليه» هنا راجع إلى الموصول بتضمين معنى الاستيلاء أو التسلط، والظاهر أن الاستثناء منقطع إلا أن يراد بالشيء النصيب مطلقا أعم من أن يكون حقا أو باطلا.
قوله (بين ذه إلى ذه) ذه للإشارة إلى المؤنث الواحدة وأصلها ذي قلبت الياء هاء.
قوله (ثم تلا هذه الآية (قل هي للذين آمنوا)) أي قل يا محمد: الزينة والطيبات التي أوجدها الله تعالى للذين آمنوا ظاهرا وباطنا في الحياة الدنيا وهم الأوصياء وشيعتهم المغصوبون عليها وليس لغيرهم فيها حظ وتصرف إلا أن يغصبوا عليها ويتصرفوا فيها ظلما وعدوانا والحال أنها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب ولا مشاركة لغيرهم لأن قوة الأغيار داحضة يوم القيامة وغلبة الكفار ساقطة فيه، وقوله «خالصة» بالنصب على الحال من فاعل الظرف وهو «الذين» عند أكثر القراء وبالرفع على أنها خبر بعد خبر عند نافع، وقوله «في الحياة الدنيا» ظرف للنسبة بين المبتدأ والخبر أو متعلق بآمنوا على احتمال بعيد.
6 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن الريان قال: كتبت إلى العسكري (عليه السلام): جعلت فداك روي لنا أن ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا إلا الخمس: فجاء الجواب: أن الدنيا وما عليها لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
قوله (روى لنا أن ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا إلا الخمس) هذا الحصر باطل أما أولا فلأن الدنيا كلها له (صلى الله عليه وآله) وما كان منها في أيدي الكفار كان بطريق الغصب، وأما ثانيا فلأن الأنفال له بنص القرآن وهي غير الخمس نعم لو أريد بالدنيا الأرض المفتوحة عنوة صح الحصر ولكن لم يرو ذلك.
7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد رفعه، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم (عليه السلام) فلرسول الله (صلى الله عليه وآله) وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو للأئمة من آل محمد (عليهم السلام).
قوله (خلق الله آدم وأقطعه الدنيا) قد جرت الحكمة على أن يكون الدنيا لأوليائه ليستعينوا بها على أعدائه.
ص:40
8 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن جبرئيل (عليه السلام) كرى برجله خمسة أنهار ولسان الماء يتبعه: الفرات ودجلة ونيل مصر ومهران ونهر بلخ فما سقت أو سقي منها فللامام والبحر المطيف بالدنيا [للامام].
علي بن إبراهيم، عن السري بن الربيع قال: لم يكن ابن أبي عمير يعدل بهشام بن الحكم شيئا وكان لا يغب إتيانه، ثم انقطع عنه وخالفه وكان سبب ذلك أن أبا مالك الحضرمي كان أحد رجال هشام ووقع بينه وبين ابن أبي عمير ملاحاة في شيء من الإمامة، قال ابن أبي عمير: الدنيا كلها للإمام (عليه السلام) على جهة الملك وأنه أولى بها من الذين هي في أيديهم، وقال أبو مالك: كذلك أملاك الناس لهم إلا ما حكم الله به للإمام من الفيء والخمس والمغنم فذلك له وذلك أيضا قد بين الله للامام أين يضعه وكيف يصنع به، فتراضيا بهشام بن الحكم وصارا إليه، فحكم هشام لأبي مالك على ابن أبي عمير فغضب ابن أبي عمير وهجر هشاما بعد ذلك.(1)
قوله (كرى برجله) تقول كريت النهر بالفتح كريا أي حفرته.
قوله (فما سقت أو سقى منها) أي فما سقته بالإفاضة بنفسها أو سقى منها بالحفر والدولاب ونحوهما.
قوله (و البحر المطيف بالدنيا) بالنصب عطف على خمسة أنهار أو بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، والجملة معطوفة على قوله «ان جبرئيل» أي قال البحر المطيف بالدنيا للإمام، وفيه مبالغة على أن الدنيا وما فيها له.
قوله (قال لم يكن ابن أبي عمير يعدل بهشام بن الحكم شيئا) أي لم يسو بينه وبين غيره بل فضله على من سواه، تقول عدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما.
قوله (و كان لا يغب إتيانه) أي كان لا يأتيه ولا يزوره يوما دون يوم بل كان يأتيه كل يوم لكمال المحبة والمصاحبة، تقول: أغببته وغببت عنه، إذا جئته يوما وتركت يوما.
قوله (إن أبا مالك الحضرمي) الظاهر أنه الضحاك الحضرمي المتكلم الثقة.
قوله (ملاحاة) أي منازعة تقول لاحاه ملاحاة، إذا نازعه.
قوله (من الذين هي في أيديهم) من الشيعة وغيرهم إلا أنه أذن للشيعة من التصرف فيها. وفي
ص:41
بعض النسخ «هي» بدل «هم» وهو الأظهر.
قوله (وقال أبو مالك كذلك) كذلك إما للإنكار ويؤيده أنه في بعض النسخ «ليس له» بدل «منه»، أو المراد أنه كما أنها أملاك للناس وفي أيديهم بحسب الظاهر، أملاك لهم في الواقع.
قوله (من الفيء والخمس والمغنم) المغنم الغنيمة وهي ما أخذ من أهل الكفر عنوة والمراد بالفيء ما رجع إليه بغير قتال بانجلاء أهله أو بتسليمهم طوعا أو بانقراضهم ويدخل فيه بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام وما لم يكن عليه يد أصلا وبالخمس خمس ما أخذ عن القتال وما فيه الخمس مما عده الفقهاء ودلت عليه الروايات وبالمغنم صفايا الملوك وما اصطفاه من الغنيمة من ثوب وفرس وجارية ونحوها.
قوله (فغضب ابن أبي عمير) الغضب والهجر من أجل أنه حكم بخلاف الواقع وعدل عن منهج الصواب، وفيه دلالة على جواز الهجران من العالم وإن كان متدينا إذا حكم بخلاف الحق.
ص:42
1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن حماد، عن حميد وجابر العبدي قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله جعلني إماما لخلقه، ففرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه.(1)
قوله (ففرض على التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي) قدر الشيء: مبلغه، وتقديره وتعيينه، والتقدير أيضا: التقتير، ومنه قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه) وإنما قال «في نفسي» للإشارة إلى أنه لم يفرض ذلك على غيره من الرعية والمشرب الوجه الذي يشرب منه ويكون موضعا ويكون مصدرا والأخير أظهر هنا وقس عليه جاريه.
قوله (كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه) يقال أطغاه الغنى أي جعله طاغيا متمردا وفيه إشارة إلى فائدة الفرض المذكور لأن الفقير إذا نظر إليه (عليه السلام) وإلى سيرته وطريقته مع علمه بأنه أشرف المخلوقات وأقرب من الله جل وعز، رضي بفقره ولا يطمع في الدنيا وما فيها ولا يحزن على فواتها، والغني إذا نظر إليه (عليه السلام) علم أنه لا عبرة بالغنى في الدنيا ويورثه ذلك ذلا وانكسارا يخرجه من منزل الطغيان ويمنعه عن ارتكاب العصيان ويزجره عن التكبر والتفوق على الإخوان.
2 - علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يوما: جلعت فداك ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم، فقال: هيهات يا معلى أما والله أن لو كان ذاك ما كان إلا سياسة الليل وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل الجشب، فزوي ذلك عنا، فهل رأيت ظلامة قط صيرها الله تعالى نعمة هذه.(2)
قوله (لعشنا معكم) أي لو كان هذا الأمر مفوضا إليكم لعشنا معكم لكثرة النعمة
ص:43
وحصول أسباب العيش فقال (عليه السلام): هيهات هيهات، يعني بعد بعد ما توهمت يا معلى من توسعنا في المعيشة وأخذنا في الانتفاع بزهرات الدينا لو كان ذلك الأمر إلينا وأتى به مكررا للتأكيد، ثم أكد مضمون ذلك بقوله: «أما والله لو كان ذلك ما كان حالنا إلا سياسة الليل وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل لجشب»، والسياسة مصدر «سست الرعية سياسة» وهي القيام عليهم بما يصلحهم والتدبير في أمورهم والنظر إلى مصالحهم، وإنما أضافها إلى الليل لأن أكثر الفساد يقع فيه فهو أولى بأن يقع السياسة فيه، ولأن الأمير كثيرا ما يدبر أمور الرعية فيه، والسياحة مصدر ساح في الأرض يسيح سياحة» إذا ذهب فيها، وأصله من السيح وهو الماء الجاري على وجه الأرض، وإنما أضافها إلى النهار لأن الذهاب إلى الجهاد والجماعة ونحوهما الحركة في الأرض لإجراء الأحكام على الخلق ونحوه يقع في النهار غالبا، وحمل سياحته على الصوم بعيد في هذا المقام إذ لا مدخل لكثرة النعمة فيه إلا أن يكون المراد زجر النفس عنها، وهذا الحمل مع قلته منقول عن الشرع، قال ابن الأثير: ومنه حديث «سياحة هذه الأمة الصيام» قيل للصايم: «سائح» لأن الذي يسيح في الأرض متعيدا يسيح ولا زاد معه ولا ماء فحين يجد يطعم والصائم يمضي نهاره لا يأكل ولا يشرب فشبه به، والمراد بلبس الخش لبس الثوب الذي لا قدر له ولا قيمة يعتد بها ويأكل الجشب أكل طعام غليظ لا يميل إليه طبع أكثر الخلق أو أكل ما لا أدم معه.
قوله (فزوى ذلك عنا) أي فصرف ذلك الأمر وقبض عنا فهل رأيت يا معلى ظلامة قط صيرها الله تعالى نعمة إلا هذه الظلامة فإنها جعلت نعمة علينا لسقوط السياسة والسياحة ولبس الخشن وأكل الجشب وغيرها من المشقات التي لزم على صاحب هذا الأمر التزامها ليقتدي به الضعفاء ويهتدي به الأغنياء. والظلامة بالضم الحق الذي أخذ من صاحبه ظلما.
قوله (حين لبس العباء وترك الملاء) العباء بالفتح والمد جمع العباءة كذلك وهي كساء واسع من صوف، والملاء بالضم والمد جمع الملاءة كذلك وهي الإزار وكل ثوب لين رقيق. وفي النهاية:
قال بعضهم: إن الجمع ملأ بغير مد، والواحد ممدود، والأول أثبت.
3 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد وغيرهما بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على عاصم بن زياد حين لبس العباء وترك الملاء وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قد غم أهله وأحزن ولده بذلك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): علي بعاصم بن زياد، فجيء به فلما رآه عبس في وجهه، فقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها، أنت أهون على الله
ص:44
من ذلك، أو ليس الله يقول: (والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)(1)[الله] يقول: (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان)(2) - إلى قوله - (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)(3) فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال، وقد قال الله عز وجل:
(وأما بنعمة ربك فحدث) فقال عاصم: يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟ فقال: ويحك إن الله عز وجل فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره، فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس الملاء.(4)
قوله (انه فدغم أهله وأحزن ولده بذلك) فاعل «غم» و «أحزن» ضمير راجع إلى عاصم، وأهله وولده مفعولان، يقال: غمه فاغتم وأحزنه فحزن. والباء في ذلك للسببية وذلك إشارة إلى المذكور من لبس العباء وترك الملاء.
قوله (علي بعاصم بن زياد) أي إيتونى وجيئوني به وهو مثل: عليك زيدا أو بزيد أي خذه.
قوله (أترى الله) الاستفهام على حقيقته أو للإنكار و «هو يكره» حال من فاعل أحل أي لا ينبغي أن يظن منه ذلك لأنه كالجمع بين النقيضين.
قوله (أنت أهون على الله من ذلك) كأن المراد أنك أهون وأخف من كل شيء خفيف هين على الله من أجل ذلك وهو أن ترى الله يكره أخذك من الطيبات بعد ما أحلها لك أو المراد أنك أهون على الله من ذلك أي من أن يكره أخذك منها وانما يكره ذلك لولاة الأمر ليقتدى بهم الفقراء، والله أعلم.
قوله (أو ليس الله يقول) الاستفهام لتقريره على الإثبات واعترافه بأن الأرض المدحوة وما فيها من ضروب الفواكه والحبوبات مثل الحنطة والشعير والأرز وسائر ما ينتفع به كالخوان الموضوع للأنام وانتفاعهم ليعلم أن الأخذ منها أحسن عند الكريم من تركها كما يحكم به التجربة في ضيافة الكرماء وقد رغب أكرم الأكرمين في الأخذ والتناول منها بقوله (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) وقوله (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون) وقوله (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) وقوله (اليوم أحل لكم الطيبات) وقوله (وما لكم إلا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) وقوله (وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)
ص:45
إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
قوله (أو ليس الله يقول مرج البحرين) المرج: الإرسال من «مرجت الناقة» إن أرسلتها، والبحرين: البحر الملح والبحر العذب، والبرزخ: الحاجز، أي: أرسل البحرين يلتقيان يتماسان سطوحهما بينهما حاجز من قدرة الله لا يبغيان أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، هكذا ذكره بعض المفسرين، وفيه أقوال أخر.
قوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) اللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: صغاره والخرز الأحمر، قيل:
الدر يخرج من المالح لا من العذب، فما وجه قوله يخرج منهما؟ أجيب بأن المراد أنه يخرج من مجتمعها أو من أحدهما وهو الملح إلا أنه لما اجتمع مع العذب حتى صار كالشئ الواحد كان المخرج من أحدهما كالمخرج منهما ولا يبعد أن يقال أن يخرج من العذب أيضا بتأثير المجاور وان كان خروجه منه أقل من خروجه من الملح، والغرض من ذكرهما أن الله تعالى أخرجهما لانتفاع الخلق، فلا وجه لتحريمهم على أنفسهم ما أحل الله لهم ولا لتنزههم عن ذلك مع القدرة وفيه مبالغة عظيم في مدح الدنيا والطلب لحلالها والتوجه إلى اكتساب طيباتها واستعمالها سيما لمن له أهل وعيال واتفق عليه علماء العامة والخاصة قال أبو عبد الله الآبي: ذم رجل الدنيا بحضرة علي رضي الله عنه فقال علي (عليه السلام) مالك ولذمها وهي دار غنى لمن تزود منها ودار عظمة لمن فهم عنها، ذكرت بسرورها السرور، ببلائها البلاء وهي مهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الحسنات وأكلوا فيها الطيبات وشكروا لمنعمها» وفي الحديث «إذا قال الرجل لعن الله الدنيا قالت الدينا لعن الله أعصانا لربه» وفي آخر «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن هي بها يبلغ الخير وعليها ينجو من الشر».
قوله (فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال) أقسم بالقسم البار على ابتذال نعم الله تعالى واستعمالها يعني اظهارها وتشهيرها بالفعال، وهو الشكر الفعلي، أحب إلى الله من ابتذالها بالمقال وهو الشكر القولي وقد صرح بعض المحققين أن الشكر الفعلي أقوى دلالة على تعظيم المنعم من الشكر القولي.
قوله (وقد قال الله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث)) حال عن فاعل «أحب» والمقصود أنه تعالى أمر بتحديث نعمته أداء لشكرها فإظهارها بالفعال أولى بالأمر به لكونه أحب وأقوى.
قوله (فقال عاصم يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت) يعني إذا كان ابتذال نعم الله وإظهارها بالفعال أحب إليه فعلى أي شيء وأي سبب اقتصرت من مطعمك على الأطعمة الجشوبة الغليظة وفي لبسك على الثياب الخشونة الخشنة.
ص:46
قوله (فقال ويحك) فيه جواز أن يقول الرجل لغيره: ويحك، وقد يقال ويلك قال عياض:
«ويلك» كلمة يقال لمن وقع في هلكة و «ويحك» زجر لمن أشرف على الهلكة وقال الفراء ويح بمعنى ويل وقيل ويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيرثى له من غير ترحم عليه وويل بضدها وقيل: لا يراد بهما حقيقة الدعاء وإنما يراد بهما المدح والتعجب.
قوله (أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس) قدرت الشيء بالشيء قسته به وجعلته على مثاله واعتبرته على مقداره.
قوله (كيلا يتبيغ بالفقير فقره) التبيغ بالتاء الفوقانية والباء الموحدة والياء والتحتانية: التهيج، وقيل أصل يتبيغ يتبغى من البغي مجاوزة الحد فغلب مثل جبذ وجذب والأول الوجه أي فرض ذلك كيلا يتهيج بالفقير فقره فيهلكه فإنه حينئذ يقيس نفسه بإمامه ويقتدي به ويرضى بالفقر ويصبر على شدايده.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن يحيى الخزاز، عن حماد ابن عثمان قال: حضرت أبا عبد الله (عليه السلام) وقال له رجل: أصلحك الله ذكرت أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن. يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجديد، فقال له: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر [عليه] ولو لبس مثل ذلك اليوم شهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) إذا قام لبس ثياب علي (عليه السلام) وسار بسيرة علي (عليه السلام).(1)
قوله (شهر به) أي شهر بلبس مثل ذلك الثوب شهرة وفضاحة وشناعة كما يشهد به التجربة فيمن ترك زي أهل زمانه.
ص:47
1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن أيوب بن نوح قال: عطس يوما وأنا عنده، فقلت: جعلت فداك ما يقال للإمام إذا عطس؟ قال: يقولون: صلى الله عليك.(1)
قوله (عن أيوب بن نوح) وثقه أصحاب الرجال وعدوه من أصحاب الرضا والجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) ونقل أنه كان وكيلا للهادي والعسكري (عليهما السلام) وكان عظيم المنزلة عندهما مأمونا شديد الورع كثير العبادة، وعلى هذا فاعل «عطس» يحتمل أن يكون كل واحد من الأئمة المذكورين (عليهم السلام).
2 - محمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الدينوري عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل عن القائم يسلم عليه بإمرة المؤمنين؟ قال: لا، ذاك اسم سمى الله به أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يسم به أحد قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر، قلت: جعلت فداك كيف يسلم عليه؟ قال: يقولون: السلام عليك يا بقية الله، ثم قرأ (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين).(2)(3)
قوله (لم يسم به أحد قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر) لم ينقل أن أحدا سمي بأمير المؤمنين قبله (؟) وأما بعده فقد سمي به بعض جبابرة هذه الأمة، ولعل المراد بالكافر هنا ضد المؤمن وهو من لم يؤمن بالله وبرسوله فضلا عما جاء به الرسول إن اعتقد جواز ذلك شرعا أو مطلقا كمن سمى نفسه باسم الله أو نبي الله أو رسول الله، ويحتمل أن يراد بالكفر كفر النعمة بتغيرها ووضعها في غير موضعها أو تغطية الحق، وأصل الكفر هو التغطية، والمتصف بهما يسمى كافرا وإن لم يكن خارجا عن الإيمان، والله أعلم.
قوله (قال يقولون السلام عليك يا بقية الله) الإضافة في «بقية الله» لامية، كبيت الله وطاعة الله،
ص:48
وبقية الشيء: ما بقي منه، والبقية أيضا: ما ينتظر وجوده ويترقب ظهوره من «بقيت الرجل أبقيته» إذا انتظرته و رقبته، وإنما سمي الصاحب (عليه السلام) بذلك لأنه بقية الأنبياء والأوصياء السابقين وينتظر وجوده ويترقب ظهوره.
قوله (ثم قرأ بقية الله خير لكم) أي خليفة الله الباقي وانتظار ظهوره خير لكم إن كنتم مؤمنين به، و هذا التفسير أحسن مما قيل من أن المراد ببقية الله طاعته وانتظار ثوابه والحالة الباقية لكم من الخير أو ما بقي لكم من الحلال.
3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) لم سمي أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: لأنه يميرهم العلم، أما سمعت في كتاب الله (ونمير أهلنا).
وفي رواية اخرى قال: لأن ميرة المؤمنين من عنده، يميرهم العلم.(1)
قوله (قال لأنه يميرهم العلم) الميرة بكسر الميم وسكون الياء: الطعام يمتاره الإنسان ويجلبه للبيع وغيره، تقول: مار أهله يميرهم ميرا إذا اتاهم بالميرة وأعطاهم إياها، وقد شبه العلم بالطعام في الاغتذاء به لأن أحدهما غذاء روحاني والآخر غذاء جسماني، قال الفاضل الأسترآبادي: من المعلوم أن الأمير مهموز الفاء (2) وأن «يمير» أجوف، ولك أن تقول قصده (عليه السلام) أن تسميته بأمير المؤمنين ليس لأجل أنه مطاعهم بحسب الدنيا، بل لأجل أنه مطاعهم بحسب العلم أي الأحكام الإلهية فعبر (عليه السلام) عن هذا المعنى بلفظ مناسب في الحروف للفظ الأمير. قوله (اما سمعت في كتاب الله (ونمير أهلنا)) أي نعطيهم الميرة، ولعل الغرض من ذكره هو التنبيه على أنه يفهم منه وجه التسمية بأدنى تأمل فليتأمل.
4 - علي بن إبراهيم، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي الربيع القزاز عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: لم سمي أمير المؤمنين؟ قال: الله سماه، وهكذا أنزل في كتابه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم)(3) وأن محمدا
ص:49
رسولي وأن عليا أمير المؤمنين.(1)
قوله: (قال لأن ميرة المؤمنين من عنده) أي طعامهم الروحاني وهو العلم من عنده كما أشار إلهي بقوله يميرهم العلم.
قوله (عن أبي الربيع القزاز) لم أجده بهذا الوصف في كتب الرجال وبدونه مجهول.
قوله (قال الله تعالى سماه) السائل سأل عن سبب التسمية وهو (عليه السلام) أجاب بها من باب تقلى المخاطب بغير ما يترقبه للتنبيه بأن الأهم له أن يعرف التسمية ويصدق بها، والجهل لسببها لا يضره. قوله (وأن محمدا رسولي) إشارة إلى أن هذا كان منزلا حذفه المحرفون (2) المنافقون حسدا وعنادا.
ص:50
(قوله باب فيه نكت ونتف من التنزيل) النكت جمع النكة والمراد بها هنا الوجوه الخفية المستنبطة من القرآن الدالة على الولاية، والنتف كصرد جمع النتفة بالضم والسكون وهي هنا عبارة عن وجوه منتزعة من التنزيل دالة على الولاية من قولهم نتف الشعر والريش إذا نزعه.
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعد، عن بعض أصحابنا عن حنان ابن سدير، عن سالم الحناط قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين)(1)؟ قال: هي الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام).(2)
قوله (قال هي الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام)) اعلم أن في القرآن ظاهرا وباطنا ومجملا ومؤولا ومحكما ومتشابها وأنهم (عليهم السلام) أعلم الأمة بجيمع ذلك وأن ظاهر هذه الآية هو أن الضمير في «به» راجع إلى القرآن وما بعده بيان لمآله وغايته ولكنه (عليه السلام) أرجعه إلى الولاية باعتبار المنزل وأوله بأن معناه نزل بها الروح الأمين وهو جبرئيل (عليه السلام) على قلبك يا محمد لتكون من المنذرين عن مخالفة ولي أمرك، بلسان عربي مبين واضح الدلالة على المقصود كيلا يقولون يوم القيامة على سبيل المعذرة ما كنا نفهم لسانك وتبليغك في وليك، وفي رواية علي بن إبراهيم أيضا تصريح بذلك فإنه قال في تفسيره: حدثني أبي عن حنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين) (3)قال: الولاية نزلت لأمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الغدير (4).
2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين. عن إسحاق بن عمار، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض
ص:51
والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) قال: هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).(1)
قوله (قال هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)) كان المراد أنا عرضنا الأمانة التي هي ولاية أمير المؤمنين على الأجرام المذكورة بعد خلق الفهم والاختيار فيها، أو عرضناها على أهلها من الملائكة والحيوانات الإنسية والوحشية وأظهرناها عليهم وأقدرناهم على غصبها من علي (عليه السلام) فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان وهو الأول، إنه كان ظلوما على نفسه وعلى من تبعه، جهولا بعاقبة أمره وشناعة خيانته، وفي كلام الفاضل الإسترابادي دلالة عليه حيث قال:
فأبين أن يدعينها أو يغصبنها أهلها وأشفقن منها وحملها الإنسان الأول، إنه كان ظلوما جهولا، ويقرب منه كلام علي بن إبراهيم حيث قال في تفسير الأمانة: هي الإمامة والأمر والنهي، والدليل على أن الأمانة هي الإمامة قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) (2)يعني الأمانة والإمامة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، قال: أبين أن يدعونها ويغصبوها أهلها وأشفقن منها وحملها الإنسان الأول، كذا في تفسير علي بن إبراهيم «إنه كان ظلوما جهولا» والمشهور عند المفسرين (3) أن المراد بالأمانة التكليف مطلقا وأن هذه الأجرام أشفقن من
ص:52
حملها خوفا من المخالفة واستحقاق العقوبة.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) من الولاية ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان، فهو الملبس بالظلم.(1)
قوله (والذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم) تقول لبست الأمر - بالفتح - ألبسه - بالكسر - إذا خلطت بعضه ببعض، وقوله «بما جاء» متعلق بآمنوا يعني الذين آمنوا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) من الولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ولم يخلطوا ولايته بولاية فلان وفلان أولئك لهم الأمن من العذاب وهم مهتدون إلى طريق الحق، فقد فسر الظلم في هذه الآية بظلم مخصوص ومعصية معينة وهي الخلط المذكور، وفسره أكثر المفسرين بالشرك وبعضهم بالمعصية مطلقا وتفسيرهم شامل لما نحن فيه.
قوله (فهو الملبس بالظلم) ضمير «هو» راجع إلى أمر معلوم وهو الذي خلط الولاية النبوية بالولاية الثنوية، والملبس بكسر الباء المشددة - قال الجوهري: التلبيس كالتدليس والتخليط شدد للمبالغة ورجل لباس ولا تقل ملبس ويفهم من هذا الحديث بطلان قوله ولا تقل ملبس، وإرجاعه إلى الولاية أو إلى خلطها وقراءة الملبس بفتح الباء بعيد جدا.
4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الحسن بن نعيم الصحاف قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) (2)فقال: عرف الله إيمانهم بولايتنا وكفرهم بها، يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم (عليه السلام) وهم ذر.(3)
قوله (فمنكم مؤمن ومنكم كافر) في سورة التغابن هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن دم المؤمن لكونه أكثر، و «عرف» إما من المعرفة أو من التعريف والثاني أنسب، ولعل السائل سأل عن وقت الإ يمان والكفر، وعن سببهما جميعا ولذلك أجاب (عليه السلام) عنها بقوله عرف الله ايمانهم بولايتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق على ولايتنا في صلب آدم وهم ذر والذر
ص:53
واحدتها الذرة وهي تطلق على النملة الصغيرة وعلى ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة وكلاها محتمل، وبناء الأول على التشبيه في الصغر والدبيب، توضيح ذلك نسل آدم كانوا كامنين في صلبه فلما أراد الله تعالى أن يأخذ منهم الميثاق على الربوبية والرسالة والولاية تعلق نور إرادته وقدرته بآدم فانتقل كل من كان فيه من حد الكمون إلى حد الظهور على مثال الذر مع العقل والفهم فأخذ منهم الإقرار بالولاية فمنهم من أقر بها وآمن ومنهم من أنكرها وكفر فيومئذ كان الإيمان والكفر وامتاز المؤمن من الكافر.
فإن قلت: قوله (عليه السلام) «في صلب آدم» ينافي قوله «وهم ذر» لأنهم إن كانوا ذرا لم يكونوا في صلب آدم بل كانوا خارجين منه، وإن كانوا في صلبه لم يكونوا ذرا؟ قلت: لا تنافي بينهما لاحتمال كونهم ذرا وهم في صلبه، ولا بعد فيه بالنظر إلى القدرة القاهرة.
فإن قلت: هذا التوجيه ينافي ما في بعض الروايات من أنه أخذ منهم الميثاق بعد خروجهم من صلبه وهم ذر يدبون؟ قلت: لا يبعد أن يقال: إن أخذ الميثاق وقع ثلاث مرات تأكيدا ومبالغة مرة بعد عرك الطين حين خرجوا كالذر يدبون، ومرة حين كونهم ذرا في صلب آدم (عليه السلام) بعد تكميل خلقة، وقبل نفخ الروح فيه، ومرة ثالثة بعد نفخه حين خرجوا من صلبه يدبون حتى رآهم آدم (عليه السلام) والروايات الآتية في باب الكفر والإيمان ربما تشعر بذلك وهذا الذي ذكرته من باب الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.
5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (يوفون بالنذر) قال: يوفون بالنذر الذي اخذ عليهم من ولايتنا.(1)
قوله (يوفون بالنذر) النذر التزام الشيء وإيجابه على نفسه، ومنه العهد الذي أخذه الله تعالى على عباده حين كونهم ذرا من ولاية الأئمة (عليهم السلام) والمراد بالوفاء بها الإقرار بها بعد وجودهم في الأعيان إلى انقضاء العمر.
6 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم)
ص:54
قال: الولاية.(1)
قوله (قال الولاية) الظاهر أنه بيان لما أنزل وإنما فسره بالولاية مع أنه أعم منها لأنها مقصودة منه أولا وأصل للبواقي، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون بيانا للتوراة والإنجيل أيضا لأن الولاية مذكورة فيهما أيضا، والمراد بإقامتها إذاعتهما والإقرار بما فيهما مما يجب الإقرار به كالتوحيد والرسالة والولاية ونحوها مما يكون مستمرا في هذه الشريعة.
7 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن المثنى، عن زرارة، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (2)قال: هم الأئمة (عليهم السلام).(3)
قوله (قال هم الأئمة) (4) اتفق المفسرون على أن القربى أهل البيت (عليهم السلام) وذهب النواصب إلى أن هذه الآية منسوخة ورد عليه الثعلبي في تفسيره بأنه لاوجه لنسخها وكيف تكون منسوخة والحال أن محبة أهل البيت من جملة أصول الدين وأركان الإسلام وخلاف ذلك كفر وموجب للخروج من الإسلام، والدليل عليه ما رواه عبد الله بن حامد الأصفهاني بإسناده عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «من مات على حب آل محمد فهو شهيد تائب مغفور مرحوم كامل الإيمان، يبشره ملك الموت بالجنة ويفتح له في قبره باب من الجنة ويزوره ملائكة الرحمة في قبره ويزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ومن مات على بغض آل محمد فهو كافر لا يشم رايحة الجنة، مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله». فإذا كان حب آل محمد بهذه المرتبة وكان أجر أداء الرسالة الذي لا يوازنه شيء كيف تكون الآية منسوخة؟ وما سبب نسخها؟
8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن علي ابن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن يطع الله ورسوله (في ولاية علي وولاية
ص:55
الأئمة من بعده) فقد فاز فوزا عظيما) هكذا نزلت.(1)
قوله (هكذا نزلت) ظاهره أن الآية نزلت هكذا لفظا وتصرفت فيها يد التحريف ويحتمل أنها نزلت هكذا معنى بتفسير الروح الأمين، وعلى التقديرين علم ولاية على والأئمة من بعده من هذه الآية بالتنزيل لا بالتأويل، والفرق أن الولاية مقصودة من الآية على الأول ومندرجة فيها باعتبار ملاحظة أمر خارج وهو أنه تعالى ورسوله أمر بها على الثاني إذ لو لم يعلم ثبوتها بدليل آخر لم يعلم اندراجها في هذه الآية، وسيجئ زيادة توضيح لذلك.
9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن النضر، عن محمد بن مروان رفعه إليهم في قول الله عز وجل: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله)(2) (في علي والأئمة) (كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا).(3)
قوله (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) أي ما صح أو ما جاز لكم أن تؤذوا رسول الله وتفعلوا ما يكرهه في علي والأئمة من بعده بعداوتهم وبغضهم ومنع حقوقهم من الولاية وغيرها كالذين آذوا موسى واتهموه بقتل هارون فبرأه الله مما قالوا بإحيائه وإخباره ببراءة موسى. وهذا يحتمل أن يكون تنزيلا وأن يكون تأويلا ومما يدل على أن إيذاء علي إيذاء النبي ما رواه أحمد بن حنبل في «مسنده» والشافعي ابن المغازلي في «المناقب» من عدة طرق أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من آذى عليا فقد آذاني» وزاد فيه ابن المغازلي عن النبي (صلى الله عليه وآله): «يا أيها الناس من آذى عليا فقد آذاني وبعث يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا. فقال جابر بن عبد الله الأنصاري: يا رسول الله! وإن شهدوا أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله) يا جابر كلمة يحتجون بها أن لا تسفك دماؤهم وتؤخذ أموالهم وأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».
10 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن السياري، عن علي بن عبد الله قال:، سأله رجل عن قوله تعالى: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)(4) قال: من قال بالأئمة واتبع أمرهم ولم يجز طاعتهم.(5)
قوله (قال من قال بالأئمة) تفسير للتابع والمتبوع يعني من اعتقد بالأئمة الطاهرين واتبع أمرهم ونهيهم ولم يجز طاعتهم ولم يتركها فلا يضل في الدنيا عن طريق الحق ولا يشقى في
ص:56
الآخرة باستحقاق العقوبة، وفيه دلالة على أن التابع لهم في جميع الأمور ناج في الآخرة من جميع المكاره، وأما من اعتقد بهم وترك طاعتهم فهو في خطر والشفاعة تدركه إن شاء الله.
11 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله رفعه في قوله تعالى: (لا اقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد)(1) قال أمير المؤمنين وما ولد من الأئمة (عليهم السلام).(2)
قوله (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل) «لا» زايدة أو نافية من باب الإنكار والتعجب أي لا أقسم بهذا البلد والحال أنك حال فيه بل أقسم به البتة لحصول مزيد شرف له بحلولك فيه، وهذا كما تقول: لا أحضر في ذلك المجلس والحال أن حبيبي فيه يعني أحضره قطعا. قوله (ووالد وما ولد) عطف على «هذا البلد» أي أقسم بوالد وما ولد، الوالد أمير المؤمنين «و ما ولد» الأئمة من ولده، قيل: تنكير والد للتعظيم وإيثار «ما» على «من» للتعجب كما في قوله (والله أعلم بما وضعت) والمفسرون من أهل السنة قالوا الوالد آدم أو إبراهيم، «وما ولد» ذريتهما أو محمد (صلى الله عليه وآله)، وتفسير الأئمة أولى بالاتباع لأنهم أعرف بمراد الله تعالى وأعلم بموارد آيات القرآن.
12 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمه ومحمد بن عبد الله، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)(3) قال: أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام).(4)
قوله (قال أمير المؤمنين والأئمة) قد تقرر عندنا أن ذا القربى الأئمة (عليهم السلام) وأن السهام الثلاثة المذكورة بعد النبي لهم، وأما العامة فقد اختلفوا فقال بعضهم: ذو القربى بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وقال بعضهم: بنو هاشم وحدهم، وقال بعضهم: جميع قريش، وذهب أبو حنيفة عنادا أو جهلا إلى أن تلك السهام تسقط بعد الرسول ويصرف الكل إلى الثلاثة الباقية اليتامى والمساكين وابن السبيل، وقال بعضهم: يصرف سهم الله إلى الكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة اقسام قسمان للسلطان والثلاثة للثلاثة، وقيل: سهم الله لبيت المال، والباقي كما ذكر.
13 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا
ص:57
عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون)(1)قال: هم الأئمة.(2)
قوله (وممن خلقنا أمة) وصف الله تعالى أمة - يعني طائفة من هذه الأمة - بأنهم يهدون الخلق بالحق الذي هو دين الإسلام وحدوده ومعارفه، وبه يعدلون أي بالحق يعدلون ويحكمون حكما عدلا وقسطا لا ظلما وجورا، وقد أشار (عليه السلام) إلى أنهم الأئمة (عليهم السلام) ولا ريب فيه لأن تلك الصفات لا تتحقق إلا فيمن هو أمين معصوم عادل عارف عالم بالدين وأحكامه وحدوده بأسرها، وهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) كما دل عليه قوله المنقول من طرق العامة والخاصة: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح - الحديث» وقال القاضي: (ذكر الله تعالى ذلك بعدما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة امة هادين بالحق عادلين في الأمر).
أقول: فانظر كيف أجرى الله سبحانه الحق على لسانه ليكون حجة عليه; لأن هذه الامة وجب أن يكون بهذه الصفة أبدا وإلا لزم اندراجهم في الامة الاولى فبطل الغرض من خلقهم، والمتصف بهذا الصفة أبدا لا يكون إلا معصوما، لا يقال: لعله يراد بهذه الامة أهل الإجماع وهم معصومون فيما أجمعوا عليه بدليل قوله: «لا يزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله»، لأنا نقول:
لا دلالة في الآية على أنه تعالى خلق في كل عصر طائفة موصوفين بالصفات المذكورة وعلى اجتماعهم في أمر واحد لجواز أن يخلق كل واحد منهم في عصر، ولو سلم فنقول: اختلاف أهل الإجماع في الموارد الكلية والجزئية أكثر من اتفاقهم على بعض تلك الموارد، فيكون عدولهم عن الحق أكثر من قيامهم بالحق، وهو ينافي دوام القيام بالحق المستفاد من الآية، والحديث المذكور - كالآية - دليل لنا لا علينا، وتمام البحث قد ذكرناه في بعض كتبنا الاصولية.
14 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى، (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب)(3) قال: «أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة، (واخر متشابهات) قال: فلان وفلان، (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أصحابهم وأهل ولايتهم (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام)».(4)
قوله: (في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات)) كما
ص:58
أن في الكتاب آيات محكمات معراة عن احتمال خلاف المقصود أحكامها لفظا ومعنى هن ام الكتاب وأصله يرد إليها غيرها، واخر متشابهات محتملات لوجوه مختلفة بعضها ظاهر وبعضها باطن وبعضها حق وبعضها باطل، لا يعرف الحق من الباطل إلا الراسخون في العلم، وأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف عن الحق فيتبعون ما تشابه منه ويتلقونه بوجه باطل لابتغاء فتنة الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس وابتغاء تأويله على ما يشتهونه، كذلك في هذه الامة طائفة محكمة في الظاهر والباطن والعلم والعمل هم بمنزلة الآيات وهم أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)، وطائفة متشابهة بمنزلة الآيات المتشابهات لهم ظاهر وباطن، ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر والنفاق وهم فلان وفلان وفلان يعني الثلاثة، وما يعلم تأويل كفرهم وفساد رأيهم وبطلان عقيدتهم إلا الله والراسخون في العلم وهم أمير المؤمنين والأئمة من بعده ومن تبعهم، فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف عن الحق إلى الباطل فيتبعون الطائفة المتشابهة لابتغاء الفتنة يعني متاع الدنيا وابتغاء تأويلهم بعد قبايحهم حسنات، وبالجملة شبه الأئمة بالآيات المحكمات (1) والأول والثاني والثالث بالمتشابهات، وأصحابهم بالذين في قلوبهم زيغ فيتبعون المتشابه، والله العالم.
15 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة): «يعني بالمؤمنين الأئمة (عليهم السلام) لم يتخذوا الولائج من دونهم».(2)
قوله: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) الاستفهام للإنكار
ص:59
والتوبيخ، والجهاد يشمل جهاد النفس وجهاد العدو و «لما» مثل لم إلا أن في «لما» توقع الفعل فيما يستقبل بخلاف لم، وقد ينزل عدم تحقق المعلوم بعد منزلة عدم تحقق العلم مجازا أو شبه حاله معهم بحال المختبر مع صاحبه ليعلم ووليجة الرجل خاصته وبطانته ودخلاؤه ومن يتحذه معتمدا عليه.
16 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)(1)، [قال]:
قلت: ما السلم؟ قال: «الدخول في أمرنا».(2)
قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الجنوح الميل، جنح فلان إذا مال، وقد يعدى باللام، والى والسلم - بكسر السين وفتحها وسكون اللام - الصلح، والضمير في (لها) راجع إلى السلم، وتأنيثه باعتبار أن السلم يذكر ويؤنث كما صرح به في المغرب، وقيل: تأنيثه بحمل السلم على نقيضها فيه وهو الحرب.
17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (لتركبن طبقا عن طبق) قال: «يا زرارة، أو لم تركب هذه الامة بعد نبيها طبقا عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان؟!».(3)
قوله: (أو لم تركب هذه الامة بعد نبيها طبقا عن طبق) الاستفهام للتقرير، والطبق - بالتحريك - الحال المطابقة بحال اخرى، أي قد ركبت هذه الامة بعد نبيها حالا بعد حال مطابقة لاختها في الشدة أو في الشناعة أو في العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) في أمر فلان وفلان وفلان. وفي تفسير علي بن إبراهيم (رحمه الله): «لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لاتخطئون طريقتهم، حتى أن لو كان من قبلكم دخل حجر ضب لدخلتموه»، والمشهور عند المفسرين أن تلك الطبقات هي الموت ومواطن القيامة و أهوالها أو هي وما قبلها من الدواهي (4).
18 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن حماد بن عيسى، عن
ص:60
عبد الله ابن جندب، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون)(1)قال: «إمام إلى إمام».(2)
قوله: (ولقد وصلنا لهم القول) وصله توصيلا إذا أكثر من الوصل، أي ولقد وصلنا لهم القول في ولاية الأئمة وأتبعنا بعضا، وجعلنا إماما إلى إمام لا فصل بينهما ليتصل الحجة بالحجة لعلهم يتذكرون فيؤمنون به ويطيعونه ويهتدون إلى ما هو صالح لهم في الدنيا والآخرة. يدل على ذلك أيضا ما رواه علي بن إبراهيم حيث قال في تفسيره: أخبرنا أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد، عن معاوية بن حكيم، عن أحمد بن محمد، عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) قال: «إمام بعد إمام»، والمفسرون فسروا القول (3) بالمواعظ والنصايح.
19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن النعمان، عن سلام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا)(4) قال: «إنما عني بذلك عليا (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الأئمة (عليهم السلام)، ثم يرجع القول من الله في الناس فقال: (فان آمنوا) يعني الناس (بمثل ما آمنتم به) يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق».(5)س
قوله: (في قوله تعالى (آمنا بالله)) خاطب الله المؤمنين بقوله: (قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا) إنما عني بذلك عليا وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجرت الآية بعدهم في الأئمة أيضا، ثم يرجع القول من الله في الناس الذين لم يؤمنوا بهم فقال: فإن آمنوا، يعني الناس المذكورين بمثل ما آمنتم به يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) فقد اهتدوا كما اهتديتم، وان تولوا وأعرضوا عن الإيمان فإنما هم في شقاق الحق وهو المخالفة، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر. وقوله (بمثل ما آمنتم به) من باب التعجيز والتبكيت كقوله (فأتوا بسورة من مثله) إذ لا مثل لمن آمن بهم المؤمنون. وبعض المفسرين فسروا (ما أنزل إلينا) بالقرآن، وبعضهم فسروه بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو شامل لما نحن فيه على سبيل العموم.
ص:61
20 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا)(1) قال: «هم الأئمة (عليهم السلام) ومن اتبعهم».(2)
قوله (إن أولى الناس بإبراهيم) أي أخص الناس بإبراهيم وأقربهم منه للذين اتبعوه من امته وهذا النبي لموافقته له في أصول شريعته والذين آمنوا بهذا النبي إيمانا حقيقيا وهم الأئمة (عليهم السلام) ومن اتبعهم من الشيعة وفيه قطع لافتخار كل من نسب نفسه إليه في النسب، أو الذين مع مخالفته له في اصول شريعته التي من جملتها تعيين الخليفة، هذا إذ قرأ «النبي» بالرفع على أنه خبر بعد خبر ك (إن)، وأما إن قرئ بالنصب على العطف بالهاء في «اتبعوه» أو بالجر على العطف بإبراهيم فيظهر معناه بأدنى تأمل ويتعين حينئذ تفسير الذين آمنوا بالأئمة لا بهم وبمن اتبعهم ويفتقر في قراءة الجر إلى تقدير، والسياق قرينة له فليتأمل.
21 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن ابن اذينه، عن مالك الجهني، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله عز وجل: (واوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) قال: من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (صلى الله عليه وآله).(3)
قوله (فأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) هذه الآية من جملة المتشابهات (4) التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، إذ يحتمل أن يراد بضمير المخاطبين الموجودين في عصره (صلى الله عليه وآله) ويعطف من بلغ عليه ويراد به من يوجد إلى يوم القيامة،
ص:62
ويكون المعنى لأنذركم به وانذر من بلغه إلى يوم القيامة كما ذهب إليه المفسرون، وفيه دلالة على انه لا يؤاخذ من لم يبلغه ويحتمل أن يراد بضمير المذكور الموجودون في عصره (صلى الله عليه وآله) ويدخل في حكم الإنذار من يوجد بالاجماع، أو يراد به الجميع على الاختلاف ويعطف من بلغ على الضمير المرفوع المستتر في انذركم لوقوع الفصل كما أشار إليه (عليه السلام)، ويكون معناه حينئذ لانذركم به ولينذر من بلغ. ومن البين أن كل من بلغ لا يصلح أن يكون منذرا بل هو من كان عالما بجميع ما فيه مثل النبي (صلى الله عليه وآله) لكونه قائما مقامه فلذلك فسره (عليه السلام) بقوله: «من بلغ» أن يكون إماما من آل محمد لاتفاق الأئمة على أن غيره لا يعلم جميع ما في القرآن.
22 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن مفضل به صالح، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)(1) قال: عهدنا إليه في محمد والأئمة من بعده، فترك ولم يكن له عزم أنهم هكذا، و إنما سمي اولوا العزم اولي العزم لأنه عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده والمهدي وسيرته وأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك والإقرار به.(2)
قوله (قال عهدنا إليه في محمد والأئمة من بعده) لعل المراد أنه تعالى أخذ الميثاق على النبيين بأن محمدا رسولي وعليا أمير المؤمنين وأوصياءه من بعده ولاة أمري وخزان علمي وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي فعزموا على الاقرار وقالوا: يا رب أقررنا وشهدنا، إلا أن قوة خمسة منهم كانت أقوى وعزائمهم كانت أوكد لأن مراتب القوة في قبول العهد متفاوتة ودرجات العزائم في الإقرار به متصاعدة، فلذلك سموا اولي العزم لتأكد القوة والعزم فيهم، وأما آدم (عليه السلام) فهو وان عزم على قبول العهد وأقر به إلا أنه لما كان متأسفا ومتحزنا فيما يجري على أولاده من النوايب وما يرد عليهم من القتل والأسر والمصايب بيد الإمام المنتظر الصاحب (عليه السلام) كأن لم يعزم على قبول العهد وتركه ولم يقر به لأن المتأسف بأمر وإن أقر به ظاهرا وباطنا كأنه غير مقر به، وليس المراد أنه (عليه السلام) لم يقر به حقيقة لأن النبي العظيم الشأن لا يليق به عدم القرار بأمر ربه وعدم الرضا بقضائه، وما ذكرناه من باب الاحتمال (3) والله جل شأنه أعلم
ص:63
بحقيقة الحال.
قوله (فترك) تفسير لقوله «نسي» يعني أن المراد بالنسيان الترك واللازم له لا معناه الحقيقي. ثم المراد بالترك ليس معناه الحقيقي وهو ترك العهد وعدم الإقرار به لما ذكرناه، بل المراد التأسف به فجعل ما هو من مبادى الترك غالبا بمنزلته مجازا، وقس عليه قوله ولم يكن له عزم أنهم هكذا وهكذا إشارة إلى ما فهم ضمنا ودل عليه صريح بعض الأحاديث من قتل بني آدم وأسرهم بين يدي الصاحب.
قوله (والمهدي وسيرته) أي طريقته في القتل والأسر والانتقام وغيرها.
قوله (وأجمع عزمهم) على ذلك من غير تأسف وتحزن (1) وشائبة إكراه يجعل الإقرار والعزم كلا إقرار ولا عزم.
23 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن جعفر بن محمد بن عبيد الله، عن محمد بن عيسى القمي، عن محمد بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل) كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) من ذريتهم «فنسي» هكذا والله نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله).(2)
قوله (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات) لعل المراد بالكلمات ما أشرنا إليه آنفا.
قوله (فنسى) قد عرفت معنى النسيان.
قوله (هكذا والله نزلت) لعل المراد هكذا نزلت لفظا في القرآن أو نزلت معنى بتفسير جبرئيل (عليه السلام) بأمر ربه، وهو على التقديرين تنزيل لا تأويل (3).
24 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن شعيب، عن خالد بن ماد، عن محمد بن الفضيل، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) (فاستمسك بالذي
ص:64
اوحي إليك إنك على صراط مستقيم) قال: إنك على ولاية علي، وعلي هو الصراط المستقيم.(1)
قوله (قال: إنك على ولاية علي وعلي هو الصراط المستقيم) دل على أن فيه مضافا محذوفا وإنما سمي (عليه السلام) صراطا مستقيما لأنه طريق الحق المستوى الذي لا يضل سالكه ومن تمسك بذيله أبدا، وهذا التفسير أحسن مما قيل من أن الصراط المستقيم عبارة عن الدين (2) لأنه حينئذ تأكيد لفهم ذلك من الأمر بالاستمساك والوحي لأن الله لا يأمر بالاستمساك ولا يوحي إلى نبيه إلا دينا مستقيما، والتأسيس أولى من التأكيد.
25 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية على محمد (صلى الله عليه وآله) هكذا: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في علي بغيا)».(3)
قوله (بئس ما اشتروا به أنفسهم) ما نكرة بمعنى شيء مميزة لفاعل بئس المستكن فيه، واشتروا به صفته ومعناه باعوا واستبدلوا على سبيل التشبيه والاستعارة، وأن يكفروا مخصوص بالذم وبغيا علية ليكفروا أو اشتروا، والفصل ليس بأجنبي يعني بئس شيئا باعوا به حظ أنفسهم وهو الإيمان وذلك الشيء كفرهم بما أنزل الله في علي بغيا وعدوانا لغصبهم حقه حسدا وعنادا، وربما يتوهم أن في هذا الحديث (4) دلالة على أن قوله في علي كان في نظم التنزيل وهم حذفوه إخفاء لأمره».
26 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن جابر، قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية على محمد هكذا: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا (في علي) فأتوا بسورة من مثله).(5)
ص:65
قوله (قال نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية هكذا (وإن كنتم في ريب)) دل ظاهرا (1) على أن قوله «في علي» كان في نظم القرآن، وأن بناء كونهم في ريب مما نزله الله على محمد (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) على كونهم في ريب من النبوة ومن كون القرآن من عند الله ولذلك خاطبهم على سبيل التعجيز بقوله: (فأتوا بسورة من مثله) ليعلموا أن القرآن من قبله تعالى وأن محمدا نبيه وأن كل ما جاء به في حق علي من قبله تعالى.
27 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) على محمد (صلى الله عليه وآله) بهذه الآية هكذا: (يا أيها الذين أتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا (في علي) نورا مبينا).(2)(3)
قوله (في علي نورا مبينا) دل ظاهر هذا الحديث على أن قوله «في علي نورا مبينا» كان في نظم القرآن والمنافقون حرفوه وأسقطوه (ونورا) حال عن «علي» وإنما سماه نورا لأنه كما يظهر بالنور الأشياء كذلك يظهر بعلي حقايقها في قلوب المؤمنين، وقوله تعالى بعده (مصدقا لما معكم) أي لما معكم من القرآن حال بعد حال عنه، وقد مر سابقا أنه يصدق القرآن والقرآن يصدقه وأوضحنا ذلك هناك.
28 - علي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي طالب، عن يونس بن بكار، عن أبيه، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (في علي) لكان خيرا لهم).(4)
قوله (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (في علي) لكان خيرا لهم) قوله: «في علي» يحتمل التنزيل والتأويل، و «خير» هنا مجرد عن معنى الزيادة كما في قوله تعالى: (خير من اللهو
ص:66
ومن التجارة).
29 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن مثني الحناط عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) قال: في ولايتنا.(1)
قوله (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (2) (3)الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا، والسلم - بكسر السين وفتحها وسكون اللام - في الأصل الاستسلام والطاعة، والمراد هنا الولاية، و (كافة) - وهي اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق - حال عن الضمير أو السلم لأنها مؤنث كالحرب، والخطوات - بسكون الطاء وضمها وفتحها - جمع الخطوة بالضم في القلة وهي بعد ما بين القدمين في المشي، يعني يا أيها الذين آمنوا بولاية علي وطاعته ظاهرا ادخلوا كافة في ولايته وطاعته ظاهرا وباطنا على صميم القلب ولا تتبعوا خطوات الشيطان ووساوسه وأمره بالتفرق والتفريق والكفر، (إنه لكم عدو مبين) ظاهر العداوة يريد أن يخرجكم عن الدين ويزيلكم عن الحق.
30 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله جل وعز: (بل تؤثرون الحياة الدنيا) قال:
ولايتهم، (والآخرة خير وأبقى) قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، (إن هذا لفي الصحف الاولى * صحف إبراهيم وموسى).(4)
قوله: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا) قال: ولايتهم) ذم الأشقياء وهم أئمة الجور ومن تبعهم بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا وزخارفها على الآخرة وعبر بالحياة الدنيا عن ولا يتهم لأنها سبب لجمعها من كل وجه وصرفها في التوسع والتعيش وبذلها في غير وجوه شرعية وطرق عدلية. وعبر بالآخرة عن ولاية علي (عليه السلام) لأن ولايته سبب للوصول إلى نعيمها والفوز بسعادتها والنجاة عن شقاوتها، ثم رغب في اختيار الآخرة بأنه خير وأبقى من الدنيا وما فيها لأن كل نعيم الآخرة خالص
ص:67
من الكدورات ومتصف بالبقاء بخلاف نعيم الدنيا والعاقل لا يرجح المكدر المنقطع على الخالص الدائم، وفي بعض النسخ بدل قوله «ولايتهم» «ولاية شبوية» شبوة العقرب أبرتها وقد تطلق عليها أيضا والنسبة شبوية شبه الجاير بالعقرب في الأذى، ثم أشار إلى أن كون الآخرة - يعني ولاية علي (عليه السلام) - خير وأبقى مذكور في الصحف الأولى وصحف إبراهيم وموسى للتنبيه على أن ولايته مما جاء به الرسل وأخبروا به ونطقت به كتبهم.
31 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن محمد بن علي، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (أفكلما جاءكم (محمد) بما لا تهوى أنفسكم (بموالاة علي) فاستكبرتم ففريقا (من آل محمد) كذبتم وفريقا تقتلون).(1)
قوله (جاءكم محمد بما لا تهوى أنفسكم) أي بما لا تحبه أنفسكم، وقوله: بموالاة علي تفسير لقوله: (بما لا تهوى) (2) وقوله: (فاستكبرتم) ثم إشارة إلى أن علة عدم المحبة بموالاته الاستكبار عن الإيمان به والإقرار بموالاته، ويحتمل أن يكون متفرعا عليه، والحديث تفسير للآية لا ذكر لها بعبارتها، والله أعلم.
32 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن سنان، عن الرضا (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (كبر على المشركين (بولاية علي) ما تدعوهم إليه) يا محمد من ولاية علي هكذا في الكتاب مخطوطة.(3)
قوله (كبر على المشركين بولاية علي) بولاية علي متعلق بالمشركين وصلة له أي عظم على الذين أشركوا بولاية علي ما تدعوهم إليه يا محمد من ولاية علي والإقرار بها ظاهرا وباطنا، «وهكذا» يعني هذه الآية بهذا اللفظ مخطوطة في الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) أو اللوح المحفوظ، وفي بعض النسخ «في الكتاب محفوظة» بالهاء، وفي بعضها «في كتاب محفوظ» بلا هاء.
ص:68
33 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن هلال، عن أبيه، عن أبي السفاتج، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) (1)فقال: إذا كان يوم القيامة دعي بالنبي (صلى الله عليه وآله) وبأمير المؤمنين وبالأئمة من ولده (عليهم السلام) فينصبون للناس فإذا رأتهم شيعتهم قالوا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) يعني هدانا الله في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليهم السلام).(2)
قوله (فقال إذا كان يوم القيامة) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه: أيها الناس، أن الله تعالى و عد نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) الوسيلة ووعده الحق ولن يخلف الله وعده، ألا وأن الوسيلة أعلى درج الجنة وذروة ذوائب الزلفة ونهاية غاية الامنية، لها ألف مرقاة، ما بين المرقاء إلى المرقاء حضر الفرس الجواد مائة عام، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قاعد عليها مرتد بريطتين ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله، عليه تاج النبوة وإكليل الرسالة، قد أشرف بنوره المواقف، وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته، وعلي ريطتان ريطة من ارجوان النور وريطة من كافور، والرسل والأنبياء قد وقفوا على المراقي، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا قد تجللتهم حلل النور والكرامة، لا يرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا وعجب من ضيائنا وجلالتنا، وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسول (صلى الله عليه وآله) غمامة بسطة البصر يأتي منها النداء: يا أهل الموقف، طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الامي العربي ومن كفر به فالنار موعده، وعن يسار الوسيلة عن يسار الرسول ظلة يأتي منها النداء: يا أهل الموقف، طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي. والذي له الملك الأعلى، لا فاز أحد ولا نال الروح والجنة إلا من لقي خالقة بالإخلاص لهما والاقتداء بنجومهما، فأيقنوا يا أهل ولاية الله تبييض وجوهكم وشرف مقعدكم وكرم مآبكم وبفوزكم اليوم على سرر متقابلين، ويا أهل الانحراف والصدود عن الله عز ذكره ورسوله وصراطه وأعلام الأزمنة أيقنوا بسواد وجوهكم وغضب ربكم جزاء بما كنتم تعملون.
أقول: هذا معنى قوله: فينصبون للناس فإذا رأتهم الشيعة على هذه المنزلة والكرامة وسمعوا هذه البشارة قالوا: الحمد لله الذي هدانا بلطفه وتوفيقه لهذا المقام وهذا الفضل وما كنا لنهتدي إليه بمحض قوتنا لولا أن هدانا الله.
34 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة، ومحمد بن عبد الله، عن
ص:69
علي بن حسان، عن عبد الله بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (عم يتساءلون * عن النبأ العظيم) قال: النبأ العظيم الولاية، وسألته عن قوله: (هنالك الولاية لله الحق) (1)قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).(2)
قوله (و محمد بن عبد الله) عطف على «محمد بن اورمة» وسيأتي ما يدل عليه.
قوله (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) قال المفسرون معنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يسأل عنه كأنه لفخامته خفى جنسه. وقوله: (عن النبأ العظيم) بيان لشأن المفخم أو صلة (يتساءلون) و (عم) متعلق مفسر به.
قوله (قال النبأ العظيم الولاية) قال في الطرايف: روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي في كتابه في تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) بإسناده إلى السدي يرفعه، قال: أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد، هذا الأمر لنا من بعدك أم لمن؟ قال (صلى الله عليه وآله): يا صخر، الأمر بعدي لمن هو مني بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام)، فأنزل الله عز وجل: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) (3) يعني يسألك أهل مكة عن خلافة علي بن أبي طالب الذي فيه مختلفون، منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب، قال: (كلا) وهو رد عليهم (سيعلمون) أي سيعرفون خلافته بعدك أنها حق (ثم كلا سيعلمون) أي سيعرفون خلافته وولايته، إذ يسألون عنها في قبورهم فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا منكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد الموت، يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك؟.
قوله (هنالك الولاية لله الحق) الثابت الذي لا يغيره شيء ولا يعتريه ضعف، فلا يقدر أن يشاركه فيها أحد، وفسرها (عليه السلام) بأنها ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أعلم بمواقع التنزيل والتأويل، إنما نسبت إلى الله لأن ما لأوليائه وعليهم ينسب إليه توسعا كما روى عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن قول الله تعالى: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: إن الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم، ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته يقول: (انما وليكم الله
ص:70
ورسوله والذين آمنوا)(1) يعني الأئمة منا.
35 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا) قال: هي الولاية.(2)
قوله (فأقم وجهك للدين حنيفا) الدين الطريق إلى الله، والمراد به هنا ولاية علي (عليه السلام)، و (حنيفا) حال عن ضمير والخطاب الخطاب عام، الحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق، وقد غلب هذا الوصف على إبراهيم (عليه السلام) حتى نسب إليه من هو على دينه، يعني أقم وجهك للولاية الثابتة لعلي (عليه السلام) من قبله تعالى ولا تلتفت عنها إلى غيرها من الولايات الباطلة الدائرة وهو تمثيل للإقبال عليها والإقرار بها والمتابعة لها والاهتمام بها وعدم الإعراض عنها أصلا.
36 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن إبراهيم الهمداني يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) قال: الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).(3)
قوله (و نضع الموازين القسط ليوم القيامة) قيل لجزاء يوم القيامة أو لحسابه أو لأهله، أو فيه كقولك جئت لخمس خلون من الشهر أي في خمس، وإفراد القسط - وهو العدل - لأنه مصدر وصفت به الموازين للمبالغة واريد بها الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، ولعل إطلاقها عليهم من باب الحقيقة اللغوية لأن الميزان في الأصل ما يوزن به الشيء ويعرف به قدره، فالشرع ميزان والنبي ميزان إذ بهما تعرف قدر الحق، واشتهار إطلاقه على هذه الآلة التي لها لسان وكفتان يفيدانه حقيقة عرفية فيها كاشتهار العام في بعض أفراده عند أهل العرف، ولا ينافي ذلك كونه حقيقة لغوية في المعنى الأعم على أنه لو ثبت أنه حقيقة لغوية في الآلة المذكورة فقط لم يمنع ذلك إطلاقه على من ذكر من باب المجاز والمجاز في القرآن شايع.
37 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد، عن محمد بن جمهور، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى:
(ائت بقرآن غير هذا أو بدله)(4) قال: قالوا: أو بدل عليا.(5)
قوله ((ائت بقرآن غير هذا)) صدره: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا
ص:71
يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا) (1)لعل المراد بالآيات علي وأولاده المعصومون، وقد مر باب أن الآيات التي ذكرها الله تعالى في كتابه هم الأئمة (عليهم السلام)، أو المراد بها الآيات القرآنية المشتملة على ذكرهم وولايتهم، و على التقديرين إذا تتلى عليهم تلك الآيات قال الذين لا يرجون لقاء الرب وجزاءه - يعني المشركين والمنافقين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم -: ائت بقرآن غير هذا ليس فيه ما نستكرهه من وصف علي. أو بدله يعني عليا (2) بأن يجعل مكان آية متضمنة له آية أخرى فقال الله تعالى لرسوله (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي)(3) أي بالتبديل من قبل نفسي (عذاب يوم عظيم).
38 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن القمي عن إدريس ابن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن تفسير هذه الآية: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين) قال: عني بها لم نك من أتباع الأئمة الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم:
(والسابقون السابقون اولئك المقربون) أما ترى الناس يسمون الذي يلي السابق في الحلبة مصلي، فذلك الذي عني حيث قال: (لم نك من المصلين) لم نك من أتباع السابقين.(4)
قوله ((ما سلككم في سقر)) قال في النهاية: سقر اسم أعجمي علم لنار الآخرة ولا ينصرف للعجمة والتعريف، وقيل: هو من قولهم سقرته الشمس إذا أذابته، فلا ينصرف للتأنيث والتعريف.
قوله (عني بها لم نك من اتباع الأئمة الذين قال الله تعالى فيهم) الموصول صفة للأئمة يعني إلا الأئمة الذين قال الله تعالى في وصفهم: (والسابقون السابقون) أي السابقون إلى الطاعة والإيمان والإقرار بالله تعالى أو في حيازة الفضائل والكمالات، السابقون في الورود على الله والدخول في أعلى درجات الجنان والفوز بجزيل الثواب والرحمة والرضوان، وقيل هم الذين عرفت في السبق حالهم وعلمت في التقديم مآلهم فلا يحتاجون إلى بيان كمالاتهم وتوضيح حالاتهم.
قوله (أما ترى الناس يسمون الذي يلي السابق في الحلبة مصلي) الحلبة - بفتح الحاء المهملة وتسكين اللام - خيل تجمع للسباق من كل أوب لا تخرج من اصطبل واحد كما يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنصرة: قد أحلبوا واستحلبوا، أي اجتمعوا للنصرة والإعانة. والسابق منها يقال
ص:72
له: المجلي أيضا، هو الذي يقدم على غيره، والمصلي منها هو الذي يحاذي رأسه صلوى السابق، والصلوان عظمان نابتان عن يمين الذنب وشماله.
قوله (لم نك من اتباع السابقين) بيان لقوله: (لم نك من المصلين) وتفسير له.
39 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن موسى بن محمد، عن يونس بن يعقوب، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا)(1) يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي ولاية علي بن أبي طالب والأوصياء (عليهم السلام).(2)
قوله (و الطريقة هي ولاية علي بن أبي طالب والأوصياء (عليهم السلام)) ومعنى الآية حينئذ أن الخلق لو استقاموا وثبتوا على ولايتهم لأشربنا قلوبهم إيمانا كاملا ينتفعون به في الدنيا والآخرة. فقد شبه الإيمان بالماء الغدق وهو الكثير النافع في التسبب للحياة، وأطلق الماء عليه على سبيل الاستعارة المصرحة ورشحها بذكر الإسقاء، ولو فسر الماء بالرزق كما فسروه به مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب كان المراد بالطريقة ولاية الأئمة أيضا لأن ولايتهم سبب لجلب النعم الظاهرة والباطنة كما دلت عليه الآيات والروايات.
40 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن فضالة بن أيوب عن الحسين بن عثمان، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (3)فقال أبو عبد الله (عليه السلام): استقاموا على الأئمة واحدا بعد واحد (تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون).(4)
قوله (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) استقاموا على الأئمة واحدا بعد واحد) دل عليه أيضا ما رواه محمد ابن فضيل عن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن معنى قوله: (ثم استقاموا) قال: هي والله ما أنتم عليه (5). يعني متابعة أهل البيت (عليهم السلام).
ص:73
والمعنى أن الذين قالوا: ربنا إقرارا بربوبيته ووحدانيته ثم استقاموا على ولاية الأئمة وثبتوا فيها إلى آخر العمر تتنزل عليهم الملائكة في وقت الموت أو في القبر أو في تلك المواضع كلها ألا تخافوا من لحوق المكروه والعقاب، ولا تحزنوا من خوف فوات المرغوب والثواب، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون في الدنيا على لسان الرسول.
والروايات الدالة على سرور المؤمن كل السرور إذا بلغ النفس الحلقوم أكثر من أن تحصى.
41 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة) فقال: إنما أعظكم بولاية علي (عليه السلام) هي الواحدة التي قال الله تبارك وتعالى: (إنما أعظكم بواحدة).
قوله (عن محمد بن الفضيل) مشترك بين الغالي وغيره.
قوله ((قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة))، الوعظ النصح والتذكر بالعواقب، وقد فسر المفسرون الواحدة بخصلة واحدة وقالوا هي ما دل عليه قوله تعالى: (أن تقوموا لله) وفسرها (عليه السلام) بولاية علي (عليه السلام) وارتباطها حينئذ بما بعدها لا يخلو من اشكال (1) اللهم إلا أن يكون الباء للقسم و (ان تقوموا) متعلقا ب (أعظكم) بحذف الباء أو بكون الياء للسببية على تقدير أن يكون نسبة الجنون إليه (عليه السلام) باعتبار إفراطه في محبة علي (عليه السلام)
ص:74
وإظهار ولايته، فليتأمل.
42 - الحسين بن محمد، من معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة، وعلي بن عبد الله، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) لن تقبل توبتهم قال: نزلت في فلان وفلان وفلان، آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) في أول الأمر وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية، حين قال النبي (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فهذا علي مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم كفروا حيث مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفرا بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء.(1)
قوله (في قوله الله تعالى: (إن الذين آمنوا) الآية) في سورة النساء هكذا: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا. بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) وليس فيها «لن تقبل توبتهم» نعم هو في آية في سورة آل عمران وهو: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم واولئك هم الضالون)(2) ولعله ذكر آية النساء (3) وضم إليها بعض آية آل عمران للتنبيه على أن مورد الذم في الآيتين واحد وإن كان واحدة منهما مفسرة للاخرى.
قوله (لن تقبل توبتهم) وقع في موقع (لم يكن الله ليغفر لهم) لإفادته مفاده والنفي المؤبد باعتبار انتفاء الموضوع وهي التوبة لعلمه تعالى أزلا بأن من كانت لهم هذه الخصال الذميمة يستحيل منهم التوبة عن الكفر والتمسك بالايمان والتثبت به لعميان بصائرهم عن الحق وتعود ضمائرهم بالباطل، لا باعتبار أنهم لو تابوا وأخلصوا الإيمان لن تقبل منهم ولن يغفر لهم، والله أعلم.
قوله (قال: نزلت في فلان وفلان وفلان) يوافق هذا التفسير ما ذكره بعض المفسرين من أن الآية نزلت في قوم تكرر منهم الارتداد ثم أصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي والجحود والعناد
ص:75
إلا إنهم لم يذكروا أن المرتدين من هم.
وقال بعضهم: نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا لعبادة العجل ثم آمنوا بعد عوده إليهم ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد (صلى الله عليه وآله). ولا يخفي بعده لدلالة الآية على عدم المغايرة في موضوع هذه الصفات المتضادة وما ذكره هذا القائل يدل على مغايرته على أن عبدة العجل تابوا وقبلت توبتهم كما هو مذكور في كتب السير والتفاسير.
قوله (آمنوا بالنبي في أول الامر) لعل المراد بالايمان في الموضعين اقرار اللسان وحده (1) وبالكفر انكاره مع مخالفة القلب له في صورة الإقرار وموافقته في صورة الإنكار.
قوله (حين قال النبي (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فهذا علي مولاه) روي أن أحدهم عند القول قال للآخر: انظر إلى عينه تدور كأنها عين مجنون.
قوله (ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين) أي آمنوا باللسان قال علي بن إبراهيم في تفسيره لما نزلت الآية وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الميثاق عليهم لأمير المؤمنين صلوات الله عليه آمنوا إقرارا لا تصديقا، فلما مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفروا وازدادوا كفرا، ولم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم.
43 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)(2) فلان وفلان وفلان، ارتدوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) قلت:
قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر) (3)قال: نزلت والله فيهما وفي أتباعهما وهو قول الله عز وجل الذي نزل به جبرئيل (عليه السلام) على محمد (صلى الله عليه وآله): (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله (في علي (عليه السلام)) سنطيعكم في بعض الأمر) قال: دعوا بني امية إلى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يعطونا من الخمس شيئا وقالوا: إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شيء ولم يبالوا أن يكون الأمر فيهم، فقالوا: سنطيعكم في بعض الأمر الذي
ص:76
دعوتمونا إليه وهو الخمس ألا نعطيهم منه شيئا وقوله: (كرهوا ما نزل الله) والذي نزل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان معهم أبو عبيدة وكان كاتبهم، فأنزل الله (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)(1) - الآية.(2)
قوله: ((ان الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)) تمام الآية: «الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم» الهدى الولاية والنص عليها، والتسويل تحسين الشيء وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله. والإملاء المد في الآمال والأماني، أملى له أي مد له فيهما، وذلك إشارة إلى التسويل والإملاء، والباء في قوله: (بأنهم) للسببية، والضمير فيه للمنافقين وهم فلان وفلان وفلان حيث ارتدوا عن الإيمان بترك ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). وقد روى عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في شأن المنافقين حيث أظهروا الإيمان أولا وارتدوا عنه آخرا. وقال أكثر المفسرين:
إنها نزلت في شأن اليهود، وفسروا الهدى بالرسالة ومعجزاتها. وفيه أن الارتداد لا يناسبهم.
قوله (قال: نزلت والله فيهما وفي أتباعهما) ما نزل الله تعالى هو الولاية والكارهين لها هم الثلاثة المذكورة، وإنما خص الأولين بالذكر لأنهما أساس الظلم والجور والذين قالوا لهم: سنطيعكم في بعض الأمر أتباعهم من بني امية وذلك البعض هو منع أهل البيت (عليهم السلام) من الخمس بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنما خصوا وعد الإطاعة بالبعض لأن الإطاعة في بعض آخر و هو العهد بأن لا يصيروا أمر الولاية في أهل البيت بعد النبي وقع منجزا في حال حياته.
قوله (و لم يبالوا أن يكون الأمر فيهم) (3) هكذا في أكثر النسخ وفيه دلالة على كمال عداوتهم
ص:77
لأهل البيت (عليهم السلام) حيث قصدوا مع غصب الخلافة منهم كسر قلوبهم لضيق المعيشة، وفي بعض النسخ «ولم يبالوا إلا أن يكون الأمر فيهم» وفيه دلالة على أن الغرض من منع الخمس ألا يقدروا على دعوى الخلافة وانتزاعها من الغاصبين.
قوله (وكان معهم أبو عبيدة) اسمه: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن امية بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن نضر بن كناية، وفي فهر يجتمع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو قرشي ومنه تقرشت قريش على الصحيح لا عن النضر بن كنانة، وفي فهر يجتمع بطون قريش كلها ومن لم يكن من ولد فهر فليس بقرشي، وبطون خمسة وعشرون.
قوله (فأنزل الله: (أم أبرموا أمرا)) ذكر الله تعالى ما تعاهدوا عليه في الكعبة ألا يردوا الأمر والخمس إلى أهل البيت (عليهم السلام) فقال: (أم أبرموا أمرا) أي أحكموا بينهم أمرا من رد الولاية ومنع الخمس (فإنا مبرمون) أمرا وهو مجازاتهم بالعذاب أو إثبات الولاية والخمس لأهل البيت، (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) أي حديث نفوسهم، (ونجواهم) أي حديثهم فيما بينهم من منع الحق بل نسمعها ورسلنا وهم الحفظة لديهم يكتبون ذلك ليكون حجة عليهم يوم القيامة ونحن نجازيهم فيه.
44 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)(1) قال:
نزلت فيهم حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين (عليه السلام) فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليه فبعدا للقوم الظالمين.(2)
قوله (قال نزلت فيهم) يعني من يرد الكفر بولاية علي (عليه السلام) وإنكارها وغصبها في بيت الله حال كونه متلبسا بإلحاد أي عدول عن الصراط المستقيم، وبظلم على الرسول ووليه فهما حالان عن فاعل (يرد) أو الثاني بدل عن الأول بإعادة الجار وهو جواب من قوله تعالى (نذقه
ص:78
من عذاب أليم) وعلى هذا مفعول يرد مخصوص، حذف لعلم المخاطب به وقال أكثر المفسرين: حذف مفعوله للدلالة على التعميم، وهو على تقدير عمومه يتناول ما نحن فيه أيضا.
قوله (فالحدوا في البيت بظلمهم) أي فعدلوا عن القصد وانحرفوا عن الحق في بيت الله بسبب ظلمهم، فالباء للسببية والبيت ظرف للالحاد.
45 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فستعلمون من هو في ضلال مبين)(1) يا معشر المكذبين حيث أنبأتكم رسالة ربي في ولاية علي (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) من بعده، من هو في ضلال مبين؟ كذا انزلت وفي قوله تعالى: (إن تلووا أو تعرضوا) فقال: إن تلووا الأمر وتعرضوا عما امرتم به (فان الله كان بما تعملون خبيرا) وفي قوله: (فلنذيقن الذين كفروا (بتركهم ولاية أمير المؤمنين) عذابا شديدا (في الدنيا) ولنجزينهم أسوء الذي كانوا يعملون).(2)
قوله (يا معشر المكذبين) أي فستعلمون عند الموت أو بعده يا معشر المكذبين لرسالتي من أجل أني أنبأكم رسالة ربي في ولاية علي والأئمة من بعده من هو في ضلال مبين منا أو منكم؟ وهم نسبوا الضلالة إليه (صلى الله عليه وآله) من أجل تبليغ الولاية مرارا وقالوا: إنما يقول ذلك من قبله حبا لتحقق الرئاسة في أهل بيته وفيه دلالة على أنهم لم يؤمنوا بالله وبرسوله أصلا.
قوله (كذا أنزلت) لا يدل هذا على أن ما ذكره (عليه السلام) قرآن لأن ما أنزل إليه (صلى الله عليه وآله) عند الوحي يجوز أن يكون بعضه قرانا وبعضه تأويلا وتفسيرا، وقد أشار صاحب الطرائف إلى هذا حيث قال روى الفقيه الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنى - وذكر حديثا طويلا إلى أن قال: ثم نزل (فاستمسك بالذي أوحى إليك) في أمر علي (إنك على صراط مستقيم) وإن عليا (عليه السلام) (لعلم للساعة وذكر لك ولقومك وسوف تسئلون) عن علي بن أبي طالب هذا آخر الحديث، وكان اللفظ المذكور المنزل في ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله) بعضه قرآنا وبعضه تأويلا. انتهى كلامه بعبارته.
قوله (فقال أن تلووا الأمر) لواه أي أماله وصرفه من جانب إلى جانب، وقد يجعل كناية عن التأخر والتخلف يعني أن تصرفوا أمر الخلافة من موضعها وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أو تعرضوا عما امرتم به من ولايته وتخلفتم عنه فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيعاقبكم بذلك.
قوله (فلنذيقن الذين كفروا بتركهم ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) عذابا شديدا في الدنيا) بالنوايب
ص:79
والمصائب والقتل والأسر سيما بيد الصاحب، ولنجزينهم في الآخرة أسوء الذي كانوا يعملون أي بأقبح الجزاء على أقبح أعمالهم وهو ترك الولاية، ذلك أي الأسوء الأقبح جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد أي دار الإقامة أبدا جزاء بما كانوا بآياتنا وهو علي بن أبي طالب والأئمة (عليهم السلام) يجحدون.
وقال الذين كفروا بولاية علي (عليه السلام) واتبعوا أئمة الجور حين دخلوا في النار وذاقوا حر عذابها ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس أي الشيطان والإنسان نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ثم صرف الكلام إلى وصف شيعة علي (عليه السلام) وقال: إن الذين قالوا ربنا الله اقرارا بالتوحيد والربوبية ثم استقاموا على الولاية تتنزل عليهم الملائكة ألا لا تخافوا ولا تحزنوا إلى آخر ما ذكر سابقا.
46 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط عن علي بن منصور، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ذلك بأنه إذا دعي الله وحده (و أهل الولاية) كفرتم).(1)
قوله (ذلك بأنه إذا دعى الله وحده وأهل الولاية كفرتم) هكذا في جميع النسخ والقرآن «ذلكم» على خطاب الجمع أي ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله وحده وأهل الولاية كفرتم بالتوحيد والولاية وأنكرتموها. يدل على ذلك أيضا ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره حيث قال أخبرنا الحسن بن محمد عن معلى بن محمد عن محمد بن جمهور عن جعفر بن بشير عن الحكم بن زهير عن محمد بن حمدان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى: (إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير) يقول إذا ذكر الله وحده بولاية من أمر الله تعالى بولايته كفرتم، وإن يشرك به من ليست له ولاية تؤمنوا بأن له ولاية.(2)
47 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سليمان عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين (بولاية علي (عليه السلام)) ليس له دافع) ثم قال: هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله).(3)
قوله (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - الخ) قال القاضي: أي دعا داع به بمعنى
ص:80
استدعاه ولذلك عدى الفعل بالباء، والسائل نضر بن الحارث فإنه قال إن كان هذا هو الحق من عندك أو أبو جهل فإنه قال: (أسقط علينا كسفا من السماء) سأله استهزاء أو الرسول (صلى الله عليه وآله) استعجل بعذابهم.
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه الكرام (عليهم السلام) ما يوضح هذا المقام ومضمونه أنه لما نصب رسول (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) يوم الغدير للخلافة (1) وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه واشتهر ذلك الخبر ركب الحارث بن النعمان الفهري ناقته حتى لحقه بالمدينة فقال: يا محمد، أمرتنا بكلمة الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج فقبلنا منك، فما ترضى بذلك حتى جعلت ابن عمك عليا أميرا علينا، أهذا من رأيك أو أمر ربك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): بأمر ربي، فقام الحارث وقال: اللهم إن كان محمد صادقا فأمطر علينا حجارة فنزل عليه حجارة من السماء فقتل، فنزل قوله تعالى: (سأل سائل) أي دعا داع بعذاب واقع للكافرين بولاية علي ليس له دافع يرده من الله لتعلق ارادته بذلك حتما.
وقوله (عليه السلام): هكذا والله نزل به جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله) لا يدل على أن قوله: «بولاية علي» من القرآن لما عرفت سابقا.
48 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن سيف، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف (في أمر الولاية) يؤفك عنه من أفك) قال: من أفك عن الولاية أفك عن الجنة.(2)
قوله (عن أبي جعفر في قوله أنكم لفي قول مختلف) قال الله تعالى: (إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك)(3) قال علي بن إبراهيم في تفسيره: حدثنا جعفر بن أحمد قال حدثنا عبد الكريم بن عبد الرحيم عن محمد بن علي عن محمد ابن الفضيل عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى: (إنما توعدون لصادق) يعني في علي (وإن الدين لواقع) يعني في علي (عليه السلام) وعلي هو الدين، وقوله:
(والسماء ذات الحبك) قال السماء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي ذات الحبك، وقوله عز وجل: (انكم لفي قول مختلف) يعني مختلف في علي، اختلفت هذه الامة في ولايته فمن استقام على ولاية علي دخل الجنة ومن خالف ولاية علي دخل النار، وقوله عز وجل: (يؤفك عنه من أفك) يعني من أفك عن ولايته أفك عن الجنة. انتهى.
ص:81
49 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن يونس، قال: أخبرني من رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة): يعني بقوله (فك رقبة) ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن ذلك فك رقبة.(1)
قوله (من أفك عن الولاية أفك عن الجنة) الإفك بالكسر الكذب، وبالفتح وصدر قولك أفكه يأفكه أفكا إذا قلبه وصرفه عن الشيء، وأفك فلان فهو مأفوك أي صرف عن الشيء ومنع منه.
قوله (فلا اقتحم العقبة) أي لم يرتكبها ولم يدخل فيها، من اقتحم الإنسان الأمر العظيم إذا رمى نفسه فيه لشدة اعتنائه به. والعقبة الطريق في الجبل، والمراد بها هنا ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) على سبيل التشبيه. والاستعارة كما دل عليه قوله تعالى (وما أدريك) أي ما علمك ما العقبة (فك رقبة) يعنى بقوله فك رقبة ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن ذلك فك رقبة من النار، وفي حمله على العقبة بمعنى الولاية مبالغة لأن الولاية سبب لفك الرقاب من النار وهي تفكها منها، فحمله عليها من باب حمل المسبب على السبب للمبالغة في السببية، أو من باب حمل المصدر على المتصف به كزيد عدل، وأما قوله: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)(2) وهي مفعلة من سغب إذا جاع، فحمله عليها كحمل المشبه به على المشبه مثل زيد أسد، فإن الولاية سبب لحياة النفس كالإطعام في اليوم المذكور، وإنما خص يتيما ذا مقربة ومسكينا ذا متربة بالذكر لأن إطعامهما أفضل وأدخل في التسبب للحياة.
50 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).(3)
قوله (بشر الذين آمنوا) أي بشر الذين آمنوا بولاية علي (عليه السلام) بأن لهم قدما صادقة في مقام المجاهدة مع النفس والأعداء عند ربهم، ويمكن أن تجعل كناية عن أن لهم مرتبة سابقة هي مرتبة الإقرار بالولاية في الميثاق عند وجودهم الظلي، وسميت صادقة لأنها موافقة لمرتبتهم في الوجود العيني، أو كناية عن أن لهم منزلة رفيعة ومرتبة في الآخرة لأن ثبات القدم في المجاهدة مستلزم لها.
ص:82
51 - علي بن إبراهيم عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا (بولاية علي) قطعت لهم ثياب من نار).(1)(2)
قوله (هذان خصمان) أي هذان فوجان (اختصموا) جمعه حملا على المعنى (في ربهم) أي في قوله أو أمره بولاية علي (عليه السلام) (فالذين كفروا) بولاية علي (عليه السلام) (قطعت لهم) أي قدرت لهم على مقادير جثتهم (ثياب من نار) محيطة بهم كإحاطة الثياب (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) أي الماء الحار وهو خبر بعد خبر أو حال عن الضمير في (لهم). (يصهر) أي يذاب (به) لفرط حرارته (ما في بطونهم) من الأحشاء والأمعاء ويصهر به الجلود فتذاب به الجلود كما تذاب به الأحشاء (ولهم) مع ذلك (مقامع) أي سياط (من حديد) يجلدون بها.
قال علي بن إبراهيم: حدثني أبي عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن حماد، عن ابن طيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال: نحن وبنو أمية قلنا: صدق الله ورسوله، وقال بنو امية: كذب الله ورسوله، (فالذين كفروا) يعني بني أمية (قطعت لهم ثياب من نار) إلى قوله (حديد) قال: تشوبه النار فتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته وتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه (ولهم مقامع من حديد) قال: الأعمدة التي يضربون بها.
52 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن أورمة، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (هنالك الولاية لله الحق) قال:
ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).(3)
قوله (قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله تعالى هنالك الولاية) قد مر هذا سندا ومتنا وذكرنا ما يتعلق به فلا نعيده.
53 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) قال: صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.(4)
ص:83
قوله (صبغة الله) الصبغة بالكسر ما يصبغ به ونصبها على الإغراء كما قيل أي ألزموها، والمراد بها الولاية التي صبغ الله المؤمنين بها في الميثاق، وإنما سميت الولاية صبغة لأن الولاية حلية المؤمن كما أن الصبغة حلية المصبوغ. وفي تفسير علي بن إبراهيم: المراد بها الإسلام، وقيل: هي الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم، وقيل: هي الهداية أو الحجة، وقيل: هي الإيمان بالله وعبر عنه بالصبغة للمشاكلة باعتبار وقوعه في صحبة صبغة النصارى تقديرا. ولنصبها وجوه آخر تركناها خوفا للإطناب.
54 - عده من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن المفضل بن صالح، عن محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا) (1)يعني الولاية، من دخل في الولاية، دخل في بيت الأنبياء (عليهم السلام)، وقوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(2) يعني الأئمة (عليهم السلام) وولايتهم من دخل فيها دخل في بيت النبي (صلى الله عليه وآله).(3)
قوله (رب اغفر لي) طلب مغفرته مع عصمته إما لفتراته وغفلاته أو لاشتغاله ببعض المباحات المانعة من العروج إلى أعلى المقامات أو لعدم إيقاعه بعض الطاعات على أفضل الحالات. أو لتأثر نفسه النورانية ببعض الكدورات عند التنزل من مقام كمال القرب لنصح العباد، والمعصوم يعد كل ذلك ذنبا ويستغفر منه. ههنا زيادة تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله ((ولمن دخل بيتي مؤمنا) يعني الولاية) البيت المنزل والعيال والشرف والمراد به هنا الولاية على سبيل الكناية لأن الدخول في الولاية مستلزم للدخول في بيت الأنبياء بالمعاني المذكورة وكذا العكس، فأطلق الملزوم واريد اللازم مع ما فيه من الإيماء إلى أن الداخل في الولاية يصح أن يقال له أهل بيت الأنبياء، توسعا.
قوله (يعني الأئمة) يريد أن الخطاب لهم وحدهم لا لهم وللنساء من باب التغليب كما زعمه بعض النواصب، وقد ذكرنا سابقا أن في رواياتهم أيضا دلالة صريحة على ذلك وأن عدم العصمة فيهن وانتفاء حقيقة الرجس من كل وجه عنهن مانعان من دخولهن في الخطاب، وأن اختصاص الخطاب فيما قبل هذه الآية وما بعدها بهن لا يقتضي دخولهن فيها على أن أحدا لم يقل أن هذه الآية نزلت مع ما قبلها وما بعدها دفعة واحدة وإنما وضعوها كذلك عند الجمع والتأليف وأمثال
ص:84
ذلك في القرآن كثيرة وقد مر مثل ذلك، ولو ثبت نزول الجميع دفعة ففي اختصاص الخطاب في هذه الآية بالأئمة وفيما قبلها أو ما بعدها بالنساء فائدة لطيفة هي أن الله تعالى لما أراد أن يختص الأئمة بهذا الوصف الجميل وعلم أن بعض النساء يظلمهم خاطبهن ووعظهن بالوعد والوعيد سابقا ولاحقا في موافقتهم ومخالفتهم.
ومما يؤيد ذلك ما رواه علي بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن غالب عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن حماد عن حريز قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) (1)قال:
الفاحشة الخروج بالسيف.
وقال: حدثنا حميد بن زياد عن محمد بن الحسين عن محمد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه صلوات الله عليه في هذة الآية (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)(2) قال:
أي ستكون جاهلية اخرى.
ويؤيده أيضا ما نقله القاضي عن بعض المفسرين من أن الجاهلية الاولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق في الإسلام. هذا حال الآية السابقة.
وأما الآية اللاحقة وهي قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)(3) فلا يبعد أن يراد بالآيات الأئمة (عليهم السلام) وبالحكمة ساير الشرائع، ولو كان المراد بها الآيات القرآنية كانت الآية المذكورة. قال: هذه الآية في وصف الأئمة من جملتها وعلى التقديرين فيها ترغيب لهن في حفظ حقوق الأئمة (عليهم السلام).
قال علي بن إبراهيم: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(4) قال: نزلت هذه الآية في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين وذلك في بيت أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ثم ألبسهم كساء خيبريا ودخل معهم فيه ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم، نزلت هذه الآية فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ فقال: أبشري يا أم سلمة فإنك إلى خير. قال أبو الجارود: وقال زيد بن علي ابن الحسين: إن جهالا من الناس يزعمون أنما أراد الله تبارك وتعالى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنما لو عنى
ص:85
أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) لقال ليذهب عنكن الرجس ويطهركن ولكان الكلام مؤنثا كما قال تبارك وتعالى:
(واذكرن ما يتلى في بيوتكن) (ولا تبرجن) و (لستن كأحد من النساء).
وقال علي بن إبراهيم: ثم انقطعت مخاطبة نساء النبي (صلى الله عليه وآله) وخاطب أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ثم عطف على نساء النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) ثم عطف على آل محمد فقال: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات - إلى قوله - أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما).
قوله (وولايتهم) لعل المراد أهل ولايتهم بحذف المضاف وفيه إشعار بأن أهل ولايتهم من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، ولعل السر فيه أن من تشبه بقوم فهو منهم ومن أحب رجلا فهو مع من أحب ويمكن أن يراد بالبيت الدين.
55 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن محمد بن الفضيل، عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)(1) قال: بولاية محمد وآل محمد (عليهم السلام) هو خير مما يجمع هؤلاء من دنياهم.(2)
قوله (قل بفضل الله) قال الله تعالى (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)(3) قال علي بن إبراهيم: حدثني محمد بن جعفر قال حدثني محمد بن أحمد عن أحمد بن الحسين عن صالح بن أبي حماد عن الحسن بن موسى الخشاب عن رجل عن حماد بن عيسى عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله تعالى: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) قال قيل له ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء - إلى أن قال -: ثم قال: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) (4)قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقرآن، ثم قال: قل يا محمد: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون، قال: الفضل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورحمته أمير المؤمنين صلوات الله عليه، (فبذلك فليفرحوا) قال:
فليفرحوا شيعتنا (هو خير مما) أعطوا أعداؤنا من الذهب والفضة.
ص:86
56 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) - ونحن في الطريق في ليلة الجمعة -: اقرأ فإنها ليلة الجمعة قرآنا، فقرأت: (إن يوم الفصل (كان) ميقاتهم أجمعين * يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن والله الذي رحم الله ونحن والله الذي استثنى الله لكنا نغني عنهم.(1)
قوله (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) أي لا يغني ولي عن ولي في ذلك اليوم شيئا من العذاب والصعوبة إلا آل محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين فإنهم يغنون عن أوليائهم وشيعتهم، وأما من والى غير أولياء الله فلا يغني بعضهم عن بعض شيئا.
قوله (نحن والله الذي) الموصول مفرد لفظا لموافقة المستثنى وجمع معنى فلذلك صح حمله على نحن وعليه فقس ما بعده.
57 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله، عن يحيى بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
لما نزلت: (وتعيها أذن واعية) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هي أذنك يا علي.(2)
قوله (قال: وتعيها أذن واعية) لما أخبر الله تعالى عن اهلاك ثمود وعاد وفرعون وأتباعه وقوم لوط وقوم نوح وانجاء أصحابه بحملهم في الجارية قال: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) أي لنجعل لكم هذه الفعلة وهي إنجاء المؤمنين بحملهم في الجارية وإغراق الكافرين، أو لنجعل العقوبات المذكورة كلها تذكرة للعقوبة والرحمة بسبب المعصية والطاعة وعبرة لأهل التذكر والتفكر في عاقبة الامور (وتعيها اذن واعية) أي تحفظها اذن حافظة يحفظ ما يجب حفظه وينبغي ضبطه بتذكيره وإشاعته والعمل بموجبه.
قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هي أذنك يا علي) قال صاحب الطرائف قدس الله روحه روى الثعلبي في تفسير قوله تعالى (وتعيها أذن واعية) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي، قال علي: فما نسيت بعد ذلك شيئا وما كان لي أن أنساه.
وروى نحو ذلك ابن المغازلي في كتابه بإسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، ونقل بعض المفسرين عن أبي الحسن الواحدي وهو من مشاهير علماء أهل السنة أنه قال في تفسيره المسمى بأسباب النزول: إن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وروى بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ضمني
ص:87
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وقال: يا علي، أمرني ربي أن أقربك مني وأعلمك وأن كل ما سمعت مني تحفظه ولا تنساه.
ونقل عن الثعلبي أنه روى عن بريدة عنه (صلى الله عليه وآله) أن هذة الآية نزلت بعد أن أمره الله تعالى بتعليم علي (عليه السلام) وأخبره بأنه يحفظ كل ما يسمعه ولا ينساه.
وعن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني أنه نقل في حلية الأولياء عن رزين أنه قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام). وعن الثعلبي أيضا أنه روى عن عبد الله بن الحسن قال لما نزلت هذه الآية قال النبي (عليه السلام): «اللهم اجعلها أذن علي، فما سمع شيئا إلا حفظه».
وذكره صاحب الكشاف فيه ونقله الطبرسي عن المكحول.
وبالجملة روايات العامة والخاصة ناطقة بأن هذه الآية نزلت في شأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإذا كان له من بين الصحابة اختصاص بهذه الفضيلة الشريفة والمرتبة الرفيعة كيف يرضى أحد أن تقدم عليه جماعة من الجهلة، وطائفة من الفسقة؟! والله ولي التوفيق ومنه هداية الطريق.
58 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية على محمد (صلى الله عليه وآله) هكذا: (فبدل الذين ظلموا (آل محمد حقهم) قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا (آل محمد حقهم) رجزا من السماء بما كانوا يفسقون).(1)(2)
قوله (فبدل الذين ظلموا آل محمد حقهم) وهو الولاية والخمس والطاعة وغيرها من حقوقهم على الامة.
قوله (فأنزلنا
ص:88
على الذين ظلموا آل محمد حقهم) وضع الظاهر موضع الضمير للمبالغة في تقبيح أمرهم والإشعار بأن إنزال الرجز وهو العذاب عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه وتبديلهم ما يوجب هدايتهم ونجاتهم بما يوجب ضلالتهم وهلاكهم، ولعل الغرض من نزول جبرئيل (عليه السلام) بالآية هكذا هو الإشعار بأن هذه الامة يخالفون قول الله تعالى فيما يوجب حطة لذنوبهم وهو الولاية كما خالف بنو إسرائيل أمره بأن يقولوا حطة عند دخول الباب سجدا وبدلوها بغيرها حذو النعل بالنعل، وإلا فالظاهر أن الآية نزلت في ذم بني إسرائيل بقرينة التفريع وقد صرح علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية بما ذكره (عليه السلام) قال قوله تعالى (وقولوا حطة) أي حط عنا ذنوبنا فبدلوا ذلك وقالوا: حنطة وقال الله تعالى (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا (آل محمد حقهم) رجزا من السماء بما كانوا يفسقون).
59 - وبهذا الاسناد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية هكذا: (إن الذين ظلموا (آل محمد حقهم) لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) ثم قال: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم (في ولاية علي) فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا (بولاية علي) فان لله ما في السموات وما في الأرض).(1)
قوله (إن الذين ظلموا) في سورة النساء (إن الذين كفروا وظلموا) ولعل الاختصار للدلالة على أن العطف للتفسير مع احتمال عدم نزوله، يدل على ما ذكره (عليه السلام) ما رواه علي بن إبراهيم قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قرأ هذه الآية هكذا: (الذين كفروا وظلموا (آل محمد حقهم) لم يكن الله ليغفر لهم) وفيه دلالة على أن ذلك نزل قرآنا.
ويقرب من الروايتين ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن المراد: إن الذين كفروا وظلموا الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم لأن من ظلم آل محمد حقهم فقد ظلم الناس وهم التابعون له عما فيه صلاحهم وخلاصهم من العذاب.
قوله (وكان ذلك على الله يسيرا) أي وكان ذلك الحكم المذكور وهو عدم غفرانهم ودلالتهم بعد البحث إلى طريق جهنم وخلودهم فيها يسيرا على الله لا يصعب عليه ولا يستعظمه.
قوله (فآمنوا خيرا لكم) أي فصدقوا خيرا لكم هو الولاية، أو فآمنوا ايمانا خيرا لكم وهو الإيمان بالولاية.
قوله (وإن تكفروا (بولاية علي) فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) يعني إن تكفروا فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، والمراد بالموصول السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن وما فوقهن وما يطلق عليه اسم شيء من الكائنات.
60 - أحمد بن مهران - رحمه الله - عن عبد العظيم، عن بكار، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال هكذا نزلت هذه الآية: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (في علي) لكان خيرا لهم).(2)
قوله (ولو أنهم فعلوا) مر هذا الحديث متنا لا سندا وقد عرفت ما يتعلق به.
ص:89
61 - أحمد، عن عبد العظيم، عن ابن اذينة، عن مالك الجهني، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
(وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) قال: من بلغ أن يكون إماما من آل محمد ينذر بالقرآن كما ينذر به رسول الله (صلى الله عليه وآله).(1)
قوله (وأوحي الي) هذا القرآن مر هذا أيضا مع بيانه.
62 - أحمد، عن عبد العظيم، عن الحسين بن مياح (2)، عمن أخبره، قال: قرأ رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام): (قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) فقال: ليس هكذا هي، إنما هي والمأمونون، فنحن المأمونون.
قوله (إنما هي والمأمونون) المأمونون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أيضا عبارة عنهم (عليهم السلام) كما مر في باب عرض الأعمال عن يعقوب بن شعيب قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله تعالى (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قال: هم الأئمة (عليهم السلام).
63 - أحمد، عن عبد العظيم، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (هذا صراط علي مستقيم).
قوله (قال هذا صراط علي مستقيم) لعله إشارة إلى أن قراءة قوله تعالى في سورة الحجر (هذا صراط علي مستقيم) بتنوين صراط وفتح اللام في (علي) تصحيف وأن الحق هو الإضافة وكسر اللام، يعني أن الإخلاص أو طريق المخلصين طريق علي مستقيم لا انحراف عنه ولا اعوجاج فيه يؤدي سالكه إلى المقصود، وقرئ على بكسر اللام من علو الشرف كما صرح به القاضي وغيره، وفيه خروج عن التصحيف في الجملة وإخفاء للحق ولا ينفعهم ذلك بعد تصريح شيوخهم به على ما نقله صاحب الطرائف قال: روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي بإسناده إلى قتادة عن الحسن البصري قال: كان يقرأ هذا الحرف (صراط علي مستقيم) فقلت للحسن وما معناه قال: يقول هذا طريق علي بن أبي طالب ودينه طريق ودين مستقيم فاتبعوه وتمسكوا به فإنه واضح لا عوج فيه.
64 - أحمد، عن عبد العظيم، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل
ص:90
جبرئيل بهذه الآية هكذا: (فأبى أكثر الناس (بولاية علي) إلا كفورا) قال: ونزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية هكذا: (وقل الحق من ربكم (في ولاية علي) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر * إنا اعتدنا للظالمين (آل محمد) نارا).(1)
قوله (فأبى أكثر الناس (بولاية علي) إلا كفورا) قال الله تعالى (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا) لعل الضمير في (صرفناه) راجع إلى علي (عليه السلام) والغرض من تصريفه بينهم هو أن يتفكروا فيه ويعرفوا علو قدره وحق نعمته (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) بولايته وجحودا لها، وفي تفريع الاستثناء مبالغة في إنكارهم لها.
قوله (وقل الحق من ربكم (في ولاية علي)) قال علي بن إبراهيم قال أبو عبد الله (عليه السلام): نزلت هذه الآية هكذا (قل الحق من ربكم) يعني ولاية علي (عليه السلام) (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين (آل محمد (صلى الله عليه وآله))) (نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) قال:
المهل: الذي يبقى في أصل الزيت المغلي (يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) ثم ذكر ما أعد الله للمؤمنين فقال (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات - إلى قوله - وحسنت مرتفقا).(2)
65 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) في قوله: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) قال: هم الأوصياء.
قوله (قال هم الأوصياء) يعني أن المساجد هم الأوصياء لأنهم محال السجود لله تعالى ومواضعها حتى لو لم يكونوا لم يتحقق السجود له، وقوله (لله) إشارة إلى أنهم منصوبون من قبله مختصون به، وقوله: (فلا تدعوا مع الله أحدا) إشارة إلى أن من عدل عنهم أشرك بالله واتخذ معه إلها آخر، ومثله في تفسير علي بن إبراهيم بإسناد آخر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: «المساجد الأئمة صلوات الله عليهم»، والمفسرون اختلفوا في تفسيرها ففسرها بعضهم بهذه المساجد المعروفة، وبعضهم بالمسجد الحرام لأنه قبلة لتلك المساجد، وبعضهم بالمساجد السبعة في الإنسان، وبعضهم بالسجود على أنها جمع مسجد بالفتح بمعنى السجود وبعضهم بالأرض كلها.
66 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن الأحول عن سلام ابن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (3)قال: ذاك رسول الله وأمير المؤمنين والأوصياء من بعدهم.(4)
قوله (قل هذه سبيلي) أي هذه الطريقة أو الدعوة إلى الله وشرايعه سبيل إليه.
قوله (قال: ذاك رسول الله) قال علي بن إبراهيم: وفي رواية أبي الجارود عن أبي - جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله - إلى قوله - أنا ومن اتبعني): يعني نفسه ومن
ص:91
تبعه علي ابن أبي طالب وآل محمد صلوات الله عليهم (1).
قال علي بن إبراهيم: حدثني أبي عن علي بن أسباط قال: قلت لأبي جعفر الثاني صلوات الله عليه: يا سيدي، إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك، قال: وما ينكرون من ذلك فوالله لقد قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) فما تبعه غير علي (عليه السلام) وكان ابن تسع سنين وأنا ابن تسع سنين.
67 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان، عن سالم الحناط، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) فقال أبو جعفر (عليه السلام): آل محمد لم يبق فيها غيرهم.
قوله (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)(2) أي غير أهل بيت من المسلمين، والظاهر أن ضمير (فيها) في الموضعين راجع إلى قرية قوم لوط وإن لم يجر لها ذكر لأنها معلومة من سياق الكلام، واستدل به على أن الإسلام هو الإيمان بدليل استثناء المسلم من المؤمن وهو يقتضي تناول المؤمن له، وهذا التناول إنما يتحقق إذا كان الإسلام عين الإيمان إذ لو كان غيره لم يصدق المؤمن على المسلم.
والجواب: لا نسلم قوله: إنما يتحقق...، وما ذكره لإثباته مدخول المفهومين المتغايرين قد يتصادقان كليا إما من الطرفين كالناطق والضاحك أو من طرف واحد كالضاحك والماشي، وقد يتصادقان جزئيا كالسواد والكتابة.
قوله (فقال أبو جعفر (عليه السلام): آل محمد لم يبق فيها غيرهم) أي في المدينة ولعل المراد حال آل محمد صلوات الله عليهم مع هذه الامة كحال آل لوط (عليه السلام) مع امته حيث لم يوجد مؤمن غيرهم،
ص:92
ويحتمل أن يكون ضمير (فيها) في الآية أيضا راجعا إلى المدينة ويكون الغرض من هذا التأويل هو الإشارة إلى حال علي (عليه السلام) وأهل بيته عند خروجهم منها، والله أعلم.
68 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن إسماعيل بن سهل، عن القاسم بن عروة، عن أبي السفاتج، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) قال: هذه نزلت في أمير المؤمنين وأصحابه الذين عملوا ما عملوا، يرون أمير المؤمنين (عليه السلام) في أغبط الأماكن لهم، فيسيء وجوههم ويقال لهم: (هذا الذي كنتم به تدعون) الذي انتحلتم اسمه.(1)
قوله (فلما رأوه) أي فلما رأوا عليا (عليه السلام) ذا زلفة وهي القرب والمنزلة سيئت وجوه الذين كفروا بولايته وبان عليها أثر الكآبة والحزن والمحنة في ظاهر وجوههم، وإنما عدل من الضمير إلى الموصول للدلالة بصلته على العلة.
قوله (وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) هذا إشارة إلى علي (عليه السلام) والخطاب للكافرين بولايته، والقائل المؤمنون أو الملائكة، والغرض منه هو التعبير والشماتة.
قوله (يرون أمير المؤمنين (عليه السلام) في أغبط الأماكن لهم) أي أفضل الأماكن للمؤمنين وأفضل المراتب لهم وأصل الغبط حسن الحال والمسرة.
قوله (الذي انتحلتم اسمه) بدل من الموصول المتقدم أو بيان له أو خبر بعد خبر، والانتحال أن يدعي الرجل حق الغير لنفسه ظلما كما انتحل خلفاء الجور اسم أمير المؤمنين والولاية وهما حق علي (عليه السلام) لأنفسهم. قال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية: إذا كان يوم القيامة ونظر أعداء أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى ما أعطاه الله تبارك وتعالى من المنزلة الشريفة العظيمة وبيده لواء الحمد، وهو على الحوض يسقي ويمنع، يسود وجوه أعدائه فيقال لهم: (هذا الذي كنتم به تدعون) أي هذا الذي كنتم به تدعون منزلته وموضعه واسمه. وقال بعض المفسرين: نقل الحاكم أبو القاسم الحسكاني بأسانيده الصحيحة عن شريك عن الأعمش أنه قال لما رأوا ما لعلي بن أبي طالب عند الله من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا.
69 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (وشاهد ومشهود) قال: النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام).(2)
ص:93
قوله (وشاهد ومشهود) أقسم الله تعالى بشاهد ومشهود كما أقسم بالسماء ذات البروج واليوم الموعود أنه قتل أصحاب الاخدود والمراد بها النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، إما باعتبار أن كل واحد منها شاهد على الخلق بما فعلوا ومشهود له بما بلغوا ونصحوا، أو بأن يراد بالأول الأول وبالثاني الثاني من باب اللف والنشر المرتب. والمفسرون اختلفوا في تفسيرهما اختلافا كثيرا فقيل:
الشاهد هو الله والمشهود الخلق، وقيل بالعكس لأن الخلق شاهدون على وجوده. وقيل: الشاهد النبي (صلى الله عليه وآله) والمشهود الامة، وقيل: الشاهد النبي والمشهود يوم القيامة. وفيه أن اليوم الموعود يوم القيامة ففيه تكرار لا يدفع إلا بتكلف، وقيل الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وقيل الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحاج، وقيل الشاهد اليوم والليل والمشهود الخلق. وكتاب منهج الصادقين متكفل لذكر أقوالهم تفصيلا.
70 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عمر الحلال قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الضالمين) قال: المؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام).(1)
قوله (عن أحمد بن عمر الحلال) الحلال - بالحاء غير المعجمة واللام المشددة - وكان يبيع الحل وهو الشيرج، وضبطه ابن داود بالخاء المعجمة أي يبيع الخل.
قوله (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين)(2) بعده (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون * وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجالا يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الأعراف رجال يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) والمؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤذن بين الفريقين التابعين له إلى يوم القيامة والظالمين له. ويخص الظالمين باللعن والبعد عن الرحمة وينادي التابعين بالسلام والبشارة بالدخول في الجنة.
ومما يدل على أن المؤذن هو (عليه السلام) ما رواه علي بن إبراهيم قال حدثني أبي عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: المؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤذن أذانا يسمع الخلائق، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في سورة براءة (وأذان من الله ورسوله) فقال أمير المؤمنين صلوات
ص:94
الله عليه: «كنت أنا الأذان في الناس».
71 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن أورمة، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) قال: ذاك حمزة وجعفر وعبيدة وسلمان وأبو ذر والمقداد بن الأسود وعمار هدوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). وقوله: «حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم (يعني أمير المؤمنين) وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان»: الأول والثاني والثالث (1).(2)
قوله (قال ذاك حمزة وجعفر وعبيدة) أراد أن صراط الحميد علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأنه طريق الحق والمحمود في نفسه وعاقبته، وأن ضمير الجمع لهؤلاء الأكابر وإنما خصهم بالذكر لأنهم كانوا على المودة الخالصة له (عليه السلام) وأما غيرهم فلم يخل قلوبهم عن زيغ ما عنه، ولعل المراد بالطيب من القول كلمة التوحيد أو أعم ويحتمل النصيحة له (عليه السلام)، قال علي بن إبراهيم: الطيب من القول التوحيد والإخلاص وصراط الحميد الولاية. وعبيدة هو عبيدة بن عمرو، وقيل: ابن قيس بن عمر، والسلماني من بني سلمان بن يشكر بطن من مراد وكان من أولياء علي (عليه السلام) وخواص أصحابه وهو مذكور في طرق العامة أيضا، روى مسلم بإسناده عن عبيده: قال القرطبي: عبيدة بفتح العين هو عبيدة السلماني.
قوله (يعني أمير المؤمنين) يريد أن الإيمان أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه أصل الإيمان وسببه والخطاب حينئذ لشيعته لا لجميع الامة. وقد أشار بعض المفسرين إلى التخصيص أيضا حيث قال:
«حبب إليكم» أي إلى بعضكم.
قوله (قال الأول والثاني والثالث) وإنما نسب الأول إلى الكفر لأنه باني الكفر أصله وبداية الخروج عن الدين منه، والثاني إلى الفسوق لأنه باني الفسوق كلها مع مراعاته لظاهر الشرع في الجملة، والثالث إلى العصيان لأنه باني العصيان وهو الخروج عن الحق بالطغيان وقد بلغ طغيانه إلى حيث أجمعت الصحابة على قتله.
ص:95
72 - محمد بن يحيى، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبيدة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله تعالى: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) (1)قال: عني بالكتاب التوراة والإنجيل. وأثارة من علم فانما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء (عليهم السلام).(2)
قوله (ائتوني بكتاب من قبل هذا) قد أشار جل شأنه إلى أنه ليس للمشركين دليل عقلي على الشرك وعبادة الأصنام ولا دليل نقلي على ذلك بقوله جل وعز: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) أي قل يا محمد للمشركين هل لآلهتكم مدخل في خلق شيء من هذه الأجرام ومشاركة فيه حتى تستحق العبادة، وفيه إلزامهم بعدم ما يقتضي عبادة الأصنام عقلا، ثم قال لإلزامهم بعدم ما يقتضيها نقلا: (ائتوني بكتاب من قبل هذا) أي هذا القرآن الناطق بالتوحيد (أو أثارة من علم) أي بقية من علم العلماء وهم أوصياء الأنبياء (إن كنتم صادقين) في دعواكم.
والغرض من هذا التفسير الصادر عن أهل العصمة هو الإشارة إلى امرين أحدهما الرد على من قال: مضى (صلى الله عليه وآله) بلا وصي بأنه كان له وصي كما كان للأنبياء (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). وثانيهما أن تشريك الثلاثة مع علي (عليه السلام) في العبارة ليس له دليل لا عقلا ولا نقلا كتشريك الأصنام مع الله تعالى في العبادة.
73 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عمن أخبره، عن علي بن جعفر، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تيما وعديا وبني أمية يركبون منبره أفظعه، فأنزل الله تبارك وتعالى قرآنا يتأسي به: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى)(3) ثم أوحى إليه: يا محمد، إني أمرت فلم أطع، فلا تجزع أنت إذا أمرت فلم تطع في وصيك.(4)
قوله (يقول لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تيما وعديا) قال علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك) لما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في نومه كأن قرودا تصعد منبره فساءه ذلك وغمه غما شديدا فأنزل الله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس (ليعمهوا فيها) والشجرة الملعونة في القرآن) نزلت في بني أمية ثم حكى الله خبر إبليس فقال (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا - إلى قوله - لاحتنكن ذريته إلا قليلا) (5)أي لافسدنهم إلا قليلا، فقال الله:
ص:96
(اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) وهو محكم.
74 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الحسين بن نعيم الصحاف، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) فقال: عرف الله عز وجل إيمانهم بموالاتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم. وسألته عن قوله عز وجل:
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فانما على رسولنا البلاغ المبين) (1)فقال: أما والله، ما هلك من كان قبلكم وما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا (عليه السلام) إلا في ترك ولايتنا وجحود حقنا. وما خرج رسول الله (عليه السلام) من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الامة حقنا (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).(2)
قوله (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن)) قد مر سندا ومتنا بلا تفاوت إلا في تقديم كافر على مؤمن هنا كما في القرآن وتأخيره سابقا.
قوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم) الآية في سورة التغابن يعني أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في الأمر والنهي وجميع ما جاء به الرسول وأعظم ما جاء به الولاية، فإن توليتم عن الإطاعة فإنما على رسولنا البلاغ المبين الواضح الفارق بين الحق والباطل ولا يضره توليكم وإعراضكم وانما يعود ضرره إليكم، فقال (عليه السلام): أما والله ما هلك من كان قبلكم من الامم باستحقاق عقوبة الأبد وما هلك من هلك من هذه الأمة حتى يقوم قائمنا (عليه السلام) إلا في ترك ولايتنا وجحود حقنا. وذلك لما عرفت مرارا من أن الله تعالى أخذ على الخلق الميثاق على ولايتهم فمن قبلها فهو حي ناج ومن أنكرها فهو هالك معذب سواء كان من الامم الماضية أو من هذة الامة، ثم قال (عليه السلام): وما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الامة حقنا. ولقد أكثر وبالغ في تبليغ حق علي (عليه السلام) ما لم يكثر ولم يبالغ أحد من الأنبياء في تبليغ حق وصيه لعلمه بأن الامة يخالفون وينازعونه ويغصبون حقه (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي إلى دينه الحق أو إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام).
75 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم البجلي، عن علي ابن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) في قوله تعالى: (وبئر معطلة وقصر مشيد) قال: البئر المعطلة الإمام الصامت، والقصر المشيد الإمام الناطق.
ص:97
ورواه محمد بن يحيى، عن العمركي، عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله.(1)
قوله (قال: البئر المعطلة الإمام الصامت) البئر المعطلة البئر العامرة التي لا يستقي منها، والقصر المشيد القصر المحكم المزين بأنحاء الزينة ولعل قصده (عليه السلام) أن الآية منطبقة على آل محمد (صلى الله عليه وآله) ومثل لهم. قال علي بن إبراهيم: بئر معطلة هي التي لا يستقى منها وهو الإمام الذي قد غاب فلا يقتبس منه العلم والقصر المشيد هو المرتفع، وهو مثل لأمير المؤمنين صوات الله عليه وسبطاه ثم يشرف على الدنيا.
76 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحكم بن بهلول، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) قال: يعني إن أشركت في الولاية غيره (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) يعني بل الله فاعبد بالطاعة وكن من الشاكرين أن عضدتك بأخيك وابن عمك.
قوله «قال: يعني إن أشركت في الولاية غيره) أي إن أشرك النبي (صلى الله عليه وآله) على سبيل الفرض والتقدير كما يفرض المحالات في الولاية غير علي (عليه السلام)، وفيه تعريض على من أشرك فيها غيره بحبط عمله وخسرانه، قال علي بن إبراهيم: خاطب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فهذه مخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله) والمعنى لامته، وهو ما قال الصادق (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه (صلى الله عليه وآله) بإياك أعني واسمعي يا جارة. والدليل على ذلك قوله تعالى (فاعبد وكن من الشاكرين) وقد علم تعالى أن نبيه (صلى الله عليه وآله) يعبده ويشكره ولكن استعبد نبيه (صلى الله عليه وآله) بالدعاء إليه تأديبا لامته. وقال أيضا: حدثنا جعفر بن أحمد عن عبد الكريم بن عبد الرحيم عن محمد بن علي عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) قال: تفسيرها لئن أمرت بولاية غير علي (عليه السلام) مع ولاية علي صلوات الله عليه من بعدك ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. قوله: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) الظاهر أنه طلب العبادة والشكر على النعمة المذكورة منه (عليه السلام)، ويحتمل التعريض أيضا بغيره من الأمة بأن يعبدوه ويشكروه على النعمة المذكورة وهي تقوية الله تعالى نبيه بأخيه وابن عمه وهو أنسب بالسابق.
ص:98
77 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محمد الهاشمي، قال: حدثني أبي، عن أحمد بن عيسى قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في قوله عز وجل: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) قال: لما نزلت (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)(1) اجتمع نفر من أصحاب رسول الله (عليه السلام) في مسجد المدينة، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في هذه الآية؟ فقال: بعضهم إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا ابن أبي طالب، فقالوا: قد علمنا أن محمدا صادق فيما يقول ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا، قال: فنزلت هذه الآية (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) يعرفون يعني ولاية [علي بن أبي طالب] وأكثرهم الكافرون بالولاية.(2)
قوله (ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا) ضمير «نتولاه» راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وإرجاعه إلى علي (عليه السلام) بعيد لفظا ومعنى.
قوله (يعرفون يعني ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) إشارة إلى أن النعمة هي الولاية، يعني يعرفون الولاية التي أنعم الله بها عليهم لتكميل مصالحهم في الدنيا والآخرة بالنصوص القرآنية والسنة النبوية والمشاهدات العينية الدالة في نهاية كماله علما وعملا ثم ينكرونها حسدا واستنكافا عليهم، (وأكثرهم الكافرون) وذكر الأكثر مع أن العارفين المنكرين كلهم كافرون إما لأن الأكثر قام مقام الكل كما صرح به القاضي أو لأن الضمير في أكثرهم راجع إلى الامة لإفادة أن أكثر هذه الامة كافرون بالولاية والله أعلم.
قال علي بن إبراهيم في قوله عز وجل: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) نعمة الله هم الأئمة، والدليل على أن الأئمة (عليهم السلام) نعمة الله جل جلاله قول الله تعالى (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) قال الصادق (عليه السلام): نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده وبنا فاز من فاز.
قوله (قال: هم الأوصياء) قال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية نزلت في الأئمة صلوات الله عليهم، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي نجران عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله الله تبارك وتعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)(1) قال: الأئمة (عليهم السلام) يمشون على الأرض هونا خوفا من عدوهم.
وعنه عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سليمان بن جعفر، قال: سألت أبا الحسن صلوات الله عليه عن قول الله تبارك وتعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) قال: الأئمة صلوات الله عليهم.
79 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد (2) عن بسطام بن مرة، عن إسحاق بن حسان، عن الهيثم بن واقد، عن علي بن الحسين العبدي، عن سعد الإسكاف، عن الأصبغ بن نباتة أنه سأل أمير المؤمنين عن قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) فقال: الوالدان اللذان أوجب الله لهما الشكر هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم وأمر الناس بطاعتهما، ثم قال الله: (إلي المصير) فمصير العباد إلى الله والدليل على ذلك الوالدان، ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه، فقال: في الخاص والعام (وإن جاهداك على أن تشرك بي) يقول: في الوصية وتعدل عمن أمرت بطاعته فلا تطعهما ولا تسمع قولهما، ثم عطف القول على الوالدين فقال:
(وصاحبهما في الدنيا معروفا) يقول: عرف الناس فضلهما وادع إلى سبيلهما وذلك قوله: (واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم) فقال: إلى الله ثم إلينا، فاتقوا الله ولا تعصوا الوالدين فإن رضاهما رضى الله وسخطهما سخط الله.(3)
قوله (هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم) لعل المراد بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) على سبيل التشبيه في التربية. والقرآن قد يكون ظاهرا في شيء ويراد به خلاف ظاهره أو يومي به إليه على سبيل الرمز، فلا يرد أن هذا التأويل ينافي ما قبل الآية وهو قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين).(4)
قوله (والدليل على ذلك الوالدان) أي الدليل على مصير العباد إلى الله الوالدان لدلالتهما العباد إلى طريق الحق وكيفية سلوكه وحمل ما يحتاجون إليه من الزاد للمعاد.
قوله (ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه) أي صرف الكلام إلى ذمهما والتنفير عنهما،
ص:100
وحنتمة - بفتح الحاء المهملة - والنون قبل التاء الفوقانية - أم عمر بن الخطاب وهي بنت هشام اخت أبي جهل على ما صرح به صاحب النهاية، ونقل عن القاموس: أن حنتمة بلا لام بنت ذي الرمحين أم عمر بن الخطاب وليست اخت أبي جهل بل بنت عمه ونسبته إلى امه إما لذمه أو لأنه لا أب له.
قوله (فقال في الخاص والعام) لعل المراد بالخاص وهو ابن حنتمة وصاحبه، وبالعام من تبعهما إلى يوم القيامة.
قوله (يقول في الوصية) لأن ترك وصية النبي (صلى الله عليه وآله) شرك بالله.
قوله (ثم عطف القول على الوالدين) أي على مدحهما والأمر باتباعهما.
80 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن سيف، عن أبيه، عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء)(1) قال:
فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصلها وأمير المؤمنين (عليه السلام) فرعها والأئمة من ذريتهما أغصانها وعلم الأئمة ثمرتها وشيعتهم المؤمنون ورقها، هل فيها فضل؟ قال: قلت: لا والله، قال: والله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.(2)
قوله (أصلها ثابت) أي أصلها ثابت في الأرض ضارب بعروقه و (فرعها) أي أعلاها في السماء (تؤتى أكلها) يعني تعطي ثمرها (كل حين).
قوله (قال فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصلها) كل ذلك على التشبيه والتمثيل ولا يخفى على المتدبر اعتباره. قال بعض المفسرين نقل في شواهد التنزيل عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «خلق الله تعالى الأنبياء من أشجار مختلفة وخلقني وعليا من شجرة واحدة أنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة أكمامها والحسن والحسين ثمرتها وشيعتنا أوراقها، ومن تمسك بغصن من أغصانها نجا، ومن انحرف هلك هلاكا أبديا».
وقال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عز وجل: (مثلا كلمة طيبة) الآية قال: الشجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونسبه ثابت في بني هاشم وفرع الشجرة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وغصن الشجرة فاطمة (عليها السلام) وثمرتها الأئمة من ولد علي وفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين والأئمة من أولادها أغصانها وشيعتهم ورقها، وإن المؤمن من شيعتنا ليموت
ص:101
فتسقط من الشجرة ورقة، وإن المؤمن ليولد فتورق الشجرة ورقة. قلت: أرأيت قوله تعالى: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) قال: يعني بذلك ما يعني به الأئمة من شيعتهم في كل حج وعمرة من الحلال والحرام، ثم ضرب الله لأعداء آل محمد مثلا فقال: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض مالها من قرار).(1)
وفي رواية أبي الجارود قال «كذلك الكافر لا تصعد أعمالهم إلى السماء وبنو امية لا يذكرون الله في مجلس ولا في مسجد ولا تصعد أعمالهم إلى السماء إلا قليل منهم».
قوله (هل فيها فضل) أي هل في الشجرة شيء غير ما ذكر فكذلك الشجرة الطيبة ليس فيها غيرنا وغير شيعتنا، وفي بعض النسخ «هل فيها شوب» قال الجوهري: الشوب الخلط. وفي المثل:
هو يشوب ويروب يضرب لمن يخلط في القول أو العمل.
81 - محمد بن يحيى، عن حمدان بن سليمان، عن عبد الله بن محمد اليماني، عن منيع بن الحجاج، عن يونس، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل (يعني في الميثاق) أو كسبت في إيمانها خيرا) قال: الإقرار بالأنبياء والأوصياء وأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، قال: لا ينفع إيمانها لأنها سلبت.(2)
قوله (لا ينفع نفسا إيمانها) قال الله تعالى: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها) أي إيمانها بالله والأنبياء والأوصياء، ولعل المراد ببعض الآيات بعض أشراط الساعة وهي على ما نقلوه عن حذيفة عن البراء بن عازب عنه (صلى الله عليه وآله):
عشرة الدجال ودابة الأرض وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب والدخان وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ونزول عيسى ونار تخرج من عدن. أو المراد به المهدي (عليه السلام) لأن الأئمة آيات الرب وهو بعضهم.
قوله (لم تكن آمنت من قبل) يعني في الميثاق أو كسبت في إيمانها خيرا قال: الإقرار بالأنبياء (عليهم السلام) (أو كسبت) عطف على (آمنت) يعني لا ينفع نفسا إيمانها في ذلك اليوم بالله وبالنبي والوصي إذا لم تكن آمنت في الميثاق بالله أو آمنت به ولم تكن آمنت فيه بالنبي والوصي، وإنما لا ينفعها الإيمان في ذلك اليوم لأنها سلبت عن الإيمان وتذهب من الدنيا بغير إيمان، لا لأن الإيمان على تقدير بقائه وعدم زواله لا ينفعها، ويفهم منه أن كل من لم يؤمن بأمير المؤمنين (عليه السلام) في
ص:102
الميثاق لو آمن به في الدنيا لا ينفعه (1) لأنه يموت بغير إيمان.
82 - وبهذا الإسناد، عن يونس، عن صباح المزني، عن أبي حمزة، عن أحدهما (عليهم السلام) في قول الله جل وعز: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) قال: إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).(2)
قوله (بلى من كسب سيئة وأحاطت به) السيئة الأمر القبيح والخطيئة الذنب، وقال القاضي:
الفرق بينهما أن السيئة قد يقال فيما يقصد بالذات، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ والمراد بإحاطتها به شمولها له من جميع جوانبه، وهذا يقال لمن لا يرجع إلى خير أصلا، ولعل قوله (عليه السلام): إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، بيان للسيئة فإن جحد إمامته يجر الجاحد إلى جميع المساوئ حتى تحيط من جميع جوانبه.
ومما يناسب هذا التفسير ما نقله بعض المفسرين عن أبي حمزة الثمالي عن السدي أن الحسنة في قوله تعالى: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) عبارة عن مودة أهل البيت (عليهم السلام)، وبما ذكرناه آنفا من أن القرآن قد يكون ظاهرا في شيء ويكون إيماء ورمزا آخر يندفع أن هذه الآية بالنظر إلى ما قبلها ظاهرة في ذم اليهود (3).
ص:103
83 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الاستطاعة وقول الناس، فقال - وتلا هذه الآية - (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم): يا أبا عبيدة، الناس مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك، قال: قلت: قوله: (إلا من رحم ربك) قال: هم شيعتنا ولرحمته خلقهم وهو قوله: «ولذلك خلقهم» يقول: لطاعة الإمام الرحمة التي يقول: (ورحمتي وسعت كل شيء) يقول: علم الإمام، ووسع علمه الذي هو من علمه كل شيء هم شيعتنا ثم قال: (فسأكتبها للذين يتقون) يعني ولاية غير الإمام وطاعته، ثم قال: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) يعني النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي والقائم (يأمرهم بالمعروف (إذا قام) وينهاهم عن المنكر) والمنكر من أنكر فضل الإمام وجحده (ويحل لهم الطيبات) أخذ العلم من أهله (ويحرم عليهم الخبائث) والخبائث قول من خالف (ويضع عنهم إصرهم) وهي الذنوب التي كانوا فيها قبل معرفتهم فضل الإمام (والأغلال التي كانت عليهم) والأغلال ما كانوا يقولون مما لم يكونوا أمروا به من ترك فضل الإمام، فلما عرفوا فضل الإمام وضع عنهم إصرهم والإصر الذنب وهي الآصار، ثم نسبهم فقال: (الذين آمنوا به (يعني بالإمام) وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه اولئك هم المفلحون)(1) يعني الذين اجتنبوا الجبت والطاغوت أن يعبدوها والجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان والعبادة طاعة الناس لهم، ثم قال: (أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) ثم جزاهم فقال: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) والإمام يبشرهم بقيام القائم وبظهوره وبقتل أعدائهم وبالنجاة في الآخرة والورود على محمد - صلى الله على محمد وآله الصادقين - على الحوض.(2)
قوله (عن الاستطاعة وقول الناس) أي عن طاعة الإمام أو طلب طاعته وقول الناس في طاعة غيره، ويحتمل أن يراد بالاستطاعة (3) قدرة العبد على الشيء، وبقول الناس قولهم
ص:104
بعدمها والجواب مشتمل على ذمهم باعتبار رجوعهم عن الأئمة حتى قالوا ما قالوا بمقتضى عقولهم الناقصة.
قوله (يا أبا عبيدة، الناس مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك) أراد بالناس غير الشيعة بقرينة قوله: وكلهم هالك.
قال بعض المفسرين: روى زاذان [فضيل بن عبد الملك] قال: كنت جالسا في مجلس أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ جاؤوا بجاثليق ورأس الجالوت ونظر إلى رأس الجالوت وقال: أتدري كم كان عدد فرق امة موسى بعده؟ فقال: لا أنظر في الكتاب. ثم نظر إلى جاثليق وقال له: أتعلم كم كان عدد فرقة امة عيسى بعده؟ فقال: أربع وأربعون، فقال (عليه السلام): كذبت والله انا أعلم بالتوراة من رأس الجالوت وبالإنجيل من جاثليق، صارت امة موسى بعده إحدى وسبعين فرقة واحدة منها ناجية وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون)(1) وصارت امة عيسى بعده اثنتين وسبعون فرقة وواحدة منهم ناجية وهم الذين قال الله تعالى فيهم (وإذا سمعوا ما أنزل من الحق) الآية.
وصارت امة خاتم الأنبياء بعده ثلاثة وسبعين فرقة واحدة منهم ناجية وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون) ثم قال: يا زاذان الامة في صاروا اثنتي عشرة فرقة واحدة منهم ناجية والبواقي هالكة.
قوله (قال: هم شيعتنا ولرحمته خلقهم) فهم المرحومون وحدهم كما دل عليه الاستثناء، والمراد بالشيعة كل من أقر بولايتهم في الميثاق من الأولين والآخرين وهم المؤمنون في الدنيا والراجعون إلى الله تبارك وتعالى مع الإيمان.
قوله (يقول لطاعة الإمامة) تفسير لقوله: (ولذلك خلقهم) وبيان للمشار إليه. وفي بعض النسخ «لطاعة الإمام» وقال علي بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: لا يزالون مختلفين في الدين إلا من رحم ربك يعني آل محمد وأتباعهم لقول الله تبارك وتعالى:
(ولذلك خلقهم) يعني أهل رحمة لا يختلفون في الدين.
قوله (الرحمة التي يقول (ورحمتي وسعت كل شيء) يقول علم الإمام) الرحمة المبتدأ وعلم الإمام خبره، وإعادة يقول للتأكيد، والغرض أن الرحمة هناك علم الإمام وقد وسع علمه الذي هو من علم الله تعالى كل شيء والمراد بكل شيء الشيعة، ويحتمل أن يرجع ضمير من علمه أن الإمام
ص:105
وهو الأظهر ليوافق الضمير السابق فيفيد أن علمه المحيط بكل شيعة بعض علومه (عليه السلام)، وإحاطة علمه بكل فرد من الشيعة بحيث لا يشذ منهم واحد أمر دلت عليه روايات متكثرة وإنما ترك عطف هذه الجملة على السابقة لانقطاعها عنها أو لأنها مستأنفة، فكأن السائل لما سمع أن الرحمة في الآية السابقة عبارة عن طاعة الإمام سأل عن الرحمة التي في هذه الآية فاجابه بأن الرحمة فيها عبارة عن علم الإمام، فليتأمل.
قوله (فسأكتبها) أي فساثبت الرحمة وإقرارها عند ظهور المهدي (عليه السلام) للذين يتقون ولاية غير الإمام العدل وطاعته (ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا) أي بالأئمة يؤمنون (الذين يتبعون النبي الامي الذين يجدونه (أي النبي والوصي) مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) أسماء وصفة وإنما أفرد الضمير لأن أمرهما أمر واحد ومتابعتهما كمتابعة واحد والقائم يأمرهم بالمعروف إذا قام وظهر، وينهاهم عن المنكر (1) وهو جحد فضل الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويحل لهم الطيبات وهي أخذ العلوم والأحكام من أهلها، ويحرم عليهم الخبائث وهي قول من خالف الإمام وأخذ العلم من غير أهله، ويضع عنهم إصرهم بالتوبة والرجوع إلى الإمام والإصر هي الذنوب التي كانوا فيها قبل معرفتهم فضل الإمام، ويضع عنهم الاغلال التي كانت عليهم وهي قوله: بما لم يؤمروا به، من ترك فضل الإمام فلما عرفوا فضله ورجعوا عما كانوا عليه وضع عنهم آثام ذلك.
قوله (والإصر الذنب) الإصر في الأصل الحبس والثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكان لفرط ثقله، ثم شاع استعماله في الوزر والذنب العظيم فهو أعم من الذنب والتعريف اللفظي بالأعم جايز.
قوله (وهي الآصار) أي الأغلال وهي جمع إصر كأحمال جمع حمل.
قوله (ثم نسبهم) أي ذكر نسبهم وحليتهم وصفاتهم الكاملة فقال: (الذين آمنوا) يعني بالإمام وفي القرآن (فالذين آمنوا به وعزروه) أي عظموه بالتقوى والكمال ونصروه في أمر الدنيا والدين باليد واللسان (واتبعوا النور الذي أنزل معه) أي واتبعوا مع اتباعه النور الذي انزل فيكون «معه» متعلقا باتبعوا. ولعل المراد بالنور القرآن سمى به لأنه مظهر لحقائق الأشياء كما أن النور مظهر للأشياء. وقال علي بن إبراهيم: هو أمير المؤمنين (عليه السلام).
ص:106
قوله (والعبادة طاعة الناس) الطاعة لأحد تسمى عبادة ولذلك قال الله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) وقد مر أن المطاع إن كان من أهل الحق كانت الطاعة له طاعة الله تعالى وعبادة له، وان كان من أهل الجور كانت الطاعة له عبادة له وللشيطان.
قوله: (ثم قال (أنيبوا إلى ربكم وأسلموا)) هذه الآية في القرآن ليست متصلة بما قبلها لأنها في سورة الزمر وما قبلها في سورة الأعراف والآية هكذا (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جنهم مثوى للمتكبرين * وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون).
قال علي بن إبراهيم قوله تعالى: (وأنيبوا) أي توبوا وقوله: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) من القرآن وولاية أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) والدليل على ذلك قوله تعالى (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فطرت في جنب الله)(1) فإنه الإمام لقول الصادق (عليه السلام): نحن جنب الله، وقوله تعالى لرد قولها (لو أن لي كرة) الآية (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت) يعني بالآيات أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)، وقوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) فإنه حدثني أبي، عن ابن أبي عمير عن أبي المعزا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: من ادعى أنه إمام وليس بامام، قلت: وإن كان علويا فاطميا؟ قال: وإن كان علويا فاطميا. وقوله: (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) فإنه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر شكا إلى الله تعالى من شدة حره وسأله أن يتنفس فأذن الله فتنفس فأحرق جهنم.
قوله (ثم جزاهم فقال: لهم البشرى) الآية ليست متصلة بما قبلها في القرآن لأنها في سورة يونس وما قبلها في سورة الزمر والآية: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة * لا تبديل لكلمات الله ذلك الفوز العظيم) وعد الله تعالى أولياءه الذين يتولونه بطاعة وليه بأنه لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون بفوات مأمول وهم الذين آمنوا به وبرسوله وولي أمره وكانوا يتقون طاعة غيره وغير أوليائه
ص:107
ثم جزاهم بما صنعوا فقال: (لهم البشرى) بنكال أعدائهم في الحياة الدنيا وثواب أعمالهم في الآخرة والمبشر بذلك الإمام كما أشار إليه (عليه السلام).
84 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * هم درجات عند الله)(1) فقال: الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة، وهم والله يا عمار درجات للمؤمنين وبولايتهم ومعرفتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم ويرفع [الله] لهم الدرجات العلى.(2)
قوله (أفمن اتبع رضوان الله) أي أفمن اتبع ما يوجب اتباعه رضوان الله (كمن باء) أي رجع إلى الله بسخط من الله لأجل اتباعه غيره، والغرض نفي التشبيه بينهما لعدم مساواتهما في أمر من الأمور.
قوله (هم الأئمة) الظاهر أن الضمير راجع إلى الذين اتبعوا. ويحتمل أن يكون راجعا إلى رضوان الله، وإطلاقه على الأئمة مجاز من باب إطلاق المسبب على السبب لأنهم سبب لرضوان الله تعالى.
قوله (وهم والله يا عمار درجات للمؤمنين) الحمل للمبالغة أو التقدير ذو درجات باعتبار تفاوت مقامات المؤمنين بهم بالنسبة إليهم في المحبة والطاعة والعلم والعمل.
قوله (يضاعف الله لهم أعمالهم) على حسب أحوالهم فيما ذكر وكذلك قوله (يرفع الله لهم الدرجات العلى).
85 - علي بن محمد، وغيره، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن عمار الأسدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)(3): ولايتنا أهل البيت - وأهوى بيده إلى صدره - فمن لم يتولنا لم يرفع الله له عملا.(4)
قوله ((اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) ولايتنا) كأن قوله ولايتنا تفسير للعمل الصالح فإنها من أعظم الأعمال القلبية والمستكن في يرفعه راجع إليه والبارز إلى التكلم الطيب.
ولعل المراد به كلمة الإخلاص والأذكار كلها، وبصعوده بلوغه إلى محل الرضا والقبول يعني أن العمل الصالح وهو الولاية يرفع الكلم الطيب ويبلغه حد القبول ولا يقبل الله شيئا
ص:108
بدون ذلك، ويحتمل أن يكون تفسيرا للكلم الطيب وإشارة إلى أن المراد به الولاية والإقرار بها، وحكم الضمير حينئذ عكس ما مر وهو الأنسب بآخر الحديث (1). وبما ذكره علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية حيث قال: قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) كلمة الإخلاص والإقرار بما جاء به من عند الله من الفرائض والولاية يرفع العمل الصالح إلى الله.
86 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (يؤتكم كفلين من رحمته) قال: الحسن والحسين (ويجعل لكم نورا تمشون به) قال: إمام تأتمون به.(2)
قوله (يؤتكم كفلين من رحمته) قال علي بن إبراهيم: قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) (3)أي نصيبين من رحمته أحديهما أن لا يدخل النار، والثانية أن يدخل الجنة، وقوله عز وجل: (ويجعل لكم نورا تمشون به) يعني الإيمان، ثم قال:
أخبرني الحسين بن علي عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن القاسم بن سليمان عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله صلوات الله عليه في قوله تعالى: (يؤتكم كفلين من رحمته) قال: الحسن والحسين (ويجعل لكم نورا تمشون به) قال: إمام تأتمون به.
أقول: هذا التأويل مع ما مر مراد من الآية فإن للقرآن ظهرا وبطنا ولكل واحد منهما حدا ومطلعا، وإرادة الظاهر مع التأويل جايزة كما صرح به القاضي في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم - إلى قوله - وأنتم تعلمون) على أن لنا أن نقول: ليس كل ما ذكروه في تفسير هذة الآية بأظهر من هذا التأويل.
87 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: (ويستنبؤونك أحق هو) قال: هو ما تقول في علي (قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين).(4)
قوله (ويستنبؤونك) قال الله تعالى: (أثم إذا ما وقع آمنتم به آلئن وقد كنتم به
ص:109
تستعجلون * ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبؤونك أحق هو قل أي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين * ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلون) قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى: (أثم إذا ما وقع آمنتم به) أي صدقتم في الرجعة فيقال: لهم الآن تؤمنون يعني بأمير المؤمنين وقد كنتم به من قبل تكذبون ثم قيل للذين ظلموا آل محمد حقهم: ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا ما كنتم تكسبون، ثم قال عز وجل (ويستنبؤونك) يا محمد أهل مكة في علي (أحق هو) أي إمام هو (قل أي وربي) إنه إمام، ثم قال تعالى: (ولو أن لكل نفس ظلمت (آل محمد) حقهم ما في الأرض جميعا لافتدت به) في ذلك الوقت يعني الرجعة وقوله عز وجل: (وأسروا الندامة): حدثني محمد بن جعفر قال: حدثني محمد بن أحمد عن أحمد بن الحسين عن صالح بن أبي حماد عن الحسن بن موسى الخشاب عن رجل عن حماد بن عيسى عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قوله الله تعالى: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب)(1) قال: قيل لهم: ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: شماتة الأعداء.
قوله (هو ما تقول في علي) الموصول مرجع للضمير والاستفهام على أصله لقوله:
(ويستنبؤونك) أي يستخبرونك، وقيل للإنكار و (حق) مبتدأ لوقوعه بعد الاستفهام وهو خبر أو بالعكس.
قوله (أي وربي) «أي» مثل نعم للتصديق إلا أن «أي» لا يستعمل إلا مع القسم.
88 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك قوله: (فلا اقتحم العقبة) فقال: من أكرمه الله بولايتنا فقد جاز العقبة، ونحن تلك العقبة التي من اقتحمها نجا، قال: فسكت فقال لي: فهلا أفيدك حرفا خير (خيرا خ) لك من الدنيا وما فيها؟ قلت: بلى جعلت فداك، قال: قوله: (فك رقبة) ثم قال: الناس كلهم عبيد النار غيرك وأصحابك فإن الله فك رقابكم من النار بولايتنا أهل البيت.(2)
قوله (ونحن تلك العقبة) قد مر شرحه مفصلا.
89 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: (وأوفوا بعهدي) قال: بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) (أوف بعهدكم) أوف لكم بالجنة.
ص:110
قوله (أوفوا بعهدي) (1) قال بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، الولاية داخلة في العهد لأنها بعض أفراده وأكملها فهي أولى بالإرادة منه ثم إنه أخذ العهد عليهم بالولاية في التوراة حيث ذكرها فيه كما ذكر الرسالة، أو في الذر على احتمال بعيد.
90 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن الحسن بن عبد الرحمن، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا قريشا إلى ولايتنا فنفروا وأنكروا، فقال الذين كفروا من قريش للذين آمنوا: الذين أقروا لأمير المؤمنين ولنا أهل البيت: أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، تعييرا منهم، فقال الله ردا عليهم: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن - من الأمم السالفة - هم أحسن أثاثا ورءيا). قلت: قوله (من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) قال: كلهم كانوا في الضلالة لا يؤمنون بولاية أمير المؤمنين 7 ولا بولايتنا فكانوا ضالين مضلين، فيمد لهم في ضلالتهم وطغيانهم حتى يموتوا فيصيرهم الله شرا مكانا وأضعف جندا، قلت: قوله: (حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا)؟ قال: أما قوله: (حتى إذا رأوا ما يوعدون) فهو خروج القائم وهو الساعة، فسيعملون ذلك اليوم وما نزل بهم من الله على يدي قائمه، فذلك قوله: (من هو شر مكانا (يعني عند القائم) وأضعف جندا). قلت: قوله (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)(2)؟ قال: يزيدهم ذلك اليوم هدى على هدى باتباعهم القائم حيث لا يجحدونه ولا ينكرونه، قلت: قوله: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)؟ قال: إلا من دان الله بولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده فهو العهد عند الله،
ص:111
قلت: قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)؟ قال: ولاية أمير المؤمنين هي الود الذي قال الله تعالى، قلت: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا)؟ قال: إنما يسره الله على لسانه حين أقام أمير المؤمنين (عليه السلام) علما، فبشر به المؤمنين وأنذر به الكافرين وهم الذين ذكرهم الله في كتابه لدا أي كفارا. قال: وسألته عن قول الله: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) قال: لتنذر القوم الذين أنت فيهم كما أنذر آباؤهم فهم غافلون عن الله وعن رسوله وعن وعيده (لقد حق القول على أكثرهم (ممن لا يقرون بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده) فهم لا يؤمنون) بإمامة أمير المؤمنين والأوصياء من بعده، فلما لم يقروا كانت عقوبتهم ما ذكر الله (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) في نار جهنم، ثم قال: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) عقوبة منه لهم حيث أنكروا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده هذا في الدنيا، وفي الآخرة في نار جهنم مقمحون، ثم قال: يا محمد (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) بالله وبولاية علي ومن بعده، ثم قال: (إنما تنذر من أتبع الذكر (يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)) وخشي الرحمن بالغيب فبشره (يا محمد) بمغفرة وأجر كريم).(1)
قوله (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) بنفسها أو ببيان الرسول (صلى الله عليه وآله) أو واضحات الاعجاز وأعظمها الأئمة (عليهم السلام).
قوله (خير مقاما وأحسن نديا) المنصوب تمييز أي خير من حيث المكان أو المنزلة وأحسن من حيث المجلس والمجتمع، والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم ما داموا فيه وإن تفرقوا فليس بندي.
قوله (اقروا لأمير المؤمنين) أي أقروا بالولاية له.
قوله (تعييرا منهم) مفعول له ل (قال) والضمير للذين كفروا وهم عيروا الكاملين بالفضل والكمال بقلة المال وافتخروا عليهم من كثرته وكثرة زهرات الدنيا وأسباب العيش واعتقدوا لقلة عقلهم بزيادة حظهم فيما على فضلهم لأنهم كانوا لا يعملون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فقال الله تعالى ردا عليهم مع التهديد: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) من الامم السالفة (هم أحسن أثاثا ورءيا) والأثاث متاع البيت والرأي; من همزه جعله من المنظر من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة أو كسوة ظاهرة، ومن لم يهمزه إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا أمتلئت وحسنت. وقال علي بن إبراهيم: عني به الثياب والأكل والشرب، وفي رواية
ص:112
أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأثاث المتاع وأما رءيا فالجمال والمنظر الحسن.
قوله (من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) قال القاضي: فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بأن إمهاله مما ينبغي أن يفعله استدراجا وقطعا لمعاذيره كقوله تعالى: (انما نملي لهم ليزدادوا إثما) وكقوله: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) انتهى، وإنما قال: الرحمن، للدلالة على شدة طغيانهم وقوة عصيانهم لأن المتصف بالرحمة الكاملة لا يعذب إلا من اشتد طغيانا كما قيل مثل ذلك في غضب الحليم.
قوله (فيصيرهم الله شرا مكانا وأضعف جندا) أي أضعف فئة وأنصارا قابل بالأول قولهم: (خير مقاما) للتنبيه بأنه يصير أمرهم حينئذ إلى عكس ما قدروه لأنفسهم ويعود افتخارهم وتمتعهم بمتاع الدنيا وبالا عليهم، وقابل بالثاني قولهم: (وأحسن نديا) للإشعار ببطلان حسن تأديبهم وتعاونهم وتعاضدهم حينئذ بالكلية فيعودون ضعفاء يتبرأ بعضهم من بعضهم.
قوله (أما العذاب وأما الساعة) من باب منع الخلو فيجوز الجمع فيرون الساعة وهي زمان خروج القائم (عليه السلام) ويرون العذاب وهو القتل بأيدي عساكره المنصورة، أو من باب منع الجمع أيضا بأن يراد بالساعة ما ذكر وبالعذاب العذاب عند الموت قبلها.
قوله (قال: يزيدهم ذلك اليوم هدى على هدى) لأن الشهادة العينية تنضم إلى الشهادة الغيبية فتصير نورا على نور، وفيه دلالة على بطلان قول من ذهب إلى الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
قوله (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)(1) ضمير الجمع للعباد كلهم بدليل الاستثناء والمستثنى في محل الرفع على البدل منه، والعهد ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) قال علي بن إبراهيم: حدثنا جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال: لا يشفع ولا يشفع إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا إلا من أذن له بولاية أمير المؤمنين صلوات الله عليه والأئمة (عليهم السلام) من بعده فهو العهد عند الله تبارك وتعالى.
وقد فسر العهد بالوصية عند الموت ودلت عليه أيضا الرواية عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) وكيفيتها مذكورة في تفسير علي بن إبراهيم، ولا منافاة بين الروايتين لأن القرآن ذو وجوه مختلفة كلها مقصودة.
قوله (قال ولاية أمير المؤمنين هي الود) قال علي بن إبراهيم في تفسير قوله: (إن الذين آمنوا
ص:113
وعملوا الصالحات) الآية، قال الصادق (عليه السلام): كان سبب نزول هذه الآية أن أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: قل يا علي اللهم اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا فأنزل الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا).
قوله قلت (فإنما يسرناه بلسانك) مثل هذا السؤال والجواب رواه علي بن إبراهيم بأسناده المذكورة في الحاشية السابقة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) بلا تفاوت إلا إنه قال بدل قوله (عليه السلام) (على لسانه حين أقام) «على لسان نبيه حتى أقام».
قوله (ما أنذر آباؤهم) دل على أن «ما» موصولة لا نافية كما ذهب إليها بعض المفسرين.
قوله (لقد حق القول) وهو الوعيد بالقتل في الدنيا بيد الصاحب (عليه السلام) والعقوبة بالنار في الآخرة.
قوله (فهم مقمحون) لا يقدرون على أن يطأطئوا رؤوسهم من الإقماح وهو رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من صيقه.
قوله (وجعلنا من بين أيديهم سدا) لما أنكروا ولاية الأئمة (عليهم السلام) وضربوا في الجهالة أخذ الله أبصارهم وسمعهم وقلوبهم فصاروا بحيث لا يدركون الهدى وطريق الحق، فالسد الأول مانع من إبصار الآيات والثاني مانع من استماعها والإغشاء مانع من إدراكها والاستدلال بها والمتفرع على جميع ذلك انتفاء الهداية وإدراك الحق. وشبههم بمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ولا خلفهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل.
قوله (عقوبة منه لهم حيث أنكروا) «عقوبة» تعليل للجعل «حيث» تعليل للعقوبة أو لجعل المعلل بها.
قوله (هذا في الدنيا) أي الجعل المذكور أو العقوبة المذكورة والتذكير باعتبار العقاب عقوبة لهم في الدنيا يسلب اللطف والتوفيق عنهم، وأما في الآخرة فهم في نار جهنم مقمحون.
قوله (ثم قال يا محمد وسواء - الخ) لما علم الله تعالى أنه لا يؤمنون به وبالولاية وأخبر نبيه به قطعا لطمعه فقال: (وسواء) أي مستو عليهم إنذارك وتخويفك إياهم بالمخالفة والعقوبة وعدمه وأداة الاستفهام هنا مجردة عن معناه مستعملة لمجرد تقرير معنى الاستواء وتأكيده كما ذكره بعض المفسرين.
قوله (ثم قال (إنما تنذر من أتبع الذكر)) الذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) والموصول من تبعه وأقروا بولايته إلى يوم القيامة وإنما خص الإنذار بهم لأنهم ينفعهم دون غيرهم فجعل إنذارهم الغير لعدم تحقق ثمرته فيهم بمنزلة عدمه.
ص:114
قوله (وخشي الرحمن بالغيب) قيل: خاف عقابه قبل حلوله ومعاينة، أهواله، أو في سره وحال غيبته عن الخلق لا في حضوره فقط كما هو شأن المنافقين.
91 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن ابن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: سألته عن قوله الله عز وجل: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) قال:
يريدون ليطفئؤا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم، قلت: (والله متم نوره) قال: والله متم الإمامة، لقوله عز وجل: (الذين آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) فالنور هو الإمام، قلت: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) قال: هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هي دين الحق، قلت: (ليظهره على الدين كله) قال: يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم، قال: يقول الله:
(والله متم نوره): ولاية القائم (ولو كره الكافرون) بولاية علي، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم أما هذا الحرف فتنزيل وأما غيره فتأويل.
قلت: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا) قال: إن الله تبارك وتعالى سمى من لم يتبع رسوله في ولاية وصيه منافقين وجعل من جحد وصيه إمامته كمن جحد محمدا وأنزل بذلك قرآنا فقال: يا محمد (إذا جاءك المنافقون (بولاية وصيك) قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين (بولاية علي) لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله (والسبيل هو الوصي) إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا (برسالتك) وكفروا (بولاية وصيك) فطبع (الله) على قلوبهم فهم لا يفقهون).
قلت: ما معنى لا يفقهون؟ قال: يقول: لا يعقلون بنبوتك، قلت: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله)؟ قال: وإذا قيل لهم ارجعوا إلى ولاية علي يستغفر لكم النبي من ذنوبكم (لووا رؤسهم) قال الله: (ورأيتهم يصدون (عن ولاية علي) وهم مستكبرون) عليه ثم عطف القول من الله بمعرفته بهم فقال: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين)(1) يقول: الظالمين لوصيك.
قلت: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم) قال: إن الله ضرب مثل من حاد عن ولاية علي كمن يمشي على وجهه لا يهتدي لأمره وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، والصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال: قلت: قوله: (إنه لقول رسول كريم)؟ قال: يعني جبرئيل عن الله في ولاية علي (عليه السلام). قال:
ص:115
قلت: (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون)؟ قال: قالوا: إن محمدا كذاب على ربه وما أمره الله بهذا في علي؟ فأنزل الله بذلك قرآنا فقال: إن ولاية علي (تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا (محمد) بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) ثم عطف القول فقال: إن ولاية علي (لتذكرة للمتقين (للعالمين) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين * (إن عليا) لحسرة على الكافرين * و (إن ولايته) لحق اليقين فسبح (يا محمد) باسم ربك العظيم) يقول: اشكر ربك العظيم الذي أعطاك هذا الفضل.
قلت: قوله: (لما سمعنا الهدى آمنا به)؟ قال: الهدى الولاية، آمنا بمولانا فمن آمن بولاية مولاه (فلا يخاف بخسا ولا رهقا) قلت: تنزيل؟ قال: لا تأويل، قلت قوله: (لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا الناس إلى ولاية علي فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: يا محمد أعفنا من هذا، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا إلى الله ليس إلي، فاتهموه وخرجوا من عنده فأنزل الله:
(قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله (إن عصيته) أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته (في علي)) قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم، ثم قال توكيدا: (ومن يعص الله ورسوله (في ولاية علي) فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا» قلت: (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) يعني بذلك القائم وأنصاره.
قلت: (فاصبر على ما يقولون)؟ قال: يقولن فيك. (واهجرهم هجرا جميلا * وذرني (يا محمد) والمكذبين (بوصيك) اولي النعمة ومهلهم قليلا) قلت: إن هذا تنزيل؟ قال: نعم، قلت: (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب)؟ قال: يستيقنون أن الله ورسوله ووصيه حق، قلت: (ويزداد الذين آمنوا إيمانا)؟ قال: ويزدادون بولاية الوصي إيمانا، قلت: (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون)؟ قال: بولاية علي (عليه السلام)، قلت: وما هذا الارتياب؟ قال: يعني بذلك أهل الكتاب والمؤمنين الذين ذكر الله فقال: ولا يرتابون في الولاية، قلت: (وما هي إلا ذكرى للبشر) قال: نعم ولاية علي (عليه السلام)، قلت:
(إنها لإحدى الكبر)؟ قال: الولاية، قلت: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)؟ قال: من تقدم إلى ولايتنا أخر عن سقر ومن تأخر عنا تقدم إلى سقر (إلا أصحاب اليمين)؟ قال: هم والله شيعتنا، قلت: (لم نك من المصلين)، قال: إنا لم نتول وصي محمد والأوصياء من بعده ولا يصلون عليهم، قلت: (فمالهم عن التذكرة معرضين)؟ قال: عن الولاية معرضين، قلت: (كلا إنها تذكرة)؟ قال: الولاية.
قلت: قوله: (يوفون بالنذر)؟ قال: يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا،
ص:116
قلت: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا)، قال: بولاية علي (عليه السلام) تنزيلا، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم ذا تأويل، قلت: (إن هذه تذكرة)؟ قال: الولاية، قلت: (يدخل من يشاء في رحمته)؟ قال: في ولايتنا، قال: (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) ألا ترى أن الله يقول: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: إن الله أعز وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى ظلم ولكن الله خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم.
قلت: (ويل يومئذ للمكذبين) قال: يقول: ويل للمكذبين يا محمد بما أوحيت إليك من ولاية [[علي بن أبي طالب] (عليه السلام)]، (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين) قال: الأولين الذين كذبوا الرسل في طاعة الأوصياء (كذلك نفعل بالمجرمين) قال: من أجرم إلى آل محمد وركب من وصيه ما ركب.
قلت: (إن المتقين)؟ قال: نحن والله وشيعتنا، ليس على ملة إبراهيم غيرنا وسائر الناس منها برآء، قلت: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون) الآية، قال: نحن والله المأذون لهم يوم القيام والقائلون صوابا، قلت: ما تقولون إذا تكلمتم؟ قال: نمجد ربنا ونصلي على نبينا ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربنا، قلت: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) قال: هم الذين فجروا في حق الأئمة واعتدوا عليهم، قلت: ثم يقال (هذا الذي كنتم به تكذبون)؟ قال: يعني أمير المؤمنين قلت، تنزيل؟ قال: نعم.(1)
قوله (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) قال القاضي: أي يريدون أن يطفئوا واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها كما زيدت - لما فيها من معنى الإضافة تأكيدا لها - في لا أبا لك، أو يريدون الافتراء ليطفئوا نور الله يعني دينه أو كتابه أو حجته.
قوله (يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم) شبه طعنهم في نور الولاية وترغيبهم الخلق في الاعراض عنه بنفخ الفم على نور الشمس لقصد اطفائه وأن ذلك لمحال كما قال (والله متم نوره) يعني بنشره في قلوب المؤمنين وبسطه في صدور العارفين.
قوله (أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) أي بالقرآن المعجز والولاية لوصيه وهي دين الحق وما سواها من الأديان باطل.
قوله (قال يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم (عليه السلام)) بهذا الجواب يندفع ما خلج في قلب من له زيغ من أن هذا الوعد لم يتحقق لأن دينه (صلى الله عليه وآله) ما غلب على جميع الأديان، وأما الجواب بأن
ص:117
دينه قد غلب على جميع الأديان إذ ما من دين إلا وهو مقهور لدين الإسلام فهو مدفوع بالضرورة.
وتحقيق ذلك الجواب أنه إذا ظهر القائم (عليه السلام) رفع عن الخلق جميع الأديان حتى لا يبقى فيهم دين إلا دين الإسلام، وقد نقل بعض المفسرين عن العياشي بإسناده عن عمران بن هيثم عن عباية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل ذلك، وقال علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: (والله متم نوره) يعني بالقائم من آل محمد إذا خرج يظهر الله الدين حتى لا يعبد غير الله تعالى وهو قوله (يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
قوله (قلت: هذا تنزيل قال: نعم) لعل هذا إشارة إلى ما ذكره في تفسير قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) وقد عرفت مما نقلناه سابقا عن صاحب الطرايف أن المراد بالتنزيل ما جاء به جبرئيل (عليه السلام) لتبليغ الوحي وأنه أعم من أن يكون قرآنا وجزءا منه وأن لا يكون فكل قرآن تنزيل دون العكس فعلى هذا قوله (عليه السلام) «وأما غيره فتأويل» يراد به ما ذكره في الآيات السابقة والله أعلم.
قوله «وأنزل بذلك قرآنا فقال يا محمد (إذا جاءك المنافقون)» هذا وإن سلم نزوله في عبد الله بن أبي وأضرابه لقضية مشهورة لكنه شامل لكل منافق حاله كحالهم وفعله كفعلهم لأن خصوص السبب لا يخصص عموم الحكم وكذلك كل من ذمه الله تعالى أو مدحه لصفة من الصفات أو أمر من الامور فهو عام يندرج فيه كل من اتصف بتلك الصفة، فلا يرد أن الآية نزلت في فرقة من أهل النفاق لأمر معلوم فكيف تحمل على غيرهم وينساق حكمها فيه؟! قوله (قالوا نشهد) أكدوا كلامهم بتأكيدات لاقتضاء المقام ذلك وتقرير مضمونه في قلب السامع ورفع توهمه للخلاف ولذلك أيضا قال: (والله يعلم إنك لرسوله) مبالغة في التأكيد في وقوع المشهود به لأن ما علم الله وقوعه فهو واقع قطعا.
قوله (اتخذوا أيمانهم جنة) أي وقاية لأنفسهم وأموالهم ولحوق الضرر واللوم بهم.
قوله (فصدوا) أي فصدوا الناس ممن يقبل قولهم بإلقاء الشبهات الباطلة عن سبيل الله واتباع الطريق الموصل إليه والسبيل هو الوصي لأنه الهادي والداعي إليه.
قوله (إنهم ساء ما كانوا يعملون) من إظهار الإيمان وإبطال الخلاف وصد الناس عن سبيل الله.
قوله (ذلك بأنهم) أي ذلك المذكور من نفاقهم وكذبهم وسوء أعمالهم بسبب أنهم آمنوا برسالتك ظاهرا وكفروا بولاية وصيك باطنا.
قوله (فطبع الله على قلوبهم) قال في الصحاح: الطبع الختم وهو التأثير في الطين ونحوه يقال:
طبع الكتاب وعلى الكتاب إذا ختمه، والطابع بالفتح الخاتم ومنه طبع الله على قلبه إذا ختمه فلا يعى وعظا ولا يوفق لخير ولا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، وقال فيه أيضا: الرين الطبع. فالألفاظ
ص:118
الثلاثة متقاربة في المعنى، وقيل: الرين أيسر من الطبع والطبع أيسر من الختم والأقفال.
وتحقيق ذلك أن الله سبحانه خلق القلب نورانيا أبيض بمنزلة المرآة المجلوة الصافية فإذا أذنب العبد جعل الله ذلك الذنب نقطة سوداء في قلبه فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي النور والبياض فعند ذلك لا يرجع إلى خير أبدا، فهذه التغطية صحت نسبتها إليه سبحانه كما صحت نسبتها إلى الذنوب كما في قوله تعالى: (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وما ذكرنا دلت عليه الأخبار الكثيرة المعتبرة. ويقرب منه قول بعض المعتزلة:
إنها علامة يخلقها الله تعالى في القلب تعرف الملائكة (عليهم السلام) بها أن من خلقت فيه يذم فيلعنونه.
وقال بعضهم: هي إعدام اللطف وأسباب الخير، والتمكين من أسباب. ضده. وقال بعضهم: هي الشهادة عليهم. وقال محي الدين والآبي من علمائهم: هي عند أهل السنة خلق الكفر.
قوله (لا يعقلون بنبوتك) أي لا يدركون حقيتها وحقيقتها لفرط رسوخ الباطل في قلوبهم وعدم تفكرهم في المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على صحة نبوتك.
قوله (سواء عليهم استغفرت لهم) أي الاستغفار وعدمه متساويان في أنه تعالى لن يغفر لهم أبدا، وفيه إخبار بأنهم يموتون بغير إيمان.
قوله (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) إلى طريق الخير والصلاح، يعني يسلب لطفه وتوفيقه عنهم لفرط رسوخهم في الكفر وشدة انهماكهم في الشر حتى أبطلوا بذلك استعداد قبول اللطف والتوفيق، أو المراد أنه لا يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة.
قوله (قال: إن الله ضرب مثل من حاد) أي مال، تقول: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدا وحيدودة إذا مال عنه، وعدل يعني من مال عن ولاية علي كمن ضل عن الطريق ويمشي على وجهه مثل الحيات والعقارب لا يهتدي لأمره ويتحير فيه حيث لا يبصر إلا موضع قدمه فلا يقدر على أن يدرك طريق مقصده، وجعل من تبع عليا (عليه السلام) واتخذه علما هاديا سويا قائما سليما من العثار، ناظرا إلى جميع جوانبه، عارفا بطريق الخير والشر، يمشي على صراط مستقيم يوصل سالكه المقصود، والصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام).
قوله (يعني جبرئيل عن الله في ولاية علي) أشار إلى أن الرسول الكريم جبرئيل (عليه السلام) وهو مكرم ومعزز من عند الله تعالى يأتي بالوحي من قبله، وأن الضمير في قوله «إنه» راجع إلى ولاية علي (عليه السلام) وتخصيصه بالقرآن غير موجه، نعم يمكن إرجاعه إلى المنزل ليعم ما نحن فيه لأنه من أفراد المنزل وكأنه المراد هنا.
قوله (قليلا ما تؤمنون) أي ما تؤمنون بالولاية إيمانا قليلا عند ظهور كونها من قبله تعالى لفرط
ص:119
الحسد والعناد.
قوله (قالوا: إن محمدا كذاب) قيل: نقل أنه (صلى الله عليه وآله) لما نصب عليا ونزلت آية المودة قال الذين لم يكونوا راسخين في الدين والاعتقاد: إن محمدا كذاب مفتر على الله لم يأمره الله بذلك وإنما نصبه من عنده لئلا تخرج الحكومة والخلافة من أهل بيته فرد الله قولهم.
قوله (فقال: إن ولاية علي تنزيل من رب العالمين) في القرآن: (تنزيل من رب العالمين) والمفسرون قالوا: التقدير هو التنزيل بتقدير المبتدأ، وما ذكره (عليه السلام) إما بيان لمرجع الضمير أو إيماء وقوع التحريف فيه، والله أعلم.
قوله (ولو تقول علينا) التقول الافتراء لتضمنه معنى التكلف.
قوله (لأخذنا منه باليمين) كناية عن شدة الأخذ، لأن الأخذ باليمين أقوى وأشد من الأخذ باليسار.
قوله (ثم لقطعنا منه الوتين) الوتين عرق في القلب متصل بالعنق إذا قطع مات صاحبه وهذا كناية عن إهلاكه، أو تمثيل لغضبه وإهلاكه بغضب الملوك وإهلاكهم.
قوله (فقال: إن ولاية علي لتذكرة) كأنه إشارة إلى أن الضمير في قوله تعالى: (إنه لتذكرة) راجع إلى الولاية ولما كان الانتفاع بها مختصا بالمتقين كانت هي تذكرة لهم.
قوله (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) يعني بالولاية أو بالنبي (صلى الله عليه وآله) فيها والغرض منه هو الوعيد على التكذيب.
قوله (وإن عليا لحسرة على الكافرين) بولايته حين رأوا ثواب المؤمنين بها وكان هذا أيضا بيان لمرجع الضمير في قوله (وإنه لحسرة).
قوله (وإن ولايته لحق اليقين) كأن الإضافة بيانية للتأكيد في حقيقة الولاية لكونها منزلة من عند الله تعالى ويقينا لا شك فيه.
قوله (فمن آمن بولاية مولاه) أي فمن آمن بولاية مولاه الذي كانت ولايته من أمره تعالى (فلا يخاف بخسا ولا رهقا) يعني نقصا في الجزاء ولا لحوق مكروه ومذلة به.
قوله (لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) أي الضر ودفعه والرشد والخير والصلاح والهداية والتوفيق إنما هو بيد الله تعالى، لا أملك لكم شيئا من ذلك وفيه ترغيب للخلق بالتوسل في جلب المنافع ودفع المضار إلى الله سبحانه.
قوله (فاتهموه يعني) بالكذب والافتراء في ولاية علي (عليه السلام) أو في قوله هذا إلى الله لا إلي. والمآل واحد.
ص:120
قوله (قل: إني لن يجيرني أحد من عقوبة الله إن عصيته بكتمان ما امرت بإظهاره وتبليغه من ولاية علي (عليه السلام) (ولن أجد من دونه ملتحدا) يعني مأوى وملجاء يحفظني من غضب الله وعقوبته، وفيه تنبيه للعباد بالإنابة إليه عند صدور المعصية منهم.
قوله (إلا بلاغا من الله) استثناء من قوله لا أملك وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة أو من قوله (ملتحدا) يعني لن أجد ملتحدا إلا تبليغا من الله ورسالاته من غير زيادة ونقصان، ومنها رسالته في ولاية علي (عليه السلام).
قوله (ثم قال توكيدا) أي ثم قال توكيدا لأمر الولاية وتقريرا له: (ومن يعص الله ورسوله «في ولاية علي» فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) وفيه وعيد شديد للكافرين بولايته وفي مفهوم الشرط دلالة على أن المقر بها لا يدخل النار أو لا يخلد فيها، ولا ريب في الثاني وأما الأول فالروايات فيه مختلفة والله أعلم.
قوله (يعني بذلك القائم وأنصاره) تفسير لقوله (ما يوعدون) روى علي بن إبراهيم عن الحسين ابن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله عز وجل: (حتى إذا رأوا ما يوعدون) قال:
القائم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم في الرجعة. وفي قوله: (فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) قال: وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لزفر: والله يا ابن صهاك، لولا عهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا. فلما أخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يكون في الرجعة قالوا: متى يكون هذا؟ قال الله تعالى قل يا محمد: إن أدري قريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا.
وفي قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) قال: يخبر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) الذي يرتضيه بما كان قبله من الأخبار وما يكون بعده من أخبار القائم (عليه السلام) والرجعة والقيامة.
وروى أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يعني الموت والقيامة (فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) يعني فلان وفلان وفلان ومعاوية وعمرو بن العاص وأصحاب الضغائن من قريش من أضعف ناصرا وأقل عددا، قالوا: فمتى يكون هذا يا محمد؟ قال الله تعالى لمحمد: (قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا) قال: أجلا (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) يعني علي المرتضى من الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو منه فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، قال: في قلبه العلم ومن خلفه الرصد يعلمه علمه ويزقه زقا ويعلمه الله تعالى إلهاما والرصد التعليم من النبي (صلى الله عليه وآله) ليعلم
ص:121
النبي (صلى الله عليه وآله) أن قد أبلغ رسالات ربه وأحاط علي (عليه السلام) بما لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من العلم (وأحصى كل شيء عددا) ما كان أو يكون منذ خلق الله تعالى آدم إلى أن تقوم الساعة من فتنة أو زلزلة أو خسف أو قذف أو أمة هلكت فيما مضى أو تهلك فيما بقي، وكم من إمام جائر أو عادل يعرفه باسمه ونسبه ومن يموت موتا أو يقتل قتلا. وكم من إمام مخذول لا يضره خذلان من خذله وكم من إمام منصور لا ينفعه نصر من نصره.
قوله (قال: يقولون فيك) مالا يليق بذاتك من السحر والكهانة والشعر والجنون والكذب.
قوله (واهجرهم هجرا جميلا) بالمعاداة باطنا والمداواة ظاهرا.
قوله (ومهلهم قليلا) فإن وبال أمرهم سيلحقهم عند قيام القائم (عليه السلام) والقيامة كما قال (ان لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما).
قوله (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) لما أخبرهم الله تعالى أن الملائكة الموكلين على النار تسعة عشر أي عددا أو صنفا قال (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) يعني يستيقنون أن الله ورسوله ووصيه حق، لموافقة هذه الأخبار بما في كتبهم وتصديقه إياه فيعلمون أن من جاء به ولم يقرأ كتبا ولم يكتسب علما فهو صادق في دعوى نبوته ونصب وصيه.
قوله (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) «إيمانا» مفعول «يزداد» لا تأكيد لآمنوا يعني ويزداد الذين آمنوا بالنبي إيمانا بولاية الوصي أي يزداد إيمانهم بها، أو يحصل لهم الإيمان بها فيكون ازدياده في الأول باعتبار الكيفية وفي الثاني باعتبار الكمية، وسبب الزيادة على الاحتمالين أمور أحدها أن علمهم بأن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) كان في الكتب الماضية يوجب زيادة التصديق بما جاء به من ولاية علي (عليه السلام) لحصول كمال الوثوق به، وثانيهما أن استيقان أهل الكتاب بالوصي لما ذكر يوجب ازدياد إيمان المؤمنين به، وثالثها أن الوعيد المذكور لأهل جهنم كان لمن أنكر ولايته (عليه السلام) كما يظهر ذلك من رواية علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهو مذكور في سورة المدثر، وقد جعل أكثر آيات هذه السورة في ذم منكر الولاية. ومن أراد أن يعرف ذلك فليرجع إليه. لا يقال: الوعيد مذكور في التوراة أيضا فكيف نزل في منكر الولاية؟ لأنا نقول هذا الوعيد ونحوه من لدن آدم (عليه السلام) إلى يوم القيامة ليس إلا لمن أنكر ولاية علي (عليه السلام) لأنا قد ذكرنا في تضاعيف الروايات أنه لا يدخل النار إلا من أنكر ولايته.
قوله (ولا يرتاب الذين) هذا تأكيد للاستيقان والازدياد، ونفي لارتيابهم بشبهة.
قوله (قلت: ما هذا الارتياب؟) لعل السائل جعل قوله (عليه السلام) «بولاية علي» متعلقا بالمؤمنين فلا يعلم حينئذ أن متعلق الارتياب المنفي ما هو فلذلك سأل عنه فأجاب (عليه السلام) بأنه الولاية أي لا يرتابون
ص:122
فيها، فليتأمل.
قوله (وما هي إلا ذكرى للبشر قال نعم ولاية علي) أراد أن «هي» راجع إلى الولاية، ولعل هذا أولى من إرجاعه إلى سقر أو إلى تسعة عشر وهم خزنتها أو إلى السورة كما قيل لأن التذكر بالولاية أقوى وأشد من التذكر بما ذكر.
قوله (قلت: (إنها لإحدى الكبر) قال الولاية) أقسم الله تعالى ببعض مخلوقاته لتقرير عظمة الولاية فقال «كلا» وهو ردع لإنكار الولاية (كلا والقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر) أي الولاية إحدى النعم الجسام والأمور العظام التي لا نظير لها، وهذا أولى من إرجاع الضمير إلى سقر ووصفها بأنها إحدى الكبر أي بلية عظيمة كما قيل بقرينة قوله تعالى: (نذيرا للبشر) لأن نسبة الإنذار إلى علي (عليه السلام) أولى من نسبته إلى سقر.
قوله (قال: من تقدم إلى ولايتنا اخر عن سقر) يعني هو ناج منها لا يدخلها أبدا.
قوله (ومن تأخر عنا تقدم إلى سقر) يعني ومن تأخر عن ولايتنا ومحبتنا تقدم إلى سقر وسبق في الدخول فيها.
قوله (إلا أصحاب اليمين) قال الله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين).
قال (عليه السلام): هم - أي أصحاب اليمين - والله شعيتنا وهم الذين فكوا رقابهم عن الرهانة بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). روى علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اليمين أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه شيعته.
قوله (قلت: لم نك من المصلين قال: إنا لم نتول) حكى الله تعالى المكالمة بين أصحاب اليمين وغيرهم فقال: (إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين) روى علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قالوا لم نك من المصلين) أي لم نك من أتباع الأئمة صلوات الله عليهم (ولم نك نطعم المسكين) قال: حقوق آل محمد (صلى الله عليه وآله) من الخمس لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وهم آل محمد صلوات الله عليهم (وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين (أي يوم المجازات) حتى أتانا اليقين (أي الموت) فما تنفعم شفاعة الشافعين) قال: لو أن كل ملك مقرب ونبي مرسل شفعوا في ناصب آل محمد صلوات الله عليهم ما شفعوا فيه (فما لهم عن التذكرة معرضين) قال: يذكرهم من موالاة أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
قوله (يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا) لعل المراد أن عهد الولاية
ص:123
مندرج تحت النذر وإن كان الظاهر منه خلافه وقد مر.
قوله (قال: نعم ذا تأويل) لعل المراد نعم هذا وهو ما ذكر في نحن نزلنا تنزيلا وذا وهو ذكر في (يوفون بالنذر) تأويل.
قوله (قال الولاية) تفسير لهذه والحمل للمبالغة لأن التذكر إنما تحصل بالولاية ولهذا هلك كل من تركها تمسك في الدين برأيه أو بأحمق آخر مثله.
قوله (قال في ولايتنا) أطلق الرحمة على الولاية لأن الولاية سبب لها إذ كل من أقر بالولاية فهو مرحوم وكل من تخلف عنها فهو مغضوب.
قوله (والظالمين) أي أنفسهم أو الأئمة (عليهم السلام) والثاني أنسب بالمقام.
قوله (ألا ترى) الغرض منه هو الإشارة إلى كل ما نسب الله تعالى المظلومية إلى ذاته المقدس عن الانفعال بها وقبولها نفيا أو إثباتا أراد نفيها أو إثباتها للأئمة (عليهم السلام).
قوله (من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى ظلم) بأن يكون مظلوما أو ظالما لتنزه قدسه عن العجز والانفعال والظلم فلابد من صرف نفيهما حيث أمكن إلى من هو قابل لهما ليكون له فائدة كما أشار اليه (عليه السلام) بقوله ولكن الله خلطنا بنفسه. أي ضمنا إلى ذاته المقدس وشاركنا فجعل ظلمنا ظلمه فقال:
(وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) لرجوع جزاء الظلم إليهم وجعل ولايتنا للمؤمنين ولايته حيث قال: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني الأئمة، ثم أنزل بذلك - أي بجعل ظلمنا ظلمه مجازا أو بضمنا إلى نفسه إظهارا لشرفنا - قرآنا على نبيه فقال: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) والغرض نفي الظلم عن الأئمة إلا إنه ضمهم إلى نفسه فقال: (وما ظلمناهم) وإنما قلنا حيث أمكن لأنه قد يقصد نفي الظلم عنه بحيث لا يحتمل غيره كما في قوله تعالى (وما أنا بظلام للعبيد) ولعل المخاطب أو غيره كان يعتقد ثبوت الظلم له مع زيادة وإن لم يكن ذلك معقولا فيكون للنفي فائدة، على أنه يمكن أن يكون القصد نفي الظلم عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث إنه قسيم الجنة والنار ولا يدخل أحد فيهما إلا بحكمه ولا يكون ظالما فيه وانما نسبه إلى ذاته المقدسة لأنه آمر، والله أعلم.
قوله (قال: الأولين الذين كذبوا الرسل في طاعة الأوصياء) لم يذكر الآخرين لأنه يعلم حالهم من حال الأولين.
قوله (كذلك نفعل بالمجرمين) أي مثل الفعل المذكور وهو الإهلاك نفعل بالمجرمين في الدنيا بيد القائم (عليه السلام) وفي الآخرة بعذاب النار.
قوله (قلت: إن المتقين) قال الله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا
ص:124
واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون كذلك نجزي المحسنين).
قوله (قلت يوم يقوم الروح) قال الله تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) قال علي بن إبراهيم: الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مع الأئمة (عليهم السلام). وقال القاضي: هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صوابا كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم «يوم» ظرف ل (لا يملكون) والروح ملك موكل على الأرواح أو منها أو جبرئيل أو خلق أعظم من الملائكة، ونقل عن ابن عباس أن الروح أعظم المخلوقات وهو وحده في صف وباقي الملائكة في صف.
قوله (قال هم الذين فجروا في حق الأئمة واعتدوا عليهم) قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى:
(إن كتاب الفجار لفي سجين) ما كتب الله تعالى لهم من العذاب لفي سجين (وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم) أي مكتوب (يشهده المقربون) الملائكة الذين كتبوا عملهم، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «السجين الأرض السابعة» حدثنا أبو القاسم الحسني قال حدثنا فرات بن إبراهيم [عن محمد إبراهيم عن محمد بن الحسين بن إبراهيم] عن علوان بن محمد قال حدثنا محمد بن معروف عن السدي عن الكلبي عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه في قوله تعالى (ان كتاب الفجار لفي سجين) قال: فلان وفلان وما أدريك ما سجين إلى قوله تبارك وتعالى -: (الذين يكذبون بيوم الدين) الأول والثاني (وما يكذب بها إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) وهو الأول والثاني كانوا يكذبون رسول الله (صلى الله عليه وآله) - إلى قوله تعالى: (إنهم لصالوا الجحيم) ثم يقال: (هذا الذي كنتم به تكذبون).
92 - محمد بن يحيى. عن سلمة بن الخطاب، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى عز وجل: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) قال: يعني به ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، قلت: (ونحشره يوم القيامة أعمى)، قال:
يعني أعمى البصر في الآخرة; أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: وهو متحير في القيامة يقول: (لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) قال:
الآيات الأئمة (عليهم السلام) (فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) يعني تركتها وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة (عليهم السلام) فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم. قلت: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) قال: يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) غيره ولم
ص:125
يؤمن بآيات ربه وترك الأئمة معاندة فلم يتبع آثارهم ولم يتولهم، قلت: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء) قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، قلت: (من كان يريد حرث الآخرة) قال: معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (نزد له في حرثه)؟ قال: نزيده منها، قال: يستوفي نصيبه من دولتهم (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب) قال: ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب.(1)
قوله (يعني به ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)) (فمن اتبع هداي فلا يضل) أي في الدنيا (ولا يشقى) أي في الآخرة (ومن أعرض عن ذكري) أي هداي أي الذاكر والداعي إلى سبيلي وعبادتي وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن له معيشة ضنكا.
قوله (يعني أعمى البصر في الآخرة) دل على أن المراد به أعمى البصر قوله تعالى: (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا).
قوله (كذلك) أي مثل ذ لك فعلت ثم فسره بقوله: (أتتك آياتنا فنسيتها).
قوله (يعني من أشرك) تفسير لمن أسرف لأن الشرك أقوى أفراد الإسراف.
قوله (ترك الأئمة معاندة) بيان لقوله (ولم يؤمن بآيات ربه) وإشارة إلى أن الآيات الأئمة، وفي ذكر المعاندة إشعار بأن من تركهم لا معاندة بل لشبهة لا يجزي بهذا الجزاء المخصوص وهو حشره أعمى البصر ولا بعد فيه، والله أعلم.
قوله (الله لطيف بعباده) أي يعلم ظاهرهم وباطنهم وسرائرهم وضمائرهم يرزق من يشاء منهم ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) باللطف والتوفيق لقبولها لصفاء قلبه ولينة طبعه وحسن استعداده.
قوله (قال: معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة) المراد بإرادة معرفته إرادتها مع التصديق والإذعان بولايته وحقوقه وإنما شبه معرفته بالحرث وهو إلقاء البذر في الأرض لاستلزامها منافع جليلة وفوائد جزيلة في الآخرة ومن ثم قيل: الدنيا مزرعة الآخرة.
قوله (نزيده منها) تفسير قوله: (نزد له في حرثه) وإشارة إلى أن «في» بمعنى (من) للتعليل وهي قد تجيء له كما صرح بعض المحققين وضمير التأنيث راجع إلى الحرث باعتبار أنه عبارة عن المعرفة يعني نزيده من أجل تلك المعرفة، ثم بين تلك الزيادة بقوله يستوفي نصيبه من دولتهم وهي دولة المنتظر (عليه السلام) وفيه دلالة على رجعة الشيعة كلهم مع احتمال تخصيصها بالخلص، أو حصول زيادة الفيض حينئذ لأرواحهم بدونها، والله أعلم.
قوله (ومن كان يريد حرث الدنيا) لعل المراد به متاع الدنيا، أو معرفة أئمة الجور والإقرار
ص:126
بولايتهم ولعل الأخير أظهر بقرينة المقابلة.
قوله (ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب) دل بحسب الظاهر على أن المراد بالآخرة ساعة قيام القائم (عليه السلام) سميت بالآخرة لأنها من علاماتها، ويحتمل أن يراد بالآخرة القيامة ويجعل انتفاء النصيب في دولة الحق دليلا على انتفائه في القيامة لاستحالة تحقق الملزوم بدون اللازم، والله أعلم (1).
ص:127
93 - محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن الحسن، وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن بكير بن أعين قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية وهم ذر، يوم أخذ الميثاق على الذر والإقرار له بالربوبية ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة.(1)
قوله (وهم ذر) أي في صلب آدم أو بعد إخراجهم منه ولكل واحد رواية تدل عليه، وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: إن الأرواح تعلقت ذلك اليوم بأجساد صغيرة مثل النمل (2) فأخذت منهم الميثاق بالولاية وغيرها.
أقول: ثم إنهم لما غفلوا - إلا من شاء الله - عن تذكرة في عالم هذه الأبدان إما لعدم شرط التذكر أو لوجود مانع منه بعث الله الأنبياء تكليفا لهم ثانيا لدفع الغفلة وتكميل الحجة والغفلة عن التكليف الأول لتعلقهم بالعوائق وتمسكهم بالعلائق المانعة من التذكر لا يوجب خلوه عن الفائدة.
قوله (والإقرار له بالربوبية) وهو بالجر عطف على الذر أو على الولاية والأول أولى لأنه أعم حيث يشمل الشيعة وغيرهم.
94 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفري، عن أبي جعفر (عليه السلام). وعن عقبة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلق الخلق، فخلق ما أحب مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، وخلق ما أبغض
ص:128
مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار، ثم بعثهم في الظلال: فقلت: وأي شيء الظلال؟ قال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيء وليس بشيء، ثم بعث الله فيهم النبيين يدعونهم إلى الإقرار بالله وهو قوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) ثم دعاهم إلى الإقرار بالنبيين، فأقر بعضهم وأنكر بعضهم، ثم دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض وهو قوله:
(فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب ثم.
عن عبد الله بن محمد الجعفري) كذا في النسخ ولم أره في الرجال والأولى الجعفي وهو من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) وسيجئ في خامس باب مولد الزهراء (عليها السلام) رواية رجال هذا السند بأعيانهم عن عبد الله بن محمد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وهو يؤيد ما قلناه.
قوله (وعن عقبة) كان عقبة بن قيس بن سمعان، وعطف على صالح بن عقبة وهو ابنه لجواز أن يروي عنه محمد بن إسماعيل بن بزيع كما يروي عن ابنه.
قوله (قال: إن الله خلق الخلق فخلق ما أحب مما أحب) قد ذكرنا في باب خلق أبدان الأئمة أنه تعالى لما علم أعمال العباد وعقائدهم في الأعيان من الخير والشر خلق أبدان أهل الخير من طينة الجنة وخلق أبدان أهل الشر من طينة النار ليرجع كل إلى ما هو أهل له ولايق به وأن أعمالهم سبب لخلق الأبدان على الوجه المذكور دون العكس، وأن كثيرا من الشبهات يندفع (1) بهذا التقرير وقد
ص:129
وجدت ههنا كلام الفاضل الإسترآبادي موافقا لما ذكرت وحصل لي وثوق آخر بذلك وكلامه هذا المراد خلق التقدير لا خلق التكوين محصل المقام أنه تعالى قدر أبدانا مخصوصة من الطينتين ثم كلف الأرواح فظهر منها ما ظهر، ثم قدر لكل روح ما يليق بها من تلك الأبدان المقدورة، وإذا تأملت فيه وجدت أنه لا فرق بينه وبين ما ذكرت إلا إنه اعتبر أعمالهم في الوجود الظلي وجعلها سببا للأبدان المخصوصة ونحن اعتبرنا أعمالهم في الوجود العيني، والأمر في ذلك الاختلاف سهل بعد التوافق في أصل المقصود.
قوله (ثم بعثهم في الظلال) قال الفاضل الإسترآبادي يفهم من الروايات أن التكليف الأول وقع مرتين مرة في عالم المجرد الصرف ومرة في عالم الذر، بأن تعلقت الأرواح فيه بجسد صغير مثل النمل ولما لم يكن تصل أذهان أكثر الناس (1) إلى إدراك الجوهر المجرد عبروا (عليهم السلام) عن المجردات
ص:130
بالظلال لتفهيم الناس، وقصدهم من ذلك أن موجودات ذلك العالم مجردة عن الكثافة الجسمانية كما أن الظل مجرد عنها فهي شيء وليست كالأشياء المحسوسة الكثيفة وهذا نظير قولهم (عليهم السلام) في معرفة الله تعالى: شيء بخلاف الأشياء الممكنة ا ه. أقول: يمكن أن يراد بالظلال الأجساد الصغيرة التي كانت في عالم الذر وهي بالنسبة إلى هذه الأبدان الكثيفة كالظل بالنسبة إليها، فليتأمل.
قوله (ثم بعث الله فيهم النبيين يدعوهم إلى الاقرار بالله) الظاهر أن يدعوهم حال عن الله والمستكن فيه له والبارز للنبيين وغيرهم من الخلائق جميعا، ويحتمل أن يكون علة للبعث والمستكن حينئذ للنبيين والبارز لغيرهم والتقدير لأن يدعوهم، ويؤيده يدعونهم بالنون كما في بعض النسخ وهو على هذه النسخة حال عن النبيين، فليتأمل.
قوله (وهو قوله ولئن سألتهم) لعل الاستشهاد به باعتبار أن إقرارهم بأن الله خالقهم اضطرارا من أجل إقرارهم به في ذلك اليوم حتى لو لم يكن هذا أو باعتبار إقرارهم بذاك عند تحقق هذا السؤال في أي وقت كان دل على إقرارهم بذلك في ذلك اليوم، والله أعلم.
قوله (فأقر بها والله من أحب) أي من أحب الإقرار بها أو من أحبها أو من أحبنا أو من أحبه الله، وكذا قوله من أبغض.
قوله (وهو قوله) أي الإنكار أو الإخبار به قوله تعالى في شأن المنكرين: (وما كانوا ليؤمنوا) أي في التكليف الثاني (بما كذبوا به) من النبوة والولاية (من قبل) أي من قبل هذا التكليف وهو التكليف الأول في الميثاق (1) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) «كان التكذيب ثم» يعني في الميثاق يريد أن
ص:131
من كذب فيه كذب في التكليف الثاني ومن صدق فيه صدق فيه.
95 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن سيف، عن العباس بن عامر، عن أحمد ابن رزق الغمشاني، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبيا قط إلا بها.(1)
قوله (قال ولايتنا ولاية الله) (2) أي ولايتنا ولايته تعالى والحمل للمبالغة والاتحاد أو ولايتنا ولاية من قبله تعالى لا من قبل الخلق حتى يكون لهم الخيرة في ردها وقبولها، وفيه دلالة على أن كل من لم يؤمن بولايتهم لم يؤمن بنبيهم وأن الهالك من لدن آدم (عليه السلام) إلى قيام الساعة ليس إلا من أنكر ولايتهم كما ذكرناه مرارا.
96 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس ابن يعقوب، عن عبد الأعلى، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما من نبي جاء قط إلا بمعرفة حقنا وتفضيلنا على من سوانا.
ص:132
97 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: والله إن في السماء لسبعين صفا من الملائكة، لو اجتمع أهل الأرض كلهم يحصون عدد كل صف منهم ما حصوهم، وإنهم ليدينون بولايتنا.
98 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: ولاية علي (عليه السلام) مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ولن يبعث الله رسولا إلا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ووصية علي (عليه السلام).
99 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، قال: حدثنا يونس، عن حماد بن عثمان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل نصب عليا (عليه السلام) علما بينه وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالا، ومن نصب معه شيئا، كان مشركا ومن جاء بولايته دخل الجنة.(1)
قوله (فمن عرفه كان مؤمنا) الخلق بالنسبة إليه (عليه السلام) أربعة أقسام القسم الأول مؤمن وهو من عرف حقه وصدق بولايته وتقدمه على جميع الخلق وهو من أهل الجنة قطعا، القسم الثاني كافر خارج عن الإيمان وهو من أنكر حقه وولايته وهو من أهل النار قطعا، القسم الثالث ضال وهو من جهله أي لم يعرف حقه ولم ينكره فهو بمنزلة من لم يسلك طريق الحق ولا طريق الباطل بل هو متحير بينهما والنسبة بينه وبين الكافر كالنسبة بين صاحب الجهل البسيط والجهل المركب وهذا في مشية الله تعالى. القسم الرابع مشرك منافق وهو من عرف حقه وأشرك معه غيره فهو عارف بحقه من وجه ومنكر له من وجه آخر كأكثر هذه الامة وهذا حكمه حكم الكافر في أنه من أهل النار (2) قطعا لا يقال الضال أسوء حالا منه لأنه عرفه في الجملة بخلاف الضال فكيف يكون هذا من
ص:133
أهل النار قطعا دون الضال؟ لأنا نقول: إنكار الحق بعد المعرفة أشد وأقبح من إنكاره قبلها ومن عدم إنكاره بالطريق الأولى.
قوله (من جاء بولايته دخل الجنة) دل بمفهومه على أن غير أهل الولاية لا يدخل الجنة وبظاهر منطوقه على أن أهل الولاية لا يدخل النار، والروايات الدالة على الحكمين متظافرة.
100 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن عليا (عليه السلام) باب فتحه الله، فمن دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين قال الله تعالى: لي فيهم المشيئة.(1)
قوله (إن عليا (عليه السلام) باب فتحه الله) أي باب علم النبي وشرائعه كما قال (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها» أو باب رحمة الله تعالى أو أسراره ومعارفه وتقربه، كل ذلك على سبيل التمثيل والتشبيه.
قوله (فمن دخله كان مؤمنا) قسم الناس بالنسبة إليه (عليه السلام) على ثلاثة أقسام وهي الاقسام المذكورة أولا في الحديث السابق على الترتيب، وأما الشرك فهو داخل في القسم الثاني لأنه أيضا خارج منه.
ص:134
101 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن بكير بن أعين قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذر، يوم أخذ الميثاق على الذر بالإقرار له بالربوبية ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة، وعرض الله جل وعز على محمد (صلى الله عليه وآله) أمته في الطين وهم أظلة وخلقهم من الطينة التي خلق منها آدم، وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام وعرضهم عليه وعرفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعرفهم عليا ونحن نعرفهم في لحن القول.
قوله (وعرض الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وآله) امته في الطين - إلى قوله - وعرضهم عليه) يفهم منه أنه وقع عرض الامة المجيبة الناجية على الظاهر مرتين: مرة عند كونهم أظلة أي أجسادا صغارا مثل النمل مستخرجة من الطين الذي هو مادة أبدانهم بعد تعلق الأرواح بها، ومرة عند كونهم أرواحا مجردة صرفة قبل أبدانهم بألفي عالم (1).
قوله (ونحن نعرفهم في لحن القول) لحن القول أي معناه وفحواه قال الله تعالى: (ولتعرفهم في
ص:135
لحن القول) أي معناه وفحواه واللحن أيضا اللغة والنحو ويمكن أن يراد إنا نعرفهم في تكلمهم بالكلام بالأصوات.
ص:136
102 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مع أصحابه فسلم عليه ثم قال له: أنا والله أحبك وأتولاك، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): كذبت، قال: بلى والله إني أحبك وأتولاك، فكرر ثلاثا، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): كذبت ما أنت كما قلت، إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرض علينا المحب لنا، فوالله ما رأيت روحك فيمن عرض، فأين كنت؟ فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه. وفي رواية أخرى قال: أبو عبد الله (عليه السلام) كان في النار.
103 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن عمرو بن ميمون، عن عمار بن مروان، عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق.(1)
قوله (قال إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه) لكل شيء ظاهر وباطن والباطن حقيقته والظاهر مثل التركيب والوضع والحركة والسكون والهيئة واللون والصوت والكلام أدلة وعلامات للباطن وهم (عليهم السلام) يعرفون من ظاهر كل شيء باطنه كما هو بمجرد المشاهدة وهذا نوع من أنواع علومهم.
104 - أحمد بن إدريس، ومحمد بن يحيى، عن الحسن بن علي الكوفي. عن عبيس بن هشام، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الإمام: فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان بن داود؟ فقال: نعم. وذلك أن رجلا سأله عن مسألة فأجابه فيها وسأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأول، ثم سأله آخر فأجابه بغير جواب الأولين، ثم قال: (هذا عطاؤنا فامنن أو) (اعط) (بغير حساب) وهكذا هي في قراءة علي (عليه السلام)، قال: قلت: أصلحك الله فحين أجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام؟ قال: سبحان الله أما تسمع الله يقول: (إن في ذلك لآيات
ص:137
للمتوسمين) وهم الأئمة (إنها لبسبيل مقيم) لا يخرج منها أبدا، ثم قال لي: نعم إن الإمام إذا أبصر إلى الرجل عرفه وعرف لونه، وإن سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو، إن الله يقول: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)(1) وهم العلماء، فليس يسمع شيئا من الأمر ينطق به إلا عرفه، ناج أو هالك، فلذلك يجيبهم بالذي يجيبهم.
قوله (قال سألته عن الإمام فوض الله) أي فوض الله إليه المنع والإعطاء في كل شيء حتى في العلوم.
قوله (وذلك أن رجلا) هذا كلام عبد الله بن سليمان والغرض منه بيان منشأ السؤال المذكور «ذلك» إشارة إليه وحاصله أن ثلاثة رجال سألوا أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة واحدة على سبيل التعاقب وهو أجاب كل واحد بجواب غير جواب الآخرين ثم قرأ آية سليمان (عليه السلام) (هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب) فسألته عن الإمام فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان بن داود فقال: نعم، ثم قلت: أصلحك الله فحين أجابهم الإمام بهذا الجواب المشتمل على الاختلاف يعرفهم الإمام باختلاف حالاتهم وصفاتهم من الإيمان والنفاق وغيرهما قال (عليه السلام) - على سبيل التعجب -: سبحان الله ما تسمع الله يقول: (إن في ذلك) أي العذاب والنكال الوارد على الامم السالفة خصوصا على قوم لوط مثل الصيحة وتقليب المدينة وإمطار الحجارة ونحوها (لآيات للمتوسمين) الذين يتوسمون الأشياء ويتفرسون حقائقها وآثارها ومبادئها وعواقبها ويعلمون جميع ذلك وهم الأئمة (عليهم السلام).
و (انها) أي الآيات والعلم بها (لبسبيل) أي مع سبيل (مقيم) أو متلبس به وهو الإمام لا يخرج ذلك السبيل منها اي من تلك الآيات أبدا، ولعل فيه قلبا إذ الأنسب أنها لا تخرج من السبيل والغرض من ذكر الآية أن الإمام متوسم يعرف جميع الأشياء بسماتها وعلاماتها فكيف لا يعرف الرجال بحالاتهم وصفاتهم، ثم صرح بأن الإمام يعرفهم وقال: إن الإمام إذا أبصر إلى الرجل عرفه من جهة ذاته وصفاته وأعماله وعقائده وعرف لونه الدال على خيره وشره وإن سمع كلامه من خلف حائط مثلا عرفه من صوته وإن لم يسمع كلامه قط ولم ير شخصه أبدا وعرف ما هو أمن أهل الإيمان أو الكفر أو النفاق ثم استشهد لعلمه بالرجال كلامهم وألوانهم بقوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم) أي لغاتكم وألوانكم (إن في ذلك لآيات) دلالة على
ص:138
حالاتكم (للعالمين) وهم العلماء من أهل البيت والأئمة من العترة (عليهم السلام) فليس أي الإمام يسمع شيئا من الأمر ينطق به من أمر الدين أو الدنيا أو السؤال إلا عرفه، أي ذلك الناطق أهو ناج ومن أهل إيمان أو هو هالك ومن أهل الكفر والنفاق؟ فلذلك يجيبهم على حسب اختلاف حالاتهم بالذي يجيبهم فيجيب أهل الإيمان بالحق وأهل الضلالة بالتقية حفظا لنفسه وعرضه ولشيعته وتابعيه أو يجيب كل واحد بما هو الأصلح بحاله (1).
قوله (وهكذا هي قراءة علي (عليه السلام)) لعل المراد بالمن في هذه القراءة القطع أو النقص وأما القراءة المشهورة وهي (فامنن أو أمسك بغير حساب) فالمراد به الإعطاء والإحسان.
105 - ولد النبي (صلى الله عليه وآله) لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول في عام الفيل يوم الجمعة مع الزوال. وروي أيضا عند طلوع الفجر.
قوله (ولد النبي لاثنتي عشرة ليلة) ذهب الشيخ والشهيد في الدروس إلى أنه ولد يوم السابع عشر منه (2) عند طلوع الفجر من يوم الجمعة.
106 - قبل أن يبعث بأربعين سنة. وحملت به أمه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى وكانت في منزل عبد الله بن عبد المطلب وولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف في الزواية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجدا، يصلي الناس فيه. وبقي بمكة بعد مبعثه ثلاثة عشر سنة، ثم هاجر إلى المدينة ومكث بها عشر سنين، ثم
ص:139
قبض (عليه السلام) لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول يوم الاثنين وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي أبوه عبد الله ابن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وماتت امه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو (صلى الله عليه وآله) ابن أربع سنين، ومات عبد المطلب وللنبي (صلى الله عليه وآله) نحو ثمان سنين، وتزوج خديجة وهو ابن بضع وعشرين سنة، فولد له منها قبل مبعثه (صلى الله عليه وآله) القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم وولد له بعد المبعث الطيب والطاهر وفاطمة (عليهما السلام)، وروي أيضا أنه لم يولد بعد المبعث إلا فاطمة (عليها السلام) وأن الطيب والطاهر ولدا قبل مبعثه، وماتت خديجة (عليها السلام) حين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الشعب وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة، فلما فقدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) شنأ المقام بمكة ودخله حزن شديد وشكا ذلك إلى جبرئيل (عليه السلام) فأوحى الله تعالى إليه: اخرج من القرية الظالم أهلها، فليس لك بمكة ناصر بعد أبي طالب وأمره بالهجرة.(1)
قوله (قبل أن يبعث بأربعين سنة) دل على أنه بعث وقد مضى من عمره الشريف أربعون سنة، وقال عياض لم يختلف أنه ولد عام الفيل، واختلف في مبعثه فقيل على رأس أربعين ونقل عن ابن عباس على رأس ثلاث وأربعين سنة.
قوله (وحملت به امه في أيام التشريق) هنا سؤال مشهور وهو أنه يلزم منه مع تاريخ مولده أن يكون مدة حمله ثلاثة أشهر أو سنة وثلاثة أشهر وهذا مخالف لما اتفق الأصحاب عليه من أن مدة الحمل لا تزيد على سنة ولم ينقل أحد أن ذلك من خصائصه، والجواب أن المراد بأيام التشريق الأيام المعلومة من شهر جمادى الأول الذي وقع فيه حج المشركين في عام الفيل باعتبار النسيء (2) حيث كانوا يؤخرون الحج عن ذي الحجة فيحجون سنتين في محرم وسنتين في صفر
ص:140
وهكذا إلى أن يتم الدور ثم يستأنفونه وعلى هذا كانت مدة حمله عشر أشهر بلا زيادة ولا نقصان.
بيان ذلك: أنه ذكر الشيخ الطبرسي في مجمع البيان عند تفسير قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر) نقلا عن مجاهد أنه كان المشركون يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في الصفر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي العقدة ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله) في العام القابل حجة الوداع فوافقت في ذي الحجة فلذلك قال (صلى الله عليه وآله) في خطبته: «ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنى عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان». أراد (عليه السلام) بذلك أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء. انتهى. إذا عرفت ذلك وعرفت أن النبي (صلى الله عليه وآله) توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ودورة النسيء أربعة وعشرون (1) سنة ضعف عدد الشهور فإذا
ص:141
كانت السنة الثالثة والستون ابتدأ الدور كانت السنة الثانية والستون نهايته، فإذا بسطنا دورين أخذ من الثانية والستين على ما قبلها وأعطينا كل شهر عامين تصير السنة الخامسة عشرة من مولده ابتداء الدور لأنه إذا نقصنا من اثنين وستين ثمانية وأربعين تبقى أربعة عشر إلا ثنتان الأخيرتان منها لذي العقدة واثنتان قبلهما لشوال وهكذا فيكون الأوليان منها لجمادى الأول فكان حجهم في عام مولد النبي وهو عام الفيل في جمادى الأولى، فإذا فرض أن حمله كان في ثاني عشر منه وتولده كان في ثاني عشر من ربيع الأول كانت مدة الحمل عشرة أشهر بلا زيادة ولا نقصان. وظهر مما ذكر بطلان ما ذهب إليه بعض الأصحاب من أن امه حملت به في رجب فإنه محض التخمين وما ذهب إليه ابن طاووس في الإقبال من أن امه حملت به في ثمان عشر مضت من جمادى الآخرة هذا ما أفاد بعض الأفاضل، والله أعلم بحقيقة الحال.
قوله (في شعب أبي طالب) الشعب بالكسر الطريق في الجبل والجمع الشعاب.
قوله (في دار محمد بن يوسف) كانت هذه الدار للنبي (صلى الله عليه وآله) بحسب الإرث فوهبها عقيل بن أبي طالب ثم باعها أولاد عقيل بعد أبيهم من محمد بن يوسف أخي حجاج بن يوسف فاشتهرت بدار محمد بن يوسف فأدخلها محمد في قصره الذي يسمونه بالبيضاء، ثم بعد انقضاء دولة بني أمية
ص:142
حجت خيزران ام هارون الرشيد فأفرزها عن القصر وجعلها مسجدا.
قوله (في الزواية القصوى) هي تأنيث الأقصى وهو الأبعد.
قوله (ومكث بها عشر سنين) قال عياض مدة مقامه بالمدينة من قدومه إلى وفاته عشر سنين لا تزيد ساعة لأنه توفى في النهار في الساعة الأولى التي قدم فيها، ولم يختلفوا في ذلك واختلفوا في إقامته بمكة بعد مبعثه فقيل خمس عشرة سنة، وعن ابن عباس: ثلاث عشرة سنة، وفي رواية اخرى: ثمان سنين. انتهى كلامه.
قوله (ثم قبض لاثنتي عشرة ليلة مضت) في التهذيب قبض مسموما يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشرة من الهجرة. وفي تفسير الثعلبي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول حين زاغت الشمس.
قوله (وهو ابن ثلاث وستين سنة) مثله من طرق العامة عن أنس عن عائشة وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى عنه توفاه الله وهو ابن خمس وستين وفي الأخرى عن أنس توفاه الله على رأس الستين.
قوله (وتوفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب) قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: ولابد من معرفة نسبه (صلى الله عليه وآله) فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدرك بن الياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان، ولم يختلف في صحة هذه السلسلة وإنما اختلف النسابون فيما بين عدنان وإسماعيل (عليه السلام) وبينهم في ذلك اختلاف كثير، واختلف من أين تقرشت قرش هل من النضر ابن كنانة أو من فهر بن مالك والمشهور أنه من النضر وكان لكنانة ولد غير النضر ولا يسمون قريشا، وسبب ذلك أن أولاد النضر كانوا تفرقوا في البلاد فلما انتقل أمر مكة من خزاعة إلى قصي ابن كلاب جمع أولاد النضر في مكة فسموا قريشا فهم لم يتقرشوا، أي لم يجتمعوا. وقال المازري غير قريش من العرب ليسوا بكفو لقريش ولا غير بني هاشم كفوا لبني هاشم إلا بنو المطلب فإنهم وبنو هاشم شيء واحد.
قوله (وتزوج خديجة) قال القرطبي هي خديجة بنت خويلد بن أسد عبد بن العزى بن قصي وفي قصي يجتمع مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد تزوجها قبل النبوة ثيبا بعد زوجين بعد ابن هالة التميمي وبعد عتيق المخزومي ثم تزوجها النبي (صلى الله عليه وآله) وهي بنت أربعين سنة وأقامت معه أربعا وعشرين سنة، وتوفيت وهي بنت أربع وستين، سنة وستة أشهر وسن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين تزوجها إحدى وعشرين سنة، وقيل: خمس وعشرين سنة. وقيل ثلاثة وثلاثون سنة واجتمع أهل النقل أنها ولدت له أربع
ص:143
بنات وكلهن أدركن الإسلام وهاجرن: زينب وفاطمة ورقية وأم كلثوم، وأجمعوا أنها ولد ولدا سماه القاسم وبه كان يكنى، واختلف هل ولدت له ذكرا غيره فقيل: ولدت ثلاثة عبد الله والطيب والطاهر والخلاف في ذلك كثير ومات القاسم بمكة صغيرا قبل أن يمشي وقيل: إنه لم يعش إلا أياما يسيرة ولم يكن له (صلى الله عليه وآله) من غير خديجة ولد غير إبراهيم (عليه السلام) ولدته مارية القبطية بالمدينة وبها توفي وهو رضيع وتوفي جميع أولاده في حياته إلا فاطمة رضي الله عنها فإنها توفيت بعده لستة اشهر، وكانت خديجة رضي الله عنها عاقلة فاضلة ذات أموال، قيل: هي أول من أسلم وبعث (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين فأسلمت هي ذلك اليوم وكانت له عونا على حاله كله تثبته على أمره وتصبره على ما يلقي من أذى قومه وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحبها ويقول: رزقت حبها، ولم يتزوج عليها حتى ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل بخمس وقيل بأربع وقيل بثلاث وهو أصح وأشهر وتوفيت هي وأبو طالب في سنة واحدة قيل: كان بينهما ثلاث أيام. انتهى كلامه.
قوله (وهو ابن بضع وعشرين سنة) قال ابن الأثير: البضع في العدد - بالكسر وقد يفتح - ما بين ثلاث إلى التسع وقيل ما بين الواحد إلى العشرة لأنه قطعة من العدد، وقال الجوهري: يقول بضع سنين وبضع عشر رجلا فإذا جاوزت لفظ العشر لا تقول: بضع وعشرين، وهذا يخالف ما جاء في الحديث. انتهى كلامه.
قوله (القاسم ورقية) قال عياض اختلف في أصغر بناته قال أبو عمرو: الذي تركن إليه النفس أن الاولى زينب ثم رقية ثم ام كلثوم ثم فاطمة رضى الله عنها.
قوله (وروى أيضا أنه لم يولد) تجىء هذه الرواية في كتاب الروضة في حديث إسلام علي (عليه السلام) والحديث طويل قال فيه علي بن الحسين (عليهما السلام): ولم يولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من خديجة على فطرة الإسلام إلا فاطمة (عليهم السلام).
قوله (حين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الشعب) أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك بقوله:
«واضطرونا إلى جبل وعر (يعني صعب) وكتبوا علينا بينهم كتابا» نقل أنه لما أسلم حمزة وحامى أبو طالب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشا الإسلام في القبائل فاجتمع المشركون في إطفاء نور الله واجتمعت قريش وكتبوا بينهم كتابا وكتبوا فيه أنواعا من الكفر والضلال وقطع الرحم، وتعاهدوا على أن لا ينكحوا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا وتقاسموا على ذلك وعلقوها في جوف الكعبة تأكيدا لذلك الأمر على أنفسهم وهذا هو الصحيفة المشهورة وأخرجوهم إلى الشعب خيف بني كنانة وخرج عنهم من بني هاشم أبو لهب. وظاهر المشركين وقطعوا عنهم الميرة والمارة حتى بلغهم الجهد وسمعوا صوت صبيانهم من وراء الشعب من شدة
ص:144
الجوع فأقاموا على ذلك ثلاث سنين وقد كان يسوق لهم القليل من التمر والدقيق ويلقى إليهم حتى أوحى الله إليه (صلى الله عليه وآله) أن الأرضة قد أكلت صحيفتهم ما كان فيها من ظلم وجور وبقي ما كان فيها من ذكر الله فأخبر بذلك عمه أبا طالب وأمره أن يأتي قريشا فيعلمهم بدلك فجاء إليهم وقال: ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فإن كان صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وان كان كاذبا دفعته إليكم لتقتلوه، فقالوا:
قد أنصفتنا فأرسلوا إلى الصحيفة فوجدوه كما أخبر وعرفوا أنهم بالظلم والقطيعة والقضية مشهورة.
قوله (شنأ المقام بمكة) المقام بضم الميم الإقامة والشناءة مثل الشناعة البغض، وقد شنئته شناء بحركات الشين وسكون النون في المصدر: أبغضته.
107 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن عبد الله بن محمد بن أخي حماد الكاتب، عن الحسين بن عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد ولد آدم؟ فقال: كان والله سيد من خلق الله، وما برأ الله برية خير [ا] من محمد (صلى الله عليه وآله).
قوله (سيد ولد آدم) السيد المالك والرب والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والرئيس والمقدم والمفزع إليه في الشدائد وأصله من ساد يسود فهو سيود قلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها ثم ادغمت، قال ابن الأثير: ومنه في الحديث «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» قاله إخبارا عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد تحدثا بنعمة الله عنده، وإعلاما لامته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه ولهذا اتبعه بقوله «ولا فخر» أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل نفسي ولا بلغتها بقوتي فليس لي أن أفتخر بها.
قوله (وما برأ الله برية خير من محمد) «خير» بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هو خير وأراد أنه خير من جميع البرية بقرينة ما تقدم فهو تأكيد لمنطوقه ولو أراد نفي الخير عن الغير كان تأكيدا لمفهومه.
108 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما برأ الله نسمة خيرا من محمد (صلى الله عليه وآله).(1)
قوله (وما برأ الله نسمة) النسمة بالتحريك كل ذي روح وإنما خصه بالذكر لأنه أشرف من غيره
ص:145
والأشرف من الشرف أشرف من ذلك الشيء أيضا وبالجملة هو أشرف من جميع المخلوقات حتى من الملائكة (عليهم السلام).
109 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمد بن عيسى ومحمد بن عبد الله عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله تبارك وتعالى: يا محمد إني خلقتك وعليا نورا يعني روحا بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجدني، ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة فكانت تمجدني وتقدسني وتهللني، ثم قسمتها ثنتين وقسمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة: محمد واحد وعلي واحد والحسن والحسين ثنتان، ثم خلق الله فاطمة من نور ابتدأها روحا بلا بدن، ثم مسحنا بيمينه فأفضى نوره فينا.
قوله (يا محمد اني خلقتك وعليا نورا) الخطاب وقع بعد الوجود الشهودي والغرض منه مع علمه (صلى الله عليه وآله) بذلك هو الحث على الشكر لتلك النعمة العظيمة والفضيلة الجسيمة.
قوله (يعني روحا بلا بدن) يعني روحا مجردا صرفا بلا بدن مطلقا قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري وهو تأكيد لما مر وبيان لتقدمه في الوجود والشرف فلم تزل مذ خلقتك تهللني وتمجدني أي تذكرني بالعظمة والجلال قضاء لشكر تلك النعمة وهي نعمة الوجود وأداء لحق الثناء بالذات ثم جمعت روحيكما في مادة بدنية لكما طيبة نورانية كامنة في صلب آدم فجعلتهما واحدة باعتبار تعلقهما بتلك المادة المركبة كتعلق المجموع بالمجموع على سبيل التوزيع فكانت تمجدني وتقدسني وتهللني لمثل ما مر وزيادة الثناء هنا لزيادة النعمة.
وهكذا كانت تنتقل تلك المادة من أصلاب طاهرة إلى عبد المطلب ثم قسمتها ثنتين في صلب عبد الله وأبي طالب وتقسيمها باعتبار تقسيم المادة وتعلق كل واحدة بما يخصه من تلك المادة المركبة، وقسمت الثنتين ثنتين حيث خلق محمدا مما في صلب عبد الله وخلق عليا مما في صلب أبي طالب وخلق الحسن والحسين مما في صلبهما فصارت أربعة محمد واحد من عبد الله وعلي واحد من أبي طالب والحسن والحسين اثنان منهما، فقد ظهر من ذلك أن بينهم كمال الاتصال في الوجودين، وهذا الذي ذكرناه على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.
هذا وقال الفاضل الأمين الإسترآبادي: من الامور المعلومة أن جعل المجردين واحدا ممتنع وكذلك قسمة المجرد فينبغي حمل الروح هنا على آل جسمانية نورانية منزهة عن الكثافة البدنية، وقال بعض الأفاضل: المراد بخلق الروحين بلا بدن خلقهما مجردين وبجمعهما وجعلهما واحدة
ص:146
جمعهما في بدن مثالي نوراني لاهوتي وبتقسيمهما تفريقهما وجعل كل واحد منهما في بدن شهودي جسماني واستحالة تعلق الروحين ببدن واحد إنما هي في الأبدان الشهودية لا في الأبدان المثالية اللاهوتية.
قوله (ثم مسحنا بيمينه) كلما نسب من أسماء الجوارح وأفعالهما إليه سبحانه فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة والتمثيل لتنزهة عنها، ولعل المراد بها الإفاضة والإعطاء والإحسان لأن المحسن منا إذا أحسن أحسن بيمينه والله سبحانه لما أحسن إليهم وأفاض نوره عليهم أضاء نوره وأظهر آثار عظمته فيهم لحكمة مقتضية لذلك ومن جملتها إرشاد الخلق وهدايتهم بسببهم إلى الخيرات وما ينجيهم من العقوبات.
110 - أحمد، عن الحسين، عن محمد بن عبد الله، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال:
سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أوحى الله تعالى إلى محمد (صلى الله عليه وآله): إني خلقتك ولم تك شيئا ونفخت فيك من روحي كرامة مني أكرمتك بها حين أوجبت لك الطاعة على خلقي جميعا، فمن أطاعك فقد أطاعني ومن عصاك فقد عصاني وأوجبت ذلك في علي وفي نسله، ممن اختصصته منهم لنفسي.(1)
قوله (ولم تك شيئا) أي موصوفا بالإنسانية إذ لا يطلق اسم الإنسان على من لم يكمل صورته وأعضاؤه.
قوله (فمن أطاعك فقد أطاعني) دل على اتحاد طاعتهما ومعصيتهما وهو كذلك لتوافقهما في الأوامر والنواهي.
111 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أبي الفضل عبد الله بن إدريس عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدانيته ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم. فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى، ثم قال: يا محمد هذه الديانة التي من تقدمها مرق ومن تخلف عنها محق ومن لزمهها لحق، خذها إليك يا محمد.
ص:147
قوله (فأجريت اختلاف الشيعة) لعل المراد اختلاف مذاهبهم.
قوله (ألف دهر) الدهر اسم للزمان الطويل ومدة حياة الدنيا، وقيل الدهر إذا عرف باللام يراد به الزمان الطويل وإذ أنكر يراد به مدة الدنيا.
قوله (فأشهدهم خلقها) فهم كانوا يشاهدون خلقها وانتقالها من طور إلى طور ويعظمون الله على كمال قدرته.
قوله (وفوض أمورها إليهم) ضمير التأنيث راجع إلى الأشياء فإما أن يراد بها جميعها وبالامور أعم من الأحكام وغيرها من التدبير في المحركات والساكنات، أو يراد بها المكلفون منها وبالامور الأحكام، زيادة ونقصانا، أمرا ونهيا، وهذا أنسب بسياق الكلام.
قوله (هذه الديانة التي من تقدمها مرق) مرق السهم عن الرمية مروقا إذا خرج من الجانب الآخر، وفيه إشارة إلى أن الناس في حقهم على ثلاثة أصناف الأول من وصفهم فوق وصفهم وجاوز عن حدهم وهم الغلاة. والثاني من تخلف عنهم ولم يصفهم بوصفهم ولم يقر بحقهم وهم النواصب وأضرابهم، والثالث من لزمهم قولا وفعلا وعقدا وتبعهم في جميع الأمور وهم شيعتهم وأهل ديانتهم، والأولان في طرف الإفراط والتفريط والأخير في الوسط المسمى بالعدل.
112 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن بعض قريش قال لرسول الله (عليه السلام): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله.(1)
قوله (بأي شيء سبقت الأنبياء) أي في الفضل والكمال والقرب بالحق وليس المراد وجه سبقته في الوجود الروحاني لأن الجواب لا يناسبه، لا يقال التفضيل ينافي قوله تعالى: (لا نفرق بين أحد من رسله) لأنا نقول: لعل المقصود من ذلك نفي الفرق في الرسالة والنبوة وأما تفضيل بعضهم على بعض فخصائص خص الله بها بعضهم قال الله تعالى: (تلك الرسل) الآية.
قوله (قال أني كنت أول من آمن بربي) دل على أن للمعلم فضلا على المتعلم، ولمن آمن أولا
ص:148
على من آمن آخرا وهو أمر يثبته العقل والنقل.
113 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن علي بن إبراهيم، عن علي بن حماد عن المفضل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف كنتم حيث كنتم في الأظلة؟ فقال: يا مفضل كنا عند ربنا ليس عنده أحد غيرنا، في ظلة خضراء، نسبحه ونقدسه ونهلله ونمجده وما من ملك مقرب ولا ذي روح غيرنا حتى بدا له في خلق الأشياء فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم، ثم أنهى علم ذلك إلينا.
قوله (في ظلة خضراء) قال الفاضل الإسترآبادي: أي في نور أخضر والمراد تعلقهم بذلك العالم لا كونهم في مكان، أقول: يحتمل أن يراد بها الرحمة الربانية لأن الرحمة توصف بالخضرة كما مر.
قوله (حتى بدا له في خلق الأشياء) أي حتى حصل له إرادة في خلقها وليس المراد بالبداء ظهور شيء بعد الخفاء لتعاليه عنه وقد مر تحقيقه سابقا.
قوله (ثم أنهى علم ذلك الينا) أي أبلغ العلم بكيفية خلقهم أو العلم بأحوالهم وأعمالهم وصفاتهم وسعادتهم وشقاوتهم أو العلم بأوامرهم ونواهيهم إلينا.
114 - سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد قال: سمعت يونس بن يعقوب، عن سنان بن طريف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: قال: إنا أول أهل بيت نوه الله بأسمائنا إنه لما خلق السماوات والأرض أمر مناديا فنادى: أشهد أن لا إله إلا الله - ثلاثا - أشهد أن محمدا رسول الله - ثلاثا - أشهد أن عليا أمير المؤمنين حقا - ثلاثا -.
قوله (نوه الله بأسمائنا) أي رفع الله ذكرنا بين المخلوقات، تقول نوهت باسمه إذا رفعت ذكره ثم أشار إلى كيفية التنويه بقوله: «إنه لما خلق السماوات إلى آخر» وإنما أكد الشهادات على إمارة علي (عليه السلام) بقوله: «حقا» لعلمه بأن كثيرا ممن يقر بالرسالة ينكر إمارته (عليه السلام) فالمقام يقتضي التأكيد.
115 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله الصغير، عن محمد بن إبراهيم الجعفري عن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن
ص:149
الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق نور الأنوار، الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمدا وعليا فلم يزالا نورين أولين، إذ لا شيء كون قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب (عليهم السلام).(1)
قوله (قال إن الله كان إذ لا كان) أي إن الله كان موجودا وحده إذ لم يكن شيء من الممكنات موجودا أو لم يوجد شيء منها، أولا وجود لغيره سبحانها، أو لا كأين غيره، ف (كان) الثاني إما ناقصة أو تامة و «كان» الأول ناقصة قطعا، وجعلها تامة بمعنى وجد يوهم الحدوت تعالى الله عنه.
قوله (فخلق الكان والمكان) الكان مصدر مثل القيل والقال ولذلك أدخل عليه الألف واللام أي فخلق الكون والوجود أو الكاين من الممكنات ولا دلالة في الفاء على القدم الزماني لمدخولها لوقوعه على عقب آخر الأجزاء الموهومة من الزمان الموهوم (2) المراد من «إذ» ههنا.
قوله (وخلق نور الأنوار) لعل المراد به آلة نورانية ومادة روحانية لنبينا (صلى الله عليه وآله) وبالأنوار نظائرنا للأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وتلك الأنوار تستفيض النور من ذلك النور كما أشار إليه بقوله (الذي نورت منه الأنوار) فهو نور فوق تلك الأنوار كما أن نور الشمس فوق أنوار الكواكب ثم أجرى الله تعالى في نور الأنوار من نوره، وهو الروح النبوي والإضافة لكمال الاختصاص أو العلم، وإطلاق النور عليهما شايع، والضمير في قوله «وهو النور» راجع إلى نور الأنوار، وهو الذي خلق الله تعالى منه محمدا وعليا (عليه السلام) فلم يزالا نورين أولين إذ لم يكن شيء قبلهما ولا معهما وهذه العناية مطوية ليتم الدليل فلم يزالا من لدن آدم (عليه السلام) يجريان طاهرين من الأخباث مطهرين من الذنوب والأرجاس في الأصلاب الطاهرة من السفاح حتى افترقا في صلب عبد المطلب ووقعا في صلب أطهر طاهرين في عصره في صلب عبد الله وصلب أبي طالب فخرج من صلب عبد الله سيد الأنبياء ومن صلب أبي طالب أشرف الأوصياء صلى الله عليهما، هذا ما خطر بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.
116 - الحسين [عن محمد] بن عبد الله (3)، عن محمد بن سنان، عن المفضل، عن جابر بن يزيد قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): يا جابر، إن الله أول ما خلق خلق محمد (صلى الله عليه وآله) وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله، قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور أبدان نورانية بلا أرواح وكان
ص:150
مؤيدا بروح واحدة وهي روح القدس فبه كان يعبد الله وعترته ولذلك خلقهم حلماء، علماء، بررة، أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ويصلون الصلوات ويحجون ويصومون.(1)
قوله (قال ظل النور) الإضافة لامية، والظل الفيىء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس مثلا والمراد به هنا على سبيل التشبيه أبدان نورانية غير جسمانية كثيفة بلا أرواح حيوانية وقوى جسمانية كاينة في الأبدان الحيوانية والنور المضاف إليه إما الروح أو النور المعروف، وكان ذلك الظل مؤيدا بروح واحدة وهي روح القدس وقد مر أنه كان مع النبي (صلى الله عليه وآله) وهو أعظم من جبرئيل وغيره فبذلك الروح كان النبي وعترته (صلى الله عليه وآله) يعبدون الله تعالى و «لذلك» يعني لتأييدهم بذلك الروح في أول الفطرة الروحانية خلقهم في النشأة الشهودية حلماء علماء بررة أصفياء في أول الفطرة الشهودية الجسمانية.
117 - علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي، عن مالك بن إسماعيل النهدي، عن عبد السلام بن حارث، عن سالم بن أبي حفصة العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثة لم تكن في أحد غيره: لم يكن له فيىء وكان لا يمر في طريق فيمر فيه بعد يومين أو ثلاثة إلا عرف أنه قد مر فيه لطيب عرفه، وكان لا يمر بحجر ولا بشجر إلا سجد له.
قوله (لم يكن له فييء) لأن الفيىء ظلم المظلم الكثيف الحاجز بينه وبين النور والنبي (صلى الله عليه وآله) كان نور الأنوار وإن كان مع لباس فهو يضئ ما يقابله لا يظلمه وإن كان جسمه بحسب الظاهر كسائر أجسام الناس التي شأنها الإظلام ومنع النور.
قوله (لطيب عرفه) العرف بالفتح والتسكين الريح طيبة كانت أم منتنة وإن كان أكثر استعمالها في الطيبة ولذلك أدرج الطيب لدفع التوهم وللتصريح بالمقصود، ثم المراد بالعرف العرف الذاتي ويحتمل الأعم منه والأول أنسب بالاختصاص.
قوله (وكان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له) أي كل واحد وسجوده وخضوعه له وذله لأجل نور النبوة وكمال القرب بصانعه أو حركته وانحنائه تعظيما له أو لله على كمال نعمته ببعثته وقد كان
ص:151
يرى ذلك بعض المجردين من أهل العرفان.
118 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله) انتهى به جبرئيل إلى مكان فخلى عنه، فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟ فقال: أمضه فوالله لقد وطئت مكانا ما وطئه بشر وما مشى فيه بشر قبلك.
قوله (إلى مكان) التنكير للتعظيم لكونه من أشرف الأماكن وأرفعها بحيث لا يصل إليه عقل البشر.
قوله (تخليني على هذه الحال) إشارة إلى الحال التي عرضت له بسبب القرب والوصال والمحو في الهوية المطلقة والعظمة والكمال وما يتبعها من الخوف والخشية والرجاء كما قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
قوله (فوالله لقد وطئت مكانا ماوطئه بشر) في دلالته على الوجه للتخلف نظر وإنما الدال عليه ماوطئه ملك اللهم إلا أن يقال: عدم وطأ البشر مستلزم لعدم وطأ الملك بناء على أن البشر أفضل منه، وفيه دلالة على أن عروجه كان جسمانيا وهو الحق ولا عبرة بإنكار من أنكره وخصه بالروحاني وعلى أنه (صلى الله عليه وآله) أفضل من الملائكة المقربين وهو كذلك، والأخبار في ذلك متظافرة ومن أنكر ذلك من العامة استدل بما روى عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «قال الله تعالى: اذكروني في ملائكم أذكركم في ملاء خير من ملائكم» يعني في ملاء الملائكة فإذا ذكرناه في ملاء أحدهم النبي لزم بحكم الرواية المذكورة أن يكون ملاء الملائكة خيرا من ملائنا فيلزم أن يكون الملائكة أعظم وأشرف من النبي، وهو أقوى ما استدلوا به.
أقول: على تقدير بقاء الرواية على عمومها لا يلزم من كون المجموع خيرا من مجموع آخر أن يكون كل واحد من أجزاء الأول خيرا من كل واحد من أجزاء الآخر ألا يرى أنا إذا قلنا مجموع تلك البيوتات خير من مجموع هذة البيوتات لا يلزم من ذلك أن يكون كل واحد من تلك البيوتات خيرا من كل واحد من هذه البيوتات لجواز أن يكون في هذه البيوتات بيت لا يوازيه ولا يدانيه واحد من تلك البيوتات، وبالجملة حكم الكل غير حكم كل واحد.
ص:152
119 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن علي بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي إن ربك يصلي فقال: يا جبرئيل وكيف يصلي؟ قال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي، فقال: اللهم عفوك عفوك، قال: وكان كما قال الله قاب قوسين أو أدنى، فقال له أبو بصير: جعلت فداك ما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها، فقال: كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق ولا أعلمه إلا وقد قال: زبرجد، فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة، فقال الله تبارك وتعالى: يا محمد، قال: لبيك ربي قال: من لأمتك من بعدك؟ قال: الله أعلم، قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين، قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) لأبي بصير: يا أبا محمد والله ما جاءت ولاية علي (عليه السلام) من الأرض ولكن جاءت من السماء مشافهة.
قوله (سبوح قدوس) يجوز في السين والقاف الضم، والفتح أقيس والضم أكثر قال المازري نقلا عن ثعلب كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا سبوحا وقدوسا فإن الضم فيهما أكثر ومثله قال ابن الأثير. هذا حال أولهما وأما حكم آخرهما فقال الآبي: إنهما يرويان بضم آخرهما وفتحه والفتح قياس بإضمار فعل أي أسبح سبوحا والضم وهو أكثر على الخبر أي أنا سبوح إن قاله الباري جل شأنه أو ذكرى لمن هو سبوح وقدوس وبناؤهما للمبالغة من التسبيح والتقديس، والمعنى أنه تبارك وتعالى مطهر عن صفات المخلوقين ومنزه عن العيوب والنقايص، والأظهر أنهما اسمان بمعنى مسبح ومقدس واما سبوح قدوس فمذكورة في الأسماء وأما سبوح فنص على أنه من الأسماء الزبيدي وابن فارس، وقال المازري: واختلف في الروح فقيل: هو جبرئيل (عليه السلام)، وقيل: ملك عظيم، وقيل خلق لا تراهم الملائكة وقيل: الروح الذي به الحياة.
قوله (سبقت رحمتي غضبي) كما قال جل شأنه (وسعت رحمتي كل شيء) ومن سعتها وسبقها أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بتفضله وأنه يغفر الذنوب كلها إلا لمن أشرك به وأبطل قبول فيضه بالكلية كما قال عز شأنه: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)(1) وقال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا).
ص:153
قوله (فقال اللهم عفوك عفوك) قال ذلك لبسط الرجاء والاستعطاف وإظهار أن سبق الرحمة بمجرد العفو دون الاستحقاق. وعفوك إما منصوب باضمار الناصب أي أطلب عفوك أو مرفوع بتقدير الخبر أي عفوك محيط بالمذنبين.
قوله (قاب قوسين أو أدنى) ألقاب القدر وعينها واو يقال بيني وبينه قاب رمح وقاب قوس أي مقدارها وألقاب أيضا في القوس ما بين المقبض والسية (يعني ما بين قبضة كمان وگوشه آن) فلكل قوس قابان. ومن حمله في الآية على هذا قال فيها قلب أي قابي قوس وهذا على التقديرين كناية عن كمال القرب والاطلاع على حقيقة الامر.
قوله (ما قاب قوسين أو أدنى) كأنه سؤال عن قوله أو أدنى ولذلك بينه (عليه السلام) وقال ما بين سيتها إلى رأسها. سية القوس على وزن عدة بتعويض الهاء عن الواو المحذوفة ما عطف من طرفيها والمشهور فيها عدم الهمزة، ومنهم من يهمزها ويقول سئة.
قوله (قال كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق) لعل المراد بالبين البين المعنوي إذ لا مكان له وبالحجاب الحجب النورية الدالة على جلاله وكماله وعظمته المانعة من إدراكها وإدراك ما وراءها وهي الأنوار التي لو كشفت لأحرقت من أبصرها وأهلكت من نظرها كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل دكاء عند تجليها، وخلفها أنوار لم يقدر على مشاهدة شيء منها إلا خاتم النبيين لقوة قلبه وكمال قربه ونظر إليها من الحجاب ما شاء الله، ونسبتها إلى نور الحجاب كنسبة نور الشمس إلى نور الكواكب، والمراد بقوله «يتلألأ يخفق» أنه يشرق ويستنير ويلمع كما يلمع البرق ويضطرب ويتحرك، هذا الذي ذكرت من باب الاحتمال (1) والله اعلم بحقيقة ذلك.
ص:154
قوله (من نور العظمة) إضافة النور إليها باعتبار دلالته عليها، أو ظهوره منها وهذا المعنى وإن وجد في غيره إلا إنه فيه أقوى وآكد.
قوله (وسيد المسلمين) يجوز تشديد اللام وتخفيفها وسيد القوم أشرفهم وأفضلهم وأكرمهم.
قوله (وقائد الغر المحجلين) القائد خلاف السائق وهو من يقود أحدا خلفه كصاحب الجيش، والغر جمع الأغر من الغرة وهي في الأصل البياض الذي يكون في وجه الفرس، والمحجل من الخيل هو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين ولا يكون التحجيل باليد واليدين ما لم يكن معها رجل أو رجلان ثم استعير لذوي الشرف من الناس في العلم والعمل والصلاح وكرم الذات.
قوله (ما جاءت ولاية علي (عليه السلام) من الأرض) أي من قوله النبي (صلى الله عليه وآله) وحده أو من الوحي إليه في
ص:155
الأرض فقط (1).
120 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد عن علي بن سيف، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (صلى الله عليه وآله): صف لي نبي الله (صلى الله عليه وآله) قال: كان نبي الله (عليه السلام) أبيض مشرب حمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف كأن الذهب أفرغ على براثنه عظيم مشاشة المنكبين، إذا يلتفت يلفت جميعا من شدة استرساله، سربته سائلة من لبته إلى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة وكأن عنقه إلى كاهله إبريق فضة، يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء وإذا مشى تكفأ، كأنه ينزل في صبب; لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده (صلى الله عليه وآله).(2)
قوله (أبيض مشرب حمرة) قال في النهاية في صفته (عليه السلام): أبيض مشرب حمرة الإشراب خلط لون بلون كان أحد اللونين سقى اللون الآخر يقال: بياض مشرب حمرة بالتخفيف وإذا شدد كان للتكثير والمبالغة.
قوله (أدعج العينين) الأدعج الأسود والدعج شدة سواد العين مع سعتها يقال: عين دعجاء
ص:156
ويطلق أيضا على سواد غيرها، وقيل: الدعج شدة سواد العين مع شدة بياضها.
قوله (مقرون الحاجبين) في النهاية: القرن بالتحريك التقاء الحاجبين. واختلف روايات العامة في ذلك ففي بعضها: «سوابغ في غير قرن» والسوابغ الحواجب ووضع الحواجب موضع الحاجبين لأن التثنية جمع، وفي بعضها «أزج أقرن» أي مقرون الحاجبين، وقال صاحب النهاية: الأول الصحيح في صفته.
قوله (شثن الأطراف) قال في النهاية في صفته (عليه السلام): شثن الكفين والقدمين أي إنهما يميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم ويذم في النساء، وفي الصحاح: الشثن بالتحريك مصدر شثنت كفه بالكسر أي خشنت وغلظت ورجل شثن الأصابع بالتسكين وكذلك العضو.
قوله (كأن الذهب افرغ على براثنه) البراثن بفتح الباء جمع البرثن كقنفذ وهي الأصابع مع الكف، شبه كفه وأصابعه (عليه السلام) بالذهب في اللون والضياء والصفاء مع الشدة واللينة.
قوله (مشاشة المنكبين) المشاشة واحد المشاش بضم الميم وهي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. كذا في الصحاح والقاموس والمغرب، وقال ابن الأثير في صفته (عليه السلام) جليل المشاش أي عظيم رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين.
قوله (إذا التفت يلتفت جميعا من شدة استرساله) قال الجوهري: استرسل إليه أي انبسط واستأنس، وقال ابن الأثير: الاسترسال الاستيناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدثه وأصله السكون والثبات وهذا من كمال خلقه وانبساطه للناس ومداراته معهم حيث كان يتلفت إليهم بكله لا بعينه ولا يسرق النظر، وقيل: إراداته لا يلوي عنقه يمنة ويسرة إذا نظر إلى الشيء وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا.
قوله (مسربته سائلة) في بعض النسخ «سربته سائلة» وهو الأظهر قال صاحب القاموس: السربة بالضم الشعر وسط الصدر إلى البطن كالمسربة، وقال ابن الأثير في صفته (عليه السلام): إنه كان ذا مسربة المسربة بضم الراء ما دق من شعر الصدر سائلا إلى الجوف والضمير في قوله: (كأنها) راجع السربة وكان لتقريب تشبيهها بالفضة الصافية المستديرة في السواد اللطيف لأنه يحسن السواد في وسط الفضة المذكورة.
قوله (وكأن عنقه إلى كاهلة إبريق فضة) الكاهل مقدم أعلى الظهر، والإبريق بالكسر الشديد البرق واللمعان والاستعارة من البرق والإضافة بيانية والمراد تشبيه عنقه بالفضة الخالصة في البرق واللمعان.
ص:157
121 - عدة من أصحابنا; عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته، إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة، قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم وأن لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة ولهم تبدل السيئات حسنات.
قوله (وعلمني أسماءهم) يحتمل أن يراد بها إعلامهم كما يحتمل أن يراد بها هي مع ذواتهم وصفاتهم.
قوله (فمر بي أصحاب الروايات) لعل المراد بهم خلفاء الجور وبنو أمية وبنو عباس وأضرابهم ممن يعادي أهل البيت وشيعتهم إلى يوم القيامة.
قوله (قال: المغفرة لمن آمن منهم) هذا وإن دل على كمال الرجاء وانتفاء العقوبة مطلقا لأن الله تعالى لا يخلف وعده إلا إن الشرط وهو قوله: (لمن آمن منهم) يوجب الخوف لأن حقيقة الإيمان ومراتبه متفاوتة في الشدة والضعف سيما عند القائلين بدخول الأعمال فيها ولا يعلم أن أي فرد من أفراده هو المراد هنا ولا يمكن حمله هنا على أقل المراتب لأن ذكر هذا الشرط حينئذ مستدرك كما لا يخفى على من له درية بأساليب الكلام.
قوله (ولهم تبدل السيئات حسنات) تقديم الظرف للحصر وظاهر هذا الخبر ونحوه كظاهر قوله تعالى: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات)(1) حجة لمن ذهب إلى أن كل سيئة تبدل بحسنة صغيرة كانت أو كبير، ومنهم من خص التبديل في الآية بتبديل السيئات في الكفر بحسنات الإيمان والمخصص غير معلوم، ثم أن هذه الحسنة يمكن أن تثاب بعشرة أمثالها كالحسنة بالأصالة، والله أعلم وأكرم.
122 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن سيف، عن أبيه، عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس ثم رفع يده اليمنى قابضا على كفه ثم قال: أتدرون أيها الناس ما في كفي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: فيها أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثم رفع يده الشمال فقال: أيها الناس أتدرون ما في كفي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال
ص:158
أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثم قال: حكم الله وعدل، حكم الله وعدل [حكم الله وعدل] فريق في الجنة وفريق في السعير.(1)
قوله (ثم قال أتدرون أيها الناس ما في كفي) قيل سؤاله إياهم عن هذا الأمر الذي لا يعلمه إلا الله ورسوله يكون للحث على استماع ما يلقي إليهم والكشف عن مقدار فهمهم ومبلغ علمهم فلما راعوا الأدب بقولهم: الله ورسوله أعلم، علم أنهم يريدون استخراج ما عنده فأجاب بما ذكر. وقيل:
فائدته التعريف بمنزلته من الله تعالى في إعلامه بهذه الأمور المغيبة. وقيل: فائدته استنطاقهم وحملهم على الإقرار بأن الله ورسوله أعلم.
قوله (قال فيها أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم) ضمير «فيها» راجع إلى الكف وهي مؤنثة والقبيلة واحدة القبائيل وهم بنو أب واحد ولعل المراد بأسمائهم وأسماء آبائهم أسماؤهم منسوبين إلى آبائهم مثل فلان بن فلان وفلان بن فلان إلى آخرهم، فلا يرد أن الجمع المضاف يفيد العموم فذكر أسماء آبائهم بعد ذكر أسماء جميع أهل الجنة يوجب التكرار، وفيه دلالة على أن ولد الزنا لا يدخل الجنة كما أن في مقابله دلالة على أنه لا يدخل النار، والقول بالواسطة غير معروف فلابد من تخصيص أسماء آبائهم بمن له أب أو بتعميم الأب بحيث يشمل الأب لغة وعرفا والله أعلم.
قوله (حكم الله وعدل) ذكره ثلاث مرات والتكرير للتأكيد أو الأول إشارة إلى الحكم الأزلي والثاني إلى الحكم الشهودي والثالث إلى الحكم الاخروي، ومثل هذه الرواية موجود من طريق العامة ففي الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي يده كتابان فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، وقال للذي في يده اليسرى:
هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلايزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، وقال للذي في يده اليسرى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلايزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم رمى بهما وقال: فرغ ذلك من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير». قال بعضهم هذا حديث صحيح وأمثاله كثيرة يفيد مجموعها القطع بفساد مذهب القدرية (2) لكنهم كابروا في ذلك
ص:159
كله وتأولوه تأويلات فاسدة وموهوه بالاصول التي ارتكبوها من التحسين والتقبيح والتعديل والتجويز والقول بتأثير القدرة الحارثة وهي كلها فاسده انتهى كلام هذا القائل.
أقول: القدر على ما استفدت من تصفح كلام العلماء يطلق على ثلاثة معان الأول أنه في عرف المتكلمين عبارة عن تعلق علم الله وإرادته بالكائنات إذ لا قبل وجودها فلا حادث إلا وقد قدره سبحانه في الأزل أي سبق علمه به، ولا ينكر هذا المعنى أحد من أهل الإسلام إلا شرذمة قليلون نشأوا في آخر زمن الصحابة فقال بعضهم: إنه تعالى يعلم الأشياء بعد وجودها وقال بعضهم أنه يعلمها قبل وجودها بمعنى أنه يوجد لنفسه علما بها ثم يوجدها. الثاني أنه يطلق على جبر الله تعالى عباده على الأفعال وعلى ما قدره وقضاه وهذا مذهب الأشاعرة. الثالث أنه يطلق على قدرة العبد على أفعاله وهذا مذهب المعتزلة والإمامية.
إذا عرفت هذا فنقول: لا دلالة في الحديث على إثبات مذهب الأشاعرة ونفي مذهب الإمامية والمعتزلة لجواز أن يكون المراد منه إثبات القدر بالمعنى الأول لعلمه (صلى الله عليه وآله) بأنه سيوجد قوم ينكرونه، ويؤيده قول القرطبي وهو من أعاظم علمائهم فما رووه عنه (صلى الله عليه وآله) العلم فيما جفت به الأقلام وجرت عليه المقادير حيث قال: أبطل (صلى الله عليه وآله) بهذا القول قول من قال: إن الأمر مستأنف والمقصود أن الأمر ليس بمستأنف أي ليس علم الله بذلك مستأنفا بل سبق به علمه وإرادته أزلا وجفت به أقلام الكتبة في اللوح المحفوظ انتهى كلامه.
123 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في خطبة له خاصة يذكر فيها حال النبي والأئمة (عليهم السلام) وصفاتهم: فلم يمنع ربنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم، أن انتجب لهم أحب أنبيائه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) في حومة العز مولده، وفي دومة الكرم محتده، غير مشوب حسبه، ولا ممزوج نسبه ولا مجهول عند أهل العلم صفته، بشر به الأنبياء في كتبها، ونطقت به العلماء بنعتها وتأمله الحكماء بوصفها، مهذب لا يداني، هاشمي لا يوازي، أبطحي لا يسامي شميته الحياء وطبيعته السخاء، مجبول على أوقار النبوة وأخلاقها، مطبوع على أوصاف الرسالة وأحلامها.
إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها، وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهاياتها، أداه محتوم قضاء الله إلى غاياتها، تبشر به كل أمة من بعدها، ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر، لم يخلطه في عنصره سفاح، ولم ينجسه في ولادته نكاح، من لدن آدم إلى أبيه عبد الله، في خير
ص:160
فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط وأكلا حمل وأودع حجر، اصطفاه الله وارتضاه واجتباه وآتاه من العلم مفاتيحه ومن الحكم ينابيعه، ابتعثه رحمة للعباد وربيعا للبلاد وأنزل الله إليه الكتاب فيه البيان والتبيان قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون، قد بينه للناس ونهجه بعلم قد فصله ودين قد أوضحه وفرائض قد أوجبها وحدود حدها للناس وبينها وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة إلى النجاة ومعالم تدعو إلى هداه، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أرسل به وصدع بما أمر وأدى ما حمل من أثقال النبوة وصبر لربه وجاهد في سبيله ونصح لأمته ودعاهم إلى النجاة وحثهم على الذكر ودلهم على سبيل الهدى، بمناهج ودواع، أسس للعباد أساسها ومنار رفع لهم أعلامها كيلا يضلوا من بعده وكان بهم رؤوفا رحيما.
قوله (فلم يمنع ربنا) «ربنا» مفعول لم يمنع (1) وما كان فاعله، وكان تامة أو ناقصة بتقدير الخبر و «من» بيان لما وأن بصلتها مجرور محلآ بإضمار عن عند الخليل ومنصوب بإفضاء الفعل إليه وهو لم يمنع بعد حذفها عند سيبويه والحلم وتالياه متلازمة في التحقيق والحلم هو الأصل لأن الحليم من لا يستخفه العصيان ولا يستفزه الغضب وكل من كان كذلك فهو ذو أناة ووقار لا يستعجل في المؤاخذة وذو عطف ورحمة لميله إلى المرحوم، والغرض من هذه الفقرة هو حث العباد على الشكر لتلك النعمة العظيمة والفضيلة الجسمية بعد استحقاقهم للعذاب واستيهالهم للعقاب.
قوله (في حومة العز مولده) قدم الخبر على المبتدأ لقصد الحصر والجملة في محل النصب على أنها حال عن «أحب»، وحومة العز معظمة كحومة الماء وحومة الرمل والمراد بها إما مكة لأنها أعز بقاع الأرض وأشرفها أو ذرية إبراهيم الخليل لأنهم أشرف الخلائق وأعزهم.
قوله (وفي دومة الكرم محتدة) في المغرب الدومة بالضم، والمحدثون على الفتح وهو خطأ عن ابن دريد، وفي الصحاح أصحاب اللغة يضمون الدال وأصحاب الحديث يفتحونها. والمحتد بفتح الميم وكسر التاء بمعنى المقام أو الأصل، قال الجوهري: حتد بالمكان يحتد أقام به وثبت والمحتد الأصل يقال فلان من محتد صدق ومحفد صدق. وعين حتد بضم الحاء والتاء إذا كان لا
ص:161
ينقطع ماؤها من عيون الأرض. وأما الدومة فيطلق على ضخام الشجر والظل والحصن ولعل المراد أن في ظل الكرم مقامه أو أصله على سبيل المنكية والتخييلية وفيه وصف له ولآبائه بالكرم والسخاء والدين.
قوله (غير مشوب حسبه) الشوب الخلط وقد شبت الشيء أشوبه وهو مشوب. وحسب الرجل دينه وقدره وأفعاله الحسنة وصفاته الجميلة وأعماله المرضية وحسب أيضا مآثر آبائه لأنه يحسب بها في الفضائل والمناقب ومنه قيل من فات حسب نفسه لم ينتفع بحسب أبيه ولعل المراد أن مآثر آبائه الكرام غير مشوبة بالخصال الذميمة والأفعال القبيحة.
قوله (ولا ممزوج نسبه) (1) لكرم أصله وطهارة نسبه من الطرفين إلى آدم (عليه السلام).
قوله (ولا مجهول عند أهل العلم صفته) أراد بأهل العلم الأنبياء والأوصياء (2) ومن أخذ من
ص:162
مشكاة إفاداتهم وبصفته صفة النبوة ومبادئها وتوابعها وأوصافها الخلقية والخلقية وإنما خص ذلك بأهل العلم لأن الجاهل في معزل عن هذه المكرمة بل شأنهم إنكار الأنبياء والعلماء ترويجا لجهلهم.
قوله (بشرت به الأنبياء) استيناف كأنه قيل لم لم يكن صفته مجهولة عند أهل العلم فأجاب بذلك وضمير التذكير في به راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وضمير التأنيث في كتبها راجع إلى الأنبياء باعتبار الجماعة وفي نعتها ووصفها راجع إلى الصفة والمراد بالعلماء علماء أمة كل نبي وبالحكماء والأوصياء وعكسه بعيد لأن الحكيم فوق العالم كما مر في كتاب العلم.
قوله (مهذب لا يداني) أي مطهر الأخلاق ومهذب من النقائص لا يقاربه أحد.
قوله (هاشمي لا يوازى) أي لا يساويه أحد من الهاشميين وغيرهم وإنما وصفه بالهاشمية لإظهار علو نسبه لأن غير الهاشمي ليس بكفو للهاشمي.
قوله (أبطحي لا يسامى) ساماه فاخره وطاوله في صفة من الأوصاف من السمو وهو الارتفاع، والمعنى لا يعاليه في شرافة ذاته أحد ولا يفاخره في كمال صفاته رجل وإنما نسبه إلى الأبطح باعتبار تولده ونشئته فيه لأنه خير بقاع الأرض.
قوله (شيمته الحياء) الشيمة بالكسر الخلق والطبيعة، والحياء ملكة نفسانية توجب انقباض النفس عن القبيح وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح والخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا.
قوله (وطبيعته السخاء) السخاء ملكة توجب بذل المال في وجوهه وكان (صلى الله عليه وآله) لا يرد السائل إلا بوجه يرضيه وكان يعطي المستحق من غير مسألة حتى نزل فيه (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا).(1)
قوله (مجبول على أوقار النبوة وأخلاقها) الأوقار جمع الوقر بالكسر وهو الحمل والثقل ولعل المراد بها الفضائل العلمية والعملية وبالأخلاق الأخلاق النفسانية وهذه الأمور على وجه الكمال من لوازم النبوة.
قوله (مطبوعة على أوصاف الرسالة وأحلامها) (2) الأحلام الألباب والعقول واحدها حلم
ص:163
بالكسر وكأنه أراد من الحلم الأناة والتثبت في الأمور وذلك من شعار العقلاء، والجمع المضاف في الموضعين يفيد العموم، ولعل المراد بأوصاف الرسالة المواعظ الشافية والنصائح الوافية والوحي وتبليغ الأحكام وغيرها، وفي جميع الأحلام إشعار بأن عقله فوق عقول جميع الرسل بل هو عقل الكل.
قوله (إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها) «إلى» متعلق بمجبول ومطبوع وغاية لجبلة ويحتمل أن يكون التدريج فيهما لإفادة كماله لأن كل فعل صدر من الفاعل القادر المختار على وجه التدريج فهو في غاية الكمال، والضمير في به راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وإرجاعه إلى الجبل والطبع بعيد والظرف متعلق بانتهت أو حال عن الأسباب بتقدير متلبسة أو متعلقة، وإضافة الأسباب إلى مقادير الله بيانية، والمراد بها الأسباب التي قدرها الله تعالى لنبوته وهي كل ماله
ص:164
مدخل في الكمال والمراد بأوقاتها الأوقات التي قدرها الله تعالى لحصول تلك الأسباب فيها ولما لم يكن هذا مستلزما لوقوع كل واحد من تلك الأسباب على نهاية الكمال، أشار إلى وقوع ذلك بقوله وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهاياتها أي نهايات تلك الأسباب في الكمال والحمل على التأكيد محتمل لأن انتهاء الأسباب إلى أوقاتها مستلزم لجريان القضاء إلى نهاياتها كما أن حمل الأول على تقدير الأسباب والثاني على القضاء بوجودها كذلك إلا أن قوله إلى أوقاتها ينافيه في الجملة، والله أعلم.
قوله (أداء محتوم قضاء الله إلى غاياتها) هذا كالنتيجة للسابق والثمرة له والضمير في أداء راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) والمراد بالقضاء المحتوم القضاء المبرم الذي لا راد له، وبغايات تلك الأسباب المذكورة النبوة والرسالة وكمال القرب والشرف والتقدم على جميع الخلق.
قوله (تبشر به كل أمة من بعدها) البشارة الخبر الموجب للسرور حتى يظهر أثره في البشرة من النشاط والبشاشة وطلاقة الوجه وغيرها، والامة الطائفة من الناس إذا اشتركوا في دين أو لغة، ومن موصولة أو موصوفة، ولما قدر الله تعالى النبوة والرسالة وهيأ له أسبابها وجعله نبيا في عالم الأرواح كما قال (عليه السلام): «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (1) وأعلم بذلك الأنبياء وسائر الخلق وجعله أميرا لهم جميعا ثم قدمهم في عالم الأبدان الذي هو مقام المجاهدة مع النفس والشيطان كتقديم المقدمة على الأمير فصار يبشر كل أمة من بعده بموكبه وظهوره ويوصيهم بمتابعته وموافقته وترك
ص:165
معاندته (صلى الله عليه وآله).
قوله (لم يخلطه في عنصره سفاح ولم ينجسه في ولادته نكاح) العنصر بضم العين وفتح الصاد الأصل وقدم تضم الصاد، والنون مع الفتح زائدة عند سيبويه لأنه ليس عنده فعلل بالفتح. والسفاح بالكسر الزنا مأخوذ من سفحت الماء إذا صببته والنكاح الوطي والعقد والمراد به هنا الزنا أو العقد المخالف للقوانين الشرعية بقرينة التنجيس وفيه إشارة إلى أنه كان كريم الطرفين من لدن آدم إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب والفقرة الأولى لبيان طهارة الآباء والثانية لبيان طهارة الامهات.
قوله (في خير فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط) الفرقة الطائفة من الناس، والسبط بالكسر القبيلة وأولاد الأولاد والرهط الأهل والعشيرة وهذه الألفاظ متقاربة في المعنى، ولعل المراد بالخيرية الخيرية باعتبار الدين لأن أباءه (عليهم السلام) كانوا على الشريعة السابقة وبالأكرمية الزيادة في المنح والصفح والشرف والفضائل لأن كثيرا من آبائه (عليهم السلام) كانوا أنبياء ذوى فضائل كثيرة، منهم يصل الخير إلى الغير، وبالأمنعية زيادة الاتصاف بمنع العار عن العشيرة والأغيار واتصاف القريشي والهاشمي بهذا الوصف مشهور.
قوله (وأكلأ حمل وأودع حجر) الكلاء بالكسر الحفظ والحراسة والحمل بالفتح ما يحمل بالبطن وبالكسر ما يحمل على ظهر من الأحمال والأثقال ولعل الأول هو المراد هنا وحجر الإنسان بفتح الحاء وكسرها معروف، والأودع من ودع بالضم وداعة ودعة بالفتح وهي السكون والوقار والترفه يقال رجل وادع أي رافه، ويحتمل أن يراد بالأودع الأحفظ يقال استودعته وديعة أي استحفظته إياها، ولعل المراد بالأكلأ امه آمنة وبالأودع هي أو مرضعته حليمة السعدية أو فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) أو أعم منهن بحيث يشمل امهاته إلى حواء (عليها السلام).
قوله (وآتاه من العلم مفاتيحه) (1) دل على أن العلوم كلها خرجت منه وأنه المعلم في العالم
ص:166
الروحاني كما انه المعلم في العالم الجسماني، ويؤيده بعض الروايات.
قوله (ومن الحكم ينابيعه) الحكم بالضم والسكون الحكمة والحكيم صاحب الحكمة المتقن للامور والحكم أيضا القضاء بين الخلق، والينابيع جميع الينبوع وهو عين الماء سميت به لأنه ينبع منه الماء أي يخرج وفي جميع الينبوع والمفتاح إشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله) أوتى جميع فنون العلم والحكمة (1) وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية.
قوله (ابتعثه رحمة للعباد) أي بعثه وأرسله إلى العباد رحمة لهم لأنه يهديهم إلى الكرامة والسعادة وينجيهم من الضلالة والشقاوة.
قوله (وربيعا للبلاد) الربيع النهر والمطر، وربيع الأزمنة عند العرب ربيعان الربيع الأول هو الفصل الذي تأتي فيه الكماة (2) والنور وهو ربيع الكلأ والربيع الثاني هو الفصل الذي تدرك فيه
ص:167
الثمار، ويجوز إرادة كل واحد من هذة المعاني هاهنا على سبيل التشبيه لاريتاح قلوب الخلق وميلهم إليه وانتفاعهم منه وخروجهم من الضيق ورفاهيتهم في التعيش وهدايتهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم.
قوله (فيه البيان والتبيان) حال عن الكتاب والتبيان أخص من البيان وأبلغ منه لأنه بيان للشيء مع دليل وبرهان أو يراد بالتبيان تبيان المعارف الإلهية الأسرار اللاهوتية وبالبيان بيان الأحكام الشرعية والقوانين العملية وتقديم الظرف إما لقصد الحصر أو القرب المرجع أو للاهتمام واشتمالة على ضمير الكتاب أو لربط الحال على ذي الحال ابتداء.
قوله (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون) قرآنا حال بعد حال عن الكتاب لتأكيد اشتماله على كل شيء وعربيا صفة مخصصة أو مادحة واشتماله على غير العربي نادرا لا يضر في عربيته، وغير ذي عوج أي لا اختلاف فيه أو لا شك صفة بعد صفة للمدح ولعلهم يتقون علة غائبة للإنذار
ص:168
ولم يذكر متعلق يتقون لقصد التعميم أو الاختصار أو التحرز عن توهم التخصيص.
قوله (قد بينه للناس) إما حال ثالثة للكتاب أو استئناف كأنه قيل: ما فعل به بعد إنزاله فأجاب بأنه قد بينه للناس. وفيه دلالة على أن الناس يحتاجون في فهم ما فيه من أمر المبدأ والمعاد وغيرهما إلى مبين والروايات الدالة على ذلك كثيرة بل متواترة معنى والعقل الصحيح شاهد له فبطل قوله من قال بأن الإمام بعد النبي هو القرآن للتخلص عن الموتة الجاهلية التي رووها عنه (صلى الله عليه وآله) «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ولم ينفعهم البيان النبوي لاتفاقهم على أنه لم يعلم أحد من الامة جميع ما فيه.
قوله (ونهجه) أي أوضحه من نهجت الطريق إذا أوضحته وهو عطف على «بينه» ولعل الأول متعلق ببيان مدلولاته الظاهرة والباطنة والثاني بايضاح دلائلها وبماديها ويحتمل تعلق الأول بالمدلولات الظاهرة والثاني بالمدلولات الباطنة.
قوله (يعلم قد فصله - إلى قوله وأعلنها لعل القرائن الأربع أحوال متعاقبة للقرآن أي حال كون متلبسا بعلم، من التفسير والتأويل والمجمل والمفصل والمحكم والمتشابه والعام والخاص قد فصله، وبدين من الشرائع والاحكام والمعارف قد أوضحه، وبفرائض من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها قد أوجبها ولم يرخص لهم تركها، وبحدود في الجروح والقصاص ونحوها حدها للناس وبينها، وبأمور من العبر والأمثال وغيرها قد كشفها لخلقه وأعلنها، وقوله «لخلقه» متعلق بالأخير أو بالأفعال الأربعة على سبيل التنازع وإنما قلنا: لعل، لاحتمال أن يكون متعلقا بنهجه على أن يكون نهجه من نهجت الطريق بمعنى سلكته.
قوله (فيها دلالة إلى النجاة) ينبغي الوقف ليتم السجع مع هداه أي في الأمور المذكورة دلالة نجاة العباد من النكال والعقوبة وخلاصهم من الوبال والصعوبة.
قوله (ومعالم تدعو إلى هداه) المعالم مواضع العلوم ومحلها وهي بالرفع عطف على دلالة وبالجر عطف على النجاة، وتدعو صفة لها، والهدى خلاف الضلالة، والضمير المجرور لله أو للرسول (صلى الله عليه وآله) أو للكتاب، والإضافة على جميع التقادير من باب إضافة المصدر إلى الفاعل ومفعول تدعو محذوف وهو العباد، وقيل الهدى بمعنى ما يهتدى به وهو الله أو الرسول أو الكتاب والإضافة على التقدير الأول لامية وعلى الأخيرين بيانية.
قوله (ما أرسل به) من الأوامر والنواهي وغيرها.
قوله (وصدع بما أمر) أي أجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو أظهره من صدعه إذا ظهره وبينه أو فرق به بين الحق والباطل من صدعه إذا شقه على سبيل الاستعارة والتشبيه لزيادة 169
المبالغة والايضاح و «ما» مصدرية أو موصوفة أو موصولة والعائد محذوف أي بما أمر به والباء على الأخيرين زائدة أو للتعدية على طريق التجوز.
قوله (وأدى ما حمل من أثقال النبوة) الأثقال جمع ثقل بالكسر وهو ضد الخفة أو جمع ثقل بالتحريك وهو متاع البيت، وأراد به هنا ما أتى به الوحي على سبيل الاستعارة وقد أدى كله إلى وصية أمير المؤمنين (عليه السلام).
قوله (وصبر لربه) أي صبر على تحمل ما حمل وتبليغه وأدى المعاندين وطعن الطاعنين لرضاء ربه وامتثال أمره.
قوله (وجاهد في سبيله) الذي هو دين الحق وطريق التوحيد مع قلة عدده وكثرة عدوه ومجاهداته مع الأعداء مشهورة وفي الآثار وكتب السير مسطورة.
قوله (ونصح لامته) النصح الخلوص والمراد به إرشادهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم وعونهم عليه والذب عنهم وعن أعراضهم.
قوله (ودعاهم إلى النجاة) أي دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى ما فيه نجاتهم من العقوبات والشدائد.
قوله (وحثهم على الذكر) أي على ذكر الله تعالى في جميع الأحوال بالقلب واللسان والمراد بالذكر كل ما يوجب التقرب منه تعالى.
قوله (ودلهم على سبيل الهدى بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها) لعل المراد بسبيل الهدى الدين الحق بالمناهج وهي الطرق الواضحة الأوصياء وبالدواعي المناهج التي تدعو إلى سبيل الهدى وبتأسيس أساس هذه المناهج والدواعي وضعها وتعيينها وأحكامها، ويحتمل أن يراد بالدواعي الأدلة الدالة على خلافة الأوصياء وأن يراد بسبيل الهدى والأوصياء وبالمناهج والدواعي الأدلة على خلافتهم.
قوله (ومنار رفع لهم أعلامها) المنار جمع منارة على غير القياس وأصلها منورة وهي موضع النور ومحله واستعير للأوصياء (عليهم السلام) لأنهم محال أنوار عقلية يستنير بها قلوب العارفين كما أن المشبه به محال أنوار حسية بها يبصر الأشياء أبصار الناظرين ورفع أعلامها عبارة عن نصب أدلة دالة على خلافتهم وإمامتهم.
قوله (كيلا يضلوا) علة غائية لما ذكر أي دلهم على سبيل الهدى إلى آخره كيلا يضلوا عن الدين من بعده إلى يوم القيامة والتمسك بذيل الهادي والإمام العادل والاهتداء بهداه.
قوله (وكان بهم رؤوفا رحيما) الواو للعطف على الأفعال السابقة أو للحال عن المستكن فيها أو
ص:170
عن البارز في «يضلوا».
124 - محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن جماعة من أصحابنا، عن أحمد بن هلال، عن أمية ابن علي القيسي قال: حدثني درست بن أبي منصور أنه سأل أبا الحسن الأول (عليه السلام): أكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا بأبي طالب؟ فقال: لا ولكنه كان مستودعا للوصايا فدفعها إليه (صلى الله عليه وآله) قال: قلت:
فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟ فقال: لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية، قال: فقلت:
فما كان حال أبي طالب؟ قال: أقر بالنبي وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه.(1)
قوله (سأل أبا الحسن الأول) سأل هل كان أبو طالب حجة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو محجوج به فقال (عليه السلام): لا، أي لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا بأبي طالب ولما زاد في الجواب أن أبا طالب كان مستودعا للوصايا ودفعها إليه، ولعل المراد بها وصايا عيسى (عليه السلام) (2) أو غيره، تمسك به السائل وقال ما قال وحاصله أن أبا طالب إن كان من أهل الوصية ودفعها إليه كان حجة عليه وكان (صلى الله عليه وآله) «محجوجا به فقال (عليه السلام)» «لو كان» أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا به وكان أبو طالب حجة عليه ما دفع اليه الوصية لأن الوصية مع الحجة ما دام حيا ثم سأل بقوله: فما كان حال أبي طالب، يعني إذا لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا به فهل كان محجوجا برسول الله وآمن به؟ فأجاب (عليه السلام) بأنه كان محجوجا بالنبي وأقر به وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه، لا يقال دفع الوصية في يوم الموت لا ينافي كون الدافع حجة على المدفوع إليه بل يجمعه كما في الأئمة (عليهم السلام) فلا يتم ما مر من أنه لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية لأنا نقول: موته في يوم الدفع لا يستلزم مقارنة الموت
ص:171
للدفع لجواز وقوع الدفع في أوله والموت في آخره فلا يكون الدافع حجة على المدفوع إليه لأن الحجة لا يبقى بعد دفع الوصية زمانا طويلا ولا قصيرا، على أن الواو لمطلق الجمع فعلى هذا يجوز أن يكون المراد أنه دفع إليه الوصية وآمن به باطنا ثم أقر به ومات من يوم الإقرار فليتأمل.
125 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن منصور بن العباس، عن علي بن أسباط، عن يعقوب بن سالم، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) بات آل محمد (عليهم السلام) بأطول ليلة حتى ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتر الأقربين والأبعدين في الله (1)، فبيناهم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة ونجاة من كل هلكة ودركا لما فات (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)(2) إن الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه واستودعكم علمه وأورثكم كتابه وجعلكم تابوت علمه، وعصا عزه وضرب لكم مثلا من نوره وعصمكم من الزلل وآمنكم من الفتن، فتعزوا بعزاء الله، فإن الله لم ينزع منكم رحمته ولن يزيل عنكم نعمته، فأنتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمت النعمة واجتمعت الفرقة وائتلفت الكلمة وأنتم أولياؤه، فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق، مودتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين، ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير فاصبروا لعواقب الامور، فانها إلى الله تصير، قد قبلكم الله من نبيه وديعة واستودعكم أولياءه المؤمنين في الأرض فمن أدى أمانته آتاه الله صدقه، فأنتم الأمانة المستودعة، ولكم المودة الواجبة والطاعة المفروضة وقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أكمل لكم الدين وبين لكم سبيل المخرج، فلم يترك لجاهل حجة، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه، والله من وراء حوائجكم، وأستودكم الله، والسلام عليكم.
فسألت أبا جعفر (عليه السلام) ممن أتاهم التعزية، فقال: من الله تبارك وتعالى.
قوله (بات آل محمد (صلى الله عليه وآله) بأطول ليلة) لسهرهم وشدة حزنهم والحزين يصف الليل بالطول.
قوله (أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم) أظله إذا ألقى الظل عليه وأقله إذا حمله ورفعه وذلك لما وقع عليهم من تلك المصيبة وما وصل إليهم من هذه الامة والنفي راجع إلى القيد أو إلى المقيد أو إليهما جميعا.
ص:172
قوله (وتر الأقربين والأبعدين) الوتر الذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة وهو طلب المكافاة بجناية جنيت على الرجل من قتل أو جرح أو نحو ذلك والحمل للمبالغة، والمقصود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان طالب الجنايات للأقارب والأباعد ودافع الجور والظلم عنهم وحافظ حقوقهم، وفي ذكر الأبعدين تنبيه على أن ذلك كان من كمال عدله وانصافه شفقة لخلق الله لا على التصعب كما هو شأن أكثر الخلق.
قوله (فبينما هم) في بعض النسخ «فبيناهم» وهما ظرفان مضافان إلى الجملة الاسمية أو الفعلية وخفض المفرد بهما قليل وبينما في الأصل بين التي هي ظرف مكان أشبعت فيها الحكرة فصارت بينا وزيدت الميم فصارت بينما ولما فيهما من معنى الشرط يفتقران إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما عند الأصمعي أن تصحبهما (إذ) و (إذا) الفجائيتان والأفصح عند غيره أن يجرد عنهما.
قوله (إذ أتاهم آت) روى الصدوق في كتاب كمال الدين بإسناده عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أن الرجل الآتي كان الخضر (عليه السلام).
قوله (إن في الله عزاء من كل مصيبة) العزاء الصبر، والهلكة والهلك بالتحريك الهلاك وبالضم والسكون ما يهلك منه أي بسببه من الذنوب الموجبة للنار، والدرك والإدراك اللحوق والوصول إلى الشيء تقول: أدرك الفائت إدراكا ودركا إذا وصلت إليه وتلاقيته، ولعل المراد أن في سبيل الله ودينه أو في طلب رضا الحق هذه الأمور، وفيه ترغيب في التوسل به لأنه أصل لجميع الخيرات.
قوله (كل نفس ذائقة الموت) فيه مكنية وتخييلية بتشبيه الموت بالمأكول والمشروب ونسبة الذوق إليه وليس الغرض هنا إفادة الحكم أو لازمة لعلم المخاطبين بهما وإنما الغرض حملهم على العمل بمقتضى علمهم وهو التصبر بتلك المصيبة لأن المصيبة إذا عمت طابت مع ما فيه من الوعد لهم والوعيد لمن ظلمهم.
قوله (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) أي إنما تعطون جزاء عملكم وهو الصبر في تلك المصيبة أو مطلقا تاما وافيا يوم تقومون من القبور وفيه أيضا وعد لهم بالإحسان والإكرام ووعيد لمن خالفهم بالإذلال والانتقام كما في قوله (فمن زحزح عن النار) أي بعد عنها (وادخل الجنة فقد فاز) أي فقد فاز بنيل الجنة ودرجاتها والنجاة من النار ودركاتها. روي علي بن إبراهيم عند تفسير هذه الآية بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديثا طويلا دل على أن قوله تعالى: (فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز) (1)نزل في محمد وعلي والحسن والحسين والأئمة من ذرية الحسين (عليهم السلام)
ص:173
وشيعتهم.
قوله (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) الحياة الدنيا إما معناها المعروفة أو لذات الدنيا وزخارفها وأسبابها، والمتاع بالفتح السلعة وما يتمتع به والمنفعة، والغرور بالضم إما مصدر بمعنى الخدع يقول: غره يغره غرورا إذا خدعه، أو جمع غار أو ما اغتر به من متاع الدنيا، والإضافة على الأولين لامية وعلى الأخير بيانية وقد شبه متاع الحياة الدنيا بالمتاع الذي يدلس صاحبه على المشتري ويغره ويخفي عليه عيبه ليشتريه، وفيه تسلية لهم على فوات ما أحبوه من حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وزوال ما قرر لهم من الملك والخلافة بغصب الأعداء.
قوله (إن الله اختاركم) لما ذكر أحوال الدنيا ومجملة وعدم اعتبارها ذكر جملة من فضائلهم التي لا يوازيها شيء تبشيرا لهم بالكرامة وتذكيرا لهم بأن ما آتاهم الله خير مما فات منهم وإنما ترك العطف لعدم التناسب بينهما.
قوله (وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه) كما قال جل شأنه: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
قوله (واستودعكم علمه) أي جعلكم حفظة لعلمه الذي أنزله من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء تقول. استودعته وديعة إذا استحفظته إياها.
قوله (وجعلكم تابوت علمه) التابوت الصندوق الذي يحرز فيه المتاع، قال الجوهري: أصله تابوة مثل ترقوة وهو فعلوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيت تاء.
قوله (وعصا عزه) العز والعزة القوة والغلبة ومنه العزيز في أسمائه تعالى وهو القوي الغالب الذي لا يغلب، وجعلهم عصا عزه كناية عن ظهور عزه تعالى في الخلق وقيامه بهم كقيام الرجل بالعصا إذ لو لم يكونوا لم يعرفه الخلق أصلا فضلا عن معرفته بأنه عزيز.
قوله (وضرب لكم مثلا من نوره) إشارة إلى آية النور وهي (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية وقد مر شرحها.
قوله (وعصمكم من الزلل) العصمة المنعة والزلل الزلقة، والمراد به هنا الذنب والخطأ يعنى منعكم الله من الذنب والخطأ في العقائد والأقوال والأعمال وفيه دلالة على أن العصمة موهبية لا كسبية كما ظن.
قوله (وآمنكم من الفتن) أي من الضلالة أو من الإثم والكفر والصرف عن الحق أو من فتنة النفس والشيطان وفتنة المحيا والممات وفتنة القبور وغيرها والتعميم أولى.
قوله (فتعزوا بعزاء الله) الفاء للتفريع لأن ما تقدم موجب لتعزيهم بعزاء الله والتعزي الانتساب
ص:174
والتأسي والتصبر عند المصيبة والترجيع وهو قول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» عندها كما أمر الله تعالى به وعزاء الله صبره الذي أمر به في مواضع من الكتاب أو تعزية الله إياهم بإقامة الاسم مقام المصدر والاحتمالات ثمانية حاصلة من ضرب الأربعة في الاثنين فتأمل فيها واتبع أحسنها.
قوله (فأنتم أهل الله عز وجل) أهل الله من كان حركاته وسكناته لله تعالى وموافقة لرضاه وقوله «الذين بهم تمت النعمة» أي نعمة الله على الخلق إما خبر بعد خبر أو صفة موضحة لأهل الله وهو إشارة إلى ما نزل يوم نصب علي (عليه السلام) للخلافة من قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).(1)
قوله (واجتمعت الفرقة) الفرقة بالضم الإسلام من المفارقة وفي إسناد الاجتماع إليها مبالغة في تبدل المفارقة بالجمعية ولو قرئت بالكسر واريد بها جنس الطائفة الشامل للطوائف المتفرقة لم يكن بعيدا.
قوله (وائتلفت الكلمة) الائتلاف والتألف مطاوع التأليف تقول ألفت بين الأشياء تأليفا فتألفت وائتلفت والمقصود أن بسبب تأليفهم بين العرب وغيرهم من الطوائف المختلفة في الآراء والعقائد والأعمال ائتلفت كلمتهم فيها.
قوله (وأنتم أولياؤه) أي أنصاره أو أحباؤه والأولى بالتصرف في أمور خلقه والمالك له.
قوله (مودتكم من الله واجبة في كتابه) كما قال جل شأنه مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله): (قل لا أسألكم عليه اجرا إلا المودة في القربى) (2)والقربى أهل البيت (عليهم السلام).
قوله (ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير) لا يبعد أن يكون المراد وما وعدهم الله ورسوله من نصر الصاحب المنتظر (عليه السلام).
قوله (فاصبروا لعواقب الأمور) لعل المراد بها ما وعد الله للصابرين أو الأعم منه ومما وعد من نصرة الصاحب (عليه السلام) أو الأعم منهما ومن الوعيد للمخالفين فيشمل الوعد والوعيد جميعا ويؤيده قوله: (فإنها إلى الله تصير) إذ فيه وعد ووعيد يعني أن الأمور أو عواقبها تصير إلى الله لا إلى غيره فيجزي كل أحد بما يستحقه.
قوله (قد قبلكم الله - إلى قوله - في الأرض) فأهل البيت وديعة النبي عند الله والأولياء المؤمنون وديعة الله عند أهل البيت فحفظ الأولياء عليهم وعلى الله كما أن حفظهم على الله وعلى الأولياء إذ لا يجوز لأحد ضياع وديعة الغير، ويفهم منه أن حفظ هذه الودايع ورعاية حقوق الإخوان من أفضل الأعمال وأكمل أركان الإيمان وقيد «في الأرض» إما لاستغراق الأولياء وزيادة تعميمه أو
ص:175
للإشعار بأن الدنيا هي دار الفساد فيحتاجون إلى معتمد يحفظهم عن فساد أهلها وأما الآخرة فهي دار الأمن لهم فلا يتطرق إليهم الفساد ولا يصل إليهم أيد الجور والعناد، وهذا الذي ذكرنا من أن الأولياء وديعة الله عند الأئمة هو الأظهر بالنظر إلى هذه العبارة، وأما العكس فهو الأنسب بظاهر قوله «فمن أدى أمانته أتاه الله صدقه» إذ الظاهر أن الضمير في أمانته راجع إلى «من» وأن الأمانة هي الوديعة التي استودعه الله إياها وأنه إذا أداها كما هي من غير تغلب وتقصير أعطاه الله جزاء صدقه من المثوبات الجزيلة والدرجات العالية، وانما قلنا: الظاهر ذلك لاحتمال أن يعود الضمير إلى الله أو إلى النبي، وأن يراد بالأمانة الوديعة التي قبلها الله تعالى من نبيه، وبأدائها الاعتراف بأنها وديعة النبي عند الله والإقرار بحقوقها وعدم قطعها من الله، والله أعلم.
قوله (وبين لكم سبيل المخرج) أي سبيل الخروج من الباطل إلى الحق أو من الدنيا إلى الآخرة) أو من الجور إلى العدل أو من الشر إلى الخير أو من الفساد إلى الصلاح أو من العكس في الجميع، وبالجملة بين كل ماله مدخل في الدخول في الدين والخروج عنه.
قوله (والله من وراء حوائجكم) الوراء فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبي علي الفارسي وياء عند العامة وهو من ظروف المكان بمعنى خلف وقدام من الأضداد، وهذا الكلام تمثيل والمعنى أنه تعالى يعلم حوائجكم فيقضيها كمن يكون وراء الشيء مهيمنا لديه ومحافظا عليه.
قوله (واستودعكم الله) الظاهر أن استودع بفتح الهمزة على صيغة المتكلم أي أجعلكم وديعة عند الله واستحفظه إياكم.
126 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن إسماعيل بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا رئي في الليلة الظلماء رئي له نور كأنه شقة قمر.(1)
قوله (كأنه شقة قمر) من طريق العامة أن نور وجهه يرى على الحائط في الليل. الشق بالكسر نصف الشيء وكذا الشقة والظاهر منها نصف جرم القمر ويجوز أن يراد منها نفس القمر في وسط الشهر أعني البدر الكامل نوره فعلى الأول شبه كلا من نصفي الوجه بنصف القمر وعلى الثاني شبه وجهه في النور والإضاءة في البدر الكامل، واعلم أن تشبيه الشيء بالشيء إنما يكون فيما اختص واشتهر به الشيء المشبه به مع القصد إليه، فتشبيه الوجه بالقمر إنما يكون في النور والإضاءة لا في
ص:176
جميع أوصافه فقد أخطأ من عاب هذا التشبيه باعتبار أن في القمر الكلف.
127 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبيد الله، عن أبي عبد الله الحسين الصغير، عن محمد ابن إبراهيم الجعفري، عن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ومحمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن فضال، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب - وفي رواية ابن فضال - وفاطمة بنت أسد.
قوله (فالصلب صلب أبيك) ذهبت الفرقة الناجية رضي الله عنهم إلى أن أبوي النبي (صلى الله عليه وآله) لم يدنسهما الكفر ولا صفات الجاهلية وأن أبا طالب آمن به والروايات على ذلك متظافرة، وذهب المخالفون خذلهم الله إلى أن أبا طالب مات في الكفر وأما أبواه فقال بعضهم: إنهما ماتا كافرين وإنهما معذبان في النار واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم من أنه (عليه السلام) قال لرجل حين سأله عن حال أبيه وأين هو: إن أبي وأباك في النار.
وقال السهيلي: ليس لنا أن نقول ذلك وقد قال ذلك لحسن خلقه تسلية لذلك الرجل وبما رواه أبو هريرة قال: «زار النبي (صلى الله عليه وآله) امه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي وأستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت». قال القاضي القرطبي: في هذا الحديث دلالة على جواز زيارة المشركين في الحياة لأنه إذا جازت زيارته بعد الموت ففي الحياة أولى وعلى تحريم الاستغفار للكفار، وأما بكاؤه فلأجل أنها لم تدرك أيامه لتؤمن به، وقال بعضهم: إنهما ماتا كافرين ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) سأل الله تعالى فأحياهما فآمنا به وإنما ذكرنا مقالتهم مجملا لتعلم سوء عقائدهم والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
128 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يحشر عبد المطلب يوم القيامة امة وحده، عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك.(1)
ص:177
قوله (قال يحشر عبد المطلب يوم القيامة امة وحده) (1) الامة الرجل المنفرد بدين كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان امة (2) قانتا لله) والمقصود أنه إذا حشر الناس فوجا فوجا وامة امة حشر عبد المطلب وحده لأنه كان منفردا في زمانه بدين الحق ولرعاية حق النبي (صلى الله عليه وآله)، والسيماء بالمد والقصر العلامة، والأصل فيها الواو فقلبت الكسرة السين، والهيبة المهابة وهي العظمة والإجلال والمخافة.
129 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن الهيثم بن واقد، عن مقرون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عبد المطلب أول من قال بالبداء; يبعث يوم القيامة أمة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء.
قوله (قال إن عبد المطلب أول من قال بالبداء) أي أول من قال بهذا اللفظ أو أول من قال من أولاد إسماعيل، أو أول من قال من غير الأنبياء والأوصياء، فلا ينافي ما مر عن أبي عبد الله (عليه السلام) من أنه ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس وعد منها البداء وقد عرفت معنى البداء وفضله في بابه.
130 - بعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن عبد الرحمن ابن الحجاج [و] عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يبعث عبد المطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء وذلك أنه أول من قال بالبداء، قال:
وكان عبد المطلب أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رعاته في إبل قد ندت له، فجمعها فأبطأ عليه فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: «يارب أتهلك؟ ألك إن تفعل فأمر ما بدا لك» فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالإبل وقد وجه عبد المطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه وجعل يصيح: «يا رب أتهلك ألك إن تفعل فأمر ما بدا لك» ولما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذه فقبله وقال: يا بني لا وجهتك بعد هذا
ص:178
في شيء فإني أخاف أن تغتال فتقتل.(1)
قوله (في إبل قد ندت له) أي في إبل له قد ندت أي نفرت وذهبت على وجهها شاردة.
قوله (يا رب أتهلك ألك إن تفعل فأمر ما بدا لك) الاستفهام في المواضع الثلاثة على حقيقته أو للإنكار ومفعول تهلك محذوف أي أتهلك محمدا أو عبادك لعلمه بأن ابنه محمدا سيبعث رسولا عليهم هاديا لهم فيكون إهلاكه إهلاكهم، ألك، أن تفعل هذا الفعل المخصوص وهو إهلاكه أو إهلاكهم فأمر ما أي إذ أمر من الأمور وسبب من الأسباب بدا لك في إهلاكه وإهلاكهم بعد ما قدرت رسالته وهدايتهم، ومنهم من قرأ آلك بمد الألف على أنه مفعول تهلك وآل الله وأهل الله من كان لله وآثر رضاه على رضا نفسه، وقرئ «إن تفعل» بكسر الهمزة على الشرط وجعل فأمر على صيغة الأمر جزاه وقال: معناه إن تفعل فامر ما بدا لك، يعني فأهلكني قبل أهلاكه أو فامر ما بدا لك في عدم إهلاكه فليتأمل.
قوله (فإني أخاف أن تغتال فتقتل) الاغتيال أن يخدعه ويذهب به إلى موضع لا يراه فيه أحد فيقتله، وإنما خاف ذلك لظهور أثر النجابة والجلالة والعظمة والمجد فيه عند الحاسدين.
131 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما أن وجه صاحب الحبشة بالخيل ومعه الفيل ليهدم البيت، مروا بإبل لعبد المطلب فساقوها فبلغ ذلك عبد المطلب فأتى صاحب الحبشة فدخل الآذن، فقال: هذا عبد المطلب بن هاشم قال: وما يشاء؟ قال الترجمان: جاء في إبل له ساقوها يسألك ردها فقال: ملك الحبشة لأصحابه: هذا رئيس قوم وزعيمهم، جئت إلى بيته الذي يعبده لأهدمه وهو يسألني إطلاق إبله، أما لو سألني الإمساك عن هدمه لفعلت، ردوا عليه إبله، فقال عبد المطلب لترجمانه: ما قال لك الملك؟ فأخبره فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه، فردت إليه إبله وانصرف عبد المطلب نحو منزله، فمر بالفيل في منصرفه; فقال للفيل: يا محمود فحرك الفيل رأسه، فقال له: أتدري لم جاؤوا بك؟ فقال الفيل برأسه: لا، فقال عبد المطلب: جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتراك فاعل ذلك؟ فقال برأسه: لا، فإنصرف عبد المطلب إلى منزله فلما أصبحوا غدوا به لدخول الحرم فأبى وامتنع عليهم، فقال عبد المطلب لبعض مواليه عند ذلك: اعل الجبل فانظر ترى شيئا؟ فقال: أرى سوادا من قبل
ص:179
البحر، فقال له: يصيبه بصرك أجمع؟ فقال له: لا ولأوشك أن يصيب، فلما أن قرب، قال: هو طير كثير ولا أعرفه يحمل كل طير في منقاره حصاة مثل حصاة الخذف أو دون حصاة الخذف، فقال عبد المطلب: ورب عبد المطلب ما تريد إلا القوم، حتى لما صارت فوق رؤوسهم أجمع ألقت الحصاة فوقعت كل حصاة على هامة رجل فخرجت من دبره فقتلته فما انفلت منهم إلا رجل واحد يخبر الناس، فلما أن أخبرهم ألقت عليه حصاة فقتلته.(1)
قوله (لما أن وجه صاحب الحبشة) وجه ملك الحبشة أبرهة بن الصباح ملك اليمن وكان تابعا لملك الحبشة ليهدم الكعبة الكعبة بالخيل والأفيال وكان فيها فيل عظيم جسيم أبيض اسمه محمود سموه به لأن الفتح والظفر كان لعسكر هو فيه وسبب ذلك أن أبرهة بنى في الصنعاء كنيسة في غاية الرفعة ونهاية الزينة وأمر الخلق بزيارتها وقصد هدم الكعبة وتخريبها لترويج كنيسته فأرسل إلى ملك الحبشة وأظهر قصده وطلب منه الإمداد بالخيل والأفيال فأجابه فسار مع العساكر والأفيال إلى الحجاز ونهب الأموال وساق المواشي ومن جملة ما ساق إبل عبد المطلب وكانت مائتين على ما نقله أرباب السير وأرسل إلى قريش وأخبرهم بأنه ما جاء ليحاربوهم ويقتلوهم وإنما جاء لهدم الكعبة فقط.
قوله (قال الترجمان) هو من يفسر لكلام أحد بلسان آخر.
قوله (وزعيمهم) زعيم القوم كفيلهم وسيدهم.
قوله (فلما أصبحوا غدوا به) أي بمحمود وقدموه على سائر الأفيال في المقدمة وسار العساكر خلفها، ولما بلغ محمود حد الحرم وقف وأبى من الدخول فيه وامتنع على سائقه ولم يؤثر فيه جلبته ووقف العساكر خلفه صفوفا وحينئذ وقعت الواقعة.
قوله (ولا أعرفه) أي لا أعرف أنه أي نوع من أنواع الطيور.
قوله (مثل حصاة الخذف) في المقدار والصغر والخذف أي ترمى بحصاة أو نواة أو نحوها تأخذه بين سبابتيك، وقيل أن يضع طرف الابهام على طرف السبابة، وفعله من باب ضرب.
قوله (فخرجت من دبره) ومن كان راكبا خرجت من سرة مركوبه أيضا فقتلت الجميع ولم ينفلت إلا محمود ورجل واحد يخبر الناس وهو أبرهة فإنه فر ودخل على ملك الحبشة وقص عليه القصة وتعجب منها الملك فإذا طير من تلك الطيور كان يطير فوق رأسه فقال أيها الملك كانت الطيور من جنس هذا الطير فألقى الطير ما كان معه من الحصاة فوقعت على رأسه وخرجت من دبره
ص:180
فقتله.
132 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن رفاعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عبد المطلب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره وكان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه، فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه، فقال له عبد المطلب: دع ابني فإن الملك قد أتاه.(1)
قوله (بفناء الكعبة) الفناء بالكسر سعة أمام البيوت وقيل ما امتد من جوانبها، والجمع أفنية.
قوله (يدرج) درج يدرج دروجا من باب نصر فهو دارج إذا دب ومشى.
قوله (فإن الملك قد أتاه) الظاهر فتح الميم واللام مع جواز الضم والسكون وأتاه على الأول يحمل على ظاهره وعلى الثاني على خلاف ظاهره بتنزيل ما يقع منزلة الواقع لتحقق وقوعه.
133 - محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن علي بن المعلى، عن أخيه محمد، عن درست بن أبي منصور، عن علي بن أبي حمزة (2)، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما ولد النبي (صلى الله عليه وآله) مكث أياما ليس له لبن، فألقاه أبو طالب على ثدي نفسه، فأنزل الله فيه لبنا فرضع منه أياما حتى وقع أبو طالب على حليمة السعدية فدفعه إليها.
قوله (مكث أياما ليس له لبن) إذا لم يكن لامه لبن ومن طرق العامة قال (عليه السلام) «كنت عجيا» قال الزمخشري في الفايق: العجي هو الذي لا لبن لامه أو ماتت امه وكذلك كان (عليه السلام) يعلل بلبن غيرها.
قوله (على حليمة السعدية) هي حليمة بنت أبي ذويب من قبيلة بني سعد بن بكر بن هوازن.
134 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين.
قوله (إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين) مرة لإيمانهم ومرة لتقيتهم، واعلم أن الإيمان كما سيجئ هو التصديق القلبي وحده
ص:181
والإقرار باللسان شرط لقبوله أو دليل على تحققه وثبوته، ومنهم من جعل الإيمان مركبا من المجموع وعلى التقديرين يسقط الإقرار عند التعذر بالنطق كما في حال التقية ونحوها، وترك أبي طالب للإقرار إنما هو للتقية فلا نقصان في إيمانه على أن تركه مطلقا غير ثابت بل الظاهر أنه تركه عند الناس لا عند النبي (صلى الله عليه وآله) وحده، ومما ذكرنا ظهر اندفاع ما ذهب إليه بعض العامة من أنه قد ثبت في السير أن أبا طالب كان مصدقا بقلبه وحده والتصديق القلبي مع القول بأنه هو الإيمان وحده لا ينفع لأن الإقرار شرط لقبوله على أن الإقرار لا يجوز تركه مع القدرة اتفاقا وأما إنه شرط لقبول الإيمان فهو محل كلام.
135 - الحسين بن محمد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) قال: قيل له: إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافرا؟ فقال: كذبوا كيف يكون كافرا وهو يقول:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب وفي حديث آخر: كيف يكون أبو طالب كافرا وهو يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل (1)
قوله (ألم تعلموا أنا) الخطاب للمنكرين والمقرين جميعا للدعوة والتثبيت أو للمنكرين فقط والاستفهام على حقيقته أو للتقرير والتوبيخ والتشبيه بموسى في أصل النبوة والعزم وكونه صاحب شريعة وشوكة ولا ينافي ذلك فضله عليه، والمراد بكونه مخطوطا في أول الكتب كون اسمه ونعته مذكورا في الكتب المتقدمة وفيه دلالة على أن كل من أنكره أنكره حسدا وعنادا كما يشعر به قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(2).
قوله (لقد علموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل) هذا البيت وتاليه في قصيدة مشهورة لأبي طالب (رضي الله عنه) عند العامة والخاصة وأكثر أبياتها مذكورة في الطرائف، والعبأ المبالاة بالشيء والاعتناء وإنما قال «ابننا» ولم يقل «محمد» للافتخار به يعني قد علموا والله أن ابننا محمدا غير مكذب لدينا لطلوع أنوار الصدق من مطلع لسانه وظهور ضياء الحق من أفق بيانه، وعلموا أيضا أنه لا يبالي بقول أهل الباطل الذين ينكرون نبوته ويدعون مع الله إلها
ص:182
آخر ولا يعده بشيء إذ لا قدر للباطل ولا أهله عنده.
قوله (وابيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل) البياض أحسن الألوان ولذلك يوصف به كل محسن ويجعل كناية عن الأفعال الحسنة. والغمام السحاب، والثمال بالكسر، الغياث يقال: فلان ثمال قومه أي غياث لهم وقائم بأمرهم، والعصمة المنعة والعاصم المانع الحامي كذا فسره ابن الأثير في النهاية، ثم قال: ومنه شعر أبي طالب «ثمال اليتامى عصمة للأرامل» أي يمنعهم من الحاجة والضياع، والأرامل جمع الأرملة وهي المرأة التي مات زوجها وهي فقيرة محتاجة، والمراد به أنه (صلى الله عليه وآله) أبيض الوجه وجواد يطلب السحاب ماء بماء وجهه والبواقي ظاهرة.
136 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا النبي (صلى الله عليه وآله) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلى ناقة فملؤوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء الله فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عم كيف ترى حسبي فيكم؟ فقال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف وقال لحمزة: خذ السلى، ثم توجه إلى القوم والنبي معه فأتى قريشا وهم حول الكعبة، فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه، ثم قال لحمزة: أمر السلى على سبالهم ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم، ثم التفت أبو طالب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا.(1)
قوله (وعليه ثياب له جدد) الجدد بضم الجيم وفتح الدال جمع الجدة وهي الخطة والطريقة قال الله تعالى: «ومن الجبال جدد بيض وحمر» أي طرائق تخالف لون الجبل وكساء مجدد فيه خطوط مختلفة والمقصود أن ثيابه كانت وشاء خلط فيها لون بلون قوله (سلى ناقة) السلى مقصورا الجلدة الرقيقة التي فيها الولد من المواشي، قوله (أمر السلى على سبالهم) السبال بالكسر جمع السبلة بالتحريك وهي الشارب وقيل هي الشعرات التي هي تحت اللحى الأسفل، وقيل: هي عند العرب مقدم اللحية ومنها على الصدر.
137 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي نصر، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد اخرج
ص:183
من مكة، فليس لك فيها ناصر، وثارت قريش بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فخرج هاربا حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له: الحجون فصار إليه.
قوله (يقال له الحجون) قال ابن الأثير: الحجون الجبل المشرف مما يلي شعب الجزارين بمكة، وقيل: هو موضع بمكة فيه اعوجاج والمشهور الأول وهو بفتح الحاء.
138 - علي بن محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الله رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبا طالب أسلم بحساب الجمل، قال بكل لسان.(1)
قوله (قال: إن أبا طالب أسلم بحساب الجمل قال بكل لسان (2)) لعل المراد بالحساب العدد والقدر وبالجمل جمع الجملة وهي الطائفة يعني أنه آمن بعدد كل طائفة وقدرهم وقوله: بكل لسان تفسير لقوله: بحساب الجمل، وكذا في الحديث التالي. وأما قوله «وعقد بيده ثلاثا وستين» فلعله أراد به عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على الوسطى فإنه يدل على هذا العدد عند أهل الحساب وأراد بهذا الرمز أنه آمن بالله مدة عمر زمان تكليفه وهي ثلاث وستون سنة أو آمن برسول الله في سنة ثلاث وستين من عمره هذا، وقال بعض الأفاضل: معنى قوله عقد بيده ثلاثا وستين أنه
ص:184
أشار بإصبعه المسبحة لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على الوسطى يدل على الثلاث والستين على اصطلاح أهل الحساب (1) وكان المراد بحساب الجمل
ص:185
هذا (1) والدليل على ما ذكرته ما ورد في رواية شعبة عن قتادة عن الحسن في خبر طويل ننقل منه موضع الحاجة هو أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكى وقال: يا محمد إني أخرج من الدنيا ومالي غم إلا غمك إلى أن قال (صلى الله عليه وآله): يا عم إنك تخاف علي أذى أعادي ولا تخاف على نفسك عذاب ربي. فضحك أبو طالب وقال: يا محمد دعوتني وقد كنت أمينا وعقد بيده على ثلاثة وستين عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على أصبعه الوسطى وأشار بإصبعه المسبحة (2)
ص:186
يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقام علي (عليه السلام) وقال: الله أكبر الله أكبر والذي بعثك بالحق نبيا لقد شفعك في عمك وهداه بك. فقام جعفر وقال: لقد سدتنا في الجنة ياشخي كما سدتنا في الدنيا. فلما مات أبو طالب أنزل الله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) انتهى. وأما قوله (عليه السلام): قال بكل لسان، فكأنه أشار إلى أن ما روي من أنه إنما أسلم بلسان الحبشة غير واقع بل أسلم بلسان العرب أيضا والمراد أنه قال بكل لسان حتى بلسان الحبشة أيضا، في تفسير الوكيع قال حدثني سفيان عن منصور وإبراهيم عن أبيه عن أبي ذر الغفاري قال والله الذي لا إله غيره ما مات أبو طالب حتى أسلم بلسان الحبشة، قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) اتفقه الحبشة قال: نعم يا عم إن الله علمني جميع الكلام قال: يا محمد أسدن لمصاقا فاطالاها، يعني أشهد مخلصا لا إله إلا الله فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: إن الله أقر عيني بأبي طالب.
وهاتان الروايتان نلقتهما عن كتاب مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (رضي الله عنه)، وقد روى الصدوق (رضي الله عنه) في كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن أبي الفرج محمد بن المظفر بن نفيس المصري الفقيه قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد الداودي عن أبيه قال كنت عند أبي القاسم الحسين بن روح (قدس سره) فسأله رجل قال: قول العباس للنبي (صلى الله عليه وآله): إن عمك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمل وعقد بيده ثلاثة وستين، فقال: عني بذلك إله أحد جواد وتفسير ذلك أن الألف واحد، واللام ثلاثون، والهاء خمسة، والألف واحد، والحاء ثمانية والدال أربعة، والجيم ثلاثة والواو ستة. وآلاف واحد، والدال أربعة فذلك ثلاثة وستون. ولا يخفي عليك بعد هذا التأويل جدا وأن قوله بيده لا فائدة له (1) حينئذ سواء كان الضمير لعباس أو لأبي طالب على ما هو الأظهر، إلى هنا كلام ذلك الفاضل، وأورد عليه بعض المعاصرين بأنه لا يخفى على ذي مسكة عدم اطلاع ذلك الفاضل (2)
ص:187
على مضمون الخبر وصار ذلك سببا لجرأته على الإيراد (1) ورد الخبر إذ المراد أن أبا طالب أظهر إسلامه للنبي (صلى الله عليه وآله) كما هو ظاهر الخبر السابق أو لغيره كما يظهر من هذا الخبر بحساب العقود بأن أظهر الألف أولا ثم اللام ثم الهاء (2) وهكذا ذلك لأنه (رضي الله عنه) كان يتقى من قريش ويخفي منهم إسلامه ولذلك آتاه أجره مرتين ويظهر منه التوجيه مع إرجاع الضمير إلى العباس أيضا بل يرد الإيراد على ما اختاره من الحمل أولا بأن تسمية العقود حساب الجمل لم يعهد (3) في لغة ولا اصطلاح.
وهاهنا وجوه اخر منها أنه إشارة إلى (لا) و (إلا) وهي كناية عن كلمة التوحيد إذ العمدة فيها النفي والإثبات، ومنها أن عقد ثلاث وستين إشارة إلى سج أمر من التسجية وهي التغطية والإخفاء أي أخفى إيمانه لمكان التقية وهو المنقول عن الشيخ بهاء الملة والدين، ومنها أنه إشارة إلى أنه أسلم بثلاث وستين لغة، ومنها أنه إشارة إلى أنه أسلم بثلاث وستين سنة، ومنها أن أبا طالب كان
ص:188
عالما بالجفر وأنه علم نبوة نبينا قبل بعثته بالجفر بسبب حساب مفردات حروفه، والله أعلم بحقيقة كلام وليه.
139 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن علي ابن الحزور الغنوي، عن أصبغ بن نباتة الحنظلي قال: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم افتتح البصرة وركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) [ثم] قال: أيها الناس ألا أخبركم بخير الخلق يوم يجمعهم الله، فقام إليه أبو أيوب الأنصاري فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدثنا فإنك كنت تشهد ونغيب، فقال: إن خير الخلق يوم يجمعهم الله سبعة من ولد عبد المطلب لا ينكر فضلهم إلا كافر ولا يجحد به إلا جاحد، فقام عمار بن ياسر (رحمه الله) فقال: يا أمير المؤمنين سمهم لنا لنعرفهم فقال: إن خير الخلق يوم يجمعهم الله الرسل وإن أفضل الرسل محمد (صلى الله عليه وآله) وإن أفضل كل امة بعد نبيها وصي نبيها حتى يدركه نبي ألا وإن أفضل الأوصياء وصي محمد عليه وآله السلام، ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة، لم ينحل أحد من هذه الامة جناحان غيره، شيء كرم الله به محمد (صلى الله عليه وآله) وشرفه والسبطان الحسن والحسين والمهدي (عليهم السلام)، يجعله الله من شاء منا أهل البيت، ثم تلا هذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما).(1)
قوله (عن علي بن الحزور) بالحاء والزاي المفتوحتين والواو المشددة.
قوله (فإنك كنت تشهد وتغيب) أي تغيب عنا فالفرصة غنيمة وفي بعض النسخ «نغيب» بالنون أي كنت تشهد رسول الله وفي أوقات كنا نغيب عنه فيها كذلك قيل.
قوله (ولا يجحد به إلا جاحد) أي جاحد بالله تعالى أو بمحمد (صلى الله عليه وآله) لا بفضلهم فلا يرد أن حمل الجحد على الجاحد بلا فائدة.
قوله (وإن أفضل الرسل محمد (صلى الله عليه وآله)) مثل هذه الرواية رواه صاحب الطرائف نقلا عن الشافعي ابن المغازلي بإسناده في كتاب المناقب يرفعه إلى أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «يا فاطمة، إنا أهل البيت اعطينا سبع خصال لم يعطها أحدا من الأولين والآخرين قبلنا - أو قال:
الأنبياء ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا - نبينا أفضل الأنبياء وهو أبوك ووصينا أفضل
ص:189
الأوصياء وهو بعلك وشهيدنا أفضل الشهداء وهو حمزة عمك ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث شاء وهو ابن عمك ومنا سبطا هذه الامة وهما ابناك ومنا - والذي نفسي بيده - مهدي هذه الامة».
قوله (ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب) أراد بالشهداء من استشهد في عصره إلى سالف الزمان، أو العام مخصص بالحسين (عليه السلام) فلا ينافي أن الحسين (عليه السلام) أفضل الشهداء على الإطلاق.
قوله (وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان) أي بدمه، في كتاب إكمال الإكمال جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) يكنى أبا عبد الله وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين وكان من المهاجرين الأولين هاجر إلى الحبشة وقدم منها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعانقه وقال: «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر» وكان قدومه من الحبشة في السنة السابعة وقال له: «أشبهت خلقي وخلقي» ثم غزى غزوة مؤتة سنة ثمان فقتل فيها بعد أن قاتل حتى قطعت يداه معا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله تعالى أبدله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، فمن ثم قيل له: ذو الجناحين، ولما بلغه (صلى الله عليه وآله) نعى جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها فيه، فدخلت فاطمة تبكى وتقول واعماه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله تعالى أبدله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة على مثل جعفر فلتبك البواكي».
قوله (ثم تلا هذه الآية: (ومن يطع الله والرسول) أشار به إلى فضل شيعتهم وكمال اتصافهم بهم ظاهرا وباطنا مع ما فيه من الترغيب في طاعة الرسول وطاعة أولى الأمر من بعده حيث علم أن ثمرتها مرافقة هؤلاء الأخيار ومصاحبة هؤلاء الأبرار.
قوله (وحسن اولئك رفيقا) فيه معنى التعجب لزيادة الترغيب في الطاعة قال القاضي: و «رفيقا» نصب على التميز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق أو لأنه اريد وحسن كل واحد رفيقا.
قوله (ذلك الفضل من الله) ذلك مبتدأ وإشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة هؤلاء الأخيار، أو إلى فضل هؤلاء الأخيار وعلو منزلتهم، والفضل صفة «ذلك» و «من الله» خبره أو الفضل خبره و «من الله» حال والعامل فيه معنى الإشارة كذا في تفسير القاضي.
قوله (وكفى بالله عليما) فيعلم المطيع ويجزيه على قدر استحقاقه بل زائدا عليه تفضيلا وفيه أيضا ترغيب في الطاعة لأن المطيع إذا علم أن المطاع عالم بفعله وإطاعته ازداد سعيه إلى الانقياد وشوقه إلى الطاعة.
ص:190
140 - محمد بن الحسين، عن سهل بن زياد، عن علي بن النعمان، عن أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: كيف كانت الصلاة علي النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لما غسله أمير المؤمنين (عليه السلام) وكفنه سجاه ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ثم وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في وسطهم فقال: «إن الله وملائكة يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» فيقول القوم كما يقول حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي.(1)
قوله (لما غسله أمير المؤمنين (عليه السلام)) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولقد وليت غسله (صلى الله عليه وآله) والملائكة أعواني فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج. وما فارقت سمعي هنيمة (أي صوت خفي) منهم، يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حيا وميتا» كذا في نهج البلاغة.
قوله (فداروا حوله) الظاهر أن ضمير حوله راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ورجوعه إلى علي (عليه السلام) بعيد ثم الظاهر أن صلاتهم كانت مجرد قراءة هذه الآية من غير تكبير ولا دعاء إلا أن يقال: إن قراءتها كانت قبل الصلاة، والله أعلم.
قوله (وأهل العوالي) في النهاية: العوالي أماكن بأعلى أرضى المدينة والنسب إليها علوي غير قياس وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة النجد ثمانية، وفي المغرب العوالي موضع على نصف فرسخ من المدينة، وفي كتاب إكمال الإكمال عوالي المدينة القرى التي عند المدينة.
141 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن سيف، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) صلت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجا فوجا، قال: وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في صحته وسلامته: إنما أنزلت هذه الآية علي في الصلاة علي بعد قبض الله لي: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).(2)
قوله (إنما أنزلت هذه الآية على في الصلاة) على ظاهره يشعر بما ذكرناه من أن صولته كانت قراءة هذه الآية.
قوله (ما معنى السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله)) لما كان السلام شائعا في التحية بالسلامة عن الآفات
ص:191
والفتن والعقوبة الدنيوية والآخروية وموجباتها سأله هل المراد من السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا المعنى أو معنى آخر؟ فأجاب (عليه السلام) بأن له تأويلا آخر وهو المقصود الأصلي هنا بيانه أنه تعالى لما خلق نبيه ووصيه وابنته وجميع الأئمة وشيعتهم أخذ على شيعتهم أو على الجميع الميثاق والعهد بالربوبية والنبوة والولاية والصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى ووعدهم أن يسلم لهم الأرض المباركة وهي هذه الأرض سميت مباركة لكونها منازل الأنبياء والأوصياء والصلحاء ومعبدهم ومحل استباقهم أو بيت المقدس أو الكوفة أو الجميع وأن يسلم لهم الحرم الآمن وهو حرم مكة أو المدينة أو كلاهما وأن ينزل لهم البيت المعمور وهو بيت الشرف والمجد أو البيت الذي في السماء حيال الكعبة في عصر الصاحب (عليه السلام) وأن يظهر لهم السقف المرفوع أي عيسى (عليه السلام) لكونه عالما مرفوع المنزلة أو مرفوعا من الأرض إلى السماء أو السماء بإرسال عزاليها وإنزال أمطارها الموجب للخصب والرخاء وسعه العيش وأن يريحهم من عدوهم بقهر المهدي وإهلاكه إياهم ووعد لهم الأرض التي يبدلها الله من دار السلام وهي الجنة ويسلم ما فيها لهم لا خصومة فيها لعدو فهم لانتفاء قدرتهم فيها وزهوق الباطل هناك فلا يمكن لهم المنازعة مع أهل الحق بخلاف الدنيا وأن يكون لهم فيها ما يحبون مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وأخذ أيضا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جميع الامة والشيعة الميثاق بذلك والسلام عليه (صلى الله عليه وآله) إنما هو تذكر نفس الميثاق وتجديد له على الله تعالى لعله أن يعجل الوعد، وبالجملة أخذ الله ورسوله عليهم الميثاق بما ذكروا ووعد لهم أن يؤجرهم بالوفاء به وأن يسلم لهم الأمور المذكورة والسلام على النبي تذكرة للعهد وطلب لتعجيل الوعد.
142 - بعض أصحابنا رفعه، عن محمد بن سنان، عن داود بن كثير الرقي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما معنى السلام على رسول الله؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما خلق نبيه ووصيه وابنته وابنيه وجميع الأئمة وخلق شيعتهم أخذ عليهم الميثاق وأن يصبروا ويصابروا ويرابطوا وأن يتقوا الله ووعدهم أن يسلم لهم الأرض المباركة والحرم الآمن وأن ينزل لهم البيت المعمور ويظهر لهم السقف المرفوع ويريحهم من عدوهم والأرض التي يبدلها الله من السلام ويسلم ما فيها لهم، لا شية فيها - قال: لا خصومة فيها - لعدوهم وأن يكون لهم فيها ما يحبون وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جميع الأئمة وشيعتهم الميثاق بذلك; وإنما السلام عليه تذكرة نفس الميثاق وتجديد له على الله، لعله أن يعجله جل وعز ويعجل السلام لكم بجميع ما فيه.(1)
ص:192
قوله (وإن يصبروا ويصابروا ويرابطوا) الصبر أصله الحبس يقال صبرت نفسي على كذا أي حبستها والربط أصله الشد، يقال: ربط الدابة أي شده والمرابطة: الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وأعدادها في الثغور وقد يطلق على ربط النفس على الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، ولعل المقصود أنه تعالى أخذ عليهم أن يصبروا على الدين ومشاق تكاليفه وسائر ما ينزل عليهم من النوائب والمصائب وأن يصابروا أعداءهم في الجهاد ويغالبوهم في الصبر على شدائد الحروب أو يحمل بعضهم بعضا على الصبر في الشدائد وأن يرابطوا أي يقيموا على جهادهم أو على الثغور بأنفسهم وخيولهم أو على الطاعات مطلقا.
قوله (والأرض التي يبدلها الله من السلام) عطف على أن يسلم لا على أن يريحهم لأنه عطف على ينزل أو يسلم ولا يصح تقدير «أن» هنا ولا على البيت المعمور للزوم الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه ولبعد تعلق الإنزال بها في الجملة ولا على الأرض المباركة وإن صح بحسب المعنى للزوم الفصل بالأجنبي، والظاهر أن من السلام بيان للأرض وأن المراد بها دار السلام وهي الجنة وحمل من على التعليل للتبديل وحمل الأرض على أرض الدنيا أن يبدلها الله من أجل السلام، وبسببه يعني يجعلها سالمة لهم بعدما لم تكن، بعيد جدا.
قوله (ويسلم ما فيها لهم) عطف على يبدلها وقوله لا شية فيها حال مؤكدة.
143 - ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: اللهم صل على محمد صفيك، وخليلك ونجيك، المدبر لأمرك.
قوله (قال سمعته يقول اللهم صل على محمد) وجه ذكره في هذا الباب غير ظاهر وفيه دلالة على جواز الصلاة على النبي منفردا، والصفي المصطفى المختار والذي يصافي الود لصاحبه ويخلصه له، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، والخليل الصديق المحب من الخلة وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في باطنه ولذلك يخص بمن كانت خلته مقصورة على حب الله تعالى ليست فيها شركة لغيره، وهي حالة شريفة لا ينالها أحد بكسب واجتهاد، وإنما يخص الله تعالى بها من يشاء من عباده مثل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله الطيبين الطاهرين، والنجي المناجي المخاطب لصاحبه والمحدث له وصاحب سره، والمدبر للأمر المحدث به والمتقن له والناظر في أدباره وعواقبه والساعي في ترويجه.
ص:193
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن جعفر بن المثنى الخطيب قال: كنت بالمدينة وسقف المسجد الذي يشرف على القبر قد سقط والفعلة يصعدون وينزلون ونحن جماعة، فقلت لأصحابنا: من منكم له موعد يدخل على أبي عبد الله (عليه السلام) الليلة؟ فقال مهران بن أبي نصر: أنا، وقال إسماعيل بن عمار الصيرفي: أنا، فقلنا لهما: سلاه لنا عن الصعود لنشرف على قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما كان من الغد لقيناهما، فاجتمعنا جميعا، فقال إسماعيل: قد سألناه لكم عما ذكرتم، فقال: ما أحب لأحد منهم أن يعلو فوقه ولا آمنه أن يرى شيئا يذهب منه بصره أو يراه قائما يصلي أو يراه مع بعض أزواجه (عليه السلام).(1)
قوله (ما أحب لأحد منهم أن يعلو فوقه) ظاهره الكراهة والتحريم يحتمل والعلة ترك الأدب بأن يعلو فوقه وعدم الأمن من أن يرى شيئا يذهب منه بصره وهو الملائكة أو أزواجه الطاهرة أو أن يراه قائما يصلي أو يراه مع بعض أزواجه وفيه هتك حرمته، ودلالة الجميع على المطلوب ظاهرة إلا قوله أو يراه قائما يصلي، إلا أن يقال: كراهة رؤيته كذلك أو عدم جوازها باعتبار الإشراف على بيته (2) (عليه السلام). واعلم أن الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) والشهداء والأولياء والصلحاء بعد مفارقتهم الدنيا بأبدانهم أحياء مرزوقون فاعلون للأعمال الصالحة وإنما المانع من رؤيتهم عادة حجاب قرره الله
ص:194
تعالى لحكمة لا يعلمها إلا هو وأهل البصائر من عباده (1) وربما يظهر صورتهم لمن يشاء الله تعالى كما ظهر النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر في حال يقظته فقال: يا أبا بكر آمن بعلي وبأحد عشر من ولده إنهم مثلي إلا النبوة وتب إلى الله مما في يدك فإنه لا حق لك فيه. فأراد أن يعزل نفسه عما فيه فمنعه صاحبه وقال: هذا من سحر بني هاشم. وسيجئ هذا في باب النص على الأئمة (عليهم السلام).
ونظير ما ذكرنا موجود من طريق العامة أيضا، روى مسلم بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: مررت على موسى بن عمران (عليه السلام) وهو يصلي في قبره، قال الآبي: صلاته في قبره من الجائز عقلا وأخبر الشرع به فيجب الإيمان به وليست صلاة تكليف لانقطاع التكليف بالموت بل محبة واستحلاء كما يجد كثير من العباد من اللذة في قيام الليل، ولما دفن ثابت البناني ووضعت اللبن عليه سقطت لبنة فرآه بعضهم من ألحده قائما يصلي فقال لمن ألحده معه: ألا ترى، فلما انصرفا من دفنه أتيا داره (2) وسألا ابنته ما كان حاله في حياته فقالت لا أخبر كما حتى تخبراني بما رأيتما، فأخبراها فقالت:
علمت أن الله تعالى لا يضيع دعاءه كان كثيرا ما يقول: اللهم إن أعطيت أحد الصلاة في قبره فأعطنيها هذا كلامه بعبارته.
ص:195
ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقتل (عليه السلام) في شهر رمضان لتسع بقين منه ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة، بقي بعد قبض النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثين سنة وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف وهو أول هاشمي ولده هاشم مرتين.(1)
قوله (ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عام الفيل) قال القرطبي هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي. وامه فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت هاشميا وهو أصغر ولد أبي طالب جعفر وعقيل وطالب وعلي، واتفق الجمهور على أنه أول من أسلم لحديث «أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب» وعن علي (عليه السلام) قال «عبدت الله تعالى قبل أن يعبده أحد من هذه الامة بخمس سنين» وعنه «ما كان يصلي مع رسول الله (عليه السلام) غيري وغير خديجة وخديجة أول من أسلم من النساء» واختلف في سنه (2) حين أسلم فقيل: خمس سنين، وقيل: ثمان. وقيل: اثنى عشر، وقيل: ثمانية عشر، وشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المشاهد كلها إلا تبوك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلفه مع أهله وقال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» وزوجه ابنته فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة وله من الشجاعة والعلم والحلم والورع وكرم الأخلاق ما لا يسعه كتاب، بويع بالخلافة يوم قتل عثمان واجتمع على بيعته أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار إلا نفر يسير، وسئل عنهم فقال:
ص:196
اولئك خذلوا الحق ولم يعضدوا الباطل، وتخلف عن بيعته معاوية في أهل الشام والتحمت بينهم حروب ولم يزل فيها الظفر على الفئة الباغية إلى أن وقع التحكيم وخدع فيه وحينئذ خرجت الخوارج فكفروه وكفروا من معه وقالوا حكمت الرجال في دين الله والله تعالى يقول: (إن الحكم إلا لله) ثم اجتمعوا وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف وسفكوا الدماء فخرج إليهم بمن معه وطلبهم إلى الرجوع فأبوا إلا القتال فقاتلهم بالنهروان فقتلهم ولم يستأصل منهم ولم ينج منهم إلا اليسير فانتدب إليه رجل من بقية الخوارج يقال له عبد الرحمن بن ملجم، فدخل عليه فقتله. انتهى كلامه.
قوله (ولده هاشم مرتين) مرة من جهة الابن ومرة من جهة البنت والحاصل أنه ينتسب من قبل الأب والام إلى هاشم.
1 - الحسين بن محمد، عن محمد بن يحيى الفارسي، عن أبي حنيفة محمد بن يحيى، عن الوليد بن أبان، عن محمد بن عبد الله بن مسكان، عن أبيه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبشره بمولد النبي (صلى الله عليه وآله) فقال أبو طالب: اصبري سبتا أبشرك بمثله إلا النبوة، وقال: السبت ثلاثون سنة وكان بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثون سنة.(1)
قوله (اصبري سبتا) السبت الدهر والمدة من الزمان قليلة أو كثيرة والمراد به هنا ثلاثون سنة وقوله ذلك اما من باب الكرامات أو علمه به من الكتب السماوية أو من إخبار عالم بذلك.
2 - علي بن محمد بن عبد الله، عن السياري، عن محمد بن جمهور، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله من مكة إلى المدينة على قدميها وكانت من أبر الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا، فقالت: وا سوأتاه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله):
فأني أسأل الله أن يبعثك كاسية، وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاني أسأل الله أن يكفيك ذلك.
وقالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما: إني أريد أن أعتق جاريتي هذه، فقال لها: إن فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار، فلما مرضت أوصت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمرت أن يعتق خادمها،
ص:197
واعتقل لسانها فجعلت تومي إلى رسول الله إيماه فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصيتها. فبينما هو ذات يوم قاعد إذ أتاه أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يبكي فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك؟ فقال: ماتت أمي فاطمة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وأمي والله، وقام مسرعا حتى دخل فنظر إليها وبكى؟ ثم أمر النساء أن يغسلنها وقال (صلى الله عليه وآله): إذا فرغتن فلا تحدثن شيئا حتى تعلمنني، فلما فغرن أعلمنه بذلك، فأعطاهن أحد قميصيه الذي يلي جسده وأمرهن أن يكفنها فيه.
وقال للمسلمين: إذا رأيتموني قد فعلت شيئا لم أفعله قبل ذلك فسلوني لم فعلته، فلما فرغن من غسلها وكفنها دخل (صلى الله عليه وآله) فحمل جنازتها على عاتقه، فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها، ثم وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه، ثم قام فأخذها على يديه حتى وضعها في القبر، ثم أنكب عيها طويلا يناجيها ويقول لها: ابنك، ابنك [ابنك] ثم خرج وسوى عليها، ثم انكب على قبرها فسمعوه يقول: لا إله إلا الله، اللهم إني أستودعها إياك، ثم انصرف، فقال له المسلمون: إنا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم، فقال: اليوم فقدت بر أبي طالب، إن كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها، وإني ذكرت القيامة وأن الناس يحشرون عراة، فقالت:
وا سوأتاه، فضمنت لها أن يبعثها الله كاسية، وذكرت ضغطة القبر فقالت: واضعفاه، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك، فكفنتها بقميصي واضطجعت في قبرها لذلك وانكببت عليها، فلقنتها ما تسأل عنه، فأنها سئلت عن ربها فقالت، وسئلت عن رسولها فأجابت وسئلت عن وليتها وإمامها فارتج عليها، فقلت: ابنك ابنك [ابنك].
قوله (أول امرأة هاجرت) دلت الرواية على مهاجرتها وفي بعض روايات العامة أيضا دلالة عليها قال المازري: وما جاء في الحديث من ذكر فاطمة بنت أسد صحيح وصحت هجرتها كما قال غير واحد خلافا لمن زعم أنها لم تهاجر، في الحديث حجة عليه. هذا كلامه.
قوله (إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة) كان المراد أنه يحشر بعضهم أو أكثرهم عراة لدلالة ظاهر بعض الروايات على حشر بعضهم مكسوا، والأمر بتجويد الأكفان معللا بأنهم يحشرون يوم القيامة بها دال عليه أيضا وحشرهم عراة مذكور في كتبهم العامة أيضا، روى مسلم عن عائشة قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة» قلت: يا رسول الله الرجل والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض فقال: «الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
قوله (وا سوأتاه» أظهرت التفجع والتحسر على ظهور السوأة وهي العورة وكل ما يستحيي منه إذا ظهر.
ص:189
قوله (يذكر ضغطه القبر) الضغطة العصر ومنه ضغطة القبر لتضييقه وعصره وفي رواية: «إن الميت يسئل وهو مضغوط» وفي اخرى «ما أقل من يفلت من ضغطة القبر» نعوذ بالله منها.
قوله (واعتقل لسانها) في المغرب: اعتقل لسانه بضم التاء إذا احتبس من الكلام ولم يقدر عليه.
قوله (امي والله) أي فاطمة امي أو ماتت امي، وسماها اما على سبيل التشبيه في الشفقة والمحبة.
قوله (وبكى) دل على جواز البكاء على الميت وهو كذلك مع ترك الجزع والشكاية.
قوله (فلا تحدثن شيئا) أي لا تفعلن بعد الفراغ من غسلها حتى تعلمنني، نهاهن عن تكفينها قبل الإعلام لأنه أراد أن يكفنها بقميصيه ليبعثها الله تعالى كاسية أو لفوائد اخر.
قوله (على عاتقه) وهو موضع الرداء من المنكب وفيه حث على حمل الجنازة سيما جنازة الصلحاء والأتقياء.
قوله (بر أبي طالب) البر بالكسر الإحسان والخير واللطف وبالفتح العطوف والشفيق، والظاهر أن «ان» في «ان كانت» مخففة من المشددة المكسورة وهي بعد التخفيف وإبطال عملها يدخل على كانت ونحوه الداخل على خبره اللام كما في قوله تعالى: (وإن كانت لكبيرة).
قوله (وسئلت عن وليها وإمامها فارتج عليها) ارتاج الباب وارتجاجه إغلاقه وإقفاله تقول: ارتج على القارى، وارتج عليه مبنيا للمفعول فيهما إذا استغلق عليه القراءة واستبهم وارتج على الرجل وارتج عليه إذا أراد الكلام فامتنع عليه ومعناه أغلق عليه ولعل في ذلك الارتاج حكمة لله تعالى وهي أن يلقنها النبي (صلى الله عليه وآله) ويظهر إمامة ابنها وولايته للناس سيما للحاضرين، وفيه دلالة واضحة على أن عليا (عليه السلام) كان إماما في عهده (صلى الله عليه وآله)