شرح أصول الكافي
تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه
المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه
تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور
سنة الطبع :1929ه. 2008م
دار احياء التراث العربي
بيروت _ لبنان
ص: 1
جمیع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثّانیة
1929ه. 2008م
الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة
بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559
- فاکس: 850717
850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-
www.dartourath.com
Email:info@dartourath.com
ص: 2
هذا الباب في إبطال الجبر والقدر وإثبات الأمر بين الأمرين والجبر في اللغة: الإكراه على الشيء تقول: جبرته وأجبرته على فعل إذا أكرهته عليه والمراد به جبر الله عباده على الأفعال والأعمال بمعنى إيجاده إياها من غير أن يكون لهم مدخل فيها كما هو مذهب الأشاعرة، والقدر بالتحريك والتسكين يطلق على معان: منها ما سبق به علمه تعالى، ومنها تقدير الأشياء بما لا يزيد ولا ينقص، ومنها القدرة، ومنها الوقت، وقد فسر بهذه المعاني في قوله تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (1)كما صرح به الآبي في كتاب إكمال الإكمال، ومنها الكتاب والأخبار كما في قوله تعالى (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) (2)أي أخبرنا بذلك وكتبناها في اللوح المحفوظ. ومنها: وضع الأشياء في مواضعها من غير زيادة فيها ونقصان كما في قوله تعالى (وقدر فيها أقواتها)(3). ومنها: التبيين لمقادير الأشياء وتفاصيلها. وهذه المعاني الثلاثة ذكرها شارح كشف الحق وغيره وإن دخل بعضها في السوابق. ومنها: إقداره تعالى عباده على أعمالهم على وجه الاستقلال بحيث يخرجهم ذلك عن ربقة الانقياد له ويبطل تصرفه في تلك الأعمال حتى لا يكون لقضائه وإرادته وقدرته وتدبيره مدخل فيها كإقدار سلطان منا (4) أحدا من عباده على امور من بلاده بحيث يخرج التصرف في
ص:3
تلك الامور بعده عن يد ذلك السلطان وعن تحت حكمه وتدبيره، والقدر بهذا المعنى وهو المسمى بالتفويض أيضا هو المراد هنا وهو مذهب طائفة من المعتزلة ونحن نسميهم تارة بالقدرية وتارة بالمفوضة، وهاتان الفرقتان وهما الجبرية والقدرية خارجتان عن طريق العدل أولاهما في طرف الإفراط واخراهما في طرف التفريط، والمراد بالأمر بين الأمرين: أمر لا هذا ولا ذاك بل طريق متوسط بينهما وهو أن أفعالهم بقدرتهم واختيارهم مع تعلق قضاء الله وقدره وتدبيره ومشيئته وإرادته وتوفيقه ولطفه وخذلانه بها، وهذا التعلق لا ينافي اختيارهم لأن القضاء والقدر والإرادة وغيرها على قسمين: حتم وغير حتم، والمنافي للاختيار هو الحتم دون غيره، وستعلم وجه بطلان الأولين وتحقق الثالث في مضامين الأحاديث الآتية، وينبغي أن يعلم أن القدرية قد تطلق على الجبرية (1) بناء على أن القدر جاء بمعنى الجبر أيضا والقدر بهذا المعنى أيضا مذكور في هذا الباب، وإنما بسطنا الكلام طلبا للبصيرة فيما هو المقصود في هذا المقام.
1 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد; وإسحاق بن محمد وغيرهما رفعوه قال:» «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذا أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر، فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟
ص:4
فقال له: مه يا شيخ! فوالله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين، فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له: وتظن أنه كان قضاء حتما وقدرا لازما؟، إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الامة ومجوسها، إن الله تبارك وتعالى كلف تخييرا ونهى تحذيرا وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك مفوضا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، فأنشأ الشيخ يقول:
«أنت الأمام الذي نرجو بطاعته * يوم النجاة من الرحمن غفرانا» أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا * جزاك ربك بالإحسان إحسانا» (1)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمد، وغيرهما رفعوه (2) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا في الكوفة) أي في مسجد الكوفة على حذف المضاف على الظاهر أو هو من باب إطلاق الكل على الجزء (بعد منصرفه) أي بعد انصرافه (من صفين) كسكين اسم موضع كانت به وقعة مشهورة بينه (عليه السلام) وبين أهل الشام (إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه» جثا كدعا جلس على ركبتيه (ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا) أي عن سيرنا (إلى أهل الشام أبقضاء وقدر) لعل المراد بالقدر تقدير ذلك المسير (3) في الأزل كما وكيفا وزمانا وتعبا إلى غير ذلك من الامور
ص:5
الناشئة فيه، والمراد بالقضاء الحكم بتحققه (فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): أجل) أجل بالتحريك وسكون اللام من حروف التصديق (يا شيخ ما علوتم تلعة» هي ما ارتفع من الأرض (ولا هبطتم بطن واد) هو ما انخفض من الأرض (إلا بقضاء من الله وقدر، فقال له الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين) أي أعد العناء والتعب وما أوجبه أعني السير والحركة من أفعال الله تعالى حتى لا يكون لي شيء من الأجر إذ لا معنى لأجر شخص بفعل غيره وهذا الكلام يحتمل الاستفهام والإخبار (فقال له: مه يا شيخ) مه كلمة بنيت على السكون وهو اسم سمي به الفعل ومعناه أكفف نفسك عن هذا الكلام، وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) فقال: مهلا يا شيخ. (فوالله) صدر بالقسم مع أنه صادق مصدق لسان الحق للمبالغة في التصديق بما يقول ولاقتضاء المقام إياه (لقد عظم الله لكم الأجر) هذا يرد قول من قال الأجر بإزاء ما ليس باختيار كالأمراض والبلايا وإنما المقابل للاختيار هو الثواب (في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون) الأظهر أن المسير والمقام والمنصرف اسم الزمان أو المكان لا مصدر ميمي ليصون الكلام عن التكرار ولما أومأ إلى أن سيرهم ونحوه كان باختيارهم بإثبات لازمه الذي هو الأجر صرح بعدم كونهم مجبورين على ذلك بقوله (ولم تكونوا في شيء من حالاتكم) وهي السير والإقامة والأنصراف وغيرها (مكرهين ولا إليه مضطرين) لعل الإكراه أشد من الاضطرار فلذلك نفاه بعد نفي الإكراه (فقال له الشيخ) على سبيل الاستعلام والتفهم دون الإنكار والتعنت (وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا) أي سيرنا إلى الأعداء وانقلابنا في الطريق وفي حال القتال من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال وانصرفنا إلى منازلنا، فلما بلغ كلامه إلى هذا المقام علم (عليه السلام) أنه أخطأ في معنى القضاء والقدر (فقال له) على سبيل الإنكار والتوبيخ (وتظن أنه) الواو للعطف على مقدر، أي أظننت قبل الجواب بأن لكم الأجر العظيم وتظن بعده أن سيركم وانقلابكم وانصرافكم وغيرها مما تعلق به القضاء والقدر (كان قضاء حتما) الحتم: مصدر بمعنى إحكام الأمر وإبرامه تقول حتمت
ص:6
عليه الشيء حتما إذا أوجبته وأحكمته عليه بحيث لا يكون في وسعه خلاف ذلك فالوصف به إما للمبالغة أو بجعله بمعنى المفعول أي محتوما محكما مبرما (وقدرا لازما) لا يكون لكم اختيار في متعلقهما ولا قدرة على الفعل والترك حتى تكونوا مجبورين مضطرين إذ القضاء والقدر إذ تعلقا بأفعال العباد يراد بهما الأمر والنهي (1) عنهما وتبيين مقاديرها من حدودها وحسنها وقبحها ومباحها وحظرها وفرضها ونفلها ولا يراد بهما أنه تعالى خلقها وأوجدها.
(أنه لو كان كذلك) أي قضاء حتما وقدرا لازما (لبطل الثواب والعقاب) لأن الثواب نفع يستحقه العبد بالإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات والعقاب ضرر يستحقه بالإتيان بالمنهيات والاجتناب عن الطاعات وهما تابعان للاختيار ولا يتحققان مع الإجبار (والأمر والنهي) إذ طلب الفعل وطلب الترك متفرعان على الاختيار ولا يتصوران مع الإجبار، ألا ترى أن من طلب الطيران عن الإنسان وطلب عدم الإحراق عن النار يعده العقلاء سفيها جاهلا مجنونا كاملا (والزجر من الله) لأن زجره للعبد عن المعاصي ومنعه عن الإتيان بها بشرع القصاص وتعيين الحدود ونحوها إنما يتصور إذا كان العبد قادرا على الإتيان بها غير مجبور على تركها؟ ألا ترى أنك لو زجرت الأعمى عن الإبصار نسبك من له أدنى شعور إلى السفه والجنون؟ (وسقط معنى الوعد والوعيد) لأنهما من الألطاف المحركة إلى الامتثال بالأمر والنهي لرغبة الثواب ورهبة العقاب وقد عرفت بطلان هذه الامور على تقدير الإجبار، وأيضا على هذا التقدير كانت جميع القبائح مستندة إليه تعالى ولو جاز هذا لجاز أن يخلف الوعد والوعيد ويكرم العاصي ويعاقب المطيع ويكذب في الأخبار بأحوال الآخرة ويصدق الكاذب بإظهار المعجزة على يده فلا يبقى الوثوق بالوعد والوعيد (فلم يكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن) المحمدة ما يحمد به ووجه ذلك أنه لا معنى
ص:7
لتوجه اللوم والمدح إليهما إذا صدر الذنب والإحسان من غيرهما ولكن يتوجهان إليهما إذ كل عاقل يذم من ارتكب الظلم والجور والتعدي وغصب الأموال وقتل النفوس ويمدح من بالغ في الإحسان إلى الناس وبذل الخير وإعانة الملهوف ومساعدة الضعفاء والاجتناب عن المعاصي بل المجبرة إذا غفلوا عن عقيدتهم الفاسدة يحكمون بذلك أيضا قال شارح كشف الحق: حكي عن عدلي أنه قال لجبري: إذا ناظرتم أهل العدل قلتم بالقدر، وإذا دخل أحدكم منزله ترك ذلك لأجل فلس، قال: وكيف؟ قال: إذا كسرت جاريته كوزا يساوي فلسا ضربها وشتمها ونسي مذهبه. وصعد سلام القاري المنارة فأشرف على بيته فرأى غلامه يفجر بجاريته فبادر يضربهما فقال الغلام: القضاء والقدر ساقانا، فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب ألي من كل شيء أنت حر لوجه الله تعالى، ورأى شيخ بأصبهان رجلا يفجر بأهله فجعل يضرب امرأته وهي تقول القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوه تركت السنة وأخذت مذهب ابن عباد الرافضي فتنبه وألقى السوط وقبل ما بين عينيها واعتذر إليها وقال: أنت سنية حقا، وجعل لها كرامة على ذلك (ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب) في إعادة اللام إشعار باستقلال كل في واحد من المعطوف والمعطوف عليه في الدلالة على فساد ذلك، وفي حديث الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مثل هذا الحديث مع تفاوت يسير هكذا «ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن» وهذه العبارة أظهر معنى مما في هذا الكتاب لأنه إذا كان العبد مسلوب الاختيار بالكلية كان المحسن والمسيء متساويين في عدم القدرة وعدم استناد أفعالهما إليهما فلا يكون الأول أولى بالمدح من الثاني ولا الثاني أولى بالذم من الأول، بل لهما رتبة التساوي في المدح والذم فعلى هذا يجوز أن يمدحهما جميعا وأن يذمها جميعا وأن يذم الأول ويمدح الثاني، فهل يجوز لعاقل أن يعتقد فيه جل شأنه مثل هذه العقائد الفاسدة مع أن الواحد من آحاد الناس لو نسب إليه غيره أنه يسيء إلى من أحسن ويذمه ويحسن إلى من أساء ويمدحه قابله بالشتم والسب ولم يرض بذلك فكيف يليق أن ينسب إلى ربه ما يكرهه أدنى الناس لنفسه، وأما المذكور في هذا الكتاب ففيه إشكال (1) لأن المسئ
ص:8
والمحسن إذا كانا متساويين فكيف يوصف المذنب بأنه أولى بالإحسان من المحسن والمحسن بأنه أولى بالعقوبة من المذنب؟ ويمكن دفعه بوجوه; الأول: أنه أجبر المذنب على القبائح والقبائح من حيث هي لذات حاضرة إحسان وأجبر المحسن على الطاعات والطاعات من حيث هي مشقة عقوبة حاضرة وهذا هو المراد بالأولوية ههنا.
الثاني: وهو مبني على تحقق الثواب والعقاب في الآخرة مع الجبران القبيح من حيث هو شر بلية والطاعة من حيث هي خير راحة فيقتضي ذلك مقابلة الأول في الآخرة بالإحسان ومقابلة الثاني بالعقوبة.
الثالث: هو أيضا مبني على ذلك أن المعصية راحة حاضرة والطاعة مشقة ظاهرة وجبرهما على ذلك إما لأجل القابلية أو لأنه تعالى يفعل ما يشاء وعلى التقديرين يلزم الأولوية المذكورة، أما على الأول: فلأن الذات غير متغيرة فيلزم أن يكون ذات المذنب أولى بالراحة والإحسان دائما وذات المحسن أولى بالمشقة والعقوبة دائما ليصل إلى كل أحد ما عود به وهو به أليق، وأما على الثاني:
فلأن الأصل بقاء ما كان على ما كان فيلزم أن يحسن إلى المذنب ويثيبه فيحصل له الربح في الدارين ويتخلص من المشقة في الكونين وأن يعاقب المحسن فيحصل له مع المشقة الحاضرة المشقة في الآخرة (تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان) (1) لعل المراد بعبدة الأوثان مشركوا العرب
ص:9
فإن بعضهم كانوا يقولون بنفي الحشر والنشر والثواب والعقاب، وبعضهم كانوا يقولون بالجبر بدليل قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها)(1) والمراد بإخوانهم الأشاعرة حيث يلزمهم ذلك وإن لم يقولوا به صريحا (وخصماء الرحمن) لأنه تعالى نسب في آيات كثيرة أفعال العباد إلى أنفسهم فقال عز من قائل: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى)(2) وقال (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (3)وقال: (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)(4) وقال: (لنبلوهم أيهم أحسن عملا)(5) وقال: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات)(6) وقال: (والله بصير بما تعملون) (7)إلى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصى وصرح في كثير منها ببراءته من القبائح والظلم فقال (إن الله لا يأمر بالفحشاء)(8) (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (9)(وما أنا بظلام للعبيد) (10)إلى غير ذلك. وهؤلاء يقولون نحن براء من القبائح وأنت تفعلها ولا مخاصمة أعظم من ذلك (وحزب الشيطان) لمتابعتهم إياه فيما يلقيه إلى نفوسهم الشريرة (ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون)(11) (وقدرية هذه الامة ومجوسها) قد عرفت آنفا أن القدرية تطلق على الجبرية القائلين بأن الله تعالى قد جبر عباده على ما قدره وقضاه، وعلى المفوضة فإن كان المراد هنا الجبرية تعين العطف على الإخوان وإن كان المراد المفوضة، وجب العطف على عبدة الأوثان، والأشاعرة كما أنهم إخوان عبدة الأوثان كذلك إخوان المفوضة لتحقق المشابهة وتأكد روابط الاخوة بينهم في كونهم من أصل واحد وهو العدول عن طريق العدل إلى طرفي الإفراط والتفريط.
والاحتمال الأول أنسب وأظهر إذا عرفت هذا فنقول: هذا الحديث وما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال
ص:10
لرجل قدم عليه من فارس: «أخبرني بأعجب شيء رأيته» فقال: رأيت قوما ينكحون امهاتهم وأخواتهم فإذا قيل لهم: لم تفعلون؟ قالوا: قضى الله وقدره، فقال (صلى الله عليه وآله): «سيكون في آخر امتي أقوام يقولون مثل مقالتهم اولئك مجوس هذه الامة» وما روي عن الحسن بن علي (عليه السلام) أنه قال: «بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى العرب وهم يحملون ذنوبهم على الله» إلى غير ذلك من الروايات المعتبرة أدلة واضحة على أن المراد بالقدرية والمجوس فيما روي عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «القدرية مجوس هذه الامة» هم الأشاعرة وغيرهم من القائلين بالجبر ووجه المناسبة بينهم وبين المجوس متعدد: الأول أن المجوس قالوا بأصلين النور والظلمة ويسمون الأول بيزدان والثاني بأهرمن وينسبون جميع الخيرات إلى الأول وجميع الشرور إلى الثاني وليس للعباد عندهم فعل أصلا (1) كما هو عند الأشاعرة. الثاني: أن المجوس قالوا إن الله يفعل فعلا ثم يتبرء منه كما خلق إبليس ثم تبرأ منه، والأشاعرة أيضا قالوا إن الله يفعل القبائح ثم يتبرأ منها. الثالث: أن المجوس قالوا إن نكاح الامهات والأخوات بقضاء الله وقدره وإرادته، والأشاعرة وافقوهم حيث قالوا: إن نكاح المجوس أمهاتم وأخواتهم بقضاء الله وقدره إرادته.
الرابع: أن المجوس قالوا إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس، والأشاعرة أيضا قالوا مثل ذلك حيث قالوا: إن كاسب الخير لا يقدر على الشر وبالعكس. الخامس: أن المجوس يثبتون له تعالى شريكا، والأشاعرة أيضا يثبتون له شركاء حيث قالوا بوجود صفات زائدة قديمة غير مخلوقة فلزمهم القول بتعدد الإله، فهم أقبح من المجوس لأن المجوس يقرون بشريك واحد ويسمونه أهر من وهم يقرون بشركاء متكثرة، والأشاعرة لما لم يقدروا على إنكار الحديث المذكور نسبوا القدرية والمجوسية إلى الفرقة العدلية أعني المعتزلة والإمامية وقالوا: العدلية قدرية ومجوسية لأنهم قالوا قدرة العبد مؤثرة موجدة لأفعالهم فهم قدرية لقولهم بوجود القدرة المؤثرة لغير الله تعالى، ومجوسية لجعلهم أنفسهم شركاء الله تعالى في الخلق والايجاد كما أن المجوس جعلوا لله تعالى شريكا.
الجواب: أن تعدد الشركاء إنما يلزمهم لو لم يقولوا بأن العباد وقدرتهم مخلوقة لله تعالى مغلوبة
ص:11
تحت قدرته القاهرة وهم يقولون بذلك، وبأن سلسلة جميع الموجودات منتهية إليه وهو فرد وحده لا شريك له. ثم أشار إلى أن المراد بالقضاء والقدر هنا هو الحكم والتكليف على التخيير دون الإجبار بقوله «إن الله تبارك وتعالى كلف تخييرا» من الثواب كما قال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (1)ولو كانوا مجبورين لم يكن لهم ثواب أصلا «ولم يعص مغلوبا (2) دفع به ما يتوهمه الجبرية من أن أفعال العباد لو كانت مستندة إليهم وأراد الله تعالى منهم فعل الطاعات وترك المنهيات فإذا تركوا الطاعات وفعلوا المنهيات بإرادتهم لزم أن يكون الله تعالى مغلوبا وهم غالبون حيث حصل مرادهم دون مراده تعالى ولا يرضى بذلك عاقل، ووجه الدفع أن ذلك إنما يلزم لو أراد منهم الفعل والترك حتما وجبرا وهم اختاروا نقيض مراده، وأما إذا أراد ذلك منهم على سبيل الاختيار بأن قال لهم في هذا الفعل مصلحة وفي تركه مفسدة ولكم زمام الاختيار، فإن فعلتموه فلكم الثواب وإن تركتموه فعليكم العقاب. فمن البين أن اختيارهم الترك حينئذ لا يستلزم أن يكونوا عاصين على وجه الغلبة وأن يكون الله تعالى مغلوبا لهم (ولم يطع مكرها) بكسر الراء اسم فاعل
ص:12
وبفتحها مصدر أي لم يطع إكراها لأن وقوع إرادة العبد على وفق إرادته تعالى ليس لأجل غلبته تعالى عليه وصرف إرادته قهرا إلى قبول الطاعة بل لأجل اختيار العبد إياها (ولم يملك مفوضا) بكسر الواو اسم فاعل من التفويض يقال: فوض الأمر إليه: أي رده إليه كما يرد الموكل أمره إلى وكيله المطلق الذي يتصرف فيه من غير حاجة إلى تصرف الموكل وتدبيره وإذنه في أوان التصرفات الكلية والجزئية. وفيه رد على المفوضة وقد عرفت أنهم يقولون بأنه تعالى أقدرهم على أعمالهم على وجه لا يكون له تعالى بعده قضاء وإرادة وإذن وتصرف وتدبير ولطف وإعانة في تلك الأعمال، وبالجملة يقولون: خرجت أزمة مقدوراتنا ما دام الأقدار عن يد قدرته، فأخرجوا بهذا الاعتقاد الفاسد السلطان المطلق عن التصرف في ملكه وعزلوه عن التدبير في عباده وبلاده.
وللتفويض معان اخر يجيء ذكرها في بعض المواضع إن شاء الله تعالى. وانظر أيها اللبيب إلى لطف كلامه (عليه السلام) حيث أبطل بقوله «إنه لو كان كذلك - إلى قوله - ومجوسها» مذهب الجبرية الواقع في طرف الأفراط وأبطل بقوله «ولم يملك مفوضا» مذهب المفوضة الواقع في طرف التفريط وأثبت مذهب العدلية المتوسط بين هذه الطرفين والواقع بين هذين المذهبين وهو الأمر بين الأمرين كما أشار إليه بقوله «إن الله كلف تخييرا» (ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا) كما قال سبحانه (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) وفيه إشارة إلى مفسدة أخرى من مفاسد الجبر وهي تجويز أن يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا لغوا لأن اللغو وإن كان قبيحا لكن الجبر يوجب صدور جميع القبائح منه تعالى (ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا) (1) (2)إشارة إلى مفسدة أخرى
ص:13
وهي أنه لو تحقق الجبر لكان إرسال الرسل وتبشيرهم عبثا لأن الغرض من ذلك هو الإخبار بالأحكام واظهار مناهج الحلال والحرام والتقريب بالطاعة والتبعيد عن المعصية ومع الإجبار لا فائدة في الإخبار والإظهار ولا نفع في التبشير والإنذار، ومالا فائدة فيه فهو لغو عبث. ثم اقتبس من القرآن الكريم لجذب الشيخ من ورطة الهلاك إلى سبيل النجاة فقال (ذلك) أي ذلك الظن المذكور وهو ظن أن القضاء كان حتما والقدر كان لازما (ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) في حديث الأصبغ بعد هذا القول، فقال له الشيخ: «فما القضاء والقدر اللذين ما سرنا إلا بهما؟ قال:
هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله: تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)(1)». أقول: المراد بالأمر والحكم الأمر التكليفي والحكم التخييري دون الحتمي الاجباري وقد أشار إليه (عليه السلام) بقوله: «إن الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا» (فإنشاء الشيخ يقول) في كتاب العيون «فنهض الشيخ وهو يقول»:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النجاة من الرحمن غفرانا أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا * جزاك ربك بالإحسان إحسانا ذكر الصدوق هذا الحديث بعينه في كتاب العيون مسندا بطرق أربعة وفي آخره في طريق واحد هذان البيتان فقط مع تغيير يسير في البيت الأخير وهو:
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه إحسانا وفي آخر ثلاثة أربعة أبيات اخر بعدهما من أراد الإطلاع عليها فليرجع إليه.
2 - «الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم
ص:14
أن الخير والشر إليه فقد كذب على الله» (1)
(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد ابن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء) كالجبرية القائلين: بأن جميع الفواحش والشرور الداخلية في الوجود من الشرك والظلم والزناء والسرقة والقتل وغيرها مرادة لله تعالى وهو يرضى بها ويحبها ويأمر بها «فقد كذب على الله» في قوله (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (2)وفي قوله: (وما الله يريد ظلما للعباد) (3)إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، ومن اعتقد ما يلزم منه تكذيب القرآن فقد كفر وارتد وخرج عن دين الإسلام «ومن زعم أن الخير والشر إليه» أي مستندان إليه وهو فاعلهما «فقد كذب على الله» لأنه تعالى في آيات كثيرة نسب الخير والشر من أعمال العباد إليهم، فمن قال بخلاف ذلك فقد كذب على الله (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)(4).
3 - «الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال: «الله أعز من ذلك قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك، قال: ثم قال الله: يا أبن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».(5)
(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته فقلت الله فوض الأمر إلى العباد قال: الله أعز من ذلك) التفويض يوجب بطلان أمره ونهيه وعجزه عن التصرف والتدبير والإعانة والخذلان والله سبحانه أعز من ذلك وله الأمر والنهي والتصرف والتدبير والامتحان والاختبار حتى أنه لا تقع طاعة إلا بعونه ولا معصية إلا بخذلانه كما قال (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) (6)- الآية - وقال (أن يقولوا آمنا وهم
ص:15
لا يفتنون)(1) وقال: (ليبلوكم فيما آتاكم) (2)وقال (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)(3) وأمثال ذلك كثيرة وكلها بمعنى الاختيار، وسر ذلك أن النفس إذا توجهت إلى الطاعة ومالت إلى الانقياد أقبلها الله تعالى بالإعانة واللطف والتوفيق، وإذا توجهت إلى المعصية ومالت إلى المخالفة ناداها بالزواجر فإن سمعها أقبلها بما ذكر وإلا فيتركها على حالها وهو عبارة عن الخذلان، يدل عليه ما روي من «أن من تقرب إلي بشبر تقربت إليه بذراع - الحديث» وما روي من «أن قلوب بني آدم إصبعين من أصابع الرحمن» وما روي «من أن للقلب اذنين فإذا هم العبد بذنب قال له روح الإيمان لا تفعل، وقال له الشيطان افعل وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان» وأيضا لو تحقق التفويض لبطل أمر الدعاء والاستعاذة لا حول ولا قوة إلا بالله (قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل (4) وأحكم من ذلك) كل عاقل يحكم قطعا بأنه يقبح من العدل الحكيم أن يجبر عبده على المعصية ثم يعذبه بها إلا أن الجبرية لعرائهم عن حلية العقل يقولون: القبائح على أنواعها
ص:16
المختلفة صدرت منه تعالى لا توصف بالقبح، ويلزمهم وراء كون هذا القول من الهذيانات والمزخرفات أن لا يتصف شيء بالقبح أصلا، بناء على أصلهم من أنهم لا يصدر عن العبد شيء (قال: ثم قال: قال الله: يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني) قد مر شرحه مفصلا في باب المشيئة والإرادة.
(عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك) صريح في أن المعاصي صادرة عن العبد بالقدرة المخلوقة فيه لا عنه تعالى بالقدرة الأزلية كما زعمت الأشاعرة وهذا باطل لتنزهه تعالى عن القبائح وامتناع أتصافه بالظلم والجور ولا عن مجموع قدرة العبد وقدرته تعالى كما زعمه أبو إسحاق الإسفرايني، وهذا أيضا باطل لما مر ولامتناع أن يعذب الشريك القوي شريكه الضعيف على الفعل المشترك بينهما.
4 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس فإن أهل الجنة قالوا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)(1) وقال أهل النار: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين)(2) وقال إبليس: (رب بما أغويتني) (3)فقلت: والله ما أقول: يا يونس! ليس هكذا، لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، فقال: يا يونس! ليس هكذا، لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، يا يونس تعلم ما المشيئة؟ قلت: لا، قال: هي الذكر الأول، فتعلم ما الإرادة؟ قلت: لا، قال: هي العزيمة على ما يشاء، فتعلم ما القدر; قلت: لا، قال: هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، قال: والقضاء: هو الإبرام وإقامة العين، قال: فاستأذنته أن اقبل رأسه وقلت: فتحت لي شيئا كنت عنه في غفلة».(4)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو لحسن الرضا (عليه السلام): (يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول
ص:17
أهل النار ولا بقول إبليس) لتوافق كلمتهم على عدم القدر بمعنى الجبر (1) فإن أهل الجنة قالوا:
(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) حمدوه على أن الهداية منه لا على أن فعلهم للخيرات الموجبة للدخول في الجنة فعله، ولو كان كذلك لكان هذا أولى بالحمد، وفيه مع الدلالة على نفي الجبر دلالة على نفي التفويض أيضا، وقال أهل النار: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين) نسبوا الشقاوة إلى أنفسهم باعتبار أن أسبابها صدرت منهم ولو كانت الشقاوة وأسبابها من أفعاله تعالى لكانت نسبتها إليه تكميلا للحجة وإتماما أنفع لهم وقال الشيطان (رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وإنما لم يذكر (عليه السلام) تمام الآية مع أن الاستشهاد فيه (2) اكتفاء بالشهرة وحوالة على علم المخاطب به فنسبة الخبيث التزيين وإغوائهم إلى نفسه دل على اعترافه بأنهما فعلان له وقدرته عليهما وأما قوله (بما
ص:18
أغويتني) فالباء إما للقسم وجوابه قوله (لازينن) أو للسببية والقسم محذوف قبل هذا القول و «ما» مصدرية والإغواء بمعنى تخييبه تعالى إياه من رحمته بسبب التكبر وترك السجود أو بمعنى وجدانه إياه ضالا في الأعيان بعد علمه بضلالته في الأزل، فإن باب الإفعال قد يجيء بمعنى وجدان الفاعل المفعول على أصل الفعل كقولك أبخلته أي وجدته بخيلا، والمعنى أقسم بتخييبك إياي من رحمتك أو بوجدانك إياي ضالا بالسبب المذكور لازينن لهم المعاصي، وحينئذ لا دلالة فيه إلا على أن الاغواء بهذين المعنيين من فعله تعالى ولا محذور فيه وإنما المحذور في نسبة الضلالة وسببها وهو التكبر وترك السجود إليه تعالى وهو لم يقع. هذا ما خطر بالبال على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال، وللمفسرين من العدلية بعد حملهم الإغواء على ظاهره وهو الإضلال كلام طويل في توجيهه، ومجمل هذا الكلام:
أنه لما خلق أسباب الغواية فيه كالقدرية والعلم، وأمره بالسجود الذي هو أيضا من جملة أسبابها إذ بسببه استكبر وعصى كانت له تعالى سببية في الغواية فلذلك أسند فعلها إليه من باب إسناد الفعل إلى الفاعل البعيد مجازا، ومن الأصحاب من قال: المقصود أن في قوله (بما أغويتني) أي أشقيتني دلالة على الرد على القدرية فإن الغاوي الشقي وليس فعل الشر من الشقي بالجبر هذا كلامه فتأمل فيه (فقلت: والله ما أقول بقولهم) وهو أن أفعالنا صادرة عنه تعالى (ولكني أقول: لا يكون شيء) من أفعالنا (إلا بما شاء الله وأراد وقدر وقضى) أي بسبب مشيئة الله وإرادته وتقديره وقضائه يعني أن هذه الامور أسباب لصدور أفعالنا عنا حتى أنها لو لم تكن لم نفعل (فقال:
يا يونس ليس هكذا) أي ليس الأمر ما زعمت من أن الامور المذكورة أسباب لأفعالنا وأفعالنا تابعة لها (لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى) أنكر كلام يونس أولا، وأرشده إلى الصواب ثانيا بحذف الباء السببية (1) الداخلة على المشية وما عطف عليها للتنبيه على أن تعلقها بأفعالنا ليس
ص:19
من قبيل تعلق العلة بالمعلول والسبب بالمسبب، ثم أشار إلى تفسير هذه الامور بوجه يفيد انتفاء السببية (فقال: يا يونس تعلم ما المشية) حتى تعلم أنها ليست سببا (1) لأفعالنا (قلت: لا، قال: هي الذكر الأول) أي العلم الأزلي السابق على الإرادة المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر فهي تابعة لتلك الأشياء بمعنى أنها مطابقة لها وأن الأصل في هذه المطابقة هو تلك الأشياء حتى أنها لو لم يتحقق لما تعلق العلم بوجودها، والمشية بهذا المعنى ليست سببا لها كما أن علمنا بطلوع الشمس غدا ليس سببا لطلوعها (فتعلم ما الإرادة قلت: لا، قال: هي العزيمة على ما يشاء (2) يعني البقاء عليه لوجوب بقاء العلم مع المعلوم فالإرادة وصف للمشية متعلقة بها لا يوجب ذلك أن
ص:20
تكون إرادته سببا لأفعالنا (فتعلم ما القدر؟ قلت: لا، قال: هو الهندسة) (1) بفتح الهاء والدال وسكون النون معرب «أندازه» أي المقدار، ثم نقل إلى تعيين المقدار كما أشار إليه بقوله (ووضع الحدود من البقاء والفناء) وغيرهما، قال الجوهري: المهندس هو الذي يقدر مجاري القني حيث تحفر وهو معرب من «الهنداز» وهي فارسية فصيرت الزاي سينا لأنه ليس في شيء من كلامهم زاي بعد دال والاسم الهندسة (قال: ثم قال: والقضاء هو الإبرام وإقامة العين) يعني إحكام الشيء وإقامته في الأعيان وهو في أفعاله بمعنى الخلق والإيجاد على وفق الحكمة وفي أفعالنا بمعنى إبرام الثواب والعقاب وإقامتها على وجه الجزاء كما مر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال «ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء، قال السائل: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة» (قال فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت:
فتحت لي شيئا كنت عنه في غفلة) حيث ظننت أن مشيئته وإرادته وقدره وقضاؤه أسباب لأفعالنا.
5 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال إن الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه وأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله.» (2)
(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خلق الخلق) مستعدين للخير والشر لحكم ومصالح بعضها يظهر لأولي الألباب وبعضها لا يعلمها إلا هو وأسرار القدر التي ورد النهي عن الغور فيها داخلة في هذا البعض (فعلم ما هم صائرون إليه) من الخير والشر، ولكن الغرض الأصلي من خلقهم هو الخير كما يدل عليه ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج «عن الصادق (عليه السلام) حين سأله الزنديق وقال له:
فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب؟ فقال (عليه السلام) خلقهم للرحمة وكان في علمه قبل خلقه إياهم أن قوما
ص:21
منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الردية وجحدهم له» فإن قلت: حديث هذا الكتاب حيث قال، فعلم بالفاء دل على أن علمه بذلك بعد الخلق، وحديث الاحتجاج دل على أنه قبل الخلق فما الوجه فيه؟ قلت: لا شبهة في أن علمه بذلك أزلي قبل الخلق ووجه ذكره هنا بعد الخلق ليكون فيه إشعار في الجملة بأن علمه تابع للمعلوم ليندفع ما يتبادر إلى الأذهان القاصرة من أن علمه مؤثر في المعلوم وسبب له، وهو يبطل القدرة والاختيار، بل التكليف أيضا لابتنائه عليهما حتى أن الفخر الرازي أبطل هذه الشبهة وقال: لو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا حرفا إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها (وأمرهم) بالخيرات والمصالح (ونهاهم) عن الشرور والقبائح (فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه) وكذا ما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى فعله، وذلك لإعطائهم القدرة الصالحة للضدين والقوة القابلة للطرفين، وهذا مذهب جميع العقلاء عدا الأشاعرة فإنهم قالوا: القدرة غير صالحة للضدين وهذا باطل بالضرورة لأن القادر هو الذي إن شاء أن يفعل فعل وإن شاء أن يترك ترك، فلو فرضنا قدرة أنحصر تعلقها بأحد الطرفين فقط دون الآخر لم يكن الموصوف بها قادرا (ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله) أي بتوفيقه لمن أقبل وعدمه لمن أدبر، أو بعدم إحداثه مانعا من الأخذ والترك، أو بخلق القدرة عليهما، أو بعلمه بهما، أو بتخليته، ويؤيد الأخيرين ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) «أن أبا الحسن موسى (عليه السلام) قال: أن الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون، فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه، وما جبر الله أحدا على معصية بل اختبرهم كما قال: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قوله (عليه السلام): «ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بأذنه» أي بتخليته وعلمه. انتهى أقول: هذا التفسير أعني تفسير الإذن بالتخلية والعلم يحتمل أن يكون من العسكري (عليه السلام) وأن يكون من الشيخ (رحمه الله)، وفيه دلالة على أن أفعالهم بقدرتهم واختيارهم وأن علمه الأزلي بها لا يستدعي أن لا يكون لهم قدرة واختيار فيها إذ علمه متعلق بكل ما يوجد في نفس الأمر ومما يوجد فيها أفعالهم وهو لا يوجب شيئا عليهم.
ص:22
6 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حفص بن قرط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ومن كذب على الله أدخله الله النار».(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حفص ابن قرط) بضم القاف، قيل: هو النخعي الكوفي، ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب الصادق (عليه السلام) (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء) كالجبرية حيث زعموا أن الله يأمر بهما ويريدهما من العباد (فقد كذب على الله) في قوله «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء» وفي غير ذلك من الآيات الدالة على تنزه قدس الحق عنه (ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله) أي بغير علمه الأزلي بهما إذ قد عرفت أن المشية هي الذكر الأول، أو بغير إرادته فعل الخير وترك الشر، ففيه على الأول: رد على من زعم أنه تعالى لا يعلمها إلا بعد وجودهما، وعلى الثاني:
رد على القائلين بعدم إرادته وأمره ونهيه وتصرفه وتدبيره في أمر خلقه (فقد أخرج الله من سلطانه) إذ القول بعدم علمه أزلا بالكائنات وعدم جريان حكمه على العباد مناف لسلطانه على جميع الممكنات (ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله) التي خلقها في العباد يقدرون بها على الفعل والترك (فقد كذب على الله فيما أنزله من الآيات الدالة على أن معاصي العباد مستندة إليهم (ومن كذب على الله أدخله النار) قد أبطل (صلى الله عليه وآله) مذهب الجبر والتفويض وأثبت أن له تعالى سلطنة على العباد بالإحاطة والأمر والنهي. وأن للعبد قوة على الخير والشر وهذا أمر متوسط بين الأمرين.
7 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن إسماعيل بن جابر قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلم في القدر والناس مجتمعون، قال: فقلت: يا هذا؟ أسألك؟ قال: سل، قلت: يكون في ملك الله تبارك وتعالى مالا يريد؟ قال: فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إلي فقال [لي]: يا هذا لئن قلت: إنه يكون في ملكه مالا يريد إنه لمقهور، ولئن قلت: لا يكون في ملكه إلا ما يريد أقررت لك بالمعاصي، قال: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام) سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا
ص:23
وكذا، فقال لنفسه نظر، أما لو قال غير ما قال لهلك.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن إسماعيل بن جابر قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلم في القدر والناس مجتمعون، سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن القدر فقال: طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلفوه. قال بعض العلماء: معنى القدر ههنا: مالا نهاية له من معلومات الله تعالى فإنه لا طريق لنا إليه ولا إلى مقدوراته، وقال بعضهم: هو ما يكون مكتوبا في اللوح المحفوظ وليس لنا علم بتفصيله فليس لنا أن نتكلفه، وقال بعضهم: هو تقدير الأشياء كلها أول مرة وليس لنا معرفة بكميته وكيفيته وتفصيله فلا يجوز لنا التكلم به. وقال بعضهم: هذه المناهي الثلاث لمن سأله عن القدر وكأنه (عليه السلام) نهى ذلك المخاطب عن طريق معرفة قضاء الله وقدره ونهى كل من يكون في منزله ذلك السائل أن يتكلم في ذلك، فأما أهل العلم والمحققون فلا، وعلى تقدير العموم يقال: المراد نهي المجادلة والمخاصمة والنزاع.
أقول: الحق هو العموم وأنه لا يجوز لنا التكلم إلا بما عرفناه أئمتنا (عليهم السلام) وبما سمعنا عن مخالفينا من معناه مالا يخالف العقل والنقل فإن التكلم به حينئذ على وجه تحقيق الحق والإرشاد لئلا يضل قوم بعد آخرين جائز لمن أحكم دينه وأبرم يقينه مع كمال الاحتياط لئلا ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه (قال: فقلت: يا هذا) الخطاب بهذا للاستهانة والاستخفاف (أسألك) استفهام بحسب المعنى (قال: سل، قلت: يكون في ملك الله مالا يريد) كأن الرجل من أهل التفويض إذ هذا السؤال بحالهم أنسب وفي إلزامهم أقرب (قال: فأطرق طويلا) أي أرخى رأسه وجفونه إلى الأرض زمانا طويلا (ثم رفع رأسه إلي فقال: يا هذا لئن قلت: إنه يكون في ملكه مالا يريد أنه لمقهور) أي قلت إنه لمقهور، ويحتمل أن يكون هنا تقديم وتأخير، أي يا هذا إنه لمقهور لئن قلت، فإن قلت:
المقهورية إنما تلزم لو أراد عدم وجود شيء وأوجده الخلق، لا ما إذا لم يرد وجوده. قلت: لعل المراد بما لا يريد إرادة العدم لا عدم الإرادة، واستعمال مثل هذه العبارة في هذا المعنى شائع، وعلى تقدير أن يكون المراد عدم الإرادة لزمت المقهورية أيضا لأن الحكمة بعد إعطائهم الوجود والقوة القابلة للخير والشر تقتضي أن يريد منهم الفعل والترك فإذا لم يرد فذلك إما التقديرين لزم أن
ص:24
يكون مقهورا (ولئن قلت لا يكون في ملكه إلا ما يريد أقررت لك بالمعاصي) أي بأنه يريد المعاصي كما هو مذهب الجبرية فإنهم يقولون: هو يريد جميع الكائنات حتى المعاصي والقبائح لأنه خالقها وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة إذ الصفة المرجحة لأحد المقدورين هي الإرادة (قال: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا فقال لنفسه نظر) أي تأمل واحتاط لنفسه لئلا يقع في الهلكة بنسبة مالا يليق بالباري إليه (أما لو قال غير ما قال لهلك) يعني لو قال ما يوافق مذهبه ولم يتوقف فيه لهلك بكفره هلاكا أبديا. فإن قلت: أي الأمرين هو الحق؟ قلت: الحق أنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد لما مر عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بالخصال السبع» وعد منها الإرادة ولكن إرادته المتعلقة بأفعال نفسه هي إيجادها، وبالطاعات هي إرادة وجودها والأمر بها على سبيل التخيير، وبالمناهي هي إرادة عدمها والأمر بتركها، وبالمباحات هي الرخصة لها وإرادة تساويها في الفعل والترك. وقد ذكرنا آنفا تفسير إرادته بما لا مزيد عليه مستشهدا بكلام الأصحاب الأخيار والأخبار المروية عن الأئمة الأطهار.
8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن الحسن زعلان، عن أبي طالب القمي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، قلت: ففوض إليهم الأمر؟ قال: لا، قال: قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك».(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن الحسن زعلان، عن أبي طالب القمي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت أجبر الله العباد على المعاصي؟) همزة «أجبر» للاستفهام أو للإفعال وهو على الأول إنشاء لفظا ومعنى، وعلى الثاني معنى فقط (قال: لا) إذ لو تحقق الجبر لورد مع المفاسد المذكورة سابقا أنه لا معنى لتمني العاصي حين يرى العذاب معاينة، (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) إذ لا وجه لهذا التمني على هذا التقدير، فإنه لا يعلم ما يفعل الله به بعد الكرة، فلعله يفعل به ما فعل به أولا (قلت: ففوض إليهم الأمر) بحيث لا يكون لنواهيه وأوامره وبواعثه وزواجره وتوفيقه وإحسانه وتسديده وخذلانه مدخل فيه؟ (قال: لا) لما فيه من إخراج
ص:25
القادر المطلق عن سلطانه ونسبة العجز الظاهر إلى من لا يدخل النقص في شأنه (قلت فماذا) يكون بين الجبر والتفويض؟ (قال: لطف من ربك بين ذلك) اللطف: ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لا يؤدي إلى الإلجاء (1)، وهو يطلق تارة على الأمر والنهي كما يظهر ذلك من بعض الأحاديث الآتية، وتارة على اعتبار المصالح الكلية والجزئية في مواردها، وتارة على القوة التي لها سبيل إلى الفعل والترك كما دل عليه الحديث الآتي، وتارة على التوفيق والإعانة على الخيرات، وفيه دلالة على ما ذهب إليه المعتزلة والإمامية (2) من وجوب اللطف على الله سبحانه واستدلوا
ص:26
عليه بأن اللطف يحصل به غرض المكلف فيكون واجبا وإلا لزم نقص الغرض، بيان الملازمة أن المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع إلا باللطف فلو كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعامه وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعا من التأدب فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه.
9 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون، قال: فسئلا (عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض».(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها) فيه رد على الجبرية فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى لا يعذب العباد إلا على ما لم يفعلوه ولا يعاقبهم إلا على ما لم يضعوه، فإنه يوجد فيهم الكفر والسب له تعالى ولرسوله والإعراض عن الطاعات وإنكار المعاد، ثم يعذبهم على ذلك ولا يخفى على العاقل أن هذا من أشد أنواع الظلم وأبلغ أصناف الجور تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون) الظاهر أن ضمير يكون راجعا إلى الأمر والمعنى - والله أعلم - أن الله أعز وأقدر من أن يريد من العباد أمرا إرادة حتم فلا يكون ذلك الأمر، وقد أراد من آدم كف النفس عن الأكل من الشجرة، ومن إبليس السجود لآدم، ومن الكافر الإيمان، ومن العصاة ترك المعاصي، ولم يقع المراد في هذه الصور فعلم أن إرادته ليست إرادة حتمية جبرية بل هي إرادة تخييرية تكليفية.
ففيه أيضا رد على الجبرية إلا أنهم لما قالوا إن إرادته حتمية، قالوا: مراد الله تعالى في هذه الصور هو أضداد الامور المذكورة وهي الأكل وترك السجود والكفر والمعاصي، ولا يخفى قبح هذا القول وشناعته، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون ضميره راجعا إلى الإرادة المفهومة من يريد،
ص:27
والمعنى - والله أعلم - أن الله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون إرادة ذلك الأمر ويكون إرادة خلافه.
وفيه حينئذ رد على من قال من المفوضة إنه تعالى فوض قبول أمره إلى العباد، بمعنى أنهم إن قبلوا أمره فهو مراد له ويثيبهم وإن لم يقبلوه بأن فعلوا خلافه فما فعلوه مراد له ويعاقبهم، وسنذكر عن مولانا أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) ما يدل على بطلان التفويض بهذا المعنى، ومن العجائب أنهم يقولون: إرادة الشيطان لا مرد لها وإرادة الرحمن تتبدل باختيارهم كما يرشد إليه ما يأتي في باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصيحة لأئمة المسلمين «قدري يقول: لا يكون ما شاء الله ويكون ما شاء إبليس - الحديث» (قال: فسئلا هل بين الجبر والقدر) يعني التفويض وقد عرفت أن القدر يطلق على التفويض أيضا (منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض) الغرض من تشبيه هذه المنزلة المعقولة بالمنزل المحسوس وتفضيلها عليه هو الإيضاح والمبالغة في سعتها، وسر ذلك أنه تعالى لما علم من الخلق صنفين من الفعل وهما الخير والشر ركب فيهم آلتهما المؤثرة التي هي القدرة ولم يخلق فيهم آلة الخير فقط وإلا لكانوا مجبورين في الخير والشر وإذا كان فيهم آلتهما كانوا قادرين عليهما، وإذا كانوا قادرين اقتضت الحكمة حصرهم وتعبدهم بإرسال الرسل وتقرير الشرائع وتوجه الأوامر والنواهي ثم تداركهم بعد ذلك عند كل فعل وترك بالألطاف والعنايات والتدبيرات والاختيارات التي يشاهد بضعها في نفسه بعض العارفين وهذه منزلة عريضة (1) وسيعة طويلة لا يعلم أقطارها ونهاياتها وحدودها وغاياتها إلا الراسخون في العلم،
ص:28
وسيجئ لهذا زيادة توضيح في الرابع من هذا الحديث.
10 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى عن يونس [بن عبد الرحمن] عن صالح بن سهيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل الجبر والقدر فقال: لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم».(1)
علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس عن صالح بن سهل، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن الجبر والقدر فقال: لا جبر ولا قدر) إذ الأول يوجب نسبة الجور والظلم إليه تعالى، والثاني يوجب نسبة العجز والضعف إليه (ولكن منزلة بينهما فيها الحق) تقدم الظرف للحصر (التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم) الذي استفدنا من أخبارهم (عليهم السلام) هو أن للعبد قدرة مؤثرة في الفعل والترك، وأنه مكلف بالأمر والنهي، وأن عليه رقيبا عند كل مأمور به ومنهي عنه يرغبه ويزجره ويعينه ويدبره وأن جميع ذلك لا يبلغ إلى حد الإجبار بل هو يفعل ويترك بالاختيار والجبرية لما أنكروا القدرة المؤثرة أنكروا جميع ذلك ونسبوا جميع الأفعال إليه تعالى فوقعوا في طرف الإفراط ونسبوا إليه الظلم والجور، تعالى عما يقول الظالمون، والمفوضة وإن أقروا بالقوة المؤثرة والتكليف بالأمر والنهي لكن لما أنكروا التدبير وقالوا بأنه تعالى فوض قبول أمره ونهيه إلى العباد بالمعنى المذكور أبطلوا الأمر والنهي أيضا وألزموا عليه سبحانه قبول كل ما علموا من خير وشر فوقعوا في جانب التفريط ونسبوا العجز والضعف إليه تعالى عما يقول المكذبون، ونحن نحمد الله لما تركنا الطرفين أخذنا بالوسط وخير الامور أوساطها.
11 - «علي بن إبراهيم، عن محمد، عن يونس، عن عدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل:
جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فقال له: جعلت فداك ففوض الله إلى العباد؟ قال: فقال: لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي; فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة، قال: فقال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض».(2)
ص:29
(علي بن إبراهيم، عن محمد، عن يونس، عن عدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل:
جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها) لا يخفى شناعة القول بأنه تعالى يقتل الأنبياء والشهداء ثم يعذب قاتليهم وهل هذا إلا بمنزلة عتاب القاتل سيفه وتعييره وتكسيره وتعذيبه بأنك لم قتلت فلانا ولو فعل ذلك لنسبه كل عاقل إلى السفاهة والجهالة، ولما أورد هذا على الجبرية قال بعضهم: يعذبهم بكسبهم. وفيه أنه إن أراد بالكسب كونهم فاعلين لأفعالهم فنعم الوفاق، وإن أراد مجرد المحلية فالقبح بحاله وإن أراد معنى آخر فهو أعلم به.
وقال المازري: الله سبحانه ملك ولا يسأل الملك عما يفعل. وفيه أن هذا اعتراف بورود السؤال إلا أن أحدا لا يقدر عليه. وقال الآبي: قتل الشهداء والسرقة والزناء إذا صدرت منه تعالى ليست بظلم لأنه تصرف في ملكه. وفيه أن هذا سفسطة وقال السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف لا القياس والنظرة، ومن عدل فيه عن التوقيف ضل وحار ولم يصل إلى ما يطمئن به القلوب. وفيه أن التوقيف الإلهي في القرآن العزيز وقع بتنزه قدس الحق عن أمثال هذه القبائح ونسبتها إلى العباد مع أن أصل الإيراد باق (فقال له: جعلت فداك ففوض الله إلى العباد) بأقدارهم وترك التدبير في امورهم وحوالته إليهم (قال: فقال: لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي) الحصر في اللغة:
الحبس والمنع، وفيه دلالة على أن الأمر بين الأمرين (1) هو الأمر والنهي ولا ينبغي أن ينكر ذلك
ص:30
باعتبار أن الجبرية والمفوضة وهم الأشاعرة والمعتزلة قائلون بالأمر والنهي، لأنا قد ذكرنا أنه يلزمهم إنكارهما وإن لم يقولوا به صريحا، وقد فسر الصدوق في كتاب التوحيد في باب أسماء الله تعالى في معنى الجبار; وصاحب العدة: الأمر بين الأمرين في قول مولانا الصادق (عليه السلام) «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» بالأمر والنهي حيث قالا: عنى بذلك أن الله لم يجبر عباده على المعاصي ولم يفوض إليهم أمر الدين حتى يقولوا بآرائهم ومقايسيهم، فإنه عز وجل قد حد ووصف وشرع وفرض وسن وأكمل لهم الدين فلا تفويض مع التحديد والتوصيف، إلا أنه ليس في كلام الصدوق «فلا تفويض إلى آخره» ويمكن أن يراد بالأمر والنهي ما يعم الألطاف الإلهية والتدبيرات الربانية أيضا وإليه ميل بعض الأفاضل حيث قال: المراد هنا فعل أو ترك منه تعالى يعلم جل شأنه أنه يفضي إلى صدور فعل عن العبد اختيارا ولولاه لم يصدر. والمراد بالنهي فعل أو ترك منه تعالى يعلم أنه يفضي إلى صدور ترك عن العبد اختيارا ولولاه لم يصدر. والمقصود أنه لو فوض إليهم لم يكن بيده أزمة الامور، واللازم باطل. وقال بعض العلماء: المراد أن الحكمة التي اقتضت حصرهم بالأمر والنهي تتأبى عن التفويض وهو قول المعتزلة حيث قالوا: العباد ما شاؤوا صنعوا (فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: فقال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض) ولعل تلك المنزلة هي الحصر (1) بالأمر والنهي كما أشرنا إليه.
12 - «محمد بن أبي عبد الله وغيره، عن سهل بن زيادة، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال:
قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام). إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة قال: فقال لي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم; قال علي بن الحسين: قال الله عز وجل: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي; جعلتك سميعا، بصيرا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا اسأل عما أفعل وهم يسألون; قد نظمت لك كل
ص:31
شيء تريد».(1)
(محمد بن أبي عبد الله; وغيره، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة) على الفعل والترك وقد يقال: المراد بالاستطاعة هنا ما عليه المفوضة والجواب بثبوت الواسطة (قال: فقال لي:
أكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين قال الله تعالى: يا ابن آدم) ذكر الصدوق (رضي الله عنه) هذا الحديث بعينه في كتاب العيون وفيه «فقال لي: أكتب، قال الله تعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، إني لا اسئل اسأل عما أفعل وهم يسألون، قد نظمت لك كل شيء تريد) إذ فيه دلالة على نفي الجبر والتفويض وثبوت الواسطة لتضمنه على إرادة العبد وقدرته واستطاعته وعلى تدبيره ولطفه وإعانته وإن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرناه من شرح هذا الحديث في باب المشيئة والإرادة.
13 - «محمد بن أبي عبد الله، عن حسين بن محمد، عن محمد بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين قال: قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية».(2)
(محمد بن أبي عبد الله، عن حسين بن محمد، عن محمد بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا جبر) على العباد حتى لا يكون لهم قدرة على أفعالهم أصلا (ولا تفويض) حتى يكون أفعالهم بقدرتهم ولا يكون لهم زاجر أصلا (ولكن أمر بين أمرين، قال: قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: مثل ذلك رجل رأيته على معصيته فنهيته) عنها (فلم ينته فتركته) بحاله وما زجرته عنها
ص:32
جبرا وقهرا (ففعل تلك المعصية) بقدرته واختياره (فليس حيث لم يقبل منك فتركته) مع قدرتك (1) على زجره عنها جبرا (كنت أنت الذي أمرته بالمعصية) أي جبرته عليها، أطلق الأمر على الجبر مجازا فكما أنك لما منعته منها بالزواجر والنصائح ما فوضت الأمر إليه ولما رأيته أنه يفعلها فتركته وما منعته منعا يوجب تركه ما أجبرته عليها، كذلك صنع الله بالنسبة إلى أفعال العباد فهذا أمر بين أمرين، ولعل التفسير المنقول سابقا عن الصدوق وصاحب العدة راجع إلى هذا، وقال الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي (رضي الله عنه) قال: حدثنا أبي عن أحمد بن علي الأنصاري، عن زيد بن عمير ابن معاوية الشامي قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقلت، يا ابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» ما معناه: قال: من زعم أن الله تعالى يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر; ومن زعم أن الله تعالى فوض أفعال الخلق والرزق إلى حججه (عليهم السلام) فقد قال بالتفويض; القائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك; فقلت: يا ابن رسول الله فما أمر بين أمرين فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما امروا به وترك ما نهوا عنه - الحديث».
وقال الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج (2) ومما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) في رسالته إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال: «الجبر والتفويض، يقول الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) عنما سئل عن ذلك فقال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، قيل: فماذا يا ابن رسول الله؟ فقال: صحة العقل، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت والزاد قبل الراحلة، والسبب المهيج للفاعل على فعله، فهذه خمسة أشياء فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل منه مطرحا بحسبه.
وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث من شرحه ويشهد به القرآن محكم آياته وتحقق تصديقه عند ذوي الألباب وبالله العصمة والتوفيق، ثم قال (عليه السلام): فأما الجبر فهو قول من زعم أن الله عز وجل أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ورد عليه قوله
ص:33
(ولا يظلم ربك أحدا) وقوله جل ذكره (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) (1)مع آي كثيرة في ذلك، فمن زعم أنه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله عز وجل وظلمه في عقوبته له، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه ومن كذب كتابه لزمه الكفر بإجماع الأمة، المثل المضروب في ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم ذلك مولاه منه فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن الذي يأتيه به وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضي به من الثمن وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة، وإظهار الحكمة، ونفي الجور فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة أن يعاقبه، فلما صار العبد إلى السوق وحاول أخذ الحاجة التي بعثه المولى للإتيان بها وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه لذلك غيظا وعاقبه على ذلك فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف به من عدله وحكمته ونصفته وإن لم يعاقبه كذب نفسه أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة، تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.
ثم قال العالم (عليه السلام) بعد كلام طويل: فأما التفويض الذي أبطله الصادق (عليه السلام) وخطأ من دان به فهو قوله القائل: إن الله عز وجل فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم وفي هذا كلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية من عترة آل الرسول صلوات الله عليهم فإنهم قالوا: لو فوض الله إليهم على جهة الإهمال لكان لازما له رضاء ما اختاروا واستوجبوا به من الثواب ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب إذ كان الإهمال واقعا وتنصرف هذه المقالة على معنيين إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبل اختيارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن، أو يكون جل وتقدس، عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض أمره ونهيه إليهم وأجراها على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه، وادعى مالك العبد أنه قاهر قادر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره
ص:34
ونهيه، فأي أمر أمره أو نهي نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه وبعثه في بعض حوائجه وفيما الحاجة فصدر العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه وقصد إرادة نفسه واتبع هواه فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما آتاه فإذا هو خلاف ما أمره فقال العبد أتكلت على تفويضك الأمر إلي فاتبعت هواي وإرادتي لأن المفوض إليه غير محصور عليه لا ستحالة اجتماع التفويض والتحصير.
ثم قال (عليه السلام): فمن زعم أن الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير أو شر، وأبطل أمر الله ونهيه ثم قال: إن الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي، وقبل منهم أتباع أمره، ورضي بذلك لهم، وتعبدهم به من الأمر والنهي وقبل منهم أتباع أمره، ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي يختار ما يريد ويأمر به. وينهى عما يكره ويثبت ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة، بالغ الحجة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمدا (صلى الله عليه وآله) وبعثه بالرسالة إلى خلقه، ولو فوض اختيار اموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار امية بن أبي الصلت ومسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله) لما قالوا (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (1)يعنونهما بذلك، فهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض بذلك أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سأله عباية بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي، فقال له: قل يا عباية قال:
ما أقول؟ قال: إن قلت: تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك والمالك لما عليه أقدرك أما سمعت الناس يسألون القوة حيث يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين قال: لا حول بنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله (2) ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون
ص:35
الله،فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه - الحديث».
وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: معنى الأمر بين أمرين أنهم ليسوا بحيث ما شاؤوا صنعوا بل فعلهم معلق على إرادة حادثة متعلقة (1) بالتخلية أو بالصرف، وفي كثير من الأحاديث أن تأثير السحر موقوف على إذنه تعالى وكان السر في ذلك أنه قال: لا يكون شيء من طاعة أو معصية أو غيرهما كالأفعال الطبيعية إلا بإذن جديد مني فتوقف حينئذ كل حادث على الإذن توقف المعلول على شرطه لا توقفه على سببه، وهذا السر هو الذي أشار إليه أيضا في تفسير «أنه لا يكون شيء إلا بإذن الله» حيث قال: كنت متفكرا في أن توقف فعل العبد على إذنه تعالى إما بالذات أو بجعل الجاعل حتى أوقع الله تعالى في قلبي أنه ليس بالذات بل بجعل الله تعالى وتوضيحه أنه تعالى كما أوجب وجود الحوادث بقوله «كن» فقد جعل بقوله: «لم يكن أمر إلا ما أثبته في اللوح ولم يوجد شيء إلا بإذني» جميع أفعال العباد موقوفا عليهما.
14 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الله أكرم من أن يكلف الناس مالا يطيقون، والله أعز من أن يكون في سلطانه مالا يريد».(2)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن
ص:36
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الله أكرم من أن يكلف الناس مالا يطيقون، بل لم يكلفهم إلا دون ما يطيقون كما قال الله عز وجل (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) الوسع: دون الطاقة، وقال الصادق (عليه السلام) «والله ما كلف العباد إلا دون ما يطيقونه من العبادات الشرعية والعقلية لأنهم إنما كلفهم في كل يوم وليلة خمس صلوات، وفي السنة صيام ثلاثين يوما وفي مائتي درهم، خمسة دراهم وفي العمر حجة واحدة، وهم يطيقون أكثر من ذلك» أقول: فيه رد على الجبرية فإنهم قالوا: لم يكلف الله أحد إلا فوق طاقته وجوزوا أن يكلف الله تعالى مقطوع اليد بالكتابة والزمن بالطيران (والله أعز من أن يكون في سلطانه) أي في ملكه (مالا يريد) إذ قد عرفت سابقا أنه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بإرادة ومشية، وقد مر تحقيق ذلك. وفيه رد على المفوضة إذ التفويض كما عرفت آنفا يوجب بطلان أمره ونهيه وإرادته وإذا بطل الجبر والتفويض ثبت الواسطة.
ص:37
1 - «علي بن إبراهيم، عن الحسن بن محمد، عن علي بن محمد القاساني، عن علي بن أسباط قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الاستطاعة، فقال: يستطيع العبد بعد أربع خصال: أن يكون مخلى السرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح، له سبب وارد من الله، قال: قلت: جعلت فداك فسر لي هذا قال: أن يكون العبد مخلى السرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح يريد أن يزني فلا يجد امرأة ثم يجدها. فإما أن يعصم نفسه فيمتنع كما امتنع يوسف (عليه السلام) أو يخلي بينه وبين إرادته فيزني فيسمى زانيا ولم يطع الله بإكراه ولم يعصه بغلبة» (1)
(علي بن إبراهيم، عن الحسن بن محمد، عن علي بن محمد القاساني، عن علي بن أسباط قال:
سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الاستطاعة، فقال: يستطيع العبد بعد أربع خصال) إذا تحققت تلك الخصال حصلت للنفس صفة راسخة قابلة للفعل والترك وتلك الصفة تسمى بالأستطاعة والقدرة والقوة والمكنة، وإن انتفت واحدة منها أو جميعها انتفت تلك الصفة وكان العمل مطرحا منه (أن يكون مخلى السرب) السرب بالتحريك وبالفتح والتسكين: المسلك والطريق يقول خل سربه أي طريقه وفلان مخلى السرب أي موسع عليه غير مضيق، وبالكسر والسكون: النفس، وفي النهاية:
«من أصبح آمنا في سربه» بالكسر: أي في نفسه، والمعنى على الأولين أن طريقه إلى الخير والشر خال بلا مانع، وعلى الأخير أنه لا مانع لنفسه عن الميل إليهما إذ لو منعت نفسه عنه أو سد الطريق لم يكن قادرا مستطيعا. ومن الأصحاب من اشترط في الاستطاعة أن يكون المكلف موجودا عاقلا فاهما للخطاب، وأن يكون الفعل ممكنا وهذه الامور يمكن إدراجها في تخلية السرب (صحيح الجسم) ضرورة أنه إذا كان لجسمه علة مانعة من حركته نحو المطلوب لم يكن قادرا عليه (سليم الجوارح) المعدة للفعل، كالذكر للجماع، والعين للإبصار، والرجل للمشي، واليد للضرب والبطش، وغيرها، فإذا تعطلت تلك الجوارح لم يتحقق الاستطاعة للفعل المطلوب منها.
(له سبب وارد من الله) قال شارح كتاب الاعتقادات للصدوق (رحمه الله): المراد بهذا السبب القوة التي
ص:38
جعلها الله تعالى فيه، وقال بعض الأفاضل: المراد به الإذن، وفيه رد على المفوضة فانهم يقولون فعل العبد لا يتوقف على إذنه تعالى (قال، قلت جعلت فداك فسر لي هذا) أي بين لي هذا السبب الوارد من الله وأوضح توقف الاستطاعة عليه بمثال، وإنما طلب تفسير هذا فقط لأن توقف الاستطاعة التي يعبر عنها بالفارسية ب «توانائي» على الثلاثة الاول ظاهر لا يفتقر إلى تفسير (قال) مثاله (أن يكون العبد مخلى السرب صحيح الجسم سليم الجوارح) فقد حصل له جميع أسباب الاستطاعة إلا السبب فان لم يحصل له السبب بعدها لم يكن مستطيعا وإن حصل كان مستطيعا كما أشار إلى ذلك بقوله (يريد أن يزني) أي يعزم والعزم: ميل النفس إلى أحد الطرفين بعد التردد فيهما وهو يقبل الشدة والضعف ويقوى شيئا فشيئا بزيادة الشوق وتصور النفع إلى أن يبلغ الإرادة الجازمة الجامعة لشرائط التأثير المقارنة للفعل (فلا يجد امرأة) فلا يكون مستطيعا لانتفاء السبب الذي هو وجدان امرأة إذ لوجدانها مدخل في تحقق الزنا وحيث لم يجدها انتفى سبب من أسبابه (ثم يجدها) فيحصل له حينئذ الاستطاعة لتحقق جميع الامور المعتبرة في تحققها (فإما أن يعصم نفسه) من الزنا بسبب توجه لطفه تعالى إليه وأخذه بيده من غير إجبار ولابد من هذا القيد بقرينة قوله «أو يخلى» (فيمتنع) منه فيسمى مطيعا.
(كما امتنع يوسف (عليه السلام)) منه مع قدرته عليه لما رآه من برهان ربه وهو اللطف منه (أو يخلى بينه وبين إرادته) لإعراضه عن اللطف بسبب متابعة القوة الشهوية (فيزني فيسمى زانيا) وفيه دلالة على أن فعل العبد بإرادته الجازمة المتعلقة به وتعلقها هو الذي سماه بعضهم بالداعي كما في شرح القديم والجديد للتجريد، ووجوب الفعل حينئذ لا ينافي إمكانه الذاتي بل تحققه كما بين في موضعه ولا اختيار الفاعل وقدرته على الترك لأن القادر المختار هو الذي يصح منه الفعل والترك قبل تعلق الإرادة الجازمة وإن وجب بعده والوجوب بالغير لو كان منافيا للقدرة والاختيار لزم أن لا يوجد فاعل مختار أصلا إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد وحين الوجوب لا يبقى التمكن من الفعل والترك (ولم يطع الله) في صورة امتناع العبد (بإكراه) من الله وجبره على الامتناع لوقوع الطاعة بالاختيار (ولم يعصه) في صوره إمضاء إرادته وعدم امتناعه (بغلبة) أي بغلبة إرادته على إرادة الله لأن الغلبة إنما يتحقق لو أراد الله تعالى تركه حتما وأراد العبد فعله وحصل مراد العبد دون مراد الله تعالى. وأما إذا أراد الله تعالى تركه على سبيل التكليف والاختيار مع اللطف واختار العبد خلافه فلا، وما نحن فيه من هذا القبيل، فقد ثبت بذلك استطاعة العبد وقدرته على الفعل والترك وبطل القول بالجبر والتفويض.
ص:39
2 - «محمد بن يحيى وعلي بن إبراهيم جميعا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم وعبد الله بن يزيد جميعا، عن رجل من أهل البصرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاستطاعة، فقال:
أتستطيع أن تعمل ما لم يكون؟ قال: لا، قال: فتستطيع أن تنتهي عما قد كون؟ قال: لا، قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): «فمتى أنت مستطيع؟ قال: لا أدري، قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثم لم يفوض إليهم، فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل، فإذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه لأن الله عز وجل أعز من أن يضاده في ملكه أحد. قال البصري: فالناس مجبورون؟ قال: لو كانوا مجبورين كانوا معذورين، قال: ففوض إليهم؟ قال: لا، قال: فما هم؟ قال: علم منهم فعلا فجعل فيهم آلة الفعل فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين، قال البصري: أشهد أنه الحق وأنكم أهل بيت النبوة والرسالة».(1)
(محمد بن يحيى وعلي بن إبراهيم جميعا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، وعبد الله ابن يزيد جميعا عن رجل من أهل البصرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاستطاعة فقال) أبو عبد الله (عليه السلام): (أتستطيع) في الحال (أن تعمل ما لم يكون؟ قال: لا) لاستحالة أن يوجد الفعل الاستقبالي في الحال، فإن قلت: الحق أن أصل القدرة مقدمة على الفعل فكيف ضح هذا النفي؟ قلت: أولا: إن الكلام هنا في القدرة المؤثرة كما ستعرفه وهي مع الفعل، وثانيا: إن بعض المفوضة ذهب إلى أن الله تعالى أقدر العبد في الحال على الفعل ثاني الحال من غير توقف الفعل في ثاني الحال على إذنه تعالى، وعنده القدرة عرض غير باق في آنين فلزمه القول بوجود الفعل في ثاني الحال بدون قدرة العبد عليه ولعل هذا الكلام إشارة إلى نفي هذا المذهب (قال فتستطيع أن تنتهي) في الحال (عما قد كون) وتترك ما عملته في الماضي (قال: لا) لضرورة امتناع تعلق القدرة بما مضى من الفعل أو الترك (قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): فمتى أنت مستطيع؟ قال: لا أدري، قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة) هي القوة الجسمانية والقدرة النفسانية والعلم والحياة والعقل والصحة (ثم لم يفوض إليهم) حتى يفعلوا ما يشتهون ويأخذوا ما يريدون غير ممنوعين ولا محصورين بالأمر والنهي فهم مستطيعون للفعل) لما ملكهم وأقدرهم (وقت الفعل) لا قبله ولا بعده (مع الفعل) بمقارنته إلى آخره (إذا فعلوا ذلك الفعل) ظرف لقوله مستطيعون ومثله ما كتبه الصادق (عليه السلام) في جواب مسائل عبد الرحيم القصير
ص:40
وهو هذا «وسألت رحمك الله عن الاستطاعة للفعل فإن الله عز وجل خلق العبد وجعل له الآلة والصحة وهي القوة التي يكون العبد بها متحركا مستطيعا للفعل ولا متحرك إلا وهو يريد الفعل وهي صفة مضافة إلى الشهوة التي هي خلق الله عز وجل مركبة في الإنسان، فإذا تحركت الشهوة في الإنسان اشتهى الشيء وأراده، فمن ثم قيل للإنسان مريد فإذا أراد الفعل الفعل وفعل كان مع الاستطاعة والحركة (1) فمن ثم قيل للعبد مستطيع متحرك فإذا كان الإنسان ساكنا غير مريد وكان معه الآلة وهي القوة والصحة اللتان بهما يكون حركات الإنسان كان سكونه لعلة سكون الشهوة فقيل ساكن فوصف بالسكون، فإذا اشتهى الانسان وتحركت شهوته التي ركبت فيه اشتهى الفعل وتحرك بالقوة المركبة فيه واستعمل الآلة التي بها يفعل الفعل فيكون الفعل منه عندما تحرك واكتسبه.
فقيل: فاعل ومتحرك ومكتسب ومستطيع أولا ترى أن جميع ذلك في صفات يوصف بها الإنسان. ولعل المقصود من هذا الحديث والذي بعده أن الاستطاعة بمعنى القوة المؤثرة المأخوذة مع جميع جهات التأثير وشرائطه مع الفعل لا قبله ولا بعده، وهذا أمر متفق عليه بين الإمامية والمعتزلة والجبرية وهم الأشاعرة وإنما النزاع بينهم في أصل الاستطاعة والقدرة والكيفية المسماة بها هل هي موجودة قبل الفعل أم لا؟ فذهب الإمامية والمعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني وقالوا: لا قدرة سوى هذه القدرة المقارنة للفعل، وليس في هذين الحديثين دلالة على نفي تقدم القدرة المطلقة على الفعل، وبما ذكرنا اندفع ما أورده الفاصل الأسترآبادي من أن هذا الحديث والذي بعده ليس موافقا للحق فهو من باب التقية، فان قلت: إذ كانت الجبرية قائلة بالقدرة المقارنة فأين لزمهم القول بالجبر؟ قلت: إنهم يقولون: إذا أراد الله أن يخلق أفعالهم خلق فيهم قدرة مقارنة للفعل من غير أن يكون لقدرتهم مدخل وتأثير فيه بوجه من الوجوه
ص:41
وحاصله أن هناك قدرتين قدرة الله تعالى وقدرة العبد، فإذا تهيأ العبد بقدرته لإيجاد الفعل سبقت القدرة الإلهية إلى إيجاده فيوجد فأفعالهم مخلوقة مكسوبة لهم، والمراد بكسبهم مقارنة أفعالهم لقدرتهم من غير أن يكون لقدرتهم تأثير فيها وقالوا: إن الثواب والعقاب باعتبار الكسب وهو كونهم محلا لتلك القدرة الغير المؤثرة (فإذا لم يفعلوه في ملكه) ولم يوجدوه في وقته بكف النفس عنه اختيارا (لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه) لما عرفت أن الاستطاعة لا تتعلق على فعل ما مضى فعله أو تركه (لأن الله تعالى أعز من أن يضاده في ملكه أحد) علة لقوله «لم يفوض إليهم» لما عرفت من أن التفويض يوجب القول بانتفاء إرادته وإذنه بطلان أمره ونهيه فأهل التفويض يضادون الله تعالى في ملكه وسلطنته، وقد دل كلامه (عليه السلام) على ثلاثة أمور: الأول:
نفي الاستطاعة قبل الفعل وبعده.
الثاني: نفي التفويض، والثالث: ثبوت الاستطاعة وقت الفعل، ولما غفل البصري عن الأخير المتوسط بين الجبر والتفويض، وتوهم من الأولين نفي القدرة المقتضي لثبوت الجبر (قال البصري:
فالناس مجبورون) لابد من تقدير «قلت» أي قلت: فالناس مجبورون ليست لهم قدرة على الفعل والترك ليصح الارتباط ورواية ابن يزيد عنه (قال: لو كانوا مجبورين كانوا معذورين) بالضرورة واللازم باطل لاستحقاقهم العذاب كما يدل عليه كثير من الآيات والروايات والمعذور لا يستحق العذاب ولما نفى الجبر وتوهم البصري ثبوت التفويض لخفاء الواسطة عليه (قال: ففوض إليهم؟) حتى يكونوا مستطيعين قادرين كاملين غير محصورين ولا محتاجين إلى إذنه تعالى (قال: لا) نفي التفويض ولم يذكر دليله اكتفاء بما مر من قوله «لأن الله تعالى أعز من أن يضاده في ملكه أحد (قال) إذا انتفى عنهم الجبر والتفويض (فما هم) وعلى أي حال (قال: علم منهم فعلا) من الخير والشر (فجعل فيهم آلة الفعل) في وقته وهي إقدارهم وتمكنهم عليه وليس تصرفهم فيه على وجه المغالبة والمقاهرة عليه تعالى، بل لأن التكليف ينافيه الجبر والتفويض فخلى بينه وبينهم (فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين) ومع إعطاه الاستطاعة عند كل فعل فعل لا قبله ولا بعده ينتفي الجبر والتفويض، أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن المفوضة يقولون ليس له تعالى إرادة وإذن وتصرف في أفعالهم، فإذا ثبت هذا النحو من التصرف والإذن بطل التفويض (قال البصري: أشهد أنه الحق) دون الجبر والتفويض الواقعين في طرف الإفراط والتفريط (وأنكم أهل بيت النبوة والرسالة) ولا يعلم ما في هذا البيت من الحقائق الإلهية والأسرار الربانية إلا أنتم.
3 - «محمد بن أبي عبد الله، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، ومحمد
ص:42
بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن علي بن الحكم، عن صالح النيلي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال: فقال لي: إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم، قال: قلت: وما هي؟ قال: الآلة مثل الزاني إذا زنى كان مستطيعا للزناء حين زنى ولو أنه ترك الزناء ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك، قال: ثم قال: ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا، قلت: فعلى ماذا يعذبه؟ قال:
بالحجة البالغة والآلة التي ركب فيهم، إن الله لم يجبر أحدا على معصيته، ولا أراد - إرادة حتم - الكفر من أحد ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر، وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير، قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: ليس هكذا أقول ولكني أقول: علم أنهم سيكفرون، فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنما هي إرادة اختيار».(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، ومحمد ابن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن علي بن الحكم، عن الصالح النيلي) صالح بن الحكم النيلي الأحول ضعيف (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال: فقال لي:
إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم قال: قلت: وما هي) أوضح لي بمثال (قال: الآلة) التي أودعها فيهم (مثل الزناء إذا زنى) ضمير الفاعل يعود إلى الرجل المعلوم أو إلى الزناء باعتبار إرادة الزاني منه من باب الاستخدام (كان مستطيعا للزناء حين زنى ولو أنه ترك الزناء ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك) لما كان المراد بالاستطاعة الاستطاعة الكاملة والقوة المؤثرة دل الحديث على أن العلة التامة لا توجب الفعل إذ هي على تقدير إيجابها للفعل لا تتعلق بالترك وإنما تتعلق بالترك علة تامة اخرى غير متعلقة بالفعل، ويمكن الجواب بأن المراد من قوه: «ولو أنه ترك الزناء» أنه لو تركه بكف النفس عنه الذي هو الجزء الأخير من علة الزناء حصلت حينئذ علة الترك فاللازم حينئذ أن يكون كل من الفعل والترك مستندا إلى علته لا أن العلة الواحدة المستقلة متعلقة بهما، وأما وجوب كل من الفعل والترك بعلته التامة فلا ينافي الاختيار فيه لما مر.
(قال: ثم قال: ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير) فإن قلت: هذا إنما ينطبق على مذهب الجبرية القائلين بأن الاستطاعة إنما هي الاستطاعة التامة المقارنة للفعل وليس هنا استطاعة مطلقة سابقة عليه كما هو مذهب الإمامية والمعتزلة قلت: هذا إنما يتم لو جعلت القلة والكثرة وصفا للاستطاعة وقبل الفعل ظرفا لها، أما لو جعلتا وصفا للزمان الذي هو قبل الفعل كان
ص:43
المعنى ليس له الاستطاعة الكاملة في زمان قليل قبل الفعل ولا في زمان كثير قبله، وهذا لا ينافي ثبوت الاستطاعة الناقصة قبل الفعل كما لا يخفى، وهذا الاحتمال وإن كان أبعد من الأول لكنه أولى بالإرادة لضرورة أن الاستطاعة المطلقة التي هي التمكن من الفعل بوجود الآلة مقدمة على الفعل، ومما يوجب حمله على هذا الاحتمال ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما كلف الله العباد بفعل ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم استطاعة ثم أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذا ولا تاركا إلا باستطاعة متقدمة قبل الأمر والنهي وقبل الأخذ والترك وقبل القبض والبسط» وعن عوف بن عبد الله عن عمه قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من الاستطاعة فقال: وقد فعلوا؟ فقلت: نعم زعموا أنها لا تكون إلا عند الفعل واردة حال الفعل لا قبله فقال: أشرك القوم (ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا) بالاستطاعة التامة، وأما ما تحقق قبلهما من مادة هذه الاستطاعة التي هي أيضا من أفراد الاستطاعة المطلقة فهو بالقياس إلى الاستطاعة كأنه ليس باستطاعة.
(قلت: فعلى ماذا يعذبه؟) لما علم أن الاستطاعة مقارنة للفعل وأن المراد بها الاستطاعة التامة المؤثرة وتوهم أنها من فعل الله تعالى سأل عن سبب تعذيبه للعبد مع أن الفعل ليس بمقدور له (قال: بالحجة البالغة) وهي إرسال الرسل وإنزال الكتب ووضع الشرائع (والآلة التي ركب فيهم) التي هي مادة تلك الاستطاعة (1) والمقصود نفي ما توهمه السائل وبيان أن هذه الاستطاعة بتمامها ليست من فعله تعالى وإنما مادتها وهي الآلة من فعله تعالى، والبواقي من الامور التي لها مدخل في التأثير من فعل العبد، فيعذبهم بسبب صرفهم تلك الآلة في غير ما خلقت لأجله مع التبليغ والإنذار، ثم أكد إبطال ذلك التوهم بقوله (إن الله لم يجبر أحدا على معصيته) لأن الجبر على المعصية، ثم التعذيب عليها - كما زعمت الجبرية - قبيح والله سبحانه منزه عن القبائح، وقالت
ص:44
الجبرية: لو كان خلق المعصية التي هي من الأعراض قبيحا لكان خلق بعض الجواهر والذوات مثل الخنزير والعقرب والحية أيضا قبيحا، ولما جاز هذا بالاتفاق فكذا ذاك وإلا فما الفرق؟ وأجاب العدلية عنه بأن المراد بالمعاصي والشرور والقبائح التي لا يفعلها الله تعالى ما يكون مفاسده في نظام الوجود أكثر من مصالحه عند العقل وما هو محل النزاع من القبائح والمفاسد الصادرة من العباد كالزناء واللواط والسرقة وسفك الدماء ونحوها مما لا يجد العقل السليم فيها فائدة ونفعا في حفظ النظام، ولو كانت فيها مصلحة فهي أقل من مفاسدها بكثير بخلاف ما يستقبحه العقل في بادىء النظر من أفعاله تعالى فإنه إذا تأمل فيها العاقل ربما اطلع على ما فيها من حكم ومصالح لا يحصى فيعود الاستقباح في نظره استحسانا كما في قصة موسى مع الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام (ولا أراد - إرادة حتم - الكفر من أحد) حتى يكون مجبورا على الكفر غير مستحق للتعذيب وهذه الإرادة هي التي يسميها أهل العدل إرادة قسر وإرادة إلجاء، ولما فهم من نفي القيد أنه أراد الكفر استدرك وبين كيفية تلك الإرادة بقوله (ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر) لما أراد إيمانه على التخيير دون القسر والإلجاء مع إقداره عليه وعلى الكفر صارت تلك الإرادة ظرفا لكفره مجازا إذ لو تحقق - القسر لم يتحقق الكفر، ويحتمل أن يراد بالإرادة: العلم، قال شارح كشف الحق (رحمه الله): إرادته تعالى للأفعال علمه بها وبما فيها مع المصالح (وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير) ولا يلزم منه الجبر، لأن علمه تعالى بما يفعل العبد باختياره لا يوجب الجبر وإنما يوجبه لو كان العلم علة للمعلوم وليس كذلك.
(قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: ليس هكذا أقول) لما لم يفهم السائل مراده (عليه السلام) سأله بهذه العبارة وإنما نفاها (عليه السلام) لأنها تفيد ظاهرا أن كفرهم مراد له تعالى بالذات كالإيمان، وليس كذلك لأنه لا يريد المعاصي كما يريد الخيرات (ولكني أقول: علم) في الأزل (أنهم سيكفرون، فأراد الكفر لعلمه فيهم) لعل المقصود أن كفرهم لما كان واقعا في نفس الأمر باختيارهم وكان علمه تعالى متعلقا به في الأزل وأراد أن يكون علمه مطابقا للمعلوم أراد الكفر بالعرض من جهة أن إرادة هذه المطابقة يستلزم إرادة طرفها الذي هو المعلوم، أعني الكفر إذ بدونه لا يتحقق ولا ينافي إرادته من هذه الجهة كراهة صدوره منهم أبدا، وبذلك يظهر الفرق بين إرادة الخيرات وإرادة الشرور، فإنه تعالى يريد صدور الخيرات منهم أبدا سواء علم وقوعها أو علم عدم وقوعها ولا يريد صدور الشرور منهم أبدا، فإن صدرت منهم يتعلق بها الإرادة من حيث أنها طرف للنسبة العلمية المطابقة للواقع لا من حيث الصدور منهم (وليست إرادة حتم) لأن هذه الإرادة تابعة للعلم بوقوعه وليس علة لوقوعه حتى يلزم أن يكونوا مجبورين عليه غير قادرين على تركه (إنما هي إرادة واختيار)
ص:45
نشأت من عدم جبرهم على الإيمان إذ لو جبرهم عليه لما صدر منهم الكفر ولما تعلق به العلم والإرادة.
4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابنا، عن عبيد بن زرارة قال: حدثني حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاستطاعة فم يجبني فدخلت عليه دخلة اخرى، فقلت: أصلحك الله إنه قد وقع في قلبي منها شيء لا يخرجه إلا شيء أسمعه منك، قال: فإنه لا يضرك ما كان في قلبك، قلت: أصلحك الله إني أقول:
إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون، ولم يكلفهم إلا ما يطيقون، وإنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره، قال: فقال: هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي، أو كما قال».(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابنا، عن عبيد بن زرارة قال: حدثني حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن استطاعة) كأن المراد بها هنا التمكن من الفعل والترك وهو الاستطاعة المطلقة المتقدمة (فلم يجبني) إما للتقية عن بعض الحاضرين، أو لعلمه بأن السائل على الحق، أو لمصلحة (فدخلت عليه دخلة اخرى فقلت: أصلحك الله إنه قد وقع في قلبي منها شيء) لإنكار الجبرية إياها (لا يخرجه إلا شيء أسمعه منك قال: فإنه لا يضرك ما كان في قلبك) من الخاطرات، حكم بذلك لعلمه بأن قلبه كان على الحق ولم يكن فيه شيء يهلكه (قلت: أصلحك الله إني أقول: إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون) كما زعمه الجبرية القائلون بأنه تعالى لا يكلف العباد إلا بما لا يستطيعون حيث أنهم يقولون العبد ليست له قدرة مؤثرة (ولم يكلفهم إلا ما يطيقون) كما قال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (وأنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره) قد مر شرحه مفصلا في مواضع متعددة منها باب المشيئة والإرادة (قال: فقال: هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي، أو كما قال) (2) من الكلام، يعني: قال هذا القول بعينه أو قال ما هو مثله في المعنى.
ص:46
لعل المراد بالبيان: توضيحه تعالى معرفته ومعرفة رسوله والأئمة (عليهم السلام) في الميثاق وبالتعريف:
تعريف الرسول والأئمة تلك المعارف والأحكام للأمة في هذا العالم، وبلزوم الحجة أن الحجة لا تلزم إلا بعد البيان والتعريف، وبالجملة المقصود من هذا الباب أن الأحكام الاصولية والفروعية كلها توقيفية لا يمكن معرفة شيء منها إلا بالبيان والتعريف وبعدهما لزمت الحجة على المطيع والعاصي وقال الفاضل الأسترآبادي: المقصود من هذا الباب شيئان، الأول: أن الصور الإدراكية كلها فايضة من الله تعالى بأسبابها وهذا هو قول الحكماء وعلماء الإسلام، قال الله تعالى (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)، وشبهها من الآيات. والثاني أن الله تعالى لم يكلفنا بالكسب لنعرف أن لنا خالقا وله مبلغا رسولا بل عليه أن يعرفنا نفسه ورسوله وبذلك لزمت الحجة على الخلق. وغيره، وقيل: المراد بالبيان: بيان الأحكام الشرعية في القرآن لرسوله وبالتعريف: تعريف الرسول تلك الأحكام للأمة، وبلزوم الحجة: لزومها على الخلق بعد البيان والتعريف.
1 - «محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ان الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم».
«محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج مثله».(1)
(محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله احتج على الناس بما آتاهم) من الحجج الباطنة وهي العقل والقدرة والعلم وغيرها (وعرفهم) بالحجج الظاهرة من إرسال الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب. والمقصود أنه تعالى أكمل حجته عليهم باطنا وظاهرا وأما باطنا فبأن أعطاهم قوة على فعل الخيرات وعقلا قابلا لمعرفتها وسلوك سبيلها، وأما
ص:47
ظاهرا فبأن عرفهم طريق التوحيد وما يليق به أولا وطريق الخيرات والشرور ثانيا بوضع الشرائع وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأوصياء وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة كما قال: (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) وقال: (ألم يأتكم نذير) إلى غير ذلك من الآيات.
(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج مثله) كأن جميل بن دراج روي هذا الحديث تارة أخرى عنه (عليه السلام) بلا واسطة.
2 - «محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير عن محمد بن حكيم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟ قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع».(1)
(محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد ابن حكيم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟) أهي من صنع الله تعالى وتوفيقه أو من صنع العباد وكسبهم بأفكارهم (قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع) قد رويت في هذا المعنى روايات كثيرة بلغت لكثرتها حد التواتر المعنوي منها مذكورة في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) ومنها مذكورة في كتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي (رضي الله عنه) ومنها مذكورة في غيرهما من الكتب المعتبرة وفيه دلالة بحسب المنطوق والمفهوم على أن معرفته تعالى توقيفية وأن العباد لم يكلفوا بتحصيلها بالنظر والاستدلال وأن على الله البيان والتعريف، أولا: في عالم الأرواح بالإلهام، وثانيا: في عالم الأجسام بإرسال الرسول وإنزال الكتب وأن عليهم قبول ما عرفهم الله تعالى، فبطل ما ذهب إليه الأشاعرة والمعتزلة وبعض أصحابنا من أن معرفته تعالى نظرية (2)
ص:48
واجبة على العباد وأنه تعالى كلفهم بالنظر والاستدلال فيها إلا أن الأشاعرة قالوا يجب معرفته نقلا بالنظر والمعرفة بعده من صنع الله تعالى بطريق العادة، والمعتزلة ومن يحذو حذوهم قالوا: يجب معرفته عقلا بالنظر والمعرفة بعده من صنع العبد يولدها النظر كما أن حركة اليد تولد حركة المفتاح وهم قد اختلفوا في أول واجب فقال أبو الحسن الأشعري هو معرفته تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينية وعليه يتفرع كل واجب من الواجب الشرعية.
وقيل: هو النظر في معرفته تعالى لأن المعرفة تتوقف عليه وهذا مذهب جمهور المعتزلة. وقيل:
هو أول جزء منه لأن وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه فأول جزء من النظر واجب ومقدم على النظر المتقدم على المعرفة، وقيل: هو القصد إلى النظر لأن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المتقدم على أول جزء من أجزاء النظر، وقال شارح المواقف: النزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد الأول، أي اريد أول الواجبات المقصودة أولا وبالذات فهو المعرفة إتفاقا وإن لم يرد ذلك بل اريد أول الواجبات مطلقا، فالقصد إلى النظر لأنه مقدمة للنظر الواجب مطقا فيكون واجبا أيضا وكل هذا باطل عند الأخباريين من أصحابنا لأنها فرع وجوب المعرفة والمعرفة عندهم موهبية، ويحتمل أن يراد بالمعرفة معرفة الرسول أيضا وهو الذي ذهب إليه الفاضل الأسترآبادي في الفوائد المدنية حيث قال: قد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوة متصلة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بأن معرفة الله تعالى بعنوان أنه خالق للعالم وأن له رضا وسخطا وأنه لابد من معلم من جهته تعالى ليعلم الخلق ما يرضيه وما يسخطه من الامور الفطرية التي في القلوب بإلهام فطري إلهي (1) وذلك كما
ص:49
قالت الحكماء الطفل يتعلق بثدي امه بإلهام فطري إلهي وتوضيح ذلك أنه تعالى ألهمهم بتلك القضايا، أي خلقها في قلوبهم وألهمهم بدلالات واضحة على تلك القضايا، ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليه الكتاب فأمر فيه ونهى فيه، وبالجملة لم يتعلق وجوب ولا غيره من التكليفات إلا بعد بلوغ خطاب الشارع، ومعرفة الله تعالى قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق إلهام بمراتب وكل من بلغته دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) يقع في قلبه من الله يقين بصدقه فإنه تواتر الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأنه «ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أو تركه» وقال في الحاشية عليها قد تواترت الأخبار أن معرفة خالق العالم ومعرفة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ليستا من أفعالنا الاختيارية، وأن على الله بيان هذه الامور وإيقاعها في القلوب بأسبابها (1) وأن على الخلق بعد أن أوقع الله تعالى تلك المعارف الإقرار بها والعزم على العمل بمقتضاها، ثم قال في موضع آخر منها: قد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم كما تواترت بأن المعرفة موهبية غير كسبية، وإنما عليهم اكتساب الأعمال فكيف يكون الجمع بينهما؟ أقول: الذي استفدته من كلامهم (عليهم السلام) في الجمع بينهما أن المراد بالمعرفة: ما يتوقف عليه حجية الأدلة السمعية (2) من معرفة
ص:50
صانع العالم وأن له رضا وسخطا وينبغي أن ينصب معلما ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم، ومن معرفة النبي (صلى الله عليه وآله) والمراد بالعلم الأدلة السمعية كما قال: «العلم إما آية محكمة أو سنة متبعة أو فريضة عادلة، وفي قول الصادق (عليه السلام) إن من قولنا أن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليه الكتاب وأمر فيه ونهى» وفي نظائره إشارة إلى ذلك ألا ترى أنه (عليه السلام) قدم أشياء على الأمر والنهي، فتلك الأشياء كلها معارف وما يستفاد من الأمر والنهي كله هو العلم. ويحتمل أيضا أن يراد بها معرفة الأحكام الشرعية وهو الذي ذهب إليه بعض أصحابنا قال: المراد بهذه المعرفة المعرفة التي لا تلزم حجته تعالى بالثواب والعقاب يوم القيامة إلا بها وهي معرفة الأحكام التكليفية التي يعذب ويثاب مخالفها وموافقها.
3 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) (1)قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه، وقال: (فألهمها فجورها وتقواها) (2)قال: بين لها ما تأتي وما تترك، وقال: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (3)قال: عرفناه إما آخذ وإما تارك» وعن قوله: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى
ص:51
على الهدى) قال: عرفناهم فاستحبوا العمى على الهدى وهم يعرفون». وفي رواية: بينا لهم».(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (وما كان الله ليضل قوما) أي ليسميهم ضلالا أو يؤاخذهم مؤاخذتهم أو يسمهم بسمة الضلالة يعرف بها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها أنهم من الضالين أو يخذلهم بسلب اللطف والتوفيق عنهم (بعد إذ هداهم) إلى طريق معرفته بإلهام فطري (حتى يبين لهم ما يتقون)(2) قال: حتى يعرفهم بتوقيف نبوي (وما يرضيه وما يسخطه) من المعارف اليقينية والأحكام الدينية فهي توقيفية، على الله البيان وعليهم القبول (وقال) حمزة بن محمد الطيار ((فألهمها فجورها وتقواها) قال: بين لها ما تأتي وما تترك) أي عرفها ما ينبغي أن تأتي بها من المعرفة، والطاعة وما ينبغي أن تتركه من الكفر والمعصية، وقد أشار القاضي إلى هذا التفسير بقوله إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما والتمكين من الإتيان بهما (وقال: (إنا هديناه السبيل)) أي سبيل الخيرات والطاعات (إما شاكرا وإما كفورا)(3) قال القاضي: هما حالان من الهاء، وإما للتفصيل أو التقسيم أي هديناه في حاليه جميعا أو مقسوما إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عنه أو من السبيل ووصفه بالشكر والكفر مجاز (قال عرفناه) بتشديد الراء والهاء مفعول أول يعود إلى الإنسان والمفعول الثاني محذوف أي عرفناه السبيل (إما آخذ وإما تارك) الآخذ: هو الشاكر، والتارك: هو الكافر، ولعل المراد أن بيان الواجبات مطلقا أصلية كانت أو فرعية على الله وليس عليهم النظر في تحصيل معارفه وأحكامه، ومن لطف الله تعالى علينا أنه من علينا بنعمة هي الهداية وجعل قبول تلك النعمة شكرا لها وتركها كفرانا، فسبحانه ما أرفع شأنه وأعظم امتنانه، (وعن قوله) عطف على قوله «في قول الله تعالى» (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (4)قال: عرفناهم سبيل الحق وهو طريق التوحيد والمعرفة وغيرهما من الأحكام (فاستحبوا العمى على الهدى) واختاروا الضلالة على الهداية (وهم يعرفون) سبيل الحق والهداية أو التفاوت بينهما وبين الضلالة، والواو للحال عن ضمير الجمع (وفي رواية بينا لهم) أوضحنا طريق الهداية فاختاروا طريق الضلالة بعد البيان والإيضاح.
ص:52
4 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن ابن بكير، عن حمزة بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وهديناه النجدين) قال:
نجد الخير والشر».(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن ابن بكير، عن حمزة بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى: (وهديناه النجدين) قال: نجد الخير والشر) أي عرفناه سبيلهما والنجد في الأصل الطريق الواضح المرتفع وفيه دلالة على أن الهداية تطلق على إراءة طريق الشر أيضا.
وقال سيد المحققين: إذا اريد تخصيص الهداية بالخير، قيل أي نجدي العقل النظري والعقل العملي وسبيلي كمال القوة النظرية وكمال القوة العملية أو نجدي المعاش والمعاد أو نجدي الدنيا والآخرة أو نجدي الجنة والثواب والفناء المطلق في نور وجه الله والبهجة الحقة للقاء بقائه.
5 - «وبهذا الاسناد، عن يونس، عن حماد، عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال: لا، قلت: فهل كلفوا المعرفة؟ قال: لا، على الله البيان، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، قال: وسألته عن قوله: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) (2)قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه».(3)
(وبهذا الإسناد، عن يونس، عن حماد، عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلحك الله هل جعل في الناس أداة) الأداة الآلة والمراد بها هنا العقل والذكاء (ينالون بها) بدون التعريف والتوقيف والتكليف (المعرفة) أي معرفة الله تعالى ومعرفة الرسول ومعرفة الأحكام أيضا (قال:
فقال لا. قلت فهل كلفوا المعرفة) بالنظر والاستدلال (قال: لا، على الله البيان) (4) وعليهم القبول
ص:53
كما دل عليه ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد عن الصادق (عليه السلام) قال: «ليس لله على الخلق أن يعرفوا قبل أن يعرفهم وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا».
ثم أشار إلى أن تكليفهم بالمعرفة تكليف بالمحال بقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (1)من الاقتدار على قبول المعارف والأحكام فهم مكلفون بقبولها بعد البيان لا بتحصيلها إذ المعارف والأحكام توقيفية فهي من صنع الله تعالى لا من صنعهم وإذا لم تكن من صنعهم كان التكليف بها تكليفا بالمحال، وفيه رد على من زعم أن المعرفة نظرية يجب على العباد تحصيلها بالنظر وأن الأحكام الشرعية يجوز استنباطها بالرأي والقياس، وعلى من زعم من الأشاعرة أن تصور الخطاب من غير سبق معرفة إلهامية بخالق العالم وبأن له رضا وسخطا وبأنه لابد من معلم من جهته تعالى ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم كاف في تعلق التكليف بهم (قال:
وسألته عن قوله (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه) دل على أن تعذيبهم والحكم بضلالتهم بعد هدايتهم في الميثاق إلى المعرفة ونسيانهم إياها منفي حتى يبعث إليهم رسولا يذكرهم على العهد ويبين لهم ما يوجب رضاه وسخطه كما قال سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).(2)
6 - «وبهذا الاسناد، عن يونس، عن سعدان رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله فمن من الله عليه فجعله قويا فحجته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن من الله عليه فجعله موسعا عليه فحجته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله. ومن من الله عليه فجعله شريفا في بيته، جميلا في صورته فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك وأن لا يتطاول على غيره، فمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه
ص:54
وجماله».(1)
(وبهذا الإسناد، عن يونس، عن سعدان رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم ينعم على عبد نعمة) ظاهرة وباطنة (إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله) بعد البيان والتوضيح لما ألزمه فزاد عليه، تكليفا بإزائها شكرا لها (فمن من الله عليه فجعله قويا) في الجسم والعقل (فحجته عليه القيام بما كلفه) من الجهاد والطاعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما لا يصدر إلا عن الأقوياء، والمراد أن القيام بما كلفه به أمر يحتج به سبحانه على القوي يوم القيامة إن تركه، فالقيام عدما حجته تعالى عليه، كما أنه وجودا حجة القوي على الله تعالى في الوفاء بما وعد للمطيع (واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه) يعني حجته عليه أيضا أن يتحمل ممن هو أضعف منه ولا يأخذه بالجريرة وسوء الأدب أو يتحمل منه ثقله بدفع ظلم الظالم وجور الجائر وغير ذلك مما يكسر ظهره ويجرح قلبه (ومن من الله عليه فجعله موسعا عليه) في الرزق والمال (فحجته عليه ماله) يحتج به إن لم يخرج ما فيه من الواجبات المالية مثل الزكاة والخمس وغيرهما (ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله) تعاهده من باب إضافة المصدر إلى الفاعل والضمير يعود إلى الموصول أو إلى الموسع عليه و «بعد» مبني على الضم بحذف المضاف إليه، والباء في قوله «بنوافله» متعلق بالتعاهد، والضمير المجرور راجع إلى المال، يعني ثم حجته تعالى عليه بعد إخراجه الواجبات المالية ومفروضاتها أن يتعاهد حال الفقراء بنوافل ماله بالهدايا والتصدقات المندوبة (ومن من الله عليه فجعله شريفا في بيته) أي فجعله شريفا في نسبه وكريما في حسبه ورفيعا في خلقه (جميلا في صورته) الظاهرة بحسن هيئته ولطافة تركيبه ورشاقة قده وصباحة خده (فحجته عليه أن يحمد الله على ذلك) لأن ذلك من عظيم نعمائه تعالى عليه بلا سبق استحقاق فينبغي أن يحمده عليه أكمل من الحمد على نعمة له مدخل في اكتسابها لئلا يكون يوم القيامة محجوجا بتركه (وأن لا يتطاول على غيره) يعني لا يطلب الزيادة على غيره بالتكبر والافتخار ولا ينظر إليه بالإهانة والاستصغار (فيمنع حقوق الضعفاء) متفرع على المنفي وهو التطاول، يعني فيمنع التطاول أو فيمنع ذلك الشريف بسبب التطاول حقوق الضعفاء من زيارتهم وعيادتهم والمشي إلى قضاء حوائجهم وحضور جنائزهم إلى غير ذلك من الحقوق (لحال شرفه وجماله) متعلق بتطاول أو بيمنع والأخير أظهر.
ص:55
وأعلم أن الأحاديث السابقة دلت على أن المعارف كلها من صنع الله تعالى. وهذا الحديث دل على أن للعبد اكتساب الأعمال وأن لله تعالى حجة عليهم في جميع ذلك، يدل على ذلك ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنه سئل عن المعرفة أمكتسبة (1) هي؟ فقال: لا، فقيل له: فمن صنع الله عز وجل وعطائه هي؟ قال: نعم، وليس لهم صنع ولهم اكتساب الأعمال، وقال (عليه السلام): أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين».
ص:56
1 - محمد بن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسين بن زيد، عن درست بن أبي منصور، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع:
المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة».(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسين بن زيد، عن درست بن أبي منصور، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع:
المعرفة والجهل) لعل المراد أن معرفته تعالى عيانا في الميثاق والجهل بتلك المعاينة ونسيانها في عالم الطبائع من صنع الله تعالى والذي يدل عليه ما رواه أحمد بن أبي عبد الله البرقي في المحاسن بإسناده عن زرارة، «عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) (2)قال: كان ذلك معاينة الله فأنساهم الله المعاينة وأثبت الإقرار في صدورهم ولولا ذلك ما عرف أحد خالقه ولا رازقه وهو قول الله (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) (3)أو المراد أن الصور العلمية كلها تصورية كانت أو تصديقية ضرورية كانت أو نظرية والجهل بها أعني عدم حصولها أصلا أو زوالها بعد الحصول من صنع الله تعالى والذي يدل عليه ما مر في باب حدوث العالم من قول الصادق (عليه السلام) «وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك» حيث عد ذلك من جملة آيات وجوده وظهوره تعالى إلا أن فيضانها يتوقف على استعداد النفس بسبب إدراك المحسوسات وترتيب الضروريات، وهذا مذهب الحكماء وأكثر المنطقيين والمتكلمين ومنهم المحقق حيث قال في التجريد: ولابد فيه يعني في العلم من الاستعداد أما الضروري فبالحواس وأما الكسبي فبالأولى.
يريد أن إدراك المحسوسات ثم ترتيب التصورات والتصديقات الضرورية الفائضة منه تعالى
ص:57
معد لفيضان التصورات والتصديقات النظرية منه تعالى على النفس وإذا كانت المعرفة من صنعه تعالى كان الجهل البسيط وهو عدم المعرفة أيضا من صنعه تعالى لا من صنع العباد لأن المعرفة لما لم تكن داخلة تحت قدرتهم كان عدمها أيضا غير داخل تحتها لأن عدم الملكة تابع للملكة، وأما الجهل المركب فليس منه تعالى ومن زعم أنه منه فهو ذو جهل مركب بل هو من الشيطان (1) وقال الفاضل الأسترآبادي في الفوائد المدنية: هنا إشكال كان لا يزال يخطر ببالي في أوائل سني وهو أنه كيف نقول بأن التصديقات فائضة من الله تعالى على النفوس الناطقة ومنها كاذبة ومنها كفرية وهذا إنما يتجه على رأي جمهور الأشاعرة - القائلين بجواز العكس بأن يجعل الله كل ما حرمه واجبا وبالعكس - المنكرين للحسن والقبح الذاتيين لا على رأي محققيهم ولا على رأي المعتزلة ولا على رأي أصحابنا.
والجواب أن التصديقات الصادقة فائضة على القلوب بلا واسطة أو بواسطة ملك وهي تكون جزما وظنا والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان وهي لا تتعدى الظن ولا تصل إلى حد الجزم (2) وفي الأحاديث تصريحات بأن من جملة نعماء الله على بعض عباده أنه يسلط عليه
ص:58
ملكا ليسدده ويلهمه الحق، ومن جملة غضب الله تعالى على بعض أنه يخلي بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل وبأن الله تعالى يحول بين المرء وبين أن يجزم جزما باطلا، إذا عرفت هذا فنقول: فيه رد على المعتزلة القائلين بأن المعرفة نظرية وجب على العبد تحصيلها بالنظر وأن العلوم النظرية كلها من صنع العبد بطريق التوليد الذي هو إيجاب لفاعله فعلا آخر كإيجاب حركة اليد لحركة المفتاح (والرضا والغضب) الرضا: كيفية نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو قبول شيء سواء كان ذلك الشيء مرغوبا لها أو مكروها، والغضب: حالة نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو الانتفام، وقد يطلقان على نفس الانفعال (والنوم واليقظة) النوم كما عرفت سابقا: حالة تعرض الحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس عن أفعالها لعدم انصباب الروح الحيواني إليها، واليقظة: زوال تلك الحالة.
ص:59
1 - «محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، عن درست بن أبي منصور، عن بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا».(1)
(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، عن درست بن أبي منصور، عن بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لله على خلقه أن يعرفوا) أي يعرفوه ورسوله وأئمته وأحكامه من قبل أنفسهم (وللخلق على الله أن يعرفهم) جميع ذلك (ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا) أي يطيعوا ويعلموا أنه حق ويتيقنوا ما كان المطلوب منه اليقين ويعملوا ما كان المطلوب منه العمل. وبالجملة حجته تعالى عليهم تمت بالتعريف وليس عليهم تكليف المعرفة وإنما عليهم القبول واكتساب الأعمال وفي معناه قوله (عليه السلام) «مامن أحد إلا وقد يرد عليه الحق قبله أم تركه».
2 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من لم يعرف شيئا هل عليه شيء: قال: لا».(2)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من لم يعرف شيئا) الفعل مبني للمفعول من التعريف يعني: من لم يعرفه الله شيئا من المعارف والأحكام بإرسال الرسول وإنزال الكتاب، إذ التعريف الأولي وهو الذي وقع عند الأخذ بالميثاق لا يستقل في المؤاخذة كما قال سبحانه (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (هل عليه شيء) من العقائد والأحكام أو من المؤاخذة والآثام (قال:
ص:60
لا) لأن التكليف والتأثيم إنما يكونان بعد التعريف وفيه دلالة واضحة على أن من لم تبلغه الدعوة ومن يحذو حذوهم لا يتعلق به التكليف أصلا، أما بالمعارف فلأنها من الله كما عرفت في الباب السابق، وأما بالإحكام فلأنها إنما تستفاده من البيان النبوي.
وفي بعض الروايات دلالة على أنه يتعلق بهم نوع آخر من التكليف في الآخرة للامتحان والاختبار لتكميل الحجة عليهم.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى (1)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم».(2)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله عن العباد) من العلوم والمعارف والأحكام وغيرها ومن جملة ذلك أسرار القضاء والقدر (فهو موضوع عنهم) غير مطلوب منهم قبوله وفعله وتركه لأن ما يتوقف من المعارف وغيرها على التعريف فهو ساقط عنهم بدونه، وقد روى الصدوق (رحمه الله) هذا الحديث بهذا السند بعينه في كتاب التوحيد وفيه «ما حجب الله علمه».
4 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: أكتب فأملى علي: إن من قولنا: الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى، أمر فيه بالصلاة والصيام فنام رسول الله (عليه السلام) عن الصلاة فقال: أنا أنيمك وأنا أوقظك (3) فإذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون، ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك وكذلك الصيام أنا أمرضك وأنا اصحك فإذا شفيتك فاقضه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ولم تجد أحدا إلا ولله عليه الحجة ولله فيه المشيئة ولا أقول: إنهم ما شاؤوا صنعوا، ثم قال: إن الله يهدي ويضل. وقال: وما امروا إلا بدون سعتهم، وكل شيء امر
ص:61
الناس به فهم يسعون له، وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم ثم تلا (عليه السلام) (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج)(1) فوضع عنهم (ما على المحسنين من سبيل) و (الله غفور رحيم) (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) قال: فوضع عنهم (لأنهم لا يجدون).(2)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي أكتب) أمره بالكتابة اهتماما بشأن ما يتلوه عليه واعتناء بضبط ما يلقيه إليه (فأملى علي أن من قولنا إن الله يحتج) يوم القيامة (على العباد بما آتاهم وعرفهم) من أمر التوحيد والمعارف (ثم أرسل إليهم رسولا) لتذكيرهم وتنبيههم عن الغفلة (وأنزل عليهم الكتاب) تبيانا لكل شيء وقد روى الصدوق (رحمه الله) هذا الحديث بعينه في كتاب التوحيد وفيه «وأنزل عليه» بإفراد الضمير (فأمر فيه ونهى عنه) تقريبا لهم إلى المنافع والمصالح، وتبعيدا لهم عن المفاسد والمقابح (أمر فيه بالصلاة والصيام) خصهما بالذكر لأنهما من أعاظم أركان الإسلام فإذا وقع التوسع فيهما وقع في غيرهما بالطريق الأولى (فنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الصلاة) من طريق العامة أيضا أنه نام (صلى الله عليه وآله) عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قيل: كان ذلك من غزوة خيبر، وقيل: كان ذلك من غزوة حنين، وقال محي الدين البغوي: إن قيل: نام هنا حتى طلعت الشمس وفاتت الصلاة، وقال في الآخر «تنام عيناي ولا ينام قلبي» فقيل المعنى ولا ينام قلبي في الأكثر وقد ينام في الأقل كما هنا، وقيل: المعنى أنه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث، وعندي أنه لا تعارض لأنه أخبر أن عينيه تنامان وهما اللتان نامتا هنا لأن طلوع الفجر يدرك بالعين لا بالقلب.
قال: المازري: يريد بذلك أن القلب إنما يدرك به الحسيات المتعلقة به كالآلام والفجر لا يدرك به وإنما يدرك بالعين فلا تنافي. وقال عياض: وقد يقال: نومه هذا خروج عن عادته لما أراد الله عز وجل من بيان سنة النائم عن الصلاة كما قال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه وهم أيضا ناموا مثله «ولو شاء الله لأيقظنا ولكن أراد الله أن يكون سنة لمن بعدكم» (فقال أنا أنمتك وأنا أوقظتك) في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) «أنا انيمك وأنا اوقضك» على صيغة المضارع وهو الأوفق بما يأتي من قوله «أنا امرضك وأنا اصحك» (فإذا قمت فصل) أمر بالقضاء فورا وفي أول أوقات التذكر للدلالة على
ص:62
عدم كراهة قضائها في ذلك المكان، وقال عياض: واختلف فيمن ينبه من نوم في سفر وقد فات الوقت فقال بعض العلماء: ينتقل عن محله لا يصلي به فإن كان واديا خرج عنه لأنه موضع مشؤوم ملعون. ولنهيه عن الصلاة بأرض بابل لأنها ملعونة، وقال الجمهور: يصلي بموضعه ولا ينتقل (ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون) العلم بذلك وإن كان يحصل بالبيان القولي إلا أن البيان الفعلي أقوى وأظهر مع ما فيه من الدلالة على عدم الإثم بتركها كما أشار إليه بقوله (ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك) باستحقاق العقاب لانتفاء الاستحقاق هنا، والظاهر أن نومه (صلى الله عليه وآله) كان حين سار من أول الليل إلى السحر ونزل للتعريس، ففيه دلالة على جواز النوم قبل وقت الصلاة وإن خشي الاستغراق حتى يخرج الوقت وذلك لأنها لم تجب بعد، وفيه دلالة أيضا على أن فعله تعالى معلل بالغرض وما وقع في بعض الروايات من نفي الغرض عن فعله فلعل المراد منه نفي الغرض الراجع إليه (وكذلك الصيام أنا امرضك وأنا اصحك فإذا شفيتك فاقضه) الصحة حال أو ملكة يصدر بسببها عن محلها الأفعال على وجه الكمال والمرض عدم الصحة أو حالة أو ملكة يصدر بسببها عن محلها الأفعال لا على وجه الكمال وهما من أفعاله تعالى كما مر في باب حدوث العالم (ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا من المكلفين (في ضيق) كما قال الله سبحانه (وما جعل عليكم في الدين من حرج)(1) وكما ورد «إن هذا الدين سمحة سهلة» (ولم تجد أحدا إلا ولله عليه الحجة) فيما آتاه وعرفه ولم يضيق عليه (ولله فيه المشيئة) شاء ما فيه صلاحه في الدين والدنيا أو صلاح الغير كإلقاء النوم والمرض عليه (صلى الله عليه وآله) لتعليم الخلق قضاء الصلاة والصوم وإصلاح حالهم بترك اللوم والتعبير لمن صدر منه ذلك، ولما توهم من قوله «لم تجد أحدا في ضيق» أن الخلق في سعة على الإطلاق يفعلون ما يشاؤون دفعه بقوله (ولا أقول إنم ما شاؤوا صنعوا) كما قالت المفوضة وذلك لحصرهم بالأمر والنهي وافتقارهم إلى الإذن واللطف وعدم استقلالهم في القدرة (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)(2).
(ثم قال: إن الله يهدي ويضل) أي يثيب ويعاقب أو يرشد في الآخرة إلى طريق الجنة وطريق النار للمطيع والعاصي وقد فسرت الهداية في قوله تعالى (سيهديهم ويصلح بالهم) بالأمرين أو ينجي ويهلك وقد فسرت الهداية في قوله تعالى حكاية (لو هدانا الله) لهديناكم بالنجاة يعني لو أنجانا لأنجيناكم لأنكم أتباع لنا فلو نجونا لنجوتم وفسرت الضلالة في قوله تعالى (فلن يضل أعمالهم) وفي قوله (ائذا ضللنا في الأرض) بالهلاك أو يوفق للخيرات ويسلب التوفيق أو يكون
ص:63
نسبة الهداية والإضلال إليه مجازا باعتبار إقداره على الخيرات والمعاصي، وروى الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن مولانا أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهم السلام) أنه قال: «فإن قالوا: ما الحجة في قول الله تعالى (يضل من يشاء، ويهدي من يشاء) وما أشبه ذلك؟ قلنا: فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين أحدهما: أنه إخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء لو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عيهم عقاب وما شرحنا، والمعنى الآخر أن الهداية منه التعريف كقوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (1)وليس كل آية مشتبهة في القرآن كانت الآية حجة على حكم الآيات اللاتي امر بالأخذ بها وتقليدها - الحديث»: وقال المحقق الطوسي: الإضلال: إشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة والإهلاك، والهدي: مقابل له، والأولان منتفيان عنه تعالى، وفي الشرح يعني يطلق الإضلال على معان ثلاثة: الأول: الإشارة إلى خلاف الحق، الثاني: فعل الضلالة، الثالث: الإهلاك، والهدى مقابل له فيطلق على مقابلات المعاني الثلاثة المذكورة الإشارة إلى الحق وفعل الهداية وعدم الإهلاك والإضلال بالمعنيين الأولين منتف عنه تعالى لأنه قبيح، والله تعالى منزه عن فعل القبيح، وأما الهدى فيجوز أن يسند إليه تعالى بالمعاني الثلاثة فما ورد في الآيات من إسناد الإضلال إليه فهو بالمعنى الثالث أعني الإهلاك والتعذيب كقوله تعالى (ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) وقوله تعالى (يضل به كثيرا).
وأما الأشاعرة فالإضلال عندهم بمعنى خلق الكفر والضلال بناء على أنه لا يقبح منه تعالى شيء.
وقال الفاضل الأسترآبادي في حاشيته على هذا الحديث: يجيء في باب ثبوت الإيمان أن الله خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة وكفرا بجحود. ثم بعث الله الرسل يدعوا العباد إلى الإيمان به فمنهم هدى الله ومنهم لم يهده الله، وأقول: هذا إشارة إلى الحالة التي سمتها الحكماء العقل الهيولاني. ومعنى الضال هو الذي انحرف عن صوب والصواب ولما لم يكن قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب صوب صواب امتنع حينئذ الانحراف عنه، ولما حصلا أمكن ذلك فيكون الله تعالى سببا بعيدا في ضلالة الضال، وهذا هو المراد بقوله (عليه السلام) يضل. وقال في الفوائد المدنية: وأما أنه تعالى هو المضل فقد تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن الله يخرج العبد من الشقاوة، إلى السعادة ولا يخرجه من السعادة إلى الشقاوة فلابد من الجمع بينهما ووجه الجمع كما يستفاد
ص:64
من الأحاديث وإليه ذهب ابن بابويه: ان من جملة غضب الله تعالى على بعض العباد أنه إذا وقع منهم عصيان ينكت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب وأناب يزيل الله تعالى تلك النكتة وإلا فتنشر تلك النكتة حتى تستوعب قلبه كله فحينئذ لا يلتفت قلبه إلى موعظة ودليل. لا يقال: من المعلوم أنه مكلف بعد ذلك، وإذا امتنع تأثر قلبه فيكون تكليفه بالطاعة من قبيل التكليف بما لا يطاق، لأنا نقول: من المعلوم أن انتشار النكتة لا ينتهي إلى حد تعذر التأثر، ومما يؤيد هذا المقام ما اشتمل عليه كثير من الأدعية المأثورة من أهل بيت النبوة صلوات الله عليه من الاستعاذة بالله من ذنب لا يوفق صاحبه للتوبة بعده أبدا، ثم أقول: إن هنا دقيقة اخرى هي أنه يستفاد من قوله (وهديناه النجدين) أي نجد الخير ونجد الشر ومن نظائره من الآيات والروايات ومن قوله تعالى (إن الله يحول بين المرء وقلبه) (1)ومن نظائره من الآيات والروايات أن تصوير النجدين وتمييز نجد الخير من نجد الشر من جانبه تعالى وأنه تعالى قد يحول بين المرء وبين أن يميل إلى الباطل وقد لا يحول ويخلى بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل; وذلك نوع من غضبه يتفرع على اختيار العبد العمى بعد أن عرفه الله تعالى نجد الخير ونجد الشر فهذا معنى كونه تعالى هاديا ومضلا، وبالجملة أن الله يقعد أولا في أحد اذني قلب الإنسان ملكا وفي أحد اذنيه شيطانا ثم يلقي في قلبه اليقين بالمعارف الضرورية، فإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه، وإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه وإن عزم على إخفائها وإظهار خلافها يرفع الملك عن قلبه ويخلي بينه وبين الشيطان ليلقي في قلبه الأباطيل الظنية، وهذا معنى كونه تعالى مضلا لبعض عباده.
وقال شارح كشف الحق للرد على الأشاعرة القائلين بأنه تعالى هو الهادي والمضل مستدلين بقوله تعالى (يضل من يشاء ويهدي من يشاء): إن هذا مدفوع بما فصله الأصحاب في تحقيق معنى الهداية والضلالة وحاصله أن الهدى يستعمل في اللغة بمعنى الدلالة والإرشاد نحو (إن علينا للهدى) وبمعنى التوفيق نحو (والذين اهتدوا زادهم هدى) وبمعنى الثواب نحو (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم جنات تجري من تحتها الأنهار)(2) وبمعنى الفوز والنجاة نحو (لو هدانا الله لهديناكم) وبمعنى الحكم والتسمية نحو (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) (3)يعني أتريدون أن تسموا مهتديا من سماه الله ضالا وحكم بذلك عليه، والإضلال
ص:65
يأتي على وجوه، أحدهما: الجهل بالشيء يقال: أضل بعيره إذا جهل مكانه، وثانيها: الإضاعة يقال:
أضله أي أضاعه وأبطله، ومنه قوله تعالى (أضل أعمالهم) أي أبطلها، وثالثها: بمعنى الحكم والتسمية يقال: أضل فلان فلانا أي حكم عليه بذلك وسماه به، ورابعها: بمعنى الوجدان والمصادفة يقال: أضللت فلانا أي وجدته ضالا كما يقال: أبخلته أي وجدته بخيلا، وعليه حمل قوله تعالى (وأضله الله على علم) أي وجده وحمل أيضا على معنى الحكم والتسمية وعلى معنى العذاب، وخامسها: أن يفعل ما عنده يضل ويضيفه إلى نفسه مجازا لأجل ذلك كقوله تعالى (يضل به كثيرا) أي يضل عنده كثير.
وسادسها: أن يكون متعديا إلى مفعولين نحو (فأضلونا السبيلا) و (ليضل عن سبيله) وهذا هو الإضلال بمعنى الإغواء وهو محل الخلاف بيننا وبينهم، وليس في القرآن ولا في السنة شيء يضاف إلى الله تعالى بهذا المعنى (وما امروا إلا بدون سعتهم وكل شيء امر الناس بهم فهم يسعون له وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم قال الفاضل المذكور في حاشيته على الفوائد في مقام نقله هذا الحديث قصده (عليه السلام) منه: إن الله تعالى وسع في أوامره ونواهيه وكلفهم دون طاقتهم فبطل ما قالته المعتزلة والأشاعرة من أن الله تعالى كلفهم بالنظر والفكر في تحصيل معرفة الله تعالى ومعرفة الرسول (صلى الله عليه وآله) (ولكن الناس لا خير فيهم) لتمسكهم في اصول الدين وفروعه بمفتريات أوهامهم ومكتسبات أفهامهم وقصده (عليه السلام) منه هو التنبيه بأنه يجب الرجوع: في جميع ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والأوصياء (عليهم السلام) وقد حمل على ذلك ما روي عنه (عليه السلام). قال: «حجة الله تعالى على العباد النبي (صلى الله عليه وآله) والحجة فيما بين الله وبين العباد العقل» (1) وما روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «يا هشام إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة وأما الباطنة فالعقول» (2) وما روي عنه ابن السكيت حين قال له: «ما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال (عليه السلام): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب» (3) ووجه الحمل أن الحجة الظاهرة وهو الرسول يبين طريق الخير والشر والحجة الباطنة وهو العقل يختار الخير ويترك الشر ويميز بينهما، وهذا معنى كونه حجة كما يستفاد من الروايات لا أنه مستقل بتحصيل المقدمات كما زعمه المعتزلة ومن يحذو حذوهم لأن
ص:66
العقول الناقصة كثيرا ما تأخذ المقدمات الكاذبة وتزعم أنها صادقة فيبعد بذلك عن المطالب الحقة، فلو كان العقل مكلفا بتحصيلها من قبله بدون التشبث بذيل حجة ظاهرة ووقع الخطأ منه كان معذورا، ولزم من ذلك أن يكون البراهمة والزنادقة والملاحدة وغيرهم من الفرق المبتدعة معذورين لا حجة لله تعالى عليهم يوم القيامة (ثم تلا (عليه السلام)) استشهادا لقوله (لم تجد أحدا في ضيق) وقوله (وما أمروا إلا بدون سعتهم) (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون) (1)لكمال فقرهم (ما ينفقون) في سبيل الجهاد (حرج فوضع عنهم) الحرج والإثم للقعود عن الجهاد والتأخير في الخروج (ما على المحسنين) وهم الضعفاء والمرضى (من سبيل) إلى معاتبتهم ومؤاخذتهم وتكليفهم بما ليس في وسعهم وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على أن اتصافهم بصفة الإحسان ودخولهم في المجاهدين بالقلب واللسان وأن تخلفوا عنهم بالأبدان صار منشأ لنفي الحرج عنهم كما قال سبحانه (إذا نصحوا لله ورسوله) (والله غفور رحيم) يغفر لهم خطيئاتهم ولا يكلفهم بما لا يطيقون (ولا على الذين إذا ما أتوك) من فقراء الصحابة (لتحملهم) إلى الجهاد بتحصيل الراحلة والزاد ليغزوا معك، قلت: لا أجد ما أحملكم عليه (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون) (قال: فوضع عنهم) الجهاد والحرج (لأنهم لا يجدون) ما يركبون وما ينفقون والمقصود من ذكر الآية الكريمة أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فكيف يكلف الناس على اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولهم أن يكتسبوا المعارف والأحكام بمجرد أوهامهم.
ص:67
1 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن إسماعيل السراج، عن ابن مسكان، عن ثابت بن سعيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا ثابت مالكم وللناس، كفوا عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم، فوالله لو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه، ولو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلوا عبدا يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلوه، كفوا عن الناس ولا يقول أحد: عمي وأخي وابن عمي وجاري فإن الله إذا أراد بعبد خيرا طيب روحه فلا يسمع معروفا إلا عرفه ولا منكرا إلا أنكره. ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره».(1)
عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن إسماعيل سراج) في بعض النسخ، عن أبي إسماعيل السراج وهو الأظهر، وأسمه عبد الله بن عثمان (عن ابن مسكان عن ثابت بن سعيد) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا ثابت مالكم وللناس؟) الواو للعطف على الضمير المجرور بإعادة الجار، والعامل معنوي يشعر به كلمة الاستفهام وحرف الجر الطالبان للفعل، والمعنى: ما تصنعون أنتم والناس، والمقصود هو الحث على التباعد منهم وترك المبالغة والمخاصمة معهم في أمر الدين (كفوا) أنفسكم (عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم) الأمر بالكف والنهي عن الدعاء إما لأجل ما كان في ذلك الزمان من شدة التقية من أهل الجور والعدوان، وإما لأن القصد منه ترك المبالغة في الدعاء وعدم المخاصمة في أمر الدين وذلك لأن المستعد لقبوله يكفيه أدنى الإشارة والمبطل لاستعداده الفطري لا ينفعه السيف والسنان فكيف المخاصمة باللسان (فوالله لو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا) أن يوصلوه إلى المطلوب ولو بالجبر وإنما فسرنا بذلك لأن الهداية بمعنى إراءة الطريق والإرشاد يجتمع مع الضلالة (يريد الله ضلالته) أي عذابه وإرشاده في الآخرة إلى طريق جهنم بسبب كفره وعصيانه اختيارا في الدنيا، هذا إن اريد بالإرادة معناها المعروف وأما إن اريد بها العلم الأزلي والذكر الأولي وقد أشرنا سابقا إلى أنها تجيء لهذا المعنى أيضا فلا حاجة إلى ذلك التوجيه،
ص:68
لأن من علم الله تعالى ضلالته في الأزل باختياره فهو يموت ضالا ولا ينفعه نصح الناصح (ما استطاعوا) أي ما قدروا (على أن يهدوه) لضرورة أن مراده ومعلومه تعالى واقعان لا مرد لهما وإن كان الضلالة وأسبابها القريبة واقعة باختيار العبد لذلك خاطب الله تعالى رسوله بقوله (إنك لا تهدي من أحببت) (ولو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلوا) عن طريق الحق ويخرجوا عن الصراط المستقيم (عبدا يريد الله هداه) أي إثابته بالجنة ونعيمها أو إرشاده في الآخرة إلى طريق الجنة وإيصاله إلى المطلوب بسبب إيمانه وإحسانه في الدنيا باختياره، أو المراد بالإرادة العلم الأزلي بهدايته (ما استطاعوا أن يضلوه) لما عرفت (كفوا عن الناس) لعادلين عن الصراط المستقيم والمارقين من الدين القويم (ولا يقول أحد عمي) أي هذا عمي (وأخي وابن عمي وجاري) وقعوا في الضلالة فتبعثه الحمية النسبية والغيرة العصبية على أن ينجيهم منها طوعا وكرها (فإن الله إذا أراد بعبد خيرا) لعل المراد به نوع من اللطف الذي له تعالى بعباده وذلك اللطف قد يكون بمجرد التفضل لأنه تعالى كثيرا ما يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة تفضلا وإحسانا وقد يكون بواسطة رجوع النفس الأمارة الضالة إليه تعالى وقتا ما إذ مامن نفس إلا ولها رجعة إلى جناب الحق فربما يدركه اللطف الإلهي حينئذ (طيب روحه) عن خبائث العقائد الباطلة فيخرجه من الجهل المركب إلى الجهل البسيط (فلا يسمع) بعد ذلك (معروفا إلا عرفه) فيعرف أنه حق في نفس الأمر (ولا منكرا إلا أنكره) فيعرف أنه باطل لا حقيقة له فيعدل عنه ويميل إلى المعروف (ثم يقذف الله في قبله) لحسن استعداده بلا واسطة أو بواسطة ملك موكل عليه (كلمة يجمع بها أمره) وهي كلمة الإخلاص التي يتخلص بها العبد عن العلائق الجسمانية ويترقى إلى الفضائل الروحانية ويتشرف بالعوائد الربانية أو كلمة الحكمة وهي شيء يجعل الله تعالى في القلب فينوره حتى يفهم المشروعات والمحظورات ويعلم المعقولات والمستحيلات.
2 - «علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن سليمان ابن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله، ثم تلا هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يريد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء)(1).(2)
ص:69
(علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن سليمان ابن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله إذا أراد بعبد خيرا) أي علم منه ذلك أو أراده لصفاء قلبه وميله إلى نجد الخير (نكت في قلبه نكتة من نور) أي أحدثها فيه وهو من نكت الأرض بالقضيب إذا أثر فيها (وفتح مسامع قلبه) التي يسمع بها كلمات الحق وإلهامات الملك (ووكل به ملكا يسدده) بإلهام الحق ونفخ الصواب وهذا التسديد يسمى لمة الملك (وإذا أراد بعبد سوء) لحركته إلى نجد الشر وميله إلى سبيل الضلال (نكت في قلبه نكتة سواء وسد مسامع قلبه) وهو الختم لئلا يدخل فيه الحق (ووكل به شيطانا يضله) يعني خلى بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل وهذا الإضلال يسمى لمة الشيطان.
ومن طريق العامة «أن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب الحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فيحمد الله ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم (1)»، وتوضيح ذلك أن الله تعالى خلق القلب صافيا مجلوا قابلا للصفات النورانية، فإن مال إلى الحق يحدث الله تعالى فيه نور الإيمان ويوفقه له وهو المراد بالنكتة النورانية لأن الإيمان وغيره من الفضائل كلها نورانية وبذلك النور ينفتح المسامع القلبية ويقرأ عليه الملك كلمات الخيرات فإن استمع إليها واعتقد بالعقليات عمل وبالعمليات ازدادت نورانيته حتى يصير نورا صرفا يتنور في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام، وإن مال إلى الباطل يحدث الله تعالى فيه ظلمة الكفر ويسلب التوفيق عنه حتى يمضي ما أراد أمضاءه، وهذا هو المراد بالنكتة السوداء لأن الكفر وغيره من الدمائم كلها ظلمة وسوداء وبتلك النكتة السوداء ينسد مسامع الإلهامات الملكية وينفتح مسامع الوساوس الشيطانية فيقرء الشيطان عليه كلمات الشرور فإن استمع إليها وعمل بها ازدادت ظلمته حتى يصير كله ظلمانيا صرفا كالقمر المنخسف، وسيجئ لهذا زيادة تحقيق في باب الذنوب إن شاء الله تعالى (ثم تلا هذه الآية:
(فمن يرد الله أن يهديه)) في الآخرة إلى طريق الجنة وفي الدنيا إلى طريق الخيرات بعد أن عرفه النجدين وحسن استعداده لنجد الخير (يشرح صدره للإسلام) أي لقبول معارفه وأحكامه حتى تتأكد عزمه عليها ويقوي الداعي على التمسك بها ويزول عنه الوساوس والشيطانية والهواجس النفسانية وذلك من لطف الله تعالى عليه وكمال إحسانه إليه (ومن يرد أن يضله) عن طريق الجنة بإرشاده إلى النار وتخليته مع الشرور لأجل إبطاله الاستعداد الفطري وإعراضه عن طريق الخير
ص:70
(يجعل صدره ضيقا حرجا) لانقباضه بقبض الكفر والعصيان وتقيده بقيد الظلمة والطغيان، يعني أنه تعالى يسلب اللطف عنه لا أنه يسلب الإيمان عنه بل لا يبعد أن يقال: إن يقال: إن صنعه تعالى ذلك لطف بالنظر عنه لا أنه يسلب الإيمان عنه بل لا يبعد أن يقال: إن صنعه تعالى ذلك لطف بالنظر، اليه، ألا ترى أنك تضييق على من وقع من عبيدك في مخالفة أمرك لعله يتذكر أو يخشى فيرجع إلى الموافقة (كأنما يصعد في السماء) شبه ضيق الصدر عن قبول الإيمان ولوازمه بمن يصعد في السماء في أنه كما يمتنع الصعود من هذا كذلك يمتنع قبول الإيمان من ذاك.
وقيل: معناه أن ضيق الصدر يبعد من الإيمان كما يبعد الصاعد من السماء وفيه مبالغة لبعده عن قبول الإيمان ويقرب منه ما قبل من أن قرار ضيق الصدر عن الإيمان وثقله عليه بمنزلة فرار من يفر إلى السماء، وهذا مثل لغاية التباعد من الشيء والفرار عنه، وقال الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا: عن قوله الله عز وجل (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) (1)قال: من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه ويطمئن إليه، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره وعصيانه له في دار الدنيا يجعل صدره ضيقا حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون» ومثله بعينه رواه الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في كتابه الاحتجاج.
3 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة عن أبيه قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس فإنه ما كان لله فهو لله وما للناس فلا يصعد إلى الله، ولا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب، إن الله تعالى قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقال: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إني سمعت أبي (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من
ص:71
الطير إلى وكره».(1)
(عده من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اجعلوا أمركم) في القول والفعل خالصا (الله) طلبا لمرضاته (ولا تجعلوا للناس) طلبا للسمعة والغلبة عليهم (فإنه ما كان لله فهو لله) أي ما كان من الأقوال والأفعال في الدنيا لله فهو في الآخرة أيضا لله يطلب الثواب منه، أو ما كان لله فهو يصعد إلى الله، فلا يرد أن الحمل غير مفيد (وما كان للناس فلا يصعد إلى الله) لأنه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له (ولا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة) (2) بفتح الميم والراء بينهما ميم ساكنة اسم مكان للكثرة، وبكسرها: اسم آلة وبضمها وكسر الراء: اسم فاعل من أمرضه إذا جعله مريضا (للقلب) لأن كل واحد من المتخاصمين يلقي شبهة على صاحبه والشبهة مرض القلب وهلاكه، وإيضا إذا بلغ الكلام إلى حد الخصومة فكثيرا يتجاوز عن القدر اللائق في النصيحة وذلك يوجب ازدياد ميل قلب المخاطب إلى الباطل وبالجملة القلب المستعد لقبول الحق يكفيه أدنى
ص:72
الدعوة والقب المتوغل في الباطل لا ينفعه الخصومة بل ربما تضره (إن الله تعالى قال لنبيه: (إنك لا تهدي من أحببت)) يعني لا تقدر أن توصله إلى المطلوب وتدخله في دين الإسلام (ولكن الله يهدي من يشاء) أي يوصله إلى المطلوب ويدخله في الإسلام، ويمكن أن يراد بالهداية هنا التوفيق وإيجاد اللطف وأن الله سبحانه هو الذي يحول بين المرء وقلبه فهو الهادي بهذا المعنى دون غيره، وفيه تسلية لهم بأنه إذا لم يقدر النبي (صلى الله عليه وآله) على هدايتهم بأنتم أولى بعدم القدرة عليها (وقال: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) إنكار لإكراهه وإجباره إياهم على الإيمان تحقيقا لمعنى التكليف والثواب والجزاء.
وقال الشيخ أبو علي في تفسيره: معناه أنه لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنك لا تقدر عليه لأن الله تعالى يقدر عليه ولا يريده لأنه ينافي التكليف، وأراد بذلك تسلية النبي (صلى الله عليه وآله) وتخفيف ما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم عنه، وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة أنه تعالى لم يزل كان شائيا وأنة لا يوصف بالقدرة على أن يشاء لأنه أخبر أنه لو شاء لقدر لكنه لم يشأ فلذلك لم يوجد، وإن كانت مشيته أزلية لم يصح تعليقها بالشرط، ألا ترى أنه لا يصح أن يقال:
لو علم الله ولو قدر كما صح أن يقال: لو شاء ولو أراد، وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) قال له المأمون: «ما معنى قوله الله جل ثناؤه (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(1)، (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله)(2)؟ فقال الرضا (عليه السلام) حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: إن المسلمين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا وما أنا م المتكلفين فأنزل الله تبارك وتعالى يا محمد (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس وفي الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا لكني اريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وأما قوله عز وجل (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بأذن الله) فليس على سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن على معنى أنة اما كانت لتؤمن إلا باذن الله وإذنه أمره لها بالإيمان ما كانت
ص:73
مكلفة متعبدة، وإلجاؤه إياها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها. فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك (ذروا الناس) اتركوهم بحالهم ولا تقصدوا مخالطتهم ومؤالفتهم في دينهم (فان الناس أخذوا عن الناس) ما يقتضيه آراءهم الفاسدة وقياساتهم الباطلة (وإنكم أخذتم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)) دين الله الذي أنزله إليه لمصالح العباد، فليس في تركهم مضرة لكم، ولا في مخالطهم منفعة لكم (إني سمعت أبي (عليه السلام) يقول: إن الله إذا كتب) بقلم التقدير في اللوح المحفوظ (على عبد أن يدخل في هذا الأمر) ويذعن له إذعانا خالصا عن شوائب الشكوك ومفاسد الأوهام (كان أسرع إليه من الطير إلى وكره) دعي أو لم يدع، والوكر بفتح الواو وسكون الكاف: عش الطائر وهو موضعه الذي يجمعه من دقاق العيدان وغيرها للتفريخ وهو في أفنان الشجر، فإذا كان في جبل أو جدار أو نحوهما فهو، وكر ووكن، وإذا كان في الأرض فهو افحوص وأدحي.
4 - «أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن محمد بن مروان، عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ندعوا الناس إلى هذا الأمر؟ فقال: لا يا فضيل، إن الله إذا أراد بعبد خيرا أمر ملكا فأخذ بعنقه فاخله في هذا الأمر طائعا أو كارها».
(أبو علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن محمد بن مروان، عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ندعو الناس إلى هذا الأمر) طلب الإجازة على ذلك ولما كان الناس في ذلك العصر متعصبين معاندين للحق وأهله أشار (عليه السلام) إلى نهيه عن دعائهم مطلقا أو عن المبالغة لما فيه من صلاح الفرقة الناجية مع الإشارة إلى التعليل لذلك النهي تسلية له وتسكينا لحزنه (فقال: لا يا فضيل إن الله إذا أراد بعبد خيرا) لقصد إخراجه من الشقاوة تفضلا ولطفا (أمر ملكا فأخذ بعنقه فأدخله في هذا الأمر طائعا) إذا لم يبلغ اللطف حد الكمال (أو كارها) إذا بلغه ولم يبلغ حد الجبر لأن الجبر عندنا منفي.
كمل كتاب العقل والعلم والتوحيد من كتاب الكافي ويتلوه كتاب الحجة.
ص:74
بسم الله الرحمن الرحيم يا عالم الدقائق والسرائر ويا ملهم الحقائق على الضمائر، لك الحمد على ما أعطيتنا من دقائق الأسرار ولك الشكر على ما ألهمتنا من حقائق الأخبار، ولنبيك الهادي إلى أحسن الأديان أكمل الوسيلة وأفضل الصلوات، ولوليك الداعي بأفصح البيان أرفع الدرجة وأكمل التحيات وبعد فيقول المفتقر إلى رحمة ربه الغني محمد صالح الطبرسي: إني بعد ما شرحت ما تقدم من الكافي شرحا أقبل عليه العالمون وركن إليه العارفون وعكف عليه الناظرون ولم ير مثله المتقدمون والمتأخرون وكان ذلك من فضل ربي والله ذو الفضل العظيم سألني بعض إخواني في الدين ومن له جد في طلب اليقين أن أكتب فيما بقي منه حاشية مبينة لغوامض الكتاب معللا بأن الشرح على ذلك المنوال موجب لغاية الإطناب فأجبته في مسؤوله وأسعفته بمأموله وشرحت في كتاب الحجة على تلك المحجة طالبا من الله الدراية ومنه الهداية في البداية والنهاية.(1)
بمعنى الحاجة. والحجة في اللغة: الغلبة، من حجه إذا غلبه وشاع استعمالها في البرهان مجازا أو حقيقة عرفية، ثم شاع في عرفه المتشرعة إطلاقها على الهادي إلى الله المنصوب من قبله.
[قال أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني مصنف هذا الكتاب (رحمه الله) حدثنا].
1 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس عمر الفقيمي، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: أنا لما أثبتنا لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهد خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة (1) مبعوثين بها، غير مشاركين للناس - على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شيء من أحوالهم، مؤدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته.(2)
قوله: (من أين أثبت الأنبياء والرسل) الثاني أخص من الأول كما سيجي وأثبت غائب مجهول أو خطاب معلوم، و «أين» سؤال عن المكان والمراد به هنا الدليل لأنه محل لإثبات المطالب فكأنه قال: إن سلمنا وجود الصانع لهذا الخلق فلم لم يجر حكمه فيهم من غير حاجة إلى إرسال الرسول
ص:76
ومن أي دليل لزم إثباته؟ قوله: (لما أثبتنا) يعني بالعقل لا بالنقل لئلا يدور (1) إذ إثبات الرسول متوقف على العلم بوجود الصانع فلو انعكس لزم الدور.
قوله (أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق) المراد بالخالق هو الموجد على تقدير معلوم ووزن مخصوص، وبالصانع هو الموجد على تدبير ومصالح لا تغيب عمن نظر إلى أحوال الحيوانات والنباتات والجمادات وغير ذلك من المكونات وقد اشتمل على بعض ما في أعضاء الإنسان من المصالح والمنافع، علم التشريح، وبالتعالي: تعاليه عن مجانستنا ومشابهتنا وأزمنتنا وأمكنتنا، وعن مشابهة شيء من المخلوقات بشيء من الذات والصفات كل ذلك يحكم به من له عقل صريح وقلب صحيح.
قوله: (وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهد خلقه ولا يلامسوه) أشار بذلك إلى الموصوف بالصفات المذكورة للتنبيه على أنه صار كالمشاهد المحسوس لأجل تلك الصفات، والحكيم: هو العالم المتقن الذي يعلم الأشياء كما هي ولا يفعل شيئا عبثا وإنما يفعه لأمر ما، وإنما قيد الصانع بالحكمة والمتعالي بعدم جواز المشاهدة والملامسة لأن جواب لما وهو ثبوت السفراء يتوقف عليها أما على الأول فلأنه لو لم يكن حكيما لجاز أن يخلق الخلق عبثا (2) ولا يراد منهم
ص:77
شيئا فلا يحتاج إلى سفير يبين ما أراد منهم، وأما على الثاني فلأنه لو جازت المشاهدة لجاز أن يرجع إليه كل أحد في استعلام مراده فلا يحتاج إلى سفير أيضا وبما قررنا ظهر أن قوله «لم يجز» صفة لقوله «متعاليا» لا جواب لقوله «لما» وألا لبطل نظم الخطاب ولم يكن لقوله «ثبت» محل من الإعراب.
قوله: (فيباشرهم ويباشرونه ويحاجهم ويحاجونه) متفرع على المنفي إذ لو جازت المشاهدة والملامسة لجازت المباشرة والمحاجة والمكالمة كما هو المعروف في أبناء نوع الإنسان.
قوله: (ثبت أن له سفراء في خلقه) السفراء بضم الأول وفتح الثاني: جمع السفير وهو الرسول والمصلح، فإن قلت: علة ثبوته عدم المشاهدة والملامسة وهي متحققة في السفير أيضا فيلزم افتقاره إلى سفير آخر وهكذا فيلزم التسلسل؟ قلت: العلة هي ما ذكر مع عدم المشاهدة القلبية المخصوصة والمناسبة المعنوية المشخصة
ص:78
وإنما لم يذكرها (عليه السلام) أكتفاء بظهورها في الأنام على أنه يمكن أن يراد بالمشاهدة التي ذكرها الأمر الأعم الشامل للمشاهدة العينية والقلبية بحمل الجواز في قوله «لم يجز» على الإمكان الوقوعي والذاتي جميعا وتلك العلة حينئذ غير متحققة في السفر لأن له مشاهدات قلبية ومناسبات روحانية ومكاشفات نفسانية بتأييدات ربانية مقتضية لإرساله لئلا يبطل الحكمة في إيجاد الخلق.
قوله: (يعبرون عنه إلى خلقه وعباده) يعبرون: إما مجرد من العبور وهو المرور ومنه فلان عابر سبيل أي مار الطريق، أو مزيد من التعبير وهو التفسير. والمعنى على الأول: أنهم يمرون عنه تعالى ويسافرون عن جانبه إلى خلقه بما أراد منهم من الأوامر والنواهي، وعلى الثاني: أنهم يفسرون مراده نيابة عنه ويوصلونه إلى خلقه، والأول أظهر والثاني أنسب بقوله «فالمعبرون».
قوله: (ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم) يمكن أن يراد بالمصالح: الأوامر والنواهي، وبالمنافع: الأعمال البدنية وبما به البقاء، الأخلاق النفسانية وبما في تركه الفناء، العقائد العقلية فإن التكاليف الزاجرة والأعمال الصالحة كلها مصالح دنيوية ومنافع اخروية والأخلاق الفاضلة والعقايد الكاملة كلها سبب لحياة النفس وبقائها وتركها سبب لموتها وفنائها (1) وبالجملة في الأخير إشارة إلى دلالتهم على الحكمة النظرية (2) وفيما قبله على الحكمة
ص:79
العملية.
قوله: (فثبت الآمرون - الخ) تصريح لما مر وتأكيد له وفيه دلالة على ما ذكرناه.
قوله: (في خلقه) متعلق بثبت أو بالآمرين والناهين.
قوله: (وصفوته) صفو الشيء خالصه بفتح الصاد لا غير وإذا ألحقوا الهاء وقالوا صفوة ففي الصاد حينئذ الحركات الثلاث.
قوله: (مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها) أدبه بالشي فتأدب: أي علمه فتعلم، وحقيقته دعا إليه فقبله، وبعثه بالشيء أرسله به، والمراد بالحكمة: الحكمة النظرية المتعلقة بكيفية العلم وحده والحكمة العملية المتعلقة بكيفية العلم والعمل، وفيه دلالة على أن المكمل لغيره لابد من أن يكون كاملا في نفسه.
قوله: (غير مشاركين) يعني أن المشاركة بينهم وبين الخلق إنما هي في الشكل المخصوص والتركيب المعلوم لا في شيء من أحوالهم الظاهرة والباطنة مثل الأعمال البدنية وحسن المعاشرة والعقائد العقلية والعلوم الحكمية والأنوار الروحانية والأخلاق النفسانية فإنهم (عليهم السلام) في كل ذلك على وجه الكمال، وهم أنوار ربانية وأضواء رحمانية تتنور بنورهم صدور العالمين وتستضيء بضوئهم قلوب العارفين، وكل ما سواهم وإن بلغوا حد الكمال فمالهم ككمال السهاء بالقياس إلى
ص:80
البيضاء بل هو أدنى.
قوله: (مؤدين.... بالحكمة) في بعض النسخ «مؤيدين» والأول أولى لفهم الثاني من قوله «مؤدبين بالحكمة» ولا يعارض ذلك بفهم الأول من قوله «مبعوثين بها» لأن التأدية لازم البعث لزوما عاديا لا نفسه، وفيه دلالة على أنهم (عليهم السلام) لا يتكلمون بشيء من الحكمة النظرية والعملية والامور الدنيوية والاخروية من قبل نفوسهم القدسية.
قوله (ثم ثبت ذلك) لما أثبت (عليه السلام) أنه يجب أن يكون لله سبحانه في خلقه سفراء وأنبياء، وكانت النبوة رئاسة عظيمة ربما يدعيها الكاذب كما وقع في كثير من الأعصار أشار هنا إلى ما يتميز به الصادق عن الكاذب ويعرف به نبوة كل شخص بعينه فقوله «ذلك» إشارة إلى السفير والنبي. وقوله «مما أتت به» متعلق بثبت، وقوله «من الدلائل والبراهين» بيان لما، المراد بالدلائل المعجزات القاهرة التي يعجز عن الإتيان بمثلها المتحدون، وبالبراهين الحجج العقلية التي دلت على صدق صاحبها ويعجب عنها الناظرون كما صدر عن نبينا (صلى الله عليه وآله) في أمر التوحيد والنبوة مع أصحاب الملل والملاحدة، ويحتمل أن يكون العطف للتفسير أيضا.
قوله: (من حجة) وهو من أشار إليه جل شأنه بقوله «إني جاعل في الأرض خليفة» وهو المتصف بالخلافة العظمى والرئاسة الكبرى الذي يجري أمره في الأرض والسماء.
قوله: (يكون معه علم (1) يدل على صدق مقالته وجواز عدالته) وصف ل «حجة» كاشف عن معناها، وفي تنكير «علم» دلالة على التعظيم كما أن في حذف متعلقة دلالة على العميم فإن الحجة هو الذي له علم كامل لا يعتريه الجهل والنقصان وفضل شامل لا يفوته شيء وجد في ساحة الإمكان حتى يصح الاستدلال به على صدق كل ما يأتيه من الكلام وسير جواز عدالته بين فرق الأنام، وإنما خص هذه الأوصاف بالذكر لأنها اصول يتفرع عليها سائر الصفات اللايقة بالحجة إذ العلم بجميع الأقوال وجواز العدالة التي هي استقامة الباطن والظاهر وجريانها في البر والفاجر إذا اجتمعت في الإنسان فقد بلغ حد الكمال وتخلص عن النقصان واستحق أن يكون حجة الله على خلقه.
ص:81
2 - «محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون، بالله، قال:
صدقت، قلت: إن من عرف أن له ربا، فينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة وأن له الطاعة المفترضة.
وقلت للناس: تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت:
فحين مضى رسول الله (عليه السلام) من كان الحجة على خلقه؟ قالوا: القرآن فنظرت، في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري الزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، فما قال فيه من شيء كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال: إنه يعرف ذلك كله إلا عليا (عليه السلام) وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا:
لا أدري، وقال: هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري. وقال هذا: أنا أدري. فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن ما قال في القرآن فهو حق، فقال: رحمك الله.(1)
قوله (إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه - الخ) لعل المراد أنه (2) أجل من أن يعرف بإرشاد خلقه والهداة مرشدون إلى طريق معرفته، وأما الهداية والمعرفة فموهبية كما قال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي يهدي من يشاء» بل الخلق يعرفون الله بالله أي بهدايته وتوفيقه، أو المراد أنه أجل من أن يعرف بصفات خلقه مثل الجوهرية والعرضية والجسمية والنورية وغيرها بل الخلق يعرفونه بما عرف به نفسه من الصفات اللايقة به وهو أنة المبدء المسلوب عنه صفات خلقه كما قال: «ليس كمثله شيء» و (لم يكن له كفؤا أحد) أو بل الخلق يعرفون الحقائق الممكنة وأحوالها بالله اي بسبب خلقه إياها أو بسبب فيضانها منه على عقولهم، أو المراد أنه أجل من أن
ص:82
يعرف حق المعرفة بالنظر إلى خلقه والاستدلال بهم عليه بل الخلق يعرفون الله بالله بأن ينكشف ذاته المقدسة عند عقولهم المجردة وهذه المعرفة ليست لمية لتعاليه عن العلة ولا إنية لعدم حصولها بتوسط المعلول.
وبالجملة معرفة أهل الحق للحق حضور الحق بذاته لا بواسطة أمر آخر وهو مرتبة الفناء في الله وفيها لا يشاهد غير الله وإليها أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «الحمد لله المتجلي لخلقه» وبعض الأولياء بقوله «رأيت ربي بربي ولولا ربي ما رأيت ربي» وعلى الأخير يحتمل أن يقرأ «يعرفون» على صيغة المجهول يعني: بل الخلق يعرفون بنور الله كما يعرف الذرات بنور الشمس دون العكس، وليس نور الله في آفاق النفوس أقل من نور الشمس في آفاق السماء وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله» والظاهر أن قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)(1) إشارة إلى هذه المرتبة لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد بلغ مقاما يرى فيه الرب بالرب وبه استشهد على كل شيء.
قوله: (من عرف أن له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا) أي أمرا ونهيا لعلمه بأنه لم يخلقه عبثا، وهما فينا صفتان متقابلان تعرضان للنفس، توجبان انفعالها وتغيرها وتحركها نحو الإحسان والعقوبة، وفيه - جل شأنه - الإحسان بفعل المأمور به وترك المنهي عنه والعقوبة بعكس ذلك وقد يطلقان على الأمر والنهي ولعله المراد هنا.
قوله: (وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول - الخ) أي إلا بوحي إليه كما هو للرسول أو بإرسال رسول إليه كما هو للامة ووجه الحصر ظاهر، لأن معرفة أوامره ونواهيه بطريق المشافهة محال فانحصر أن يكون بأحد الأمرين المذكورين ممن لم يأته الوحي وفقد الطريق الأول وجب عليه أن يطلب الرسول ليجد الطريق الثاني فإذا وجده وعرف صدقه بالدلائل والبراهين وجب عليه إطاعته في أوامره ونواهيه وجميع ما جاء به.
قوله: (فنظرت في القرآن) التقدير قلت لهم فنظرت والظاهر أنه لا حاجة إليه.
قوله: (فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق) المرجي: إما بكسر الجيم وشد الياء للنسبة إلى مرج على وزن معط أو بكسر الجيم وكسر الهمزة وشد الياء للنسبة إلى مرجي على وزن
ص:83
مرجع. قال في النهاية: المرجئة: فرقة من الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم، والمرجئة تهمز ولا تهمز وكلاهما بمعنى التأخير يقال: أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته فتقول من الهمز رجل مرجئ وهم المرجئة، وفي النسب مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعي وإذا لم تهمز قلت رجل مرج ومرجية ومرجي مثل معط ومعطية ومعطي انتهى.
أقول: قد عرفت مما نقلنا في المجلد السابق أن المرجئية تطلق أيضا على من أخر علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الخلافة، والقدري يطلق على الجبري وهو من ينسب أفعال العباد إلى الله سبحانه، وعلى من يقول بالتفويض بمعنى أن الله تعالى فوض أفعال العباد إليهم ولم يحصرهم بشيء.
والزنديق: هو النافي للصانع والزنادقة فرق منهم من ينكر الصانع بالمرة وينسب هذا العالم إلى الطبائع ومنهم من يقول بالنور والظلمة (1) فيجعل لهذا العالم إلهين اثنين.
قوله: (حتى يغلب الرجال بخصومته) متعلق بيخاصم أي يخاصم كل واحد من الأصناف المذكورة غيره حتى يغلبه بالخصومة ويتمسك في ذلك بظواهر القرآن.
قوله: (إلا بقيم) في الفائق: قيم القوم من يقوم بسياسة امورهم والمراد به هنا من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهي أو بإلهام رباني أو بتعليم نبوي.
قوله: (فقالوا: ابن مسعود) هو عبد الله بن مسعود بن عقيل الهذلي أسلم قديما وكان سبب إسلامه أنه كان يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فمر به رسول الله (عليه السلام) عند الفرار من أهل مكة فقال: يا غلام هل من لبن فقال: نعم لكن مؤتمن، قال: هل من شاة حائل لم ينزل عليها فحل؟ فأتاه فمسح ضرعها فنزل اللبن فحلب وشرب فعند ذلك أسلم ابن مسعود.
قوله: (وحذيفة يعلم) هو حذيفة بن اليمان وقيل: اسم والده حسيل وإنما نسب إلى اليمان لأنه اسم جده الأعلى لأنه حذيفة بن حسيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن اليمان العبسي.
ص:84
قوله: (قلت كله) يعني كل واحد قيم القرآن كله عالم بجميعه (1).
قوله: (إلا عليا (عليه السلام)) وهو (عليه السلام) عندنا أعلم وأفضل من جميع الأمة وكان عالما بجميع ما أنزل الله تعالى في كتابه وقد صرح بذلك صاحب كتاب إكمال الإكمال وهو من أعاظم علماء العامة حيث قال: لقد كان في علي رضي الله عنه من الفضل والعلم وغيرهما من صنفات الكمال ما لم يكن في جميع الامة حتى أنه لو لم يقدم عليه طائفة من الامة أبا بكر لكان هو أحق بالخلافة.
قوله: (وإذا كان الشيء بين القوم الخ) الشيء من الحلال والحرام وغيرهما من الامور والأحكام وهذا في الموارد الثلاثة إشارة إلى المذكورين بطريق اللف والنشر المرتب وفي الرابع إشارة إلى علي (عليه السلام).
قوله: (فأشهد الخ) متفرع على قوله فقال: «هذا لا أدري الخ» يعني إذا قال كل واحد من الثلاثة أنا لا أدري وقال علي (عليه السلام): أنا أدري جميع ما هو بين القوم فأشهد أنه (عليه السلام) كان قيم القرآن وعالما بجميع ما أنزله الله تعالى وكل من كان كذلك كان إماما مفترض الطاعة لا غيره وقد أثبت إمامته بأنه كان عالما بجميع ما أنزل الله تعالى وكل من لم يكن عالما به لم يكن إماما. أما الصغرى فمسلمة كما مر، وأما الكبرى فلأنه إذا رجع إليه الامة فيما جهله رجعوا إلى من يشاركهم في الجهل فكيف يكون هو إماما لهم.
3 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابنا منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد و كيف سألته؟ فقال هشام: يا ابن رسول الله إني اجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله: إذا أمرتكم بشيء فافعلوا. قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزر بها
ص:85
من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت: أيها العالم؟ إني رجل غريب تأذن لي في مسألة! فقال: لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟ فقال: يا بني أي شيء هذا من السؤال وشئ تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء قلت. أجبني فيها، قال لي:
سل، قلت: ألك أعين! قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة، قلت ألك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم، قلت: فلك اذن! قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع به الصوت.
قلت: ألك قلب، قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اميز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس، قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني! إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك: قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟! قال: فسكت ولم يقل لي شيئا. ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام بن الحكم فقلت: لا، قال: أمن جلسائه، قلت: لا، قال: فمن أين أنت، قال: قلت: من أهل الكوفة قال: فأنت إذا هو، ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: يا هشام. من علمك هذا؟ قلت: شيء أخذته منك وألفته، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.(1)
قوله (اجلك) الجلال: العظمة، والجليل: العظيم، وأجله: عظمه، والمعنى إني اعظمك أن يتكلم مثلي بين يديك.
قوله: (واستحييك) بياء أو بيائين والحياء حالة نفسانية توجب انقباض الجوارح عن الأفعال
ص:86
خوفا من اللوم وغيره.
قوله (إذا أنا بحلقة) قال في النهاية: الحلقة جماعة: من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيره والجمع الحلق بكسر الحاء وفتح اللام. وقال الجوهري: الحلق بفتح الحاء على غير قياس وحكي عن أبي عمر وأن الواحد حلقة بالتحريك والجمع الحلق بفتح الحاء.
قوله: (وعليه شملة (1)) بكسر الشين كساء يشتمل به ويتغطى به.
قوله: (فاستفرجت) أي طلبت الفرجة وهي الخلل بين الشيئين.
قوله: (وإن كانت مسألتك حمقاء) الحمقاء بالفتح: مؤنث أحمق من الحمق بالضم والضمتين وهو قلة العقل وسخافة الرأي، وحقيقته وضع الشيء في غير موضعه مع عدم العلم بقبحه، وإنما وصف المسألة بالحماقة على سبيل التجوز مبالغة في حماقة السائل.
قوله: (قال لي: سل) كأنه أمر بالسؤال هنا مع عدم الحاجة إليه لتحققه سابقا للإشارة إلى أن مسألته لكونها في غاية الحقارة لم يلتفت الذهن إليها سابقا.
قوله: (قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب) الواو للعطف على مقدر يعني أقلت هذا وليس فيها عدم حاجة إلى القلب ولم يستقل في التمييز والتفصيل.
قوله: (صحيحة سليمة) أي صحيحة عن البطلان في ذاتها سليمة عن الآفات والأمراض المانعة من إدراكاتها، والتأكيد أيضا محتمل.
قوله: (أو سمعته) لم يقل أو لمسة أيضا لعدم ذكر اللامسة في السؤال ولأن الشك فيها أقل، ولهذه العلة أيضا لم يذكرها السائل.
قوله: (ويبطل الشك) مثلا إذا وقع الاشتباه بين الروائح في الإضافة أو في اختلاط بعضها ببعض أو في الشدة والضعف أو في الملائمة للطبع وعدمها ورفع أمرها إلى القلب (2) كان القلب هو
ص:87
الحاكم العدل يحكم فيها على وجه الصواب وقس على غيرها.
قوله: (ويترك هذا الخلق كلهم (1) في حيرتهم وشكهم واختلافه) مع أن الحيرة. والشك والاختلاف فيهم أشد وأقوى وأكثر وأعلى منها في تلك القوى.
قوله: (أنت هشام بن الحكم) دل على أن هشاما مع صغر سنه كان مشتهرا بالعلم والمناظرة.
قوله (فقلت: لا) كأنه قصد التورية لمصلحة ومثل ذلك لا يعد كذبا.
قوله (وما نطق حتى قمت) إما للتعظيم كما هو المتعارف بين أهل الفضل أو لخوف وقوعه في ورطة الإلزام وانكسار قدره بين الأنام مرة اخرى.
قوله: (فضحك أبو عبد الله (عليه السلام)) إنما ضحك لسماعه حال رجل ضحكه صدر منه اضحوكة.
قوله (من علمك هذا) استعلام لقوة حفظ المتعلم لا استفهام عن تعيين المعلم لأنه (عليه السلام) كان منزها عن النسيان.
ص:88
4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عمن ذكره، عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كلامك من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عندي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فأنت إذا شريك رسول الله؟ قال: لا، قال: فسمعت الوحي عن الله عز وجل يخبرك؟ قال: لا، قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلي فقال: يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته، قال يونس: فيالها من حسرة فقلت: جعلت فداك إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما قلت فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون، ثم قال لي: اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله، قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما، وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين (عليهم السلام)، فلما استقر بنا المجلس - وكان أبو عبد الله (عليه السلام) قبل الحج يستقر إياما في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة - قال فأخرج أبو عبد الله (عليه السلام) رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب فقال: هشام ورب الكعبة، قال: فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له قال: فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو أكبر سنا منه، قال: فوسع له أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، ثم قال: يا حمران كلم الرجل، فكلمه فظهر عليه حمران، ثم قال: يا طاقي كلمه، فكلمه فظهر عليه الأحول، ثم قال: يا هشام بن سالم كلمه،.
فتعارفا ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) لقيس الماصر: كلمه، فكلمه فأقبل أبو عبد الله (عليه السلام) يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي فقال للشامي: كلم هذا الغلام يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، فقال لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا، فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال للشامي: يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه، قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال:
أقام لهم حجة ودليلا كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، ويتألفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم، قال:
فمن هو؟ قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال هشام: فبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الكتاب والسنة قال هشام: فهل
ص:89
نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي: نعم، قال: فلم اختلفت أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ قال: فسكت الشامي، فقال أبو عبد الله للشامي: مالك لا تتكلم؟ قال الشامي: إن قلت لم نختلف كذبت وإن قلت: إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة، إلا أن لي عليه هذه الحجة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) سله تجده مليا، فقال الشامي: يا هذا من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم، فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام: وفي وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو الساعة؟ قال الشامي في وقت رسول الله رسول الله والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جد، قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سله عما بدالك، قال الشامي: قطعت عذري فعلي السؤال، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا شامي اخبرك كيف كان سفرك وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا، فأقبل الشامي يقول: صدقت أسلمت لله الساعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): بل آمنت بالله الساعة، إن الاسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون، فقال الشامي: صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنك وصي الأوصياء ثم التفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى حمران، فقال: تجري الكلام على الأثر فتصيب، والتفت إلى هشام بن سالم فقال: تريد الأثر ولا تعرفه، ثم التفت إلى الأحول، فقال: قياس رواغ تكسر باطلا بباطل إلا أن باطلك أظهر، ثم التفت إلى قيس الماصر، فقال: تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبعد ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل أنت والأحول قفازان حاذقان، قال يونس: فظننت والله أنه يقول لهشام قريبا مما قال لهما، ثم قال: يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلم الناس، فاتق الزلة والشفاعة من ورائها إن شاء الله.(1)
قوله (وفرائض) لعل المراد بها العبادات المفروضة أو المكتوبة مطلقا، ويحتمل أن يراد بها
ص:90
أحكام المواريث (1) لأن إطلاقها عليها شائع، وبالجملة وصف نفسه بالقوة النظرية والعملية ليترفع قدره ولا يستنكف عن مناظرته وقد كان ذلك دأب السابقين وأرباب المناظرة.
قوله: (لمناظرة أصحابك) لم يقل لمناظرتك رعاية للأدب.
قوله: (فقال: من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عندي) سأل (عليه السلام) هل كلامه مأخوذ من السنة النبوية أو من مخترعات طبعه، فأجاب بأن كلامه من القسمين وليس الجواب باختيار شق ثالث لأن هذا الشق داخل في السؤال باعتبار أنه منع الخلو.
قوله (فأنت إذن شريك رسول الله (صلى الله عليه وآله)) في إكمال الدين وفيه دلالة على أن اصول العقائد ينبغي (2) أن يكون مستنده إلى صاحب الشرع كفروعها، وقد صرح به أيضا الشريف في حاشيته على شرح المختصر وبالغ فيه الفاضل الأمين الأسترآبادي في فوائده المدنية وشنع على من اتكل بعقله في المعارف الالهية وهو الحق الصريح والمذهب الصحيح وإلا لزم أن يكون الخاطئون السالكون بمقتضى عقولهم (3) معذورين يوم القيامة.
قوله: (قال: لا) أي لست شريكه في دينه بل دينه تام كامل ويلزم من نفيه هذا مع ما ذكره سابقا من أن بعض كلامه من عنده إما أن يكون ذلك البعض غير داخل في الدين ولا يكون له مدخل في الإسلام فلا يكون من مسائل الكلام وهذا خلاف المقدر أو يكون داخلا فيه في نفس الأمر ولكن قوله به لم يكن مستندا إلى قول النبي ولا خفاء في أنه لابد من مستند ومستنده حينئذ هو الوحي،
ص:91
فلذلك قال (عليه السلام) «فسمعت الوحي عن الله» يخبرك بما تأتي به «قال. لا قال فتجب طاعتك» فيما تأتي به من غير أن يكون مستندا إلى الرسول أو الوحي «هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم حيث اعترف بأنه لم يسمع ما عنده من الرسول ولا من الوحي» وأنه لا تجب طاعته وكل ما كان كذلك فهو باطل.
فإن قيل: يجوز أن يكون له مستند هو الإلهام (1) قلت: الإلهام لا عبرة به إذا الإلهام كما يكون من الرحمن كذلك يكون من الشيطان (2) بل إلهام الشيطان أكثر وأغلب في الأكثر وإذا كان شأنه ذلك لم يصح أن يتمسك به في أمر شرعي أصليا كان أو فرعيا.
قوله: (لو كنت تحسن الكلام كلمته) «لو» هنا للتمني أو للشرط وهو لامتناع الثاني من أجل امتناع الأول و «تحسن» بمعنى تعلم، تقول فلان يحسن الشيء أي يعلمه.
قوله: (قال يونس: فيالها من حسرة) أي قال: يونس قلت: فيالها من حسرة أو قال يونس ذلك عند النقل، والنداء للتعجب والمنادي محذوف، ولام التعجب وهي لام الاستغاثة في الحقيقة متعلق باعجبوا: أي يا قوم أعجبوا لها، ومن حسرة تمييز عن ضمير المبهم بزيادة من الحسرة أشد التلهف عن الشيء الفائت.
قوله (وتقول: ويل) الويل: كلمة العذاب أو واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره وغرض يونس من نقل هذا الكلام إبداء المعذرة لتركه علم الكلام.
ص:92
قوله (يقولون هذا ينفاد وهذا لا ينفاد) (1) الظاهر أن المشار إليه متحد يعني يخترع بعضه كلاما له مدخل في إثبات مطلبه بزعمه ويقول هذا كلام صحيح خالص جيد لا زيف ولا فساد فيه ويقول الآخر: هذا الكلام سقيم مزيف فاسد، وإنما قلنا: الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون المشار إليه بهذا غير المشار إليه بهذا بأن يقدموا على تحسين بعض المقدمات المخترعة وتزييف بعض آخر حتى كان المباحث الكلامية والمطالب اليقينية منوطة بمفتريات أوهامهم ومخترعات أفهامهم فلذلك يقع الاختلاف بينهم في المطالب اختلافا عظيما.
قوله (وهذا ينساق وهذا لا ينساق) أي هذا يؤدي إلى المطلوب وهذا لا يؤدي إليه، أو هذا ينساق على نهج الاصطلاح وهذا لا ينساق عليه.
قوله (وهذا نعقله وهذا لا نعقله (2)) فيدعي بعضهم إمكانه بل وقوعه، ويدعي بعضهم استحالة فهمه لعدم اجتماعهم على أصل صحيح وعدم رجوعهم إلى شخص معين عالم باصول الدين من الوحي صاروا مختلفين، يورد كل واحد على صاحبه ما يورد صاحبه عليه من المنع والنقض والمعارضة فيختلفون في الحيرة كالحيارى في الصحاري ولا يهتدون إلى الحق سبيلا ولا إلى صواب دليلا.
قوله (إن تركوا ما أقول (3) وذهبوا إلى ما يريدون) من المطالب المخترعة والمبادىء المبتدعة
ص:93
التي لا يزداد صاحبها من الحق إلا بعدا ومن الصواب إلا ضلالا، وفيه دلالة على أن علم الكلام حق ولكن لابد سماعه من المعصوم والعامة ذموا الكلام ذما عظيما (1) وإن شئت معرفة ذلك فنقول:
قال عياض في تفسير ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد: الخصام» الألد الشديد الخصومة والخصم الحاذق في الخصومة، وقال القرطبي في حله: الخصم بسكون الصاد وكسرها: اسم للخاصم، والخصم المبغوض: هو الذي يقصد بخصومته دفع الحق بالوجوه الفاسدة وأشد ذلك الخصومة في الدين كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطريق التي أرشد إليها الكتاب والسنة وسلف الامة إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية ترد بسببها على الآخذ فيها شبهة يعجز عنها وشبهة يذهب الإيمان معها وأحسنهم انفصالا عنها أخذ لهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوي على حلها وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها ثم إن هؤلاء المتكلمين ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضونها الأطفال فأخذوا يبحثون عن تحيز الجوهر وعن الأكوان والأحوال، ثم إنهم بحثوا عما سكت السلف عن البحث فيه فبحثوا كيفية تعلق صفاته تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها وهل هي الذات أو غيرها وهل الكلام واحد أو منقسم وهل تقسيمه بالأنواع أو بالأوصاف وكيف تعلق في الأزل بالمأمور، ثم إذا انعدم المأمور
ص:94
هل يبقى ذلك التعلق أم لا، وهل أمر زيد بالصلاة هو عين أمر عمرو بالزكاة (1) إلى غير ذلك من الأبحاث التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها وست أصحابه ومن تبعهم عنها فإنه بحث عما لا يعلم حقيقته ومن عجز عن حقيقة نفسه مع علمه بوجودها بين جنبيه فهو عن إدراك ما ليس كذلك أعجز، وغاية علم العلماء وإدراك العقلاء أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن صفاتها موصوف بصفات الكمال. ثم إذا أخبرنا الصادق عن شيء من أسمائه أو صفاته قبلناه وما لم يتعرض له سكتنا عنه، هذه طريقة السلف ويكفي في الزجر عن الخوض في طرق المتكلمين ما ورد عن السف.
فعن عمرو بن العزيز: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وعن الشافعي: لئن لا ينتهي العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينطق في علم الكلام. قال: وإذا سمعت من يقول الاسم المسمى أو غيره فاشهدوا أنه من أهل الكلام ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا ويطافوا بهم في القبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام. وقال أحمد: لا يفلح صاحب الكلام أبدا. أهل الكلام زنادقة: وقال ابن أبي عقيل: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولا عرفوا الجوهر والعرض (2) فإن رأيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقتهم فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك ويكثر منهم الإلحاد وأصل ذلك أنهم لم يقنعوا بما بعثت به الشرائع وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله سبحانه وتعالى من الحكم الذي انفرد به. وقد رجع كثير من المتكلمين عن الكلام بعد أعمار مديدة
ص:95
حين لطف الله وأظهر لهم آياته فمنهم الإمام أبو المعالي حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خليت أهل الاسلام وعلومهم وركبت البحر الأعظم وخضت في الذي نهوا عنه رغبة في طلب الحق وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص. وكان ابن الجويني يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ ما بلغت ما تشاغلت به، وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان خالي فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: أتعلمون أن أحدا أعلم مني قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتفعلون؟ قالوا: نعم قال:
عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم. وقال ابن أبي عقيل: لقد بالغت في الاصول طول عمري ثم عدت القهقري إلى مذهب الكتب. ووصف الشهرستاني حاله وما وصل إليه من الكلام ومآله فتمثل:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها * وسيرت طرفي تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر * على ذقن أو قارعا سن نادم وقال بعضهم: قد بالغ القوم في الإنكار وغفلوا عن شرف حال علم الكلام لأنه أشرف العلوم لكون موضوعه وهي الذات العلية وما يجب لها وما يستحيل عليها أشرف الموضوعات ولأن غيره من العلوم ينعدم في الآخرة وهو لا ينعدم لبقاء متعلقه بل يزداد اتساعا لأن ما كان معلوما بالدليل يصير معلوما بالعيان، وقد أجمعوا على أنه يجب أن يكون في كل عصر من يعرفه ليرد الشبهات ويناظر من عساه يتعرض لعقائد المسلمين. والجواب أن الراد لم يقصد نفي شرفه ولا انقطاع فوائده ولا غير ذلك من الامور الموجبة لنقصه بل يقول: إنه علم غامض لا يدرك حقيقته إلا الله سبحانه ومن حفظه الله تعالى عن الخطأ، وأما غيرهم وإن بالغوا فهم بعد في مقام يحتمل الخطأ والضلال إذ ليس المعصوم إلا من عصمه الله، وبالجملة أهل الكلام يجب أن يكون معصوما أو من يسمع من المعصوم، وقول الصادق (عليه السلام) صريح في ذلك.
قوله (وأدخلت الأحول) هو محمد بن النعمان البجلي الأحول أبو جعفر شاه الطاق ساكن طاق المحامل بالكوفة وقد لقبه المخالفون بشيطان الطاق والشيعة بمؤمن الطاق وكان ثقة متكلما حاضر الجواب، وله مع أبي حنيفة مكالمات مشهورة.
قوله (فلما استقر بنا المجلس) اسناد الاستقرار إلى المجلس مجاز للمبالغة في للكثرة لأن المجلس مستقر بالفتح لا مستقر بالكسر، ولو جعل المجلس مصدرا والباء بمعنى في لخرج الكلام
ص:96
عن البلاغة.
قول (في فازة له) الفازة مظلة بعمودين وفي بعض النسخ «في خيمة له».
قوله (يخب) الخبب بالتحريك: ضرب من العدو، تقول خب الفرس يخب بالضم خبا وخببا وخبيبا إذا راوح بين يديه ورجليه وأخبه صاحبه، وخب البحر إذا اضطرب.
قوله (وهو أول ما اختطت لحيته) يقال: اختط الغلام إذا نبت عذاره.
قوله (فوسع له) التوسيع خلاف التضييق يعني جعل مجلسه واسعا، وفيه دلالة على أنه ينبغي لأهل المجلس من التعظيم لأهل الفضل، وعلى رجحان تخصيص الأفضل بزيادة الإكرام.
قوله (فظهر عليه حمران) أي غلبه في المناظرة.
قوله (فتعارفا) أي عرف كل واحد منهما حال صاحبه في المعرفة وحقيقته جاء كل واحد بالمعرفة مثل ما جاء به الآخر وفي بعض النسخ «فتعارقا» بالقاف أي واقعا في شدة كما يظهر مجيئه لهذا المعنى كناية عن الفائق، أو ذهبا في الباطل من قولهم عرق فلان في الأرض يعرق عروقا مثل جلس يجلس جلوسا أي ذهب.
قوله (فقال نعم) فإن قلت «نعم» ههنا غير واقع في موقعه لأن موقعه هو التصديق لما تقدمه من كلام مثبت أو منفي خبرا كان أو استفهاما على ما هو المشهور وقيل: هو التصديق لما بعد الهمزة، قلت: هو تصديق ما بعد الهمزة تقديرا فإن قوله (عليه السلام) كلم هذا الغلام بمنزة أتكلم هذا الغلام.
قوله (حتى ارتعد) الارتعاد: الاضطراب يقال: أرعده فارتعد والاسم الرعدة وأرعد الرجل أخذته الرعدة، وأرعدت فرائصه عند الفزع، ولعل الغضب الاضطراب لأجل أنه سمع منه مالا يليق بجنابه (عليه السلام) أو مالا يليق به من التخاطب بالغلام.
قوله (أربك أنظر لخلقه) النظر الرحمة والعطف والحفظ.
قوله (كيلا يتشتتوا) التشتت: التفرق أي كيلا يتفرقوا في أمر المبدء والمعاد وغير ذلك مما يتعلق بنظام الخلق ومعاشهم.
قوله (أودهم) أود الشيء يأود من باب علم أودا بالتحريك اعوج وتأود وتعوج، شبه خروج الطبائع البشرية عن القوانين العدلية والنواميس الالهية بعوج الخشب ونحوه لزيادة الإيضاح.
قوله (بفرض ربهم) أي بما أوجبه عليهم والفريضة اسم لما أوجبه أن يراد به ههنا المقدر، أو المكتوب فيتناول المندوبات والأخلاق أيضا.
ص:97
قوله (كذبت) لوقوع الاختلاف حتى صارت الامة بضعا وثلاثين فرقة (1) كل فرقة تدعي أنها الفرقة الناجية.
قوله (أبطلت) أي أتيت بالباطل وهو ضد الحق. قال في النهاية: يقال أبطل إذا جاء بالباطل.
قوله (لأنهما يحتملان الوجوه) إذ فيهما ظاهر وباطن ومجمل ومأول وعام وخاص ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ.
قوله (إلا أن لي عليه هذه الحجة) يجوز أن يكون إلا بكسر الهمزة وشد اللام وأن بالفتح، وأن يكون بفتح الهمزة اللام من حروف التنبيه وإن بالكسر وضمير «عليه» على التقديرين يعود إلى هشام.
قوله (تجده مليا) الملئ بالهمزة الغني المقتدر وقد يترك الهمزة ويشد اياء أي تجده غنيا بالعلم مقتدرا على المناظرة.
قوله: (قال الشامي في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله)) الظاهر أن في الكلام حذفا (2) أي في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قوله: (يشد إليه الرحال) الرحال: بالكسر جمع الرحل بالتسكين وهو الأثاث والقتب للبعير كالسرج للدابة وهو الذي على قدر السنام وهنا كلاهما صحيح، وهذا كناية عن رجوع الخلائق إليه من أماكن بعيدة لاستعلام الشرائع والأحكام.
قوله: (بأخبار السماء) في بعض النسخ «بأخبار السماء والأرض» يعني يخبرنا بالكائنات العلوية (3) والسفلية والأمور العينية والغيبة.
قوله: (وراثة عن أب عن جد) تمييز لنسبة الأخبار إلى فاعله والوراثة بكسر الواو مصدر ورثت الشيء من أبي أرثه بالكسر فيهما وراثة وورثا وإرثا بقلب الواو ألفا المراد بالأب جنس الأب الصادق على الطرفين والوسط، وبالجد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قوله: (بل آمنت بالله الساعة إن الإسلام قبل الإيمان) لما أظهر الشامي بقوله أسلمت لله الساعة أنه لم يكن مسلما قبلها أضرب (عليه السلام) أو ترقى عنه بقوله: «بل آمنت بالله الساعة» وعلله بأن الإسلام
ص:98
قبل الإيمان كتقدم المفرد على المركب وتقدم الجزء على الكل فإن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعليه جم غفير من الناس، والإيمان هو هذا مع التصديق بأئمة الهدى وبه مدار الثواب والكرامة في دار المقامة، فهما متغايران بحسب الحقيقة وأعم وأخص بحسب الصدق والآثار إذ كل مؤمن مسلم دون العكس وكل ما هو أثر للإسلام أثر للإيمان دون العكس ويفهم منه أن الأعمال غير معتبرة في حقيقة الإيمان لأن الشامي اتصف بالإيمان قبل العمل، وما دل عليه بعض الروايات المعتبرة من اعتبارها في حقيقته فهو محمول على أن المراد بالإيمان هو الإيمان الكامل إذ للإيمان مراتب متفاوتة ودرجات متباعدة.
قوله: (فقال تجري الكلام على الأثر فتصيب) الأثر في اللغة: ذكر الشيء عن الغير ومنه سمي الحديث أثرا لأنه مأثور ينقله خلف عن سلف، ولعل المقصود أنك تتشبث في المناظرة بآثار النبي (صلى الله عليه وآله) وسننه فتصيب الحق وتغلب على الخصم لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.
قوله: (تريد الأثر ولا تعرفه) دل على عدم معرفته بالأثر عدم غلبته على الخصم لأن العارف به كما هو حقه غالب على الخصم المنكر للحق قطعا (1) ولذلك ترى العالم الماهر في الحديث لا يصير مغلوبا أبدا. وفيه دلالة على جواز ذم الأستاذ المرشد للمتعلم المسترشد بنحو ذلك تأديبا وتحريصا له بكسب العلوم الدينية.
قوله: (قياس رواغ) (2) بشد الياء والواو من صيغ المبالغة والروغ في اللغة: الميل والمراودة وطلب الشيء بكل طريق ومنه روغان الثعلب، أي أنت قياس تعمل بالقياس كثيرا، رواغ محيل
ص:99
مائل عن الحق إلى طريق الباطل لتكسر به باطل الخصم وتتخلص منه كروغان الثعلب وحيلته ليخرج عن نظر الصائد ويتخلص منه وينبغي أن يعلم أن الحق لا يبطل الحق (1) ويبطل الباطل وأن الباطل لا يبطل الحق وقد يبطل الباطل إذا كان أظهر (2) في الإدراك وأشبه بالصواب كما هو المعروف في الجدليات والمغالطات.
قوله: (تتكلم وأقرب ما تكون - الخ) الواو للحال والأقرب هو الأقرب في الفهم أو الأقرب في النقل والمراد به ذمه ببعده عن طريق الحق والأثر الصدق مع وضوحه فكأنه في أثناء المناظرة ترك ما ينفعه من الخبر الصحيح الظاهر وتمسك بالأباطيل ولذلك قال (عليه السلام): (وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل).
قوله: (تمزج الحق مع الباطل) يعني تتمسك بالشبهة لدفع الباطل إذ الشبهة إنما سميت شبهة لأجل أنها بمزج الحق مع الباطل تشبه الحق إما في صورته أو في مادته أو فيهما معا.
ص:100
قوله: (قفازان) بالقاف وشد الفاء والزاي المعجمة: من القفز وهو الوثوب أي وثابان من مقام إلى مقام آخر، غير ثابتين على أمر واحد، وفي بعض النسخ بالراء المهملة من القفر: وهو المتابعة والاقتفاء، يقال: اقتفرت الأثر وتقفرته أي تتبعته وقفوته يعني إنكما تتبعان الخصم وتقتفيان باطله لقصد إلزامه بالباطل.
قوله: (حاذقان) بالقاف: من الحذاقة وهي المهارة أي ماهران في الوثوب واقتفاء الخصم بالباطل وفي بعض النسخ بالفاء من وهو القطع أي قاطعان الباطل بالباطل.
قوله: (لا تكاد تقع تلوي رجليك) تكاد: من الأفعال المقاربة اسمه ضمير الخطاب المستكن وخبره تقع بصيغة الخطاب، وتلوي: من لويت عنقه إذ فتلته بدل من «تقع» أو بيان له والمقصود نفي قرب وقوعه على الأرض وفتل رجليه وإزلاقهما وهو كناية عن كمال ثباته في مقام المناظرة.
قوله: (إذا هممت بالأرض طرت) تقول هممت بالشيء أهم هما إذ أرته وعزمت عليه ولعل المقصود ذو همة عظيمة إذا قصدت شيئا وعزمت عليه أمضيته في أقرب الأوقات.
قوله: (مثلك فليكلم الناس) دل على الإذن في المناظرة (1) لإثبات الحق لمن هو مثله (2) في
ص:101
العلم والأخذ بالسنة النبوية إلى يوم القيامة.
قوله (فاتق الزلة) زل فلان يزل إذا زق في الطين أو المنطق أو الفكر والاسم الزلة. أمره (عليه السلام) بحفظ ظاهره وباطنه عن الخروج من منهج الصواب (1) وفيه دلالة على أن الإنسان وإن بلغ حد الكمال لابد له من محافظة نفسه في جميع الأحوال.
ص:102
قوله: (والشفاعة من ورائها) أي من وراء الزلة، وفيه دلالة على أن المخطي مع أتصافه بالعلم وبذل الجهد آثم يدركه الشفاعة إن شاء الله تعالى.
5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبان قال:
أخبرني الأحول: أن زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) بعث إليه وهو مستخف، قال: فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟ قال: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك خرجت معه، قال: فقال لي: فأنا اريد أن أخرج اجاهد هؤلاء القوم فأخرج معي، قال: قلت: لا، ما أفعل جعلت فداك، قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال: قلت له: إنما هي نفس واحدة فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناج والخارج معك هالك وإن لا تكن لله حجة في الأرض فالمتخلف عنك والخارج معك سواء، قال فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي ولم يشفق علي من حر النار، إذا أخبرك بالدين ولم يخبرني به، فقلت له: جعلت فداك من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار وأخبرني أنا فإن قبلت نجوت وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار، ثم قلت له: جعلت فداك أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء قلت: يقول يعقوب ليوسف (عليهم السلام) (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا)(1) لم لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمهم ذلك فكذا أبوك كتمك لأنه خاف عليك، قال: فقال: أما والله لئن قلت ذلك لقد حدثني صاحبك بالمدينة أني اقتل واصلب بالكناسة وأن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي فحججت فحدثت أبا عبد الله (عليه السلام) بمقالة زيد وما قلت له، فقال لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه ولم تترك له مسلكا يسلكه.(2)
قوله: (وهو مستخف) أي متوار من الأعداء.
قوله: (إن طرقك طارق منا) أي طلبك طالب منا أو ورد عليك وارد منا أو دق بابك رجل منا
ص:103
يريد خروجك معه والاولان من باب الكناية والأخير على سبيل الحقيقة.
قوله: (أترغب بنفسك عني) رغب عن الشيء إذا لم يرده ورغب فيه إذا أراده.
قوله: (إنما هي نفس واحدة) يحتمل أن يريد أن النفس الواحدة لا تنفعك فيما تريده من الخطب العظيم وأن يريد أن النفس واحدة لابد لها من طاعة الرب وليست بمتعددة يمكن التدارك بإحداهما لو عصت واحدة لابد لها من طاعة الرب وليست بمتعددة يمكن التدارك بإحداهما لو عصت الاخرى وهذا أنسب بما بعده.
قوله: (فالمتخلف عنك ناج) أما نجاة المتخلف فلتشبثه بذيل الحجة وتخلفه عن المدعى بغير حق. وأما هلاك الخارج فلعكس ذلك وفيه تصريح بأنه ليس بحجة.
قوله: (سواء) أي سواء في الفضل وليس للخارج مزية فيه، أو سواء في الهلاك لأن كليهما على تقدير عدم الحجة في معرض الهلاك والخروج معك لا يوجب النجاة. وفيه أيضا تصريح بما مر.
قوله: (على الخوان فيلقمني البضعة) الخوان - بالكسر -: الذي يؤكل عليه وهو معرب، والبضعة بالفتح: القطعة من اللحم، وقد تكسر تقول لقمتها ألقمها وتلقمتها والتقمتها إذا أكلتها ولقمني غيري تلقيما إذا وضعها في فيك.
قوله: (لم يبال أن أدخل النار) في كلام زيد دلالة على أن من لم يبلغه الدين غير معذور، وفي كلام الأحول دلالة على أنه معذور.
قوله: (أنتم أفضل) خطاب الجمع من باب تغليب الحاضر على الغائب وهو للامة وإن كانت الإمامة في البعض محض الادعاء، أو لأولاد الرسول (صلى الله عليه وآله).
قوله: (لا تقصص رؤياك) كما حكاها عز شأنه بقوله (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) (1)قال في الكشاف: عرف يعقوب (عليه السلام) دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغا من الحكمة ويطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم، والرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة.
ص:104
قوله: (لم لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه) سأل عن سبب عدم إخبارهم بشرف يوسف ونبوته وعن غايته المترتبة عليه ثم أجاب بنفسه عنه على سبيل الاستئناف بقوله حتى كانوا لا يكيدونه يعني لم يخبرهم بذلك حتى لا يتحقق الكيد منهم، فحتى هنا حرف ابتداء يبتدأ بها كلام مستأنف لاجارة ولا عاطفة.
قوله: (ولكن كتمهم) لكن إذا خففت لم تعمل فلذلك تدخل على الفعل فإن قلت «لكن» مخففة كانت أو مثقلة للاستدراك ورفع التوهم المتولد من الكلام السابق فما وجه التوهم هنا؟ قلت: قد يتوهم من عدم الإخبار عدم الكتمان إذ في الكتمان مبالغة ليس في عدم الإخبار فقصد بإثبات الكتمان رفع ذلك التوهم فتأمل.
قوله: (فكذا أبوك كتمك) هذا من باب القياس بالأولوية فإنه إذا جاز كتمان النبي النبوة عن الأخوة خوفا من الكيد جاز كتمان الوصي الإمامة عن الإخوة خوفا من ذلك بطريق أولى. وفيه مع تقريره (عليه السلام) دلالة على جواز العمل بهذا القياس.
قوله: (صاحبك) وهو محمد بن علي الباقر (عليهم السلام) كما هو مذكور في خطبة الصحيفة السجادية.
قوله: (بالكناسة) وهي بالضم اسم موضع بالكوفة.
قوله: (لصحيفة) هي غير القرآن كتب به ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهي الآن عند الصاحب المنتظر (عليه السلام).
قوله: (أخذته من بين يديه - إلى آخره) كما أن للإنسان المجازي وهو هذه البنية المحسوسة جهات ست محسوسة كذلك للإنسان الحقيقي وهو النفس المدركة للمعقولات جهات ست معقولة، وأخذه من جميع الجهات كناية عن عدم إبقاء طريق له في باب المناظرة وذلك لأنه أشار إلى أن خروجه لم يكن مشروعا بأن أباه وأخاه مع كونهما أفضل منه لم يخرجا، ثم صرح بذلك حيث حكم بنجاة المتخلف عنه وهلاك الخارج معه مع الإيماء إلى وجود حجة غيره، ثم دفع ما تمسك به على عدم وجوده من أن أباه لم يخبره به بأن عدم الاخبار للشفقة والخوف من النار لعدم إطاعته مع التصريح بأن أباه أخبر به غيره وهو المقصود بذكر هذا الحديث. في هذا الباب ويمكن أن يكون قوله (والخارج معك هالك) أخذا من بين يديه وقوله «فالمتخلف عنك ناج» أخذا من خلفه وقوله «إن كان أباك وأخاك خرجت معه» أخذا عن يمينه ويساره وقوله «أخبرني» يعني بالحجة أخذا من فوقه وقوله «لم يخبرك خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار» أخذا من تحته. وفي
ص:105
هذه الرواية دلالة واضحة على ذم زيد (1) وقال الفاضل الأسترآبادي في كتاب الرجال: هو جليل القدر عظيم المنزلة قتل في سبيل الله وطاعته سنة إحدى وعشرين ومائة وله اثنان وأربعون سنة، وورد في علو قدره روايات يضيق المقام عن إيرادها.
أقول: منها ما رواه المصنف بإسناده عن سليمان بن خالد قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «كيف صنعتم بعمي زيد؟ قلت: إنهم كانوا يحرسونه فلما شف الناس أخذنا خشبته وفي بعض النسخ جثته فدفناه في جرف على شاطيء الفرات فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه فوجوده فأحرقوه فقال: أفلا أوقرتموه حديدا وألقيتموه في الفرات صلى الله عليه ولعن الله قاتله» ومنها ما رواه أيضا
ص:106
مرسلا عنه (عليه السلام) قال: «إن الله عز ذكره أذن في هلاك بني امية بعد إحراقهم زيدا بسبعة أيام» ومنها ما رواه أيضا بإسناده عن عيص بن القاسم قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له - إلى قوله - «ولا تقولوا خرج زيد فإن زيدا كان عالما وكان صدوقا ولم يدعكم إلى نفسه إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظهر لوفا بما دعاكم، إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه - الحديث» وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا روايات متكثرة دالة على مدحه وعلو قدره وكمال فضله وبالغ فيه والذم في رواية الأحول على تقدير تسليم سندها مستفاد من كلامه لا من كلام المعصوم وإنما المستفاد وهو أخذه من جميع الجهات، ويمكن حمله على وقوع الخروج بدون إذنه وإظهار كراهة ذلك شفقة عليه نظير ذلك أنه لم يأذن لنا المعصوم بترك التقية في سبه (1) فلو تركها أحد فقتل كان مرحوما مغفورا مثابا كما دل عليه بعض الروايات.
ص:107
1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور عنه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) الأنبياء المرسلون على أربع طبقات: فنبي منبا في نفسه، لا يعدو غيرها. ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط (عليهم السلام). ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد ارسل إلى طائفة قلوا أو كثروا، كيونس، قال الله ليونس: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)(1) قال: يزيدون ثلاثين ألفا وعليه إمام والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم; وقد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا وليس بإمام حتى قال الله:
(إني جاعلك للناس إماما * قال ومن ذريتي)، فقال الله، (لا ينال عهدي الظالمين)، من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما.(2)
قوله: (الأنبياء والمرسلون) الأنبياء: جمع نبي بالهمزة أو بالياء المشددة، والأول: بمعنى الفاعل مأخوذ من نبأ: وهو الخبر سمي به لأنه مخبر عن الله تعالى ما أراد من الخلق. والثاني: فعيل بمعنى المفعول مأخوذ من النبوة: وهي ما ارتفع من الأرض سمي به لأنه مرفوع القدر مشرف على الخلائق والرسول أعلى مرتبة وأعظم درجة من النبي كما ستعرفه: فذكره بعد النبي من باب ذكر الخاص بعد العام.
قوله: (على أربع طبقات) بعضها فوق بعض كما قال جل شأنه (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) (3)ثم حصر الطبقات في الأربع لأنه لم يوجد غيرها لا لأنه لم يحتمل
ص:108
غيرها عقلا لأن الاحتمال العقلي زائد عليها (1).
قوله: (فنبي مبنأ في نفسه) الظاهر أن منبأ اسم مفعول من أنبأه أو نبأه إذا أخبره يعني ما أوحى إليه مختص به لا يجري على غيره وليس له إمام يتقدي به وأما الوحي إليه فيحتمل أن يكون من
ص:109
الرؤية في النوم وسماع الصوت والمعاينة في اليقظة.
قوله: (ونبي يرى في النوم - الخ) أي يرى الأوامر والنواهي في النوم أو يرى الملك فيه ويسمع صوته في اليقظة ولا يعاينه مطلقا أو بصورته الأصلية والظاهر هو الأخير لأن لوطا قد رآه بصورة الإنسان.
قوله: (وعليه إمام) الإمام: الذي يقتدى به وجمعه أئمة وأصله أئممة على أفعله فادغمت الميم ونقلت حركتها إلى ما قبلها وهو الهمزة فلما حركوها بالكسر جعلوها ياء.
قوله: (مثل ما كان إبراهيم على لوط (عليه السلام)) فإن لوطا كان يقتدي بإبراهيم. قال القاضي: هو ابن اخت إبراهيم وأول من آمن به، وقيل: إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه. والمفهوم من بعض رواياتنا أنه ابن خالته.
قوله: (إلى طائفة) هم كقوم يونس الذين هرب عنهم وخرج من بينهم حين ما قرب موعد العذاب بدون إذن ربه فالتقمه الحوت وهو مليم، ثم نجاه الله تعالى وأرسله إليهم بعد قبول توبتهم.
قوله: (أو يزيدون) قيل «أو» يستعمل لأحد الأمرين مبهما عند المتكلم ولا وجه للإبهام هنا (1) وأجيب بأن المراد أو يزيدون في المنظر بحيث إذا نظر إليه ناظر قال: مائة ألف أو أكثر. وبالجملة «أو» ههنا لأحد الأمرين مبهما عند غيره تعالى من الناظرين.
قوله: (والذي يرى في نومه) إشارة إلى الطبقة الرابعة وإنما غير العبارة للدلالة على التفاوت بينهما وبين السوابق في المعنى إذ فيها ما ليس في السوابق من الفضل والكمال وعلو المرتبة.
قوله: (مثل اولي العزم) والعزم يطلق على إرادة الفعل والقطع عليه والصبر والاحتمال والثبات والجد، وأولو العزم من الرسل هم الذين كانوا من (2) أصحاب الشرائع واجتهدوا في تأسيسها
ص:110
وتقريرها وصبروا لكمال قوتهم في دين الله على إقامتها وإنفاذها وتبليغها أو تحمل المشاق والمجاهدة والقتال والأذى من سفهاء الامة الطاعنين فيها وهم خمسة كما سيجيء.
قوله: (جاعلك للناس إماما) يأتمون بك ويتبعونك في الأقوال والأعمال والعقائد.
قوله: (ومن ذريتي) قال القاضي: هو عطف على الكاف: أي وبعض ذريتي كما تقول وزيدا في جواب ساكرمك، وقال قطب المحققين: العطف في مثل هذا للتلقين: أي قل ساكرمك وزيدا، وقال الزمخشري في الفائق: الذرية من الذر بمعنى التفريق لأن الله تعالى ذرهم في الأرض، أو من الذرء بمعنى الخلق، فهي من الأول فعلية أو فعلولة ذرورة فقلبت الراء الثالثة ياء كما في تقضيت. ومن الثاني فعولة أو فعيلة قلبت الهمزة ياء وهي نسل الرجل، وقال المطرزي في المغرب: ذرية الرجل أولاده ويكون واحدا وجمعا ومنه (هب لي من لدنك ذرية طيبة)(1).
قوله: فقال الله: (لا ينال عهدي الظالمين) (2)أي الموصوفين بالظلم وقتا ما، قال القاضي فيه إجابة إلى ملتمسه وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وأنهم لا ينالون الإمامة من الله لأنها أمانة من الله وعهده، والظالم لا يصلح لها وإنما ينالها البررة الأتقياء منهم، وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصلح للإمامة.
2 - محمد بن الحسن، عمن ذكره، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان، عن زيد الشحام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما فلما جمع له الأشياء قال: (إني جاعلك للناس إماما)(3) قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) قال: لا يكون السفيه إمام التقي.(4)
ص:111
قوله: (إن الله تعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا - الخ) قبلية العبودية على النبوة والنبوة على الرسالة ظاهرة فإن الرسالة أرفع درجة من النبوة كما يظهر من الأحاديث في الباب الآتي والنبوة أرفع درجة من العبودية فإن أكثر الناس لهم درجة العبودية وليست لهم درجة النبوة، وأما قبلية الرسالة على الخلة والخلة على الإمامة فالوجه فيها أن الخلة قيل: هي فراغ القلب عن جميع ما سواه، والخليل من لا يتسع القلب لغيره وقد كان إبراهيم بهذه الصفة كما يرشد إليه قوله حين قال له جبرائيل (عليه السلام): ألك حاجة وقد رمي بالمنجنيق أما إليك فلا، فنفى (عليه السلام) في تلك الحالة العظيمة أن يكون له حاجة إلى غير الله تعالى ولا شبهة في أن هذه الدرجة فوق درجة الرسالة إذ كل رسول لا يلزم أن تكون له هذه الدرجة. وقيل: الخلة صفاء المودة ولا يبعد إرجاعه إلى القول الأول لأن من كانت مودته لله تعالى صافية لم تكن له حاجة إلى غيره أصلا ولا ينظر إلى سواه قطعا وإلا لكانت مودته مشوبة في الجملة.
وقيل: الخلة اختصاص رجل بشيء دون غيره، ولا ريب في أنه كان له (عليه السلام) قرب منه تعالى لم يكن لغيره وهذه الدرجة أيضا فوق درجة الرسالة. وأما الإمامة فهي أفضل من الخلة لأنها فضيلة شريفة ودرجة رفيعة وأجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها البشر بعقولهم، وقد شرف الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) بها فقال: (إني جاعلك للناس إماما) بعد ما أعطاه الدرجات السابقة فمن جهة عظم الإمامة في عينه (عليه السلام) قال سرورا بها (ومن ذريتي) فقال الله تعالى إيماء إلى إجابة دعائه وتصريحا بأن الظالم في الجملة لا ينالها (لا ينال عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل سفيه وتقدم كل ظالم على البر التقي إلى يوم القيامة وقررتها في الصفوة. ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)(1) فلم تزل الإمامة والخلافة في ذريته الطاهرة يرثها بعض عن بعض قرنا بعد قرن حتى ورثها الله تعالى نبينا (صلى الله عليه وآله) فقال: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) فكانت لهم خاصة فقلدها (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بأمر الله تعالى فصارت في ذريته الأصفياء الأتقياء البررة الكرماء الذين هم أولو الأمر كما
ص:112
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) (1)ثم طائفة من اللصوص المتغلبة الذين نشأت عقولهم وعظامهم ولحومهم في عبادة الأوثان غصبوها من أهل الصفوة فضلوا وأضلوا كثيرا.
3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى الخثعمي. عن هشام عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم اولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) وعلى جميع الأنبياء.(2)
قوله: (وعليهم دارت الرحى) (3) يقال: دارت رحى الحرب إذا قامت على ساقها وأصل الرحى هي التي يطحن بها والمعنى يدور عليهم الإسلام ويمتد قيام أمره على سنن الاستقامة والبعد من أحداث الظلمة الكفرة فهم بمنزلة القطب من الرحى، ويفسر هذا الحديث ما رواه المصنف في باب الشرائع من كتاب الكفر والإيمان بإسناده عن سماعة بن مهران «قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
قول الله عز وجل (فاصبر كما صبر اولو العزم من الرسل).
فقال: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله).
قلت: كيف صاروا أولي العزم؟ قال: لأن نوحا بعث بكتاب وشريعة، وكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) بالصحف، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به، فكل نبي جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه، وبعزيمة ترك الصحف، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح (عليه السلام) بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ
ص:113
بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد (صلى الله عليه وآله) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فهؤلاء اولو العزم من الرسل (عليهم السلام)».
4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسين، عن إسحاق بن عبد العزيز أبي السفاتج، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله اتخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا، واتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، واتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وأتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما فلما جمع له هذه الأشياء - وقبض يده - قال له: يا إبراهيم إني جاعلك للناس إماما، فمن عظمها في عين إبراهيم (عليه السلام) قال: يا رب ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين.(1)
قوله: (وقبض يده) لعل المراد أخذ يده (2) ورفعه من حضيض الكمالات الإنسانية إلى أوجها، هذا إذا كان الضمير في يده راجعا إلى إبراهيم (عليه السلام) وإن كان راجعا إلى الله تعالى فقبض يده كناية عن إكمال الصنعة وإتمام الحقيقة في ذاته وصفاته (عليه السلام) أو تشبيه للمعقول بالمحسوس للإيضاح فإن الصانع منا إذا كمل صنعه لشيء رفع يده عنه ولا يعمل فيه شيئا لتمام صنعته.
ص:114
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وكان رسولا نبيا) ما الرسول وما النبي؟ قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك. قلت: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) (ولا محدث).(1)
قوله: (قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك) أي النبي الذي يرى الملك في منامه أو يرى الرؤيا فيه نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام) ويسمع صوت الملك في اليقظة ولا يعاينه، وفي الخبر الثاني، النبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، يعني ربما سمع كلام الملك في حال اليقظة من غير معاينة وربما رآه من غير سماع منه (2) وفي الثالث والرابع اقتصر بالرؤية في المنام لا يقال بين الخبر الأول والثاني منافاة من وجهين، أحدهما: أنه قال في الأول لا
ص:115
يعاين الملك وقال في الثاني يعاينه من غير سماع.
والثاني: أنه قال في الأول «ويرى في منامه» ولم يذكره في الثاني، لأنا نقول الوجه الاول مدفوع بأن قوله في الخبر الأول «ويسمع الصوت ولا يعاين الملك» معناه ويسمع كلامه من غير معاينة، وهذا نظير قوله في الخبر الثاني «ربما سمع الكلام» إذ معناه كما ذكرنا أنه ربما سمع كلام الملك من غير معاينة بقرينة قوله «وربما رأى الشخص ولم يسمع) وليس في الخبر الأول أنه لا يعاين الملك من غير سماع فلا منافاة من هذا الوجه، والوجه الثاني أيضا مدفوع بأن سماع كلام الملك ورؤية شخصه من غير سماع أرفع من الرؤية في المنام فوقوع ذينك الأمرين دل على وقوع هذا بالطريق الأولى، على أن المقصود من تفسير النبي هو امتيازه عن الرسول (1) والإمام وقد حصل ذلك بذكر بعض صفاته ولا يقتضي ذلك ذكر جميعها ولذلك اقتصر في الثالث والرابع بذكر الرؤية في المنام فقط فلا منافاة بين هذه الأحاديث.
ص:116
قوله: (والرسول هو الذي يسمع الصوت - الخ) أي الرسول الذي يسمع صوت الملك في اليقظة من غير معاينة ويراه أو يرى الرؤيا في المنام ويرى الملك مع سماع منه فاعتبر في هذا الخبر في النبي ثلاث خصال واعتبر في الخبر الثاني خصلتين معاينة الملك مع السماع منه والرؤية في المنام، وفي الخبر الثالث والرابع خصلة واحدة هي رؤية الملك مع سماع منه، ولا منافاة بين هذه الأخبار لأن المقصود هو امتياز الرسول عن النبي مع سماع منه، ولا منافاة بين هذه الأخبار لأن المقصود هو امتياز الرسول عن النبي والإمام، وقد حصل بذكر أخص صفاته أعني معاينة الملك والسماع منه على أن في الثلاثة الأخيرة إشارة إلى اعتبار ما اعتبره في الأول بطريق الأولوية كما مر.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن الأحول قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرسول والنبي والمحدث، قال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام) ونحو ما كان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل (عليه السلام) من عند الله بالرسالة وكان محمد (صلى الله عليه وآله) حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها قبلا ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة. وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه.(1)
قوله: (قبلا) يقال: رأيته قبلا بفتح القاف والباء وضمهما وضم الاول وفتح الثاني وكسر الأول وفتح الثاني أي مقابلة وعيانا.
قوله: (ونحو ما كان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب البنوة قبل الوحي) هذا صريح في أن الرؤيا المتقدمة على إتيان جبرئيل (عليه السلام) ليست وحيا. وقد صرح به بعض العامة أيضا; نعم هي شبه الوحي في الصحة إذ لا مدخل للشيطان فيها وإنما الرؤية التي هي وحي ما كان بعد الإرسال وإنما بدأ بالرؤيا قبل الوحي لأن فجأة الملك وصريح الوحي لا تطيقه القوى البشرية فبدأ بها ليأنس ويستعد
ص:117
لعظم ما اريد منه حتى لا يأتيه الملك إلا بعد تمهيد مقدماته. قال السهيلي أنواع الوحي (1) سبعة:
الأول: الرؤيا الصادقة لقوله تعالى (يا أبت افعل ما تؤمر)(2)، الثاني: النفث في الروع لقوله (صلى الله عليه وآله): «إن روح الأمين نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب (3)، الثالث: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليه وكان كذلك ليستجمع عنده تلك الحالة فيكون أدعى لما يسمع، الرابع: أن يمثل له الملك رجلا كما كان يأتيه في صورة دحية الكلبي. وكان دحية حسن الهيئة وحسن الجمال، الخامس: أن يتراءى له جبرئيل (عليه السلام) في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ينتثر منها اللؤلؤ والياقوت، السادس: أن يكلمه الله تعالى من وراء حجاب في اليقظة كما في ليلة الإسراء. السابع: ما ثبت أن إسرافيل وكل به (صلى الله عليه وآله) ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ثم وكل به جبرئيل فجاءه بالقرآن.
قوله: (وحين جمع له النبوة - الخ) أي حين جمع له أسباب النبوة من الرؤية في المنام وسماع الصوت من غير معاينة وغيرها مما أوحاه جبرئيل (عليه السلام) وكلمه عيانا ومواجهة فهو نبي ورسول. ومن الأنبياء من جمع له أسباب النبوة ولم يعاين الملك في اليقظة فهو نبي وليس برسول، فالرسول أخص مطلقا من النبي.
4 - أحمد بن محمد، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن حسان عن ابن فضال، عن علي بن يعقوب الهاشمي، عن مروان بن مسلم، عن بريد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) (ولا محدث).
قلت: جعلت فداك ليست هذه قراءتنا فما الرسول والنبي والمحدث؟ قال: الرسول: الذي يظهر له الملك فيكلمه، والنبي: هو الذي يرى في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد،
ص:118
والمحدث: الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في النوم حق وأنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء.(1)
قوله: (يوفق لذلك حتى يعرفه) (2) معنى التوفيق هنا خلق القدرة على تمييز الخطأ عن الصواب، وأعلم أن رؤيا الأنبياء (عليهم السلام) لازمة الوقوع لأنها صادقة حق لا أضغاث أحلام ولا تخيل ولا مدخل للشيطان وخبث الظاهر والباطن فيها. وأما رؤيا غيرهم فقد تصدق وقد لا تصدق، والصادق جزء من خمسة وأربعين جزءا ومن سبعين جزءا من النبوة على ما دلت عليه الأخبار.
قوله: (لقد ختم الله بكتابكم الكتب - الخ) أجمعت الامة سلفا وخلفا على أن محمدا (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء وآية الأحزاب والروايات المتظافرة نصوص في ذلك. وما ذكره بعض المخالفين من تجويز
ص:119
الاحتمال في ألفاظها ضعيف، وقيل: ما ذكره الغزالي في الاقتصاد فإلحاد وتطرق خبيث إلى تشويش في عقيدة المسلمين في ختمه النبوة (صلى الله عليه وآله)، وقال بعضهم: ليس في كلام الغزالي ما يوهم ذلك وإنما رماه به حساده ولقد جار عليه ابن عطية في ذلك، والغزالي منزه عنه وقد تبرأ عن هذه المقالة في كتبه لأنه إنما يقول المبتدعة القائلون بأن النبوة مكتسبة واحتجوا على ذلك بما وقع في حديثهم الطويل من زيادة قوله «وسيكون بعدي ثلاثون كلهم يدعي أنه نبي ولا نبي بعدي إلا من شاء الله» قيل هذه الزيادة إنما زادها محمد بن سعيد الشامي المصلوب على الزندقة وإنما زادها لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة، ولم تحفظ إلا من طريقه وتأولها بعضهم لو صحت بعيسى (عليه السلام) للإجماع والأخبار على نزوله وهو ضعف على ضعف لأنه لا ينزل رسولا إلى الأرض حينئذ.
ص:120
1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبن أبي عمير، عن الحسن ابن محبوب، عن داود الرقي، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف.(1)
قوله: (إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف) لعل المراد أن حجته تعالى على الخلق يوم القيامة بأنك لم اعتقدت هذا؟ ولم قلت هذا؟ ولم فعلت هذا؟ ولم تفعل ذاك؟ لا يتم إلا بسبب نصب إمام يبين لهم العقليات والعمليات لظهور أن عقول البشرية لا تستقل بتعيين العقائد والأعمال.
وقوله: «حتى يعرف» إما بتشديد الراء يعني حتى يعرف الإمام ما ينبغي من العقائد والأعمال.
أو بتخفيفها على البناء للمفعول أي حتى يعرف الإمام أو الحق والباطل وفي بعض النسخ «حي» وفي بعضها «حق» بدل حتى.
4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن خلف بن حماد، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق.(2)
قوله: (الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق) الحجة قبل الخلق في الميثاق، ومع الخلق في هذه الدار، وبعد الخلق في دار الآخرة والبرزخ، ويحتمل أن يراد بالحجة قبل الخلق آدم وبالحجة بعد الخلق الصاحب المنتظر لأنه آخر من يموت وبالحجة مع الخلق سائر الأنبياء
ص:121
والأوصياء. وبالجملة هذا الحديث يفيد أنه لابد لله تعالى من حجة على الخلق حتى أن لزمانهم بداية ونهاية وما بينهما لا يخلو منه فمن زعم أن الزمان خال منه فهو ضال مضل وميتته ميتة جاهلية.
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا، قلت: يكون إمامان؟ قال: لا إلا وأحدهما صامت.(1)
قوله: (قلت: يكون إمامان؟ قال: لا - الخ) في طريق العامة أيضا ما يدل على اعتبار الوحدة في الإمام، قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال وحديث «إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما» يدل على أن شرطها الوحدة وعدم التعدد، وقال بعضهم: إن هذا الشرط إنما هو بحسب الإمكان فلو بعد موضع إمام حتى لا ينفذ حكمه في بعض الأقطار البعيدة جاز نصب غيره بذلك القطر.
وفيه إن الكلام في خليفة الأصل وإلا فيجوز التعدد في نائبه قطعا، اللهم إلا أن يقول ذلك القائل:
إنه يجوز لأهل الأقطار البعيدة أن ينصبوا لأنفسهم خليفة كما نصبوا أولا، وفي شرح نهج البلاغة أن في آخر الزمان لا يكون في كل وقت وزمان إلا إمام واحد وأما الأنبياء والأوصياء في الزمن الأول كانوا في عهد واحد جماعة كثيرة وفي آخر الزمان مذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قيام الساعة لا يكون في كل حين إلا وصي واحد (2).
ص:122
2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن منصور بن يونس، وسعدان بن مسلم، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام، كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردهم وإن نقصوا شيئا أتمه لهم.(1)
قوله: (إن الأرض لا تخلوا إلا وفيها إمام) أي لا تخلو من الخلق من الخلو وهو الخالي، أو لا تمضي من خلا فلان إذا مضى، أو لا تكثر نباتها ولا تنبت حشيشها من أخلت الأرض إذا كثر خلاها وهو النبات الرطب.
قوله: (كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردهم) الظاهر أن المراد بالمؤمنين كلهم ففيه دلالة على أن إجماعهم حجة وإلا لزم أن يترك الإمام ما وجب عليه وهو باطل قطعا.
قوله: (عن ربيع بن محمد المسلي) هو ربيع بن محمد بن عمر بن حسان الأصم المسلي، ومسلية قبيلة من مذحج، روى عن أبي عبد الله (عليه السلام).
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن ربيع بن محمد المسلي، عن عبد الله بن سليمان العامري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زالت الأرض إلا ولله فيها الحجة، يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله.(2)
قوله: (ما زالت الأرض إلا والله فيها الحجة - الخ) أي ما زالت الأرض من حال إلى حال وما مضى عصر من الأعصار أو ما زال أهلها إلا والحال أن لله تعالى فيه حجة والغرض أن له تعالى في الأرض بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) إلى وقت زوالها حجة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله
ص:123
ويجذبهم إلى طاعته وانقياد أمره ونهيه كيلا يقولوا يوم القيامة (إنا كنا عن هذا غافلين).(1)
5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهم السلام) قال: قال: إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل.(2)
قوله: (لم يعرف الحق من الباطل) الظهور إلف النفس بالمحسوسات والوهميات والمتخيلات المؤذية إلى الباطل والشبهات فلو لم يكن استاد مرشد مؤيد من عند الله تعالى بالعصمة عن الخطأ والغلط في العقائد والأقوال والأعمال من جميع الوجوه لمال كل نفس إلى هواها والتبس عليه الحق والباطل، فربما يعتقد أن الحق باطل والباطل حق كما ترى في كثير من المتكلين بعقولهم من الحكماء والمتكلمين، هذا على فرض بقاء الأرض وأهلها بغير إمام وإلا فالحق الثابت أنه لا بقاء لهما بدونه طرفة عين.
6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تعالى أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل.(3)
قوله: (إن الله تعالى أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل) وهو الحجة لله تعالى على الخلق كما قال جل شأنه (لئلا يكون للناس على الله حجة) وأعلم أن الإمامية تمسكوا على وجوب وجود الإمام من قبله تعالى بعد الآيات والروايات المنقولة من طرق العامة والخاصة البالغة حد التواتر معنى بأنه إذا كان للخلق رئيس قاهر يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الواجبات كانوا معه أقرب إلى الطاعات وأبعد عن المعاصي منهم بدونه واللطف واجب على الله تعالى، واعترض عليهم المخالفون وقالوا: إنما يكون لطفا واجبا إذا كان ظاهرا زاجرا عن القبائح قادرا على
ص:124
تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء كلمة الإسلام وهذا ليس بلازم عندكم فالإمام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف والذي هو لطف ليس بواجب. وإلامامية أجابوا عن ذلك بأن وجود الإمام لطف (1) سواء تصرف أو لم يتصرف كما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا يبطل حجج الله وبيناته» وتصرفه الظاهر لطف آخر. والحق أن الرئيس العالم العادل المتصرف لطف من الله تعالى به على عباده وإنما جاء عدم التصرف من سوء آدابهم كما أن النهي عن شرب الخمر مثلا لطف صدر منه تعالى وإنما جاء عدم قبوله من قبل العبد على ان عدم تصرفه ممنوع لأن له تصرفات عجيبة في نوع الإنسان وتدبيرات غريبة في عالم الإمكان يرى ذلك من له عين صحيحة وطبيعة سليمة.
7 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي اسامة، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي اسامة، وهشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق، عمن يثق به من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «اللهم إنك لا تخلي أرضك من حجة على خلقك».(2)
قوله: (اللهم إنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك) لا تخلي: من الإجلاء أي لا تجعلها خالية منه، وهذا الكلام في اللفظ إخبار وفي المعنى انشاء للتأسف بإعراض الخلق عنه أو للشكاية منهم إليهم تعالى.
9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن أبي علي بن راشد قال:
ص:125
قال أبو الحسن (عليه السلام): إن الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة.(1)
قوله: (إن الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة) اريد أن الأرض في الحال لا تخلو من حجة بدليل قوله «أنا والله ذلك الحجة» ولو اريد جميع الأزمنة لاحتيج في هذا القول إلى تأويل وإنما أكد الحكم بالقسم لرفع الشك عن الشاك وزيادة التقرير للمقر.
ويحتمل أن يريد الحقيقة لأن الغرض الأصلي من انكشاف بعض الأرض هو أن يكون مسكنا لهم وكونه مسكنا لغيرهم من الحيوانات المتنفسة إنما هو بالعرض فإذا فات الغرض الأصلي عاد إلى وضعه الطبيعي.
11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لا، قلت: فإنا نروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنها لا تبقى بغير إمام إلا أن يسخط الله تعالى على أهل الأرض أو على العباد فقال: لا، لا تبقى إذا لساخت.(1)
قوله: (أو على العباد) الشك من ابن فضيل (2) أو ممن روى عنه.
قوله: (قال: لا، لا تبقى إذا لساخت) نفى بلا ما يفهم من كلام الراوي من أن الأرض تبقى بغير إمام وأهلها مبغوضين ثم بين الأمر بأنها لا تبقى بغير إمام بل تغوص في الماء.
12 - علي عن محمد بن عيسى، عن أبي عبد الله المؤمن، عن أبي هراسة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله.(3)
قوله: (لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله) ماج البحر يموج موجا اضطربت أمواجه وكذلك الناس يموجون. شبه اضطراب الأرض وأهلها بموج البحر وأهله للايضاح وكنى به عن زوالها وزوال أهلها لأن الاضطراب المذكور يستلزمها والباء في الموضعين للتعدية أو بمعنى مع.
ص:127
1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن الطيار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة.(1)
قوله: (لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة) نظيره من طرق العامة ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» وذلك لأنه كما يحتاج الناس إلى الحجة من حيث الاجتماع لأمر له مدخل في نظامهم ومعاشهم كذلك يحتاجون إليه من حيث الانفراد لأمر له مدخل في معرفة مبدأهم ومعادهم، وعلى هذا لو فرض انحصار الناس في اثنين لوجب احتياج أحدهما إلى الآخر وهو الإمام للأول وفيه دلالة على أنه لا يجتمع إمامان في عصر كما مر.
3 - محمد بن يحيى، عمن ذكره، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن جعفر بن محمد، عن كرام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام، وقال: إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل أنه تركه بغير حجة لله عليه.(2)
قوله: (لئلا يحتج أحد على الله عز وجل) إشارة إلى أن الدليل على ذلك قوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة) إذ كما أن للكثير حجة على الله تعالى على تقدير عدم الإمام كذلك للواحد حجة عليه على هذا التقدير.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي. عن علي بن إسماعيل، عن ابن سنان، عن
ص:128
حمزة بن الطيار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة - أو الثاني الحجة - الشك من أحمد بن محمد -.(1)
1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء قال: حدثنا محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا. قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله (صلى الله عليه وآله) وموالاة علي (عليه السلام) والائتمام به وبأئمة الهدى (عليهم السلام) والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم هكذا يعرف الله عز وجل.(1)
قوله: (إنما يعبد الله من يعرف الله) أي من يعرفه على وجه يليق به ووجه الحصر ظاهر لأن من لم يعرفه أصلا كالملاحدة لا يعبده ولا يتصور عبادته ومن عرفه لا على وجه يليق به كالمجسمة والمشبهة والمصورة ومنكر الولاية فهو ضال يعبد إلها غير مستحق للعبادة ويضع اسم الله تعالى والعبادة في غير موضعهما كما أشار إليه بقوله «فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا» ولعل «هكذا» إشارة إلى أهل الخلاف أو إلى الشمال لأن الضال من أصحاب الشمال أو إلى الخلف لأن المقبل إلى ما يقابل المطلوب وصفه بالضلالة أحرى وأجدر ونعته بالغواية أقوى وأظهر، والضلال: الضياع والهلاك. يقول: ضل الشيء يضل ضلالا إذا ضاع وهلك، وخلاف الرشاد، وهو إما تمييز عن نسبة في «يعبده» أو حال عن فاعله على سبيل المبالغة أو على جعل المصدر بمعنى الفاعل.
قوله: (وموالاة علي) عطف على التصديق، والموالاة ضد المعادات. وفيه تصديق بولايته مع زيادة هي المحبة البالغة له.
قوله: (والائتمام به) أي الاقتداء به في عقائده وأعماله وأقواله. وفيه دلالة على أن العمل معتبر في تحقق المعرفة وهو كذلك لأن من لم يمتثل بأوامره ولم ينزجر عن نواهيه فهو ليس من أهل العلم والمعرفة كما قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)(2).
ص:130
2 - الحسين عن معلى، عن الحسين بن علي، عن أحمد بن عائذ، عن أبيه، عن ابن اذينة قال:
حدثنا غير واحد، عن أحدهما (عليهم السلام) أنه قال: لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له، ثم قال: كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول.(1)
قوله: (ويرد إليه ويسلم له) أي يرد إليه المشكلات ويرجع إليه في المعضلات ثم يسلم له في كل ما يقول ويصدقه في كل ما ينطق وإن لم يظهر له وجه الحكمة والمصلحة، لعلمه بأنه عالم بجميع ما أنزله الله على رسوله، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)(2).
قوله: (كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول) لعل المراد بالأول هو الله ورسوله وبالآخر هو الإمام. وفيه رد على المخالفين حيث قالوا: عرفنا عليا بأنه إمام مفترض الطاعة وهم لم يعرفوا الله ورسوله لأنهم عرفوا إلها لم يأمر بخلافة علي ولم يجعله حجة بعد رسوله وعرفوا رسولا لم ينص بخلافة علي ولم يصرح بإمامته بعده، والإله الموصوف بهذه الصفات ليس بإله، والرسول المنعوت بهذه النعوت ليس برسول، فهم لما لم يعرفوا الأول لم يعرفوا الآخر، ويحتمل أن يكون المراد بالآخر إمام الزمان وبالأول الأئمة قبله، يعني كيف يعرف الآخر من لم يعرف الأول والحال أن إمامة الآخر تثبت بنص الأول وهذا أظهر والأول أنسب ببعض أحاديث هذا الباب.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال: إن الله عز وجل بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الناس أجمعين رسولا وحجة لله على جميع خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه وصدقه فإن معرفة الإمام منا واجبة ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما؟! قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدق رسوله في جميع ما أنزل الله، يجب على اولئك حق معرفتكم؟ قال: نعم أليس هؤلاء يعرفون فلانا وفلانا؟ قلت:
بلى، قال: أترى أن الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلا الشيطان، لا والله ما ألهم المؤمنين حقنا إلا الله تعالى.(3)
ص:131
قوله: (على جميع الخلق) بحيث لا يشذ منهم واحد سواء آمن بالله وبرسوله أو لم يؤمن.
قوله: (فقال: إن الله بعث) حاصل الجواب أن معرفة الرسول واجبة على الخلق كلهم وأما معرفة الإمام منا فإنما يجب على من آمن بالله ورسوله لثبوت الإمام بأمرهما. وأما من لم يؤمن بهما فإنما يجب عليه أولا معرفتهما والإيمان بهما فإذا عرفهما وآمن بهما وجب عليه معرفة الإمام منا والإيمان به لما عرفت فقد لاح منه أن الإمام حجة من قبلهما وإذا كان كذلك وجب الرد إليه والتسليم له كما وجب الرد إليهما والتسليم لهما فافهم.
قوله: (فمن آمن) إلى قوله: «واجبة عليه» هذه الشرطية دلت على لزوم وجوب معرفة الإمام على كل من آمن بالله وبرسوله لأن الإيمان بهما لا يتحقق إلا بمعرفتهما وبالإقرار بجميع ما أنزل إلى الرسول وما جاء به ومما أنزل إليه وجاء به ولاية الإمام، ويلزم من ذلك أن من لم يعرف الإمام لم يؤمن بالله وبرسوله لفقد ذلك الإقرار المعتبر في حقيقة الإيمان بهما، ولتعلق معرفته حينئذ بالله ورسوله اخترعهما بزعمه كما مر آنفا.
قوله: (ومن لم يؤمن بالله وبرسوله) دلت هذه الشرطية على أن من لم يؤمن بالله وبرسوله لا يجب عليه معرفة الإمام وإنما يجب عليه أولا وبالذات معرفتهما والإيمان بهما، ثم يجب عليه بعد ذلك معرفة الإمام.
قوله: «وهو لا يؤمن» بيان للملازمة توضيحه أن وجوب معرفة الإمام فرع لمعرفتهما (1) والإيمان بهما لثبوت ذلك من قولهما، وانتقاء الأصل يوجب انتفاء الفرع، فالواجب عليه أولا معرفة الأصل والإيمان به فإذا تحقق ذلك وجب عليه معرفة الفرع.
وقوله: «ويعرف حقهما» في الموضعين عطف على المنفي إلا أنه في الأول مجزوم وفي الآخر
ص:132
مرفوع.
قوله: (قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن) لا موقع لهذا السؤال (1) بعد الشرطية الاولى، اللهم إلا أن يحمل ذاك على الماضي والحال وهذا على الاستقبال فكأنه يسأل عن وجود الحجة ووجوب معرفته على كل من يؤمن بالله وبرسوله إلى يوم القيامة.
قوله: (أليس هؤلاء - الخ) الاستفهام لتقرير المخاطب على المنفي وهذا الكلام إما متصل بما قبله لبيان أن الامة اتفقوا على وجوب معرفة حق الإمام إلا أن هؤلاء أخطاؤا في تعيينه لإغواء الشيطان والمؤمنون أصابوا الإلهام الرحمن. أو استئناف لدفع ما عسى يختلج في قلب المخاطب من أنه إذا وجب على كل من آمن بالله وبرسوله أن يعرف الإمام منكم لوجود النص منهما فيكم فكيف عرف هؤلاء إماما من غيركم وتوضيح الدفع أن ذلك إنما هو من إغواء الشيطان ونفثه في قلوبهم كما هو دأب الخبيث في إضلال الناس لا من إلهام الله تعالى وإنما ألهم الله تعالى حقنا في قلوب المؤمنين الذين آمنوا بالله برسوله وبجميع ما أنزل إليه. وفيه تنبيه على أن هؤلاء ليسوا بمؤمنين وقد مر وجه ذلك.
ص:133
5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن وهب، عن ذريح قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأئمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إماما ثم كان الحسن إماما، ثم كان الحسين إماما، ثم كان علي بن الحسين إماما، ثم كان محمد بن علي إماما، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: قلت: ثم أنت جعلت فداك؟ فأعدتها عليه ثلاث مرات، فقال لي: إني إنما حدثتك لتكون من شهداء الله تبارك وتعالى في أرضه.(1)
قوله: (من أنكر ذلك) يعني أنكر ذلك كله أو بعضه كان كمن أنكر معرفة الله ومعرفة رسوله لأن معرفتهم لازمة لمعرفتهما شرعا وإنكار اللازم يوجب إنكار الملزوم.
قوله: (ثم أنت جعلت فداك) الظاهر أن هذا الكلام إخبار بإذعانه وتصديقه بإمامته لا استفهام عنه بقرينة ترك الجواب مع قوله «إنما حدثتك لتكون من شهداء الله تبارك وتعالى في أرضه» وفي بعض النسخ «أحدثك» إذ لو لم يكن مصدقا بإمامته لم يكن من الشهداء، والمراد بكونه من الشهداء أن يشهد بما حدثه على من هو أهل له مستعد لقبوله.
6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفوا حتى تصدقوا ولا تصدقوا حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا، إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود، فمن وفى لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل [ما] وعده، إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) وقال (إنما يتقبل الله من المتقين) فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة
ص:134
رسوله بطاعته فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله وهو الإقرار بما انزل من عند الله عز وجل، خذوا زينتكم عند كل مسجد والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)(1)، إن الله قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نذره، فقال: (وإن من امة إلا خلا فيها نذير) (2)تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل.
إن الله عز وجل يقول: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(3) وكيف يهتدي من لم يبصر؟ وكيف يبصر من لم يتدبر؟ اتبعوا رسول الله وأهل بيته وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدى. فإنهم علامات الأمانة والتقى واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى ابن مريم (عليه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار والتمسوا من وراء الحجب الآثار تستكملوا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم.(4)
قوله: (إنكم لا تكونون صالحين - إلى قوله - أربعة) هذا دل صريحا على أن العمل الصالح متوقف على تسليم أبواب أربعة، ولعل المراد بها محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) بحيث لولا تسليم واحد منهم لم يكن العمل صالحا مزكيا وقوله: «لا تعرفوا ولا تصدقوا» يحتمل أن يكون خبرا مثل «لا تكونون صالحين» وحذف النون للتخفيف، قال المازري: هذه لغة معروفة، ويحتمل أن يكون نهيا، ولم يذكرا من حيث الوقف عليه، بل من حيث النهي عن الاقتصار عليه، فالمعنى لا تكونوا صالحين حتى تعرفوا، أي يحصل لكم أصل المعرفة «ولا تعرفوا» أي لا تقتصروا على أصل المعرفة «حتى تصدقوا» أي تضموا إليه التصديق، ولا تقتصروا على التصديق حتى تضموا إليه التسليم، ويحتمل أن يكون المراد بها الإيمان بالله والإيمان برسوله والإيمان بما أنزل إليه والإيمان باولي الأمر، وربما يشعر به آخر الحديث والمعنى حينئذ أن العمل الصالح لا يتحقق إلا بمعرفة هذه الأربعة ومعرفة هذه الأربعة لا يتحقق إلا بالتصديق والإقرار بها. والتصديق بها لا يتحقق إلا بالتسليم واليقين بها ويومي إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام: هو التسليم والتسليم: هو اليقين، واليقين: هو التصديق، والتصديق: هو الإقرار، والإقرار: هو الأداء، والأداء: هو العمل الصالح» وإنما قلنا يومي إليه لأن خبر الكتاب يفيد أن العمل الصالح ثمرة المعرفة، والمعرفة ثمرة التصديق، والتصديق ثمرة التسليم. فالعمل الصالح
ص:135
ثمرة التسليم، وخبر النهج يفيد أن العمل الصالح ثمرة أداء ما فرضه الله تعالى، والأداء ثمرة الإقرار بما يجب الإقرار به، والإقرار ثمرة التصديق بالله وبرسوله وأولي الأمر، والتصديق ثمرة اليقين بالله وبرسوله وبما جاء به الرسول، واليقين ثمرة التسليم، فالعمل الصالح ثمرة التسليم كما في خبر الكتاب إلا أن طريق البيان مختلفة، ويحتمل أن يجعل خبر النهج حقا في التصديق ومبالغة في مدحه ومدح المتصف به، وذلك بأن يجعل التصديق بالله وبرسوله وبالأئمة الطاهرين أصلا رفيعا عاليا يتوجه إليه الطرفان، فالعمل الصالح ثمرة الأداء والأداء ثمرة الإقرار والإقرار ثمرة التصديق، والإسلام يعني دين الحق ثمرة التسليم، والتسليم ثمرة اليقين، واليقين ثمرة التصديق، وإنما قال:
هذا ذاك مع أنهما متغايران لشدة الاتصال بينهما فليتأمل.
قوله: (لا يصلح أولها إلا بآخرها) يعني لابد من التسليم للجميع ولا ينفع تسليم الواحد والاثنين والثلاثة وإنما اقتصر بالثلاثة لأنه إذا ضل صاحبها ضل غيره بالطريق الأولى.
قوله: (تاهوا تيها بعيدا) تاه في الأرض: ذهب متحيرا، شبه تحيرهم في الدين بتحير مسافر ضل الطريق لا يهتدي لها، ووصفه بالبعد مبالغة لوغولهم في الضلالة وبعدهم عن الحق.
قوله: (إن الله تبارك تعالى لا يقبل إلا العمل الصالح) وهو المشتمل على جميع الامور المعتبرة في تحقيقه شرعا سواء كانت داخلة في حقيقته أو خارجة عنها، ومن جملة ذلك التسليم للأبواب الأربعة وهو شرط الله تعالى وعهده وميثاقه على عباده في صلاح العمل وقبوله ووعده بالأجر، وظاهر أنه تعالى لا يقبل من العباد إلا الوفاء بالشرط والعهد وعدم غدره فيهما، فمن وفاه بشرطه وارتكب ما عينه في عهده ولم يغدر نال ما عنده من الثواب واستكمل وعده في الأجر واستحق القرب والكرامة وهو مثل أن يقول أحدنا: كل من دخل علي في هذا الباب فله كذا فكل من دخل فيه استحق ما وعده ومن دخل في غيره لا يستحقه بل يستحق اللوم لعدم الإذن فيه. وقد أخبر الله تعالى عباده بطريق الهدى وهو طرق الشرع الموصلة إلى مقام قربه وكرامته ووضع لهم في تلك الطرق الخفية أعلام الهداية وهي الحجج (عليهم السلام) وأخبرهم بكيفية السلوك باقتفاء آثارهم واتباع أقوالهم وأعمالهم فقال: (إني لغفار لمن تاب) عن الباطل ورجع إلي وإلى الحجة.
«وآمن» بي وبه وعمل صالحا يبينه لهم «ثم اهتدى» فعلم أنه لا تتحقق المغفرة والاهتداء بدون ذلك وقال أيضا: (إنما يتقبل الله من المتقين) وهم الذين يتمسكون بما جاء به الرسول ولا يتجاوزونه أصلا ويقومون على ما أمر الله تعالى به فعلم منه أنه تعالى لا يقبل عملا ممن خالف أمره ونهيه فمن أتقى الله فيما أمره به ولم يخالفه فيه، ومن جملة ما أمره به متابعة الحجة، لقى الله يوم القيامة مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله)، هيهات هيهات فات قوم في الضلالة وماتوا قبل أن يهتدوا إلى
ص:136
الله تعالى وإلى الحجة وظنوا أنهم آمنوا بربهم والحال أنهم أشركوا من حيث لا يعلمون حيث إنهم لم يؤمنوا بالإله الحق المرسل للرسول، المعين للحجة. وآمنوا بإله آخر، وهذا شرك بالله العظيم وهم لا يعلمون أنه من أتى بيوت الشرع من أبوابها وهي الحجج فقد اهتدى إلى الله تعالى وإلى أمره، ومن أخذ في غير تلك الأبواب سلك طريق الهلاك والضلال لمخالفة أمره تعالى، وقد وصل الله تعالى طاعة ولي أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته حيث قال (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) وهذا يفيد التلازم فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله لأن طاعتهما هو الإقرار بما انزل من عند الله تعالى ومما انزل طاعة ولاة الأمر فمن تركه لم يطعمها، فيا أيها الناس اتبعوا رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله إلى آخر ما وصفهم الله تعالى وهم الرسول وأهل بيته الطاهرين.
قوله: (وشرع لهم فيها المنار) المنار: جمع المنارة على غير القياس إذ القياس أن يجمع مفعلة على مفاعل وهي موضع النور فاستعير للحجج (عليهم السلام) لأنهم محال الأنوار العقلية ومواضع العلوم الشرعية به يستبين حقائق الدين ويستنير قلوب العارفين.
قوله: (هيهات هيهات) أي بعد التقوى واللقاء بالإيمان وأتى به مكررا للتأكيد.
قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) قيل: اريد بالزينة: اللباس، سمي زينة لأنه ساتر للعورة، وقيل: اريد بها: ثياب التجمل فهو على الأول: دليل على وجوب ستر العورة عند دخول كل مسجد للصلاة أو الطواف أو مطلقا، وعلى الثاني: على استحباب التزين بثياب التجمل فيهما. وقيل: اريد بها المشط والسواك والخاتم والسجادة والسبحة أقول: ويمكن أن يراد بها مطلق ما يتزين به ومن جملته التصديق بولاة الأمر لأنه أعظم ما يتزين به الظاهر والباطن.
قوله: (والتمسوا البيوت) أي اطلبوها من الالتماس وهو الطلب وهي بيوت النبوة والوصاية التي شرفها الله على بيوتات سائر الأنبياء والأوصياء ويذكر فيها اسم الله وآياته وأحكامه وبيناته.
قوله: (وإقام الصلاة) حذف التاء في المصدر للتخفيف مع قيام الإضافة مقامها.
قوله: (يخافون يوما) أي عذاب يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ظهرا لبطن ومن جانب إلى جانب كتقلب الحية على الرمضاء وذلك لكثرة شدائده وعظمة مصائبه.
قوله: (إن الله قد استخلص الرسل لأمره) أي جعلهم خالصين لأمره فارغين عما سواه بالمجاهدات النفسانية والتأييدات الربانية، ثم استخلصهم واستخصهم حال كونهم مصدقين بالمعجزات الظاهرة والبراهين القاهرة بسبب خلوصهم لأمر الله وفراغهم عن غيره وقربهم منه في إنذاره وتخويفه عن العقوبات الدنيوية والاخروية وبالجملة اتخذهم أولا نجيا وجعل لهم من عنده
ص:137
مكانا عليا ثم اتخذهم رسولا نبيا. وفيه رد على من جعل الفسقة الكفرة صاحبين للخلافة قابلين للنيابة. فقد ظهر مما ذكرنا أن «مصدقين» حال عن المفعول، ومتعلقه محذوف وأن الباء في قوله «بذلك» سبب للتصديق أو الاستخلاص. وأن ذلك إشارة إلى المذكور أولا وأن «في نذره» متعلق بالمصدقين أو باستخلصهم وأن النذر بمعنى الإنذار كما في قوله تعالى (فكيف كان عذابي ونذر) (1)أي إنذاري.
قوله: (وإن من امة إلا خلا فيها نذير) (2) أي مضى والنذير المنذر. والإنذار: هو الإبلاغ مع التخويف، وإنما خص النذير بالذكر لأن احتياج الناس إلى الإنذار أشد وأقوى.
قوله: (تاه من جهل) أي تحير في دين الحق وضل طريقه من جهل إمامه ولم يعرف حجته واهتدى إليه من أبصره وعرفه، ثم أشار إلى أن سبب الجهل ذهاب البصيرة وسبب ذهابها عدم التدبر إذ بالتدبر يتنور البصائر ويتعرف الضمائر ويتميز الحق عن الباطل.
قوله: (واتبعوا آثار الهدى) في بعض النسخ «آيات الهدى» والمراد بالآثار: آثار الأئمة من العقائد والأعمال والأقوال والأفعال والأخلاق، وبالآيات: الأئمة (عليهم السلام).
قوله: (لأنهم علامات الأمانة والتقى) الأمانة: خلاف الخيانة وهي مصدر قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين إذا صار كذلك. هذا أصلها ثم سمي ما تأتمن عليه صاحبك أمانة ومنه أمانة الله تعالى وهي دينه الذي أوحاه إلى رسوله، والتقي والتقوي واحد: وهي ملكة تحدث من ملازمة المأمورات واجتناب المنهيات والمشتبهات، وثمرتها حفظ النفس عن زهرات الدنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة، وعلامة الشيء ما يعرف به ذلك الشيء والأئمة (عليهم السلام) علامات يعرف بهم حدود الدين والتقوى وأركانهما وشرائطهما وكيفية الوصول إليهما.
قوله: (واعلموا أنه لو أنكر) المقصود منه أن من أنكر واحدا من الأئمة أو أزاله عن موضعه فهو لم يؤمن بالله وبرسوله.
قوله: (اقتصوا الطريق بالتماس المنار) قص الأثر واقتصه: إذا تبعه، يعني اتبعوا الطريق الإلهية والسنة النبوية بطلب الأئمة ومتابعتهم.
قوله: (والتمسوا من وراء الحجب الآثار) أي اطلبوا آثار الأئمة من آل الرسول من وراء حجب ظلمانية نسجتها عناكب قلوب الجاحدين وضربتها أيدي شبهات المعاندين فإن طلبتموها
ص:138
ووجدتموها تستكملوا أمر دينكم الذي أنزله الله تعالى على نبيكم وتؤمنوا بربكم فمن لم يطلب آثارهم ولم يقتد بأطوارهم لم يؤمن بالله العظيم ولا برسوله الكريم حيث أنكر ما أنزل إليه من آيات خلافتهم وبينات إمامتهم.
7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد ابن الحسين ابن صغير، عمن حدثه، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سببا وجعل لكل سبب شرحا وجعل لكل شرح علما وجعل لكل علم بابا ناطقا، عرفه من عرفه وجهله من جهله، ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن.(1)
قوله: (أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب) هذه قاعدة مطردة (2) في الأشياء الممكنة كلها حتى ينتهي الأسباب إلى من لا سبب له، وإن شئت أن تعرف ذلك بمثال فنقول: إن ما في الإنسان ويسمى في الشرع بالقلب تارة وبالصدر تارة وبالنفس الناطقة اخرى جوهر روحاني متوسط بين العالمين والملك والملكوت، كأنه نهاية هذا وبداية ذاك يؤثر فيما دونه ويتأثر عما فوقه فهو بمنزلة أرض يتكون فيه أنواع المخلوقات على صورها المثالية أو بمثابة مرآة منصوبة يجتاز عليه أصناف صور المصنوعات وتنتقش فيه صور بعد صور ولا يخلو دائما عنها ومداخل هذه الآثار المتجددة فيه إما من الظواهر كالحواس الخمس أو من البواطن كالخيال والفكر وغيرهما من الأخلاق النفسانية فدائما يحصل فيه أثر من الخارج أو من الداخل فدائما ينتقل من حال إلى حال فثبت أنه دائما محل للحوادث الإدراكية وموضوع للأحوال النفسانية، وهذه الحوادث والأحوال التي هي
ص:139
المسماة بالعلوم والخواطر لأنها تخطر في القلب بعد أن كان غافلا عنها محركات للإرادات والأشواق وأسباب لها وهي محركات للقوة والقدرة وهي محركات للجوارح والأعضاء وبسببها تظهر الأفاعيل في الخارج، وبتلك الأفاعيل يستحق المدح والذم والثواب والعقاب.
فبمدأ الفعل البشري هو الخاطر والخاطر يحرك الرغبة والشوق، وهي تحرك العزم والنية; وهي تبعث القدرة; والقدرة تحرك العضو فيصدر الفعل من هذه المبادئ المترتبة المتسببة، كل ذلك بإذن الله تعالى ومشيته; وهكذا جرت المشية الإلهية في أفعال العباد ومن أنكر هذه الوسائط وعزل الأسباب عن فعلها فقد أساء الأدب (1) مع الله الذي هو مسبب الأسباب حيث رفع ما وضع الله سبحانه وعزل ما نصبه; ثم لما كانت تلك الخواطر والأحوالات قد يكون خيرا وقد يكون شرا أو كانت الرغبة والعزم قد يتعلقان بما ينبغي أن يكون وقد يتعلقان بما لا ينبغي أن يكون وكانت القدرة تعلقها بالصحيح والفاسد على السواء وكانت الأفعال الصادرة عن الجوارح قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة; وكان الحسن والقبح في الأكثر مخفيين اقتضت الحكمة الإلهية واللطيفة الربانية نصب الرسول والأوصياء لهداية العباد إلى سبيل الرشاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ومنه يظهر سر قوله عز شأنه (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)(2).
قوله: (فجعل لكل شيء سببا) مثلا جعل لاستحقاق القرب والثواب منه تعالى سببا هي الطاعات والعبادات وجعل لهذا السبب شرحا (3) هي الحدود والكيفيات والشروط، وجعل لهذا الشرح علما وجعل لهذا العلم بابا ناطقا ينطق به، عرف ذلك الشرح والعلم من عرف ذلك الباب (وجهله من جهله) وذاك الباب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام). ويحتمل أن يكون المراد أن ذاك العلم والباب رسول الله ونحن، من باب اللف والنشر المرتب كما يرشد إليه قوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها».
ص:140
8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء ابن زرين، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله، فسعيه غير مقبول وهو ضال متحير والله شانئ لأعماله ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلما جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها، فصاح بها الراعي: الحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك فهجمت ذعرة، متحيرة، تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها; فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها; وكذلك والله يا محمد من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله عز وجل ظاهر عادل أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد.(1)
قوله: (كل من دان الله بعبادة): أي أطاعه بها، والدين الطاعة.
قوله: (يجهد فيها نفسه) في المغرب جهده حمله فوق طاقته من باب منع وأجهد لغة قليلة، والجهد: المشقة والمعنى يكلف نفسه مشقة في العبادة وتحملها.
قوله: (ولا إمام له من الله) أي من قبل الله تعالى واختياره سواء كان له إمام باختيارهم أم لم يكن.
قوله: (فسعيه غير مقبول) لأن العمل لله تعالى لا يتصور إلا بتوسط هاد مرشد إلى دين الله وشرائطه وكيفية العمل به، والعامل المعتمد برأيه أو بإمام اختاره لنفسه وإن قصد الصلاح في عمله واجتهد فيه فإنه يقع في الباطل فيحصل انحراف من الدين وضلال عن الحق فيضيع العمل ويخسر الكدح كدأب الخوارج والعامة العادلين عن العترة الطاهرين وإليهم يشير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الآية.
قوله: (والله شانئ لأعماله) أي مبغض لها لوقوعها لا على وجه أراد; والشناءة مثل الشناعة:
ص:141
البغض، وشنىء الرجل فهو ومشنوء أي مبغض، ومعنى بغضه تعالى للعمل عدم قبوله مع ذم عامله وطرده عن رحمته وثوابه الموعود له.
قوله: (ومثله كمثل شاة) انطباق هذا التمثيل على الممثل له ظاهر فإن هذا الرجل ضل عن راعيه وقطيعه وهو الإمام الحق ومن تبعه فتحير وحن في ظلمة الشبهات إلى قطيع وراع وزعم أنه راعيه الحق فلما أن ساق هذا الراعي قطيعه في صبح يوم القيامة إلى النار عرف هذا الرجل أنه ليس براعيه الحق فيتحير ويريد أن يلحق بكل فرقة حشرت مع الإمام الحق يقال له: أنت تائه الحق براعيك الذي حننت إليه وهو متردد تائه حتى تأخذه الزبانية وتجره إلى جهنم.
قوله: (فهجمت ذاهبة وجائية يومها) الهجوم: الدخول ويومها بتقدير في معمول للهجوم أو الذهاب على سبيل التنازع.
قوله: (واغترت بها) أي غفلت بها عن طلب راعيها أو خدعت بها، والغرة بالكسر: الغفلة تقول منه اغتررت بالرجل. وتقول أيضا اغتر بالشيء إذا خدع به، ووجه الغفلة والخدعة أنها لم تفرق في ظلمة الليل بين راعيها وراعي هذا القطيع.
قوله: (فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها) أي فلما أن ساق الراعي عند طلوع الفجر وانكشاف الظلمة قطيعه عرفت أنه ليس راعيا لها.
قوله: (ذعرة) أي خائفة من الذعر بالضم وهو الخوف والفزغ.
قوله: (وبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب) قال في النهاية: أصل «بينا» بين فأشبعت الفتحة فصارت ألفا يقال. بينا وبينما وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدء وخبر ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا وقد جاء في الجواب كثيرا يقول: بينا زيد جالس دخل عليه عمرو وإذ دخل عليه وإذا دخل عليه.
قوله: (ضيعتها) الضيعة بالفتح والسكون: الهلاك، تقول: ضاع الشيء يضيع ضيعة أي هلك.
قوله: (طاهر) معناه بلا نقطة طاهر عن الرجس ومعها ظاهر وجوده سواء كان شخصه ظاهرا أم لمن يكن أو ظاهر شخصه ولو في بعض الأوقات لبعض الأشخاص أو غالب على جميع الخلق في العلم والعمل أو معين لهم في الدين وبالجملة ظهوره لا ينافي غيبته لأنه ظاهر من وجه وغائب من وجه آخر كالشمس من فوق السحاب والنور من وراء الحجاب.
قوله: (ميتة كفر ونفاق (1)) أما الكفر فلأنه لم يؤمن ومن لم يؤمن فهو كافر والإسلام لا ينافيه،
ص:142
وأما النفاق فلأنه أقر لسانه بجميع ما جاء به الرسول وأنكر قلبه أعظمه، مضمون هذا الحديث متفق عليه بين الامة ولكن لبعضهم مزخرفات يضحك منها شفاه الأيام ويستنكف عن تحريرها لسان الأقلام.
قوله: (قد ضلوا وأضلوا) أي ضاعوا وهلكوا لعدو لهم عن طريق الحق وأضاعوا وأهلكوا من تبعهم إلى يوم القيامة لإخراجهم عنه فعليهم وزرهم ووزر من تبعهم مع أنه لا ينقص من أوزار التابعين شيء.
قوله: (فأعمالهم) تضمين للآية الكريمة وهي قوله تعالى (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح)(1) - الآية، يعني أعمالهم التي يعملونها مثل الصوم والصلاة والصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وغير ذلك مثل رماد اشتدت به الريح وحملته وطيرته في يوم عاصف أي شديدة ريحه، ووصف اليوم بالعصف: وهو اشتداد الريح للمبالغة كقولهم نهاره صائم، لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء لحبوطه فلا يرون له أثرا من الثواب وذلك
ص:143
يعني ضلالهم مع حسبانهم أنهم يحسنون هو الضلال البعيد لكونهم في غاية البعد عن طريق الحق فقد شبه أعمالهم في سقوطها وحبوطها لبنائها على غير أساس من الإيمان بالله وبرسوله وبالأئمة (عليهم السلام) بالرماد المذكور في عدم إمكان رده بعد ما طيرته الرياح العاصفة.
9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن الهيثم بن واقد، عن مقرن قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين «وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم»؟ فقال: نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يعرفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط، فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه، إن الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا، فإنهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها; لا نفاد لها ولا انقطاع.(1)
قوله: (ابن الكواء) عبد الله بن الكواء من رجال أمير المؤمنين (عليه السلام) خارجي ملعون (2).
قوله: (وعلى الأعراف رجال) قال في الصحاح: العرف والعرف: الرمل المرتفع وهو مثل عسر وعسر وكذلك العرفة والجمع عرف وأعراف، ويقال: الأعراف الذي في القرآن سور بين الجنة والنار.
قوله: (نعرف أنصارنا بسيماهم) خص الأنصار الذكر مع أنهم يعرفون أعداءهم أيضا بسيماهم للتنبيه على أن معرفة الأنصار وإعانتهم في ذلك المقام أهم وأقدم من معرفة الأعداء وإهانتهم.
قوله: (ونحن الأعراف) والأعراف هنا والعرفاء: جمع عريف وهو النقيب نحو الشريف
ص:144
والأشراف والشهيد والشهداء.
قوله: (ونحن الأعراف يعرفنا الله تعالى) يعرفنا بالتشديد أي يجعلنا عرفاء على الصراط ومما يؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة «وإنما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه» قال شارح النهج:
العريف: النقيب. أو يجعلنا ذا معرفة بأوليائنا وأعدائنا على الصراط، والمقصود أن أهل كل عصر لا يدخلون الجنة إلا بمعرفة إمامهم من العترة الطاهرة (عليهم السلام) معرفة حق ولايتهم وصدق إمامتهم ومعرفة الإمام لهم بالتصديق والمتابعة، وبيان الحصر من وجهين: أحدهما: أن دخول الجنة لا يمكن لأحد من هذه الامة إلا باتباع الشريعة النبوية ولزوم العمل بها ولا يمكن ذلك إلا بمعرفتها ومعرفة كيفية العمل بها، ولا يمكن ذلك إلا ببيان صاحب الشريعة والقائم بها وإرشاده وتعليمه، وذلك لا يمكن إلا بمعرفة المأموم الإمام وحقية إمامتهم وصدق ولايته له ليقتدي به، ومعرفة الإمام للمأموم ليهديه، فإذن دخول الجنة متوقف على معرفة الإمام للمأمومين ومعرفتهم له.
وثانيهما: أن معرفة الأئمة ومعرفة حقية إمامتهم وصدق ولايتهم ركن من أركان الدين ولا يدخل الجنة إلا من أقامه، ومن عرفهم كذلك وجب معرفتهم له بذلك، وقال بعض شراح النهج: واعلم أنه لا يشترط في معرفتهم لمحبيهم ومعرفة محبيهم لهم المعرفة الشخصية العينية بل الشرط المعرفة على وجه كلي وهو أن يعلم أن كل من اعتقد حقية إمامتهم واهتدى بما انتشر من هديهم فهو وليهم ومقيم لهذا الركن من الدين فيكونون من يتولاهم على هذا الوجه ومن يتولاهم عارفا بهم لمعرفته بحقية ولايتهم واعتقاد ما يقولون وإن لم يشترط المشاهدة العينية والمعرفة الشخصية، وفيما ذكرنا دفع لما يتوهم من أن كثيرا من الشيعة لهؤلاء الأئمة ومحبيهم لا يعرفهم الأئمة ولا يرون أشخاصهم، هذا بيان للكلية الاولى، وأما بيان الكلية الثانية وهي قوله «ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه» فهو ما أشار إليه شارح النهج من أن دخول الجنة مستلزم لمعرفتهم ومنحصر فيه وكل واحد ممن يدخل الجنة عارف بهم وذلك يستلزم أنه لا واحد ممن يدخل الجنة بمنكر لهم لأن معرفتهم وإنكارهم مما لا يجتمعان في ملزوم واحد إذا عرفت ذلك فنقول من أنكرهم وأنكروه لا يجوز أن يكون أعم ممن يدخل النار، أما أولا، فللخبر المشهور «من مات ولم يعرف إمام وقته فقد مات ميتة جاهلية» فقد دل هذا الخبر على أن إنكارهم مستلزم للميتة الجاهلية المستلزم لدخول النار.
أما ثانيا: فلأنه لو كان أعم لصدق على بعض من يدخل الجنة فبعض المنكر لهم يدخل الجنة فينعكس بعض من يدخل الجنة منكر لهم، وقد مر أنه لا واحد ممن يدخل الجنة بمنكر لهم هذا
ص:145
خلاف، وكذلك لا يجوز أن يكون أخص وإلا لصدق على بعض من يتولاهم ويعترف بصدق إمامتهم أنه يدخل النار لكن ذلك باطل لقول الرسول (صلى الله عليه وآله) «يحشر المرء مع من أحب» وقد ثبت أنهم (عليهم السلام) يحشرون إلى الجنة فكذلك من أحبهم واعترف بحقية إمامتهم ودخول الجنة مع دخول النار مما يجتمعان فثبت أنه لا واحد ممن يحبهم ويعترف بحقيتهم يدخل النار فقد ظهر إذن صدق هذه الكلية أيضا ووجه الحصر فيها.
قوله: (إن الله تعالى لو شاء لعرف العباد نفسه) كما عرف الأنبياء نفسه ولكن لم يشأ ذلك لعدم قابليتهم له بل جعلنا أبواب معرفته بما يليق به من الحكم الإلهية وأسرار التوحيد وجعلنا صراطه في دينه من الشرائع والأخلاق والسياسات وسبيله إلى جنته، وبيان مقاماتها ودرجاتها والوجه الذي يؤتى الله سبحانه من ذلك الوجه. وقد مر توضيح ذلك ويشتمل على جميع ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها».
قوله: (لناكبون) نكب عن الطريق ينكب نكوبا من باب نصر أي عدل.
قوله: (فلا سواء من اعتصم الناس به) ضمير المجرور راجع إلى من وإفراده باعتبار لفظه وإن كان معناه متعددا والمقصود نفي المساواة بين جماعة اعتصم الناس بهم وجعلوهم أئمة في أمر مبدئهم ومعادهم ومعاشهم بل بعضهم صراط الحق وهم العترة (عليهم السلام) وبعضهم صراط النار وهم أولياء الشيطان.
قوله: (ولا سواء حيث ذهب الناس) لا سواء تأكيد لما سبق و «حيث» تعليل لنفي المساواة.
قوله: (إلى عيون كدرة) أي غير صافية من الكدر خلاف الصفو وقد كدر الماء يكدر كدرا فهو كدر وكدر أيضا مثل فخذوه وفخذ ويفرغ صفة لها، يقال: فرغ الماء فراغا مثل: سمع سماعا أي انصب وأفرغته أنا، والمراد بتلك العيون شبهات أئمة الجور ومخترعاتهم التي أحدثوها وعاونوا بعضهم بعضا في اختراعها وإحداثها وفي وصفها بالفراغ لا وصف صاحبها بالإفراغ تنبيه على غزارتها وكثرتها.
قوله: (إلى عيون صافية) متعلق بذهب الأول أي من ذهب إلينا ذهب إلى عيون صافية هي النواميس الإلهية والأسرار الربانية والأحكام الفرقانية التي تجري بأمر ربها في قلوب صافية تقية نقية مقدسة مطهرة عن الغبن والرين ثم تجري منها إلى قلوب المؤمنين وصدور العارفين إلى يوم الدين بلا نفاد ولا انقياد بخلاف الشبهات الزائلة والمخترعات الباطلة فإنها إذ لا أصل ولا مادة لها تنقطع يوما ما.
ص:146
10 الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الريان بن شبيب، عن يونس، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا حمزة يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلا وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض، فاطلب لنفسك دليلا.(1)
قوله: (وأنت بطرق السماء) المراد بطرق السماء طرق معرفة الله تعالى ومعرفة أسراره وتوحيده ومعرفة عالم الغيب، ووجه زيادة الجهل به ظاهر لأن المراحل المعقولة أخفى والشبهات الوهمية والخيالية والتسويلات النفسانية والشيطانية فيه أقوى من المراحل المحسوسة فإذا احتيج في الأظهر إلى دليل فالأخفى أولى بالاحتياج إليه، وإنما عبر عن المعرفة بطرق السماء (2) للدلالة على رفعة قدرها وتعظيم شأنها.
11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أيوب بن الحر عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) (3)فقال: طاعة الله ومعرفة الإمام.(4)
قوله: (طاعة الله ومعرفة الإمام) إنما نسب المعرفة إلى الإمام والطاعة إلى الله لأن معرفة الإمام مستلزمة لمعرفة الله وطاعة الله تعالى مستلزمة لطاعة الإمام، فيرجع الكلام إلى أن الحكمة طاعة الله وطاعة الإمام ومعرفتهما فتكون المعرفة إشارة إلى الحكمة النظرية والطاعة إلى الحكمة العملية.
ص:147
12 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان عن أبي بصير قال:
قال لي أبو جعفر (عليه السلام): هل عرفة إمامك؟ قال: قلت: إي والله قبل أن أخرج من الكوفة فقال: حسبك إذا.(1)
قوله: (إي) بكسر الهمزة من حروف التصديق ولا يستعمل إلا مع القسم.
قوله: (حسبك إذن) حسبك بمعنى يحسبك ويكفيك، و «إذن» من حرف المكافأة والجواب وإذا وقف عليه قيل «إذا» وهو كذلك في بعض النسخ، ولما أخر بطل عمله وهو نصب المستقبل مع أنه لم يجد هنا مستقبلا، وإنما قال في جواب قوله «عرفت الإمام قبل أن أخرج من الكوفة» حسبك إذن للدلالة على أن معرفة الإمام مستلزمة لمعرفة جميع المعارف الحقة وأصل لجميع العلوم الصادقة فمعرفته كافية لذوي البصائر الكاملة.
13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن بريد قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) (2)فقال: ميت لا يعرف شيئا «ونورا يمشي به في الناس» إماما يؤتم به «كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» قال: الذي لا يعرف الإمام.(3)
قوله: (أومن كان ميتا) يعني أو من كان ميتا بالجهالات والأخلاق الذميمة أو بكونه في المرتبة الهيولانية فأحييناه بالكمالات العقلية والأخلاق المرضية والقوانين العدلية والقوة العملية (4)، وجعلنا له إماما كالنور الساطع يمشي بهدايته في الناس والحجب الناسوتية إلى الأسرار الإلهية والأنوار اللاهوتية كمن مثله في ظلمات الجهالة وموت الضلالة وهو باق فيها وليس بخارج منها،
ص:148
وليس له إمام عادل ليبلغ بنور هدايته إلى أوج الكرامة، فالآية على هذا التأويل نزلت في الشيعة ومخالفيهم.
14 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة ومحمد بن عبد الله، عن علي بن حسان عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال (عليه السلام): يا أبا عبد الله ألا اخبرك بقول الله عز وجعل: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون)(1)؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين جعلت فداك، فقال: الحسنة معرفة الولاية وحبنا أهل البيت والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت، ثم قرأ عليه هذه الآية.(2)
قوله: (دخل أبو عبد الله الجدلي) اسمه عبيد بن عبد، وقد يقال: عبيد الله بن عبد الله وهو من الأولياء ومن خواصه وأوليائه (عليه السلام). والجدلي بالجيم والتحريك: منسوب إلى جديلة حي من طي وهي اسم امهم.
قوله: (فكبت وجوههم في النار) كبه لوجهه: أي صرعه فأكب هو، ومجئ الإفعال من المتعدي للازم كما هنا من النوادر.
قوله: (فقال: الحسنة معرفة الولاية) الظاهر أنه لم يرد حصر الحسنة والسيئة بما ذكر، بل أراد أن هذه الحسنة والسيئة أكمل أفراد هذين الجنسين، بدليل أن كل حسنة تفرض وكل سيئة تفرض فهما داخلان تحتهما وفرعان لهما.
ص:149
1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة; عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
ذروة الأمر وسنامه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته، ثم قال:
إن الله تبارك وتعالى يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا)(1).(2)
قوله: (الطاعة للإمام بعد معرفته) طاعة الإمام عبارة عن التصديق بإمامته والإذعان بولايته والإقرار بتقدمه على جميع الخلق بأمره تعالى، والمتابعة لأمره ونهيه ووعظه ونصيحته، ظهر وجه المصلحة أم لم يظهر، وهي ذروة أمر الإيمان من حيث أنها أعظم أركانه وأعلاها وأشرفها وأسناها وسنامه من حيث شرفها وعلوها بالنسبة إلى سائر أركان الإيمان مع ملاحظة أنها بمنزلة المركب يوصل راكبها إلى سائر منازل العرفان، ومفتاحه من حيث أنه ينفتح بها أقفال أبواب العدل والإحسان وباب الأشياء والشرائع النبوية والأسرار الإلهية من حيث أنه لا يجوز لأحد الدخول في الدين ومشاهدة ما فيه بعين اليقين إلا بالوصول إلى سدنتها والعكوف على عتبتها، ورضاء الرحمن تبارك وتعالى من حيث أنها توجب القرب إليه والزلفى لديه والاستحقاق لما وعده للمطيع من الأجر الجميل والثواب الجزيل، وكل هذا على سبيل الاستعارة والتشبيه الذي لا يخفى على العارف بالعربية حسن موقعه ولطافة موضعه، وإنما قال «بعد معرفته» للتنبيه على أن أصل معرفته تعالى أفضل منها، كيف لا وهي أصل لها؟ وإن كان كمال المعرفة إنما يحصل بها، وبالجملة نظام الطاعة موقوف على أصل المعرفة وكمال المعرفة موقوف على نظام الطاعة.
قوله: (ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول) هذا بمنزلة التأييد لما مر والدليل عليه حيث عد طاعة الرسول نفس طاعته تعالى ومن البين أن طاعة الإمام نفس طاعة الرسول لقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم)(3) فطاعة الإمام نفس طاعة الله تعالى، ومن هنا ظهر أيضا تقدم معرفته على طاعة الإمام.
ص:150
قوله: (حفيظا) أي حافظا لهم عن التولي والإعراض وإنما عليك البلاغ.
2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي الصباح قال: أشهد أني سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أشهد أن عليا إمام فرض الله طاعته وأن الحسن إمام فرض الله طاعته وأن الحسين إمام فرض الله طاعته وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته.(1)
قوله: (قال: أشهد أني سمعت) أتى بالشهادة ليفيد أن المنقول خبر قاطع لاعتبار التوافق بين القلب واللسان في الشهادة ولترويجه لأن الشهادة بمنزلة الحلف.
قوله: (فرض الله طاعته) دل على ما هو الحق الثابت الذي لا ريب فيه من أن الإمامة بالنص لا باختيار العبد كما حقق في موضعه.
3 - وبهذا الأسناد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي قال: حدثنا حماد بن عثمان عن بشير العطار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته.(2)
قوله: (وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته) فيه بشارة للعارفين وإنذار للجاهلين والمراد بالناس إما من آمن بالله وبرسوله لما مر من أن معرفة الأئمة إنما يجب عليه وأما من لم يؤمن بهما فإنما الواجب عليه أصالة هو الإيمان بهما ثم الإيمان بهما يقتضي الإيمان بهم وأما جميع الناس حتى المنكرين لله والرسول فإنهم كما لا يعذورن بجهالتهما كذلك لا يعذرون بجهالة الإمام هذا فيمن بلغه التبليغ وفي غيره لو تحقق مشكل (3).
ص:151
5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي خالد القماط، عن أبي الحسن العطار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة.(1)
قوله: (أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة) أشرك يحتمل الأمر والتكلم وفيه دلالة على أن طاعتهم واحدة لأن الظاهر في الشركة أن يتعلق بشيء واحد ويحتمل أن يراد به التلازم بين طاعة الرسل وطاعة الأوصياء.
6 - أحمد بن محمد، عن محمد بن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم ونحن المحسودون الذين قال الله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)(2).(3)
قوله: (لنا الأنفال) تقديم الخبر للحصر والأنفال: جمع النفل بالسكون وقد يحرك وهو الزيادة، به سميت نوافل العبادات لأنها زائدة على الفرائض والمراد بها كل ما كان من الزيادة مختصا
ص:152
بالنبي (صلى الله عليه وآله) في حياته مثل الأرض التي باد أهلها والأرض الموات التي لا أرباب لها إلى غير ذلك مما عد في موضعه وهي بعده للإمام (عليه السلام).
قوله: (ولنا صفوا المال) أي خالصة، ولعل المراد بها صفايا ملوك أهل الحرب وقطايعهم وغير ذلك مما يصطفى من الغنيمة مثل الفرس الجواد والثوب المرتفع والجارية الحسناء والسيف الفاخر ونحوها.
قوله: (ونحن الراسخون في العلم) الممدوحون في القرآن الكريم بقوله تعالى (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك)(1) - الآية، وقوله تعالى (والراسخون في العلم يقولون آمنا)(2).
قوله: (ونحن المحسودون) الحسد أن يرى الرجل لغيره نعمة فيتمنى أن تزول منه وتكون له.
قوله: (على ما آتاهم الله من فضله) «من» يحتمل أن تكون ابتدائية وأن تكون بيانية، والمراد بالفضل حينئذ الحكمة الإلهية وإيجاب طاعة الخلائق لهم.
8 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن (عليه السلام) فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم، قال: مثل طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: نعم.(1)
قوله: (مثل طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)) يحتمل أن يراد بمثلها مثلها في كونها من قبل الله تعالى، أو مثلها في الرتبة والمقدار.
9 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأئمة هل يجرون في الأمر والطاعة مجرى واحدا؟ قال:
نعم.(2)
قوله: (في الأمر والطاعة) لعل المراد بالأمر أمر الخلافة الإمامة أو أمر الشرائع والحكمة، ويحتمل أن يكون العطف للتفسير.
ص:154
10 - وبهذا الإسناد، عن مروك بن عبيد، عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائما على رأس الرضا (عليه السلام) بخراسان وعنده عدة من بني هاشم وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال: يا إسحاق! بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قلته قط ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله; ولكني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين. فليبلغ الشاهد الغائب.(1)
قوله: (لا وقرابتي) فإن قلت قد صرحوا بأنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى كالكتب المنزلة والأنبياء والأئمة والقرابة ونحوها، ودل عليه قول الصادق (عليه السلام) «لا يحلف بغير الله» قلنا: لعل التصريح والنهي في الدعاوي، وأما في غيرها فالظاهر أنه يجوز إذا كان له شأن ومنزلة، كيف لا؟ وقد وقع ذلك في كثير من الأدعية.
قوله: (ما قلته قط) فإن قلت ففي هذه الثلاثة لا يدل على عدم صدور هذا القول عن أحد من الأئمة، قلت: صدوره عنه يستلزم سماعه (عليه السلام) أو بلوغه إليه فما ذكره من باب نفي الملزوم بانتفاء اللازم.
قوله: (عبيد لنا في الطاعة) يعني وجب عليهم طاعتنا كما وجب على العبد طاعة السيد، فهم عبيد لنا بهذا الاعتبار لا بالمعنى المعروف، وإطلاق العبد على التابع شائع كما يقال: فلان عبد للشيطان وعبد لهواه.
قوله: (موال لنا في الدين) المراد بالموالي هنا: الناصر كما في قوله تعالى (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا).
قوله: (فليبلغ الشاهد الغائب) فيه ترغيب في نشر الحديث، وتجويز للعمل بخبر الواحد، وحصر فائدة النقل في حصول التواتر خلاف الظاهر.
11 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبي سلمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمنا، ومن أنكرنا كان كافرا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن يمت على ضلالته يفعل الله به
ص:155
ما يشاء.(1)
قوله: (من عرفنا كان مؤمنا) قسم الناس على ثلاثة أقسام: الأول: من عرف ولايتهم وهو مؤمن بالله وبرسوله، والثاني: من أنكرها وهو كافر بهما حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من اصوله، والثالث: من لم يعرفها ولم ينكرها، بل هو ساكت متوقف وهو ضال، وحال كل واحد من الأولين ظاهر وأما الأخير فهو في المشية إن لم يرجع إلى الهدى الذي هو طاعة الإمام.
12 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن الفضيل قال: سألته عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل، قال: أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة اولي الأمر، قال أبو جعفر (عليه السلام): حبنا إيمان وبغضنا كفر.(2)
قوله: (أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله تعالى طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة اولي الأمر) يعني الإمام (عليه السلام) وكل واحدة من هذه الطاعات عين الاخرى بقياسات راجعة إلى الضرب الأول من الشكل الأول، ووجه أفضليتها أن كل ما عداها مما يتقرب به مندرج تحتها كما لا يخفى على المتأمل.
قوله: (حبنا إيمان وبغضنا كفر) الحمل على سبيل المبالغة وذلك لأن حبهم جزء أخير من الإيمان فإذا تحقق تحقق الإيمان وإذا تحقق ضده وهو البغض تحقق الكفر، وإن لم يتحقق هذا ولا ذاك تحقق الضلالة والتحير، وهو القسم الثالث المذكور في الحديث السابق، وإنما يذكره هنا لظهور الواسطة بين الحب والبغض.
13 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن فضالة ابن أيوب، عن أبان، عن عبد الله بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أعرض عليك ديني الذي أدين الله عز وجل به؟ قال: فقال: هات قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله وأن عليا كان إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسن إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسين إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده
ص:156
علي بن بالحسين إماما فرض الله طاعته - حتى انتهى الأمر إليه - ثم قلت: أنت يرحمك الله، قال:
فقال: هذا دين الله ودين ملائكته.(1)
قوله: (وحده لا شريك له) تأكيد للسابق أو المراد به نفي أن يكون له مشارك في الذات والصفات والوجود الذاتي، وبالسابق نفي إله مستحق للعبادة غيره.
قوله: (وأن محمدا عبده ورسوله) ذكر العبودية مع أن الرسالة مستلزمة لها بيانا للواقع وتصريحا بما هو من أفضل الكمالات البشرية، وإنما قدمها على الرسالة لتقدمها عليها في الواقع كما مر.
قوله: (والإقرار بما جاء به من عند الله) في العطف مناقشة يمكن دفعها بأن يجعل الواو بمعنى مع أو يقدر الخبر وهو حق أو لازم أو نحو ذلك.
قوله: (حتى انتهى الأمر إليه) اريد به أمر الخلافة والإمامة، أو أمر الطاعة أو أمر الدين أو علم آبائه الطاهرين.
قوله: (ثم قلت: أنت) أي أنت إمام.
14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعلموا أن صحبة العالم واتباعه دين يدان الله به وطاعته مكسبة للحسنات، ممحات للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم.(2)
قوله: (صحبة العالم) أي صحبة العالم الرباني واتباعه في طريقه وسلوك سبيله دين وطريق يطاع الله تعالى به وطاعته آلة لكسب الحسنات ومحو السيئات وذخيرة للمؤمنين تنفعهم يوم الدين ورفعة فيهم في حال حياتهم بها يرتفعون إلى المقامات العالية و (جميل) أي ذات صورة حسنة وزينة كاملة لهم بعد موتهم، ولم يقل جميلة كما قال «ذخيرة» لأنه أجرى على الفعيل بمعنى الفاعل حكم الفعيل بمعنى المفعول كما في قوله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين) (3)وفي بعض النسخ المصححة «مكتسبة» من الاكتساب و «ممحية» و «حبل» بدلا من جميل، والحبل
ص:157
النور والعهد والميثاق والأمان.
15 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قال:
صدقت، قلت: إن من عرف أن له ربا، فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة، وأن لهم الطاعة المفترضة، فقلت للناس: أليس تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى (صلى الله عليه وآله) من كان الحجة؟ قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، فما قال فيه من شيء كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ قالوا: ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا لا، فلم أجد أحدا يقال: إنه يعلم القرآن كله إلا عليا صلوات الله عليه وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري وقال هذا: لا أدري وقال هذا لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن ما قال في القرآن فهو حق فقال رحمك الله، فقلت: إن عليا (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن الحجة بعد علي الحسن بن علي; وأشهد على الحسن أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه وجده وأن الحجة بعد الحسن الحسين وكانت طاعته مفترضة، فقال:
رحمك الله، فقبلت رأسه وقلت: وأشهد على الحسين أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده علي بن الحسين وكانت طاعته مفترضة فقال: رحمك الله وقلت: وأشهد على علي بن الحسين أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده محمد بن علي أبا جعفر وكانت طاعته مفترضة، فقال: رحمك الله، قلت: أعطني رأسك حتى اقبله، فضحك، قلت: أصلحك الله قد علمت أن أباك لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه، واشهد بالله أنك أنت الحجة وأن طاعتك مفترضة، فقال: كف رحمك الله، قلت: أعطني رأسك اقبله فقبلت رأسه فضحك وقال: سلني عما شئت، فلا انكرك بعد اليوم أبدا.(1)
ص:158
قوله: (إن الله أجل) قد ذكر هذا الحديث بهذا السند إلى قوله «فقلت إن عليا (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك حجة من بعده» في باب الاضطرار إلى الحجة وإنما أعاده هنا لبقية دلت على فرض طاعة الإمام ونحن ذكرنا شرحه ثمة ولكن لا بأس أن نشير هنا إلى ما يناسب بعض السوابق (1). فنقول: إن
ص:159
الامور الممكنة والأشياء الكلية والجزئية كلها مسببة عن السبب الأول جل اسمه، الذي يتسبب عنه كل موجود ويتشعب عنه كل عين وأثر وينتشر منه كل علم وخبر.
وما من شيء إلا وينتهي في سلسلة الحاجة إليه وإلى الأوائل الصادرة عنه، وإذا رتبت الأسباب والمسببات انتهت أوائلها إلى مسبب الأسباب وأنتهت أواخرها إلى الجزئيات الشخصية، فكل كلي وجزئي صادر عن الأول جل اسمه، وقد تحقق في العلوم الحقيقية بالبراهين اليقينية أن العلم بسبب الشيء يوجب العلم بذلك الشيء علما ضروريا، فمن عرف ذاته بالأوصاف الكمالية والنعوت الجلالية وعرف الأوائل والغايات من العقول القادسة ومنها الثواني والمدبرات النفسانية والمحركات السماوية للأشواق الإلهية والأغراض الكلية بالعبادات الدائمة والنسك المستمرة من غير لغوب ولا فتور والأجرام العلوية المؤثرة في العالم السفلي بأمر الخالق يحيط علما بجميع الامور والأحوال علما بريئا عن الشك والتغير والغلط فيعلم من الأوائل الثواني ومن الكليات الجزئيات المترتبة عليها، وهذا طريقة الصديقين في معرفة الأشياء المشار إليها في قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فإنهم عرفوا الله أولا وعرفوا صفاته ومن صفاته أوائل أفعاله ومن الأوائل الثواني وهكذا حتى علموا الكليات ومن الكليات الجزئيات ومن البسائط المركبات وعلموا حقيقة الإنسان وأحوال النفوس الإنسانية وما يزكيها وما يكملها ويسعدها ويصعدها إلى عالم القدس والربوبية ومنزل الأبرار والمقربين وما يدسها ويرديها ويشقيها يهويها إلى أسفل السافلين ومنزل الفجار والشياطين علما ثابتا غير قابل للتغير والشك ولا محتملا التطرق الريب والوهم، وهذه حال الأنبياء والأولياء وكل علم لم يحصل من هذا الطريق بل حصل من تقليد أو سماع أو أثر أو ظن، فليس بالنظر إليه علم بل ظن «والظن لا يغني من الحق شيئا».
17 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حماد، عن عبد الأعلى قال، سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: السمع والطاعة أبواب الخير، السامع المطيع لا حجة عليه والسامع العاصي لا حجة له، وإمام المسلمين تمت حجته، واحتجاجه يوم يلقى الله عز
ص:160
وجل، ثم قال: يقول الله تبارك وتعالى: (يوم ندعو كل اناس بإمامهم)(1).(2)
قوله: (السمع والطاعة) يعني أنهما معا جميع أبواب الخير لظهور أن الإمام لا يقول إلا خيرا ولا يأمر إلا به وأنه لا يترك ما هو خير لنا إلا وهو يقول ويأمر به.
قوله: (السامع المطيع لا حجة عليه) لأن الحجة عليه هو اعتراض بأنك لم فعلت هذا وتركت ذاك؟ ولم لم تسمع ولم تطع فإذا سمع وأطاع ووضع كل شيء في موضعه لم يرد عليه ذلك الاعتراض.
قوله: (والسامع العاصي لا حجة له) لأن غاية اعتذاره في العصيان والمخالفة هي التمسك بعدم العلم والسماع ولا مجال له حينئذ. وربما يفهم منه أن العاصي الذي لم يسمع له حجة، ولا يبعد على تقدير تحققه اندراجه في أهل التأجيج.
قوله (وإمام المسلمين) إذا تحقق اللقاء وسأل الله تعالى كل إمام عن رعيته وكل رعية عن إمامها اتم الإمام حجته عليهم وأكملها لديهم، وليس لهم هنا طريق مناظرة ولا قوة مناقشة عنادا وإنكارا كما كان لهم في دار التكليف ودار الامتحان وعند ذلك يدعو الله تعالى كل اناس بإمامهم.
ص:161
1 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن سماعة قال:
قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: (فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)(1) قال: نزلت في امة محمد (صلى الله عليه وآله) خاصة، في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم ومحمد (صلى الله عليه وآله) شاهد علينا.(2)
قوله: (في كل قرن) في النهاية، القرن: أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل:
القرن: أربعون سنة. وقيل: ثمانون. وقيل: هو مطلق من الزمان.
قوله: (شاهد عليهم) يوم القيامة بما علم منهم من خير وشر كما أن عليهم شاهدا من الملائكة والأعضاء لقوله تعالى (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)(3).
قوله: (شاهد علينا) الظاهر أن المراد بضمير المتكلم الأئمة (عليهم السلام) واحتمال إرادة جميع الأمة بعيد، وتحقق هذه الشهادة أن النفس القادسة النبوية مع كونها متعلقة بالبدن كانت مطلعه على الامور الغائبة فكيف إذا فارقة، فإنها إذن تكون مطلعة على جميع أفعال الامم من خير أو شر قطعا، وأما فائدتها فلأن الناس إذا علموا أن عليهم شهيدا ورقيبا وكتابا لما يفعلون كان ذلك أدعى لهم إلى الطاعة والقربات وأمنع لهم عن المعصية والشهوات لاحترازهم عن الافتضاح في محفل القيامة على رؤوس الأشهاد.
2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد ابن عائذ، عن عمر بن اذينة، عن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (4)قال: نحن الامة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه، قلت: قول الله عز وجل: (ملة أبيكم إبراهيم) قال: إيانا عنى خاصة، (هو سماكم المسلمين من قبل) في الكتب التي مضت «وفي هذا» القرآن، (ليكون الرسول عليكم شهيدا) فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله عز وجل ونحن الشهداء على الناس
ص:162
فمن صدق صدقناه يوم القيامة، ومن كذب كذبناه يوم القيامة.(1)
قوله: (امة وسطا) أي أشرف الامم وأفضلهم وخيارهم وأعدلهم، قال في المغرب: الوسط بالتحريك: اسم لعين ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة وبالسكون اسم مبهم لداخل الدائرة مثلا ولذا كان ظرفا فالأول يجعل مبتدءا وفاعلا ومفعولا به وداخلا عليه حرف الجر، ولا يصح شيء من هذا في الثاني تقول: وسطه خير من طرفه واتسع وسطه وضربت وسطه وجلست في وسط الدار، وجلست في وسطها بالسكون لا غير، ويوصف بالأول مستويا فيه المذكر والمؤنث والاثنان والجمع قال الله تعالى: (كذلك وجعلناكم امة وسطا) (2)وقد بنى منه اسم التفضيل فيقال للمذكر الأوسط وللمؤنث الوسطى.
قوله: (ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه) لأنا نشهد لله على جميع الخلق بما دانوا وما فعلوا وبتبليغ الرسل قال صاحب الطرائف: روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي وهو من علماء المذاهب الأربعة بإسناده عن قتادة عن الحسن عن ابن عباس «أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأولاده هم الشهداء عند ربهم» قال ابن عباس: «هم شهداء الرسل على أنهم قد بلغوا الرسالة ولهم أجرهم».
قوله: (ملة أبيكم إبراهيم) قال المفسرون: هي بالنصب على المصدر لفعل دل عليه مضمون ما قبلها وهو قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج)(3) أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، أو على الإعزاء والاختصاص.
قوله: (إيانا عنى خاصة) أي إيانا عني بهذا الخطاب خاصة لا جميع الامة كما زعم باعتبار أن إبراهيم كان أبا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أب لامته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية فإبراهيم أب لامته أو باعتبار التغليب لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم، ولا يخفى بعد هذا وقرب ما ذكره (عليه السلام).
قوله: (هو سماكم المسلمين) من قبل القرآن في الكتب التي مضت وفي هذا القرآن عطف على قوله من قبل والضمير لله تعالى كما صرح به المفسرون وقالوا يدل عليه أنه قرأ (الله سماكم) وعوده إلى إبراهيم يدفعه قوله: وفي هذا القرآن لأنه لم يسمهم مسلمين فيه.
قوله: (ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس) والمقصود هنا هو الإشارة إلى مضمون الآية ولذا لم يذكر تمامها إحالة إلى فهم المخاطب، واللام في قوله (ويكون) متعلق
ص:163
بسماكم أي سماكم المسلمين ليكون الرسول يوم القيامة أو في هذه الدار أيضا شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس كذلك.
قوله: (بما بلغنا) أي بما بلغنا رسول الله عنه جل شأنه أو بما بلغنا الأئمة بتوسطه عن الله جل شأنه والأول أظهر، وفيه دلالة على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته كما صرح به القاضي.
والثاني أنسب.
قوله: (ونحن الشهداء على الناس) بتبليغ الرسل إليهم أو بالطاعة والعصيان أو بالتصديق والتكذيب.
قوله: (فمن صدق صدقناه) أي فمن صدقنا في الإمامة والعقائد وفي كل ما نقول صدقناه يوم القيامة فيما يدعيه من العقائد الكاملة والأعمال الصالحة وغيرها من الأمور النافعة الواقعة، أو من صدق الرسول صدقناه والتعميم أولى.
قوله: (ومن كذب يوم القيامة كذبناه) هكذا في النسخ التي رأيناها إلا في واحدة إذ فيها «ومن كذب كذبناه يوم القيامة» وهذا أوفق بالسابق وأظهر في المعنى. والظرف على النسخ المشهورة متعلق بالفعل المتأخر.
3 - وبهذا الاسناد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن عمر الحلال قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله الله عز وجل: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (1)فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الشاهد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) على بينة من ربه.(2)
قوله: (الشاهد على رسول الله) بالتبليغ وأداء حق الرسالة.
قوله: (على بينة من ربه) دالة على حقيقة نبوته وصدق رسالته وهي الآيات والمعجزات.
4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن بريد العجلي قال:
قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله تبارك وتعالى: (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ليكون الرسول عليكم شهيدا)(3) قال: نحن الامة الوسط ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه وحججه في أرضه، قلت: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا
ص:164
ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) (1)قال: إيانا عنى ونحن المجتبون ولم يجعل الله تبارك وتعالى في الدين من ضيق فالحرج أشد من الضيق (ملة أبيكم إبراهيم) إيانا عنى خاصة و (سماكم المسلمين) الله سمانا المسلمين (من قبل) في الكتب التي مضت (وفي هذا) القرآن (ليكون الرسول عليكم شهيدا)(2) على الناس فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك وتعالى ونحن الشهداء على الناس، فمن صدق يوم القيامة صدقناه ومن كذب كذبناه.(3)
قوله: (امة وسطا) قال الجوهري: الوسط من كل شيء: أعدله وقال تعالى (كذلك وجعلناكم امة وسطا) أي عدلا، وقال ابن الأثير: كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم وتجنبه بالتعري منه والبعد عنه فكل ما ازداد منه بعدا ازداد منه تقربا وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما وهو غاية البعد عنهما فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان. ومما ذكره يظهر وجه تسميتهم وسطا ويظهر سر المثل المشهور «خير الامور أوساطها».
قوله: (نحن الامة الوسط) في بعض النسخ الوسطى، وكلاهما جائز كما مر.
قوله: (اركعوا واسجدوا) أي صلوا من باب تسمية الكل باسم أشرف أجزائه، وقال القاضي:
أمرهم بهما لأنهم كانوا يفعلونهما أول الإسلام وهو عندنا لم يثبت.
قوله: (واعبدوا ربكم) بسائر ما تعبدكم به أو اخضعوا وتذللوا له لأن أصل العبودية الخضوع والذل.
قوله: (وافعلوا الخير) كله مثل فعل المندوب وإغاثة الملهوف والأمر بالمعروف وتكميل الأخلاق إلى غير ذلك.
قوله: (لعلكم تفلحون) غاية للأوامر المذكورة أي افعلوا هذه الامور حال كونكم راجين للفلاح، غير متيقنين به ولا واثقين على العمل.
قوله: (وجاهدوا في الله) أي جاهدوا في سبيل الله أو لله خالصا الأعداء الظاهرة والباطنة مثل الكفار والنفس.
قوله: (حق جهاده) قال القاضي: أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس، واضيف الحق إلى
ص:165
الجهاد مبالغة، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص بالله من حيث أنه مفعول لوجه الله ومن أجله.
قوله: (هو اجتباكم) أي اختاركم لدينه واصطفاكم لنصرته.
قوله: (إيانا عنى) أي إيانا أراد بهذا الخطاب والحصر باعتبار أن الإرادة تعلقت بهم أولا وبالذات وإن تعلقت بغيرهم ثانيا وبالعرض.
قوله: (ولم يجعل الله تعالى في الدين من ضيق فالحرج أشد من الضيق) الضيق بفتح الضاد وشد الياء، وقد تخفف، ولعل هذا تفسير لقوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج)(1) وبيان أن المراد بالحرج هنا الضيق، وإذا انتفى الضيق في الدين انتفى الحرج بطريق أولى لأنه أشد من الضيق كما يشعر به قوله تعالى (يجعل صدره ضيقا حرجا)(2) إذ الصدر الحرج هو الذي لا يقبل شيئا من الحق ولا يسع له لانتفاء ما هو محل له بخلاف الصدر الضيق إذ قد يقبل له قبولا ضعيفا لبقاء محل ما منه للحق ولعل الغرض من هذا التفسير هو الإشعار بأن اجتباء الإمام للناس سبب لانتفاء الحرج عنهم إذ لهم حينئذ إمام هاد يرجعون إليه في محل المشكلات وتوضيح المعضلات والله أعلم. قوله: (ليكون الرسول عليكم شهيدا) المقصود هو الإشارة إلى مضمون الآية كما مر وإلا فالآية: (ليكون الرسول شهيدا عليكم) (3).
5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: إن الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا.(4)
قوله: (إن الله طهرنا وعصمنا) أي طهرنا عن الأدناس وعصمنا من الأرجاس كما قال جل شأنه:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (5)لاتفاق الأمة إلا من شذ على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام، والروايات الدالة على ذلك من طرق العامة والخاصة متظافرة بل متواترة وسنبين ذلك كما ينبغي في موضعه إن شاء الله تعالى.
ص:166
قوله: (وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه) كما قال جل شأنه (لتكونوا شهداء على الناس) وقال: (لئلا يكون للناس على الله حجة).
قوله: (وجعلنا مع القرآن) كما قال (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وهما لا يفترقان حتى يردا علي الخوض» وقال أيضا «إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وأهل بيتي عترتي أيها الناس قد بلغت إنكم ستردون علي الحوض، فأسألكم عما فعلتم في الثقلين والثقلان كتاب الله وأهل بيتي فلا تسبقوهم ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم» وسيجئ أيضا تحقيق ذلك في موضعه.
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد وفضالة بن أيوب، عن موسى بن بكر، عن الفضيل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله عز وجل (ولكل قوم هاد) فقال: كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم.(1)
قوله: (كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم) القرن: أهل كل زمان وإمامهم معاهد لأذهانهم في قبول أنوار الله ومرشد لنفوسهم إلى سلوك سبيل الله ومنه الهداية إلى القوانين الشرعية والدراية للنواميس الكلية والجزئية وبإعداده يفاض على النفوس هداها، وبإعطائه ينكشف عن العقول عماها.
2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن بريد العجلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (2)فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر، ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله (صلى الله عليه وآله)، ثم الهداة من بعده علي ثم الأوصياء واحد بعد واحد.(3)
قوله: (ولكل زمان منا هاد) هذا التفسير واضح لا غبار فيه، قال بعض المفسرين. لما قال الذين
ص:167
كفروا لولا انزل عليه آية مثل ما انزل على موسى وعيسى قال الله تعالى ردا عليهم خطابا لنبيه (إنما أنت منذر) وما عليك إلا الإتيان بما يثبت به نبوتك من المعجزات لا بما يقترح عليك (ولكل قوم هاد) أي نبي مخصوص بمعجزاته، أو قادر على هدايتهم وهو الله تعالى، لكن لا يهدي إلا من يشاء هدايته ولا يخفى بعده.
3 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن محمد بن إسماعيل، عن سعدان، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر، وعلي الهادي، يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟ قلت: بلى جعلت فداك ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك، فقال: رحمك الله يا أبا محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية، مات الكتاب، ولكنه حي يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى.(1)
قوله: (حتى دفعت) أي الهداية.
قوله: (لو كانت إذا نزلت آية) «إذا» مع شرطه وجزاه وهو «ماتت الآية» وقع اسما وخبرا لكانت، ثم وقع المجموع شرطا للجزاء «مات الكتاب» ولعله أراد بالآية النازلة على وصف علي (عليه السلام) بأنه الهادي للناس بعد الرسول إلى القوانين الشرعية والأسرار القرآنية وأثبت بقاءها في كل عصر إلى قيام الساعة بقياس استثنائي محصله لو ماتت تلك الآية النازلة على علي (عليه السلام) بعد موته بأن لا يكون بعده هاد ولا يكون لها بعده مصداق مات الكتاب وتعطل لعدم من يهدي الناس إلى أحكامه وأسراره، ولكن التالي باطل لأن الكتاب حي يجري أمره ونهيه وسائر أسراره في اللاحقين إلى قيام الساعة كما جرى في الماضين، فالمقدم وهو موت تلك الآية أيضا باطل فثبت وجودها ووجود مضمونها بعده (عليه السلام) في كل عصر وكل زمان إلى قيام الساعة.
4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن منصور، عن عبد الرحيم القصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر وعلي الهادي، أما والله ما ذهبت منا وما زالت فينا إلى الساعة.(2)
ص:168
قوله: (ما ذهبت) أي الهداية أو هذه الآية.
قوله: (وما زالت فينا) يعني ثبوت منصب الهداية أو تلك الآية فينا مستمرة إلى ساعة القيامة لأن علة احتياج الناس إلى الهادي بعد الرسول مستمرة إلى قيام الساعة.
1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن أبي زاهر، عن الحسن بن موسى، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نحن ولاة أمر الله وخزنة علم الله وعيبة وحي الله.(1)
قوله: (وعيبة وحي الله) (2) قال الجوهري: العيبة ما يجعل فيه الثياب والجمع عيب مثل بدرة
ص:169
وبدر. وقال ابن الأثير: عيبة الرجل خاصته وموضع سره والعرب تكني عن القلوب والصدور بالعياب لأنها مستودع السرائر كما أن العياب مستودع الثياب.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن أسباط، عن أبيه أسباط، عن سورة بن كليب قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): والله إنا لخزان الله في سمائه وأرضه. لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه.(1)
قوله: (إنا لخزان الله في سمائه وأرضه) أي فيما بين أهل سمائه وأهل أرضه، وإضافة الخزان إلى الله تعالى باعتبار أنهم منصوبون بأمره وقوله (إلا على علمه) بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الظاهر وبكسر الهمزة وشد اللام على احتمال.
3 - علي بن موسى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، ومحمد بن خالد البرقي، عن النضر بن سويد رفعه، عن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك ما أنتم؟ قال: نحن خزان علم الله ونحن تراجمة وحي الله ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض.(2)
ص:170
قوله: (ما أنتم) سأل عن خواصهم التي بها يمتازو ن عن سائر المخلوقات لا عن ذواتهم لأن حقيقة ذواتهم لا يبلغ إليها عقول البشر.
قوله: (ونحن تراجمة وحي الله) لأنهم يفسرون نطق الحق ولسان القرآن بلسان الإنسان يقال:
قد ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر ومنه الترجمان والجمع التراجم ولك أن تضم التاء بضم الجيم.
4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن شعيب، عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الله تبارك وتعالى: استكمال حجتي على الأشقياء من امتك من ترك ولاية علي والأوصياء من بعدك، فإن فيهم سنتك وسنة الأنبياء من قبلك وهم خزاني على علمي من بعدك، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد أنبأني جبرئيل (عليه السلام) بأسمائهم وأسماء آبائهم.(1)
قوله: (قال الله تعالى: استكمال حجتي) يعني استكمال حجتي الذي يوجب الخلود في النار ينشأ من ترك ولاية علي والأوصياء من بعدك. والولاية بالكسر: السلطان، من ولي فلانا إذا ملك أمره وبالكسر والفتح أيضا: النصرة والمحبة. وقال سيبويه: الولاية بالفتح المصدر وبالكسر الاسم مثل الإمارة والنقابة لأنه اسم لما توليته وقمت به فإذا أرادوا المصدر فتحوا.
قوله: (فإن فيهم سنتك) تعليل لما ذكر، وتقديم الظرف للحصر والمراد بالسنة علوم جميع الأنبياء وشرائعهم ويحتمل اصول العقائد والأخلاق التي هي طريقة مستمرة إلى القيامة، وبالجملة هذه السنة سبب لنجاة الخلائق وهي منحصرة فيهم فمن ترك ولايتهم وتخلف عن طريقتهم عظمت عليه الحجة واستحق النار.
5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن خالد، عن فضالة ابن أيوب عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): يا ابن أبي يعفور! إن الله واحد متوحد بالوحدانية، متفرد بأمره، فخلق خلقا فقدرهم لذلك الأمر. ونحن هم يا ابن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده وخزانه على علمه والقائمون بذلك.(2)
ص:171
قوله: (واحد) قال في النهاية: الواحد: هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. قال الأزهري: الفرق بين الواحد أن الأحد: بني لنفي ما يذكر معه من العدد تقول ما جاءني أحد.
والواحد: اسم بني لمفتتح العدد تقول: جاءني واحد من الناس ولا تقول جاءني أحد. فالواحد متفرد بالذات في عدم المثل والنظير والأحد متفرد بالمعنى، وقيل: الواحد هو الذي لا يتجزى ولا يثنى ولا يقبل الانقسام ولا نظير له ولا مثل ولا يجمع هذه الوصفين إلا الله تعالى.
قوله: «متوحد بالوحدانية» أي متفرد بها، والوحداني المفارق للجماعة المتفرد بنفسه وهو المنسوب إلى الوحدة أي الانفراد بزيادة الألف والنون للمبالغة.
قوله: (متفرد بأمره) لعل المراد بالأمر: الأمر الشرعي والله سبحانه متفرد بتعيينه كما وكيفا وتقديره حدا ووصفا لا يشاركه أحد في التعيين (1) والتقدير والتحديد إلا أنه خلق خلقا لتوضيح
ص:172
ذلك الأمر وبيانه للعباد وتبليغه إليهم ليهتدوا إلى مقاصدهم ويرشدوا إلى مراشدهم.
6 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم بن معاوية، ومحمد بن يحيى: عن العمركي بن علي جميعا، عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا خزانه في سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشجرة، وبعبادتنا عبد الله عز وجل، ولولانا ما عبد الله.(1)
قوله: (إن الله تعالى خلقنا) أي خلقنا من نوره فأحسن خلقنا وخلقنا وصورنا فأحسن صورنا الظاهرة والباطنة وجعلنا خزان علمه ورحمته فيما بين أهل سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشجرة انقيادا لنفوسنا القادسة. وهو مستفيض مشهور من كراماتهم، والنطق وإن كان في عرف العقلاء مخصوصا لمن يعقل لكن لا يبعد عن القدرة القاهرة الالهية أن يوجد الحياة والنطق في الجمادات فضلا عن النباتات عند توجه النفوس القدسية وإرادتها ذلك ولا يشترط البنية المخصوصة في قبول الحياة والنطق فلذلك جاز أن يخلق الله تعالى في الشجرة علما وحياة ونطقا وسمعا قبلت بها خطابهم (عليه السلام) إثباتا لحجيتهم وبيانا لعلو مرتبتهم، ولعل تأنيث نطقت باعتبار أن الشجر يطلق على الجماعة، وبعبادتنا لله تعالى عبد الله تعالى حتى لو لم يتحقق عبادتنا لم يتحقق العبادة لله تعالى، أو بعبادة الخلق ومتابعتهم لنا عبد الله تعالى ولولا نحن ما عبد الله تعالى لعدم اهتداء الخلق إلى طريق عبادته وكيفيتها.
ص:173
وأبوابه التي منها يؤتى
1 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن أبي مسعود، عن الجعفري قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه.(1)
قوله: (عن أبي مسعود عن الجعفري) أبو مسعود كأنه الطائي المجهول والجعفري كأنه القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب المدني الهاشمي أو ابنه داود أبو هاشم الجعفري.
قوله: (الأئمة خلفاء الله في أرضه) الخليفة السلطان الأعظم (2) والخليفة أيضا من يقوم مقام الرجل ويسد مسده والهاء فيه للمبالغة وجمعه على اللفظ وأصله خلائف كظريفة وظرائف وكريمة وكرائم، وقالوا أيضا: خلفاء على معنى التذكير لا على اللفظ من أجل أنه لا يقع إلا على مذكر وفيه الهاء فجمعوه على إسقاط الهاء فصار مثل ظريف وظرفاء وكريم وكرماء لأن فعيلة بالهاء لا تجمع على فعلاء; وكونهم خلفاء الله من أجل أنهم يحفظون عباده عن المهالك ويبينون لهم ما أراده منهم ويفسرون لهم أسرار التوحيد وبالجملة واسطة بينه وبين خلقه في جميع الامور.
2 - عنه، عن معلى، عن محمد بن جمهور، عن سليمان بن سماعة، عن عبد الله بن القاسم، عن
ص:174
أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه.(1)
قوله: (الأوصياء هم أبواب الله تعالى) أي أبواب جنته أو أبواب علمه كما قال (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها، والبيوت إنما تؤتى من أبوابها» ومراده أن من طلب العلم والحكمة وأسرار الشريعة والتقرب إلى الله فليرجع إلى الأوصياء وليأت البيوت من أبوابها وليتق الله فان من أتاه من غير بابها سمي سارقا.
قوله: (ولولاهم ما عرف الله) لأن عظمته أرفع من أن يصل إليه كل طالب ورفعته أجل من أن ينظر إليه كل شاهد وغائب، وصراطه أدق من أن يتطرق إليه قدم الأوهام وشرعه أشرف من أن يقبل مخترعات الأفهام، فلولا هداية الأوصياء وإرشاد الأولياء لبقوا متحيرين في تيه الجهالة وراقدين في مرقد الضلالة كما ترى من أعرض عن التوسل بهدايتهم والتمسك بذيل عصمتهم فإن بعضهم يقول بالتجسيم وبعضهم يقول بالتصوير وبعضهم يقول بالتحديد وبعضهم يقول بالتخطيط وبعضهم يقول إنه محل للصفات وبعضهم يقول بأنه قابل للحركة والانتقال إلى غير ذلك من المذاهب الباطلة وبالله العصمة والتوفيق.
3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله جل جلاله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) قال: هم الأئمة.(2)
أعاظم علماء الأربعة وثقاتهم في كتابه في تفسير قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (1)بإسناده عن علقمة عن ابن مسعود قال: وقعت الخلافة من الله تعالى في القرآن لثلاثة نفر لآدم لقول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض) يعني خالق في الأرض «خليفة» يعني آدم (عليه السلام). والخليفة الثاني: داود (عليه السلام) لقوله تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)(2) يعني في بيت المقدس. والخليفة الثالث: علي بن أبي طالب (عليه السلام) لقوله تعالى في السورة التي يذكر فيها النور (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم)(3) يعني علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) آدم وداود (وليمكنن لهم دينهم) يعني الإسلام (الذي ارتضى لهم) أي رضيه لهم (وليبدلنهم من بعد خوفهم) يعني من أهل مكة (أمنا) يعني في المدينة (يعبدونني) يوحدونني (ولا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك) بولاية علي بن أبي طالب (فأولئك هم الفاسقون) يعني العاصين لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله).
ص:176
1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن مرداس قال: حدثنا صفوان بن يحيى والحسن بن محبوب عن أبي أيوب، عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) فقال: يا أبا خالد النور والله الأئمة من آل محمد (عليهم السلام) إلى يوم القيامة وهم والله نور الله الذي أنزل، وهم والله نور الله في السماوات وفي الأرض والله يا أبا خالد! لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم والله ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله عز وجل نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم، والله يا أبا خالد! لا يحبنا عبد يتولانا حتى يطهر الله قلبه ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلما لنا، فإذا كان سلما لنا سلمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر.(1)
قوله: (عن أبي خالد الكابلي) كأنه اثنان وكلاهما اسمه وردان: أحدهما أكبر والآخر أصغر ولقب الأكبر كنكر وهو من حواري علي بن الحسين (عليهم السلام).
قوله: (النور والله الأئمة) إطلاق النور عليهم من باب الحقيقة لأنهم أنوار إلهيون مستورون بجلابيب الأبدان قد انعكست أشعة أنوارهم في قلوب المؤمنين من وراء الحجاب ولو رفع الحجاب وكشف الغطاء لتحير الخلائق بأنوارهم، ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة باعتبار الاهتداء بهم إلى المقاصد الحقيقية في سلوك سبيل الله وكما أنهم أنوار في الدنيا بنورهم يهتدي الناس إلى سبيل الحق كذلك أنوار في الآخرة بنورهم يمضون على الصراط ويهتدون إلى سبيل الجنة. وليس إطلاق النور على الموجود الكامل بعيدا، وقد صرح القاضي وغيره في آية النور أن الملائكة والأنبياء يسمون أنوارا.
قوله: (أنور من الشمس المضيئة) لأن عالم القلوب وظلمته أوسع وأشد من عالم الظاهر، وظلمته، والنسبة بينهما كالنسبة بين الباصرة والبصيرة، بل بين الدنيا والآخرة، فالنور الرافع لظلمة الأول أشد وأقوى من النور الرافع لظلمة الثاني.
قوله: (ينورون قلوب المؤمنين) ليس هذا التنوير على نحو واحد بل مقول على الشدة
ص:177
والضعف بحسب تفاوت مرآة القلوب في الجلاء وأدنى مراتب الضعف ما يوجب زواله الدخول في زمرة الشياطين، وأقوى مراتب الشدة ما يوجب كمال التشبه بالأئمة الطاهرين.
قوله: (ويحجب الله) أي ويحجب الله تعالى نورهم عمن يشاء من عباده لإبطال استعداده الفطري وكماله الأصلي فتظلم قلوبهم وتعمى بصيرتهم فيتبعون نداء الشيطان ويسعون في هاوية الخذلان إلى أن يدخلوا جهنم وبئس المصير.
قوله: (حتى يطهر الله قلبه) عن الأخباث والعقائد الفاسدة والظاهر أن التطهير والتسليم والسلم من توابع المحبة دون العكس وإن كان «حتى» يحتمل الأمرين.
قوله: (حتى يسلم لنا) التسليم لهم هو متابعتهم في العقائد والأعمال والأقوال وقبول جميع ذلك وإن لم تظهر له الحكمة.
قوله: (ويكون سلما لنا) السلم بكسر السين وفتحها، وهما لغتان في الصلح يذكر ويؤنث وقال الخطابي: السلم بفتح السين واللام: الاستسلام وهو الإذعان والانقياد كقوله تعالى (وألقوا إليكم السلم) أي الانقياد وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع، يقال: رجل سلم ورجلان سلم وقوم سلم، قال الجوهري: السلم يعني بكسر السين وسكون اللام السالم يعني ترك الحرب يقال: أنا سلم لمن سالمني، وهذه المعاني قريبة من التسليم فالعطف للتفسير.
قوله: (من شديد الحساب) يفهم منه أنه يجري عليه أصل الحساب ولا يبعد ذلك وإن أمكن أن يقال: إن الإضافة للبيان لأن حساب القيامة كله شديد.
2 - علي بن إبراهيم بإسناده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث إلى قوله -: واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون)(1) قال: النور في هذا الموضع [علي] أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام).(2)
قوله: (الذين يتبعون) في آخر سورة الأعراف إن أردت تفسيره فارجع إليها.
قوله: (الرسول النبي الامي) قيل: الرسول بالنسبة إلى الله والنبي بالنسبة إلى العباد والأمي بالنظر إلى نفسه لأنه منسوب إلى امه أي هو كما خرج من بطن امه لا يقرأ ولا يكتب.
قوله: (قال النور في هذا الموضع) لا يقال: الأولى أن يفسر النور بالقرآن بقرينة النزول لأنا نقول:
ص:178
الأولى أن يفسر بعلي وأولاده الطاهرين بقرينة «معه» أي مع الرسول إذ لو أريد القرآن لقيل انزل إليه ولا يصح انزل معه إلا بتقدير مضاف أي انزل مع نبوته كما قدروه والأصل عدمه وأما النزول فلا يصح أن يجعل قرينة لذاك دون هذا لأن النفوس القدسية والأرواح النورانية نزلت من عند الله تعالى إلى عالمنا هذا، لهداية الخلق كالقرآن فلا وجه لأن يجعل قرينة لأحدهما دون الآخر.
3 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) لقد آتى الله أهل الكتاب خيرا كثيرا، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) (1)قال: فقال: قد آتاكم الله كما آتاهم، ثم تلا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به)(2) يعني إماما تأتمون به.(3)
قوله: (يؤمنون) (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين اولئك يؤتون)(4) الآية نزلت في من آمن من أهل الكتاب والضمير في قبله ويتلى للقرآن وإسلامهم بالقرآن قبل نزوله عبارة عن اعتقادهم بصحته لما وجدوه من نعته في كتبهم.
قوله: (مرتين) مرة للإيمان بالقرآن قبل النزول ومرة للإيمان به بعده أو مرة للصبر على أذى المشركين ومرة للصبر على أذى من لم يؤمن من أهل الكتاب.
قوله: (كفلين) أي نصيبين من رحمته، والكفل بالكسر: الضعف والنصيب أحدهما للتقوى والآخر للإيمان بالرسول والثبات عليه.
قوله: (ويجعل لكم نورا) جعل هذا النور غاية للتقوى والإيمان بالرسول دل على أنه لا إيمان ولا تقوى بدونه.
4 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط والحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) فقال: يا أبا خالد! النور والله الأئمة (عليهم السلام)، يا أبا خالد؟ لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله
ص:179
نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها.(1)
قوله: (لنور الإمام في قلوب المؤمنين) لعل المراد بنوره العلوم الحقيقية والأسرار الملكوتية والشرائع النبوية، وزيادة هذا النور على نور الشمس ظاهرة لأن بنور الشمس ينكشف عالم المبصرات وبهذا النور ينكشف عالم المجردات والماديات كلها.
5 - علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن القاسم، عن صالح بن سهل الهمداني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة)(2) فاطمة (عليها السلام) (فيها مصباح) الحسن (المصباح في زجاجة) الحسين (الزجاجة كأنها كوكب دري) فاطمة كوكب دري بين نساء أهل الدنيا، (توقد من شجرة مباركة) إبراهيم (عليه السلام) (زيتونة لا شرقية ولا غربية) لا يهودية ولا نصرانية (يكاد زيتها يضيء) يكاد العلم ينفجر بها (ولو لم تمسسه نار نور على نور): إمام منها بعد إمام. (يهدي الله لنور من يشاء): يهدي الله للأئمة من يشاء (ويضرب الله الأمثال للناس)، قلت: (أو كظلمات) قال: الأول وصاحبه (يغشاه موج): الثالث (من فوقه موج ظلمات) الثاني (بعضها فوق بعض) معاوية لعنه الله وفتن بني امية (إذا أخرج يده) المؤمن في ظلمة فتنتهم (لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا) إماما من ولد فاطمة (عليها السلام) (فماله من نور) إمام يوم القيامة، وقال في قوله (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)(3): أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة.
علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم البجلي، ومحمد ابن يحيى، عن العمركي بن علي جميعا، عن علي بن جعفر (عليه السلام)، عن أخيه موسى (عليه السلام) مثله.(4)
قوله: (الله نور السماوات والأرض) قيل: النور جسم والله سبحانه ليس بجسم، وقيل: النور كيفية تدرك أولا ثم تدرك بها سائر المدركات وهو تعالى ليس بكيفية فلابد من تقدير مضاف أي الله ذو نور السماوات والأرض وخالقه أو من حمل النور على التجوز أي الله هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره يهتدون أو منورهما باطنا بالنفوس القدسية والعقول المجردة كما أنه منورهما
ص:180
ظاهرا بالأجرام النورية، أو منور قلوب المؤمنين التي بعضها بمنزلة السماء في الرفع وبعضها بمنزلة الأرض في الوضع والله سبحانه منور الجميع بالعلوم والحقائق على تفاوت درجاتهم.
قوله: (مثل نوره كمشكاة فاطمة (عليها السلام)) أي صفة نوره كصفة مشكاة قال الفراء: المشكاة: الكوة التي ليست بنافذة، وقيل: هي أنبوبة في وسط القنديل يوضع فيها المصباح وهو السراج والفتيلة المشتعلة والمراد بها هنا فاطمة (عليها السلام) لأنها محل لنور الأئمة، والأئمة نور وسراج لأن الطالبين للهداية المتبعين لأثرهم، يستضيئون بنور هدايتهم وضياء علومهم إلى الطريق الأرشد كما يهتدي السالكون في الظلمة بالنور والسراج، قيل: إضافة النور إلى ضميره تعالى دليل على أن إطلاقه عليه ليس على ظاهره.
قوله: (فيها مصباح) أي سراج وهو الحسن (عليه السلام) والمصباح في زجاجة: أي قنديل مثل الزجاجة في الصفاء والشفافية وهو الحسين (عليه السلام) فقد شبه فاطمة (عليها السلام) تارة بالمشكاة وتارة بالزجاجة، وبالاعتبار الثاني جعلها ظرفا لنور الحسين (عليه السلام) لزيادة ظهور نوره باعتبار كون سائر الأئمة من صلبه (عليه السلام) واللام في المصباح ليس للإشارة إلى المصباح الأول فلا يلزم الاتحاد على أن للاتحاد وجها لأن الحسن والحسين (عليهم السلام) نور واحد بجسب الحقيقة وإن كانا في الظاهر نورين.
قوله: (الزجاجة كأنها كوكب دري) أي منسوب إلى الدر باعتبار المشابهة به في الضياء والصفاء والتلألؤ، هذا إن كان بشد الراء والياء وإن كان بشد الياء فقط فهو من الدرء بمعنى الدفع قلبت همزته ياء وادغمت الياء في الياء فإنه يدفع الظلام بضوئه ولمعانه، والمراد بها فاطمة (عليها السلام) فإنها كوكب دري مضيء لامع نوراني فيما بين نساء أهل الدنيا.
قوله: (توقد من شجرة مباركة) توقد بالتاء أو بالياء على صيغة المجهول من الإيقاد تقول وقدت النار تقد وقودا أي توقدت وأوقدتها أنا و «من» ابتدائية أي توقد الزجاجة أو يوقد ذلك المصباح من شجرة مباركة زيتونة كثير النفع وهي إبراهيم (عليه السلام) فإنه ذو بركة عظيمة ونفع كثير لوجود الأنبياء والأوصياء من نسله واستظلال الناس بظلال أغصانه وجرائده وانتفاعهم من أثمار علومه وفوائده إلى قيام الساعة، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها.
قوله: (زيتونة) بدل عن شجرة لا صفة لها ولذلك فصلها عنها وقرنها بصفتها وإنما عبر عنها بالزيتونة للتنبيه على كثرة نفعها واتصافها بالعلم الذي هو كالزيت في كونه مادة لضيائها ومبدءا لنورانيتها.
قوله: (لا يهودية ولا نصرانية) لعل هذا باعتبار أنه كان مسكن اليهود من طرف الشرق ومسكن النصارى من طرف الغرب.
قوله: (يكاد زيتها يضيء) ضمير التأنيث يعود إلى فاطمة (عليها السلام) والمراد بالزيت العلم على سبيل
ص:181
الاستعارة والتشبيه ومس النار ترشيح يعني يكاد علمها يتفجر من قلبها الطاهر إلى قلوب المؤمنين والمؤمنات بنفسه قبل أن تسأل لكثرته وغزارته وفرط ضيائه ولمعانه.
قوله: (يهدي الله للأئمة) أي لأجلها وتوسطهم أو إليهم.
قوله: (ويضرب الله الأمثال) تشبيها للمعقول بالمحسوس لزيادة البيان والإيضاح قال صاحب الطرائف: روى الشافعي ابن المغازلي بإسناده إلى الحسن قال: سألته عن قول الله عز وجل:
(كمشكاة فيها مصباح) قال المشكاة فاطمة (عليها السلام) والمصباح الحسن والحسين (عليهم السلام) «والزجاجة كأنها كوكب دري» قال: كانت فاطمة (عليها السلام) كوكبا دريا من نساء العالمين توقد من شجرة مباركة الشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام) «لا شرقية ولا غربية» لا يهودية ولا نصرانية «يكاد زيتها يضيء» قال:
يكاد العلم أن ينطق منها «ولو لم تمسسه نار نور على نور» قال: منها إمام بعد إمام يهدي الله لنوره من يشاء قال: يهدي لولايتهم من يشاء.
قوله: (أو كظلمات) الآية هكذا (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض) (1)- الآية شبه أعمال الذين كفروا، أولا بسراب في أنها لاغية لا منفعة لها، وثانيا: بظلمات في أنها خالية عن النور والضياء، واللجي: العميق، منسوب إلى اللج وهو معظم الماء، وضمير يغشاء راجع إلى البحر، ولما كان كل ما كان في الأولين من الظلام والفتن موجودا في الثالث مع زيادة ما أحدثه نسب إليه الغشاء والموج الذي هو عبارة عن الاضطراب، وضمير فوقه في الموضعين يرجع إلى موج يقرب منه والظلمات الثانية المتراكمة بعضها فوق بعض.
قوله: (إذا أخرج يده المؤمن) خص اليد والمؤمن بالذكر للتنبيه على شدة الظلمة وبلوغها حد الكمال فإنه إذا لم ير المؤمن ومعه نور ساطع وضوء لامع يده التي هي أقرب ما يمكن النظر إليه كان ذلك لأجل أن الظلمة المانعة من الرؤية في غاية الكثافة ونهاية الشدة.
قوله: (يكد يراها) أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها وفيه أيضا مبالغة على كثافة تلك الظلمة.
قوله: (فماله من نور إمام يوم القيامة) أي إمام عدل وإن كان له إمام جائر يقدمه إلى النار.
6 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبيد الله، عن محمد بن الحسن وموسى بن عمر، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تبارك،
ص:182
وتعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) قال: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم. قلت: قوله تعالى: (والله متم نوره) قال: يقول: والله متم الإمامة والإمامة هي النور وذلك قوله عز وجل: (آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) قال، النور هو الإمام.(1)
قوله: (يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم) تشبيه الولاية بالسراج استعارة مكنية ونسبة الإطفاء إليها تخييلية وذكر الأفواه ترشيح وأما في الآية فالاستعارة تحقيقية وإطفاؤها بما كانوا يقولون من الأقاويل الكاذبة الدالة على وجود النص عليها وغير ذلك من المفتريات.
قوله: (والله متم الإمامة) إتمامها انتشارها في قلوب المؤمنين أو زيادة كمالها.
1 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما جاء به علي (عليه السلام) آخذ وما نهى عنه أنتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولمحمد (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدا بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيرا ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم، لقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد (صلى الله عليه وآله)، ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعى فيكسى وادعى فاكسى ويستنطق واستنطق فأنطق على حد منطقه ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي، علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني، ابشر بإذن الله واؤدي عنه، كل ذلك من الله مكنني فيه بعلمه. الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي، عن محمد بن سنان قال: حدثنا المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول - ثم ذكر الحديث الأول.(2)
ص:183
قوله: (جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد) يريد مساواتهما في الفضيلة العلمية والعملية والكمالات النفسانية أو في الفضل على الغير والإحسان إليه ولمحمد (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع الخلق فلعلي (عليه السلام) أيضا الفضل على جميعهم قضاء للمساواة أو المراد أن له (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع الخلق حتى على علي (عليه السلام) أيضا رعاية لحق الاستاذ والإرشاد والتعليم.
قوله: (المتعقب عليه في شيء من أحكامه) أي الشاك فيه من تعقبت على الخبر إذا شككت فيه أو المتأمل في حقيته من تعقبه إذا تدبر ونظر فيما يؤول إليه من صحة وفساد أو الطالب لعورته وعثرته من تعقبه واستعقبه إذا طلب عورته وعثرته.
قوله: (على حد الشرك بالله) توضيح ذلك إن الإسلام واسطة بين الشرك والإيمان والراد على إمام الوقت (1) وخليفة الله في الأرض في قضية صغيرة أو كبيرة مكذب له والمكذب له يتنزل من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام وهي حد الشرك فيتسلط عليه زمرة الشياطين فيدخلونه في
ص:184
الشرك كما ترى في كثير من أهل الإسلام مثل المجسمة والمصورة والأشاعرة القائلين بزيادة الصفات وأضرابهم فان كلهم لما وقعوا في حد الشرك دخلوا فيه من حيث لا يعلمون.
قوله: (جعلهم الله أركان الأرض) كما أن للبناء أركانا بها وجوده وثباته كذلك للأرض أركان وهم الأئمة في كل ركن ثلاثة إذ بهم وجود الأرض وثباتها وبقاؤها ولولاهم لتحركت الأرض بأهلها ولم تستقر طرفة عين.
قوله: (أن تميد بأهلها) أي كراهة أن تميد، يقول: ماد يميد ميدا: أي تحرك وزاغ واضطرب.
قوله: (وحجته البالغة) عطف على باب الله أي كان أمير المؤمنين حجته الكاملة التي لا يحتاج بعدها إلى شيء آخر بخلاف غيرها من الحجج مثل العقل والقرآن الكريم فإنهما يحتاجان إلى هذه الحجة.
قوله: (ومن تحت الثرى) لعل المراد بهم الموتى ويحتمل الأعم.
قوله: (وكثيرا ما يقول) نصب على المصدر أو الظرف باعتبار الموصوف و «ما» لتأكيد معنى الكثرة والعامل ما يليه أي يقول قولا كثيرا أو حينا كثيرا.
قوله: (أنا قسيم الله بين الجنة والنار) من جاء يوم القيامة بولايته دخل الجنة ومن لم يجيء بها دخل النار. قال صاحب الطرائف: روى الشافعي ابن المغازلي في كتابه من عدة طرق بأسانيدها عن النبي (صلى الله عليه وآله) والمعنى متقارب فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنم لم يمر عليه إلا من كان معه كتاب بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)» وفي بعض رواياتهم بأسانيدها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لم يجز على الصراط إلا من كان معه جواز من علي بن أبي طالب (عليه السلام)» وروى الشافعي أيضا في كتاب المناقب عن شريك عن الأعمش أنه قال: حدثني المتوكل الباجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «إذا كان يوم القيامة قال سبحانه لي ولعلي أدخلا إلى الجنة من أحبكما وأدخلا إلى النار من أبغضكما فيجلس علي (عليه السلام) على شفير جهنم فيقول: هذا لي وهذا لك» الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ثم إنه قال (عليه السلام) ذلك امتثالا لأمر الله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث) وأيضا فإنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه لتعتقده الامة وتعمل بمقتضاه في توقيره (عليه السلام) كما امر وهذا نظير ما روي من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» قال أبو عبد الله الآبي: هذا القول في حقه واجب فلا يرد أن مدح الإنسان نفسه قبيح وإن كان حقا وقال بعض الشافعية: مدح الإنسان نفسه إذا كان فيها تنبيه للمخاطب على ما خفى منه من حاله جائز كقول المعلم للمتعلم: اسمع مني فإنك لا تجد مثلي، قال: ومنه قول يوسف (عليه السلام) (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) على أنه فرق بين إظهار الفضيلة والافتخار بها وقال (عليه السلام): من باب إظهار كرامة الله تعالى شكرا عليها وليس ذلك افتخارا كما قال «أنا سيد أولاد آدم
ص:185
ولا فخر» وبالجملة الإيراد الذي أورده بعض النواصب من جهله لا وجه له أصلا.
قوله: (وأنا الفاروق الأكبر) لفرقه بين الحق والباطل والحلال والحرام والمؤمن والكافر والصادق والكاذب وبالجملة هو الفارق بين كل ضدين على الإطلاق وليس لأحد من الامة غيره هذه الفضيلة.
قوله: (وأنا صاحب العصا والميسم): هي الحديدة التي يكوى بها وأصله الموسم قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ولعل المراد به هنا خاتم سليمان، ويحتمل حمله على ظاهره وقد نقل أنه (عليه السلام) يخرج في آخر الزمان في أحسن الصورة ومعه عصا موسى وميسم يضرب المؤمن بالعصا ويكتب في وجهه مؤمن فينير وجهه وليسم الكافر بالميسم ويكتب في وجهه كافر، فيسود وعند ذلك يسد باب التوبة.
قوله: (والروح والرسل) لعل المراد بالروح: روح الأمين وروح القدس وهو جبرئيل (عليه السلام) فذكره بعد الملائكة من قبيل ذكر الخاص بعد العام، ويحتمل أن يراد به روح المؤمن وهو الروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة ويقبل الإيمان والكفر ويؤيد هذا الاحتمال أنه لم يذكر إقرار المؤمنين مع أنهم أيضا أقروا له في الميثاق بمثل ما أقروا لمحمد (صلى الله عليه وآله) فإنهم أقروا لمحمد (صلى الله عليه وآله) بالرسالة وتقدمه وشرفه على جميع الأنبياء وله (عليه السلام) بالولاية والإمامة وتقدمه وشرفه على جميع الأوصياء والمراد بالرسل الأنبياء جميعا من قبيل ذكر الخاص وإرادة العام.
قوله: (ولقد حملت على مثل حمولته) الحمولة بالفتح: الإبل التي تحمل وبالضم: الأحمال والمراد بها هنا المعارف الإلهية والعلوم اليقينية والتكاليف الشرعية والأخلاق النفسية وهي من حيث أنها تحمل صاحبها إلى مقام الانس ومنزل القرب «حمولة» بالفتح ومن حيث أنها حالة في المكلف وصفة من صفاته حمولة بالضم ويجوز إرادة كليهما هنا إلا أن «حملت» على الأول للمتكلم المجهول و «على» بتخفيف الياء وعلى الثاني للغايبة المجهولة و «علي» بتشديد الياء ومثل حمولته قائم مقام الفاعل وتأنيث الفعل باعتبار المضاف إليه.
قوله: (علمت المنايا) هو (عليه السلام) عندنا عالم بجميع ما كان وما يكون وما هو كائن كما دلت عليه الروايات المتكاثرة ودل عليه أيضا ما روي عنه (عليه السلام) «لو شئت أن اخبر كل رجل بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكن أخاف أن يكفروا في برسول الله (1) إلا إني افضيه إلى الخاصة ممن
ص:186
يؤمن ذلك منه» فقد أشار إلى أنه قد يتجاهل خوفا من أن يغلوا الامة في أمره ويفضلوه على الرسول بل من أن يتخذوه إلها كما ادعت النصارى في المسيح حيث أخبرهم بالأمور الغائبة وإلى أنه قد يظهر كمال علمه لبعض خواصه ممن يؤمن الكفر منه وهكذا شأن العلماء وأساطين الحكمة أن لا يضعوا الحكمة إلا في أهله (1) ومع كمال احتياطه في إفشاء كماله ذهب طائفة إلى أنه شريك محمد (صلى الله عليه وآله) في الرسالة وطائفة إلى أنه إله أرسل محمدا إلى عباده.
2 - علي بن محمد; ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي قال: حدثنا سعيد الأعرج قال: دخلت أنا وسليمان بن خالد على أبي عبد الله (عليه السلام) فابتدأنا فقال: يا سليمان! ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤخذ به وما نهى عنه ينتهى عنه، جرى له من الفضل ما جرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع من خلق الله، المعيب على أمير المؤمنين (عليه السلام) في شيء من أحكامه كالمعيب على الله عز وجل وعلى رسول الله (عليه السلام) والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك وبذلك جرت الأئمة (عليهم السلام) واحدا بعد واحد، جعلهم الله
ص:187
أركان الأرض أن تميد بهم والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى وقال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح بمثل ما أقرت لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولقد حملت على حمولة محمد (صلى الله عليه وآله) وهي حمولة الرب، وإن محمدا (صلى الله عليه وآله) يدعى فيكسى ويستنطق وادعى فاكسى واستنطق فأنطق على حد منطقه، ولقد اعطيت خصالا لم يعطهن أحد قبلي. علمت علم المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني، ابشر بإذن الله واؤدي عن الله عز وجل، كل ذلك مكنني الله فيه بإذنه.(1)
قوله: (وفصل الخطاب) أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل أو الخطاب المفصول الواضح الدلالة على المقصود للعارف، والمراد به كلام الله المشتمل على المصالح الكلية والجزئية والحكم البالغة والأوامر والنواهي وأحوال ما كان وما يكون إلى يوم القيامة أو الكتب السماوية كلها.
3 - محمد بن يحيى، وأحمد بن محمد جميعا، عن محمد بن الحسن، عن علي بن حسان قال:
حدثني أبو عبد الله الرياحي، عن أبي الصامت الحلواني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ما جاء به آخذ به وما نهى عنه أنتهي عنه، جرى له من الطاعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والفضل لمحمد (صلى الله عليه وآله) المتقدم بين يديه كالمتقدم بين يدي الله ورسوله والمتفضل عليه كالمتفضل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلكه وصل إلى الله عز وجل وكذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده، وجرى للأئمة (عليهم السلام) واحد بعد واحد، جعلهم الله عز وجل أركان الأرض أن تميد بأهلها وعمد الإسلام ورابطة على سبيل هداه، لا يهتدي هاد إلا بهداهم، ولا يضل خارج من الهدى إلا بتقصير عن حقهم، امناء الله على ما أهبط من علم أو عذر أو نذ ر، والحجة البالغة عل من في الأرض، يجري لآخرهم من الله مثل الذي جرى لأولهم، ولا يصل أحد إلى ذلك إلا بعون الله. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا قسيم الله بين الجنة والنار، لا يدخلها داخل إلا على حد قسمي وأنا الفاروق الأكبر وأنا الإمام لمن بعدي والمؤدي عمن كان قبلي، لا يتقدمني أحد إلا أحمد (صلى الله عليه وآله) وإني وإياه لعلى سبيل واحد، إلا أنه هو المدعو باسمه، ولقد اعطيت الست، علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب وإني لصاحب الكرات ودولة الدول وإني لصاحب
ص:188
العصا والميسم والدابة التي تكلم الناس.(1)
قوله: (قال: فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)) الظاهر أن فضل على صيغة المجهول، ويحتمل أن يكون أمرا، والمراد تفضيله على جميع الأمة في العلم والحكم والعمل، وقوله «ما جاء به آخذ به - إلى آخره» وإن كان في الظاهر خبرا لكنه في الواقع أمر بالأخذ بأمره ونهيه إلى يوم القيامة.
قوله: (المتقدم بين يديه) أي المتقدم عليه في أمر من الأمور والحكم به قبل أن يحكم هو به كالمتقدم على الله وعلى رسوله قبل أن يحكما به، وكذلك من يدعي التفضل والزيادة عليه في صفة من صفات الكمال مثل العلم والأخلاق ونحوهما كمن يدعي التفضل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه (عليه السلام) نفس الرسول في الفضل والكمال، كما تدل عليه آية المباهلة، وخليفة الله تعالى وقائم لمقام رسوله في الأحكام. وفي بعض النسخ المفضل بدل المتفضل في الموضعين، وذكر اليدين لله تعالى على سبيل التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح لأن المتقدم على غيره من بني نوعه من يكون سابقا عليه فيما بين هاتين الجهتين المتسامتين.
قوله: (فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله)) تعليل لجميع ما تقدم من تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) والأخذ بأمره ونهيه إلى آخر ما ذكره.
قوله: (وجرى للأئمة) يبين أن التفضيل ووجوب المتابعة غير مختص بأمير المؤمنين (عليه السلام) بل جار في الأئمة من أولاده الطاهرين.
قوله: (وعمد الإسلام) عطف على الأركان، والعمود بالفتح: عمود الخيمة والبيت وجمع القلة: أعمدة، وجمع. الكثرة: عمد بالتحريك وعمد بالضمتين وتشبيه الإسلام بالبيت استعارة مكنية، وإثبات العمد له استعارة تخييلية.
قوله: (ورابطة على سبيل هداه) أي جعلهم فرقة رابطة أي لازمة لسبيل الهدى غير مفارقة عنه وقد جاء رابطت بمعنى لازمت كما صرح به ابن الأثير في النهاية. أو جعلهم فرقة رابطة أي مقيمة على سبيل الهدى من الرباط: وهو الإقامة في الثغور حفظا من الدخول والخروج. أو جعلهم رابطة:
أي فرقة شديدة كأنهم يربطون أنفسهم بالصبر عن الفرار. وقد جاء الرابط بمعنى الشديد يقال:
خلف فلان بالثغر جيشا رابطة أي شديدة.
قوله: (لا يهتدي هاد إلا بهداهم) في بعض النسخ «لا يهدي هاد»، والهدى: الرشاد، والدلالة وهدى واهتدى هنا بمعنى والهادي يطلق على من يعرف غيره طريق الحق وعلى من يعرفه والثاني
ص:189
هو المراد هنا.
قوله: (امناء الله على ما أهبط من علم أو عذر أو نذر) عطف على رابطة بحذف العاطف أو حال عن الأئمة بحذف المبتدأ أي هم امناء الله، وعذر ونذر مصدران لعذر إذا محى الإساءة. قال ابن الأثير في النهاية. حقيقة عذرت محوت الإساءة وطمستها. ونذر إذا خوف، أو جمعان لعذير بمعنى المعذورة ونذير بمعنى الإنذار كما قالوا في قوله تعالى (فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) ولعل المراد. والله أعلم - هم أمناء الله تعالى على ما أهبط إليهم لا يزيدون ولا ينقصون من العلم بالمعارف الإلهية والأسرار الربانية وغير ذلك مما يتعلق بمصالح الدنيا والآخرة ومن محو الإساءة للمطيعين إذا كان لهم عذر صحيح ومعذرة ومن إنذار المبطلين وتخويفهم، وبالجملة والأمانة الإلهية في خليفته المتوسط بينه وبين عباده من جهة العلم ومن جهة التبليغ وهم (عليهم السلام) أمناؤه في هاتين الجهتين وخلفاؤه في تينك الخصلتين.
قوله: (ولا يصل أحد إلى ذلك إلا بعون الله تعالى) أي لا يصل أحد منهم إلى ذلك المقام أو لا يصل أحد من الناس إلى الاهتداء بهداهم إلا بعون الله ونصرته، ففيه دلالة على الأول على أن الخلافة موهبية وعلى الثاني على أن الهداية موهبية.
قوله: (إلا على حد قسمي) القسم بفتح القاف: مصدر قسمت الشيء، وأما الكسر: فهو الحظ والنصيب.
قوله: (وأنا الإمام لمن بعدي) أي أنا المقتدى لمن ينشأ بعدي فيجب عليهم الاقتداء بسيرتي والاهتداء بهدايتي والمتابعة لقولي وفعلي، وأنا المؤدي عمن كان قبلي ديونهم أو الشهادة لهم وعليهم أو حقوقهم كلها ولهذا حذف المفعول للدلالة على التعميم.
قوله: (إلا أنه هو المدعو باسمه) لعل المراد أنه لا فرق بيني وبينه إلا في الاسم أما المسمى فواحد وحدة وصفية لا وحدة شخصية، ويحتمل أن يكون المراد أنه المدعو باسمه المختص كالرسول والنبي وأمثالهما كما يشعر به إضافة الاسم إلى ضميره يعني أن الفرق بيني وبينه في وصف الرسالة حيث أنه يتصف به لا أنا. وأما باقي الصفات الكمالية فلا فرق.
قوله: (والوصايا) عطف على «المنايا» على الظاهر أو على علم المنايا على الاحتمال والأول يفيد أنه كان عالما بوصايا جميع الأنبياء إلى أوصيائهم كما وكيفا ولم يكن كذلك أحد من الأوصياء السابقين والثاني يفيد أنه أوتي وصاياهم أو وصايا رسولنا (صلى الله عليه وآله) والجمع حينئذ باعتبار تعددها بتعدد متعلقها.
قوله: (وإني صاحب الكرات) الكرة: المرة والجمع الكرات وهو صاحب الكرات لعرض كل أحد عليه مرات مرة عند كونه روحا مجردا نورانيا في عالم القدس حيث عرض عليه الملائكة
ص:190
فوحدوه لتوحيده وسبحوه لتسبيحه وهللوه لتهليله. ومرة في الميثاق أخذ منهم العهد بولايته ومرة في الرحم إذ لا يتصور أحد إلا بحضوره. ومرة في غدير خم حيث أخذ له الولاية من الحاضرين وأمر بتبليغ ذلك إلى الغائبين. ومرة عند الموت فإنه يحضر موت كل أحد ومرة في القيامة فإنه يعرض عليه كل أحد فمن قبله فهو مقبول ومن رده فهو مردود. أو لكونه صاحب حملات في الحروب. أو لكونه صاحب الرجعة والله أعلم بحقيقة كلام وليه.
قوله: (ودولة الدول) الدولة: بالفتح في الحرب والجمع الدول بالكسر، والدولة بالضم: في المال يقال: صار الفيء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا ومرة لهذا والجمع دولات ودول بالضم، والدولة أيضا الانتقال من حال الشدة إلى الرخاء وفيه إشارة إلى أنه صاحب الدولة في الحرب وقد اتفق على ذلك العامة والخاصة أو إلى أنه يرجع إله دولة المال والملك عند ظهور الصاحب المنتظر.
قوله: (والدابة) التي تكلم الناس بكلام يفهمونه، الظاهر أنه عطف على العصا قال في النهاية:
من أشراط الساعة دابة الأرض (1) قيل إنها دابة طولها ستون ذراعا ذات قوائم أربع ووبر وقيل: هي مختلفة الخلقة تشبه عدة من الحيوانات ينصدع جبل الصفا فتخرج منه ليلة الجمعة والناس سائرون إلى منى، وقيل: من أرض الطائف ومعها عصا موسى وخاتم سليمان (عليه السلام) لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، يضرب المؤمن بالعصا ويكتب في وجهه مؤمن ويطبع الكافر بالخاتم ويكتب في وجهه كافر، وقال عياض: قال المفسرون: إنها خلق عظيم يخرج من صدع من الصفا لا يفوتها أحد فتسم المؤمن فينير وجهه ويكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر فيسود وجهه ويكتب بين عينيه كافر. وعن ابن عباس أنها الثعبان الذي كان بين الكعبة فاختطفته العقاب. وذكروا أنها آخر الآيات لقيام الساعة ويغلق عندها باب التوبة والعلم والعمل. ويحتمل أن يكون عطفا على قوله
ص:191
لصاحب العصا ويؤيده ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره قال: حدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال: يا دابة الله، فقال رجل من أصحابه:
يا رسول الله يسمى بعضنا بعضا بهذا الاسم فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)(1) يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة، معك ميسم تسم به أعداءك».
ص:192
1 - أبو محمد القاسم بن العلاء (رحمه الله) رفعه، عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا (عليه السلام) بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم (عليه السلام) ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (عليه السلام) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا، فقال عز وجل (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (1)وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله):
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (2)وأمر الإمامة من تمام الدين ولم يمض (صلى الله عليه وآله) حتى بين لامته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق وأقام لهم عليا (عليه السلام) علما وإماما وما ترك [لهم] شيئا تحتاج إليه الامة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر به، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الامة فيجوز فيها اختيارهم؟! إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلا مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال: (إني جاعلك للناس إماما) (3)فقال الخليل (عليه السلام) سرورا بها: (ومن ذريتي) قال الله تبارك وتعالى: (لا ينال
ص:193
عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة، ثم أكرمها الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (1)فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال جل وتعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)(2) فكانت له خاصة فقلدها (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: (وقال الذين اوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) (3)فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟! إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام) ان الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمامة اس الإسلام النامي وفرعه السامي» بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام الحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف، الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الافق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظمأ، والدال على الهدى، والمنجي من الردى، الإمام النار على اليفاع، الحار لمن اصطلى به، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك، الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة; الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والام البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد، الإمام أمين الله في خلفه وحجته على عباده، وخليفته في بلاده والداعي إلى الله والذاب عن حرم الله. الإمام
ص:194
المطهر من الذنوب، والمبرأ عن العيوب.(1)
قوله: (في بدء مقدمنا) البدء بفتح الباء وسكون الدال والهمزة والبديء على فعيل أول الشيء والمقدم بفتح الدال مصدر كالقدوم.
قوله: (وخدعوا عن آرائهم) أي وقعوا في شدة ومكروه من جهة آرائهم الفاسدة الخادعة لهم وفي بعض النسخ المصححة «عن أديانهم».
قوله: (إن الله لم يقبض) اعلم أنه (عليه السلام) يبين هنا أمرين أحدهما أن الإمام منصوب من قبل الله تعالى وأنه علي (عليه السلام) وأولاده الطاهرون. ثانيهما: أن للإمام صفات عظيمة ونعوتا جليلة لا يصل إليها عقول البشر فلا يكون تعيينه مفوضا إلى اختيارهم ولا يمكن لهم معرفته بآرائهم وسيجئ بيان هذا مفصلا أما بيان الأول فهو على مقدمتين أولاهما: أن الله تعالى لم يقبض النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين لقوله تعالى: (تبيانا لكل شيء)(2) وقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) - الآية ودلالة هذه الآيات وأمثالها على ما ذكر واضحة. وأيضا العقل الصحيح يحكم بأنه تعالى إذا بعثه لتكميل أمر يقبح منه أن يقبضه قبل تكميله. وأخراهما: أن أمر الإمامة من كمال الدين وتمامه وهذا متفق عليه بيننا وبين مخالفينا إلا من شذ ولذلك اعتذر والترك دفنه (صلى الله عليه وآله) والاشتغال بتعيين الإمام بأن تعيينه أهم من دفنه لئلا يخلو الزمان من إمام ويلزم من هاتين المقدمتين أن يكون تعيينه من قبله (صلى الله عليه وآله) وإلا لزم خلاف المقدمة الاولى. ثم إنه أقام عليا (عليه السلام) لدلالة الآيات والروايات من طرق العامة والخاصة على ذلك ولأنه ثبت وجوب التنصيص بالامام ولم ينص بغيره إجماعا فهو منصوص.
قوله: (وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء) هذا وما عطف عليه إلى قوله (وأمر الإمامة) بمنزلة الدليل للسابق وفي بعض النسخ «فيه تفصيل كل شيء».
قوله: (كملا) الكمل: التمام يقال: أعطه هذا المال كملا أي تمامه وكله والمقصود منه ومما بعده أن كل شيء وكل ما يحتاج إليه الامة في القرآن وأمر الإمامة من جملة الأشياء وأعظم ما يحتاج إليه الامة فهو أيضا في القرآن.
ص:195
قوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) فرط وفرط بالتخفيف والتشديد يتعديان بفي يقال: فرط في الأمر يفرط فرطا من باب نصر وفرط فيه تفرطا أي قصر فيه وضيعه حتى فات ولذا قال القاضي «من» مزيدة و «شيء» في موضع المصدر فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب، والمقصود أن الكتاب تام غير ناقص في البيان إذ كل شيء من أمر الدين وغيره فهو مذكور في الكتاب مفصلا في اللوح المحفوظ فإن مشتمل على كل ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد بعيد جدا، فان الظاهر من الكتاب هو القرآن ويؤيده أيضا ما قبل هذه الآية وما بعدها.
قوله: (وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله) (اليوم أكملت لكم دينكم.) الآية قال بعض العامة ناقلا عن عمر: أن هذه الآية نزلت يوم حجة الوداع في عرفات، وقال مجاهد: نزلت يوم فتح مكة.
وقالت الإمامية: إنها نزلت في غدير خم يوم الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع بعدما نصب (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) للخلافة بأمر الله تعالى، وقد دلت على ذلك رواياتنا وبعض روايات العامة أيضا، وقد ذكر صاحب الطرائف جملة من رواياتهم منها ما رواه أبو بكر بن مردويه بإسناده إلى أبي سعيد الخدري «أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا الناس إلى غدير خم أمر الناس بما كان تحت الشجرة من الشوك فقم وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي (عليه السلام) فأخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية العظيمة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)(1) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على كمال الدين وتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه.
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله - إلى أن قال: - فقال عمر بن خطاب هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة» ومنها ما رواه الشافعي ابن المغازلي بإسناده إلى أبي هريرة قال: «من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال:
ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فعلي مولاه،
ص:196
فقال عمر بن الخطاب بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (1)ومعنى الآية الكريمة بحسب تفسير أهل الذكر (عليهم السلام) اليوم أكملت لكم دينكم بولاية علي (عليه السلام)، وأتممت عليكم نعمتي بإكمال الشرائع بإمامة علي (عليه السلام)، ورضيت لكم الإسلام دينا بخلافته (عليه السلام)» والعامة لما لم يعرفوا ذلك اعترضوا بأنه تعالى لم يزل كان راضيا بدين الإسلام فلم يكن لتقييد رضاه باليوم فائدة، وأجاب القرطبي بأن معنى قوله: (رضيت لكم الإسلام دينا) أعلمتكم اليوم برضاي له دينا فلا يرد أنه لا فائدة لتقييد رضاه باليوم، فاعرف قبح الاعتراض وقبح توجيهه وكن من الشاكرين وسيجئ لهذا زيادة توضيح في محله إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأمر الإمامة من تمام الدين) هذا متفق عليه بين الخاصة والعامة ولذلك بادروا بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) قبل دفنه إلى نصب خليفة واعتذروا عن ذلك بأن نصب الإمام أهم من دفنه لئلا يخلو الزمان بلا إمام، وهذا الاعتذار دل على فساد مذهبهم، تأمل تعرف.
قوله: (فمن زعم) يعني من زعم أن الله تعالى يكمل دينه بنصب إمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد رد كتاب الله تعالى وكذبه في قوله (اليوم أكملت لكم دينكم) - الآية وقوله: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم)(2) وقوله: (إنما وليكم الله) - الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تمام الدين وكماله بنصب الإمام وتعيين الخليفة.
قوله: (فهو كافر به) (3) أي بالله وبكتابه والكفر بإحدهما مستلزم للكفر بالآخر.
ص:197
قوله: (هل يعرفون) الاستفهام للإنكار وحمله على الحقيقة بعيد والمقصود أن اختيارهم إماما موقوف على معرفة قدر الإمامة ومرتبتها وصفاتها المختصة بها وعلى معرفة محلها المتصف بها وهم قاصرون عن معرفة جميع ذلك فلا مدخل في الإمامة لاختيارهم.
قوله: (إن الإمامة أجل قدرا) قدر الشيء مبلغه وشأن الشيء حاله وغور الشيء قعره وعمقه، وهذا دليل على عدم اقتدارهم على معرفة الإمامة وعدم جواز اختيارهم فيها لعجز عقولهم عن إدراك قدر الإمامة ومبلغها لجلالته وعن إدراك شأنها وصفاتها لعظمته وعن الوصول إلى مكانها ومنزلها لعلوه وارتفاعه، وعن الوصول إلى جانب من جوانبها وطريق من طرقها الموصلة إليها لخفائه، وعن إدراك كنه حقيقتها وذاتها لدقته، وإذا عجزت عن إدراكها من هذه الجهات فقد عجزت عن إدراكها مطلقا لأن كل شيء يدرك فإنما يدرك من إحدى هذه الجهات.
قوله: (من أن يبلغها الناس بعقولهم) متعلق بأجل وما عطف عليه على سبيل التنازع ووجه الترديد أن المدرك إما معقول صرفا أو معقول بمعونة الحواس وليس في وسعهم إدراك الإمامة بأحد هذين الوجهين إذ لا مدخل للحواس في معرفة الإمامة وليس لعقولهم طريق إلى معرفتها.
وفي جعل قوله (أو يقيموا إماما باختيارهم) قسيما لهما نوع إشعار بأن إقامتهم إماما كان تحكما مجردا عن إدراك الإمامة ومحلها بوجه من الوجوه.
قوله: (إن الإمامة خص الله تعالى بها إبراهيم الخليل (عليه السلام)) دليل على قوله «إن الإمامة أجل - إلى آخره» وتوضيح لأن الإمامة تثبت بالنص كما هو مذهب الإمامية من أن تعيين الإمام من قبل الله تعالى ومن قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويلزم سائر الناس ولا مدخلا لاختيارهم في ذلك خلافا للعامة فإنهم ذهبوا إلى أنه ليس ذلك على الله وعلى رسوله واعتقدوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مضى ولم يستخلف (1)
ص:198
قال الآبي ناقلا عن القاضي القرطبي: عقد الخلافة يتحقق بأحد الوجهين إما باستخلاف المتولي وإما باتفاق أهل الحل والعقد على رجل ويلزم سائر الناس ولا يلزم مباشرة كل الناس للبيعة وينعقد أيضا بالواحد من أهل الحل والعقد إذا لم يوجد غيره واحتج شارح رجز الضرير بعقدها أبو بكر لعمر وعقدها عبد الرحمن لعثمان، وبعض الشيوخ يضعف هذا الاحتجاج ويقول: إنه ليس بشيء لأن عقدها لعمر وعثمان إنما كان بإجماع الصحابة على ذلك وقال: وإنما يحتج بعقدها بالواحد بمسألة الإجماع إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فإن