شرح أصول الكافي
تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه
المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه
تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور
سنة الطبع :1929ه. 2008م
دار احياء التراث العربي
بيروت _ لبنان
ص: 1
جمیع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثّانیة
1929ه. 2008م
الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة
بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559
- فاکس: 850717
850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-
www.dartourath.com
Email:info@dartourath.com
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
کتاب توحید يبين فيه وجود الصانع ووحدته وصفاته الذاتية والفعلية وسائر ما يصح له ويمتنع عليه (باب حدوث العالم) (1) المراد بالعالم ما سوى الله وهو مع تكثره منحصر في الجوهر والعرض، وبحدوثه أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم، وقد اختلف الناس فيه فذهب المسلمون واليهود والنصارى والمجوس إلى أن الأجسام حادثة بذواتها وصفاتها (2) وذهب أرسطو وأتباعه إلى أنها قديمة بذواتها وصفاتها (3)
ص:3
وذهب أكثر الفلاسفة إلى أنها قديمة بذواتها ومحدثة بصفاتها وقالوا لتوجيه ذلك ما لا طايل تحته (1) وأما العكس فالظاهر أنه لم يقل به أحد لأنه باطل بالضرورة، وذهب جالينوس إلى التوقف في جميع ذلك.
(وإثبات المحدث) أي إثبات موجود بالذات غير متصف بالحدوث موجد للعالم بالقدرة والاختيار وفي هذا الباب يثبت وجوده بالدلايل العقلية والبراهين الإنية ويتمسك بآثاره من الحوادث اليومية والأحوال السفلية والعلوية التي لا يقدم منصف ذو حدس إلى إنكار حدوثها (2) واستنادها إلى الصانع الحكيم القادر المختار.
1 - أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال: حدثني علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم عن يونس بن عبد الرحمن، عن علي بن منصور قال: قال لي هشام ابن الحكم كان بمصر زنديق تبلغه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أشياء فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها وقيل له إنه خارج بمكة فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله فضرب كتفه كتف أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال له أبو
ص:4
عبد الله (عليه السلام): ما اسمك؟ فقال: اسمي عبد الملك، قال: فما كنيتك؟ قال: كنيتي أبو عبد الله، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل: ما شئت تخصم. قال هشام بن الحكم: فقلت: للزنديق: أما ترد عليه؟ قال: فقبح قولي، فقال أبو عبد الله: إذا فرغت من الطواف فأتنا فلما فرغ أبو عبد الله أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد الله ونحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال: نعم. قال: فدخلت تحتها؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها: قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شئ، فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): فالظن عجز لما لا يستيقن (1) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): أفصعدت السماء؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا، قال. عجبا لك لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب ولم تنزل الأرض ولم تصعد السماء ولم تجز هناك فنعرف ما خلفهن وأنت جاحد بما فيهن وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟! قال الزنديق: ما كلمني بهذا أحد غيرك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فأنت من ذلك في شك فلعله هو ولعله ليس هو؟ فقال الزنديق: ولعل ذلك; فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيها الرجل! ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ولا حجة للجاهل يا أخا أهل مصر! تفهم عني فإنا لا نشك في الله أبدا، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرا ليس لهما مكان إلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما والذي اضطرهما أحكم منهما وأكبر.
فقال الزنديق صدقت، ثم قال: أبو عبد الله (عليه السلام): يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه وتظنون أنه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرون، يا أخا أهل مصر لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة لم لا يسقط السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟ قال الزنديق: أمسكهما الله ربهما وسيدهما، قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له حمران: جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفار على يدي أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله (عليه السلام): اجعلني من تلامذتك.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام بن الحكم خذه إليك، وعلمه.
ص:5
فعلمه هشام فكان معلم أهل الشام وأهل مصر الإيمان، وحسنت طهارته حتى رضي بها أبو عبد الله (عليه السلام).(1)
(أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب) قد مر توجيه هذا القول في صدر الكتاب (قال: حدثني علي ابن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن عبد الرحمن، عن علي ابن منصور، قال: قال لي هشام بن الحكم، كان بمصر زنديق) الزنديق معرب والجمع الزنادقة، والهاء عوض عن الياء المحذوفة والأصل الزناديق وقد تزندق والاسم الزندقة، والمراد به الكافر النافي للصانع، ويطلق على الثنوية وهم الذين يقولون بأن النور والظلمة هما المدبران للعالم المؤثران فيه ومنشأ شبهتهم أنهم وجدوا العالم صنفين خيرا وشرا وهما ضدان فأنكروا أن يكون فاعل واحد يفعل الشئ وضده. فأثبتوا للخير صانعا وسموه يزدان، وللشر صانعا وسموه أهرمن; وعلى الدهرية وهم الذين يقولون بأن الدهر هو الفاعل وأنه دائم لم يزل وأبد لا يزال، وأن العالم دائم لا يزول ومنشأ شبهتهم في نفي الصانع أنهم لا يحكمون إلا بوجود ما يشاهدونه، فلما لم يروا صانعا حكموا بعدمه، ولما لم يروا للعالم حدوثا وانقضاء حكموا بقدمه.
وفي مفاتيح العلوم أن الزنادقة هم المانوية وكان المزدكية يسمون بذلك ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباد وزعم أن الأموال والحرم مشتركة أظهر كتابا سماه زندا (2) وهو كتاب المجوس الذي جاء به زردشت الذي يزعمون أنه نبي فنسب أصحاب مزدك إلى زند وأعربت الكلمة فقيل:
زنديق، وقيل: هذه الكلمة معرب زن دين يعني من كان دينه دين المرأة في الضعف وهو ضعيف (يبلغه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أشياء) من أحاديث وجود الصانع وتوحيده أو من أخبار كمال فضله وعلمه (عليه السلام) بالمعارف الإلهية والشرايع النبوية أو من ذمائم الزنادقة وقبايحهم ولؤمهم (فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها وقيل له: إنه خارج بمكة) أي مقيما بمكة أو الباء بمعنى إلى (فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله فضرب كتفه كتف أبي عبد الله (عليه السلام)) أي حاذاه أو الضرب معناه (فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما أسمك؟ فقال: اسمي عبد الملك: قال فما كنيتك؟ قال: كنيتي أبو عبد الله، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) فمن هذا الملك الذي أنت عبده أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض قل ما شئت
ص:6
تخصم) (1) تخصم على البناء للمفعول مجزوم بعد الأمر أي إن تقل ما شئت تكن مخصوما محجوجا بقولك، وأما البناء للفاعل وحذف المفعول أي تخصم نفسك فهو محتمل لكنه بعيد ووجه كونه مخصوما أنه إن أقر بوجود ملك وإله هو وابنه عبداه فقد أقر بما ينافي مذهبه من نفي المعبود والعبودية له، وإن قال: ليس هناك ملك وإله يكذبه ما دل عليه هذان الاسمان باعتبار الوضع الإضافي لأن لهما بحسب اللغة والعرف مفهومات وحقيقة تركيبية من أجل الإضافة والظاهر المتبادر أن الواضع لاحظ وجودها حال الوضع فلا ينبغي للعاقل أن ينكره وهذا الوجه من الوجوه الإقناعية التي تورث الشك فيما ذهب إليه من نفي الإله وهذا هو المقصود في هذا المقام لأن الحكيم يداوي من به مرض الجهل المركب أولا بما يوجب شكه ليرجع من الجهل المركب إلى الجهل البسيط ويستعد لقبول الحق، ثم يداوي مرض الجهل البسيط بالدلايل والبراهين (قال هشام بن الحكم فقلت للزنديق) حين رأيته متحيرا في الجواب.
(أما ترد عليه؟ قال: فقبح قولي) قبح مجرد من القبح و «قولي» فاعله وضمير «قال» للزنديق وإنما حكم بقبح قوله لعلمه بأنه مخصوم لو أجاب، ويحتمل أن يكون مزيدا من التقبيح وضمير فاعله يعود إلى الزنديق أو إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وفاعل قال على الأول يعود إلى هشام وعلى الثاني إلى الزنديق (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا فرغت من الطواف فأتنا) فيه دلالة على جواز دخول الزنديق في المسجد لأنه (عليه السلام) لم يأمر بإخراجه وحمل عدم الأمر به على عدم الاقتدار وعلى التقية محتمل كما أن حمل النهي عن الدخول على ما إذا كان الدخول موجبا للتلويث محتمل أيضا (2).
(فلما فرغ أبو عبد الله (عليه السلام) أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) ونحن مجتمعون عنده فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال: نعم) أعلم لأن الأرض متناهي المقدار وكل جسم متناهي المقدار له تحت وفوق قطعا (قال: فخدلت تحتها) من جانب الشرق أو من جانب الغرب أو من النزول في عمقها (قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها) أي أي شئ يجعلك عالما بما تحتها (قال: لا أدري إلا أني أظن ليس تحتها شئ) أنت تعلم أن هذا الظن لا مستند له إلا عدم الرؤية والتمسك به من سخافة العقل لأن عدم رؤية شئ لا يدل على عدم وجوده بوجه من
ص:7
وجوه الدلالات.
(فقال أبو عبد الله (عليه السلام) الظن) في المطالب اليقينية (عجز لمن لا يستيقن) أي من لم يحصل له اليقين بوجود شئ أو لم يقدر على طلب اليقين به وظن بمجرد ذلك أنه ليس بموجود فذلك الظن نشأ من عجزه وضعف عقله لعدم علمه بأن عدم العلم بوجود شئ ليس علما بعدم وجوده ولا مستلزما له وحمل العجز على الظن من المبالغة، وفي بعض النسخ لما لا يستيقن» بلفظة «ما» وهي مصدرية وفاعل الفعل ضمير يعود إلى الظان المفهوم من الظن.
(ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): أفصعدت السماء) وشاهدت أطباقها (قال: لا، قال فتدري ما فيها؟ قال: لا، قال: عجبا لك) نصبه على المصدر أي عجبت عجبا لحالك وشأنك أو على النداء بحذف أداته أي يا عجبا لك فنادى العجب منكرا ليحضر له وقد أشار على سبيل الاستيناف إلى ما هو محل التعجب بقوله (لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل الأرض ولم تصعد السماء ولم تجز هناك فتعرف ما خلقهن وأنت جاحد بما فيهن وهل يجحد العاقل ما لا يعرف (1) فيه توبيخ له في نفيه وجود الصانع لأنه لم يره وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أنك لم تر جميع هذه الأماكن فكيف تنفي وجود الإله الصانع إذ لعل في شئ منها إلها لم تره.
وثانيهما أنك تنفي وجود الصانع لأنك لم تره كما أنك تنفي وجود شئ في هذه الأماكن لأنك لم تره ولا ريب في أن الثاني مما لا ينبغي أن يعتقد به العاقل لأن عدم رؤية شئ لا يدل على عدم وجوده فكذا الأول لجواز أن يكون الصانع للعالم موجودا، وعدم رؤيته لا يدل على عدم وجوده.
فكيف يعتقد به العاقل (2) وعلى الوجهين حصل للزنديق شك في مذهبه فلذا (قال الزنديق ما كلمني بهذا أحد غيرك) للإشعار برجوعه عن الجهل المركب إلى البسيط وعن الظن بعدم وجود
ص:8
الصانع إلى الشك في وجوده وعدمه (فقال أبو عبد الله (عليه السلام)) طلبا لتصريحه بالشك ورجوعه عن الإنكار الصرف.
(فأنت من ذلك) أي من وجود الصانع أو من وجود ما لم تر وجوده (في شك فلعله هو ولعله ليس هو) أي لعل الصانع موجود بالهوية الشخصية الذاتية ولعله ليس بموجود وكلمة «لعل» للرجاء والطمع وأصلها عل واللام في أولها زايدة (فقال الزنديق) إظهارا لشكه (ولعل ذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة») أي غلبة أو برهان (على من يعلم) لأن الحجة مبنية على مقدمات وثيقة وأفكار دقيقة وانتقادات صحيحة ومناسبات لطيفة بين المطالب والمبادي إلى غير ذلك من الأمور والشرائط المعتبرة فيها والجاهل بعيد عن إدراك هذه الأمور فكيف يكون له حجة على العاقل العالم بها (ولا حجة للجاهل) أي لا حجة للجاهل على العالم فهذا تأكيد للسابق أو لا حجة للجاهل على القيام بالجهل والبقاء عليه إذ الواجب عليه التهيؤ والاستعداد لقبول الحق والتعرض للتعلم والتفهم عن العالم ولذا قال (عليه السلام) (يا أخا أهل مصر تفهم عني) ما أقول لك من الحق والبيان وما ألقي إليك من الحجة والبرهان.
(فإنا لا نشك في الله أبدا) أي في وجوده وصفاته وإبداعه لهذا العالم وانتهاء سلسلة الممكنات إليه وينبغي أن يعلم أن معرفته تعالى على ثلاثة أقسام (1) يندرج في كل قسم مراتب غير محصورة الأول المعرفة الفطرية وهي حاصلة للعوام أيضا إذا ما من أحد إلا وهو يعرف ربه بحسب الفطرة الأصلية لما ركب فيه من العقل الذي هو الحجة الأولى، ولو أنكر وجوده تعالى منكر فإنما هو لغلبة الشقاوة المكتسبة المبطلة للاستعداد الفطري وهو مع ذلك قد يعترف به في حال الاضطرار كما أشار إليه سبحانه بقوله «وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه - الآية»(2) الثاني
ص:9
المعرفة بالنظر والاستدلال من الآثار وهذا القسم للخواص، الثالث المعرفة الشهودية والمشاهدة الحضورية التي هي مرتبة عين اليقين وهذا القسم لخاص الخاص الذي يعرف الحق بالحق، ولا يبعد أن يكون قوله (عليه السلام) «فإنا لا نشك» إشارة إلى هذا القسم لأنه الذي حري بأن لا يتطرق الشك إلى ساحته أصلا وأبدا، ثم فيه إشارة إلى آداب المناظرة فإن المريد لاثبات الحق لا بد أن يوصي صاحبه بالتفهم وترك التعنت وأن يظهر حاله بأنه على يقين فيما يقول ويتكلم لأن ذلك موجب لزيادة إصغاء السامع، ثم بعد تمهيد هذين الأمرين وتأصيل هذين الأصلين شرع في الاستدلال.
(وقال: أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان) الظاهر أن الواو للعطف وأن الولوج والرجوع متعلقان بالشمس والقمر والليل والنهار جميعا، والمراد بولوج الشمس والقمر دخولهما بالحركة - الخاصة (1) في بروجهما ومنازلهما المعروفة على نحو لا يشتبه أوقات الدخول لكونها معلومة مضبوطة والمراد برجوعهما إلى الحالة الأولى بعد تمام الدور أو رجوعهما إلى جزء معين من الفلك بعد المفارقة عنه فإن الشمس تذهب من الانقلاب الصيفي إلى الانقلاب الشتوي، ثم ترجع من الانقلاب الشتوي إلى الانقلاب الصيفي (2) والقمر يذهب من المقارنة إلى المقابلة، ثم يرجع من المقابلة إلى المقارنة، أو رجوعهما بالحركة اليومية في نصف الدور من الشرق إلى الغرب وفي نصف آخر من الغرب إلى الشرق، أو رجوعهما عن جهة الحركة الخاصة إلى جهة الحركة اليومية في كل آن مع تحقق الحركة إلى هاتين الجهتين في نفس الأمر.
والمراد بولوج الليل والنهار دخول تمام كل منهما في الآخر واستتاره به فيستتر ظلمة الليل بضوء النهار ويستتر ضوء النهار بظلمة الليل على سبيل التعاقب بحيث لا يشتبه شئ منهما بالآخر مع التغاير بين النور والظلمة، كما يشير إليه قوله تعالى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) أو دخول بعض من كل واحد منهما في الآخر ففي ستة أشهر يدخل جزء من الليل في
ص:10
النهار وفي ستة أشهر يدخل جزء من النهار في الليل ولا يشتبه الداخل في كل منهما في الآخر لكون أقداره معلومة محدودة دائما (1) والمراد برجوعهما رجوع كل منهما بعد الاستتار عقب صاحبه أو رجوع كل منهما عما أعطاه الآخر فيرجع الداخل من الليل في النهار إلى الليل ويرجع الداخل من النهار في الليل إلى النهار أو رجوعهما إلى التساوي والتكافؤ في الاعتدالين بعد التزايد والتناقص، وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يتعلق «يلجان» بالليل والنهار ويرجعان بالشمس والقمر، ويحتمل أيضا أن يكون الواو للحال، وعلى هذا الاحتمال كل واحد من الولوج والرجوع متعلق بالليل والنهار وخبر لهما (قد اضطرا) (2) هذا على الاحتمالين الأولين حال عن المفعول الأول ل «ترى» لبيان أن اتصافه بالمفعول الثاني أعني الولوج والرجوع على سبيل الاضطرار ليثبت أن لهما فاعلا قادرا مختارا يحملهما على ذلك بقدرته واختياره، والتثنية باعتبار أن الشمس والقمر شئ والليل والنهار شئ آخر فهما شيئان وعلى الاحتمال الأخير مفعول ثان لترى وإشارة إلى اضطرار الشمس والقمر في أحوالاتهما، وقد أشار إلى وجه اضطرارهما أو اضطرار الجميع بقوله
ص:11
(ليس لهما مكان إلا مكانهما) فإن لكل واحد من الشمس والقمر من حيث الحجم والجسمية مكانا مخصوصا من الفلك هو مركوز فيه لا يخرج منه أبدا إلى مكان آخر ومن حيث الحركة أمكنة معلومة هي مداراته اليومية التي يتحرك فيه ذاهبا من الشمال إلى الجنوب وعائدا من الجنوب إلى الشمال دائما من غير تخلف ولا وقوف وكذا لكل واحد من الليل والنهار محل مخصوص لا يقع فيه التبادل والتعاكس بالكلية بأن يستقر الليل كله في محل النهار ويستقر النهار كله في محل الليل ومن تفكر فيه تفكرا صحيحا واستعان بالحدس الصايب علم يقينا أنهما مضطران في ذلك.
(فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعا) دائما على النظام المشاهد من غير تخلف أصلا ولم لا يذهبان على وجههما وقتا ما كما هو شأن صاحب الإرادة (وإن كانا غير مضطرين) في الذهاب والرجوع وكان لهما اختيار فيهما (فلم لا يصير الليل نهارا) بأن ترجع الشمس باختيارها فوق الأفق من الغرب إلى الشرق فيكون النهار سرمدا (والنهار ليلا) بأن ترجع تحت الأفق من الشرق إلى الغرب فيكون الليل سرمدا فدل ذهابهما ورجوعهما واتساق حركتهما وانضباط أمرهما وانضباط الليل والنهار دائما على أنهما مضطران في هذه الأمور وفي دوامهما، كما أشار إليه مؤكدا بالقسم ترويجا له لكون المخاطب في مقام الشك بعد بقوله (اضطرا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما) على الأوصاف المذكورة وعلى النحو المشاهد فلهما فاعل قدير عليم خبير قاهر مدبر دبر في أمرهما كيف شاء لمنافع جليلة ومصالح كثيرة يعجز عن عدها اللسان ويقصر عن وصفها البيان وفيه دلالة على أن حركتهما ليست إرادية ولا طبيعيه لأن كون حركة المتحرك دائما على نهج واحد من غير تبدل وتغير وإلى جهة ووضع، ثم تركهما بعد البلوغ يدل على أن تلك الحركة ليست مستندة إلى الإرادة والاختيار كما يحكم به العقل مع الانصاف والحدس الصايب وليست طبيعية لأن الطبيعية لا تقتضي شيئا والصرف عنه بالضرورة.
فإن قلت: دوامهما على ذلك لكونهما مركوزين في الفلك والفلك يحركهما كذلك.
قلت: هذا اعتراف بالاضطرار وأما الفلك فحركته أيضا على هذا النحو دائما اضطرارية وإلا فلم لا يتغير ولا يتبدل ولا يسرع ولا يبطي ولا يعكس ولا يسكن وقتا ما مع تجويز العقل حركته على أنحاء متفاوتة وجهات مختلفة فاستقراره على هذا النحو دل على أنه مضطر مقهور وله فاعل قاهر خارج عنه وليس لمن قال: بأن حركته إرادية لقصد التشبه بالكامل دليل يعتد به ولو ثبت ذلك ثبت المدعى أيضا (1) لأن وجوب الممكن وكونه قادرا على الإرادة من جانب الغير وهو الفاعل المختار
ص:12
الواجب وجوده لذاته دفعا للتسلسل (والذي اضطرهما) على ذلك (أحكم منهما وأكبر) الظاهر أن «أحكم» اسم تفضيل من الحكم بمعنى القضاء ومنه يا أحكم الحاكمين لا من الاحكام كأفلس من الإفلاس ليرد أنه شاد، والمراد بكونه أحكم وأكبر أنه حاكم عليهما مؤثر فيهما فلا محالة يكون أشد قضاء وأتم حكما وأكبر رتبة منهما أو المراد أن فعله ليس مثل فعلهما بالاضطرار وإلا دار أو تسلسل أو المراد أن وجوده من ذاته لا من الغير والإمكان مثلهما غير محكم في حد ذاته لانه حينئذ ممكن وكل ممكن باطل غير محكم في حد ذاته أو المراد أن ذاته وصفاته أحكم من ذاتهما وصفاتهما لأن ذاتهما من الأجسام وصفاتهما من الجسمانيات وكل جسم وجسماني فيه ضعف وذلة من جهات شتى (فقال الزنديق صدقت) لا بد لهما من محرك يضطرهما على ما ذكر وهو أحكم وأكبر منهما (ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام)) لدفع ما يذهب إليه وهم الزنديق من أن ذلك المحرك هو الدهر كما قالت الزنادقة «وما يهلكنا إلا الدهر».
(يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه وتظنون أنه الدهر) «أنه الدهر» خبر «أن» أو هو مفعول «تظنون» أو بيان للموصول بتقدير «من» ومفعوله محذوف وخبر «أن» حينئذ قوله (إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يرد هم؟ وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم) ضمير «بهم» إما راجع إلى ذوي العقول المدركة مطلقا سواء كانت نفوسا قدسية مجردة عن التعلق بالأبدان أو نفوسا بشرية متعلقة بها أو راجع من باب التغليب إلى الكائنات من العلويات والسفليات كلها، ولعل المراد أن للكاينات وجودات وصفات وكمالات هي ذاهبة إليها تاركة لأضدادها، مثلا للإنسان موت وحياة، وللشمس والقمر وساير الكواكب حركات بالأصالة دائما من الغرب إلى الشرق وهي تذهب إلى جهات حركاتها ولا ترجع إلى خلافها ولا ترد والدهر لا شعور له فإن صدر منه بمقتضى طبعه إذهاب الكائنات إلى جهاتها وصفاتها وكمالاتها يرد أنه لم يقتضي طبعه إذهابها إليها دون ردها إلى خلافها وأضدادها وإن صدر منه الرد إلى خلافها يرد أنه لم يقتضي طبعه الرد إلى خلافها دون الإذهاب إليها؟ ولا يمكن التخلص منه إلا بأن يقال اقتضاء طبعه ذلك باعتبار مبدء قادر قاهر أعطاه ذلك الطبع باختياره، وهذا مع كونه مثبتا للمطلوب مدفوع بأنه لا يجوز إسناد (1) هذه الافعال المختلفة
ص:13
والآثار المتفاوتة المتباينة إلى الطبع لأن الطبع لا يصدر منه الضدان ولا ينشأ منه الفعلان المختلفان ولو في محلين فإنه لا يمكن أن تسخن النار في موضع وتبرد في موضع آخر، فوجب إسنادها بلا واسطة إلى فاعل قادر مختار يفعل ما يشاء بمجرد الإرادة والمشية، ولهذه العبارة احتمال آخر أظهر تركناه خوفا للإطناب وحوالة على أفهام أولي الألباب.
(القوم مضطرون) إلى الاعتراف بذلك والإقرار، فالمراد بالقوم الإنسان أو ذووا العقول على الإطلاق ويحتمل أن يراد بهم الموجودات الممكنة كلها من باب التغليب: يعني أن الموجودات مضطرون في الوجود وما يتبعه من الصفات ولوازم المهيات وما يتصف به المتحركات كالشمس والقمر وسائر السيارات من الذهاب والعود والطلوع والغروب إلى غير ذلك من الأحوال وهذا الكلام على هذا الاحتمال تأكيد لما سبق وتقرير لما مر من أن هذه الآثار لا يجوز إسنادها إلى المتصف بالاضطرار مثل الشمس والقمر والليل والنهار والدهر وغيرها بل يجب إسنادها إلى الفاعل المختار القاهر على الممكنات يفعل فيها ما يشاء كيف يشاء ثم شرع في إثباته تعالى بدليل آخر وقال:
(يا أخا أهل مصر لم السماء) على عظمة حجمها ومقدارها (مرفوعة) على بعد مخصوص لا
ص:14
يزيد ولا ينقص (والأرض موضوعة) في حاق وسط السماء على بعد معين بينهما مع اشتراكهما في الجسمية المقتضية للتحيز فرفع إحداهما ووضع الأخرى دل على وجود قادر قاهر لهما على ذلك، فإن قيل. طبع السماء يقتضي الرفع وطبع الأرض يقتضي الوضع، قلنا: الرفع والوضع يتصوران على أنحاء مختلفة ووجوه متباينة فاختصاصهما، بهذا الرفع والوضع المخصوصين لا بد أن يكون مستندا إلى الغير على أن اقتضاء طبعهما ذلك لا بد أن يكون من الغير وهو المبدء الغالب على الأشياء (لم لا تسقط السماء) بالحركة المستقيمة أو مع الحركة الدورية التي لها في نفس الأمر (على الأرض) إذ الحركة المستقيمة لا تنافي الحركة الدورية وما ذكره الفلاسفة من امتناع حركة السماء على الاستقامة (1) فهو ممنوع لم يقم عليه برهان.
(لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها) تقول حدرت السفينة أحدرها إذا أرسلتها إلى أسفل والانحدار الانهباط وطباق الأرض طبقاتها التي بعضها فوق بعض، المراد بفوق طباقها الطبقة الفوقانية المكشوفة التي هي مسكن للحيوانات المتنفسة، يعني لم لا تنحدر الأرض إلى الماء من فوق طباقها أو لم لا ينحدر فوق طباقها على أن يكون فوق طباقها بدلا من الأرض، ويحتمل أن يراد بطباقها ما يحيط بها من العناصر والأفلاك يعني لم لا تنحدر الأرض فوق العناصر بل إلى فوق الأفلاك أيضا وإرجاع ضمير طباقها إلى السماء أيضا محتمل والمراد بالطباق حينئذ طبقات السماوات وإطلاق لفظ الانحدار على حركة الأرض إلى صوب المحيط صحيح لأن حركتها من المركز إلى المحيط في سمت أقدامنا انحدار وهبوط بالنظر إلينا وصعود بالنظر إلى من يقابلنا (فلا يتماسكان ولا يتماسك من عليها) (2) في بعض النسخ ولا يتماسكان بالواو وهي للحال عن
ص:15
المنفي وهو السقوط والانحدار وفي بعضها بالفاء وهذا الكلام حينئذ إما متفرع على النفي يعني علم من عدم سقوط السماء وعدم انحدار الأرض أنهما لا يتماسكان أي لا يملكان أمرهما من الرفع والوضع ولا يقدران على ذلك وإن كل من على الأرض من الإنسان والحيوان وغيرهما لا يتمالك أمره من تحيزه بحيزه ووضعه فيه، لأن وضعه تابع لوضع الأرض ووضع الأرض بالجبر من الفاعل القادر المختار فوضعه أيضا منه أو متفرع على المنفي وعدم تماسكهما حينئذ بالرفع والوضع وعدم ثباتهما عليهما ظاهر، وكذا عدم تماسك من على الأرض وعدم ثباتهم عليها لغرقهم في الماء وانفلات الأرض من تحتهم سريعا فينقطع التعلق بينهما وبينهم ولو بقي التعلق لاضطربوا بالحركة العنيفة اضطرابا شديدا، كما يشاهد مثل ذلك عند الزلازل الشديدة.
لا يقال: هذا الدليل والذي قبله إنما يدلان على أنه لا بد لهذا النظام وتلك الحركات من مدبر قادر خارج عن عالم الجسم والجسمانيات، وأما أنه واجب الوجود لذاته فلا، لجواز أن يكون هذا المدبر، جوهرا، مجردا، مفارقا، لأنا نقول: هذا الجوهر على تقدير وجوده ممكن بالاتفاق فهو لا يفيد الوجود ولواحقه إلا إذا استفاد وجوده من وجود خارج عنه لأن وجود الممكن ليس من قبل ذاته المعراة عن مرتبة الوجود، ولا من قبل وجوده بالضرورة، بل هو من قبل موجود مباين له حاكم عليه، وهو الله تعالى شأنه (فقال الزنديق أمسكهما الله ربهما وسيدهما) الرب في اللغة المالك والمدبر والسيد والمربى والمتمم والمنعم والمولى والصاحب والحافظ، والسيد في اللغة الرب والمالك والشريف والكريم والحليم والحاكم والمقدم والمتحمل للأذى ممن دونه، (قال فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: له حمران: جعلت فداك إن آمنت الزنادقة (1) على يديك فقد آمن الكفار على يدي أبيك) المراد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحتمل غير من آبائه الطاهرين (فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله (عليه السلام)) لم يطلق عليه الزنديق هنا تعظيما له وإشعارا بأنه لا يجوز ذلك ولو على سبيل المجاز باعتبار ما كان (اجعلني من تلامذتك فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام بن الحكم خذه إليك) أي منضما إليك على التضمين (فعلمه هشام) الأحكام الدينية
ص:16
والمعارف الإلهية وفيه مدح عظيم لهشام والروايات في مدحه عن الصادق والكاظم (عليهما السلام) كثيرة وترحم عليه الرضا (عليه السلام) بعد موته وكان ممن فتق الكلام في الإمامة وهذب المذهب بالنظر وكان حاذقا بصناعة الكلام حاضر الجواب وفي ذمه أيضا روايات جوابها مذكور في كتب الرجال وغيرها (وكان) أي هشام أو المؤمن الذي آمن (معلم أهل الشام وأهل مصر الإيمان) وأركانه وأحكامه (وحسنت طهارته) القلبية والدينية بتحصيل الأخلاق والأحكام (حتى رضي به أبو عبد الله (عليه السلام)) لحسن طهارته وكمال إيمانه.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم، عن أحمد بن محسن المثمي قال: كنت عند أبي منصور المتطبب فقال:
أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله ابن المقفع في المسجد الحرام فقال ابن المقفع، ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) - فأما الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم فقال له ابن أبي العوجاء: لا بد من اختبار ما قلت فيه منه: قال: فقال له ابن المقفع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك ولكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفت، فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت علي هذا فقم إليه و تحفظ ما استطعت من الزلل ولا تثني عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال وسمه مالك أو عليك.
قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفع جالسين فلما رجع إلينا ابن أبي العوجاء قال:
ويلك يا ابن المقفع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا ويتروح إذا شاء باطنا فهو هذا، فقال له: وكيف ذلك؟ قال: جلست إليه فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم. فقلت له: يرحمك الله، وأي شئ نقول وأي شئ يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحدا، فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحدا؟ وهم يقولون: إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد، قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان، ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم
ص:17
الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الايمان به؟ فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشوءك ولم تكن وكبرك بعد صغرك وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك وحبك بعد بغضك وبغضك بعد حبك وعزمك بعد أناتك وأناتك بعد عزمك وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك ورجائك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم، عن أحمد بن محسن الميثمي قال: كنت عند أبي منصور المتطبب) أي العارف بالطب العالم به (فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء) اسمه عبد الكريم وفي كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي عن عيسى بن يونس قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد فقيل: له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ قال: إن صاحبي كان مخلطا يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه، وكان يكره العلماء مجالسته، لخبث لسانه، وفساد ضميره (وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام فقال ابن المقفع ترون هذا الخلق وأومأ بيده إلى موضع الطواف ما منهم أحد اوجب) بضم الهمزة أي أثبت.
(له اسم الإنسانية) اسم الإنسان يطلق على هذا الهيكل المحسوس الذي يشترك فيه الجاهل والعالم، وعلى النفس الناطقة المجردة الفاضلة (2) بالعلوم والمعارف وعلى المجموع، والأخيران أولى بإطلاق هذا الاسلام عليها من الأول لهذا صح النفي عنه في مثل زيد ليس بإنسان أو زيد
ص:18
حمار (إلا ذلك الشيخ الجالس) الشيخ يطلق على المسن بعد الكهل وهو من انتهى شبابه، وعلى العالم الماهر المتبحر في العلوم (يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) فأما الباقون فرعاع وبهايم) الرعاع بالفتح جمع رعاعة، وقيل: اسم جمع وهي ألأحداث الطغام والأراذل من الأوباش واللئام وشبههم بالبهائم في اتصافهم بالجهالات وفقدانهم للقوة المدركة للمعقولات: فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ الواو لمجرد اللصوق والربط لا للعطف، وكيف سؤال عما يقتضي تخصيصه بهذا الاسم دون غيره (قال: لاني رأيت عنده ما لم أره عندهم) من العلوم والمعارف وكمال القوة الفكرية (فقال له ابن أبي العوجاء لا بد من اختبار ما قلت فيه منه) إضافة الاختبار إلى الموصول إضافة المصدر إلى المفعول والعائد محذوف وضمير فيه ومنه عائد إلى الشيخ ومنه متعلق بالاختبار (قال: فقال له ابن المقفع لا تفعل) ما أردت من اختباره والتكلم معه (فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك) من مذهبك وما تستدل به عليه لكمال قوته في المناظرة (فقال: ليس ذا رأيك) أي ليس خوف الإفساد رأيك وزعمك في المنع من الاختبار (ولكن تخاف أن يضعف رأيك) أي اعتقادك أو عقلك (عندي في إحلالك) أي إنزالك من أحله إذا أنزله (إياه المحل الذي وصفت) من كمال العلم والمعرفة وتمام القوة في الكلام والمناظرة.
(فقال ابن المقفع أما إذا توهمت علي هذا فقم إليه) أي ذاهبا أو متوجها إليه وأما بالتخفيف حرف التنبيه وهذا أولى من قراءتها بالتشديد على أن تكون للشرط وفعلها محذوف، ومجموع الشرط والجزاء بعدها جواب لذلك الشرط كما زعم فإنه بعيد لفظا ومعنى أما لفظا فلإحتياجه إلى التقدير والأصل عدمه، وأما معنى فلأن أما الشرطية للتفصيل باتفاق النحاة مثل أما زيد فذاهب وأما عمرو فمقيم أي مهما يكن من شئ فزيد ذاهب وعمرو مقيم وذكر التفصيل والأقسام وإن لم يكن واجبا لجواز أن يذكر قسم واحد ويترك الباقي كما في قوله تعالى «فأما الذين في قلوبهم زيع» (1)الآية إلا أنه وجب أن يكون لتفصيل في نفس المتكلم كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل، وإرادة التفصيل هنا أي أما إذا لم تتوهم علي هذا فمكانك، لا يخلو من بعد، بل لا وجه لها (وتحفظ ما استطعت من الزلل) تحفظ مجزوم بالشرط المقدر بعد الأمر ومن متعلق به أي وإن قمت إليه تحفظ نفسك من الزلل في المقال وفيما تسمعه منه من دقائق عقايده ولطايف فوايده ما استطعت (ولا تثني عنانك) «لا» للنفي وتثني بفتح التاء من باب ضرب أو بضمها من باب الإفعال والمعنى واحد تقول: ثنيت الشئ ثنيا وأثنيته إذا صرفته وعطفته، والعنان بالكسر: سير اللجام وهو
ص:19
الذي يتمسك به الراكب لحفظ الدابة وضبط أمرها والمراد به هنا ما تمسك به النفس في ميدان المناظرة والمجادلة، والجملة خبر بمعنى النهي، وفي بعض النسخ «لا تثن» بصيغة النهي من أحد البابين (إلى استرسال) في النهاية: الاسترسال: الاستيناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحده، وأصله السكون والثبات إنتهى، ويحتمل أن يكون هنا من الرسل بالكسر بمعنى اللين والرفق والتأني (فيسلمك) من التسليم أو الإسلام قال في النهاية: أسلم فلان فلانا إذا ألقاه في الهلكة. وهو عام في كل من أسلمته إلى شئ لكن دخله التخصيص وغلب عليه الإلقاء في الهلكة، وفاعل يسلمك عايد إلى الشئ أو إلى ذلك الشيخ (إلى عقال) وهو بالكسر الحبل الذي يشد به ذراعي البعير وبالضم والتشديد وقد يخفف داء في رجلي الدواب والمعنى لا تعطف عنان نفسك ولا تصرفه في ميدان المناظرة إلى الاستيناس بذلك الشيخ والطمأنينة إليه والثقة به فيما يقول، أو لا تصرفه إلى التأني والرفق به والمساهلة معه فيسلمك ويلقيك ذلك الشئ والصرف أو ذلك الشيخ إلى عقال يمنعك من الحركة فيما أنت عليه من مذهبك والدلايل عليه أو إلى مكروه ومرض شديد وهو خروجك من مذهبك إلى مذهبه وغرضه من هذا الكلام وصيته بالحفظ والثبات على دينه وعدم خروجه عنه بكلامه (عليه السلام) وإغراؤه بالمناظره على قدر الإمكان «يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا»(1) (وسمه مالك وعليك) نقل عن الشيخ العارف بهاء الملة والدين إن سمه من السوم.
أقول: يريد أنه أمر من سام البايع السلعة يسوم سوما إذا عرضها على المشتري وذكر ثمنها وسامها المشتري بمعنى استامها سوما والمساومة المحادثة بينهما على السلعة وقطع ثمنها والضمير المنصوب راجع إلى ذلك الشيخ واتصاله من باب الحذف والإيصال وما الموصولة مفعوله والجملة معطوفة على قم والمقصود اعرض عليه مالك عليه وماله عليك وساومه في المعاملة والمناظرة التي تقع بينكما على بصيرة منك لئلا تصير مغلوبا مغبونا كما يقع ذلك بين البايع والمشتري لطلب كل منهما نفعه وفراره من الغبن والخسران ففي الكلام استعارة تمثيلية، ونقل عن المحقق الشوشتري أن سمه بضم السين وفتح الميم المشددة أمر من سم الأمر يسمه إذا سبره ونظر إلى غوره والمسبار ما يسبر به. أقول: الضمير يرجع إلى ما يجري بينهما بقرينة المقام والموصول بدل عنه، والمقصود انظر إلى غور مالك وعليك بمسبار عقلك ولا تأخذ بظاهرهما وذلك لزعمه أن غور ما عليه صاحبه حق وغور خلافه باطل ويحتمل أن يكون أمرا من سممت
ص:20
سمتك أي قصدت قصدك أو من سممت بينهما سما أي أصلحت والهاء حينئذ للوقف، يعني اقصد مالك وعليك وتكلم فيهما على بصيرة ومعرفة أو أصلح بينهما بقدر الإمكان لئلا تصير مغلوبا محجوجا، ونقل عن بعض الأفاضل ولعله الفاضل الأسترآبادي أنه أمر من شم يشم بالشين المعجمة يقال: شاممت فلانا إذا قاربته لتعرف ما عنده بالكشف والاختبار، والضمير عايد إلى الشيخ وما استفهامية أي قاربه لتعرف مالك وما عليك من أنواع الكلام والمناظرة، أقول في نهاية ابن الأثير ما يؤيد هذا الاحتمال قال في: حديث علي (عليه السلام) حين أراد أن يبرز لعمرو بن عبد ود قال:
أخرج إليه فاشاممه قبل اللقاء أي أختبره وأنظر ما عنده بالاختبار والكشف وهي مفاعلة من الشم كأنك تشم ما عنده ويشم ما عندك لتعملا بمقتضي ذلك. وقال بعض الأصحاب: هو على وزن عدة بمعنى أثر الكي في الحيوان معطوفة على عقال مضاف إلي الموصول والمعنى فيسلمك إلى عار مالك وعليك.
(قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفع جالسين، فلما رجع إلينا ابن أبي العوجاء قال: ويلك يا ابن المقفع) الويل: الحزن والهلاك وقد يرد بمعنى التعجب وهو إذا لم يضف يجوز فيه الرفع على الابتداء والنصب على إضمار الفعل وإذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب (ما هذا ببشر) لأن ماله من الكلام الرايق والكمال الفائق غير معهود للبشر (وإن كان في الدنيا روحاني) الروحاني بضم الراء وفتحها منسوب إلى الروح أو الروح والألف والنون من زيادات النسب أي إن كان في الدنيا جسم لطيف لا يدركه البصر أو ملك كريم (يتجسد إذا شاء ظاهرا) أي يصير ذا جسد وبدن إذا أراد ظاهرا يدرك بالأبصار (ويتروح إذا شاء باطنا) أي يصير روحا صرفا بلا جسد إذا أراد باطنا لا يدرك بالأبصار فقوله ظاهرا وباطنا مفعول المشية (فهو هذا) أي فذلك الروحاني هو هذا الشيخ الذي وصفته بما وصفته.
(فقال له: وكيف ذلك؟ قال: جلست إليه) أي جلست متوجها إليه وبين يديه (فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني) بالكلام وسبقني قبل أن أتكلم (فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا وعطبتم) العطب بالتحريك الهلاك وقد عطب بالكسر إذا هلك أي فقد سلموا من الآفات وخلصوا من العقوبات وهلكتم في الدنيا بموت نفوسكم بالأمراض القلبية وفي الآخرة بالعقوبات الأخروية (وإن يكن الأمر على ما تقولون - وليس كما تقولون - فقد استويتم وهم) في السلامة ولا يضرهم صلاتهم وصومهم وطوافهم وسائر ما يفعلون من العبادات، وإنما بنى الكلام على صورة الشك لقصد سياقه على نحو لا ينافي كثيرا اعتقاد المخاطب مع كونه مستلزما لإلزامه لأن سوقه على هذا النحو أدخل في استماعه وأبلغ في
ص:21
إصغائه وأتى بالجملة الحالية بين الشرط والجزاء للإشارة إلى الحق والباطل وإرشاده إلى الحق وإبعاده عن الباطل، وعطف «هم» على الضمير المرفوع المتصل دل على جواز ذلك (1) بدون التأكيد والفصل (فقلت له: يرحمك الله) أجرى الدعاء لا على حسب اعتقاده فإنه لم يكن قائلا بالله تعالى إظهارا لحسن حاله عنده (عليه السلام) كما أشار إليه بقوله (وأي شئ نقول وأي شئ يقولون ما قولي وقولهم إلا واحدا) لا اختلاف بيننا في العقايد.
(فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحدا وهم يقولون إن لهم معادا) بعد فناء أبدانهم (وثوابا وعقابا) بفعل الطاعات والمنهيات (ويدينون) أي يعتقدون ويصدقون (بأن في السماء إلها) أي (2) معبودا مستحقا لأن يعبد وفيها و «في» هنا بمعنى على للاستعلاء كما هي بمعناها في قوله تعالى «ولاصلبنكم في جذوع النخل» (3) على ما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل على أنها لو كانت بمعنى الظرفية لكان لها وجه أيضا لصحة إرادة الظرفية المجازية باعتبار أن إلهيته ومعبوديته في السماء (وأنها عمران) أي معمورة بأهلها وسكانها من الملائكة والنفوس القدسية وهم يعبدون إلههم ويطيعونه فيما يأمرهم به ولا يفترون في عبادته (وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد) لا إله معبود ولا عابد مألوه وإنما ذكر السماء (4) دون غيرها من أطباق الكائنات لأن ذلك أدخل في ذمهم على القول بأن مثل هذا البناء وما فيه من عجايب الخلق مثل الشمس والقمر وغيرهما من الثوابت والسيارات أنحاء متفاوتة وجهات مختلفة ليس له مدبر.
(قال: فاغتنمتها منه) أي اغتنمت هذه الكلمات منه لكونها فاتحة لباب المناظرة ولكون قوله (عليه السلام) «وهو على ما يقولون» في حيز المنع بزعمه فلذلك قال (فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون) من أن لهم إلها صانعا مدبرا ولهم معادا وثوابا وعقابا (أن يظهر لخلقه ويدعوهم) بنفسه (إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان) في وجوده (ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل) ودعاهم إلى الإقرار به والطاعة له بتوسطهم.
(ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى إلى الإيمان به) هذا الكلام يحتمل أن يكون منعا لقوله (عليه السلام) «وهو
ص:22
كما يقولون» مع السند تقريره أن ما يقولون من أنه موجود ممنوع والسند أنه لو كان موجودا لم يحتجب (فقال لي ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك) بحيث لا تقدر على إنكار ذلك لو رجعت إلى صراحة عقلك فقد أنكر (عليه السلام) احتجابه عن الخلق وعدم ظهوره لهم وأشار إلى ظهوره بظهور آثار قدرته القاهرة في أنفسهم وهذا كما هو دافع للسند مثبت للمطلوب أيضا فإن الموجود الظاهر من جهة آثاره لا يجوز أن ينكر وجوده عاقل، ألا ترى أن من أنكر وجود المصوت والمتكلم عند سماع الصوت والكلام من مسافة بعيدة ينسب إلى السفه والجنون وإنما قلت يحتمل ذلك لأنه يحتمل أيضا أن يكون قياسا استثنائيا لإثبات أنه ليس بموجود، تقريره أنه لو كان موجودا لظهر ولم يحتجب وإذا قد احتجب ولم يظهر علم أنه ليس بموجود فمنع (عليه السلام) بطلان التالي وأشار إلى ظهوره بظهور آثاره وأفعاله الاختيارية المحكمة المتقنة التابعة لقدرته الكاملة هذا إذا أراد الزنديق بلزوم ظهوره على تقدير وجوده لزوم ظهوره في الجملة.
وأما إن أراد به لزوم ظهوره ذاته بذاته بمعنى تجليها لكل أحد أو بمعنى رؤيتها ومشاهدتها بالعين فجوابه (عليه السلام) راجع إلى منع الشرطية بأن اللازم على تقدير وجوده هو ظهوره وجوده بالآثار لا بما ذكر لأن رؤيته محال وتجلى الذات لا يحصل إلا للعارفين البالغين حد الكمال لانهم يعرفون الحق بالحق لا بالخلق وأما القاصرون فظهوره لهم إنما يحصل بظهور آثاره وربما يرشد إليه قوله (عليه السلام) «وكيف احتجب عنك» (نشوك ولم تكن) النشو مصدر نشأ نشوا ونشوءا على فعل وفعول إذا خرج وابتدأ وهو منصوب على أنه بدل من قدرته أو مرفوع على أنه خبر مبتدء محذوف يعود إليها وهو هي يعني من آثار قدرته في نفسك هي وجودك بعد العدم مع ما فيك من الأعضاء والجوارح والعروق والقوى وغيرها ومتى تأملت فيها وفي ترتيبها ووضعها ومنافعها التي لا تعد ولا تحصى علمت أن ذلك ليس من قبل ذاتك (1) المعراة عن الوجود في نفسها ولا من قبل وجودك لضرورة أن المعدوم لا يوجد شيئا سيما نفسه وأن الوجود قبل تحققه ليس علة لنفسه ولا لانضمامه إلى غيره وأيقنت أنه من مبدء مباين قادر يفعل بقدرته وإرادته ما يشاء وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» يعني (2): عرف ربه بضد ما عرف به نفسه لا بمثله لامتناع
ص:23
التشبيه فمن عرف نفسه بالحدوث والإمكان والعجز والجهل مثلا عرف ربه بالقدم والوجود والقدرة والعلم (وكبرك بعد صغرك) فإنك إذا تفكرت في انتقالاتك من مقدار إلى مقدار وفي ترقياتك من مرتبة الطفولية إلى سن الوقوف، علمت أن ذلك مستند إلى قادر مدبر بحكمته وإنك مخلوق مقهور تحت حكمه وقدرته.
(وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك) القوة مبدء الآثار والأفعال والضعف عدم ذلك المبدء بالكلية أو فتوره، ولا يبعد أن يراد بالقوة القوة التي في سن الشباب وبالضعف الضعف الذي في سن الكهولة والشيخوخة وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك) (1) السقم المرض وهو ما يزيل عن كل عضو مزاجه اللايق به، والصحة خلافه يعني استقامة كل عضو على ما يليق به (ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك) الرضا المعافاة عن العقوبة أو انفعال النفس عن المعافاة والغضب حركة النفس نحو الانتقام أو انفعالها عن تلك الحركة، وكونهما من آثار قدرته تعالى باعتبار المعنى الأخير ظاهر، وأما باعتبار المعنى الأول فباعتبار اتصاف النفس بكونها قابلة لهما فإنه من آثار القدرة القاهرة (وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك) الحزن انفعال النفس عن توارد المكروهات أو عن تخيلها وقد يتحقق لا عن سبب ظاهر، والفرح انفعالها عن توارد المرغوبات أو عن تخيلها وقد يتحقق لا عن شئ (وحبك بعد بغضك وبغضك بعد حبك) الحب انفعال النفس عن الميل المفرط إلى ما تستحسنه أو نفس هذا الميل وهما من آثار قدرته تعالى ومن ثم قيل: الحب المفرط لا يلام صاحبه إذ لا اختيار له ولو فرض أن له اختيارا فلا ريب في أن كونه
ص:24
قابلا من قدرته.
(وعزمك بعد أناتك وأناتك بعد عزمك) العزم تأكد ميل النفس إلى فعل من الأفعال (1) والقطع عليه وهو سبب قريب له تابع للإرادة التابعة للشوق التابع للتصور والأناة على وزن القناة اسم من تأنى في الأمر إذا ترفق وتنظر واتأد فيه وأصل الهمزة الواو من الوني وهو الضعف والفتور، وضبطه بعض المحققين «بعد إبائك» بالباء الموحدة التحتانية والهمزة بعد الألف والإباء الامتناع والاستنكاف، فإن قلت: العزم فعل اختياري للنفس فلا يكون فعله تعالى، قلت: نعم ولكن كون النفس قابلة للاتصاف به وبضده من أثر قدرة الله تعالى وهذا القدر كاف هنا، وقد يجاب بأن العزم لو كان فعلا اختياريا للنفس كان مسبوقا بعزم آخر لأن كل فعل اختياري لها سببه القريب هو العزم له، ثم ننقل الكلام إلى ذلك العزم فإما أن يذهب سلسلة العزمات المترتبة إلى غير النهاية أو ينتهي إلى عزم ليس هو فعلا اختياريا لها، والأول باطل لبطلان التسلسل ولحدوث النفس ولعلمنا علما ضروريا بأن ليس لنا فيما يصدر عنا من الأفعال إلا عزم واحد فتعين الثاني وهو المطلوب.
أقول: لو تم هذا لجرى في الإرادة أيضا فإن اعترف به لزم عليه أن لا يكون العبد فاعلا مختارا أصلا إذ لا قدرة له في الإرادة ولا في العزم الواقع بعدها، وإن أجاب بأن الإرادة واحدة وتعلقها متعددة والتعلق أمر اعتباري والتسلسل في الأمور الاعتبارية جايز أو أجاب بأن الإرادة لا تفتقر إلى الإرادة أو بوجه آخر فهو جواب عن أصل الدليل أيضا والمفهوم من كلام بعض الأصحاب، وهو شارح كشف الحق للعلامة الحلي: أن العزم من اختيار العبد والإرادة صادرة عنه بلا اختيار حيث قال أصل القدرة والإرادة مخلوقتان في العبد لكن الفعل إنما يتحقق بالإرادة الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع وهي يعني الإرادة الجامعة اختيارية.
بيان ذلك: أنه إذا حصل لنا العلم بنفع فعل تتعلق به الإرادة بلا اختيارنا لكن تعلق الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير الإرادة جازمة
ص:25
موجبة للفعل فإنا قد نريد شيئا ومع هذا نتأني ونكف نفسنا عنه لحياء وحمية، وذلك الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الداعي إليه وعدمه إلى عدم هذا الداعي فإن عدم علة الوجود علة العدم وعدم هذا الداعي إلى عدم الداعي إلى هذا الداعي وهكذا وغاية ما يلزم منه التسلسل في العدمات ولا استحالة فيه وبالجملة الإرادة الجازمة اختيارية لاستناد عدم الكف المعتبر فيها بالاختيار وإن لم يكن نفس الإرادة إرادية ولا يلزم التسلسل المحال انتهى، ولاخفاء في دلالته على ما ذكرنا فإن الإرادة الجازمة هي الإرادة المؤكدة بالعزم والقطع على الفعل فأصل الإرادة اضطرارية والعزم اختياري.
(وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك) الشهوة للشيء حالة فائضة على النفس من المبدء بعد تصور ذلك الشئ وتصور منافعه والكراهة للشيء حالة فائضة عليها بعد تصوره وتصور مضاره كما تجد ذلك عند شهوتك للطعام وكراهته مثلا.
(ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك) الرغبة انبساط النفس وحالتها الفائضة من المبدء عند مشاهدة شئ مرغوب أو تصوره والرهبة يعني الخوف انقباض النفس وحالتها الفائضة عليها عند مشاهدة شئ مؤذ أو تخيله كما تجد ذلك في نفسك إذا رأيت شبحا في مغارة وظننت أنه أسد، ثم ظهر ذلك أنه إنسان صديق لك (ورجاؤك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك) الرجاء كيفية نفسانية فائضة من المبدء بملاحظة نافع شديد النفع واليأس انقطاع الرجاء كما تجد ذلك في نفسك إذا كنت محتاجا إلى الماء للشرب أو الزرع ورأيت سحابا ممطرا، ثم انكشفت وتفرقت أجزاؤه قبل أن يمطر فإنك تجد لنفسك يأسا بعد رجاء من غير أن يكون لك اختيار فيهما.
(وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك) العزوب بالعين المهملة والزاي المعجمة الغيبة والذهاب والبعد يقال: عزب عني فلان من باب منع وضرب إذا غاب وذهب وبعد والخطور الحصول، يقال: خطر أمر بباله وعلى باله خطورا من باب طلب إذا حصل فيه والخاطر اسم فاعل منه بمعنى الحاصل في الذهن وقد يطلق على الذهن كما يقال: أليس في خاطرك كذا، والمراد به هنا هو الشعور والإدراك بقرينة تعديته بالباء وإضافته إلى الفاعل وهو كاف الخطاب ويجوز استعمال الفاعل في المصدر كما يجوز عكسه والمقصود أن شعورك بما لم يكن حاصلا في ذهنك وحصوله في وهمك بعد ما لم يكن وذهاب شئ عن ذهنك بعد ما كان فيه ونسيانك إياه من غير أن يكون لك اختيار فيه دل على أن ذلك بإفاضة مفيض وإزالة مزيل وهو القادر الذي أنت مقهور تحت قدرته وإرادته فقد أشار (عليه السلام) إلى ظهور المبدء القادر (1) بأن هذه
ص:26
الصفات النفسانية الفائضة على النفس ليست مستندة إلى الطبيعة لأن الطبيعة لا يصدر منها الضدان ولو في وقتين ولا إلى إرادة النفس إذ لا مدخل لإرادتها فيها كما يظهر بالتأمل والوجدان بل إلى قادر قاهر يفعل بها ما يشاء، وقد اعترف الزنديق به حيث قال (وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي) أي آثارها (التي لا أدفعها) أي لا أنكرها ولا أقدر على دفعها (حتى ظننت أنه) أي المبدء لتلك الآثار (سيظهر فيما بيني وبينه) كظهور المحسوسات وإنما لم يذعن به طبعه الدني وذهنه الغبي لسواد قلبه وفساد لبه وزوال استعداده لقبول الحق «ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور».
3 - حدثني محمد بن جعفر الأسدي، عن محمد بن إسماعيل البرمكي الرازي عن الحسين بن
ص:27
الحسن بن برد الدينوري، عن محمد بن علي، عن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن (عليه السلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن (عليه السلام): أيها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو - كما تقولون ألسنا وإياكم شرعا سواء، لا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟ فسكت الرجل، ثم قال أبو الحسن (عليه السلام): وإن كان القول قولنا - وهو قولنا - ألستم قد هلكتم ونجونا؟ فقال: رحمك الله أوجدني كيف هو وأين هو؟ فقال: ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط هو أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ. فقال الرجل: فإذن إنه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس؟ فقال: أبو الحسن (عليه السلام): ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا بخلاف شئ من الأشياء. قال الرجل: فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان، قال الرجل: فما الدليل عليه؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا.(1)
(حدثني محمد بن جعفر الأسدي) رحمة الله عليه هو محمد بن أبي عبد الله الذي يروي عنه المصنف كثيرا.
قال النجاشي: محمد بن جعفر بن عون الأسدي يقال له: محمد بن أبي عبد الله (عن محمد بن إسماعيل البرمكي الرازي) ربما قيل: إن فيه دلالة على أن محمد بن إسماعيل الذي وقع في صدر بعض السند واختلف الأصحاب فيه هو البرمكي لأن المصنف إذا روى عنه بواسطة واحدة جاز أن يروي عنه بلا واسطة أيضا لقرب العهد (2).
(عن الحسين بن الحسن بن برد الدينوري، عن محمد بن علي، عن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن (عليه السلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن (عليه السلام): أيها الرجل أرأيت) أخبرني (إن كان القول قولكم) من أنه ليس لهذا العالم مدبر ولا
ص:28
لهذا الخلق معاد ولا ثواب ولا عقاب (وليس هو كما تقولون) الهمزة لإنكار النفي أو لتقرير المنفي (وإياكم شرعا) بفتح الشين وسكون الراء أو فتحها ويستوي فيه الواحد والمذكر والمؤنث والاثنان والجمع (سواء) تأكيدا لشرعا يقال: الناس في ذلك شرع أي سواء والمعنى أنا وإياكم متساوون في الأحوال لا فضل لنا عليكم ولا لكم علينا (لا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا) من العقايد المتعلقة بأحوال المبدء والمعاد والحشر والنشر والثواب والعقاب (فسكت الرجل) ولم يجب شيئا لعلمه بالمساواة وعدم إضرار هذه الأمور على هذا التقرير إذ إضرارها إنما يتصور إذا كان هناك رب قاهر طالب لتركها وهم لا يقولون بذلك.
(ثم قال أبو الحسن (عليه السلام) وإن كان القول قولنا وهو قولنا) من أن لهذا العالم مدبرا وعلى الخلق تكليفا يترتب عليه الثواب والعقاب (ألستم قد هلكتم ونجونا) من الهلاك والعقوبات وأمثال هذا الكلام الصادر عن الحكيم من الخطابيات والموعظة الحسنة والمحرضة للقلوب القاسية على سلوك سبيل الاحتياط، وقد قيل «من سلك سبيل الاحتياط فليس بناكب عن الصراط».
(فقال: رحمك الله أوجدني كيف هو وأين هو) الإيجاد الإظفار يقال: أوجده الله مطلوبه أي أظفره به وكيف سؤال عن الأحوال والكيفيات وأين سؤال عن المكان إذا قلت أين زيد تسأل عن مكانه والمعنى أظفرني بمطلوبي وأوصلني إليه وهو أنه كيف هو وأين هو يعني بين لي كيفيته وأظهر لي مكانه.
(فقال: ويلك إن الذي ذهبت إليه) من أن له كيفا وأينا (غلط) نشأ من فساد عقيدتك وضعف بصيرتك وتقيدك بقيد الحواس وعدم تجاوزك من المحسوسات إلى قدس الحق فشبهته بالخلق وظننت المساواة بينهما فأجريت حكم الخلق عليه وحكمت بثبوت الكيف والأين له (هو أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف) أي جعل الأين أينا بلا أين له أو بلا أين قبله وجعل الكيف كيفا بلا كيف له أو بلا كيف قبله وفيه دلالة على أن المهيات مجعولة (1) أو أحدث الأين والكيف بالجعل البسيط أعني إفاضة الوجود.
ص:29
(فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونية) لأنه كان موجودا قبلهما خاليا عنهما لما عرفت من أنه موجد لهما فلو اتصفت بهما لزم نقصه في ذاته واستكماله بخلقه ولزم أن يتحرك ويتغير من وصف إلى وصف وأن يحتاج إلى خلقه وأن يشوب عالم الوجوب الذاتي بعالم الإمكان وأن يكون جسما أو عرضا لأن ذا المكان والكيف يجب أن يكون أحدهما وهذه اللوازم كلها باطلة في شأنه تعالى (ولا يدرك بحاسة) لتخصص إدراكها بالأجسام وكيفيتها وتنزهه تعالى عن الجسمية ولواحقها ويمكن حمل الحاسة على القوى المدركة كلها لأنه تعالى لا يمكن إدراكه بشئ من أنحاء الإدراك إلا أن التخصيص أنسب بمقام السؤال (ولا يقاس لشئ) لتقدسه عن التشبه بخلقه في الجسمية والكيفية وغيرهما من توابع الإمكان.
(فقال الرجل فإذن أنه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس) يريد أن الذي وصفته ليس بموجود إذ كل موجود فهو مدرك بالحواس وهذا بناء على أن الزنادقة لا يحكمون بالوجود إلا على المحسوسات (1) فيجزمون بعدم وجود ما ليس بمحسوس لعدم كونه محسوسا ولا يعلمون أن عدم الإحساس بشئ لا يدل على عدم وجوده.
(فقال أبو الحسن (عليه السلام) ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه) لتقدسه عن نيل الحواس وتنزهه عن دخوله في حيز المحسوسات (أنكرت ربوبيته) للممكنات وافتقار الممكنات إليه في ذواتها وصفاتها وكمالاتها (ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا بخلاف شئ من الأشياء) لأن مذاهب العقول والأفهام ترتفع إلى كل شئ سواه وطرق الحواس والأوهام ترتقي إلى كل موجود عداه أما إليه فقد قصرتا عن الارتفاع والارتقاء وضلتا في بيداء العظمة والكبرياء، وأيضا كل معقول يمكن أن يدركه العقل ويحده بحد وكل محسوس يمكن أن يناله الحس ويصفه بوصف
ص:30
والرب ليس بمحدود ولا موصوف وأيضا كل محسوس لكونه جسما وجسمانيا مفتقر في الوجود وتوابعه إلى الغير والرب غني من الغير من جميع الوجوه فوجب أن يكون غير مدرك ولا محسوس، فالتنزه عن الإدراك والإحساس الذي جعلته دافعا للربوبية مصحح لها عندنا.
(قال الرجل: فأخبرني متى كان) لما عرف الرجل اندفاع سؤاله من جهة الكيف والأين استأنف سؤالا آخر من جهة «متى» وهو سؤال عن الزمان وحصول الشئ فيه، فقال: أخبرني عن أول زمان كونه ووجوده وهذا أيضا غلط نشأ منه لظنه أنه يدخل في وجود الرب متى تشبيها له بالزمانيات.
(قال أبو الحسن (عليه السلام) إني لما نظرت إلى جسدي) هكذا في النسخ التي رأيناها وإنما لم يجب (عليه السلام) عن هذا السؤال وأشار إلى أدلة وجوده لأن الجواب عنه يعلم من الجواب عن السؤال السابق، والظاهر أنه سقط في البين جواب وسؤال والذي يدل على السقوط والساقط جميعا ما رواه الصدوق من هذه الرواية في كتاب التوحيد بعد هذا السؤال.
«قال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان (1) قال الرجل فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن (عليه السلام) إني نظرت إلى جسدي» وهذا الجواب الساقط بحسب الظاهر من باب المعارضة بالمثل وبناؤه على ما هو الحق الصحيح من أن كل شئ له وجود حادث، له عدم سابق فكما يصح أن يقال متى كان صح أن يقال متى لم يكن أما ما لم يكن له وجود حادث لم يكن له عدم سابق فكما لا يصح أن يقال متى لم يكن لا يصح أن يقال: متى كان، فمتى لا يصح تعلقه بالوجود إلا إذا صح تعلقه بالعدم وأما بحسب التحقيق فالمقصود أنه متى لم يكن ربي حتى يقال متى كان، كان ربي قبل القبل في أزل الآزال وبلا قبل ولا غاية فلا يصح أن يقال متى كان ومتى لم يكن ولا تجري فيه مقولة متى وإنما يجري في الحوادث والزمانيات.
ولما عرف الرجل اندفاع سؤاله عن مقولة متى أيضا سأل عن الدليل على وجوده بقوله «فما الدليل عليه» أي على وجود الرب.
قال (عليه السلام) لإثبات وجوده بالدليل الإني المفيد لليقين «إني لما نظرت إلى جسدي» الذي هو البناء العظيم والعالم الكبير لاشتماله على أعضاء مخصوصة وأركان معينة وقوى معلومة وعروق ساكنة ومتحركة على نضد عجيب وتركيب غريب لمصالح كثيرة ومنافع جليلة التي يعجز عن تحريرها
ص:31
لسان البيان وعن تحديدها عقول أصحاب العرفان (ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ورفع المكاره عنه) المكاره جمع المكروه وهو ما يكرهه الإنسان ويشق عليه والمكره بالضم والفتح المشقة مثل المصايب والنوايب الواردة على الإنسان.
(وجر المنفعة إليه) النفع ضد الضر يقال: نفعته بكذا فانتفع والاسم المنفعة (علمت أن لهذا البنيان) المشتمل على عجايب الخلقة ولطايف الفطرة (بانيا) بناه على عمد وتدبير وعلم وتقدير (1) وفيه استعارة مصرحة ترشيح (فأقررت به) أي بوجوده وربوبيته وقدرته ألا ترى أنك إذا رأيت بناء مركبا من آلات مثل الطين والحجر والجص والآجر والخشب ونحوها جزمت بأن له بانيا بناه وإن لم تشاهده ونسبت من قال: إنه حدث بنفسه ووجد من قبل ذاته إلى السفه والجنون. وفي كتاب درة التاج إنه كان لبعض الملوك شك في وجود الصانع وتنبه به وزيره وكان عاقلا فأمر ببناء قصور عالية وإجراء مياه جارية وإحداث بساتين عامرة في مفازة من غير أن يعلم الملك ذلك ثم ذهب بالملك إلى ذلك المقام فلما رآه الملك قال: من بناه قال الوزير: حدث تلقاء نفسه وليس له بان، فغضب عليه الملك فقال الوزير: يطول عمرك ايها الملك إن كان وجود هذا البناء بلا بان ممتنعا فكيف يصح وجود هذا البناء العظيم أعني الأرضين والسماوات وما فيهن من العلويات والسفليات بلا فاعل؟ فاستحسن الملك وتنبه وزال عنه الشك (2).
ص:32
(مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته) (1) في الهواء مع كمال العظمة شرقا وغربا على أنحاء مختلفة من البطوء والسرعة وأحوال متنسقة من الذهاب والرجعة وهذا الدوران وما فيه من المنافع الكثيرة والمصالح الجليلة والأسرار الخفية التي تعجز العقول عن إدراك تفاصيلها ويحتاج في معرفة بعضها إلى دقة تفكر ولطف تدبر دليل واضح على وجود الصانع وحسن تدبيره وثبوت القادر ولطف تقديره ألا ترى أن من أنكر أن يكون دوران الدولاب الأصغر المركب من الخشبات لإصلاح الحديقة مستندا إلى صانع ومحرك له وقال: إنه وجد بنفسه وتحرك بذاته، ويزجره كل سامع أشد زجرة وينكر قوله أشد إنكار ويصر على تجهيله أشد إصرار وما ذلك إلا لأن دلالته على صانعه ومحركه ظاهرة بالضرورة وإذا كان الحال في هذا الدولاب ما عرفت فدلالة دوران ذلك الدولاب الأعظم الذي يدور على بسيط الأرض لإصلاح هذا العالم على وجود الصانع أظهر وعلى ثبوت
ص:33
المحرك له أولى وأجدر (وإنشاء السحاب) أي إيجادها وتحريكها في جو السماء إلى جهات مختلفة وبلاد متباعدة وهي حاملة للماء لإحياء الأرض وإنبات الزرع وغيرهما من المنافع التي لا تخفى على أرباب البصاير وأصحاب الضماير.
(وتصريف الرياح) شرقا وغربا جنوبا وشمالا وهو سبب عظيم لبقاء الحيوان والنبات واستعداد الأمزجة للصحة والنمو والثبات حتى قال كثير من الأطباء: إنها تستحيل روحا حيوانيا، ومن جملة المنافع أنها تحمل السحاب المترعة بالماء بين الأرض والسماء وتسوقها على وفق الحكمة البالغة إلى الأقطار لتصيب الأرض الميتة وتملأ العيون والأنهار.
(ومجرى الشمس والقمر والنجوم) (1) جريا مخصوصا في منازلها ومداراتها إلى جهات مختلفة تارة إلى الشمال وتارة إلى الجنوب وعلى أحوال متغايرة من السرعة والبطوء والإقامة والاستقامة والرجعة وعلى أوضاع متباينة من التقابل والتقارن والتربيع والتسديس إلى غير ذلك من آثار القدرة التي يتحير فيها أولو الأبصار يقولون «ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار».(2)
(وغير ذلك من الآيات العجيبات) العلوية والسفلية (المبينات) أي الكاشفات المظهرات لوجود الصانع وقدرته وحسن تدبيره إن قرئت بكسر الياء، أو المكشوفات الموضحات في العقول أو في العلوم الباحثة عن الأمور السماوية (3) والأرضية إن قرئت بفتحها (علمت أن لهذا مقدرا منشئا) قدره على عمد وتدبير، وأنشأه على علم وتقدير، والعجب أنك ترى هذا الصنع العجيب والإبداع الغريب ولا تدهشك قدرة صانعه وعظمته ولا تحيرك جلالة مبدعة وحكمته.
ص:34
4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن إسحاق الخفاف، أو عن أبيه، عن محمد ابن إسحاق قال:
إن عبد الله الديصاني سأل هشام بن الحكم فقال له: ألك رب؟ فقال: بلى، قال أقادر هو؟ قال: نعم قادر قاهر، قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام: النظرة فقال له: قد أنظرتك حولا، ثم خرج عنه، فركب هشام إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له: فقال له: يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): عما ذا سألك؟ فقال: قال لي كيت وكيت، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) يا هشام كم حواسك؟ قال: خمس قال: أيها أصغر؟ قال: الناظر، قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها فقال له: يا هشام! فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى، فقال:
أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إن الذي» يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منه قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه وقال: حسبي يا ابن رسول الله وانصرف إلى منزله.
وغدا عليه الديصاني فقال له: يا هشام إني جئتك مسلما ولم أجئك متقاضيا للجواب فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب. فخرج الديصاني عنه حتى أتى باب أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له فلما قعد قال له؟ يا جعفر بن محمد! دلني على معبودي؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما اسمك؟ فخرج عنه ولم يخبره فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك؟ قال: لو كنت قلت له عبد الله كان يقول: من هذا الذي أنت له عبد، فقالوا: له عد إليه وقل له:
يدلك على معبودك ولا يسألك عن اسمك، فرجع إليه فقال له: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): اجلس، وإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة فناوله إياها فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا ديصاني، هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبرا؟ قال: فأطرق مليا ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأنك إمام وحجة من الله
ص:35
على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه.(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن إسحاق الخفاف أو عن أبيه عن محمد بن إسحاق) الشك من المصنف (قال: إن عبد الله الديصاني) الديصاني بالتحريك عن داص يديص ديصا إذا زاغ ومال، ومعناه الملحد (2).
(سأل هشام بن الحكم فقال: ألك رب؟ فقال بلى قال: أقادر هو؟ قال: نعم قادر) على ما يريد ولا يعجزه شئ (قاهر) يقهر الممكنات بما يشاء من الإنفاذ فيها ولا تطيق الأشياء الامتناع منه، فإن قلت: نعم قد وقع في موضعه لأنه للتصديق والإثبات لما بعد الهمزة أما بلى فلا لأنه للايجاب بعد النفي ولا نفي هناك، قلت: النفي أعم من أن يكون صريحا أو مفهوما من سياق الكلام كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل والثاني هنا متحقق لأن السائل كان منكرا للرب ووجوده.
(قال: يقدر أن يدخل الدنيا) أي السماوات والأرضين وما بينهما (كلها البيضة) أي في البيضة بحذف حرف الجر منها ونصبها بالمفعولية (لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا) في محل النصب على الحالية.
(قال هشام: النظرة) أي أطلب منك النظرة وهي بفتح النون وكسر الظاء الإمهال والتأخير يقال أنظره أي أمهله وأخره واستنظره أي استمهله (فقال له قد أنظرتك حولا) أي إلى حول قال ذلك لظنه بصعوبة الجواب.
(ثم خرج فركب هشام إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له فقال له يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسئلة ليس المعول فيها) المعول بكسر الواو الصارخ والأظهر أنه بفتح الواو
ص:36
مصدر ميمي بمعنى الاعتماد والاستعانة من عولت به وعليها إذا استعنت أي ليس الاعتماد والاستعانة في تلك المسألة لصعوبتها.
(إلا على الله وعليك فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) عما ذا سألك فقال: قال كيت وكيت) هي كناية عن الأمر والقول في النهاية قال أهل العربية أصلها كية بالتشديد والتاء فيها بدل من إحدى الياءين والهاء التي في الأصل محذوفة وقد تضم التاء وتكسر.
(وقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام كم حواسك قال: خمس) هي الباصرة والسامعة والشامة والذائقة واللامسة يدرك بها المبصرات والمسموعات والمذوقات والملموسات.
(قال: أيها أصغر؟ قال الناظر قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها فقال له: يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى؟ فقال أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري) الدور بضم الدال وسكون الواو جمع الدار وهي المنازل المسكونة والمحال وقد يطلق على القبايل المجتمعة في محلة مجازا من باب تسمية الحال باسم المحل ويمكن أن يقال: إن إطلاقها على المحلة من باب الاستعارة لأن المحلة جامعة لأهلها كالدار كما يشعر به كلام صاحب المغرب، والبر خلاف البحر ويجمع على براري مثل صحاري بفتح الراء على الأفصح.
(وجبالا وأنهارا فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة وأقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة فأكب هشام عليه) أي أقبل إليه أو ألقى نفسه عليه.
يقال: كبه بوجهه أي صرعه أو فأكب هو على وجهه. ومن النوادر أن يكون الثلاثي المجرد للتعدية وبناء الإفعال منه للزوم.
(وقبل يديه ورأسه ورجليه) ابتهاجا وسرورا وتعظيما وقضاء لحق التعليم والإرشاد (وقال حسبي) أي يكفيني (هذا) في الجواب عن سؤاله (يا ابن رسول الله وانصرف إلى منزله وغدا إليه) أي جاءه غدوة في أول النهار.
(فقال: يا هشام جئتك مسلما) أي لأسلم عليك (ولم أجئك متقاضيا للجواب) طالبا.
(فقال له: هشام إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب) ها بالقصر وهاء ساكنة الألف وهاء بمدها وفتحها وهاك كلها اسم فعل بمعنى خذ ولهذا الجواب وجهان.
أحدهما وهو المقصود انطباع صورة المرئي في الجليدية على نحو الوجود الظلي كما هو مذهب الطبيعيين من أن الإبصار بالانطباع.
وثانيهما دخول عين المرئي المتقدر بالمقدار الكبير فيها من غير أن يصغر أحدهما أو يكبر
ص:37
الآخر وهذا محال والمحال لا يتعلق به القدرة وعدم تعلقها به لا يوجب العجز كما يدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد باسناده عن عمر بن أذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا وتكبر البيضة؟ قال:
«إن الله لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا تكون» يعني أن الله لا يعجز عن شئ من الممكنات والذي سألتني عنه محال لا يتعلق به القدرة وعدم تعلقها به لا يوجب العجز والنقص إذ لا نقص فيها وإنما النقص في المحال لعدم كونه قابلا للوجود.
فإن قلت: الديصاني سأل عن قدرته على إدخال عين المقدار الكبير في الصغير لا على إدخال صورته فيه فليس هذا الجواب جوابا عنه قلت: الجواب صحيح واقع على وفق الحكمة والمقام.
بيان ذلك أن الديصاني لما كان منكرا لوجود الرب القادر وكان غرضه من هذا السؤال إلزام القائلين بوجوده فلو أجيب بأنه يقدر على الإدخال العيني كان الجواب غير مطابق للواقع لكون هذا الإدخال محالا فلم يكن له مصداق في المحسوسات والسائل لا يحكم إلا بما فيها ولو أجيب بأنه لا يقدر عليه لأنه محال وعدم تعلق القدرة لا يوجب العجز كما أجاب به أمير المؤمنين (عليه السلام) رسخ بذلك عدم قدرته على الإطلاق في ذهنه وازداد جهله وحصل غرضه على زعمه (1) فالحكمة والمقام يقتضيان أن يجاب بجواب متشابه مجمل له وجهان يصح باعتبار أحدهما.
ثم السائل لما عرف من هذا الجواب قدرته على إدخال كبير المقدار في صغير المقدار لم يكن له الإقدام على الإنكار ولم يكن عارفا بحقيقة الأبصار ولا فارقا بين عين المرئي وصورته سكت ولم
ص:38
يقل مرادي غير ما أردت من هذا الجواب وقد وجه سيد الحكماء الإلهيين جوابه (عليه السلام) بوجهين آخرين أحدهما أن الذي يقدر أن يدخل ما تراه العدسة لا يصح أن ينسب إلى العجز ولا يتوهم فيه أنه غير قادر على شئ أصلا وعدم تعلق قدرته بإدخال الدنيا في البيضة من غير أن تصغر تلك وتكبر هذه ليس من تلقاء قدرته وقصور فيها ولا من حيث أنه ليس قادرا على شئ بل إنما ذلك من نقصان ما فرضته حيث أنه محال ليس له حظ من الشيئية والإمكان ولو تصح له حظ منهما لكان تعلق القدرة به مستمرا كتعلقها بكل شئ وثانيهما أن ما يتصور من إدخال الدنيا في البيضة من غير أن تصغر تلك وتكبر هذه إنما هو بحسب الوجود الانطباعي والله سبحانه قادر على ذلك حيث أدخل ما تراه في الجليدية وأما ذلك بحسب الوجود العيني فليس هو شيئا يتصور ويعبر عنه بمفهوم أصلا إنما الشئ والمفهوم منه هو المعبر به فقط لا المفروض المعبر عنه.
وقال بعض المحققين رفع الله تعالى قدره (1) في توجيه الجواب: أن الديصاني سأل أنه هل يقدر ربك على إدخال الكبير في الصغير من غير التفات إلى إدخال عين الكبير أو صورته وأنه هل لهذا الإدخال مصداق في الخارج فأجاب (عليه السلام) بأن لهذا النحو من الإدخال مصداقا فيه وهو إدخال الصورة المحسوسة المتقدرة بالمقدار الكبير بنحو الوجود الظلي في الحاسة ولا استحالة فيه إذ كون الصورة الكبيرة فيها بالوجود الظلي لا يوجب اتصافها بالمقدار الكبير وإنما يوجب اتصافها به
ص:39
إدخال المتقدر بالمقدار الكبير فيها بالوجود العيني ولما كان منظور السايل ما يشمل هذا النحو من الإدخال ولم يكن نظره مقصورا على الإدخال العيني لم يقل بعد ما سمع الجواب: مرادي الإدخال العيني والإدخال في الحاسة ليس من هذا القبيل فيتأمل.
(فخرج الديصاني عنه حتى أتى باب أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فإذن له فلما قعد قال له يا جعفر بن محمد دلني على معبودي) الذي عرفت قدرته أو إستحق العبادة مني بزعمك أو وجب علي عبادته إن علمت وجوده.
(فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما اسمك; فخرج عنه ولم يخبره باسمه فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك قال: لو كنت قلت له: عبد الله كان يقول من هذا الذي أنت له عبدا) وهذا دفع لما أنا فيه ولا مفر لي عنه (فقالوا: عد إليه وقل له يدلك على معبودك ولا يسألك عن اسمك فرجع إليه فقال له: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي فقال له أبو عبد الله (عليه السلام):
اجلس وإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا غلام ناولني البيضة فناوله إياها فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا ديصاني هذا حصن مكنون) أي مستور ما فيه أو مصون من جميع جوانبه لا فرجة فيه ولا باب له من كننت الشئ أي سترته وصنته وإنما استدل (عليه السلام) على وجوده الصانع بالجزئي المحسوس لأنه أقرب إلى فهم المخاطب ولذلك شاع في تفهم المطالب العالية ذكر الأمثلة الجزئية ولأن المخاطب كان زنديقا والزنادقة لا يحكمون إلا في المحسوسات ولا يقبلون إلا ما يدركون بحواسهم.
(له جلد غليظ) كسور الحسن لحفظه عن تطرق الفساد إليه بسهولة (وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق) لمنع المايع الذي فيه من السيلان إن وقع كسر ما في الجلد الغليظ ولمنافع أخرى يعرفها أرباب البصاير.
(وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة) الذهب مؤنث معنوي لأن تصغيره ذهيبة والتاء في ذهبة على نية القطعة منها (وفضة ذائبة) ذاب الشئ يذوب ذوبا وذوبانا نقيض جمد وإذا به غيره وفضة مذوبة وإن كانت أنسب ليكون إشعارا بصدور الذوب عن المبدء لكن قال فضة ذائبة لرعاية المناسبة مع قوله ذهبة مايعة وإطلاق الذهبة والفضة هنا على سبيل التشبيه والاستعارة وإنما اعتبر الميعان في الذهبة والذوبان في الفضة مع أن الأولى أن يعتبر الذوبان فيما يشبه بالذهبة والميعان فيما يشبه بالفضة لأن الميعان أنسب بالذهبة والذوبان أنسب بالفضة بالنظر إلى المعنى الحقيقي إذ الذهب ألين من الفضة والفضة أجمد وأصلب من الذهب وعلى هذا فذكر الميان والذوبان ترشيح للاستعارة لا تجريد.
ص:40
(فلا الذهبة المايعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة) مع أن تقارن المايعين وتلاقيهما يقتضي اختلاط كل منهما بالآخر (فهي على حالها) أي مصونة منتظمة ومتقنة غير خارجة عما فيه صلاحها. (لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها) أخبرته بكذا وخبرته بمعنى فالأصل في الإخبار والتخبير التعدية إلى المفعول الثاني بالباء وقد شاع التعدية أيضا بعن فعن هنا في موضعها أبو بمعنى الباء لأن الحروف الجارة قد يجيء بعضها في موضع بعض، ويحتمل أن يكون بمعنى المجاوزة كأنة جعل الخارج منها صلاحها تاركا بحالة وجاوزه إلى خارج يخبره به (ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها) في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي «عن إصلاحها وعن إفسادها» وهاتان الفقرتان ناظرتان إلى قوله «حصن مكنون» يعني لم يخرج من البيضة موجود مصلح لها فيخبرك عن صلاحها الناشي منه ولا دخل فيها موجود مفسد لها فيخبرك بعد خروجه عن فسادها الناشي منه وزوالها عن نظامها، والمقصود نفي أن يكون صلاحها وفسادها مستندين إلى شئ من أجزاء هذا العالم ليثبت أنهما مستندان إلى رب قادر ليس بجسم ولا جسماني (1) ولقد أعجبني نسبة الإصلاح إلى ما يخرج منها ونسبة الإفساد إلى ما يدخل فيها لأن هذا شأن أهل الحصن الحافظ له وحال الداخل فيه بالقهر والغلبة.
(لا يدرى أللذكر خلقت أم للأنثى تنفلق عن مثل ألوان الطواويس) ضمن تنفلق معنى الكشف
ص:41
فعدى بعن أي تنشق كاشفة عن حيوان له ألوان الطواويس في حسن الهيئة وكمال الحلقة الدالين على كمال قدرة المدبر والطاؤوس طاير معروف ويصغر على طويس بعد حذف الزيادات.
(أترى لها مدبرا) صانعا قادرا قاهرا يفعل فيها ما يشاء والا ستفاهم لحقيقته أو للتقرير.
(قال فأطرق مليا) أي أرخى رأسه وجفونه إلى الأرض زمانا طويلا راجعا إلى نفسه يشاورها فلما أخذت يده العناية الأزلية والرحمة الربانية مال عما كان عليه إلى الإيمان بالله.
(ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله) وأكد الحصر المفيد للتوحيد المطلق بقوله (وحده لا شريك له) للمبالغة في نفي الشركة (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) إلى عباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور (وأنك إمام وحجة) من الله (على خلقه) لئلا يكون لهم حجة على الله يوم القيمة (وأنا تائب) أي راجع (مما كنت فيه) من الزندقة وإنكار الرب الصانع القادر والحمد لله رب العالمين.
5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (عليه السلام) وكان من قول أبي عبد الله (عليه السلام)، لا يخلو قولك: إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه ويتفرد بالتدبير وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني.
فإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا والتدبير واحدا والليل والنهار والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد، ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة.
قال هشام: فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام)، وجود الأفاعيل دلت على أن صانعها صنعها. ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده، قال: فما هو؟ قال: شئ بخلاف الأشياء أرجع بقولي إلى إثبات معنى وأنه شئ بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان.(1)
ص:42
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عباس بن عمرو الفقيمي) فقيم حي من كنانة والنسبة إليه فقيمي مثل هذيل وهذيلي.
(عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (عليه السلام)) وقال: لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد قال القطب العلامة: حجة الزنادقة أنا نرى في العالم خيرا وشرا والواحد لا يكون خير أو شريرا والجواب أن الخير إن لم يكن قادرا على دفع الشرير فهو عاجز والعاجز لا يصلح للربوبية وإن كان قادرا عليه ولم يدفعه فهو أيضا شرير وهذا الجواب إقناعي صالح لدفع قولهم، وشبهتهم في غاية الخسة وظهور فسادها غني عن البيان.
(كان من قول أبي عبد الله (عليه السلام)) إنما جاء بحرف التبعيض لأنه كان للزنديق سؤالات متكثرة وكان له (عليه السلام) أجوبة متعددة يظهر ذلك لمن نظر في كتاب الاحتجاج.
(لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا قديمين) لا أول لوجودهما (1) (قويين) أي متساويين في القوة: القدرة على فعل كل واحد واحد من الممكنات مستقلين بإرادته ودفع كل ما يمنع نفاذها كما هو شأن واجب الوجود بالذات حيث أنه يجب أن يكون قاهرا على جميع ما سواه (أو يكونا ضعيفين) ليس لواحد منهما تلك القوة والقدرة والاستقلال (أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا) هذه احتمالات ثلاثة لا يزيد ولا ينقص وكلها باطل وفي بطلان الثالث إثبات للوحدة.
(فإن كان قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه) عن التصرف.
(وينفرد بالتدبير) والربوبية ويتخلص عن نقص المشاركة، والحاصل أن كونهما قويين على الاطلاق يقتضي جواز دفع كل واحد منهما صاحبه لأن من شأن القوي المطلق أن يكون قاهرا على جميع ما سواه كما عرفت وجواز ذلك يوجب بالضرورة ضعف كل واحد منهما وعدم استقلاله
ص:43
وكماله في القدرة والقوة وهذا نقيض المفروض وكل ما يلزم من فرضه نقيضه فهو باطل، ثم يلزم من تساويهما في القوة والدفع إما عدم التكوين والإيجاد إن توافقت إرادتهما وإليه يشير قوله تعالى «قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»(1)وقوله تعالى «ولعلا بعضهم على بعض»(2) أو تحقق الضدين معا إن تخالفت بأن يريد أحدهما شيئا والآخر ضده أو عدمه فإنه إذا منع كل واحد منهما صاحبه عن مراده لزم تحقق الضدين فإن قلت: تحقق الضدين غير محتمل إذ لا يقع بينهما مخالفة في الإرادة (3).
أما أولا فلأن كل واحد منهما حكيم والحكيم لا يريد إلا ما هو الأفضل والأفضل من الطرفين ليس إلا واحدا.
وأما ثانيا: فلعلمهما في الأزل بالكاينات كلها والكاين من الطرفين ليس إلا أحدهما فلذلك العلم يمنع وقوع المخالفة بينهما، قلنا الأول مدفوع لأن الفعل لو لم يتوقف على الدواعي والمصالح ويحصل بمجرد الإرادة جاز وقوع المخالفة بينهما في الإرادة وكذا إن توقف عليها لأن الدواعي والمصالح قد تتعلق بالطرفين من جهتين والثاني أيضا مدفوع لأن العلم لا يمنع وقوع الاختلاف بينهما في الإرادة إذ العلم تابع للإرادة فلو كان سببا لها لزم الدور هذا وأما القول بأن المقصود من هذا القسم هو أنه لو كانا قويين لزم إما استناد كل معلول شخصي إلى علتين مستقلتين في الإفاضة وذلك محال أو لزم الترجيح بلا مرجح وهو فطري الاستحالة أو لزم كون أحدهما غير واجب بالذات وهو خلاف المفروض وفيه إثبات المطلوب فظني أن هذا التفصيل لا يستفاد من منطوق كلامه (عليه السلام) ولا من مفهومه فليتأمل.
(وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه) أي الصانع (واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني) والعاجز لا يقدر أن يعارض القوي ويدعي الربوبية لنفسه أو يدعي المشاركة فيها
ص:44
بل هو في وجوده ولوازم ذاته وسائر كمالاته محتاج إليه والمحتاج لا يكون واجبا لذاته ويعلم منه حكم ما إذا كانا ضعيفين إذ ليس شئ منهما واجبا لذاته ولهذا لم يذكره ثم استدل على نفي الاثنينية بدليل ثان لا يعتبر فيه التفصيل المذكور وهو أن النظام المتسق بين أجزاء هذا العالم وارتباط بعضها ببعض ارتباطا تاما يقتضي أن يكون مدبره واحدا كما أشار إليه بقوله (فإن قلت إنهما اثنان) في كتاب الاحتجاج «وإن قلت» بالواو وهو عطف على «لا يخلو قولك».
(لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة) الظاهر أن هذا كلامه (عليه السلام) وفائدة ذكره في التنبيه على أن الدليل الآتي يبطل الاثنينية على التقديرين والمراد باتفاقهما من كل جهة اتفاقهما في ايجاد الممكنات واستناد كل واحد واحد منهما إليهما كما يقتضيه الوجوب والإمكان الذاتيين فإن الوجوب الذي يقتضي نفاذ تصرف الموصوف به في جميع الممكنات والإمكان الذاتي يقتضي استناد الموصوف به إلى من هو واجب بالذات، أو المراد باتفاقهما أن يكونا شخصين مشاركين في تمام المهية مندرجين تحت نوع الواجب لذاته متساويين في الآثار المترتبة على تلك المهية ولوازمها ولا تفاوت بينهما إلا بإلهوية المشخصة والافتراق خلاف الاتفاق بالمعنيين فهو بأن يستند بعض الممكنات إلى أحدهما وبعض آخر إلى الآخر بحيث يحصل من المجموع هذا النظام المشاهد أو بأن يكون الاثنان نوعين متباينين في المهية مندرجين تحت جنس الواجب لذاته مختلفين من جهة المهية وآثارها ولوازمها والتمايز بينهما حينئذ بفصول وجودية الامتناع تقوم الموجود بالمعدوم وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون كلام السائل ووصفا لاثنان ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا.
(فلما رأينا الخلق منتظما) على نظام مخصوص ونضد معلوم كما ترى من نضد الأجسام الكروية بعضها فوق بعض وتركيب الأجسام المركبة من العناصر وغير ذلك من نظام هذا العالم (والفلك جاريا) على نحو خاص من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق بحيث إذا انتهت حركته إلى ما بدأ منه عاد إلى الحالة الأولى مع حفاظ حركته دائما على أقدار معينة من السرعة والبطؤ وبذلك يتفاوت أزمنة الحركة الدورية على الضبط المعلوم للمتفكر في الحركات الفلكية.
(والتدبير واحدا) إذ نسبة أجزاء هذا العالم بعضها إلى بعض كنسبة أجزاء هذا البدن بعضها إلى بعض في الارتباط والانتظام فالتدبير فيه كتدبير النفس في البدن وستعرف لهذا زيادة توضيح (والليل والنهار) يتعاقبان فجيء هذا ويذهب ذاك ويجيء ذاك ويذهب هذا ويتفاوتان في القدر فمن أول الصيف إلى أول الشتاء يزيد الليل وينقص النهار ومن أول الشتاء إلى أول الصيف يزيد النهار وينقص الليل مع انضباط الزيادة والنقصان في جميع الأوقات والأزمان كل ذلك لمنافع غير
ص:45
محصورة يعرف جلها أو كلها أصحاب العرفان (والشمس والقمر) لهما تأثير عظيم في السفليات ومنافع جليلة في نشو الحيوانات والنباتات وبهما ينتظم الليل والنهار بالحركة الأولى والسنة والشهر بالحركة الثانية ويتعادل الحر والبرد والرطوبة واليبوسة في الهواء إذ الشمس توجب حرارة الهواء ويبوسته والقمر يوجب برودته ورطوبته ومن ثم كان الليل أبرد وأرطب من النهار.
وقال قطب العلامة لليل ثلاث صفات الظلمة والبرودة والرطوبة وتلك الصفات من علامات الموت ولذلك يموت الحيوانات في الليل ومنه «النوم أخ الموت» ثم إذا ظهر ضوء الشمس وطلع الفجر وحصل للعالم شئ من الحرارة يقومون من مراقدهم ويتحركون إلى مقاصدهم ويزداد قوتهم إلى أن يبلغ الشمس غاية الارتفاع فإذا مالت إلى الغروب نقصت قوتهم إلى أن يزول الشفق الذي هو من أثر ضوئها ثم يموتون ويعود الحالة الأولى وهكذا إلى ما شاء الله العليم القدير.
(دل صحة الأمر والتدبير) أي دلنا فلا يرد أن مدخول لما يجب أن يكون مؤثرا في جوابه وههنا ليس كذلك وعطف التدبير على الأمر إما للتفسير أو المراد بالأمر انتظام الخلق وجريان الفلك واتساق الليل والنهار وحركة الشمس والقمر وسائر النجوم وبالتدبير ربط هذه الأمور بعضها ببعض وملاحظة منافعها ورعاية مصالح هذا العالم من الحيوان وغيره.
(وايتلاف الأمر) أي ارتباط أجزاء هذا العالم وانضمام بعضها ببعض بحيث حصل من مجموعهما شخص مركب من أجزاء متلايمة مناسبة متناسقة، بيان ذلك أن هذا العالم مركب من الجواهر والأعراض والجواهر بعضه متحيز وبعضه مجرد، والمتحيز بعضه بسيط وبعضه مركب والبسيط بعضه عنصري وبعضه فلكي والمركب بعضه حيوان وبعضه نبات وبعضه جماد، والعرض مفتقر إلى الجوهر باعتبار، والجوهر مفتقر إلى العرض باعتبار آخر، وكذا كل واحد من المتحيزات والمجردات وكل واحد من العنصريات والفلكيات مفتقر إلى الآخر بوجه ما والحيوان مفتقر إلى النبات وبالعكس وهما يفتقران إلى العناصر في التركيب والعناصر يفتقر بعضها إلى بعض في تكوين المركبات وأنواع الحيوان وأشخاصه يفتقر بعضها إلى بعض كما يظهر ذلك ظهورا تاما في أفراد الإنسان فإنه لا يتم نظامهم وبقاؤهم ومعاشهم بدون التمدن والتعاون وبالجملة إذا تأملت في هذا العالم تأملا صحيحا كاملا وجدت كل واحد من أجزائه مرتبطا بالآخر ومفتقرا إليه بوجه ما ومنتفعا به انتفاعا محسوسا أو معقولا بحيث يختل نظامه في نفسه بل نظام الكل لولا ذلك الآخر كما يختل نظام أحوال الشخص الإنساني المركب من الإجراء المتشابهة والقوى الظاهرة والباطنة باختلال بعض هذه الأمور.
(على أن المدبر واحد) صنعه على النظام الأحسن والقوام الأتقن بعلمه الشامل وتدبيره
ص:46
الكامل وذلك إما لما قيل من أن التناسب والتلازم بين الشيئين لا يتحقق إلا بعلية أحدهما للآخر أو بمعلوليتهما العلة واحدة موجبة لهما فلو تعدد المدبر اختل الأمر وفسد النظام كما يشير إليه قوله تعالى «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا».(1)
وإما لأن التدبير الواحد لا يجوز استناده إلا إلى مدبر واحد لامتناع اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد شخصي، وإما لأن المدبر الواحد كاف لصدور التدبير الجملي وإذا لاحظنا معه أن المشاركة نقص لا يليق بالواجب بالذات أو لاحظنا لزوم التعطيل علمنا أنه لا مدبر غيره، لا يقال هذه الوجوه إنما تنفي وجود مدبرين متفقين مستقلين في صدور الكل وصدور كل واحد واحد ووجود مدبرين يستقل أحدهما كذلك ويستقل الآخر في البعض لا وجود مدبرين غير متفقين بأن يستقل أحدهما في بعض والآخر في بعض آخر بحيث يحصل من المجموع هذا النظام والتدبير لانا نقول: كل واحد إذا لم يستقل في الكل، فإن استقل مجموعهما لزم أن يكون المجموع هو المدبر وهذا مع كونه باطلا لاستحالة التركيب في الواجب دافع للاثنينية، وإن استقل أحدهما في بعض والآخر في بعض آخر لزم النقص المحال على الواجب بالذات وارتفاع التلازم والايتلاف بين البعضين وإلا لزم عدم استقلال كل واحد في البعض أيضا هذا خلف.
ثم استدل على نفي الاثنينية بدليل آخر من غير ملاحظة هذا العالم ونظامه وايتلافه وهو قوله (ثم يلزمك) وإنما أتى بثم للإشارة إلى بعد مرتبته عن الأولين إذ فيه مع إبطال الاثنين إلزام للقايل بهما ما لا يلزمه هو ولا عاقل غيره فثم للعطف على قوله «فإن قلت إنهما اثنان» وهذا أحسن من جعله عطفا على قوله «فلما رأينا» وجعل المعطوف عليه دليلا على إبطال الاثنين في صورتي الاتفاق والافتراق جميعا أو في صورة الافتراق فقط وجعل المعطوف دليلا على إبطالهما في صورة الاتفاق فقط.
(إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين) متفقين في تمام الحقيقة أو مختلفين إلا أن ما به الامتياز والانفصال وهو المعبر عنه بالفرجة على الأول بالهويات وعلى الثاني بالفصول وإنما عبر عنه بالفرجة الفاصلة بين المحسوسات تقريبا له إلى فهم المخاطب الزنديق إذ وهمه مربوط بالمحسوسات وفهمه متعلق بالجسم والجسمانيات فخاطبه بما يليق بحاله.
(فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما) أي موجودا قديما مع الاثنين أما وجوده فلأنه لو كان أمرا عدميا لزم أن لا يكون لكل واحد منهما مميزا إذ ليس لكل واحد منهما الأمر العدمي الذي للآخر لتحقق معنى الامتياز فلا بد أن يكون له الأمر الوجودي الذي يقابله فلا يرد أنه يجوز أن يكون
ص:47
الفرجة أمرا عدميا فلا يلزم وجود إله ثالث وأما قدمه فلأن الاثنين القديمين ممتازان به فهو أيضا قديم بالضرورة وإنما لم يقل ثالثة قديمة لأنه نظر إلى المعنى وهو مذكر (فيلزمك ثلاثة) أي فيلزمك القول بوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة أو قدماء ثلاثة (فإن ادعيت) في أول الفرض أو بعد الإلزام (ثلاثة لزمك ما قلت ما في الاثنين) من وجوب تحقق الفرجة بينهم ليتحقق الثلاثة (حتى تكون بينهم فرجة) أي فرجة آخري غير المذكور أو أراد بالفرجة الجنس فيصدق على الفرجتين فصح قوله (فيكونوا خمسة) فيكون الثلاثة مع الفرجتين خمسة، فإن قلت: المراد بالفرجة ما به الامتياز ولا شبهة في أنه لا بد لكل واحد من الثلاثة ما يمتاز به عن الآخرين فاللازم حينئذ أن يكونوا ستة لاخمسة، قلت المراد بالفرجة هنا الأمر الوجودي الذي يقع به الامتياز واللازم حينئذ ثبوت الفرجتين لجواز امتياز الثالث عن الأولين بأمر عدمي أي بعدم وجود هذين الفرجتين فيه ولذلك لزم في الفرض الأول ثلاثة لا أربعة، فإن قلت: إذا جاز ذلك في الثالث جاز في الأولين أيضا فلا يتجاوز العدد عن ثلاثة.
قلت: قد عرفت مما ذكرنا أن امتياز كل واحد من الثلاثة بأمر عدمي يقتضي امتياز كل واحد منهم بأمر وجودي ولا أقل امتياز الاثنين منهم به، فإن ادعيت خمسة لزمك ما لزمك في الثلاثة حتى يكون بينهم فرج أربعة فيكونوا تسعة.
(ثم يتنامى في العدد) أي ينتهي المدبر في العدد أو ينتهي القول في عدده (إلى ما لا نهاية له في الكثرة) فيلزمك أن لا تستقر في عدد المدبر على مرتبة معينة من مراتب العدد فإن كل ما ادعيت يلزمك زايدا عليه وأن تقول بأن عدد المدبر يكثر كثرة غير متناهية وهو باطل قطعا، ولعل ما قلناه في شرح هذا الذليل أولى مما قاله بعض الأفاضل (1) من أن المراد أنه يلزمك إن ادعيت
ص:48
اثنين متفقين من كل جهة في استدعاء كل فرد من الممكن من حيث الوجوب الذاتي والطباعي الإمكاني فرجة ما بينهما إذ امتياز الممكنات باستناد بعضها إلى أحدهما وبعضها إلى الآخر يحتاج إلى إله يفيد التميز والاستناد لامتناع الترجيح من جهة الأولين لفرض اتفاقهما من كل جهة وذلك الإله الثالث الذي هو مصدر التميز والاستناد هو المراد بالفرجة بينهما ثم بمقتضي طباع الوجوب:
الإمكان يكون نسبة جميع الممكنات إلى الآلهة الثلاثة سواء، ولما كان كل من الأولين مع الثالث اثنين احتاج إلى فرجتين وهما إلهان آخران والأمر يتمادى إلى ما لا يتناهى.
وجه الأؤلية أن فيه نظرا، أما أولا فلأن اتفاق الاثنين في جواز استناد جميع الممكنات إلى كل واحد منهما لا يقتضي امتناع استناد الترجيح والتخصيص إليهما لأنهما فاعلان بالاختيار فيفعل كل واحد منهما بعضا بمجرد إرادته واختياره ولا يفعل بعضا آخر، وهذا كما أن وجود الممكن وعدمه بالنظر إلى الواجب سواء وهو يختار أحدهما بإرادته.
وأما ثانيا فلأن نسبة جمع الممكنات إليهما في جواز الصدور عنهما وإن كانت سواء لكن يجوز أن يكون كيفية النسبة متفاوتة كافتقارها إلى الواسطة ونحوها ولعل هذا القدر من التفاوت يكفي في تخصيص بعضها ببعض فلا يلزم ثبوت إله ثالث.
وأما ثالثا فلأن الإله الثالث على تقدير ثبوته يجوز أن يكون نسبته إلى الأولين متفاوتة بتفاوت ما به الامتياز في القوة والضعف وبهذا الاعتبار يقسم الممكنات ويخصص بعضها ببعض.
وأما رابعا فلأن هذا الدليل على هذا التفسير بعد تمامه لا يبطل إلهين اثنين في صورة افتراقهما واستقلال كل واحد منهما في بعض دون آخر بخلاف ما ذكرناه فهو أولى منه وكذا أولى مما قاله بعض المحققين من أن المقصود أنك لو ادعيت اثنين كان لا محالة بينهما انفصال في الوجود
ص:49
وافتراق في الهوية ويكون هناك موجود ثالث هو المركب من مجموع ذينك الاثنين وهو المراد بالفرجة، لأنه منفصل الذات والهوية وهذا المركب لتركبه من الواجبات بالذات المستغنيات عن الجاعل كان لا محالة مستغنيا عن الجاعل موجودا لا من تلقاء الصانع إذ افتقار المركب إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه فإذا لم تفتقر أجزاؤه لم يفتقر هو بالضرورة فإذن قد لزمك أن يكون ذلك الموجود الثالث أيضا قديما فيلزمك ثلاثة وقد ادعيت اثنين فإن ادعيت ثلاثة لزمك بمثل ما قلته في الاثنين أن يكون خمسة ثلاثة آحاد وحدانية ورابع مركب من الاثنين وخامس مركب من الثلاثة وعلى هذا القياس، فيلزمك ما لا يتناهى في العدد.
وفيه نظر من وجوه: الأول أن إطلاق الفرجة على هذا المركب لم يثبت لا لغة ولا عرفا، الثاني أن لزوم هذا الثالث من فرض إلهين اثنين ممنوع لجواز أن يكون الوجوب الذاتي مانعا من قبول التركيب، الثالث أن كون هذا المركب واجبا بالذات قديما ممنوع كيف وكل مركب فهو حادث لافتقاره في تركب وتألفه إلى الأجزاء والمؤلف، الرابع أن المركب من الاثنين على فرض الثلاثة ثلاثة فيكون العدد سبعة.
(قال هشام فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه؟) أي على وجوده (1) (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وجود الأفاعيل) المحكمة المتقنة المنتظمة في الآفاق والأنفس (دلت على أن صانعا صنعها) فإنك إذا تأملت في عالم الأجسام من الأفلاك والكواكب والعناصر والمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية وفي اختلاف صفاتها وأفعالها وإمكانها وحدوثها وفي أحوال نفسك وجوارحك وأعضائك وانقلاباتك من طور إلى طور ومن حال إلى حال علمت أن ذلك مستند إلى صانع عليم خبير.
(ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني) البناء مصدر بمعنى المبني فذكر المبني تأكيد.
والمشيد بفتح الميم وكسر الشين وسكون الياء المعمول من الشيد بالكسر والسكون وهو كل شئ طليت به الحائط من جص أو ملاط وبضم الميم وفتح الشين وتشديد الياء المطول يعني إذا نظرت إلى بناء محكم مبني من آلات مثل الطين والجص والأحجار وغيرها (علمت) علما يقينا لا تشك
ص:50
فيه (أن له بانيا) بناه على علم وتدبير.
(وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده) فكما أنك تحكم بأن لهذا البناء بانيا ولا يمنعك عن هذا الحكم عدم مشاهدته حتى أنك تنسب من قال لك: هذا البناء حدث بنفسه ووجب بذاته إلى السفه والجنون كذلك وجب عليك أن تحكم بأن لبناء هذا العالم الذي لا بناء أعظم منه وأتقن ولا صنع أكمل منه وأحسن بانيا بناه على علم وتدبير وصنعه على حكمة وتقدير (1) وإلا لكنت مكابرا لما يقتضيه صريح عقلك.
ولما سمع الزنديق دليلا على وجود الصانع (قال: فما هو؟) سأل بما هو عن كنه حقيقته وذاته أو عن خواصه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره (قال: شئ) أجاب (عليه السلام) بهذا العنوان للتنبيه على أنه لا يبلغ إدراك كنهه عقل الإنسان وينبغي أن يعلم أن كل ما له حصول في الخارج أو في الذهن فهو شئ فيهما كما أنه موجود فيهما بالوجود المطلق وقد يفرق بينهما بأن المتصف بالحصول من حيث هو شئ ومن حيث اتصافه بالوجود أو كون الوجود عينه موجود فهما متساويان في الصدق كما أن الشيئية والوجود المطلق متساويان في التحقق، ويمكن إرجاع قول الأشعري بأن الشئ يختص بالموجود، وقول المعتزلي بأن الشئ ما يصح أن يوجد إلى ما ذكرنا بأن يراد بالوجود الوجود المطلق، ثم الظاهر أن المراد بالشيء هنا الموجود بالوجود الخارجي يعني أن الصانع شئ موجود في الخارج.
(بخلاف الأشياء) أي مخالف للأشياء الممكنة الموجودة في الذات والصفات والوجود والوجوب إذ ذاته قائمة بالذات وصفاته عيينة ووجوبه ذاتيان يستحيل انفكاك ذاته عنهما بوجه من الوجوه في مرتبة من المراتب وأما الممكنات فذواتها قائمة بغيرها وصفاتها مغايرة لها ووجودها ووجوبها من غيرها حتى أنها كانت في وقت من الأوقات عارية عن جميع ذلك، وإنما قلنا: الظاهر ذلك لأنه يمكن أن يراد بالشيء الموجود بالوجود المطلق بل هو أولى بالإرادة ليكون إشارة إلى أنه تعالى مخالف للأشياء في الذهن والخارج إلا أن الكلام حينئذ خال عن الإيماء إلى وجوده في الخارج والأمر فيه هين لأن وجوده في الخارج علم من الدليل السابق، ولما كان إطلاق الشئ عليه
ص:51
يوهم أن له ذاتا متصفة بشيئية خارجة عنها رفع ذلك الوهم بقوله (أرجع بقولي) هو شئ (إلى إثبات معنى) صحيح مقصود من هذا القول إذ ليس المقصود أنه نفس المركب من هذه الحروف ولا الموصوف بمفهومه. وقد فسر ذلك المعنى بقوله (وأنه شئ بحقيقة الشيئية) يعني أنه شئ وشيئيته عين ذاته الحقة الأحدية (1) المنزهة عن التكثر والتعدد لا معنى خارج عنها قائم بها كما أنه موجود وعليم مثلا ووجوده وعلمه عين ذاته وفيه إشارة إلى نفي زيادة الصفات والأحوال عن الذات وسيجئ تحقيق ذلك إن شاء الله.
ثم إن فهم الزنديق لما كان متوجها إلى المحسوسات ووهمه متعلقا بالجسم والجسمانيات بالغ (عليه السلام) في نفي مشابهته بشئ منها فقال (غير أنه لا جسم) لأن كل جسم ذو جزء وكل ذي جزء مفتقر إلى جزئه الذي هو غيره وكل مفتقر ممكن فلو كان الصانع جسما كان ممكنا وهو واجب بالذات فيلزم أن يكون واجبا وممكنا جميعا وأنه محال (ولا صورة) (2) لأن كل صورة سواء كانت جسمية أو غيرها محتاجة إلى محل والصانع الحق لا يحتاج إلى شئ أصلا فضلا عن أن يحتاج إلى محل يحل فيه (ولا يحس) أن أحسست فلانا إذا رأيته أي لا يمكن إدراكه بحاسة البصر لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المدرك بالبصر بالذات هو الألوان والأضواء وبالعرض المتلون والمضيء أعني الجسم القابل لهما وهو سبحانه لما كان منزها عن الجسمية ولواحقها وجب أن يكون منزها عن الإدراك بحاسة البصر وإنما أفرد عدم إدراكه بالبصر بالذكر مع ذكر الحواس لظهور تنزهه تعالى عن ساير الحواس ووقوع شبهة في أذهان كثير من الجهلة في جواز إدراكه بالبصر، حتى ذهب كثير منهم إلى أن تنزيهه تعالى عنه ضلال بل كفر (3) تعالى الله عما يقول الجاهلون الظالمون.
(ولا يجس) الجس بالجيم اللمس باليد للتعرف يقال جسه الطبيب إذا مسه ليعرف حرارته من
ص:52
برودته، وجس الشاة ليعرف سمنها من هزالها، يعني أنه تعالى لا يلمس باليد لأن الملموسية من لواحق الأمور الممكنة والموجود الأزلي منزه عنها.
(ولا يدرك بالحواس الخمس) لأن الحواس إنما تدرك الجسم والجسمانيات والكيفيات المختصة بها وهو تعالى ليس بجسم ولا جسماني ولا كيفية له.
(لا تدركه الأوهام) لأن الوهم إنما يدرك المعاني المتعلقة بالمادة ولا يترفع إدراكه عن الأمور المربوطة بالمحسوسات وشأنه فيما يدرك أن يستعمل المتخيلة في تقديره بمقدار مخصوص وكمية معينة وهيئة مشخصة ويحكم بأنها مبلغه ونهايته فلو أدركته الأوهام لقدرته بمقدار معين في محل معين والمقدر محدود مركب محتاج إلى المادة والتعلق بالغير وبراءة قدس الحق عن أمثال ذلك أظهر من أن يحتاج إلى البيان ويمكن أن يقال لما أشار بالفقرة السابقة إلى عدم إمكان إدراكه بالحواس الخمس الظاهرة أشار بهذه الفقرة إلى عدم إمكان إدراكه بالحواس الخمس الباطنة لأن الوهم أعم إدراكا يدرك كل ما يدركه ساير القوى الباطنة من غير عكس، فإذا نزهه عن أن يكون مدركا بالوهم فقد نزهه عن أن يكون مدركا بغيره من القوى الباطنة.
ومما ذكرنا يظهر وجه ترك العطف لأنه كالنتيجة للسابق وفي بعض النسخ «ولا تدركه الأوهام» بالواو وهو أظهر (ولا تنقصه الدهور) لأن القابل للزيادة والنقصان إما مقدار أو ذو مقدار قابل للانفعال وكل ذلك من لواحق الامكان (ولا تغيره الأزمان) لأن التغير من توابع الإمكان المنزه قدسه عنها والدهر والزمان واحد، وقيل: الدهر الزمان الطويل وقيل: الدهر الأبد، ولما كان تعالى شأنه غير واقع في الدهر والزمان ولا متعلقا بما فيهما تعلقا يوجب الاتصاف بصفاته سلب عنه الاتصاف بالنقصان والتغير اللازمين لما فيهما أزلا وأبدا.
6 - محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كفى لاولي الألباب بخلق الرب المسخر، وملك الرب القاهر وجلال الرب الظاهر ، ونور الرب الباهر، وبرهان الرب الصادق، وما أنطق به ألسن العباد، وما أرسل به الرسل، وما أنزل على العباد دليلا على الرب.(1)
(محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا) الظاهر أن يقول ابتداء (عدة من
ص:53
أصحابنا) بدون ذكر اسمه خصوصا في مثل هذا الموضع الذي ليس صدر الكتاب ولا صدر الباب.
(عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كفى لأولي الألباب) أي لذوي العقول الناقدة الخالصة عن شبهات الأوهام (بخلق الرب المسخر) الخلق الإيجاد (1) يقال: خلقه الله خلقا أي أوجده وشاع استعماله أيضا في المخلوق، والتسخير التذليل والمسخر على الأول بكسر الخاء صفة الرب وعلى الثاني إما بكسرها صفة له أو بفتحها صفة للخلق وإنما خص أولي الألباب بالذكر لأنهم الذين يعلمون لاستعداد أذهانهم النقادة وطبايعهم الوقادة أن السماوات والأرضين والشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والجبال والحيوانات والنباتات والجمادات والمعدنيات وغيرها من البسايط والمركبات مسخرات بأمر الله مذللات لحكمه مضطرات لقدرته متحركات وساكنات لإرادته، وأما غير هؤلاء فلإبطالهم الاستعداد الفطري صاروا بمنزلة البهائم فطمع النظر
ص:54
في صنايع الحق والاستدلال بها على وجوده ووحدته وقدرته كطمع النظر من البهائم بل هم أضل.
(وملك الرب القاهر) (1) الملك بالكسر مصدر وقد شاع استعماله فيما يملك قال في المغرب:
ملك ملكا وهو ملكه وأملاكه وبالضم العز والسلطنة وجاز هنا إرادة هذه المعاني كلها، والقهر الغلبة والقاهر من أسمائه تعالى لأنه قهر الخلائق بالإيجاد والإفناء بحيث لا يطيق شئ منها الامتناع من نفاذ إرادته (وجلال الرب الظاهر) (2) الجلال العظمة والرفعة ومنه الجليل للعظيم الرفيع وإذا أطلق
ص:55
الجليل يراد به الله سبحانه، لأن العظمة المطلقة والرفعة الكاملة له، والظاهر بمعنى الواضح البين وقد يكون بمعنى الغالب كما في قوله تعالى (فأصبحوا ظاهرين) وهو على المعنيين إما صفة للجلال أي جلاله الواضح بشواهد كمال قدرته أو جلاله الغالب على جلال كل جليل لإطلاق عظمته وإما صفة للرب أي الرب الواضح وجوده بأعلامه الدالة على ربوبيته، أو الرب الغالب على الجبابرة في إجراء سطوته. (ونور الرب الباهر) (1) النور الضياء وهو ما ينكشف به الظلمات ويبصر به المبصرات، والباهر الغالب، يقال: بهره بهرا إذا غلبه، وبهر القمر أضاء حتى غلب ضوؤه ضوء الكواكب والباهر أيضا الظاهر وهو إما صفة للنور أو للرب والمراد بنوره النور الذي خلقه في الأجرام النورانية مثل الشمس والقمر وسائر النجوم أو المراد به ما اهتدى به أهل السماوات
ص:56
والأرضين إلى مصالحهم وشدهم من العقول والنفوس وقواها كما يهتدي بالنور، أو المراد به صفاته الذاتية التي هي المبادي لظهور الوجودات في الممكنات وشروق الكمالات في الموجودات وإشراقات الحالات اللايقة بها، أو المراد به الحجج (عليهم السلام) (وبرهان الرب الصادق) (1) البرهان الحجة والمراد به الرسول لأنه حجة الله على عباده، أو المراد به الحجة المركبة من المقدمات الضرورية الصادقة الدالة على التوحيد الفايضة من المبدء على النفوس البشرية بلا تجشم كسب وزيادة كلفة.
(وما أنطق به ألسن العباد) (2) المراد به اللغات المختلفة الدالة على وجود القادر المختار كما قال سبحانه «ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم»(3) أو المراد به آلات النطق من المعضلات ومخارج الحروف والأصوات، أو المراد به ما نطق به العباد الهادين للخلق من الكلام المشتمل على الحكمة البالغة والنصيحة الكاملة التي بها يهتدون إلى طريق الهداية ويجتنبون سبيل الضلال.
ص:57
(وما أرسل به الرسل) المراد به المعجزات والكرامات وخوارق العدات الخارجة عن قدرة البشر الدالة على وجود الصانع المختار، أو المراد به الشرايع المشتملة على القوانين العدلية والأحكام الإلهية المبتنية على الحكم والمصالح الجلية والخفية التي بها يتم نظام العالم وسعادة بني آدم.
(وما أنزل على العباد) المراد الماء الذي به حياتهم ومعاشهم وحياة الحيوانات والنباتات أو النعماء الظاهرة والباطنة أو المصايب والنوايب التي لا يقدرون على دفعها على أنفسهم أو أنواع الخزي والنكال على الأمم السابقة مثل الطوفان والغرق وغيرهما.
(دليلا على الرب) أي كل واحد من هذه الأمور الثمانية دليل قاطع وبرهان ساطع (1) لمن له عقل سليم وطبع مستقيم على وجود الرب وربوبيته وعلمه وقدرته وتوحيده في الذات والصفات.
ص:58
ذهب القاضي وغيره من الأشاعرة إلى أن الشئ يختص بالموجود وأن المعدوم لا شئ ولا ذات ولا مهية وهو أيضا مذهب الحكماء على ما نقل عنهم من أنهم قالوا الشئ اسم لما هو حقيقة الشيئية ولا يقع على المعدوم والمحال ولا علم بالمحال أصلا إذ لا شيئية له ولا هو مما يتمثل في ذهن أو يتصور في وهم، وإنما المعلوم المتصور المتمثل في الذهن عنوان للمفهوم من لفظه وهو ممكن ما من الممكنات ليس في إزائه حقيقة من الحقائق وشئ من الأشياء أبدا، وذهب صاحب الكشاف وغيره من المعتزلة إلى أن الشئ ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا كما صرح به صاحب الكشاف حيث قال: الشئ أعم العام كما أن الله أخص الخاص يجري على الجسم والعرض والقديم، نقول شئ لا كالأشياء أي معلوم لا كسائر المعلومات وعلى المعدوم والمحال.
ثم قال: فإن قلت: كيف قيل: «على كل شئ قدير» وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل. قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر الأشياء كلها فكانه قيل: على كل شئ مستقيم قدير، ونظيره فلان أمير على الناس أي على من وراءه منهم ولم تدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس، وقال القطب العلامة: كل من قال بأن الوجود عين المهية مثل الأشعري وأتباعه قال: إن المعدوم شئ لانتفاء المهية عند العدم ومن قال بأن الوجود غيرها فهم قد اختلفوا في ذلك والنزاع إنما هو في المعدوم الممكن لا في المعدوم الممتنع فإنه ليس بشئ عند الفريقين وهذا كما ترى يخالف ما صرح به صاحب الكشاف.
1 - محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التوحيد فقلت: أتوهم شيئا؟ فقال: نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شئ فهو خلافه، لا يشبهه شئ ولا تدركه الأوهام، كيف تذكره الأوهام وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور في الأوهام؟! إنما يتوهم شئ غير معقول ولا محدود».(1)
ص:59
(محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام)) وهو الجواد (1) (عليه السلام) (عن التوحيد) أي طريقه وسبيل معرفته (فقلت: أتوهم شيئا؟) أي أتوهم في حقه أنه شئ أو أتوهمه وأدركه من حيث أنه شئ وأصفه بالشيئية فشيئا على الأول مفعول وعلى الثاني تمييز، والمفعول محذوف، والفاء تفصيل للسؤال على الظاهر.
(فقال: نعم غير معقول ولا محدود) نعم تصديق وقع موقع الجملة أي توهمه وتصوره شيئا غير معقول بكنه ذاته المقدسة ولا بالحد المشتمل على الأجزاء التي هي بمنزلة المادة للحقيقة ولا بالصورة الذهنية المتصفة بالإمكان وكذلك توهمه وتصوره شيئا غير محدود بحدود عقلية أو حسية وهي حدوده التي يقف العقل عندها وأجزاؤه التي ينتهي التحليل إليها ونهاياته التي يعتبرها الوهم ويشير إليها، فإنك إذا توهمته وتصورته بما ذكر لم توحده وشبهته بخلقه وجعلت له شريكا أشار إليه بقوله (فما وقع وهمك عليه من شئ فهو خلافه) أي كل شئ وقع عليه وهمك وأشار إليه عقلك والعقل بالنظر إليه تعالى كالوهم في عدم إمكان تناولهما إياه فهو سبحانه غيره، لأن الإشارة الوهمية مستلزمة للوضع والهيئة والشكل والتحيز وكل ذلك على واجب الوجود محال والإشارة العقلية لا يخلو من الخلط بصفات الإمكان لأن النفس إذا توجهت إلى أمر معقول من عالم الغيب فلا بد أن يستتبع القوة الخيالية والوهمية للاستعانة بهما على إثبات المعنى المعقول وانضباطه فإذن يستحيل أن يشير العقل إلى شئ من المعاني الإلهية إلا بمشاركة من الوهم والخيال واستثبات حد أو هيئة أو كيفية أو صفات له وهو سبحانه منزه عن الكيفيات والصفات والحدود والهيئآت، فكان المشير إليه والمدعي لإصابته قاصدا في تلك الإشارة إلى ذي كيفية وحال ليس هو واجب الوجود ولو فرض تجردها عن أحكام الوهم والخيال فالصورة الحاصلة فيها موصوفة بحدود عقلية صرفة منعوتة بصفات الإمكان من جهات شتى فهو أيضا غيره تعالى (لا يشبهه شئ) في الذات والصفات لأن المشابهة بالممكن نقص والنقص عليه محال، ولأن المشابهة عبارة عن الاتفاق في الكيفية ولا كيفية له وأيضا لو وقعت المشابهة فما به التشابه إما نفس
ص:60
الحقيقة أو جزؤها أو خارج عنها فإن كان الأول كان ما به الامتياز عرضيا فيلزم احتياج الواجب لذاته إلى أمر عرضي يمتاز به عن غيره وهو محال، وإن كان الثاني لزم تركيب الواجب وهو أيضا محال، وإن كان الثالث فإن كان ما به التشابه كمالا للواجب كان الواجب في مرتبة ذاته ناقصا ومستفيدا لكماله من غيره وإنه باطل وإن لم يكن كمالا له كان إثباته له نقصا لأن الزيادة على الكمال نقصان والنقص عليه محال (ولا تدركه الأوهام) لأن الوهم يتعلق بالأمور المحسوسة ذات الصور والأحياز حتى أنه لا يدرك نفسه إلا ويقدرها ذات مقدار وحجم فلو أدركه لأدركه في جهة وحيز ذا مقدار وصورة وهذا في حق الواجب المنزه عن شوائب الكثرة محال، وهذه الفقرة والتي قبلها كالدليل والبيان لما تقدمهما.
(كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصور في الأوهام) لأن مدرك العقل محدود بحدود كلية ومصور بصورة كلية ومدرك الوهم محدود بحدود جزئية ومصور بصورة شخصية متعلقة بالمحسوس وكل واحد من هذين المدركين ليس بواجب والواجب خلافه وفيه إشارة إلى أن الواجب خلاف الموهوم والمعقول، وفي السابق وهو قوله «فما وقع» إشارة إلى أن الموهوم والمعقول خلاف الواجب فقد ظهر أنه لا سبيل للعقل والوهم إلى ساحة الواجب ثم أشار إلى كيفية طريق معرفته تأكيدا لما مر بقوله (إنما يتوهم شئ غير معقول ولا محدود) يعني ينحصر طريق معرفته بأن يتوهم ويتعقل أنه شئ بحقيقة الشيئية موجود في الخارج لذاته لا يعرضه وجود ولا شيئية (1) ولا يلحقه صفات ولا كيفية ولا يكون معقولا بالكنه قطعا ولا محدودا بحد أصلا ولا منعوتا بصفات الممكنات ولا مشابها بشئ من المخلوقات وسيجئ لهذا زيادة توضيح إن شاء الله.
ص:61
2 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسين بن سعيد قال: سئل أبو جعفر الثاني (عليه السلام): يجوز أن يقال لله إنه شئ؟ قال: نعم، يخرجه من الحدين: حد التعطيل وحد التشبيه.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل) وهو البرمكي (عن الحسين بن الحسن بن بكر بن صالح عن الحسين بن سعيد) الحسين بالتصغير في بعض النسخ الحسن بن سعيد بالتكبير.
(قال: سئل أبو جعفر الثاني (عليه السلام) يجوز أن يقال لله: إنه شئ؟ قال: نعم) (2) يجوز ذلك، ولما كان هناك مظنة أن يقال: كيف يجوز ذلك وهو يوجب الاشتراك بينه وبين خلقه في الشيئية أجاب عنه بقوله: (يخرجه) ضمير الفاعل للقائل وضمير المفعول لله أو للشيء، ويحتمل أن يكون الجملة حالا عن فاعل يجوز الدال عليه نعم، ويبعد أن يجعل ضمير الفاعل للشيء وضمير المفعول للقائل (من الحدين) المذمومين اللذين أحدهما كفر وإنكار للصانع والآخر شرك.
(حد التعطيل) أي نفيه وإنكار وجوده وربوبيته وإبطال صفاته على الوجه الذي يليق به، والقول بأن هذا العالم معطل ليس له صانع مدبر.
(وحد التشبيه) أي تشبيهه بخلقه وتوصيفه بصفاتهم والحاصل أنه يجب عليه عند إطلاق الشئ عليه سبحانه أن ينزه إدراكه عن إدراك الأشياء الممكنة وذلك بأن يدرك أنه شئ موجود لذاته لا يشابه شيئا من الموجودات في الذات والصفات ليخرج بذلك عن حد الإنكار وحد التشبيه ويتصف بالتوحيد المطلق.
ص:62
3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي المغرا رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله.(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي المغرا) نقل عن الحسن بن داود ضبطه بالمد وفتح الميم، وعن العلامة في الإيضاح بالقصر وهو حميد بن المثنى بالتصغير (رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه) الخلو بالكسر والسكون الخالي.
يقال: فلان خلو من كذا أي خال بريء منه يعني أن بينه وبين خلقه مباينة في الذات والصفات لا يتصف كل واحد منهما بصفات الآخر (2) وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه» (3).
ذكر (عليه السلام) في بينونته من مخلوقاته ما ينبغي له من الصفات وفي بينونتها منه ما ينبغي لها فالذي ينبغي له كونه قاهرا لها غالبا عليها مستوليا على إيجادها وإعدامها والذي ينبغي لها كونها خاضعة في ذل الإمكان والحاجة لعزته وقهره وراجعة في وجودها وكمالاتها إلى وجوده وبذلك حصل التباين بينه وبينها.
ص:63
(وكل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله) لأن الله كان ولم يكن معه شئ فكل شئ غيره محدث مخلوق، وهذا كالتعليل السابق لأنه يفيد أنه لا يجوز اتصافه تعالى بصفات خلقه لأن صفات خلقه مخلوقة ولا يجوز اتصافه بما هو مخلوق لاستحالة لحوق النقص به وافتقاره إلى الممكن وأنه لا يجوز اتصاف الخلق بصفاته وإلا لكان له صفة زائدة مشتركة فتكون تلك الصفة غيره فتكون مخلوقة، وقد عرفت أنه لا يتصف بما هو مخلوق وهذا كما ترى دل على أن صفاته تعالى عين ذاته يعني ليس لصفته معنى موجود مغاير لذاته فليس له مثلا قدرة موجودة ولا علم موجود إلى غير ذلك بل ذاته المقدسة من حيث التعلق بالمقدورات قدرة وبالمعلومات علم من غير تكثر للذات أصلا وهذا كما أن الواحد نصف للاثنين وثلث للثلاثة وربع للأربعة إلى غير ذلك من أن ذلك لا يوجب تعدده وتكثره أصلا والتكثر إنما وقع في الإضافة والمضاف إليه الخارجين عنه والمقصود من هذا الحديث ومن اللذين يأتيان بعده هو ما يفيد الاستثناء وهو ما خلا الله منه أنه تعالى شئ.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله فهو مخلوق والله خالق كل شئ تبارك الذي ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي. عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله فهو مخلوق والله خالق كل شئ) إن أريد بالشيء المشيء وجوده وهو مختص بالممكن فالعموم باق بحاله وإن أريد به ما يصح له الوجود وهو يعم الواجب أيضا أوما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يعم الممتنع أيضا فلا بد من تخصيصه بالممكن بدليل العقل لخروج الواجب والممتنع عن هذا الحكم، يعني أن الله تعالى خالق كل شئ من الممكنات على ما يقتضيه إرادته وتتعلق به مشيته ومحركها من كتم العدم إلى الوجود ولو بواسطة في بعضها لانتهاء سلسلة الممكنات على نظامها وترتيبها إليه وهو الخالق المطلق الذي ينفرد بالاختراع والتدبير ويستغني عن غيره في الخلق والتقدير وكل خالق سواه كالعبد بالنسبة إلى أفعاله إنما ينسب إليه إيجاد شئ لأنه فاعل أقرب وواسطة بين الفاعل الأول وبين ذلك الشئ فهو
ص:64
فاعل ناقص مفتقر في فاعليته إليه سبحانه من جهات شتى ويمكن إخراج أفعال العباد عن الشئ أيضا بالدليل العقلي والنقلي الدالين على أنهم خالقوا أعمالهم وعلى التقديرين لا دلالة فيه على خلق الأعمال ومن الأصحاب من فسر هذا الكلام بأن المراد أنه خالق كل شئ ابتداء لا أنه خالق خالق شئ واستدل على ذلك بأنه لو خلق غيره لكان مثله في الخالقية والإيجاد وهو منزه عن أن يشاركه ويماثله أحد فيهما وبقوله تعالى «ليس كمثله شئ» وفيه نظر لأنا نمنع الشرطية لأن خالقيته عبارة عن انتهاء سلسلة جميع المخلوقات إليه والخالقية بهذا المعنى مختصة به لا يشاركه فيها أحد، وفيه دلالة على أنه واجب الوجود بالذات لأن خالق الجميع لا يجوز أن يكون ممكنا.
(تبارك الذي) البركة الزيادة من الخير والثبات عليه والطهارة من العيب.
(ليس كمثله شئ) أي ليس مثل مثل شئ في الذات والصفات وهو مستلزم لنفي المثل على سبيل الكناية التي هي أبلغ من الصريح لأن الكلام في نفي مثله فإذا نفي مثل مثله فقد نفي مثله بالالتزام إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله فلا يصح نفي مثل مثله مع القول بوجود مثله وقيل:
الكاف زائدة وإنما لم يكن له مثل إذ كل ما كان له مثل ليس هو بواجب الوجود لذاته لأن المثلية إما أن يتحقق من كل وجه فلا تعدد لأن التعدد يقتضي المغايرة في أمر ما وذلك ينافي الاتحاد والمثلية من كل وجه وإما أن يتحقق من بعض الوجوه وحينئذ ما به التماثل إما الحقيقة أو جزؤها أو خارج عنها وكل ذلك باطل لما مر وعلى هذا وجب على كل من طلب معرفته أن ينزهه عن المماثلة للأشياء الممكنة ليكون موحدا وأصلا إلى مقام التوحيد المطلق وكل من حكم بالمماثلة تبع عقله وهمه إذ الوهم لكونه متعلقا بالمحسوسات غير متجاوز عنها يدرك في حق الصانع صورا وحالات مناسبة لها ثم يساعده العقل ويحكم بأنه تعالى شأنه مثلها ويجري عليه صفاتها وأحكامها بناء على أن حكم الشئ حكم مثله ذلك مبلغهم من العلم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(وهو السميع البصير) بذاته المقدسة بمعنى أنه لا يخفى عليه شئ من المسموعات والمبصرات وسيجئ لهذا زيادة توضيح إن شاء الله.
5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية، عن خيثمة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله تعالى فهو مخلوق والله خالق كل شئ.(1)
ص:65
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية، عن خيثمة) قال العلامة في الخلاصة: خيثمة بالثاء المنقطة فوقها ثلاث نقط بعد الياء ابن عبد الرحمن الجعفي، قال علي بن أحمد العقيقي: إنه كان فاضلا. وهذا لا يقتضي التعديل وإن كان من المرجحات.
(عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه) إذ ليس في عالم الوجوب الذاتي الإمكان الخاص ولو احقه، ولا في عالم الإمكان الخاص الوجوب الذاتي وصفاته وإلا لوقع الخلط بين العالمين واشتبه الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق وأنه باطل قطعا.
(وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله تعالى فهو مخلوق) يفيد الاستثناء أنه تعالى شئ وهو المقصود في هذا المقام (والله خالق كل شئ) وهو سبحانه وإن كان شيئا إلا أنه لا يدخل في شئ كما لا يدخل الأمير في الناس في قولهم: «فلان أمير على الناس» كما مر.
6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق حين سأله: ما هو، قال: هو شئ بخلاف الأشياء ارجع بقولي إلى إثبات معنى وأنه شئ بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صوره ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان، فقال له السائل: فنقول إنه سميع بصير؟ قال: هو سميع بصير، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه، ليس قولي: إنه سميع يسمع بنفسه وبصير يبصر بنفسه أنه شئ والنفس شئ آخر ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا: فأقول: إنه سميع بكله لا أن الكل منه له بعض ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى.
قال له السائل: فما هو؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو الرب وهو المعبود وهو الله وليس قولي: الله إثبات هذه الحروف ألف ولام وهاء لا ولا راء ولا باء ولكن ارجع إلى معنى وشئ خالق الأشياء وصانعها ونعت هذه الحروف وهو المعنى سمي به الله والرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه وهو المعبود جل وعز. قال له السائل فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا، قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لأنا لم نكلف غير موهوم ولكنا نقول:
كل موهوم بالحواس مدرك به تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق، إذا كان النفي هو الإبطال والعدم.
والجهة الثانية: التشبيه إذا كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف فلم يكن بد
ص:66
من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار إليهم أنهم مصنوعون وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد إذ لم يكونوا وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لبيانها ووجودها، قال له السائل: فقد حددته إذا أثبت وجوده، قال أبو عبد الله (عليه السلام): لم أحده ولكني أثبته إذ لم يكن بين النفي والإثبات منزلة. قال له السائل: فله إنية ومائية؟ قال: نعم لا يثبت الشئ إلا بإنية ومائية قال له السائل: فله كيفية؟ قال: لا لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة ولكن لابد: من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه لأن من نفاه فقد أنكره ودفع ربويته وأبطله، ومن شبههه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية ولكن لا بد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره. قال السائل: فيعاني الأشياء بنفسه؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو أجل من أن يعاني الأشياء بمباشرة ومعالجة لأن ذلك صفة المخلوق الذي لا تجيء الأشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة وهو متعال نافذ الإرادة والمشيئة فعال لما يشاء.(1)
(علي بن إبراهيم عن أبيه، عن العباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق حين سأله ما هو) أي ما حقيقته أو ما صفاته وخواصة المميزة له عن غيره (قال: هو شئ بخلاف الأشياء) أي معلوم لا كساير المعلومات أو هو موجود لا كسائر الموجودات يعني لا يعرف أحد حقيقة ذاته وصفاته وإنما يعرف بمفهوم سلبي وهو أنه موجود مغاير لخلقه في الذات والصفات مثل الإمكان والحدوث والتحيز والاحتياج وغيرها.
(ارجع بقولي) هو شئ (إلى إثبات معنى) معبر عنه بالشيء (وأنه شئ بحقيقة الشيئية) أي بالشيئية الحقة الثابتة في حد ذاتها أو المراد أن شيئيته عين ذاته لا خارجة عنها ووصف لها كما في الممكنات (غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان) مر شرحه مفصلا (2) في آخر الباب السابق وقوله «لا
ص:67
يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس» هنا وفي السابق على صيغة المجهول ويحتمل احتمالا بعيدا أن يكون هنا على صيغة المعلوم.
(فقال له السايل فنقول: إنه سميع بصير) هذا على الاحتمال الأول إيراد على قوله لا جسم يعني أن له سمعا وبصرا باعتقادك فيكون جسما لأنهما من لواحق بعض الأجسام وعلى الثاني إيراد على نفي الأفعال المذكورة عنه يعني أنك تقول هو سميع بصير فيدرك بالحواس.
(قال: هو سميع بصير سميع بغير جارحة) (1) هي الاذنان والصماخان والقوة المخلوقة فيهما (وبصير بغير آلة) هي العينان والقوة الباصرة وذلك لتنزهه عن الجوارح والالآت الجسمانية وقواها، ولما بين أن سمعه وبصره ليسا من باب سمع الإنسان وبصره في الاحتياج إلى الآلة أشار إلى توضيح المقصود دفعا لاتوهم السائل أنه تعالى يفتقر في سمعه وبصره إلى شئ آخر غير هذه الآلات المعلومة بقوله (بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه) (2) لا بشئ آخر غيرها ولما توهم من
ص:68
إضافة النفس إلى ضميره سبحانه أنه شئ ونفسه شئ آخر وأن السماع والإبصار يقعان بذلك الشئ الآخر كما أن الشئ وقوته السامعة والباصرة شئ آخر يقع سماعه وإبصاره بهما دفع ذلك التوهم بقوله (ليس قولي إنه سميع يسمع بنفسه وبصير يبصر بنفسه، أنه شئ والنفس شئ آخر ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما) عطف على عبارة أي أردت إفهاما (لك إذ كنت سائلا) فوقع التعدد والتركيب في العبارة على أنه يسمع ويبصر ببعضه وليس المقصود ذلك (فأقول: إنه سميع بكله) وكذا بصير بكله لا ببعضه كما يشعر به ظاهر العبارة، ويحتمل أن يكون المقصود من قوله لكن أردت عبارة عن نفسي أني أردت عبارة أخرى يفيدك انضمامها إلى العبارة المذكورة ما هو المقصود منها وهيأتها لإفهامك إذ لا بد للمسؤول من إفهام السائل وتلك العبارة هي أنه سميع بكله، ولما كان لفظ الكل أيضا مشعرا بالتركيب دفعه بقوله (لا أن الكل منه) أي منه تعالى (له بعض) يعني ليس المقصود أنه مركب من أجزاء يسمع مجموع المركب أو يسمع بعض أجزائه بل المقصود أنه يسمع هو من غير تجزئة وتركيب فيه (لكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك) هذه العبارة أيضا يحتمل الوجهين والمرجع مصدر بقرينة تعديته بإلى أي ليس رجوعي في كونه سميعا وبصيرا بكله.
(إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير) العالم الخبير تفسير وتوضيح للسميع البصير وبيان لحملها على المجاز وهو العلم والخبر بالمسموعات والمبصرات إطلاقا لاسم السبب في على المسبب إذ كان السمع. البصر فينا من أسباب العلم والإحاطة بهما يمكن أن يقال: ذكر العالم الخبير على سبيل التمثيل للإشارة إلى أن ما ذكر في السميع البصير جار في غيرهما من الصفات الكمالية وحينئذ ذكر الخبير وهو العالم بالأخبار بعد العالم من باب ذكر الخاص بعد العام.
(بلا اختلاف الذات) أي ليس في ذاته أجزاء يسمع ببعضها ويبصر ببعضها أو لا يختلف ذاته
ص:69
باعتبار السماع والإبصار (ولا اختلاف المعنى) أي ليس لذاته صفات مختلفة زائدة عليها قائمة بها لاستحالة التركيب فيه وتعدد الواجب وافتقاره إلى الغير.
واعلم أن بحر التوحيد لما كان بعيد الغور غامض الأسرار كان طريق الفناء فيه هو العيان دون البرهان إذ السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله وفي الله يستغرق في بحر التوحيد ويغشاه نور العرفان بحيث يضمحل في ذاته وصفاته ويغيب من كل ما سواه فلا يرى في الوجود إلا هو، وأما الناقصون الذين لم يشاهدوا بعد ساحله فإذا سألوا العارف بالله وجب عليه الإتيان بعبارات لائقة وكلمات رايقة تدلهم إلى ساحل القدس ليغترفوا من بحره بقدر الإمكان، ثم إنه وإن بالغ في تصحيح العبارات وتنقيح الكلمات عما لا يليق بجناب الحق كانت العبارات والكلمات لا محالة مغياة بغيات خيالية ومحدودة بحدود وهمية ومربوطة بصور عقلية يتنزه قدس الحق عنها لأنه وراء ما يدركه العقل والوهم والخيال فوجب عليه الإشارة إلى تقدس الحق عما يفيده ظاهر العبارة ليهتدي السائل إلى ما هو المقصود منها ولا يذهب وهمه إلى ظاهرها فلذلك نبهه (عليه السلام) على براءة ساحة الحق عما يفيده ظاهر هذه الكلمات وكرره على سبيل التأكيد والمبالغة حتى بلغ الكلام إلى توحيد الذات والصفات وهو التوحيد المطلق إلا أن السائل لما كان عاجزا قاصرا لألف نفسه بالمحسوسات لم يتأثر ذهنه بهذا البرهان الصحيح والنص الصريح فلذا (قال له السائل: فما هو) يعني إذا لم يكن لذاته اختلاف أجزاء ولم يكن له صفات زائدة فما ذاته وما صفاته وأي شئ يكون له حتى يعرف هو به والحاصل أن تعريف الشئ إما بالحد المشتمل على الذاتيات أو بالرسم المشتمل عل الصفات وحيث لا جزء له ولا صفة له لا يمكن معرفته بوجه.
(قال أبو عبد الله (عليه السلام) هو الرب وهو المعبود وهو الله) يعني يعرف هو بأنه مالك الممكنات ومربيها ومخترع ذواتها وصفاتها وكمالاتها وحالاتها وبأنه هو المعبود لهم المستحق لعبادتهم وغاية خضوعهم وتذللهم له وبأنه هو الله المستجمع الكمالات اللايقة به على الوجه الأتم والأكمل لا باعتبار أنها أجزاء أو خارجة عنه عارضة له، بل باعتبار أنها عينه، فذاته ينبغي أن يعرف بذاته وبصفاته الإضافية التي لا تقتضي التعدد والتكثر فيه أصلا والتكثر إنما هو في الخارج المضاف إليه وإنما اختار (عليه السلام) هذه الأسماء الثلاثة لأن لمعرفته تعالى طريقين أحدهما وهو طريق أكثر الخلائق أن يعرف بخلقه لأن كل ذرة من مصنوعاته مرآة يتجلى فيها سبحانه لخلقه وهم يشاهدون على قدر عقولهم لتفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أشعة أبصار بصائرهم. وثانيهما وهو طريق الصديقين أن يعرف ذاته بذاته لا بخلقه وفائدة معرفته على الوجهين هي الطاعة والانقياد والتقيد بذل العبودية فأشار (عليه السلام) إلى الأول بقوله هو الرب وإلى الثاني بقوله وهو الله وإلى الفائدة بقوله وهو
ص:70
المعبود، ثم قال (عليه السلام) دفعا لتخيل السائل لكون طبعه متعلقا بالمتخيلات.
(وليس قولي الله) أي ليس القصد في قولي هو الله ولا في قولي هو الرب وهو المعبود ولم يذكرهما لدلالة سياق الكلام عليه.
(إثبات هذه الحروف ألف ولام وهاء ولا راء ولا باء) أي إثبات مركب منها (ولكن ارجع) يحتمل الأمر والتكلم (إلى معنى) أي إثبات معنى قائم بذاته (وشئ خالق الأشياء وصانعها الذي أخرجها من العدم وأعطى وجوداتها وكمالاتها بلا آلة ولا استعانة ولا روية ولا حركة وهو معنى الرب.
(ونعت هذه الحروف) بالجر عطفا على الأشياء أو على ضمير التأنيث في صانعها على مذهب من جوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وهم البصريون وإضافة النعت إلى هذه الحروف إما لامية، والمراد بنعتها تركيبها القائم بها فإذا كان تركيبها من مخلوقاته والمؤلف منها من مصنوعاتها لا يجوز أن يكون تعالى شأنه عينه، وإما بيانية أي خالق النعت الذي هو هذه الحروف فإن أسماؤه تعالى مخلوقة ونعوت له كما سيجيء في باب حدوث الأسماء عن الرضاء (عليه السلام) «أن الاسم صفة لموصوف» ولعل المراد أن كل اسم من أسمائه نعت لدلالته على صفة لمسماه فإن الله دل على الوهيته والرب على ربوبيته والمعبود على كونه مستحقا للعبادة وقس عليها البواقي وقيل: «نعت» مبتدء مضاف إلى هذه و «الحروف» خبره يعني نعت هذه أي ألف ولام وهاء الحروف إذ يطلق عليها أنها حروف. وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: «الحروف» مبتدء «ونعت» خبره مقدم عليه أي هذه الحروف نعت وصفة دالة على ذاته تعالى وقيل: «نعت» مجرور عطف (1) على معنى أي ارجع إلى كون هذه الحروف نعتا وصفة دالة عليه.
(وهو المعنى سمي به) الظاهر أن اللام للعهد و «سمي» حال بتقدير «قد» أي هو سبحانه المعنى
ص:71
قد سمى بالاسم المركب من هذه الحروف فهو غيرها وغير المركب منها (الله الرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه) اختارها لنفسه ليعرفه الخلائق ويدعوه بها وأسماؤه غيره لأن الدال غير المدلول وقوله «الله» وما عطف عليه مبتدء.
وقوله «من أسمائه» خبره وإنما ترك العطف لأنه بمنزلة التأكيد للسابق (وهو المعبود جل وعز) أي ذلك المعنى المسمى بهذه الحروف هو المعبود لا هذه الحروف.
(قال له السائل) لظنه أن الأمور الموهومة كلها مخلوقة متلبسة بصفات الخلق مدركة بحقايقها وحقايق صفاتها أو بصورها وحدودها وكيفياتها (فإنا لم نجد موهوما (إلا مخلوقا) وأنت أيضا معترف به حيث قلت: لا تدركه الأوهام فالموهوم الذي أثبته مخلوق فلم يثبت وجود الخالق.
(قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو كان ذلك) أي كل موهوم مخلوق (كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لأنا لم نكلف غير موهوم) (1) خال عن صفات الخلق مبدء للموجودات منزه عن تعلق الإدراك بحقيقة ذاته وصفاته فإذا لم يكن لنا إدراك شئ على هذا الوجه سقط عنا التكليف بمعرفته.
وهذا الجواب في قوة المنع لما ادعاه السائل: ثم أشار إلى تفسير قوله: «لا تدركه الأوهام» على وجه يندفع عنه وهم الزنديق بقوله (ولكنا نقول كل موهم بالحواس) الظاهرة والباطنة (مدرك به) أي بالوهم الدال عليه الموهوم (تحده الحواس) بالذاتيات أو بالحدود والغايات (وتمثله) بصور المخلوقات وتمثله مضارع معلوم من التفعيل أو من التفعل بحذف إحدى التائين قد يجيء للتعدية (فهو مخلوق) لا خالق لتنزهه عن صفات المخلوقين وقد علم من هذا البيان أن الموهوم المدرك على جهتين الجهة الأولى هي كونه مجردا عن صفات الخلق حتى عن الصور الوهمية والعقلية وهذا هو المبدء الأول وهو الذي وقع التكليف بمعرفته والتصديق بوجوده والتذلل به بذل العبودية.
(إذ كان النفي هو الإبطال والعدم) أي نفي هذا الموهوم إبطال للمبدأ الواجب لذاته وعدم له أو نفي التكليف بمعرفته إبطال للكتب والرسل والشرايع والآداب وعدم لجميع ذلك فقوله «إذ كان» تعليل لما علم ضمنا (والجهة الثانية) وهي كونه محدودا بالحواس ممثلا بصورة وكيفية (التشبيه)
ص:72
أي تشبيه بالخلق.
قولنا لا تدركه الأوهام إشارة إلى بطلان إدراكه على هذا الوجه (إذ كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب) العقلي أو الوهمي أو الخارجي (والتأليف) فيما إذا كان بين الأجزاء ملايمة يتسبب بعضها ببعض كما بين المادة والصورة وبين الجنس والفصل وبين الحال والمحل وذلك التشبيه يكون من القاصرين العادلين عن طريق الحق بقياس وهمي إذ الوهم يحكم أولا بأن الباري عز سلطانه مثل المصنوعات التي يتعلق إدراكه بها من المتحيزات وما يقوم بها، ثم يحكيه الخيال بصورة منها، ثم يساعده العقل في مقدمة أخرى وهي أن حكم الشئ حكم مثله فيجري حينئذ عليه صفات مخلوقاته التي حكم بمثليته لها، وقال بعض المحققين: الجهتان أولاهما أن يكون الموهوم مما تحده الحواس وتحيط بحقيقته وأخراهما أن تمثله بصورته وشبحه وقوله: «إذ كان النفي - إلى آخره» دليل على مخلوقية الموهوم بإحدى هاتين الجهتين والمعنى أن كل موهوم بالحواس بإحدى هاتين الجهتين مخلوق أما الجهة الأولى فلان حصول الحقيقة بعد النفي ونفيها بعد الحصول في الوهم إبطال وعدم للحقيقة وكل ما يطرأ عليه العدم أو يكون معدوما يكون ممكن الوجود محتاجا إلى الفاعل الصانع له فلا يكون مبدأ أولا، وأما الجهة الثانية فلأن حصوله بالشبح والصورة يتضمن التشبيه والتشبيه صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، أو المراد بالجهتين جهتا الاستدلال بالمحدودية والممثل فيه على المخلوقية إحداهما جهة النفي ثانيهما جهة التشبيه انتهى.
والذي يظهر من كتاب التوحيد للصدوق وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي، أن في نسخة هذا الكتاب خللا وساقطا وكان السقوط نشأ من الناسخ الأول وفيهما هكذا «ولكنا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك مما تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق ولا بد من إثبات صانع للأشياء خارج من الجهتين (1) المذمومتين إحداهما النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم والجهة الثانية التشبيه إذ كان
ص:73
التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف».
(فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين) الفاء للتفريع أو للتوضيح والتفسير (والاضطرار) الراجع (إليهم) على تضمين معنى الرجوع ويحتمل ان يكون إلى بمعنى اللام أو بمعنى «من» حرف الجر يستعمل بعضه في معنى بعض آخر.
وفي الكتابين المذكورين «والاضطرار منهم إليه» وهو يؤيد الاحتمال الأخير أي والاضطرار لهم أو منهم إلي وجود الصانع (أنهم مصنوعون) وكل مصنوع مضطر إلى صانع غيره ينتج أنهم مضطرون إلى صانع غيرهم.
(فقوله (وأن صانعهم غيرهم) إشارة إلى نتيجة هذا القياس أما الصغرى فلشاهدة كل جزء من أجزاء هذا العالم الذي هو بمنزلة شخص واحد بلسان إمكان ذاته وصفاته وحدوثه على أنه مصنوع مقدر بتدبير وتقدير، وأما الكبرى فلاستحالة أن يكون الشيء صانعا لنفسه بالضرورة أو يكون صانعه مصنوعا مثله لاستحالة الدور والتسلسل فوجب الانتهاء إلى الصانع القادر الذي يقوم بذاته وينظم سلسلة الموجودات ويضع كل موجود في مرتبته من النظام المشاهد.
(وليس مثلهم) في محل الرفع عطفا على غيرهم وتفسيرا للمغايرة أي ليس صانعهم مثلهم في الذات والصفات بوجه من الوجوه. (إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف) أي في التركيب والتأليف الظاهرين فيهم فالإضافة من باب جرد قطيفة أو في أمر ظاهر فيهم هو التركيب والتأليف فالإضافة من باب ختم فضة.
(وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد إذ لم يكونوا) أي من وجودهم بعد العدم (وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها) أي تفسير تلك الأحوال وتعدادها مفصلة (لبيانها) أي لظهورها (ووجودها) فينا وفي غيرنا من المصنوعات وتلك المشابهة تقتضي أن يكون خالق جميع المصنوعات بحيث لا يشد منها شيء مصنوعا وهو باطل بالضرورة فقد ثبت أن في الوجود صانعا عاريا من المشابهة بمصنوعه ذاتا وصفة مجردا عن الحدوث ولواحقه.
ص:74
(قال له السائل: فقد حددته إذ أثبت وجوده) لأن إثبات الوجود له فرع لحصوله في الذهن محدودا به معلوما له، وأيضا القول باتصافه بالوجود تحديد له بالوجود وهذا مناف لقولك إنه لا يحد.
(قال أبو عبد الله (عليه السلام): لم أحده) (1) لأن تحديده على وجهين أحدهما الإشارة العقلية بمعنى إدراك ذاته وصفاته المقدسة بأمر بسيط أو بمركب من أجزاء المهية، وثانيهما وصفه بصفات الخلق مثل النهاية المحيطة بذي مقدار كالجسم والجسمانيات ومثل التركيب والحدوث والتنقل من حال إلى حال وغيرها، ولم يلزم شيء من ذلك من الكلام المذكور ولم أثبته (ولكني أثبته) أي أثبت وجوده بنفي الإبطال والتشبيه وثبوت احتياج الخلق واضطرارهم إليه، وإثبات وجوده لا يقتضي حصول حقيقة ذاته وصفاته في الذهن واتصافه بصفات الخلق، ووجوده ليس أمرا مغايرا لذاته فكما أنا لا نعلم حقيقة ذاته كذلك لا نعلم حقيقة وجوده فلم يقع تحديده بالوجود أيضا (إذ لم يكن بين النفي والإثبات منزلة) هذا دليل على قولنا أثبته يعني ليس بين النفي والاثبات واسطة وهذا من أجلى الضروريات إذا أبطلنا النفي تحقق الإثبات بالضرورة.
(قال له السائل: فله إنية ومائية؟) أي فله وجود وحقيقة (قال: نعم لا يثبت الشيء) في الأعيان (إلا بإنية ومائية) (2) لا يقال فعلى هذا يقع المشابهة بينه وبين خلقه في الوجود المشترك بينهما لأنا نقول: المراد بالوجود مبدء الآثار ومبدء الآثار فيه جل شأنه هو ذاته المقدسة الحقة الأحدية المنزهة
ص:75
عن التكثر والتعدد مطلقا وفي الخق أمر زايد على ذواتهم عارض لها موجب لحصولها في الأعيان وهو الذي يعبر عنه بكونهم في الخارج سواء كان متحققا فيه أو أمر اعتباريا محضا منتزعا من المهيفات على اختلاف القولين (1) فعلى هذا لا تشارك بينه وبين خلقه في الوجود إلا باعتبار الاسم كما في العالم والقادر وسائر الأسماء المشتركة لا يقام: هذا لا ينفع لوقوع التشابه حينئذ بينه وبين وجود الأشياء في كون كل منهما مبدء للآثار لأنا نقول: هو مبدء الآثار بحيث لا يحتاج في صدورها إلى غيره أصلا ووجودات الأشياء في المبدئية لآثارها تحتاج إلى غيرها من جهات شتى كما لا يخفى، فلا تشارك في المبدء أيضا إلا باعتبار الاسم، لا يقال: ما ذكرته من أن وجوده عين ذاته (2) مناف لقوله (عليه السلام): «نعم» أي نعم فله إنية ومائية لأنه يفيد أن وجوده مغاير لذاته، لأنا نقول:
المراد بالمغايرة المغايرة الاعتبارية فإنه ذات من حيث هو ووجود من حيث أنه مبدء كما أنه ذات وقدرة وعلم باعتبار الحيثيات ولا يوجب ذلك التكثر في الذات وإنما التكثر في الأمور الخارجة عنها، وقد يقال: المراد بإنيه الواجب وإنية الممكن الأمر المنتزع من الحقيقة العينية الذي يعبر عنها بحصولها في الأعيان وهذا الأمر المنتزع مغاير لجميع الحقايق العينية حتى لحقيقة الواجب أيضا ولا يلزم أن يكون للواجب صفة زايدة عن ذاته لأن هذا المنتزع أمر اعتباري (3) لا تحقق له في الخارج.
(قال له السائل: فله كيفية؟) كأنه توهم من ثوبت الإنية له ثبوت الكيفية له وقصده من ذلك
ص:76
السؤال هو التقرير وإلا لزم بأن ثبوت الكيفية له مناف لما ذكرته من أنه لا يشابه خلقه.
(قال: لا لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة) يعني أن كيفية الشيء منشأ لاتصافه بصفة وتحديده بها وإحاطتها به (1) مثل اتصافه بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللينة والصلابة واللزوجة والسلاسة والمقاومة والدفع والضوء واللون والصوت والرايحة والحلاوة والدسومة، والحموضة والملوحة، والمرارة والعفوصة والقبوضة والتفاهة، والعلم والجهل، واللذة والألم، والصحة والمرض، والفرح والحزن والغضب والخوف والهم والعجل، والحقد، والاستقامة والانحناء، والتقعير والشكل، والزوجية والفردية.
ويحتمل أن يراد بجهة الصفة تغير موضوعها فان هذه الصفات كلها توجب تغير موضوعاتها إما بالفعل والتأثير أو بالانفعال والتأثر أو بالاستعداد والقابلية، وكل ذلك من صفات الخلق وتوابع الإمكان والله سبحانه منزه عنها، ولما كان السائل منكرا لوجود الصانع ولذلك كلما بلغ الجواب إلى غاية الإيضاح أعاد السؤال عن أصل وجوده أو عن أحواله وكيفيته المقتضية لتشبهه بخلقه اقتضى المقام زيادة التأكيد والمبالغة في إثبات وجوده ونفي الكيفية عنه، فلذلك قال (عليه السلام): (ولكن لا بد) للمتأمل في ذات الصانع وصفاته (من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه) أي عن نفيه وتشبيهه بالخلق في الذات أو في الصفات الذاتية والفعلية (لأن من نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيته وأبطله) وهذا خلاف ما يقتضيه العقل الصحيح واضطرار المصنوعين.
(وقد شبهه بغيره) من الموجودات في الذات والصفات بعدما أثبت وجوده (فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية) وهذا باطل لامتناع أن يكون صانع جميع المصنوعات مصنوعا مثلهم مشاركا لهم في ذاتهم وصفاتهم التابعة لحدوثهم وإمكانهم، وقد ثبت من هاتين المقدمتين أنه يجب الاعتقاد بأنه موجود مبدء لذوات جميع الموجودات وصفاتهم وأن ذاته ووجوده وصفاته ليس كذوات سائر الموجودات ووجوداتهم وصفاتهم وأن كل ماله من صفات الكمال أرفع وأجل من أن يدركه العقول أو يناله الأوهام أو يحيط به الأفهام، وإليه أشار بقوله (ولكن لا بد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها
ص:76
غيره) لم يرد بكيفيته المعنى المعروف لغة وعرفا وهي الهيئة الحاصلة للشيء باعتبار اتصافه بالصفات التابعة للحدوث الموجبة لتغير موصوفاتها وتأثر موضوعاتها فإن هذا المعنى محال في شأن الواجب بالذات بل أراد بها ما ينبغي له من الصفات الذاتية والفعلية والسلبية المخصوصة به سبحانه بحيث لا يستحقها وغيره لا على سبيل الانفراد ولا على سبيل الاشتراك، ولا تكون خارجة عن ذاته ولا يحاط ذاته بها ولا يعلم حقيقتها غيره وإطلاق لفظ الكيفية عليها على سبيل التوسع والتجوز لتعاليه عما يتبادر إلى الأذهان من إطلاق هذا اللفظ وغيره من الألفاظ المشتركة مثل الذات والموجود والعالم والقادر والسميع والبصير فوجب علينا أن نحملها عند إطلاقها عليه على المعنى اللايق به ونعتقد أن ذاته ووجوده وعلمه وقدرته وسمعه وبصره ليست مثل ذاتنا ووجودنا وعلمنا وقدرتنا وسمعنا وبصرنا وأن المراد منها في شأنه ما هو أشرف وأعلى مما يصل إلى عقولنا وأن الاشتراك ليس إلا بمجرد الاسم فقط من غير مشاركة في المعنى بوجه من الوجوه ولما أثبت (عليه السلام) أنه صانع وغيره مصنوع توهم السائل أن فعله في الصنع كفعلنا في الاحتياج إلى الحركة والمباشرة وتحريك الآلات فلذا (قال السائل: فيعاني الأشياء بنفسه؟) (1) أي يلامسها ويباشر خلقها بنفسه
ص:78
ويتعب في إيجادها باستعمال الآت وقوة قائمة به في النهاية معاناة الشيء ملابسته ومباشرته، وفي المغرب العناء المشقة، وفي الصحاح عني بالكسر عناء أي تعب ونصب.
(قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو أجل من أن يعاني الأشياء بمباشرة ومعالجة) أي بمباشرة بالأعضاء والجوارح ومزاولة بالحركة والانتقال ومعاملة بالآلات والقوى (لأن ذلك صفة المخلوق الذي لا تجيء الأشياء له) أي لا تنقاد له ولا يتمكن هو على فعلها (إلا بالمباشرة والمعالجة) لعجزه وضعف قدرته وعدم ترتب فعله على مجرد إرادته فيحتاج في تنفيذ مشيته إلى المباشرة والحركات واستعمال القوى والآلات (وهو متعال) عن الاتصاف بصفات المخلوق (نافذ الإرادة والمشية) في جميع الممكنات (فعال لما يشاء) بمجرد إرادته ومشيته بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس (1) اضطرب فيها، ولا مباشرة يتأثر بها ولا معالجة يتعب منها فسبحان من إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، بلا صوت يقرع. ولا نداء يسمع فهو متوحد في ذاته إذ لا تكثر فيه ومتوحد في أفعاله إذ لا شريك له من الآلات والقوى غيرها.
7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عيسى، عمن ذكره قال: سئل أبو جعفر (عليه السلام): أيجوز أن يقال: إن الله شيء؟ قال: نعم يخرجه من الحدين حد التعطيل وحد التشبيه.(2)
قد مر شرحه مفصلا.
ص:79
1 - علي بن محمد، عمن ذكره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن حمران عن الفضل بن السكن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة واولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان ومعنى قوله (عليه السلام) اعرفوا الله بالله يعني أن الله خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان، فالأعيان: الأبدان، والجواهر: الأرواح، وهو جل وعز لا يشبه جسما ولا روحا، وليس لأحد في خلق الروح الحساس الدراك أمر ولا سبب، هو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام فإذا نفى عنه الشبهين: شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله، وبالله وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله.(1)
(علي بن محمد، عمن ذكره عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن حمران) أبو جعفر الكوفي روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) ثقة (صه) (عن الفضل بن السكن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة) أي بأنه متصف برسالته تعالى إلى عباده لتكميل نظامهم مع الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والشرايع الإلهية والنواميس الربانية (واولي الأمر) وهم القائمون مقامه وحجج الله على عباده وخزانة علمه (بالمعروف) في بعض النسخ «بالأمر بالمعروف» يعني اعرفوا الإمام بهذا الوصف وهو كونه متصفا بالمعروف (والعدل والإحسان) أو كونه آمرا بها، والمعروف حدود الله وأحكامه وأخلاقه التي حدها الناس ومنعهم من التجاوز عنها والتعطيل لها، والعدل الانصاف أو التحلي بالأوساط الحميدة في باب التوحيد كالتوحيد المطلق بين التعطيل والتشبيه والقول بكسب العبد بين الجبر والتفويض وفي باب الأعمال كأداء الواجبات والسنن بين البطالة والترهيب وفي باب الاخلاق كالحكمة بين البلاهة والدهاء والعفة بين العنة والشره والسخاء بين البخل والتبذير، والشجاعة بين التهور والجبن، والإحسان أن يعبد الله كأنه يراه أو التفضل ويرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شره بالإنعام عليه (2)» أراد أن العتاب القولي قلما يفيد، والفعلي من الإحسان يجذب القلوب ويوصل إلى المطلوب. ومن ثم أمر الله سبحانه بالإحسان فإنه يستعبد الإنسان.
ص:80
(ومعنى قوله (عليه السلام): اعرفوا الله بالله) هذا كلام المصنف يدل عليه أنه نقل الصدوق هذا الحديث بسنده في كتاب التوحيد إلى قوله: «والإحسان» ثم قال بعد كلام حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق (رحمه الله) قال: سمعت محمد بن يعقوب يقول: معنى قوله: «اعرفوا الله بالله - إلى آخره» (يعني أن الله خلق الأشخاص) المتلبسة بالخصوصيات الشخصية (والأنوار) اللايحة في الأجرام النورية (والجواهر) القائمة بذاتها الغير المفتقرة إلى الموضوع (والأعيان، فالأعيان) التي لها هيئة وجثة معلومة (الأبدان) التي لها جوارح وأعضاء مخصوصة (والجواهر) الصرفة العارية عن العلايق المادية ذاتا وفعلا (والأرواح) التي هي الملائكة أو النفوس البشرية. وفي بعض النسخ «والجواهر الأرواح» بترك العاطف بينهما ورفعهما على الابتداء والخبر.
قال عياض: الروح والنفس بمعنى واحد لقول (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن الله قبض أرواحنا» وقوله تعالى (الله يتوفى الأنفس حين موتها)(1) وقيل: الروح جسم لطيف (2) مودع في البدن محل للأخلاق الملعونة كما أن الروح محل للأخلاق المحمودة والإنسان يطلق على ذلك كله وقيل: الروح هو النفس المتردد في الجسد.
وقيل: الروح أمر مجهول لا نعلم حقيقته. وقيل غير ذلك.
(وهو جل وعز لا يشبه جسما) وكذا لا يشبه جسمانيا (ولا روحا) لتنزهه عن الجسمية ولواحقها وعن التشبه بالخلق المحتاج (وليس لأحد في خلق الروح الحساس الدراك أمر ولا سبب، هو المتفرد بخلق الأرواح) السماوية والحيوانية (3) (والأجسام) الأرضية والفلكية، وفيه رد على من نسب خلقها إلى العقول المردة والمبادي العالية زعما منهم أنه تعالى واحد لا يصدر عنه إلا واحد، وتنبيه على استحالة مشابهته بمخلوقاته الحادثة (فإذا نفي عنه الشبهين: شبه الأبدان وشبه الأرواح) يمكن إدراج الأجسام والجسمانيات كلها في الأبدان وإدراج المجردات ولواحقها كلها في الأرواح للاشتراك في علة النفي فيكون المراد حينئذ نفي مشابهته عن جميع ما سواه.
ص:81
(فقد عرف الله بالله) أي بما يليق به وهو أنه هو الله المبدء المسلوب عنه صفات الخلق ومشابهتهم كما قال: ليس كمثله شيء (وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور) أو بغير ذلك من الجواهر والأعراض (فلم يعرف الله بالله) إذ كل ما اتصف بمشابهة شيء من ذلك فهو مصنوع مثله ليس هو الله الصانع جل شأنه وإنما اقتصر في معرفة الله بالله على ذكر الصفات السلبية ولم يذكر معرفته بالصفات الثبوتية الذاتية إما لأن الصفات الذاتية أيضا عند التحقق راجعة إلى السلب فإن قدرته عبارة عن عدم عجزه عن شيء وعلمه عبارة عن عدم جهله بشيء وعلى هذا كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «كمال التوحيد المطلق والإخلاص المحقق لا يتقرر إلا بنفض جميع ما عداه عنه ونفي مشابهته بالغير ويسميه أهل العرفان بمقام التخلية (1) ولما كان مقام التخلية مقدما على مقام التحلية وكان الغرض من هذا الحديث تعليم كيفية السلوك إليه سبحانه وكانت العقول البشرية القاصرة عن إدراك حقيقة وحقيقة صفاته سائرة من هذا العالم المحسوس إليه مع رفاقه الوهم والخيال وكان الوهم حاكما بمثليته تعالى لمدركاته من المحسوسات ومشابهته بالمخلوقات اقتصر على ذكر السلب للتنبيه على أنه يجب على السالك أن يغسل درن الحكم الوهمي في شأنه تعالى عن لوح الخيال فهو أهم بهذا الاعتبار.
وإن أردت زيادة توضيح فنقول: لمعرفته تعالى طريقان (2) الأول معرفة الحق بالحق ومعرفة ذاته الحقة بذاته أو بجميع الصفات الكمالية التي هي نفس ذاته الأحدية لا بواسطة أمر خارج عنه وحيثيات مغايرة له، وهذه المعرفة ليست لمية لتعاليه عن العلة ولا إنية لعدم حصولها بواسطة المعلول وأيضا المعرفة اللمية والإنية إنما تحصلان بالنظر والاستدلال وهذه المعرفة إنما تحصل بالكشف والظهور للكمل من أوليائه كما قال سيد المرسلين «لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرب ولا نبي مرسل» وهي مرتبة الفناء في الله (3) بحيث لا يشاهد فيها غيره فهو معروف بالذات لا بغيره
ص:82
وكما قال سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله» إذ لا شبهة في أن هذه الرؤية ليست رؤية ظاهرية بل هي رؤية قلبية ولا في أنها ليست مستندة إلى واسطة لاستلزامه بطلان الحصر ومثله قول بعض الأولياء «رأيت ربي بربي ولولا ربي ما رأيت ربي» والظاهر أن قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)(1) إشارة إلى هذه المرتبة لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ إلى مقام يرى فيه الرب بالرب وبه يستشهد على كل شيء، ثم الظاهر أن هذا إشارة إلى أنه يمكن لكل أحد أن يعرف ربه بربه بلا نظر واستدلال كما قال بعض الأكابر «إن وجود الحق ضروري».
الثاني معرفته بالنظر والاستدلال بما دل به على نفسه من الآثار العجيبة والأفعال الغريبة كما هو طريق المتكلمين الذين يستدلون بوجود الممكنات وطبايعها وصفاتها وإمكانها وحدوثها وتكونها وقبولها للتغير والتركيب على المبدء الأول وإلى هذا الطريق أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «الحمد لله الذي دل على وجوده بخلقه» (2) وقد أشار إليه جل شأنه في مواضع كثيرة من القرآن العزيز وكيفية معرفته تعالى من هذين الطريقين والواجب على أهل كل طريق أن يعرفوا أنه تعالى مبدأ أول لجميع الموجودات لا يشابه شيئا منها في الذات والصفات وأن ينزهوه عما لا يليق به والمصنف (رحمه الله) حمل قوله (عليه السلام) «اعرفوا الله بالله» على كيفية معرفته الحقة الحقيقية التي تليق بجناب قدسه الأحدي الذات والصفات المنزه عن المشابهة لشيء من الممكنات ليفيد أن معرفته بخلاف ذلك ليست بمعرفة بل هي شرك بالله، العظيم ويمكن حمله على الطريق الأول للمعرفة لأنه أكمل وأحسن بل على الطريق الثاني أيضا لأن معرفته تعالى بأي طريق كان حاصله بالله ومن جانبه ومما يؤيد ذلك ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد بقوله «الصواب في هذا الباب أن يقال عرفنا الله بالله» لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها، وإن عرفناه عز وجل بأنبيائه ورسله وحججه (عليهم السلام) فهو عز وجل باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حججا، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها فيه عرفناه.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): بم عرفت ربك؟
ص:83
قال: بما عرفني نفسه، قيل: وكيف عرفك نفسه؟ قال: لا يشبهه صورة ولا يحس بالحواس ولا يقاس بالناس، قريب في بعده، بعيد في قربه. فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه، أمام كل شيء ولا يقال: له أمام داخل في الأشياء لا كشيء داخل في شيء، وخارج من الأشياء لا كشيء خارج من شيء، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ولكل شيء مبتدأ.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن عقبة) الظاهر أن عقبة هذا (2) هو الذي ذكره العلامة في قسم المعتمدين وصححه بضم العين وإسكان القاف وقال: هو أبو عمرو الأنصاري صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفة علي (عليه السلام) (ابن قيس بن سمعان بن أبي ريحة) بالراء المهملة المضمومة، والباء المنقطة تحتها نقطة، ثم الياء المنقطة تحتها نقطتين ثم حاء مهملة بعدها هاء وفي بعض النسخ «أبي زيحة» بالزاي المعجمة المفتوحة والياء الساكنة المثناة من تحت ثم حاء مهملة بعدها هاء.
(مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) بم عرفت ربك؟ قال: بما عرفني نفسه) مما ذكره في القرآن أو مما ألهمنيه (قيل: وكيف عرفك نفسه؟ قال) عرفني بأنه (لا يشبهه صورة) لأن كل صورة تفتقر إلى ما تحل فيه والله سبحانه لا يفتقر إلى شيء. وفيه رد على المصورة (ولا يحس بالحواس) المراد بالحواس المشاعر فيندرج فيها العقل وذلك لأنه تعالى كما لا يقبل الإشارة الحسية لكونها متعلقة بجسم وجسماني وماله وضع وهيئة كما بين في موضعه، كذلك لا يقبل الإشارة العقلية لاستلزامها تحديد المشار إليه وتوصيفه بصفات كلية وأوضاع عقلية وإنما غاية كمال العقل في معرفته أن يتصوره من جهة صفاته السلبية والإضافية أو من جهة عنوانات صفاته الثبوتية الذاتية لا من حيث أنه عين تلك العنوانات أو معروض لها بل من حيث أنه عين فرد منها في الخارج ويصدق بوجوده بالمشاهدة الحضورية والبراهين القطعية
ص:84
منزها له عما يتلقاها الحس والوهم من توابع إدراكاتها مثل التعلق بالمواد والوضع والأين والمقدار والإشارة والتحديد وغير ذلك.
(ولا يقاس بالناس) لأن قياسه بهم إما في الحقيقة أو في الجنس أو في الفصل أو في الصفات والكيفيات وكل ذلك على الواجب بالذات المنزهة عن التشابه بالممكنات محال (قريب) من كل شيء بالعلم والإحاطة بكلياته وجزئياته (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير)(1) ولما كان المتبادر من إطلاق القريب هو الملابسة والإلصاق والمشابهة نزه قربه تعالى عن هذه الامور بقوله (في بعده) أي في حال بعده عن كل شيء بالمقارنة والملابسة والمشاركة معه في ذاته وصفاته فأخرجت هذه القرينة لفظ القرب عن الحقيقة إلى المجاز وكسرت الأحكام الوهمية في ذاته وصفاته (بعيد) عن مشابهة الخلائق ذاتا وفات وعن تناول العقول له حدا وكيفية وعن العلم بحقيقة ذاته وصفاته تفصيلا وإجمالا ولما كان المتبادر من إطلاق البعد هو البعد بحسب المكان والمسافة والجهة نزه بعده تعالى عن هذه المعاني بقوله (في قربه) أي حال قربه من كل شيء بالمعنى المذكور وفيه إشارة إلى أنه تعالى ليس بزمان وزماني (2) ولا مكان ومكاني إذ لا يمكن اتصاف شيء منها بالقرب والبعد من جميع الأشياء من كل وجه (فوق كل شيء) بالقهر والغلبة إذ كل شيء مسخر لحكمه وقدرته ومقهور لإرادته ومشيته إن شاء أوجده وأبقاه وإن شاء أعدمه وأفناه.
(ولا يقال شيء فوقه) لأن كل شيء مقهور له والمقهور لا يكون قاهرا عليه ولو وصف غيره بالقهر والقدرة فإنما هو بالنسبة إلى ضعيف دونه وإذا نسب إلى من فوقه كان ضعيفا بالنسبة إليه وكذلك من وفوقه إلى أن ينتهي إلى تمام القدرة القاهرة قدرة الله الذي هو الفوق على الإطلاق القاهر الغالب على جميع من عداه وكل من عداه في رق الحاجة إليه وذل العبودية بين يديه.
(أمام كل شيء) (3) أي قبل كل شيء ومتقدم عليه بالعلية لاستناد جميع الموجودات على
ص:85
تفاوت مراتبها وكمالاتها إليه (ولا يقال له أمام) لأنه مبدء كل موجود ومرجعه فهو المتقدم الذي لا يتقدمه شيء في الوجود والكمال والرتبة والشرق، والفرق بين هذه الفقرة وما تقدمها أن المقصود فيما تقدم هو الإشارة إلى وصف قدرته بالتمام على كل مقدور وإظهار عجز ما سواه، والمقصود في هذه هو الإشارة إلى أنه مبدء لجميع الموجودات ومتقدم عليها مع اشتراكهما في الإشارة إلى مطالب آخر وهي وجوب وجوده لذاته وأزليته وأبديته ووحدته وعينية صفاته وعدم الحلول والتحيز والتركيب والافتقار إلى شيء كل ذلك ظاهر.
(داخل في الأشياء) (1) بالعلم والإحاطة بكلياتها وجزئياتها وكيفياتها والتصرف كيف يشاء ولما كان المتبادر من الدخول هو الظرفية والحلول أشار إلى تقدسه عن هذا المعنى بقوله (لا كشيء داخل في شيء) أي لا كدخول الممكنات بعضها في بعض كدخول الجزء مثلا في الكل ودخول الحال في المحل ودخول الجسم في المكان فإن الدخول بهذا المعنى من لواحق الإمكان وتوابع الافتقار وهي على واجب الوجود لذاته محال.
(وخارج من الأشياء) المراد بخروجه منها مباينة ذاته المقدسة وصفاته الكاملة عن مشابهة شيء منها ولما كان المتبادر من خروج شيء من شيء اختصاصه بالوضع والتحيز وخروج الجسم والجسماني من مكانه نزهه تعالى عن هذا المعنى بقوله (لا كشيء خارج من شيء) كخروج الجسم من مكانه وخروج الحال من محله وخروج ذي الهيئة من هيئته إلى هيئة اخرى فإن أمثال ذلك من خواص الإمكان، ثم أتى بالتنزيه المطلق عن جميع ما لا يليق به على سبيل الإجمال فقال:
(سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره) سبحان مصدر مضاف إلى المفعول من سبحه إذا نزهه أي انزه تنزيها عن جميع المعايب والنقايص من اتصف بهذه الصفات ولا يتصف بشيء منها غيره، ويحتمل أن يكون سبحان للتعجب من كمال تنزهه وبعده عن صفات المخلوقين وبعدهم عن صفاته. وفيه إشارة إلى أنه كما لا يكون له مشارك في صفاته الذاتية الكمالية كذلك لا يكون له مشارك في صفاته السلبية.
ص:86
(ولكل شيء مبتدأ) الظاهر أنه مبتدأ وخبر ويحتمل أن يكون عطفا (1) على قوله هكذا يعني سبحان من هو لكل شيء من الموجودات الممكنة مبتدء يبتدء منه وجود ذلك الشيء وكمالاته وما يليق به وإذا كان هو مبدء لجميع الموجودات كان واجب الوجود لذاته لاستحالة أن يكون مبدء الجميع ممكنا.
3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني ناظرت قوما فقلت لهم: إن الله جل جلاله أجل وأعز وأكرم من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون بالله، فقال رحمك الله.(2)
(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني ناظرت قوما) في باب معرفة الله تعالى (فقلت لهم: إن الله جل جلاله) ليس «جل جلاله» في بعض النسخ (أجل وأعز وأكرم من أن يعرف بخلقه) أي بإرشاد خلقه والحجج (عليهم السلام) هم المرشدون إلى سبيل المعرفة وأما الهداية فموهبية كما دل عليه بعض الروايات، ودل عليه أيضا قوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (3)أو بصفات خلقه لأن معرفته بها شرك بالله العظيم.
(بل العباد يعرفون بالله، فقال: رحمك الله) (4) أي يعرفون الله بهدايته وتوفيقه أي بما عرفهم به
ص:87
من نفسه من الصفات اللايقة به كما مر في الحديث الثاني من هذا الباب ويحتمل أن يقرأ يعرفون على البناء للمفعول ويكون المقصود حينئذ أنه تعالى لا يعرف حق المعرفة بالنظر إلى خلقه والاستدلال بهم عليه بل الخلق يعرفون بنور ربهم كما تعرف الذرات بنور الشمس دون العكس وليس نور الله في آفاق النفوس أقل من نور الشمس في آفاق السماء قال عز من قائل (وأشرقت الأرض بنور ربها) فضوؤه قاطع لرين أرباب الضماير، ونوره ساطع في أبصار أصحاب البصاير، ولا يبعد أن يكون قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الحمد لله المتجلي لخلقه» (1) إشارة إلى هذا القسم من المعرفة وهذه المعرفة تنقسم إلى قسمين أحدهما أن يرى الصانع أولا والمصنوع ثانيا. / وفي هذا القسم قد يقع الالتباس (2) فيظن أن الرؤية القلبية تعلقت بهما معا كما يقع الالتباس في الرؤية العينية للناظر إلى المرآة فإنه يظن أنه يرى نفسه والمرآة معا مع أن رؤية المرآة مقدمة على رؤيته، وثانيهما أن لا يرى مع الصانع غيره، وهذا القسم هو الفناء المطلق في الله ونظيره غفلة الناظر إلى المرآة عن رؤية شخصه إذا كان قصده من النظر إليها مشاهدة جوهرها وحسن هيئتها وسائر كمالاتها مع توجه ذهنه إلى التأمل في هذه الامور وتوغله في التعمق في محاسنها.
ص:88
1 - محمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي; وعلي بن إبراهيم عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني جميعا، عن الفتح بن يزيد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن أدنى المعرفة فقال: الإقرار بأنه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير، وأنه قديم مثبت، موجود غير فقيد وأنه ليس كمثله شيء.(1)
(محمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي: وعلي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني جميعا) همدان قبيلة من اليمن وبلد في العجم (عن الفتح بن يزيد عن أبي الحسن (عليه السلام)) قال العلامة: الفتح بالتاء المنقطة فوقها نقطتين ابن يزيد بالياء المثناة التحتانية الجرجاني صاحب المسائل لأبي الحسن (عليه السلام).
واختلفوا فيه أهو الرضا (عليه السلام) أو الثالث (عليه السلام) والرجل مجهول والإسناد إليه مدخول وقيل: إنما اختلفوا فيه لوقوع اختلاف في الفتح بن يزيد الجرجاني (2) والشيخ في كتاب الرجال إنما ذكره في أصحاب أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وحكم عليه بالجهالة والصدوق رحمه الله روى هذا الحديث في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بسنده عن الفتح بن يزيد عن أبي الحسن (عليه السلام) في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار في التوحيد (3).
ص:89
(قال: سألته عن أدنى المعرفة) الأدنى من الدنو بمعنى القرب يقال: فلان داني المنزلة أي قريبها كما يقال في ضد ذلك فلان بعيد المنزلة فالمعنى سألته عن أقرب منازل المعرفة ومقاماتها.
(فقال: الإقرار) بالله أي بوجود ذاته المقدسة الملحوظة معها جميع الكمالات على سبيل الإجمال بالعينية دون الزيادة والملحوظة معها استيلاؤها على مادق وجل وسيجئ عن الكاظم (عليه السلام) إن الله بمعنى المستولي على ذلك».
(بأنه لا إله غيره) بدل أو بيان لقوله بالله للدلالة على نفي الشريك الموجب للتوحيد المطلق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «فقال له: الإقرار بأنه لا إله غيره» (ولا شبه له) أي لا يشبهه شيء من الأشياء في صفاته الذاتيه والعقلية والسلبية ولا يشبه هو شيئا منها في صفات الخلق ولواحق الإمكان ولم يعرفه من شبهه بخلقه بل أشرك معه إلها آخر (ولا نظير) له أي لا يماثله شيء في ذاته المنزهة عن دنس الإمكان ولواحق الافتقار، ويمكن أن يراد بالأول نفي المشابهة في الصفات الذاتية وبالثاني نفي المماثلة في الصفات الفعلية، وبالجملة لكل من الخالق والمخلوق ذات وصفات تخص به ولا يتحقق في الآخر لتنزه الغني المطلق عن لحوق نقص الإمكان به وتطرق معنى الافتقار إليه (وأنه قديم) إذ لو كان حادثا لكان مفتقرا إلى موجود فلا يكون واجبا بالذات، ولا يكون مبدء لجميع الموجودات ولا ينتهي إليه سلسلة الممكنات وإذا أقر بأنه قديم فقد أقر بأنه لا شيء قبله وهو ظاهر ولا شيء معه إذ لو كان معه شيء في الأزل لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا له، وإلى ذلك أشار مولانا الرضا (عليه السلام) بقوله «اعلم علمك الله الخير إن الله تعالى قديم والقديم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميته».
(مثبت) أي معلوم وجوده بالأدلة العقلية والنقلية وبالمشاهدة الحضورية أو غيره متغير من حال إلى حال إذ التغير أمر يلحق الزمان بالذات والزمانيات بتوسطه وهو سبحانه ليس بزمان ولازماني فلا محالة لا يلحق ذاته المقدسة وماله من صفات الكمال ونعوت الجلال تغير أصلا، فلا يجوز أن يقال مثلا: كونه عالما قبل كونه قادر أو كونه حيا قبل كونه عالما وكونه قويا بعد كونه ضعيفا وكونه أولا قبل كونه آخرا (موجود غير فقيد) أي موجود لذاته بمعنى أنه غير مفتقر في وجوده إلى غيره غير فاقد لوجوده أزلا وأبدا أو غير فاقد لذاته ولغيره من الموجودات بمعنى أنه عالم بذاته غير غافل عنها وبذوات الأشياء وصفاتها وخواصها قبل إيجادها وبعده فسبحان الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
(وأنه ليس كمثله شيء) لأن عالم القدس أجل من أن يدخل فيه صفات الخلق ولواحق الإمكان
ص:90
وعالم الامكان لا يصلح ان يتصف بصفات الواجب وخواص الملك الديان.(1)
2 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن طاهر بن حاتم - في حال استقامته - أنه كتب إلى الرجل: ما الذي لا يجتزئ في معرفة الخالق بدونه؟ فكتب إليه: لم يزل عالما وسامعا وبصيرا،وهو الفعال لما يريد. وسئل أبو جعفر (عليه السلام) عن الذي لا يجتزئ بدون ذلك من معرفة الخالق فقال: ليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء لم يزل عالما سميعا بصيرا.(2)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن طاهر بن حاتم في حال استقامته) طاهر بن حاتم بن ماهويه بفتح الهاء والواو غال كذاب كأخيه فارس بن حاتم، وطاهر بن أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن موسى (عليه السلام)، وأخوه فارس من أصحاب الرضا (عليه السلام) قيل: هما كانا مستقيمين ثم تغيرا وتفسدا وأظهر القول بالغلو، وقال ابن الغضايري: طاهر بن حاتم بن ماهويه القزويني أخو فارس كان فاسد المذهب ضعيفا وكانت له حالة استقامة كما كانت لأخيه ولكنها لا تثمر.
وفيه أنه إن أراد أنها لا تثمر في قبول ما رواه بعد التغير فهو كذلك وإن أراد أنها لا تثمر مطلقا فهو ممنوع لإنها تثمر في قبول ما رواه قبل التغير كما في هذا الحديث.
(أنه كتب إلى الرجل) هو الكاظم أو الصادق (عليه السلام) (ما الذي لا يجتزء في معرفة الخالق بدونه) أي بأقل منه (فكتب إليه لم يزل عالما) بذاته وبالأشياء قبل إيجادها ولا يعزب عنه شيء منها كليها وجزئيها وحقايقها ولوازمها وعوارضها وجوانبها وحدودها التي تنتهي إليها.
روى الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بسنده عن الحسين بن يشار بالياء المنقطة تحتها نقطتين والشين المعجمة المثلثة المشددة (3) عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) قال: سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون فقال إن الله هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء، قال عز وجل: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) (4)وقال لأهل النار (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (5)فقد علم عز وجل أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه.
وقال للملائكة لما قالت: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك
ص:91
ونقدس لك قال: إني أعلم ما لا تعلمون.
فلم يزل الله عز وجل علمه سابقا للأشياء قديما قبل أن يخلقها، وفيه رد على من زعم أنه ليس عالما بذاته لوجوب المغايرة بين العالم والمعلوم ولم يعلم أن التغاير الاعتباري كاف كعلمنا بأنفسنا فهو عالم ومعلوم وعلم وعلى من زعم أنه ليس بعالم بغيره لأن علم أحد بغيره عبارة عن صورة مساوية له مرتسمة في العالم ولم يعلم أن علم أحد بغيره قد يكون حضوريا (1) بمعنى حضور ذلك الغير بنفسه لا بمثاله وصورته عند العالم وعدم غفلة العالم عنه وأن العلم الحضوري أقوى من العلم الحصولي ضرورة أن انكشاف الشيء على أحد لأجل حضوره بنفسه أقوى من انكشافه عليه لأجل حصول مثاله وصورته فيه.
وعلى من زعم أنه ليس عالما بالجزئيات (2) لأن الجزئيات متغيرة فعلمه بها يوجب التغير في ذاته، ولم يعلم أن التغير أمر اعتباري يقع في الإضافة لا في ذاته ولا في صفاته ولا أن علمه
ص:92
بالكليات والجزئيات لعدم كونه زمانيا مستمر على نحو واحد أزلا وأبدا من غير تغير وتبدل أصلا.
(وسامعا بصيرا) بالمسموعات الجلية والخفية والمبصرات الضعيفة والقوية وإن لم يكن شيء منها موجودا في الأزل لقيام البراهين العقلية والنقلية على (1) حدوث العالم فهو لذاته يسمع ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى «وإن تجهر بالقول فإنه يعلم الجهر وأخفى» لا للآلات كما يسمع ويبصر لأجلها الإنسان وساير الحيوانات لاستحالة اتصافه بالجسمية ولواحقها، وفيه رد على من زعم أنه لا يسمع ولا يبصر لأن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة والآلة أو أمر مشروط به وليس له حاسة ولم يعلم أن ذلك قياس للغايب على الشاهد مع الفارق بينهما لأن ذاته تعالى مغايرة لذواتنا وصفاته مخالفة لصفاتنا فجاز أن لا يكون سمعه وبصره نفس التأثر عن الحاسة ولا أمرا مشروطا به ولإنكار هؤلاء الفرق الضالة المضلة علمه وسمعه وبصره خص (عليه السلام) هذه الثلاثة بالذكر لتثبيت قلوب العباد بها وتسديدها (وهو الفعال لما يريد) بمجرد الإرادة من غير حركة ولا آلة ولا تعب ولا صوت وهو نافذ الإرادة لا يمتنع عن إرادته شيء وفيه رد على من زعم أنه واحد لا يصدر عنه إلا واحد (2).
ص:93
(وسئل أبو جعفر (عليه السلام)) الظاهر أنه ليس من تتمة حديث المكاتبة وأن الراوي عنه (عليه السلام) غير معلوم ويؤيده أن الصدوق (رحمه الله) روى هذه المكاتبة بعينها ولم يذكر هذه اللاحقة وقيل: الأظهر أنه من رواية طاهر بن حاتم في حال استقامته مرفوعة ولا يخفى بعده (عن الذي لا يجتزء بدون ذلك) أي بدونه فوضع الظاهر موضع الضمير (من معرفة الخالق) «من» بيان للموصول أو متعلق بلا يجتزء وعلى التقديرين خبر الموصول محذوف وهو ما هو.
(فقال: ليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء) إذ لو كان ذا شبه من خلقه لكان محتاجا إلى المؤثر والمدبر مثله، وأيضا التشابه هو الاتفاق في الكيفية ولا كيفية له (لم يزل عالما سميعا بصيرا) إنما ترك العاطف هنا للتنبيه على كمال المناسبة بين الأخيرين وبين الأول لأن السمع والبصر في حقه تعالى نوعان من علمه المطلق وهما العلم بالمسموعات والعلم بالمبصرات وجئ بالعاطف سابقا للتنبيه على المغايرة بحسب الاعتبار.
3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن يوسف بن بقاح، عن سيف ابن عميرة. عن إبراهيم بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أمر الله كله عجيب إلا أنه قد احتج عليكم بما قد عرفكم من نفسه.(1)
(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن يوسف بن بقاح، عن سيف بن عميرة، عن إبراهيم بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أمر الله كله عجيب) حيث أنه فاعل العجايب والغرايب من ملكوت السماوات والأرض والعناصر والمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية وغير ذلك على النظام المشتمل على العجب العجيب الذي يحير أبصار بصائر الخلائق
ص:94
ويضطرهم إلى الإقرار بوجوده وقدرته وعلمه والاذعان لإرادته وأمره وحكمته وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «عجبت لمن شك في الله وهو يرى خلق الله (1)» (إلا أنه» إلا بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف تنبيه، وجعلها بكسر الهمزة وتشديد اللام من أداة الاستثناء بمعنى لكن للاستدراك ودفع توهم أن من لم يحصل له المعرفة لا حجة عليه بعيد جدا.
(قد احتج عليكم بما عرفكم من نفسه) يشير إليه قول الصادق (عليه السلام) أيضا ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا (2) توضيح ذلك أن الله عرفهم وجوده وعلمه وقدرته وحكمته أولا بما يدل على ذلك بالضرورة فإن من تأمل خلق السماوات والأرض وما بينهما سيما في بدء خلقه في ظلمات الأرحام ومتضاعفات الأستار واستقراره في قرار مكين إلى قدر معلوم وأجل معين وانقلابه في بطن امه من حال إلى حال وهو لا يعلم دعاء ولا يسمع نداء وخروجه من ذلك المضيق إلى منزل لم يشهده ومقام لم يعرفه، واجترار غذائه من الثدي عند الحاجة يعلم أن له إلها صانعا قادرا حكيما عليما وهذا العلم ضروري وإن احتاج إلى تنبيه كما ورد في مواضع من القرآن العزيز.
ثم عرفهم ما وراء ذلك من صفات الكمال وعينيتها ونعوت الجلال التي لا يطلع عليها العقول بالاستقلال إلا بالإشراقات القلبية وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الإمام ليحيى من حي بينة ويهلك من هلك عن بينة ولئلا يكون للناس على الله حجة فوجب عليهم أن يعرفوه كما عرفهم وأن يصفوه بما وصف به نفسه، ومن وصفه بغير ذلك فقد أشرك به وألحد في أمره وتعدى في حقه.
ص:95
1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن الحسن بن محبوب، عن ابن رئاب وعن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فاولئك أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا وفي حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا.(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد عن الحسن بن محبوب، عن ابن رئاب، وعن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم) أي بتوهم أن له حدا أو كيفية أو صورة أو مقدارا أو أينا أو وضعا إلى غير ذلك من المعاني الوهمية والصور الخيالية والمفهومات العقلية (فقد كفر) لأنه اتخذ معبودا باطلا، إذ المعبود الحق لا ينال له الأوهام ولا يدركه الأفهام ولا يعرضه لواحق المحسوسات ولا يلحقه عوارض الممكنات ولا يشبهه شيء من المخلوقات، فمن تصوره أو توهمه أو تخيله بنحو من هذه الأنحاء وعبده فقد كفر.
(ومن عبد الاسم) المركب من الحروف (2) مثل الله والرحمن والرحيم والقادر وغيرها (دون
ص:96
المعنى) المراد منه وهو الذات المقدسة المنزهة عن التركيب والحدوث (فقد كفر) لأن المعبود الحق هو المعنى والاسم غيره فمن عبد الاسم فقد عبد غيره ومن عبد غيره فهو كافر.
(ومن عبد الاسم والمعنى) أي المجموع من حيث هو أو كل واحد منهما والأخير أنسب بقوله (فقد أشرك) حيث جعل الاسم مشاركا للمعنى في استحقاق العبادة فقد اتخذ إلهين اثنين بل آلهة لتعدد الأسماء وتكثرها.
(ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه) أي من عبد المعنى وحده وذكر اسما من أسمائه باعتبار أنه دال عليه على ما جرت عليه العادة من انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى لا باعتبار تعلق العبادة به (بصفاته) متعلق بعبد أو حال عن فاعله أو عن مفعوله أو حال عن الأسماء يعني من عبد المعنى حال كون ذلك العابد آخذا بصفاته أو حال كون المعنى مأخوذا بصفاته أو حال كون الأسماء متلبسة بصفاته (التي وصف بها نفسه) في القرآن وبينها لرسوله وعلمها الرسول أوصياءه وعلمه الأوصياء سائر الخلائق كما تعرف من أحاديثهم (فعقد عليه قلبه) أي فعقد على المعنى المأخوذ مع صفاته على الوجه اللايق به قلبه عقدا جازما (ونطق به لسانه) بسبب ذكر أسمائه (في سرائره وعلانيته) السر متعلق بالعقد والعلانية بالنطق، وتعلق المجموع بالمجموع أو كل واحد بكل واحد بعيد، وفيه إشارة إلى اعتبار خشوع القلب والجوارح في العبادة.
(فأولئك أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا، وفي حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا) حقا مفعول مطلق حذف ناصبه وجوبا كما في زيد قايم حقا أي حق حقا يعني ثبت.
وفي قوله «بصفاته التي وصف بها نفسه» إشعار بأن صفاته توقيفية وأن الحقيقة الإلهية غير معلومة لنا وإنا أنما نعلمها من جهة صفاتها وآثارها الظاهرة في عالم الإمكان وأنها مختلفة فإن أثر العلم والحكمة شيء وأثر الصنع والقدرة شيء آخر وهكذا في ساير الصفات، ثم لما كان هذا العالم عالم الكثرة والتفرقة الذي يقف فيه الأوهام على حد لا يليق بجناب الحق لأن عالم الوجوب الذاتي عالم وحدة لا كثرة فيه أصلا ولا سبيل فيه لاحكام الوهم.
وكانت هذه الصفات التي اختلفت آثارها ومفهوماتها غير مفيدة لمعرفته تعالى على أي وجه أخذناه، وأي طريق تصورناه بل قد تصير حجابا بيننا وبينه تعالى فلذلك ترى كثيرا من الناس بقوا متحيرين من وراء ذلك الحجاب فبعضهم شبهوه بالجسم وبعضهم شبهوه بالصورة وبعضهم
ص:97
اعتقدوا أن صفاته أمور موجودة في الخارج زائدة على ذاته عارضة لها إلى غير ذلك من المذاهب الباطلة وجب على العبد السالك إلى الله الطالب لمعرفته من جهة صفاته على ما ينبغي له أن يرفع ذلك الحجاب بقوة الإشراقات القلبية (1) الحاصلة من أجل متابعة النواميس الإلهية والقوانين الشرعية التي بينها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وبينها أمير المؤمنين (عليه السلام) للامة وهداهم إليها فمن عرف صفاته بتعليمه (عليه السلام) وجردها عن شوائب الأوهام ومفتريات الأفهام فهو من أصحابه (عليه السلام) ومن عرفها برأيه وأخذها بوهمه فهو ضال مضل شبه ربه بالخلق وظالم لنفسه ولمن تبعه ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون، ثم هذا طريق المتوسطين (2) في معرفته تعالى وأما الكاملون بالنفوس القدسية كالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) فهم يعرفونه بذاته ويشاهدونه بأبصار القلوب الصافية، ثم يعرفون آثاره وأفعاله كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله».
2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها، الله مما هو مشتق؟ قال: فقال لي: يا هشام الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الله الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد أفهمت يا هشام،
ص:98
قال: فقلت زدني قال: إن لله تسعة وتسعين إسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم المشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين (1) مع الله جل وعز غيره؟ قلت: نعم، قال: فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام، قال هشام: فهو الله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.(2)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها) أي سأل عن كل واحد منهما أو سأل عن اشتقاقها وذكر أسماء من باب التمهيد على أن يكون هذا الكلام من قبيل سأل عن زيد وحاله أي سأل عن حاله، ولعل ذلك السؤال نشأ من العلم بأن أسماءه تعالى لا تدل على ذاته بذاته بل إنما تدل عليها مع ملاحظة صفاته فلذلك سأل عن اشتقاقها والاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب فيفيد ذلك أن الأول مأخوذ من الثاني وأن الثاني أصله.
(الله مما هو مشتق من إله) بكسر الهمزة على فعال بمعنى مفعول فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تحقيقا لكثرته في الكلام ولو كانتا عوضا منها لما اجتمعتا مع المعوض منه في قولهم الإله، وإنما قطعت الهمزة مع كونها زايدة غير أصلية في النداء مثل يا الله للزومها تفخيما لهذا الاسم الشريف وقال أبو علي النحوي الألف واللام عوض منها ولهذا قيل: يا الله بقطع الهمزة لكونها عوضا عن الهمزة الأصلية المحذوفة التي هي همزة قطع لكونها جزء كلمة، ورد الأول بأنه لا يجوز أن يكون قطعها لكثرة الاستعمال لأن ذلك يوجب أن يقطع الهمزة في غير هذا الاسم مما يكثر استعمالهم له فعلمنا أن ذلك لمعنى اختصت به ليس في غيرها ولا شيء أولى بذلك المعنى من أن يكون عوضا من الحرف المحذوف الذي هو الألف والفرق بين المشتق والمشتق منه أن المشتق وهو الله مختص بالمعبود بالحق لا يطلق على غيره أصلا والمشتق منه وهو الإله اسم جنس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق ومع الغلبة يستعمل في المطلق أيضا كما في قولنا لا إله إلا الله وأما الإله فقد اختلفوا في أصله المشتق منه فقال صاحب الكشاف وإنه مشتق من أله بفتح الهمزة وكسر اللام إذا تحير لأنه ينتظمها معنى التحير والدهشة وذلك لأن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش العقول فيها ولذلك كثر الضلال وفشا الباطل وقل النظر الصحيح، وقيل من أله بفتح الهمزة واللام إلاهة بمعنى عبد لأن الناس يعبدونه وهو
ص:99
معبود وإليه ميل الجوهري وقيل: من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله إذ أفزع من أمر نزل عليه لأن العابد يفزع إليه في النوائب أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه إذ العباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، أو من وله إذا تحير وتخبط عقله وكان أصل إله ولاها قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها فقيل إليه، وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه لاها إذا احتجب وارتفع لأنه تعالى محجوب عن إدراك الأبصار ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به.
ويحتمل أن يقرأ أيضا إله في هذا الحديث بفتح اللام وكسرها فيرجع اشتقاق الله منه (1) إلى المعاني المذكورة بلا واسطة وبالجملة المستفاد من هذا الحديث ان الله أصله إله على فعال أو فعل بفتح العين أو كسرها وأنه يجري فيه ما يجري في أصله من المعاني المذكورة وأنه صفة كأصله وإن صار علما لذاته المقدسة كالنجم للثريا وبذلك يظهر بطلان قول من قال: إن الله غير مشتق من شيء وأنه علم في الأصل لذاته المخصومة لانه يوصف ولا يوصف به ولأنه لا بد له من اسم يجري عليه صفاته ولا يصلح لذلك ما يطلق عليه من الأسماء سوى الله ولأنه لو كان وصفا لم يكن لا إله إلا الله توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن فإنه لا يمنع الشركة بحسب أصل الوضع الوصفي، قال القاضي:
والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار كالعلم مثل الثريا أجري مجراه في إجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله تعالى «وهو الله في السماوات وفي الأرض»
ص:100
معنى صحيحا ولأن الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة.
(والإله يقتضي مألوها) أي حايرا متحيرا مهوشا في أمره أو عابدا متعبدا له أو ساكنا إليه مطمئنا بذكره أو فارغا إليه مولعا بطاعته متضرعا له أو متحيرا متخبطا متفكرا في شأنه وعلو قدره أو محتجبا عن إدراكه، فالله لكونه مشتقا من الإله يقتضي مألوها بهذه المعاني أيضا والغرض من هذا الكلام هو التنبيه على اعتبار ما يقتضيه المشتق منه في المشتق أيضا، ويحتمل أن يراد بالمألوه المألوه فيه بتقدير في وهو المعبود وهذا أنسب بقوله (والاسم غير المسمى) فالله يعني المركب من ألف ولام وهاء غير معناه المقصود منه، وقد اختلفوا في أن الاسم غير المسمى أو عينه والأول هو الحق وهو مذهب المعتزلة والثاني هو الباطل وهو مذهب الأشاعرة قال الراغب من قال بالأول نظر إلى قولهم سميته زيدا وزيدا اسم حسن، ومن قال بالثاني نظر إلى قولهم رأيت زيدا وزيد رجل صالح فإن مرادهم هو المسمى أقول: فيه نظر لأن مرادهم في هذا اللفظ (1) مسماه باعتبار أن الحكم
ص:101
مترتب عليه لا أن اللفظ نفس مسماه فلا دلالة فيه على العينية، وقال الشيخ (رحمه الله) في الكشكول: إعلم أن أصحاب القلوب على أن الاسم هو الذات مع صفة معينة وتجلي خاص، وهذا الاسم هو الذي وقع فيه التشاجر أنه هل هو عين المسمى أو غيره وليس التشاجر في مجرد اللفظ كما ظنه المتكلمون (1) فسودوا قراطيسهم وأفعموا كراريسهم بما لا يجدي بطائل ولا يفوق العالم به على الجاهل.
زهر بازيچه رمزى ميتوان خواند * زهر افسانه فيضى ميتوان يافت وفيه أيضا نظر لأنه إن أراد بالذات المأخوذة مع صفة معينة ذات المعنى فهي المراد بالمسمى وكونها عين الاسم أول النزاع على أنه لا معنى للتشاجر المذكور بعد تسليمه (2) وإن أراد بها ذات اللفظ الحاصلة من الحروف ودلالتها على صفة مخصوصة فهذا عين ما ذكره المتكلمون فليتأمل.
ص:102
ثم لهذه المسألة فوائد كثيرة وما يقال من أن النزاع (1) فيها وتحقيق الحق منها لا طائل تحته ليس بشيء، وسيجئ لهذا زيادة تحقيق في باب معاني الأسماء واشتقاقها إن شاء الله تعالى ولما أشار إلى أن الاسم غير المسمى أشار إلى أقسام العبادة وإثبات واحد من الأقسام وإبطال ما عداه بقوله (فمن عبد الاسم) واتخذه معبودا لنفسه (دون المعنى) المقصود من هذا الاسم الذي هو المعبود بالاستحقاق (فقد كفر) بالله حيث جعل ما ليس برب ربا معبودا (ولم يعبد شيئا) أي ليست عبادته هذه عبادة أو لم يعبد شيئا موصوفا بالشيئية الحقة الحقيقية المجردة عن شوائب الإمكان ولواحق الحدود وعدم استحقاق الاسم للعبادة المختصة بالصانع القديم لا ينافي استحقاقه باعتبار أنه اسمه للثناء والتعظيم.
(ومن عبد الاسم والمعنى) أي مجموعهما من حيث المجموع أو كل واحد منهما بالاستقلال (فقد كفر وعبد اثنين) كفر باعتبار أنه عبد المجموع أو جعل ما ليس بمعبود معبودا وأشرك باعتبار أنه عبد كل واحد منهما واعتقد أن المعبود اثنان.
(ومن عبد المعنى دون الاسم) وإن ذكر الاسم فإنما ذكره لينتقل منه إلى معناه ويدعوه به (فذاك التوحيد) المطلق الذي اعتبر فيه تجرده عن جميع ما سواه حتى عن اسمه الذي هو من أخص الأشياء.
(أفهمت يا هشام) معنى هذا الكلام، استفهم عن ذلك لما فيه دقة باعتبار وجوب تجرده عن
ص:103
جميع ما ينافي التوحيد المطلق من شوائب الأوهام.
(قال: فقلت: زدني قال: إن لله تسعة وتسعين اسما) مثله ما رواه الصدوق بإسناده مرفوعا عن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لله عز وجل تسعة وتسعين إسما من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنة» (1) وفي كتاب مسلم أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين إسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة (2)».
أقول: هذا العدد من أسمائه تعالى ذكره صاحب العدة فيها وشرحه، وفي هذه الأخبار دلالة على أن «الله» هو أشهر أسمائه تعالى لإضافة الأسماء إليه ولأنه يعرف كل الأسماء الحسنى به فيقال: مثلا الرحمن اسم الله ولا يقال الله اسم الرحمن ولا دلالة فيها على حصر أسمائه تعالى في هذا العدد إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة اتفاقا فلا ينافي ما يدل على أن أسماءه تعالى أزيد من ذلك كما سيأتي في باب حدوث الأسماء وثبت ذلك أيضا من طرق العامة وإنما اقتصر على هذا العدد لكونه من أشرف الأسماء الحسنى، وقال بعض العامة هذه التسعة والتسعون مخفية من جملة أسمائه كالاسم الأعظم وليلة القدر ورد هذا القول بأنه بعيد لا يكاد يعقل لقوله «من أحصاها دخل الجنة» وكيف يحصي ما لا يعلم (3) وههنا شيء من كلام العامة لا بأس أن نشير إليه فنقول قال
ص:104
القشيري في حديث مسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما» دلالة على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغير الله تعالى وهو باطل لقوله تعالى «ولله الأسماء الحسنى» وقال أبو عبد الله الآبي: استشكل شيخي وأهل مجلسه كلام القشيري هذا وقالوا من أين يلزم أن يكون الأسماء لغيره؟ ومضى المجلس على استشكال ذلك ثم قال الآبي وبيانه والله أعلم: إن الحديث دل على أن التسعة والتسعين اسما لله تعالى لإسناده إليه تعالى فإن كان الاسم هو المسمى صح الإسناد وإن لم يكن الاسم هو المسمى لم يصح الإسناد وكانت لغيره وكونها لغيره باطل، وأجاب بأن الاسم غير المسمى ولا يلزم ما ذكر بل أسماء لله ولا يلزم منه تعدد في الإله لأن الذات الواحدة يكون لها أسماء كثيرة يختلف بحسبها وبحسب الاعتبارات الزايدة عليها كالله والقادر والعالم وغير ذلك من أسمائه تعالى فلفظ الله اسم اللذات من غير زيادة على القول بأنه غير مشتق وعالم وقادر كل منهما يدل على ذلك مع زيادة ما اتصف به من العلم والقدرة وكذلك في بقية الأسماء.
(فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها) فلزم تعدد الإله على قدر تعدد الأسماء والتالي باطل باتفاق الامة فالمقدمة مثله، لا يقال المسمى بهذه الأسماء إله فلو كان المسمى متعددا لزم تعدد الإله وإن لم يكن الأسماء نفسه وإن كان واحدا لزم على تقدير أن يكون الأسماء نفسه اتحاد تلك الأسماء لا تعدد الإله لأنا نقول اتحاد تلك الأسماء المختلفة المتغايرة أيضا باطل على أن اتحادها مما لا يعقل فلذلك جعل اللازم تعدد الإله.
(ولكن الله معنى) قايم بنفسه موجود لذاته لا تركيب فيه ولا تكثر بحسب الذات والصفات (يدل عليه بهذه الأسماء) فهذه الأسماء جعلت دليلا عليه وعلامة له ليدعوه الخلائق بها، لا يقال:
مدلول هذه الأسماء ليس أمرا واحدا لأن مدلول الله هو الذات وحدها، أو مع اعتبار المعبودية معها مثلا ومدلول العالم هو الذات الموصوفة بالعلم ومدلول القادر هو الذات الموصوفة بالقدرة وهكذا مدلولات سائر الأسماء. ولا شك أن هذه المدلولات متغايرة لأنا نقول: هذه المدلولات مفهومات وعنوانات ينتقل منها الذهن إلى الذات المقدسة المنزهة عن التجزي والتعدد والاتصاف بصفة زايده هي تلك المفهومات وغيرها إلا أن ذاته لما لا يخفى عليها شيء ولا يعجز عن شيء أطلق عليها العالم والقادر بهذا الاعتبار وملاحظة الاعتبار لا يوجب اختلاف الذات أصلا.
(وكلها غيره) هنا أربعة أشياء الاسم والمسمى والمسمي والتسمية، فالاسم الكلمة الدالة على معنى كلفظ بيت والمسمى الذات الموضوع لها تلك الكلمة والمسمي الواضع لتلك الكلمة لتلك الذات والتسمية جعل تلك الكلمة إسما لتلك الذات كوضع البيت لمسماها وقد يطلق التسمية
ص:105
على ذكر الاسم هكذا بيت والأربعة متغايرة كما ترى وهو مقتضى اللغة والعرف وقد يكون التغاير بين المسمى والمسمي بالاعتبار، ثم ذكر من أسماء الشاهد لتوضيح المقصود فقال:
(يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق) فإن من قال: أكلت الخبز وشربت الماء ولبست الثوب وأحرقت النار، أراد بها هذه المسميات دون الأسماء واستدل من وافقنا من العامة على مغايرة الاسم للمسمى بقول عائشة قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أهجر إلا اسمك حين قالت غضبا عليه لا ورب إبراهيم ولم تقل لا ورب محمد لأنه لو كان الاسم نفس المسمى لكانت هاجرة له، وأجاب من ذهب منهم (1) إلى العينية بأن هذا في المخلوق ولا نزاع فيه وإنما النزاع في الخالق وفي أن اسمه هو المسمى لأنه تعالى في ذاته وصفاته وأسمائه لا يشبه ذوات المخلوقين وصفاتهم وأسمائهم، وأنت خبير بأن هذا الفرق تحكم.
(أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل) أي تجادل وتخاصم وتسبقه وتغلبه به (أعداءنا والملحدين) المائلين العادلين عن دين الله من الإلحاد باللام على ما رأيناه من النسخ (2) حال كونهم
ص:106
آخذين (مع الله تعالى غيره) على تضمين معنى الأخذ ونقل الشيخ الطبرسي (رحمه الله) هذا الحديث بعينه في كتاب الاحتجاج وفيه «والمتخذين مع الله تعالى غيره» من الاتخاذ بالتاء المثناة من فوق والذال المعجمة وهو الأظهر.
(قلت: نعم، قال: فقال نفعك الله به) في الدنيا والآخرة (وثبتك يا هشام) في الدنيا عند المناظرة (قال هشام: فوالله ما قهرني) أي ما غلبني (أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) الظاهر أن «حتى» ههنا للعطف ومعناها الغاية والانتهاء كإلى، وما قبلها ينقضي شيئا فشيئا إلى أن يبلغ إليه فلذلك وجب أن يكون جزءا من المعطوف عليه وحكم الجارة حكم العاطفة في المعنى المذكورة إلا في شيئين أحدهما أن الجارة بعدها جزء أخير مثل سرت اليوم حتى وقت المغرب أو ما يلاقي جزءا أخيرا مثل سرت اليوم حتى المغرب بخلاف العاطفة فإن بعدها لا يكون إلا جزءا أخيرا، وثانيهما أن الجارة بعدها اسم مفرد بخلاف العاطفة فإن بعدها جملة فعلية أو اسمية، إذا عرفت هذا فنقول قوله «حتى قمت مقامي هذا» معناه حتى قمت في مقامي هذا المقام الذي أنا فيه الآن أو حتى بلغت مرتبتي هذه أو حتى قمت مقامي هذا المقام الذي هو مقام تعليمه ودعائه (عليه السلام) على اعتبار الابتداء من زمان التكلم بقوله فوالله ما قهرني أحد، واعتبار الانتهاء إلى زمان القيام من مجلسه (عليه السلام).
3 - علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) أو قلت له: جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد؟ قال فقال: إن من عبد الاسم دون المسمى بالأسماء فقد أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئا بل أعبد الله الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء دون الأسماء: إن الأسماء صفات وصف بها نفسه.(1)
(علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) (2) أو قلت له) الشك من العباس أو من علي، وكونه من عبد الرحمن بعيد.
(جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد) المراد بالواحد نفي التركيب والأجزاء الخارجية والذهنية عنه وبالأحد نفي الشريك عنه في ذاته وصفاته (3) وقال ذو المفاخر
ص:107
صاحب العدة هما اسمان يشملهما نفي الأبعاض والأجزاء.
والفرق بينهما من وجوه الأول أن الواحد هو المتفرد في الذات والأحد هو المتفرد بالمعنى يعني الصفات.
الثاني أن الواحد أعم موردا لأنه يطلق على من يعقل وغيره والأحد لا يطلق إلا على من يعقل، الثالث أن الواحد يدخل في الضرب والعدد ويمتنع دخول الأحد في ذلك وسيجئ زيادة تحقيق لهما، والصمد وهو السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوايج والنوازل وأصل الصمد القصد، تقول صمدته أي قصدته، وقيل: الصمد الذي ليس بجسم ولا جوهر وسيجئ أيضا زيادة توضيح له ولما كان كلام السائل يحتمل أمرين أحدهما أنا نعبد هذه الأسماء ومفهوماتها وعنواناتها وثانيهما أنا نعبد مسماها أمره (عليه السلام) بالثاني ونهاه عن الأول على الوجه الأتم كما أشار إليه بقوله (قال فقال:) على سبيل الكتابة أو من باب المشافهة.
(إن من عبد الاسم دون المسمى بالأسماء فقد اشرك) لأنه عبد آلهة لتعدد الاسم (وكفر وجحد) أي كفر بربه المستحق للعبادة وجحده لأنه لم يعبده ولم يتخذه إلها (ولم يعبد شيئا) لأن عبادته هذه هباء لا يترتب عليها ثواب، أو لم يعبد شيئا هو المعبود بالحق لأن اسمه غيره.
(بل أعبد الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء دون الأسماء) «أعبد» يحتمل أن يكون أمرا وأن يكون متكلما وحده، ثم أشار إلى أن أسماءه غيره، وأن ليس لها استحقاق العبادة بقوله (إن الأسماء صفات وصف بها نفسه) المراد أن أسماءه تعالى كلها دالة بحسب الوضع على صفات وصف بها نفسه وصفا اعتباريا أو صفاته عين ذاته والدال على صفات الذات ليس نفس تلك الذات ولا نفس تلك الصفات والمستحق للعبادة والذات دون غيرها، أو المراد أن الأسماء علامات وأدلة وضعها لنفسه ليعرفه الخلائق ويدعوه بها فهي مخلوقة وكل ما هو مخلوق لا يستحق العبادة.
ص:108
1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة قال: سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر (عليه السلام): فقال أخبرني عن الله متى كان؟ فقال: متى لم يكن حتى اخبرك متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا».(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة قال: سأل نافع ابن الأزرق أبا جعفر (عليه السلام) فقال أخبرني عن الله متى كان) أي في أي وقت وزمان ثبت وتحقق وجوده (فقال: متى لم يكن حتى اخبرك متى كان) يعني كل ما يصح أن يسأل عن وجوده بمتى، يصح أن يسأل عن عدمه بمتى لأن الشيء لا يدخل في مقولة متى بوجوده فقط بل إن دخل فيها دخل بوجوده وعدمه جميعا، ولكن لا يصح أن يسأل عن عدم واجب الوجود لذاته بمتى لأن وجوده أزلي غير مسبوق بالعدم أصلا فلا يصح أن يسأل عن وجوده بمتى أيضا، والحاصل أن السؤال عن كون الشيء بمتى إنما يصح إذا كان كونه زمانيا (2) ووجود الواجب تعالى شأنه ليس بزماني لا يجوز
ص:109
أن يسأل عنه بمتى.
(سبحان من لم يزل ولا يزال) نزه (عليه السلام) من ليس لوجوده ابتداء ولا لكونه انتهاء ولا لذاته انتقال من العدم إلى الوجود ولا من الوجود إلى العدم عن أن يدخل في مقولة متى وجودا وعدما أو عن جميع النقائص ولواحق الإمكان (فردا) حال من فاعل لم يزل أي فردا في ذاته وصفاته فلا تركيب فيه أصلا ولا يشابهه شيء قطعا (صمدا) أي مقصدا لجميع المخلوقات ومرجعا لجميع الممكنات إذ كل مخلوق فهو في قيد الفاقة لديه وكل ممكن فهو في ذل الحاجة إليه.
(لم يتخذ صاحبة ولا ولدا) لأن اتخاذ الصاحبة تابع للقوة الشهوية والمماثلة والمجانسة والجسمية والتركيب والانتقال من حال إلى حال وقد ثبت تنزهه تعالى عن هذه الأمور، وكذا اتخاذ الولد مقتض للمجانسة والمشاركة في النوع والافتقار إلى من يعينه أو يخلف عنه ولحوق مرتبتة بمراتب الأجسام التي هي في معرض الزوال وقد وجب طهارة ذاته وصفاته عن جميع ذلك. وفيه رد على من قال: الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وعزير ابن الله.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من وراء نهر بلخ فقال: إني أسألك عن مسألة فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك. فقال أبو الحسن (عليه السلام): سل عما شئت فقال: أخبرني عن ربك متى كان؟ وكيف كان؟ وعلى أي شيء كان اعتماده؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف وكان اعتماده على قدرته، فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن عليا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والقيم بعده بما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكم الأئمة الصادقون وأنك الخلف من بعدهم.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من وراء نهر بلخ فقال: إني أسألك عن مسألة) كأنه أراد بالمسألة جنسها لأن ما سأل عنها ثلاث مسائل (فإن أجبتني فيها بما عندي) أي الجواب الحق الذي عندي، ولعل الرجل كان من أهل الكتاب وأخذ ذلك من الكتب الإلهية.
ص:110
(قلت بإمامتك، فقال أبو الحسن (عليه السلام): سل عما شئت فقال أخبرني عن ربك متى كان) متى سؤال عن حالة تعرض الشيء بسبب نسبته إلى الزمن وكونه فيه أو في الآن، والأظهر بالنظر إلى الجواب «أين» بدل «متى» وهو سؤال عن حالة تعرض الشيء بسبب نسبته إلى مكان وكونه فيه كأن «متى» وقع سهوا من الناسخ ويؤيده أنه نقل الصدوق رحمه الله هذا الحديث بعينه في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) مع تغيير يسير عن أحمد بن محمد بن أبي نصر وفيه «أين كان» بدل «متى كان» (وكيف كان) أي هو على وصف وكيفية من الكيفيات المتكثرة التي لا يخلو موجود من الموجودات عنها.
(وعلى أي شيء كان اعتماده فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين (1) وكيف الكيف بلا كيف) أي خلق مهية الأين والكيف وأفاض الوجود عليها فهو بلا أين ولا كيف لاستحالة اتصافه بخلقه وأيضا عدم كونه في الأين وعدم اتصافه بالكيف قبل إيجادهما يجب أن يكون كمالا له لاستحالة اتصافه بالنقص فلا يجوز أن يتصف بضد ذلك بعد إيجادهما لاستحالة انتقاله مطلقا فضلا عن الكمال إلى النقص. وبهذا تم الجواب عن السؤال الأول والثاني سواء وقع في السؤال الأول أين أو وقع متى، أما الأول فظاهر وأما الأخير فلوقوع التلازم بين الزمان والمكان حتى أنه قيل: كلما كان الشيء في الزمان كان في المكان، وبالعكس، فإذا أفاد عليه أنه تعالى شأنه ليس في مكان فقد أفاد أنه ليس في زمان أيضا بطريق الكناية والكناية أبلغ من التصريح وبالجملة أفاد أنه ليس في زمان مع شيء زايد وهو أنه ليس في مكان وبقي الجواب عن السؤال الثالث فأشار إليه بقوله (وكان اعتماده على قدرته) (2).
ص:111
قال القاضي: القدرة هي التمكن من إيجاد الشيء، وقيل صفة تقتضي التمكن، وقيل: قدرة الإنسان هيئة يتمكن بها من العقل، وقدرة الله عبارة عن نفي العجز عنه والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري جل شأنه، واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته أو على مقدار ما تقتضيه مشيته، وقال الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «يعني (عليه السلام) بقوله واعتماده على قدرته أي على ذاته لأن القدرة من صفات ذات الله تعالى».
(فقام إليه فقبل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، وأن عليا وصي الله والقيم بعده بما أقام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) من النواميس الإلهية والقوانين الشرعية والأحكام الربانية والأخلاق النفسانية والمراد بكون علي (عليه السلام) قيما بعده أنه الذي قام بإجراء هذه الأمور على الخلق وتقلد سياسة أمورهم بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم).
(وإنكم الأئمة الصادقون) في كل ما أخبرتموه من أمور الدين والدنيا (وإنك الخلف من بعدهم) الخلف من جاء بعد آخر وإذا أطلق يراد به خلف الصدق سيما إذا كان ذلك الآخر معروفا به.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم ابن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: أخبرني عن ربك متى كان؟ فقال: ويلك إنما يقال لشيء لم يكن; متى كان، إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حيا بلا كيف ولم يكن، له كان ولا كان لكونه كون كيف ولا كان له أين، ولا كان في شيء ولا
ص:112
كان على شيء ولا ابتدع لمكانه مكانا ولا قوي بعدما كون الأشياء ولا كان ضعيفا قبل أن يكون شيئا ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدع شيئا ولا يشبه شيئا مذكورا ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه، لم يزل حيا بلا حياة وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا وملكا جبارا بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف ولا له أين ولا له حد ولا يعرف بشيء يشبهه ولا يهرم لطول البقاء ولا يصعق لشيء بل لخوفه تصعق الأشياء كلها، كان حيا بلا حياة حادثة ولا كون موصوف ولا كيف محدود ولا أين موقوف عليه ولا مكان جاور شيئا بل حي يعرف وملك لم يزل له القدرة والملك أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته، ولا يحد ولا يبعض ولا يفنى، كان أولا بلا كيف ويكون آخرا بلا أين وكل شيء هالك إلا وجهه، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، ويلك أيها السائل إن ربي لا تغشاه الأوهام ولا تنزل به الشبهات ولا يحار [من شيء] ولا يجاوره شيء (1) ولا تنزل به الأحداث ولا يسأل عن شيء ولا يندم على شيء ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.(2)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال له أخبرني عن ربك متى كان) سأل عن أول زمان وجوده (فقال ويلك) الويل كلمة تقال لمن وقع في مهلكة.
وقيل: هو واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لذابت من حره (إنما يقال لشيء لم يكن متى كان) ضرورة أن حدوث الشيء مسبوق بعدمه (إن ربي تبارك وتعالى كان) في الأزل بلا ابتداء فلا يجوز أن يقال في حقه متى كان (ولم يزل حيا) عطف على كان أو حال عن اسمه، والحياة قيل: هي صفة توجب صحة العلم والقدرة وقيل هي كون الشيء بحيث يصح أن يعلم ويقدر، وقال قطب المحققين في درة التاج هي عبارة عن إدراك الأشياء وهو تعالى شأنه لما كان عالما بذاته وبمعلولاته كما هي على الوجه الأتم الأبلغ كان حيا وليست حياته أمرا زايدا على ذاته قايما بها بل هي عين ذاته كالعلم وساير صفاته، وقال صاحب العدة الحي هو الفعال المدرك وهو حي (3) بنفسه
ص:113
لا يجوز عليه الموت والفناء وليس محتاجا إلى حياة بها يحيى (بلا كيف) لأن الكيفيات على أقسامها مخلوقة حادثة ومن البين أنه يستحيل أن يتصف القديم الأزلي الغني على الإطلاق بالمخلوق الحادث (ولم يكن له) (1) أي ولم يكن الكيف ثابتا له والواو إما للعطف والتفسير أو للحال.
(كان ولا كان لكونه كون كيف) لفظة كان أولا تامة بمعنى ثبت وجوده والواو للحال عن اسمه، وثانيا ناقصة وكون كيف بالرفع والإضافة اسمه والظرف المقدم خبره يعني كان أزلا والحال أنه ما كان كون كيف وحصوله ثابتا لكونه ووجوده والحاصل أنه ما كان كونه الأزلي كونا مكيفا بكيفية بل كان كونا منزها عن الاتصاف بها وإذا كان كذلك وجب تنزهه عنه أبدا لأن أبده كأزله، وأزله كأبده.
(ولا كان له أين) أي كان أزلا ولا كان له حيز وجهة أو حصول فيهما لأن ذلك من صفات الخلق وهو منزه عن الاتصاف بها أزلا وأبدا، ويحتمل أن يكون المراد بهاتين الفقرتين أنه كان أزلا وما كان لكونه استعداد الاتصاف بالكيف ولا استعداد الحصول في الأين حتى ينتقل من الاستعداد إلى الفعل بعد إيجاد الكيف والأين فيقال كيف هو وأين هو تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(ولا كان في شيء) هذا تعميم بعد تخصيص لأنه كما ينفي عنه الحصول في الأين كذلك ينفي عنه الحلول في الشيء أما الأول فقد عرفت وأما الثاني فلأن الحلول في الشيء هو الحصول فيه على سبيل التبعية وهو على الله تعالى شأنه محال لأنه إن افتقر إلى ذلك المحل في وجوده وكماله
ص:114
لزم الاحتياج المنافي للوجوب الذاتي والفناء المطلق وإن لم يفتقر كان الحلول فيه نقصا له لأن ما ليس بكمال فهو نقص وهو جل شأنه منزه عن الاتصاف بالنقص، وهذا رد على النصارى القائلين بحلوله في عيسى (عليه السلام) وعلى بعض المتصوفة القائلين بحلوله في العارفين.
(ولا كان على شيء) على سبيل الاستقرار عليه لأنه لو كان على شيء لزم الافتقار والنقص واختصاصه بجهة معينة وخلو بعض الجهات عنه وهو محال وفيه رد على من تشبث بالظواهر مثل قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) وقوله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
(ولا ابتدع لمكانه مكانا) الظاهر أن المكان الأول مصدر والمراد أنه ما أوجد لكونه مكانا إذ لو كان كونه مكانيا لما كان بلا مكان أصلا فلما كان بلا مكان قبل إيجاد المكان علم أنه ليس مكانيا أو المراد أنه ما أوجد لعلو كونه ومرتبة جلاله مكانا يحصره وحدا يحده وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يمكن أن يكون المكان محمولا على الظاهر ويكون الكلام لدفع توهم من يتوهم أن له مكانا باعتبار أنه موجودا وكل موجود له مكان وتوجيه الدفع أن مكانه بزعمك موجود وليس له مكان فإذا كان المكان المخلوق ليس له مكان فالخالق للمكان أولى أن لا يكون له مكان.
(ولا قوي بعد ما كون الأشياء) ليس الغرض من تكوينها تحصيل كمال قوته والاستعانة بها في سلطانه على ند مشاور أو شريك مكابر أو ضد منافر بل كونها لإظهار علمه وحكمته وانفاذ قدرته وقوته وإمضاء تقديره وتدبيره.
(ولا كان ضعيفا بل أن يكون شيئا) فلم يكونه لجبر ضعفه وتشديد قدرته ورفع العجز عنه كما يفعله المشاق منا لتحصيل القوة والقدرة على تحصيل الخط وصرف العجز عن نفسه. لأنه إنما يحتاج إلى ذلك العاجز الناقص في القدرة والقوة وأما الله تعالى شأنه فقوته التي هي عبارة عن كمال القدرة وتمامها ويقابلها الضعف تامة كاملة قاهرة أزلا وأبدا لا يعلم كمالها وتمامها وحقيقتها إلا هو وهو القوي المطلق الذي كل شيء مقهور تحت حكمه وقدرته إن شاء أوجده وأبقاه وإن شاء أعدمه وأفناه من غير أن يتغير بذلك قوته في الشدة والضعف.
(ولا كان مستوحشا) أي مغتما بتفرده والاستيحاش ضد الاستيناس (قبل أن يبتدع شيئا) فلم يبتدع الخلق ليستأنس بهم ويرفع عن نفسه ألم الوحشة لأن الوحشة من توابع المزاج ولواحق الحيوان الذي يأخذ من جنسه أو من غير جنسه أنيسا يستأنس بصحبته ويغتم بفقده والله سبحانه منزه عن ذلك.
ص:115
(ولا يشبه شيئا مذكورا) في الأشياء ومعدودا منها وصادقا عليه اسم الشيء لتنزهه تعالى عن المشابهة بخلقه في ذاته وصفاته إذ الوجوب الذاتي يتأبى عن الاتصاف بصفات الإمكان ولواحقه.
(ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه) وذلك لأن وجود المنشآت وإن كان متأخرا عن عدمها ومتقدما عن ذهابها وفنائها كما أن وقت الإنشاء متأخر عن وقت عدمه ومتقدم على وقت ذهابه وفنائه لتحقق الترتيب والتقدم والتأخر والتوسط بين أجزاء الزمان بالذات وبين الزمانيات بالعرض إلا أن نسبته تعالى إلى المتقدم والمتأخر والمتوسط من الزمان والزمانيات نسبة واحدة لا يصلح أن يتعرض لها بالنظر إليه قبلية وبعدية وحالية وماضوية واستقبالية لأن هذه الأمور تلحق الزمان لذاته والزمانيات بتوسطه وقد ثبت أنه تعالى منزه عن الزمان ولواحقه فلا يجري فيه شيء من لواحقه ولا يجوز أن يقال: نسبته إلى الأزل متقدمة على نسبته إلى الأبد ونسبته إلى وقت إنشاء الملك متأخرة عن نسبته إلى ما قبل ذلك الوقت ومتقدمة على ما بعده، وكذا لا يجوز أن يقال كونه مالك، الملك حصل له حين إنشائه ولم يكن له قبله ولا بعد ذهابه ولا أن يقال كونه عالما بالملك محيطا به لم يكن قبل إنشائه ولا بعد ذهابه بل الأشياء كلها كلياتها وجزئياتها حاضرة بذواتها وصفاتها عنده أزلا وأبدا لا باعتبار أنها كانت قديمة لبطلان ذلك بل باعتبار أنه لا يجري فيه عز وجل الزمان وأحكامه إلا أن الوهم لألفه بالمحسوسات وانسه بالزمانيات يتأبى عن قبول ذلك ويتخيل أن الشيء كيف يكون حاضرا عنده قبل كونه. قياسا له تعالى بخلقه فأن ما حضر عندنا الآن لم يكن حاضرا عندنا في الزمان السابق فيتخلف نسبته إلينا ونسبتنا إليه بالتقدم والتأخر والحضور وعدمه، وأما العقل الصريح والذهن الصحيح إذا عري عن شبهات الأوهام وجرد الباري عن توابع الإمكان ولواحق الزمان ولاحظ أنه لا امتداد في جانب قدس الحق (1) وأن الامتداد إنما هو في هذا العالم يحكم حكما جازما بأنه تعالى عالم قادر مالك قاهر قبل إيجاد الخلق وبعده وبعد إفنائه بلا تغير ولا تبدل ولا انتقال من حال إلى حال، ويمكن أن يقال: المراد من لفظ الملك في قوله (عليه السلام) «ولا يكون خلوا من الملك قبل إنشائه» السلطنة ومن ضميره الخلق والمملوك على سبيل الاستخدام والمقصود أنه لا يخلو من السلطنة قبل إيجاد الخلق إذ سلطنته بعلمه وقدرته على الممكنات عند أصحاب العصمة (عليه السلام) سواء أوجد الممكنات أو لا.
ص:116
(لم يزل حيا بلا حياة) قائمة بذاته وفيه تنزيه لحياته عن التشابه بحياة خلقه فإن حياة خلقه صفة زائدة على ذواتهم منشأ لعلمهم وقدرتهم، وأما حياته تعالى بعين ذاته باعتبار أنه يصدر عنه أفعال الأحياء على وجه الكمال.
(وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا) أما أنه ملك فلما عرفت أنه لا يكون خاليا من الملك قبل إنشائه. وأما أنه قادر فلأن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهو الله سبحانه كذلك لأن فعله مترتب على إرادته ومشيته إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون.
(وملكا جبارا بعد إنشائه للكون) في تعلق الإنشاء بالكون إشارة إلى الجعل البسيط بإفاضة الوجودات وفي صحة تعلق الجعل بالمهيات كلام طويل مذكور في موضعه والجبار من أسمائه تعالى مبالغة من الجبر لأنه يجبر مفاقر الخلق ويكفيهم أسباب الرزق ويصلح نقائص حقايق الممكنات بإعطاء الوجود وما يتبعه من الخيرات والكمالات أو لأنه يجبر طبايع الموجودات على لوازمها وآثارها التي ليست في وسعها وقدرتها أو لأنه يجبر الممكنات على الطاعة والانقياد (ولله يسجد ما في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) (1)أو لأنه يقهر الأشياء في الإيجاد ويوجدها كيف يشاء والله خالق كل شيء وهو الواجد القهار أو لأنه لا يناله لعلوه أيدي المتفكرين من قولهم للنخل الطويل العالي: جبار، لبعده عن تناول اليد، أو لأنه يكسر أعناق الجبابرة ويقمع شوكة القياصرة بالنوايب والمصايب.
(فليس لكونه كيف ولا له أين) إذ الكيف والأين خلقان من خلقه فلو كان لكونه كيف وأين لكان هو محتاجا إلى خلقه في ملكه وقدرته وإنه ينافي كونه ملكا قادرا جبارا على الإطلاق قبل الإنشاء وبعده.
(ولا له حد) عرفني لأنه لا أجزاء له، والحد العرفي إنما يتألف من أجزاء الحقيقة ولا لغوي وهو النهايات المحيطة بالجسم والجسمانيات مثلا، فيقف عندها لأن ذلك من لواحق الكم وتوابعه، والواجب بالذات ليس بكم ولا محل، فامتنع أن يوصف بالنهاية.
(ولا يعرف بشيء يشبهه) هذا في اللفظ خبر وفي المعنى نهي عن تشبيهه بخلقه وأدعاء معرفته بذلك، ردا على الفرق المجسمة والمصورة تعالى الله عما يقول الظالمون.
(ولا يهرم لطول البقاء) الهرم بالتحريك كبر السن، وقد هرم الرجل من باب لبس وأهرمه الله فهو هرم، ووجه ذلك أن الهرم إنما يحصل بتغير المزاج وانفعاله وانكسار القوى وضعفها لطول الزمان وتوارد نوائبه وتواتر مصائبه والله سبحانه سرمدي لازماني، وليس له مزاج ولا يعرض له انفعال
ص:117
وانكسار وضعف.
(ولا يصعق لشيء) أي لا يفزع أو لا يموت أو لا يغشى عليه للخوف من شيء لأنه تعالى فوق كل شيء قاهر عليه يقدر على إعدامه طرفة بل أقل من ذلك فكيف يصعق خوفا منه ولأن الصعق تابع للانفعال وهو سبحانه منزه عنه.
(بل لخوفه تصعق الأشياء كلها) نواطقها وصوامتها وبناتاتها وجماداتها ومجسماتها ومجرداتها وهذا مما لا شبهه فيه فإن من رفع حجاب الغفلة بينه وبين ربه ونظر إلى كمال كبريائه وعظمته وقدرته وقهاريته وغنائه من الخلق، ثم نظر إلى حال نفسه وغاية فقره وفاقته وعجزه وشدة احتياجه إليه سبحانه ونظر إلى ما يأتي عليه في القبر والحشر من أحوال البرزخ وأحوال القيمة وهو لا يدري أمن أهل الكرامة والثواب أو من أهل الخذلان والعقاب لصار مغشيا عليه من الخوف أو مات فجأة.
ولكن قساوة القلوب في الأكثر جعلتها فارغة من الخوف بل صيرتها أشد من الحجارة كما قال سبحانه: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعلمون).(1)
(كان حيا بلا حياة حادثة) أي مسبوقة بالعدم لأن حياته لو كانت حادثة لكان تعالى شأنه قبل حدوثها غير حي وكان محتاجا في حدوثها إلى غيره ضرورة أن الشيء لا يقدر على إيجاد حياة نفسه وكان قابلا للتغير ومحلا للحوادث واللوازم كلها باطلة بالعقل والنقل، والفرق بين هذا الكلام وبين ما سبق أنه نفي بهذا الكلام أن يكون له حياة حادثة ونفي بما سبق أن يكون له حياة قديمة زايدة على ذاته.
(ولا كون موصوف) (2) النفي راجع إلى القيد والمراد أنه ليس له وجود موصوف بكونه زايدا عليه لأن وجوده عين ذاته أو بكونه في زمان أو مكان لأن وجوده منزه عنهما أو المراد أنه ليس له وجود موصوف محدود بحد حقيقي يخبر عن ذاتياته أو بحد ونهاية إذ ليس لوجوده أجزاء ولا حد ولا نهاية، وبالجملة وجوده لا يتصف بصفة أصلا كما لا يتصف ذاته بها إذ كل صفة مغايرة
ص:118
للموصوف لأن قيام الصفة بالموصوف وقيام الموصوف بذاته لا بالصفة وإذا كان بين الصفة والموصوف مغايرة فلو اتصف وجوده بصفة لزم التكثر والاحتياج المنزه عنهما عالم القدس وجلال الحق.
(ولا كيف محدود) الظاهر أنه أراد بالكيف المعنى المعروف والنفي راجع إليه لوجوب تنزيه الخالق عن الكيفيات التي هي من خواص خلقه، وإنما وصفه بما هو من لوازمه أعني المحدودية بالنهاية أو الحد الحقيقي أو توارد الأفراد على سبيل التعاقب للإشعار بأن هذا الوصف في الحقيقة علة لوجوب تنزيه الحق عن الموصوف به لبراءته عن الحد والنهاية وقبول توارد أفراد الكيف عليه، ويحتمل أن يراد بالكيف المعنى الأعم الشامل لمطلق الصفات والنفي حينئذ راجع إلى المجموع باعتبار القيد فيكون فيه إشارة إلى أن له كيفا غير محدود. أعني الصفات اللايقة بذاته تعالى وأن إطلاق الكيف عليه على سبيل التجوز وقد أشار إليه أبو عبد الله (عليه السلام) في باب إطلاق القول بأنه شيء بقوله «ولكن لا بد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره».
(ولا أين موقوف عليه) (1) ضمير المجرور إما راجع إليه سبحانه ومعنى وقوف الأين عليه إحاطته به أو راجع إلى الأين ومعنى وقوفه على الأين استقراره فيه وذلك لاستلزامه أن يكون تعالى شأنه محتويا بالحواية ومتحيزا بحيز ومستقرا في جهة وكل ذلك محال بالضرورة.
(ولا مكان جاور شيئا) ضمير «جاور» إما راجع إلى المكان والوصف للكشف والإيضاح أو راجع إلى الله سبحانه بحذف العايد، وذلك لأن كونه حالا في المكان ومجاورا فيه لشيء تابع للجسمية ومستلزم للنقصان اللازم للإمكان فليس سبحانه في الأين والمكان بمعنى الوقوف عليهما والحلول فيهما وهو في كل أين ومكان بمعنى العلم والإحاطة وهذا تأكيد للسابق، ويمكن الفرق بينهما بأن المقصود هنا نفي أن يكون في مكان وفي السابق أنه لا يجوز أن يسأل عنه بأين، ويقال: أين هو، قال الجوهري: أين سؤال عن مكان إذا قلت أين زيد فانما تسأل عن مكانه.
أو باعتبار الوصف فإن المقصود هنا نفي أن يكون مجاورا لشيء دون شيء باعتبار كونه في مكان قريب من الشيء الأول والمقصود في السابق نفي أن يكون واقفا على المكان حالا فيه والله أعلم.
(بل حي يعرف) الفعل إما على البناء للفاعل أي يعرف الأشياء والأمكنة وما فيها قبل إيجادها وبعده، وللإضراب حينئذ وجه ظاهر كأنه قال: وليس له مكان بمعنى الحلول فيه بل هو حي في
ص:119
جميع الأمكنة بالمعرفة والإحاطة بها، أو على البناء للمفعول يعني بل هو معروف في جميع الأمكنة أو معروف عند اولي الألباب بتعقل صرف بريء عن علايق المواد، مجرد عن إدراك الحواس وتوابع إدراكاتها من الوضع والأين والمكان والإضراب على هذا أظهر.
(ومالك لم يزل) ذكر الملك ثلاث مرات الأول لبيان أنه ملك قبل الإنشاء، والثاني لبيان أنه ملك بعد الإنشاء. والثالث - وهو هذا البيان أنه ملك أزلا وإذا كان ملكا أزلا كان ملكا أبدا فهو ملك دايما وسلطان أولا بلا غاية وآخرا بلا نهاية.
(له القدرة والملك) تقديم الظرف لقصد الحصر أي له القدرة الكاملة على جميع الأشياء إذ كل موجود فهو منته في سلسلة الحاجة إليه وهو تعالى مبدء وجوده وساير ما يعد سببا له فإنما هي واسطة بجعله وله الملك على الإطلاق وكل مالك مع ما في يده فهو مملوك له فإذن لا قدرة ولا ملك في الحقيقة إلا له.
(أنشأ ما شاء حين شاء بمشيته) أي بمجرد مشيته وإرادته بلا آلة ولا حركة ولا روية ولا مادة فقد ظلم نفسه وكفر بالله العظيم من قال: أنه تعالى فاعل بالايجاب (1) لا قدرة له على فعله، ومن قال: إنه لم يوجد إلا شيئا واحدا ولم يقدر على إيجاد غيره (2) ومن قال: إنه يحتاج في خلق شيء
ص:120
إلى مادة فإن ذلك ليس من صفة ربنا جل شأنه (1).
(لا يحد ولا يبعض) بأجزاءه مقدارية لأن القابل للتحديد والتبعيض له جزء وكل ذي جزء مفتقر إلى جزئه الذي هو غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن، في ذاته وكل ممكن في ذاته يفتقر في وجوده إلى غيره والواجب الوجود لذاته لا يفتقر إلى الغير أصلا لا في الوجود ولا في غيره.
(ولا يفنى) يريد أن وجوده أزلي أبدي سرمدي لا يطرأ عليه العدم والفناء لأن الوجوب الذاتي
ص:121
والقدم مناف لطريان الفناء والعدم ولأن الفناء إما لانقطاع القوة المزاجية أو لميل كل شيء بطبعه (1) إلى مبدئه ليعود إليه كما بدء منه أو لإعدام الفاعل إياه أو لطريان شيء آخر من الحوادث عليه وكل ذلك عليه سبحانه محال.
(كان أولا بلا كيف ويكون آخرا بلا أين) أوليته عبارة عن كونه قبل وجود الممكنات وآخريته عبارة عن بقائه بعد فنائهم وما وقع في بعض الروايات من نفي الأولية والآخرية عنه فانما المقصود منه نفي الأولية والآخرية الزمانيتين. واقتران سلب الكيف مع الأولية وسلب الأين مع الآخرية إما لمجرد الذكر لا لأمر يقتضيه (2) إذ لو عكس لكان أيضا صحيحا أو لأن إقدام الوهم إلى اعتبار الكيف له مثل زيادة الصفات المختصة القائمة به في مرتبة الأولية الحاصلة قبل إيجاد الأين والأينيات أظهر من إقدامه إلى اعتبار الأين له في تلك المرتبة، فلذلك ذكر سلب الكيف مع الأولية، ويمكن أن يقال: أوليته عبارة عن اعتبار كونه مبدءا لكل موجود وآخريته عبارة عن اعتبار كونه غاية ومقصدا لكل ممكن.
والحاصل أنهما اعتباران إضافيان يحدثهما العقول لذاته المقدسة، وذلك أنك إذا لاحظت ترتيب الموجودات في سلسلة الحاجة إليه سبحانه وجدته بالإضافة إليها أنه أول إذ كان انتهاؤها في سلسلة الحاجة إلى غنائه المطلق فهو أول بالعلية والشرف وإذا اعتبرته بالنظر إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين في منازل عرفانه وجدته آخرا إذ هو آخر ما يرتقي إليه درجات العارفين ومعرفته والوصول إليه هي الدرجة القصوى والمنزل الآخر للسالكين في حيز الإمكان وعلى ما ذكرنا لا يرد أن كل ما يصح له من الصفات كان له تعالى استحقاق واحد لجميعها دائما ولا يكون استحقاقه لبعضها سابقا على استحقاقه لبعض آخر، فلا يصح أن يقال: مثلا استحقاقه للأولية قبل استحقاقه للآخرية ولا استحقاقه للعالمية قبل استحقاقه للقادرية لاستحالة تغير الأوصاف واستحقاقها فيه، وإنما لا يرد ذلك لأن استحقاقه تعالى لها بالنظر إلى ذاته سواء لا ترتب فيه ولا
ص:122
تقدم ولا تأخر ولا ينافي ذلك التفاوت بحسب الاعتبار لأن اعتبار التفاوت لا يستلزم التفاوت بالنظر إلى الواقع.
لا يقال: قد ثبت أنه تعالى لا يتصف بصفة زايدة فكيف يوصف بالأولية والآخرية؟ لأنا نقول: الأولية والآخرية من الأوصاف الإضافية الصرفة والنعوت الاعتبارية المحضة على أنهما راجعتان إلى السلب كالصفات الذاتية فإن الأولية راجعة إلى أنه ليس للموجودات مبدء غيره والآخرية راجعة إلى أنه ليس لها غاية ومقصد غيره وأما أنه تعالى بلا كيف ولا أين في لحاظ الأولية والآخرية له تعالى فلأنه لا كيف ولا أين له في مرتبة عليته للكاينات والكيف والكيفيات والأين والأينيات بالضرورة، وإذا خلا من الكيف والأين في تلك المرتبة لم يجز اتصافه بهما أبدا وإلا لزم انتقاله من نقص إلى كمال أو من كمال إلى نقص وهو على الواجب بالذات محال.
(وكل شيء هالك إلا وجهه) اقتباس من القرآن المجيد وحجة لما ذكره من أنه أول بلا كيف وآخر بلا أين، بيان ذلك أن ضمير وجهه راجع إليه سبحانه، والوجه بمعنى الذات والمعنى أن كلا من الموجودات وإن كان مأخوذا مع الوجود فهو هالك باطلا أزلا وأبدا (1) في ذاته لعدم استحقاق الوجود نظر إلى ذاته القابلة للعدم إلا ذاته المنزهة عن الاحتياج إلى الغير فإن وجوده الواجبي لكونه عين ذاته حق ثابت باق أزلا وأبدا ومنه نشأ وجود سائر الموجودات على النظام الأفضل والترتيب الأكمل، وإذا كان كذلك فهو المسحق لأولية الوجود لكونه مبدءا وآخريته لكونه غاية ومقصدا وهو المستحق أيضا لعدم اتصافه بالكيف والأين هذا الذي ذكرناه في تفسير هذه الآية الكريمة أشار إليه بهمنيار في التحصيل حيث قال: الحق يطلق على شيء يكون الاعتقاد صادقا بسبب ذلك الشيء، ومع صدق الاعتقاد يكون ذلك الشيء دائما.
ومع دوامه يكون لذاته لا غير، وإذا كان كذلك فكل شيء بالقياس إلى ذاته باطل وبه حق وهو
ص:123
أحق بأن يكون حقا، فلذلك «كل شيء هالك إلا وجهه» انتهى.
ولهذه الآية تأويل آخر (1) ذكره الصدوق في أول كتاب الاعتقادات حيث قال: ومعنى الوجه في هذه الآية الدين (2) والوجه الذي يؤتى الله منه ويتوجه به إليه، وهذا الذي ذكره (رحمه الله) نقله المصنف في باب النوادر عن أبي عبد الله (عليه السلام).
(له الخلق والأمر) أي له إيجاد الأشياء لا يشاركه أحد وله الأمر النافذ الذي لا يتأبى منه شيء والمشهور أن الأول إشارة إلى عالم الخلق وهو عالم الجسم والجسمانيات والثاني إشارة إل عالم
ص:124
الأمر وهو عالم الروح والروحانيات، ولا يبعد أن يراد بالأول خلق الممكنات مطلقا وبالثاني وضع الشرايع والأمر التكليفي.
(تبارك الله رب العالمين) أي تنزه عن النقصان والاتصاف بصفات الإمكان، الله الذي أحدث عالم الخلق وأخرجه من حد النقص إلى حد الكمال وربى كل شيء وإعطاء ما يليق به من الصفات والأحوال.
(ويلك أيها السائل) أعاد كلمة الويل لشدة غيظه (عليه السلام) والوجه من السائل لما سمع منه في شأن الباري ما لا يليق به (إن ربي لا تغشاه الأوهام) الغشاء الغطاء والغشيان بالكسر الإتيان تقول غشيته إذا أتيته يعني لا تأتيه الأوهام ولا تحيط به إذ الوهم إنما يدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات ويمكن أن يراد بالأوهام النفس وقواها لأن النفس في معرفة الصانع كالوهم في أن ما أحاطت به ليس هو الصانع جل شأنه.
(ولا تنزل به الشبهات) لأن الشبهة إنما تحصل من مزج الباطل بالحق وعدم التميز بينهما والله سبحانه عالم السر والخفيات فلا ينزل في ساحة علمه الجهل والشبهات، ويحتمل أن يراد لا ينزل به شبهات الأوهام فإن كل ما مثله الوهم فهو بعيد عن قدسه جل ذكره (ولا يحار) من شيء أما من حار الرجل يحار حيرة إذا تحير في أمره ولم يعرف وجه الفصل فيه فهو حيران فيكون فيه إشارة إلى كمال علمه بالأشياء أو من أجاره بالجيم يجير إجارة إذا أغاثه من شدة وأنقذه منها «ولا يجار» حينئذ مبني للمفعول، يعني أنه سبحانه لا ينزل به مصايب حتى يغيثه أحد وهو الذي يغيث من يشاء ويحرسه وقد أشار إليه جل شأنه بقوله «قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه» أي لا يغيثه ولا يمنع منه أحد، وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة (ولا يجاوزه شيء) إما بالجيم والزاي المعجمة أي لا يسير عليه شيء ولا يخلفه وراءه لأن ذلك من صفات الأينيات أو لا يتجاوز شيء عن حكمه وقدرته لأن حكمه جار على جميع المخلوقات وقدرته شاملة لجميع الممكنات وإما بالجيم والراء المهملة أي لا يستقر شيء في جواره إذ ليس له مكان، ونسبته إلى الأماكن بالعالم والإحاطة على السواء.
(ولا تنزل به الأحداث) أي لا تنزل به نوايب الزمان وحوادثه لأنه ليس بزماني ولاستحالة انفعاله عن الغير وتغيره من حال إلى حال، أو لا تنزل به الأعراض لاستحالة أن يكون محلا للعوارض.
(ولا يسأل عن شيء) فعله أو لم يفعله لأنه مالك قوي على الإطلاق وسلطان عظيم بالاستحقاق، ومتوحد بالعظمة والجبروت، وعليم خبير بالملك والملكوت، وكل ما سواه فهو مملوك له، وليس للمملوك أن يسأل مالكه لم فعلت هذا وتركت ذاك، سيما إذا كان المالك عدلا
ص:125
عليما بالمصالح والمفاسد كلها.
(ولا يندم على شيء) فعله أو تركه لتمام أمره وكمال علمه واستقامة فعله وإتقان حكمه فلا يعرضه فيما قضاه غلط ولا يلحقه فيما قدره شك وندامة لأن ذلك من توابع نقص العلم ولوازم قبول للشدة والضعف وهو سبحانه متنزه عن جميع ذلك.
(ولا تأخذه سنة ولا نوم) لأنهما من خواص الحيوانات القابلة للفتور والتعب والراحة إذ السنة فتور يعرض القوي قبل النوم وسببها وقوف الأعضاء عن العمل بسبب تحلل الأرواح البدنية وضعفها ورجوعها إلى الاستراحة، والنوم حال يعرض الحيوان من استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس وتعطل عن أفعالها لعدم انصباب الروح الحيواني إليها.
(له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) من المجردات والمركبات وغيرها.
(وما تحت الثرى) أي التراب الندي يعني به الأرض، والغرض من ذكر الآيتين نهي تشبهه بخلقه والدلالة على كمال قدرته وإرادته وتفرده في الإلهية والربوبية وتوحده في الخالقية والمالكية ولقد راعى (عليه السلام) في هذا الحديث حفظ المقصود وهو تنزيه الواجب عن صفات خلقه من أن يتلقاه وهم المخاطب بنفيه بالكلية حيث كلما نفى عنه صفات غير لايقة به أردفها بذكر صفات لايقة لئلا يتبادر وهمه إلى أن نفي الصفات باعتبار نفي الموضوع فليتأمل.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه قال: اجتمعت اليهود إلى رأس الجالوت فقالوا له: إن هذا الرجل عالم - يعنون أمير المؤمنين عليه السلام - فانطلق بنا إليه نسأله فأتوه فقيل لهم: هو في القصر فانتظروه حتى خرج، فقال له رأس الجالوت: جئناك نسألك.
فقال: سل يا يهودي عما بدا لك، فقال: أسألك عن ربك متى كان؟ فقال: كان بلا كينونية، كان بلا كيف، كان لم يزل بلا كم وبلا كيف كان ليس له قبل، هو قبل القبل بلا قبل ولا غاية ولا منتهى انقطعت عنه الغاية وهو غاية كل غاية، فقال رأس الجالوت: امضوا بنا فهو أعلم مما يقال فيه.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه رفعه قال اجتمعت اليهود إلى رأس الجالوت) وهو من أعاظم علمائهم وأحبارهم، وقيل: الرأس سيد القوم ومقدمهم وجالوت اسم
ص:126
أعجمي والمراد به مقدم بني الجالوت (1) في العلم.
(فقالوا له إن هذا الرجل عالم - يعنون أمير المؤمنين (عليه السلام) - فانطلق بنا إليه نسأله، فأتوه فقيل لهم:
هو في القصر فانتظروه حتى خرج) وفي بعض النسخ «حتى يخرج» وهو يفتقر إلى اعتبار حذف في الكلام كما لا يخفى على العارف بالعربية.
(فقال له رأس الجالوت: جئناك نسألك، فقال: سل يا يهودي عما بدا لك فقال أسألك عن ربك متى كان) لما سأل عن زمان وجوده وكان السؤال عنه مختصا بالموجودات الزمانية التي لا تخلوا من كون حادث وكيف وكم وغاية ونهاية وقبل وبعد نفي عنه تعالى هذه المعاني للتنبيه على أنه لا يصح السؤال عنه بمتى.
(فقال كان بلا كينونية) أي بلا كون حادث (2) قال الجوهري: تقول كان كونا وكينونة، شبهوه بالحيدودة والطيرورة من ذوات الياء، ولم يجيء من ذوات الواو على هذا إلا أحرف كينونة وهيعوعة، وديمومة، وقيدودة وأصله كينونة بتشديد الياء فحذفوه كما حذفوه من هين وميت ولولا ذلك لقالوا: كونونة ثم إنه ليس في الكلام فعلول، وإما الحيدودة فأصله فعلولة بفتح العين فسكنت.
ولعل المراد أن وجوده تعالى شأنه نفس ذاته المقدسة القديمة باعتبار أنها مبدء للآثار العجيبة والأفعال الغريبة وليس وجوده حادثا ولا زايدا حتى يسأل عنه بمتى إذ لو كان حادثا أو زايدا، فإما أن يكون منه أو من غيره، والأول باطل لاستحالة أن يكون الشيء علة لوجود نفسه وإلا لزم تحقق الوجود قبل تحققه وكذا الثاني لامتناع احتياج الواجب بالذات في وجوده إلى الغير.
(كان بلا كيف) كان المراد أنه كان بلا صفة زايدة (3) عليه وإلا لزم تعدد الواجب إن كانت تلك
ص:127
الصفة واجبة بالذات أو احتياجه إلى الغير إن كانت ممكنة، أو المراد أنه كان ولم يكن كونه مكيفا بكيفية أصلا فلا يسأل عن كونه بمتى لأن هذا السؤال إنما يصح فيما له كيفية.
(كان لم يزل بلا كم) متصل ومنفصل مثل الجسم والسطح والخط والزمان والعدد (1) والحاصل أن كونه لم يزل منزه عن الكمية والامتدادية والعددية لأن الكمية أمر عرضي والوجود الأزلي بريء منه ولأن الكم مطلقا يقبل القسمة والتجزئية والمساواة واللا مساواة وقد تنزه قدس الحق الثابت أزلا عن قبول هذه الأمور.
(بلا كيف) ولعل المراد بسلب الكيف هنا سلب جنسه الشامل للكيفيات المحسوسة والكيفيات الاستعدادية والكيفيات النفسانية والكيفيات المختصة بالكم، وفي السابق سلب صفاته تعالى باعتبار الزيادة، أو المراد به هنا سلب الكيفيات المختصة بالكم بقرينة مقارنته معه وفي السابق سلب ما عداها من الأقسام الثلاثة الاول، أو المراد به هنا لم يزليته غير مكيفة بكيفية وفي السابق أن كونه ووجوده غير مكيف بها; وعلى التقادير لا يلزم التكرار مع أن الاتحاد والتأكيف أيضا محتمل.
(كان ليس له قبل) لاستحالة حدوثه ولكونه مبدء لجميع الموجودات على تفاوت مراتبها في الوجود والكمال فليس شيء منها قبله.
(هو القبل بلا قبل) أي هو قبل كل من يفرض له القبلية من غير أن يكون شيء قبله والحاصل أنه متقدم على كل ما له تقدم على شيء من غير أن يتقدم عليه شيء يعني هو الأول على الإطلاق ولا شيء قبله لما عرفت من وجوب انتهاء سلسلة الوجود والحاجة إليه، ويحتمل أن يكون المراد أنه قبل كل من يتصف بالقبلية ولا يتصف هو بها لامتناع اتصافه بالصفات بل قبليته عبارة عن عدم تقدم شيء عليه، أو المراد أنه قبل كل شيء وليست قبليته قبلية زمانية بل قبلية سرمدية، ولما لم تكن قبليته المطلقة ظاهر الدلالة على بقاء وجوده أبدا وعدم انتهائه في جانب الأبد إلى غاية وعلى كونه أزلا وعدم انتهائه في جانب الأزل إلى نهاية أشار إليهما بقوله.
(ولا غاية ولا منتهى) بالجر عطفا على قبل، والمنتهى النهاية وقد يطلق على امتداد محل لها يعني هو قبل القبل بلا غاية ينقطع وجوده عند البلوغ إليها لأن انقطاع الوجود من لواحق الامور الزمانية المحدثة الكاينة الفاسدة وقد بينا أنه تعالى ليس بزماني وأيضا هو واجب الوجود فيمتنع
ص:128
أن ينقطع وجوده ويلحقه العدم وكذلك هو بلا نهاية ينتهي إليها وجوده في لحاظ أوليته وإلا لكان مسبوقا بالعدم، وهو على واجب الوجود لذاته محال، وينبغي أن يعلم أن الغاية كما صرح به علماء العربية وغيرهم لها معان الأول النهاية، والثاني المسافة الملحوظة معها الامتداد الكمي، والثالث الباعث على الفعل وهو الذي يسمونه بالعلة الغائية وهو قد يكون في الوجود الخارجي متأخرا عنه مثل التأديب في قولنا ضربت تأديبا، وقد يكون متقدما عليه مثل الجبن في قولنا قعدت عن الحرب جبنا، وقد تكرر ذكر الغاية في هذا الباب والعاقل اللبيب يعرف من هذه المعاني ما يناسب كل موضع.
(انقطعت عنه الغاية) أي انقطعت عنه المسافة الحسية والعقلية أو انقطعت عن وجوده النهاية وزالت قبل الوصول إليه، وهذا تأكيد للسابق أو انقطعت عنده العلة الغائية ولم تتجاوزه إلى غاية اخرى فوقه لأنه غاية فوق الغايات كما أشار إليه بقوله (وهو غاية كل غاية) لأنه تعالى آخر ما يقصده السالكون في سكناتهم وغاية ما يطلبه العارفون في حركاتهم في الوصول إليه، بل هو غاية فوق غاياتهم ومآربهم، ومقصد فوق مراداتهم ومطالبهم كما دل عليه قوله تعالى (وإن إلى ربك المنتهى) (1)وقوله تعالى (وإلي الله مرجعكم جميعا) (2)وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «وأنت المنتهى فلا محيص عنك وأنت الموعد لا منجا منك إلا إليك» (3) والمنتهى هو الغاية وبالجملة هو الله تعالى غاية لكل موجود ونهاية لكل غاية، ومقصود ومرجع لكل مضطر مطرود، ولا معدل عنه ولا مقصد فوقه ولا ملجأ إلا هو ولا منجا منه إلا إليه.
(فقال رأس الجالوت: امضوا بنا فهو أعلم بما يقول فيه) أي في وصف ربه (4) ولعل اليهودي لم يفهم حقيقة كلام معدن العلوم النبوية ومخزن الأسرار الإلهية فلذلك لم ينظر إليه بعين الطاعة والانقياد أو فهمه ولكن أعرض عنه للرئاسة والعناد والله ولي التوفيق وإليه هداية الطريق.
5 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك؟
ص:129
فقال له: ثكلتك امك ومتى لم يكن؟ حتى يقال: متى كان، كان ربي قبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد، ولا غاية ولا منتهى لغايته، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية، فقال: يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟ فقال: ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروي أنه سئل (عليه السلام): أين كان ربنا قبل أن يخلق سماء وأرضا؟ فقال (عليه السلام): أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان.(1)
(وبهذا الإسناد) ليس لهذا مرجع ظاهر، كأنه أراد بهذا الإسناد عن أحمد بن محمد بن خالد (عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر من الأحبار) الحبر بالكسر أو الفتح عالم من علماء اليهود والكسر أفصح لأنه يجمع على الأفعال دون الفعول وهو الراجح عند القراء وتوقف الأصمعي في الترجيح، وقال أبو عبيدة: والذي عندي أنه الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه ويرويه المحدثون كلهم بالفتح.
(إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا أمير المؤمنين) خاطبه بذلك على الرسم والعادة وإلا فاليهود لا يعتقدون بإيمان هذه الأمة. (متى كان ربك؟ فقال له: ثكلتك أمك) ثكلت المرأة ولدها مات منها ثكلا وثكلا كذا في المغرب والدعاء بذلك شايع عند العرب وإن لم تكن الأم موجودة.
(ومتى لم يكن حتى يقال متى كان) يمكن إرجاعه إلى قياس استثنائي تقريره لو صح السؤال عنه بمتى كان صح السؤال عنه بمتى لم يكن، والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بيان الشرطية فلأن متى كان سؤال عن أول وجوده وكلما كان شيئا حادثا في وقت كان عدمه سابقا عليه فكما صح أن يقال: متى كان صح أن يقال: متى لم يكن، وأما بطلان اللازم فلأن وجوده قديم أزلي ليس مسبوقا بالعدم فلا يصح أن يقال: متى لم يكن.
(كان ربي قبل القبل بلا قبل) قد مر شرحه (2) (ولا بعد البعد بلا بعد) يعرف بالمقايسة وقد أكد
ص:130
كل واحد من القبلية والبعدية بكمالها فكان قبليته سلب قبلية شيء عنه وكمال بعديته سلب بعدية شيء عنه فلا يكون شيء قبله ولا بعده (ولا غاية) أي ولا نهاية لوجوده في جهتي القبلية والبعدية لكونه أزليا وأبديا.
(ولا منتهى لغايته) أي ليس نهاية لامتداد أو ليس محلا لغاية ونهاية إذ ليس له كمية مقتضية لاتصافه بالأطراف والنهايات واقترانه بالامتدادات: الغايات، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله «ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما، ولا بذي عظم تناهت به الغايات به الغايات فعظمته تجسيدا» (1).
(انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية) لأنه منتهى رغبة الخلائق ومفزعهم في المهمات والمقاصد وفي الأدعية المأثورة «يا منتهى غاية السائلين وفي الصحيفة السجادية «اللهم يا منتهى مطلب الحاجات» وسر ذلك أن لكل شيء مستقرا يستقر فيه إذا بلغ إليه ومستقر القلوب والفؤاد الذي إذا بلغت إليه تطمن ولا تطلب سواه هو الله تعالى شأنه.
(فقال يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟) لعل منشأ الاستفهام أن السائل كان قد قرأ من الكتب الإلهية أن ما ذكره (عليه السلام) من صفات الرب (2) وأنه لا يخبر به إلا نبي بتعليم رباني.
(فقال ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)) وما ذكرته فإنما سمعته منه وهو أخبرنا به من طريق الوحي، قال الصدوق (رحمه الله) يعني بذلك عبد طاعة لا غير ذلك (وروي أنه سئل (عليه السلام) أين كان ربنا قبل أن يخلق سماء وأرضا فقال (عليه السلام) أين سؤال عن مكان) أي عن حصول شيء في المكان لا عن حقيقته، تقول: أين زيد تسأل عن حصوله في المكان المعين (وكان الله ولا مكان) إذ المكان أمر حادث مخلوق (3) فلا يصح أن يسأل عنه بأين.
6 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن يحيى عن محمد بن
ص:131
سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رأس الجالوت لليهود: إن المسلمين يزعمون أن عليا (عليه السلام) من أجدل الناس وأعلمهم، اذهبوا بنا إليه لعلي أسأله عن مسألة واخطئه فيها فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن مسألة قال: سل عما شئت، قال: يا أمير المؤمنين متى كان ربنا، قال له: يا يهودي إنما يقال: متى كان لمن لم يكن، فكان متى كان، هو كائن بلا كينونية كائن، كان بلا كيف يكون، بلى يا يهودي ثم بلى يا يهودي كيف يكون له قبل؟! هو قبل القبل بلا غاية ولا منتهى غاية ولا غاية إليها انقطعت الغايات عنده، هو غاية كل غاية فقال: اشهد أن دينك الحق وأن ما خالفه باطل.(1)
(علي بن محمد عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن محمد بن يحيى عن محمد بن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رأس الجالوت لليهود إن المسلمين يزعمون أن عليا من أجدل الناس) أي أقواهم في المجادلة والخصام وأشدهم في المناظرة والكلام وأفصحهم بيانا وأطلقهم لسانا (وأعلمهم) في فنون العلم كلها بحيث لم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق.
(اذهبوا بنا إليه لعلي أسأله عن مسألة وأخطئه فيها) أخطأ وخطأ إذا لم يصب الصواب كذا في تاج المصادر وخطأه تخطئة إذا نسبة إلى الخطأ فقال له: أخطأت.
(فأتاه فقال يا أمير المؤمنين إني اريد أسألك عن مسألة قال: سل عما شئت) دل هذا على أنه (عليه السلام) كان بحرا زاخرا في العلوم وإنه كان لا يخفى عليه شيء كما يدل عليه قوله (عليه السلام) «سلوني» (2) قال بعض العامة هو أول قائل بهذه الكلمة ولم يقلها أحد غيره وفيه دلالة على أنه ليس لعلمه نهاية.
(قال: يا أمير المؤمنين متى كان ربنا؟ قال له: يا يهودي إنما يقال: متى كان لمن لم يكن فكان) أي لمن لم يكن موجودا فوجد فيسأل بمتى عن زمان وجوده. وأما من كان موجودا في الأزل قبل وجود الزمان بلا بداية لوجوده فلا يصح أن يسأل عنه بمتى كان (متى كان) الظاهر أنه بدل عن مقول إنما يقال وهو متى كان أو تأكيد له، ويحتمل أن يكون إعادة للسؤال بعينه للمبالغة في إنكاره وعدم استقامته لثبوت ما ينافيه كما أشار إليه بقوله (هو كان بلا كينونية كاين) أي هو موجود بلا كون حادث فلا يدخل كونه في مقولة متى لأن «متى» سؤال عن الكون الحادث المسبوق بالعدم، وفيه تنبيه على أنه ليس المراد بكونه ما يتبادر من مفهوم الكون عند الإطلاق أعني الحدوث بل الوجود المجرد عن الحدوث والزمان.
(كان بلا كيف) من الكيفيات المعروفة في خلقه لأن اتصافه بها نقص لايق بالممكنات المفتقرة
ص:132
من جميع الجهات. ولما كان هنا مظنة أن يقول اليهودي كيف يكون الشيء بلا كون حادث وبلا كيف أجاب عنه (عليه السلام) على سبيل الاستيناف بقوله (يكون) أي يكون جل شأنه بلا كون حادث وبلا كيف.
(بلى يا يهودي ثم بلى يا يهودي) كرر بلى لأن بلى آلة لإثبات ما أنكره المخاطب ونفاه صريحا أو ضمنا ولما كان ما نفاه المخاطب هنا شيئين أتى (عليه السلام) بآلة الإثبات مرتين ثم أوضح ذلك بقوله (كيف يكون له قبل) يعني لا يكون له قبل فلا يكون له حدوث ولا كيف لأن الكيف من الأوصاف الحادثة التي لا يتصف بها غير الحادث وأما أنه لا قبل له فأشار إليه بقوله (هو قبل القبل بلا غاية) أي بلا نهاية في جانب الأزل.
(ولا منتهى غاية) أي لا نهاية لامتداده أو لا امتداد له نهاية (ولا غاية إليها) الإضافة بيانية والمقصود نفي الانتهاء عنه في جانب الأبد وبالجملة نفي أولا أن يكون له ابتداء، وثانيا أن يكون له امتداد ونهاية، وثالثا أن يكون له انتهاء. وبهذا ظهر أنه مباين للخلق إذ الخلق لا يخلو من هذه الأمور فلا يجوز أن يوصف بالحدوث والكيفيات التي من صفات الخلق.
(انقطعت الغايات عنده) أي ليست له تلك الغايات المذكورة على أن يكون اللام للعهد وقد مر له احتمالات اخر.
(هو غاية كل غاية) لأنه ينتهي إليه جميع الخلائق ومقاصدهم كما عرفت آنفا (فقال: أشهد أن دينك الحق) الحق الأمر الثابت المطابق للواقع وتعريفه باللام لقصد الحصر ثم أكد الحصر بقوله (وإن ما خالفه باطل) أي زايل غير مطابق للواقع والظاهر أن المراد بالدين هنا ما ذكره (عليه السلام) من العقايد الصحيحة في وصف الباري، ويحتمل أن يراد به الشريعة النبوية وحينئذ يراد ببطلان ما خالفها بطلانه بعدها لا مطلقا كما في الأول.
7 - علي بن محمد رفعه، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أكان الله ولا شيء: قال: نعم كان ولا شيء قلت: فأين كان يكون؟ قال: وكان متكئا فاستوى جالسا وقال: أحلت يا زرارة وسألت عن المكان إذ لا مكان.(1)
(علي بن محمد رفعه، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أكان الله ولا شيء) قبله ومعه والاستفهام يحتمل الحقيقة والتقرير (قال: نعم كان ولا شيء قلت فأين كان يكون) كأنه لكونه في
ص:133
مبادي التعلم لم يقصد بذلك مجرد السؤال عن كونه تعالى في المكان بل قصد مع ذلك أن كونه ولا شيء معه مستبعد لتوهمه أن له مكانا بناء على أن الف النفس بالمتحيزات والمحسوسات أعجز عن إدراك شيء بلا تحيز ولا مكان ولم يعلم أن المكان أيضا شيء وليس له مكان فخالق المكان أولى أن لا يكون له مكان ويحتمل أنه كان عالما بأنه لا مكان له تعالى ولكن سأل عن ذلك ليعلم سر ذلك ويهتدي إلى طريق المناظرة مع المخالفين.
(قال: وكان متكئا فاستوى جالسا) دل على عدم قبح اتكاء المعلم عند المتعلم ولعل سبب الاستواء هو عروض التغير والاضطراب له من استماع هذا الكلام.
(وقال أحلت يا زرارة) أي تكلمت بالكلام المحال وهو الذي ليس له وجه صحة أصلا (وسألت عن المكان إذ لا مكان) (1) لأن المكان سواء كان بالمعنى اللغوي كالأرض للسرير، أو
ص:134
بمعنى البعد المجرد عن المادة أو بمعنى السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي لم يكن موجودا في الأزل فاستحال أن يسأل عن الموجود الأزلي بأنه في أي مكان كان وأيضا لو كان هو في المكان بأي معنى كان، كان قابلا للتجزية والتقسيم والزيادة والنقصان وهو منزه عن هذه الامور.
8 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن ابن أبي نصر عن أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى حبر من الأحبار أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك؟ قال: ويلك إنما يقال: متى كان لما لم يكن فأما ما كان فلا يقال: متى كان. كان قبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد، ولا منتهى غاية لتنتهي غايته، فقال له: أنبي أنت؟ فقال: لامك الهبل إنما أنا عبد من عبيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).(1)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن ابن أبي نصر. عن أبي الحسن الموصلي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام)) في بعض النسخ عن أبي الحسن الموصلي: عن أبي إبراهيم، عن
ص:135
أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام).
(قال: أتى حبر من الأحبار أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك قال: ويلك إنما يقال: متى كان لما لم يكن) يعني لما لم يكن فكان وإلا فما لم يكن يشمل المعدومات الصرفة ولا يصح أن يسأل عنه بمتى كان (فأما ما كان) أزلا بلا سبق العدم على وجوده.
(فلا يقال متى كان) لاختصاص هذا السؤال بالكائنات الحادثة (كان قبل القبل بلا قبل وبعد البعد بلا بعد ولا منتهى غاية لتنتهي غايته) أي ليس هو منتهى مسافة وهمية أو حسية أو عقلية أو زمانية أو مكانية لتنتهي مسافته إليه ويقال: هو هناك وليس قبله حتى يسأل عنه بأبين أو متى وإنما كون الأزلي كون سرمدي مجرد في الواقع وفي لحاظ العقل عن هذه الامور ولواحقها.
(فقال له أنبي أنت؟ فقال لامك الهبل) في الصحاح الهبل بالتحريك مصدر قولك هبلته امه أي ثكلته، وفي المغرب يقال: فلان هبلته أمه إذا مات ثم قال في دعاء السوء هبلتك أمك ثم استعمل في التعجب كقاتلك الله.
(إنما أنا عبد من عبيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) مطيع لأقواله وأفعاله، والقصر من باب قصر الموصوف على الصفة قصرا إضافيا بالنسبة إلى النبوة.
ص:136
النسبة بكسر النون مصدر يقال نسبته ينسبه من باب ضرب ونصر نسبا بالتحريك ونسبة بالكسر أي ذكر نسبه ووصفه.
1 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: أنسب لنا ربك، فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت قل هو الله أحد إلى آخرها.(1)
أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: أنسب لنا ربك أي اذكر نسبه وصفه لنا حتى نعرفه بصفته وكأنهم سألوه اختبارا بأنه هل يقول شيئا من قبله أو يقول ما هو مذكور في التوراة (فلبث ثلاثا) أي ثلاث ساعات أو ثلاث ليال مع أيامها والليل مما يذكر ويؤنث بحسب السماع كما صرح به بعض الأفاضل في حاشيته على المطول فلا يرد أن حذف التاء في الثالث لا وجه له.
(لا يجيبهم) وهو ينتظر الوحي لأنه كان لا ينطق عن الهوى وفيه حث للناس على السكوت فيما لا يعلمون.
(ثم نزلت قل هو الله أحد إلى آخرها) وفيها من جوامع التوحيد ما يعجز عنه عقول العارفين ومن لوامع التنزيه ما يتحير فيه فحول السالكين فقد كتب العلماء ودون الفضلاء شيئا جميلا من حقايقها وأمرا جزيلا من دقايقها ولم يجدوا مع ذلك معشار ما فيها فمن تمسك بها وتفكر فيها فقد رشد ومن أعرض عنها وقال بخلافها فهلك وقد فسد.
2 - ورواه محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب [وعن]
ص:137
محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن الحسين عن ابن محبوب عن حماد بن عمرو النصيبي. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قل هو الله أحد فقال (عليه السلام): نسبة الله إلى خلقه أحدا صمدا أزليا صمديا لا ظل له يمسكه وهو يمسك الأشياء وبأظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، فردانيا، لا خلقه فيه ولا هو في خلقه، غير محسوس ولا مجسوس، لا تدركه الأبصار، علا فقرب ودنا فبعد وعصي فغفر واطيع فشكر; لا تحويه أرضه ولا تقله سماواته، حامل الأشياء بقدرته، ديمومي أزلي لا ينسى ولا يلهو ولا يغلط ولا يلعب ولا لإرادته فصل. وفصله جزاء وأمره واقع، لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك ولم يكن له كفوا أحد.(1)
(ورواه) أي روى هذا الحديث بمضمونه (2) وهو أن قل هو الله أحد نسبة الرب (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد) وهو ابن خالد البرقي (عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب [وعن] محمد بن يحيى، (3) عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن الحسين) يعني ابن أبي الخطاب وهو عطف على أحمد بن محمد بن عيسى لا على محمد بن يحيى.
(عن أبن محبوب، عن حماد بن عمرو النصيبي) نسبة إلى نصيبين اسم بلد والرجل مجهول الحال (عن أبي عبد الله (عليه السلام)) الظاهر أن رواية أبي أيوب عنه (عليه السلام) بلا واسطة فليتأمل (قال) يعني حماد أو أبي أيوب أيضا على تأويل كل واحد.
ص:138
(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قل هو الله أحد فقال نسبة الله إلى خلقه) أي صفاته الذاتية والتنزيهية المنزلة إلى خلقه ليعرفوه ويميزوه بها عن غيره من الممكنات (أحدا) حال عن الله أو منصوب بفعل مقدر أي ذكر الله في وصفه أحدا لا ثاني له في الوجود والوجوب ولا كثرة في ذاته وصفاته ذهنا وخارجا).
(صمدا) الصمد السيد المصمود فعل بمعنى مفعول كالحسب والقبض يعني أنه السيد الذي يصمد إليه في طلب الامور والنوائل ويقصد في دفع الحوائج والنوازل ويلاذ به في السراء والضراء ويلتجا إليه في الشدة والرخاء ولذلك يوصف به سبحانه لأنه المستغني عن الغير على الإطلاق وكل ما سواه يحتاج إليه من جهات متكثرة، وأنت إذا تأملت في معنى الأحد والصمد علمت أن جميع ما ذكره (عليه السلام) إلى قوله لم يلد مندرج تحتهما ومستخرج منهما.
(أزليا) إذ لو كان حادثا لكان الموجد له هو الصمد لا هو ولأن وجوب وجوده لذاته يستلزم استحالة عدمه أزلا وأبدا وأزله عبارة عن سلب الابتداء والأولية عنه.
(صمديا) أي ليس بجسم ولا جسماني ولا مفتقر إلى شيء بل يفتقر إليه كل ما سواه والنسبة للمبالغة مثل الأحمري.
(لا ظل له) أي لا سبب (1) أو لا صورة أو لا مثل أو لا ظل بالمعنى المعروف له (يمسكه) عن عروض الزوال وحدوث التغير.
(وهو يمسك الأشياء بأظلتها) أي بأسبابها، أو بصورها، أو بغير ذلك مما ذكر ونقل من الشيخ العارف بهاء الملة والدين أن المراد بأظلتها رب أنواعها انتهى (2) ولا يبعد أن يراد بالظل هنا
ص:139
الكنف (1) من قولهم فلان يعيش في ظل فلان أي في كنفه وحفظه وصيانته يعني لا حامي له يحفظه ويصونه ويعينه وهو يحمي الأشياء مع حاميها وحافظها ومعينها.
(عارف بالمجهول) عن الخلق لغاية صغر أو لبعده عنهم كالكاين في القفار والساكن في البحار أو لعدم وصول فكرهم إليه وعدم وقوع ذهنهم عليه كحقايق الأشياء وأجناسها وفصولها إلى غير ذلك فسبحان من يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ومعاصي العباد في الخلوات.
(معروف عند كل جاهل) من أصحاب الملل الباطلة كالملاحدة والدهرية وعبدة الأوثان وأضرابهم فإن كلهم يعرفونه عند نزول الشدايد والضراء، وتوارد المصايب والبلاء، ولا يلوذون حينئذ بما سواه ولا يدعون إلا إياه كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود» (2) وهذه الأمور الخمسة من لوازم الصمد لأن أزلية وجوده وصمديته وكونه حافظا للأشياء بأظلتها وعارفا بما لا يعرفه الخلق حتى ضماير القلوب ووساوس الصدور، ومعروفا عند كل جاهل يقتضي أن يكون رجوع الخلق كلهم إليه.
(فردانيا) الألف والنون زايدتان في النسب للمبالغة في فرديته بحسب الذات والصفات والوجود والوجوب والربوبية بحيث لا يشابهه في ذلك شيء ولا يشاركه أحد وهذا ناظر إلى الأحد ومن لوازمه.
(لا خلقه فيه) لاستحالة حلول الحوادث فيه إذ لو جاز ذلك لكان ناقصا.
والتالي باطل بالإجماع والعقل والنقل فالمقدم مثله بيان الملازمة أن ذلك الحادث إن كان من صفات كماله لزم نقصه لخلوفه عنه قبل حدوثه وإن لم يكن من صفات كماله لزم نقصه أيضا
ص:140
للاتفاق على أن كل ما يتصف (1) به الواجب يجب أن يكون من صفات الكمال وفيه إشارة إلى أن صفاته عين ذاته فهو ناظر إلى الأحد.
(ولا هو في خلقه) لما مر من أن حلوله في شيء هو حصوله فيه على سبيل التبعية وهو مستلزم لافتقاره إلى المحل وأنه على الواجب بالذات محال وهذا من لوازم الصمد الذي هو الغني المطلق، وفيه رد على الفرق المبتدعة فإن بعضهم جوزوا حلول الحوادث فيه كالكرامية على ما هو المشهور عنهم ولهم وجوه أوهن من بيت العنكبوت، وبعضهم قالوا بحلوله في الحوادث كطائفة من المتصوفة والعيسوية وقد نقل قطب المحققين عن الرازي أنه قال: ناظرت مع بعض النصارى وقلت له: هل تعرف أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول، قال: نعم.
فقلت له: ما الدليل على أنه لم يحل في زيد وعمرو وذبابة ونملة وحل في عيسى؟ قال: لأنه وجدنا في عيسى أنه أبرء الأكمة والأبرص وأحيى الموتى ولم نجد ذلك فيما ذكرت فعلمنا أنه حل فيه ولم يحل في غيره فقلت: هذا مناف لما سلمت أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول فسكت، ثم قلت له: لقد صارت العصا في يد موسى حية عظيمة تسعى وهذا أعظم مما ذكرت في عيسى فلم لا تقول أنه حل في موسى أيضا فلم يقل شيئا.
هذا ويمكن أن يكون قوله «لا خلقه فيه ولا هو في خلقه تفسيرا لقوله «فردانيا» وبيانا له.
(غير محسوس) بالحواس الظاهرة والباطنة وقد علمت أنه منزه عن إدراكها غير مرة (ولا مجسوس) أي غير ملموس باليد لاستحالة الجسمية وتوابعها من الكيفيات الملموسة عليه.
(لا تدركه الأبصار) لأنه ليس بضوء ولا لون ولا ذي وضع ولا في جهة وقد مر وجه تخصيص عدم إدراك البصر بالذكر بعد ذكر عدم إدراك الحواس له والظاهر أن هذه الثلاثة من لوازم الأحد.
(علا) كلا شيء بالوجود الذاتي والشرف والعلية (فقرب) من كل شيء بالعلم والإحاطة لا
ص:141
بالمجاورة والإلصاق.
(ودنى فبعد) أي يكون في المكان، أو يتناوله المشاعر، أو يشبهه شيء، فذاته المقدسة مباينة لجميع الممكنات إذ ليس لشيء منها الدنو من كل شيء من كل وجه.
(وعصى فغفر) لمن جذبته النفس الأمارة والشيطان إلى مهاوي الهلاك والعصيان، فعجز عن مقاومتها بعد أن كانت له مسكة بجناب الله وإن كان ذلك الغفران متفاوتا بحسب قوة المسكة وضعفها.
(واطيع فشكر) قابل اليسير من الطاعة بالكثير من الثواب إن ربنا لغفور شكور، والشكر في اللغة هو الاعتراف بالإحسان والله سبحانه هو المحسن إلى عباده والمنعم عليهم، فالشكر حق الله تعالى على العباد ولكنه لما كان مجازيا للمطيع على طاعته بجزيل ثوابه جعل مجازاته شكرا لهم على سبيل المجاز.
(لا تحويه أرضه) لأنه ليس بذي مكان يحويه ويحيط به لأن ذلك من خواص الأجسام فما ليس بجسم ولا جسماني كانت الحواية مسلوبة عنه سلبا مطلقا لا سلبا مقابلا للملكة.
(ولا تقله سماواته) أي لا ترفعه من قله وأقله إذا حمله ورفعه (حامل الأشياء) أي حفيظها ومقيمها (1) (بقدرته) الكاملة التي لا يمتنع من نفاذها شيء من تلك الأشياء.
(ديمومي) أي دايم باق أبدا والديمومة مصدر دام يدوم ويدام دوما ودواما وديمومة حذفت
ص:142
التاء في النسب (أزلي) أي كان في الأزل بلا بداية لوجوده (لا ينسى) لأن ذاته بذاته علم بجيمع الأشياء لا يعزب عنه مثقال ذرة ولأن النسيان بالكسر وهو خلاف الذكر وذهاب الصورة العلمية من صفات النفس المدركة بالآلات البدنية فربما يشغل عنها وينسبها لاشتغالها بتدبير البدن.
(ولا يلهو) اللهو: اللعب، يقول: لهوت بالشيء ألهو لهوا إذا لعبت به وقد يكنى به عن الجماع قال الله تعالى (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) (1) قالوا امرأة (ولا يغلط) أصلا لا في القول والفعل ولا في الحكم والتدبير إذ الغلط إنما ينشأ من نقص العلم وهو سبحانه منزه عنه.
(ولا يلعب) قال الله تعالى (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) (2)(ولا لإرادته فصل) الفصل القطع، والمراد به هنا القاطع، يعني ليس لإرادته قاطع يمنعها عن تعلقها بالمراد إذ كل شيء مقهور له فلا يقدر شيء ما على أن يمنعه مما أراده، وقيل: معناه ليست إراداته فاصلة بين شيء وشئ بل تتعلق بكل شيء، وهذا قريب مما ذكره الفاضل الأسترآبادي من أن معناه أنه تعالى يريد كل ما يقع من الخير والشر.
وليست إرادته المتعلقة بأفعال العباد فاصلة بين المرضي وغير المرضي بل متعلقة بهما جميعا إذ لا يقع شيء ما إلا بإراداته كما سيجيء.
(وفصله جزاء) أي فصله بين أفعال العباد هو جزاء لهم على أفعالهم فيثيب من أطاعة ويعاقب من عصاه كما قال (إن الله يفصل بينهم يوم القيمة) (3) ولذلك سمي يوم القيمة يوم الفصل لا جبر بأن يجبر المطيع على الطاعة والعاصي على المعصية كما زعمه الجبرية فإن ذلك يوجب فوات فائدة التكليف وبعث الرسل وإنزال الكتب كما بين في موضعه.
(وأمره واقع) أي أمره التكويني واقع بلا مهلة ولا تخلف الأثر عنه كما قال سبحانه (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (4) والظاهر أن ما ذكره من قوله «علا» إلى هنا راجع إلى معنى الصمد لأن كل ذلك يقتضي صرف الحوائج إليه وأنه المستحق لذلك دون غيره، ويمكن إرجاع بعضها مثل «لا يحويه أرضه ولا تقله سماواته» إلى معنى الأحد كما لا يخفى على المتأمل.
(لم يلد فيورث) الفعل إما مبني للفاعل أو مبني للمفعول والمآل واحد. يعني لم يلد فيكون مورثا أو موروثا. وهو تنزيه له تعالى عن صفات البشر، إذ العادة أن الإنسان يهلك فيرثه ولده.
(ولم يولد فيشارك) مع أبيه في العز والالوهية والربوبية والملك. إذ العادة تقتضي أن يكون ولد العزيز عزيزا مثله، والبرهان أنها من لواحق الحيوانية المستلزمة للجسمية والتلذذ والانتقال والتغير
ص:143
والانفعال المنزه قدسه تعالى عنها.
(ولم يكن له كفوا أحد) الكفيء على وزن فعيل النظير، وكذلك الكفؤ بضم الكاف وسكون الفاء، والكفؤ بضمتين على فعل وفعول، والمصدر الكفاءة بالفتح والمد، وكل شيء ساوى شيئا يكون مثله.
والمقصود أنه تعالى لم يماثله أحد في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية والاعتبارية وهو تنزيه مطلق له عن المشابهة بالخلق من الأنحاء كما قال أيضا: «وليس كمثله شيء» العجب العجيب من بعض أهل هذه الملة (1) كيف رضيت نفوسهم واستقرت عقولهم على أن شبهوه بخلقه في الجسمية والصورة والكيفية وغيرها خلافا لما وصف الله تعالى به نفسه وما ذاك إلا لمتابعة أوهامهم وأحكامهم وعدم رجوعهم في وصف الباري إلى العالم المعلم الرباني تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد عن عاصم بن حميد قال: قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن التوحيد فقال: إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد، والآيات من سورة الحديد إلى قوله: «وهو عليم بذات الصدور» فمن رام رواء ذلك فقد هلك.(2)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن السويد، عن
ص:144
عاصم بن حميد) بضم الحاء مصغرا (قال: قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن التوحيد) بم يحصل (فقال: إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون) في ذات الله وصفاته (1) أو في مصارف العقول كلها.
(فأنزل الله «قل هو الله أحد» والآيات من سورة الحديد إلى قوله «والله عليم بذات الصدور» فمن رام) أي قصد وطلب في باب معرفة الرب وتوحيده.
(وراء ذلك) أي خلافه أو فوقه أو دونه (فقد هلك) فإن ذلك منتهى حق الله تعالى على خلقه وغاية مطلوبة منهم ولو كان المطلوب غير ذلك لهداهم إليه ولدلهم عليه فوجب في الحكمة أن يصفوه بما وصف به نفسه (2) وأن لا يخوضوا فيما وراء ذلك ليثبت قواعد التوحيد في قلوبهم وتترسخ في نفوسهم ولا يخرجهم البحث عما وراءها إلى مهاوي الهلاك ومنازل الشرك.
ص:145
4 - «محمد بن أبي عبد الله رفعه، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ: «قل هو الله أحد» وآمن بها فقد عرف التوحيد. قلت: كيف يقرؤها؟ قال:
كما يقرؤها الناس وزاد فيه «كذلك الله ربي كذلك الله ربي».(1)
(عن محمد بن أبي عبد الله رفعه، عن عبد العزيز بن المهتدي) قمي ثقة وكان وكيل الرضا (عليه السلام) قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) خرج فيه «غفر الله لك ذنبك ورحمنا وإياك ورضي عنك برضاي عنك» (قال سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد) إذ فيها وجوه الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وتفرده في الالوهية وكمال احتياج الخلائق إليه وتنزهه عن المشابهة بهم إلى غير ذلك مما تعرفه العقول السليمة.
(قلت كيف يقرؤها) كأنه سأل عن كيفية القراءة لاحتمالها وجوها متعددة مثل التدرس والتعلم والتفكر وقراءتها على الوجه المعروف من تلاوة القرآن.
(قال كما يقرؤها الناس وزاد فيه) هذه الزيادة تفسير لقوله «وأمن بها» وفي بعض النسخ «فيها» (كذلك الله ربي كذلك الله ربي) فيه إظهار للتصديق بها والإيمان بمضمونها والشهادة عليها مرتين.
وقال الفاضل الأردبيلي قيل فائدة ذلك ليثاب بثواب تلاوة القرآن كله لأن كل مرة بمنزلة قراءة هذه السورة الشريفة وقد ورد «أن من قرأها ثلاث مرات كان له ثواب تلاوة القرآن كله (2) والصدوق روى هذا الحديث في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) مع تغيير يسير إسناده عن عبد العزيز ابن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد قلت: كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرأ الناس» وزاد فيه كذلك [الله] ربي، كذلك [الله] ربي.
ص:146
أی فی کیفیّة ذاته و صفاته و حقیقتهما
1 - «محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا».
«وفي رواية اخرى عن حريز: تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله»
(محمد بن الحسن) قال الفاضل الشوشتري: كأنه القمي الذي قيل في شأنه إنه نظير ابن الوليد، وفي بعض النسخ محمد بن الحسين بالتصغير.
(عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): تكلموا في خلق الله) لتعرفوا أنه موجود واحد حي عالم قادر مدبر حكيم لطيف خبير بيده أزمة وجود الخلائق ونواصيهم وإليه مرجعهم ومصيرهم وذلك لأن آياته الباهرة وآثاره الظاهرة في العالم دالة على وجوده الظاهر في كل صورة منها وفي كل شيء من الأشياء له آية تدل على أنه واحد لكل ذرة من الذرات لسان يشهد بوجوده وتدبيره وتقديره لا يخالف شيء من الموجودات شيئا في تلك الشهادات.
وقد أشار إليه جل شأنه بقوله (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (1)وهذا الطريق من الاستدلال هو طريق المليين وسائر فرق المتكلمين (2) فإنهم يستدلون أولا على حدوث الأعراض. ثم يستدلون بحدوثها وتغيراتها على وجود الخالق ثم بالنظر في أحوال
ص:147
المخلوقات على صفاته واحدة واحدة مثلا بإحكامها وإتقانها على كون فاعلها عالما وبتخصيص بعضها بأمر ليس في الآخر على كونه مريدا. ونحو ذلك الحكماء الطبيعيون (1) يستدلون بوجود الحركة على محرك، وبامتناع اتصال الحركات لا إلى أول على وجود محرك أول غير متحرك، ثم يستدلون من ذلك على وجود مبدأ أول.
وأما الإلهيون فلهم في الاستدلال طريق آخر وهو أنهم ينظرون أولا في مطلق الوجود أهو واجب أم ممكن يستدلون من ذلك على إثبات موجود واجب ثم بالنظر في لوازم الوجوب من الوحدة الحقيقية على نفي الكثرة بوجه ما المستلزم لعدم الجسمية والعرضية والجهة وغيرها ثم يستدلون بصفاته على كيفية صدور أفعاله عنه واحدا بعد آخر وقالوا: هذا الطريق أعلى واجل من الطريق الأول لأن الاستدلال بالعلة على المعلول أولى البراهين بإعطاء اليقين لكون العلم بالعلة المعينة مستلزما للعلم بالمعلول المعين من غير عكس (2).
وقال بعض العلماء هذه طريقة الصديقين الذين يستدلون بوجوده على وجود كل شيء إذ هو منه ولا يستدلون عليه بوجود شيء لأنه أظهر وجودا من كل شيء فإن خفي مع ظهوره فلشدة ظهوره وظهوره سبب بطونه ونوره هو حجاب نوره والواجب على أهل كل طريق ترك التعرض لمعرفة ذاته وصفاته ومقدار عظمته كما أشار إليه على وجه العموم بقوله.
(ولا تتكلموا في الله) أي في ذاته وصفاته (فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا) (3)
ص:148
وبعدا وبعدا عنه (وفي رواية اخرى عن حريز تكلموا في كل شيء) سواء كان التكلم فيه لمعرفة ذات ذلك الشيء وصفاته وآثاره وخواصه أو لمعرفة خلقه (ولا تكلموا) أي لا تتكلموا بحذف إحدى التائين وفي بعض النسخ بدون الحذف.
(في ذات الله) ولا في تحقيق حقيقة صفاته وتحديدها. نبي عن الخوض في ذات الله تعالى وصفاته وتحقيق حقيقتها فإن ما يتعلق بهما بحر زاخر لا يصل إلى أطرافه النظر ولا يدرك قعره البصر ولا يجري فيه فكر البشر فكل سابح في بحار عزه وجلاله غريق، وكل طالب لأنوار كبريائه وكماله حريق، فإن تصور من ذاته شيئا فهو يشابه ذوات المخلوقات وإن تعقل من صفاته أمرأ فهو يناسب صفات الممكنات، وإن لم يتصور منهما شيئا ولم يستقر عقله على أمر صار ذلك موجبا للهم والغم والتدله والحيرة حتى يؤدي ذلك إلى الجنون كما يجد ذلك من نفسه من حركها مرارا إلى تحصيل ما ليس في وسعها.
2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج،
ص:149
عن سليمان بن خالد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل يقول: وأن إلى ربك المنتهى فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن سليمان ابن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل يقول: (وأن إلى ربك المنتهى)) أي الانتهاء (فإذا انتهى الكلام إلى الله تعالى) أي إلى ذاته وصفاته (فأمسكوا) ولا تتكلموا فيهما يعني ينبغي لكم النظر إلى أحوال الخلق وعظمته وإحكامه وإتقانه وحسن نظامه لتعلموا أن له خالقا عظيما حكيما قادرا حيا قيوما واحدا فإذا انتهى كلامكم إلى هذا وعلمتم ذلك وصدقتم به فأمسكوا ولا تتكلموا بعد ذلك في ذاته وصفاته ولا تقولوا ما هما فإن معرفة حقيقتهما ليست في وسع البشر.
3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء.(2)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق) المنطق: الكلام، يعني يجوز لهم الكلام في أفعال الله تعالى وآثاره الدالة على وجوده ووحدته وعظمته وسائر صفاته.
(حتى يتكلموا في الله) بالتشبيه والتصوير والكيفية والتحديد وأمثال ذلك.
(فإذا سمعتم ذلك فقولوا لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء)، قد مر تفسير هذه الكلمة التي هي الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في العقل والنقل غيره.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا زياد إياك والخصومات فإنها تورث الشك وتحبط العمل وتردي صاحبها وعسى أن يتكلم بالشيء فلا يغفر له، إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى أن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من يديه. وفي رواية اخرى: حتى تاهوا في الأرض.(3)
ص:150
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا زياد إياك والخصومات) المخاصمة المجادلة لا لإثبات الحق، بل للترفع وإظهار الفضل والكمال والتسلط على الأقران في المجالس بكثرة القيل والقال وأما الجدال لإثبات الحق بطريق صحيح فليس بمنهي عنه (1) كيف وقد قال الله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) (2)وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).(3)
(فإنها تورث الشك) في الحق وزيغ القلب عنه بإلقاء الشبهات عليه فإن شرك الشبهة أما منسوج (4) من أوتار الباطل فقط أو من الحق والباطل جميعا وعلى التقديرين قلما يتخلص منه النفس المأنوسة بمفتريات الأوهام.
(وتحبط العمل) حبط عمله حبطا بالتسكين وحبوطا بطل ثوابه، وحبط الله أبطله واسناد الإحباط إلى الخصومات إسناد مجازي باعتبار أنها سبب له وفيه دلالة على إحباط العمل الصالح
ص:151
بالشك ونحوه هذا إذا لم يرجع عنه كما يدل عليه ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط الله عمله إن حجة الله هي الحجة الواضحة ولا بعد في ذلك إذ كما أن الذنوب الظاهرة قد توجب سلب النعمة الواصلة على ما روي ما أنعم الله على عبد نعمة فسلبها إياها حتى يذنب ذنبا يستحق بذلك السلب ودل عليه أيضا قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (1)كذلك الذنوب الباطنة (2) قد توجب سلب نعمة الثواب التي حصلت بعمل آخر كما ورد أن الخلق السيء يفسد العمل الصالح كما يفسد الخل العسل وتخصيص الشك هنا بالشك في الله وتخصيص العمل بالجدال الصحيح قبل بلوغه إلى حد المخاصمة أيضا محتمل.
(وتردي صاحبها) الردي الهلاك ردي بالكسر يردى رديا أي هلك وأرداه غيره أهلكه يعني الخصومات تهلك صاحبها باستحقاق العذاب فإن من تصدى لها لا يكتفي بسلوك سبيل الدفع وذلك لغلبة القوة الشهوية والغضبية وشوق التسلط والترفع عليه.
(وعسى أن يتكلم بالشيء) من ذات الواجب وصفاته أو غير ذلك من من الأمور الدينية وفي بعض النسخ في الشيء (فلا يغفر له) لفخامة قبحه وسوء عاقبته كما قال سبحانه (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) (3)وقال الصادق (عليه السلام): «من هم بسيئة فلا يعملها إنه ربما عمل العبد السيئة فسيراه الرب تبارك وتعالى فيقول:
وعزتي وجلالي لا غفر لك بعد ذلك أبدا».
(إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به) أي تركوا علم ما فوض إليهم وطلب منهم من الأحكام والمعارف التي كانت لايقة بالحق وكانت مقدورة لهم.
(وطلبوا علم ما كفوه) (4) كفوا على صيغة المجهول إما ناقص يائي أصله كفيوا فعل به ما فعل
ص:152
برموا بضم الراء والميم أو مهموز اللام من كفأت القوت كفاء إذا أرادوا وجها فصرفتهم عنه يعني طلبوا على ما كفاهم الله تعالى مؤنته وأغناهم عنه أو علم ما كفأهم الله وصرفهم عنه ومنعهم منه كالعلم بكنه ذاته وصفاته تعالى.
(حتى انتهى كلامهم إلى الله عز وجل) فتكلموا في كنه ذاته وصفاته تعالى وتعمقوا فيه (فتحيروا) لعدم وصول عقلهم إليه (حتى أن كان الرجل) لفظ أن ليس في بعض النسخ (ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه) لذهاب عقله وتحيره في أمره فكان لا يميز بين الجهات والمحسوسات فضلا عن أن يميز بين المعاني والمعقولات ويحتمل أن يكون هذا الكلام تمثيلا لإيضاح حاله في التحير والتدله.
(وفي رواية اخرى حتى تاهوا في الأرض) أي ذهبوا فيها متحيرين وضلوا مبهوتين مدهوشين سبحان من تاهت في ذاته نواظر العقول وحارت في صفاته بصائر الفحول.
ص:153
5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن الحسين بن المياح، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من نظر في الله كيف هو، هلك.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أحصابه، عن الحسين بن مياح، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من نظر في الله كيف هو هلك) إما بالشرك إن استقر نظره على كيفية لتعاليه عنها أو بالتحير وذهاب العقل إن اضطرب في سرادق العز؟ ولم يجد شيئا يركن إليه إذ عظمة الرب أجل وأعظم من أن يضبطها عقل بشري.
6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن ملكا عظيم الشأن كان في مجلس له فتناول الرب تبارك وتعالى ففقد فما يدري أين هو.(2)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن ملكا عظيم الشأن) عظمة شأنه إما بحسب الدنيا أو بحسب الفضل والكمال (كان في مجلس فتناول الرب تبارك وتعالى) أي تكلم في كيفية ذاته وفتش في حقيقة صفاته وصرف نظر الفكر إلى مطالعة كنه كبريائه وعظمته وأجال بصر العقل إلى مشاهدة منتهى علمه وقدرته وأرسل الفهم إلى عميقات أسرار كماله وحرك الفهم إلى تحديد كيفية جلاله فعادت تلك المتحركات قبل الوصول إلى مطالبها خائبة كليلة ورجعت هذه المدركات قبل الوصول إلى مقاصدها خاسئة حسيرة لكونها قاصرة عن إدراك ما طلبته من هذه المطالب الجزيلة وعاجزة عن تناول ما تمنته عن هذه المقاصد الجليلة فلذلك غلب عليه التدله والحيرة (ففقد) من بين قومه (3) وتاه في الأرض. (فما يدري أين هو) سبحان من تولهت القلوب من تقدير جلال عزته
ص:154
وتحيرت العقول من طلب كنه عظمته.
7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عبد الحميد، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عبد الحميد، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إياكم والتفكر في الله) تحذير عن طلب معرفة كنه ذاته وصفاته، وتبعيد عن التفكر في منتهى علمه وكمالاته، هيهات هيهات إن من يعجز عن إدراك ذي الهيئة والأدوات ويضعف عن نيل ما جبلت عليه نفسه من الصفات ومن تعقل دقايق جزئيات أعضائه وتصور حقايق محسوسات قواه فهو من إدراك ذات الله وصفاته وتعقل حقائق أوصافه وكمالاته التي هي أبعد الأشياء عنه مناسبة وأظهرها مباينة أعجز وأضعف ومن تصوره بقدر فهمه وتخيله بحسب وهمه فقد حده بحدود المخلوقات وعده من قبيل المصنوعات فهو خارج عن مقام التوحيد والتعظيم وداخل في حد الشرك بالله العظيم.
(ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته) العظيم يطلق على كل كبير محسوسا كان أو معقولا، عينا كان أو معنى، وإذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكثير يقال في المنفصلة ثم قد يقال في المنفصل عظيم نحو قولهم جيش عظيم ومال عظيم، والعظيم المطلق هو الله سبحانه لاستيلائه على جميع الممكنات بالإيجاد والإفناء وليست عظمته عظمة مقدارية ولا عظمته عددية لتنزهه عن المقدار والمقداريات والكم والكميات بل هي عبارة عن علو شأنه وجلالة قدره وكمال شرفه وشدة غنائه عن الخلق ونهاية افتقارهم إليه في الوجود والبقاء والكمال.
(فانظروا إلى عظيم خلقه) فإنه أظهر عظمته للعقول بما أراها من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم، فمن شواهد عظمته خلق السماوات المرفوعات بلا عمد القايمات بلا سند.
ص:155
دعاهن فأجبن طايعات لقدرته القاهرة وأتين مذعنات لإرادته الكاملة. ومنها خلق النجوم السايرات والكواكب الساكنات التي يستدل بها الحاير في فجاج الأقطار والساير في لجج البحار، ومنها خلق الحيوانات وإرشادها إلى مطالبها وإلهامها السعي إلى مقاصدها، ألا تنظرون إلى صغير ما خلق كالنملة كيف أحكم خلقها وأتقن وتركيبها وأقامها على قوايمها وبناها على دعايمها، وفلق لها السمع والبصر وسوى لها العظم والبشر وجعل لها مجاري أكلها كالحلق والإمعاء وشراسيف بطنها كالعظام والأضلاع، وخلق في رأسها عينا باصرة وإذنا سامعة وشامة قوية تدرك بها من مسافة بعيدة وهي مع صغر جثتها ولطافة هيئتها بحيث لا تكاد تنال بلحظ النظر ولا بقوة الفكر تدب على الأرض وتطلب الرزق وتنقل الحبة إلى حجرها وتعدها في مستقرها وتجمع في حرها لبردها لا يغفل عنها المنان ولا يحرمها الديان في الصفا اليابس والحجر الجامس، فإنكم إذا نظرتم إلى ما ذكر، وإلى غيره من عجايب الخلق وغرايب التدبير ولطايف التقدير علمتم أن خالقها موصوف بالكبرياء والعظمة ومنعوت بالعلو والرفعة، وقلتم سبحان من لا يعرف منتهى عظمته العارفون ولا يعلم نهاية قدرته العالمون.
8 - محمد بن أبي عبد الله رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) [يا] ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه، وبصرك لو وضع عليه خرق أبرة لغطاه تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض، إن كنت صادقا فهذه الشمس خلق من خلق الله فإن قدرت تملأ عينيك منها فهو كما تقول.(1)
(محمد بن أبي عبد الله رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) [يا] ابن آدم) بحذف حرف النداء في النسخ المشهورة وبذكرها في بعض النسخ وفي كتاب الاعتقادات للصدوق (رحمه الله) (لو أكل قلبك طاير) صغير مثل العصفور ونحوه (لم يشبعه) لغاية صغره وحقارته.
(وبصرك) وهو ما يرى من العين لا كلها (لو وضع عليه خرق أبرة لغطاه) ومنعه من الرؤية، والخرق بالفتح والتسكين مصدر خرق الثوب والخف ونحوهما من باب ضرب، ثم سمي الثقبة ولذا يجمع فيقال: خروق وقد لا يجمع نظرا إلى الأصل وفي بعض النسخ «خرت إبرة» والخرت بفتح الخاء المعجمة أو ضمها وسكون الراء المهملة والتاء المثناة من فوق ثقب الإبرة والفاس والاذن ونحوها والجمع خروت وأخرات.
(تريد أن تعرف بهما) أي بهذا القلب الصغير والبصر الحقير (ملكوت السماوات والأرض) أي مالك ملكوتهما على حذف المضاف بقرينة المقام.
ص:156
(إن كنت صادقا) فيما تقول من إمكان رؤيتك له وجوار معرفتك إياه بكنه ذاته وحقايق صفاته على وجه الكمال (فهذه الشمس خلق من خلق الله (1) فإن قدرت أن تملأ عينك منها) حتى ترى جرمه كما هو (فهو كما تقول) يعني كما لا تقدر على رؤية جرم الشمس وإكمال تحديق النظر الظاهر إليه كذلك لا تقدر على رؤية الله ظاهرا وباطنا وإكمال تحديق البصر والبصيرة إليه لاحتراقهما بنوره الغالب على جميع الأنوار وإنما غاية كمالك في معرفته أن تعرف أنك لا تقدر على معرفته كما هو، وهذا الكلام بحسب المعنى في قوة شرطية يستثنى منها نقيض تاليها لينتج نقيض المقدم أي إن كنت صادقا في رؤيته فقد قدرت على رؤية جرم الشمس لأن رؤية آثاره أسهل من رؤيته والتالي باطل بشهادة الحس فالمقدم مثله.
9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن اليعقوبي، عن بعض أصحابنا عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن يهوديا يقال له: سبحت جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله! جئت أسألك عن ربك، فإن أنت أجبتني عمأ أسألك عنه وإلا رجعت قال:
سل عما شئت، قال: أين ربك؟ قال: هو في كل مكان وليس في شيء من المكان المحدود، قال:
وكيف هو؟ قال: وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق والله لا يوصف بخلقه، قال فمن أين يعلم أنك نبي الله؟ قال: فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين يا سبحت إنه رسول الله فقال سبحت: ما رأيت كاليوم أمرا أبين من هذا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.(2)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن اليعقوبي) الظاهر أنه داود بن
ص:157
علي اليعقوبي (1) الهاشمي الثقة الذي من أصحاب الكاظم (عليه السلام)، وقيل: من أصحاب الرضا (عليه السلام) وقيل: من أصحابهما لا جعفر بن داود ولا أخوه الحسين بن داود وهما من أصحاب الجواد (عليه السلام).
(عن بعض أصحابنا عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن يهوديا يقال له:
سبحت) بضم السين والباء وسكون الحاء المهملة (2) كذا سمعت ورأيت في بعض النسخ المصححة وفي بعضها بضم السين وسكون الباء وفتح الحاء المهملة، وفي بعضها أيضا كذلك إلا أنه بضم الخاء المعجمة، وقد نقل الصدوق (رحمه الله) في كتاب التوحيد حديث سبحت بإسناده مع تغيير يسير في المتن عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إنه كان فارسيا وكان من ملوك فارس وكان دريا يعني صاحب دراية وعلم وفهم وفصاحة.
(جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله) قال: ذلك على الرسم الذي كان معهودا بين الصحابة، وفي بعض النسخ فقال: يا محمد (جئت أسألك عن ربك) الذي تدعوننا إليه (فإن أنت أجبتني عما أسألك عنه) أي فإن أجبتني بالجواب الصحيح، حذف الشرط لوجود المفسر وأبدل الضمير المتصل بالمنفصل فأنت فاعل فعل محذوف لا مبتدأ لأن حرف الشرط لا يدخل على الاسم فالتركيب نظير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك) (3)وحذف أيضا جواب الشرط وهو آمنت بك وقلت برسالتك بقرينة المقام.
(وإلا رجعت) على ما أنا عليه من التهود (قال: سل عما شئت قال: أين ربك؟) من الأمكنة، أفي السماء أو في الأرض أو في غيرهما (قال: في كل مكان) لا بمعنى الحصول والاستقرار فيه كحصول الجسم في مكان لاستحالة حصول شيء واحد في جميع الأمكنة (4) بالضرورة وليس له
ص:158
أيضا طبيعة امتدادية عظيمة تملأ جميعها، بل بمعنى الحضور والعلم والإحاطة فإن علمه محيط بجميع الأشياء وهي حاضرة عند ذاته تعالى وتقدس فكما أن المكاني حاضر عنده كذلك المكان حاضر عنده لأن المكان أيضا شيء غير محجوب عنه.
(وليس في شيء من المكان المحدود) أي المعين بأن يقال مثلا هو في السماء أو في الأرض أو في غيرهما لأن ذلك يوجب احتياجه إلى المكان وخلو بعض الأمكنة عنه وجواز انتقاله عنه بالطبع أو بالقسر واتصافه بصفات الجسم، وكل ذلك محال، وأشار بهذا الكلام إلى أن المراد بقوله في كل مكان هو إحاطة علمه به كما أشرنا إليه ولما علم السائل أن الرب ليس له مكان (قال: وكيف هو؟) سأل عن كيفيته لالف نفسه وتعلق وهمه بالموجودات التي لا تخلو عن الكيفيات فتوهم أن الموجود المطلق الذي هو مبدأ تلك الموجودات حكمه حكمها، أو سأل عنها على سبيل الاختبار مع علمه بأنه لا كيفية للرب.
(قال: وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق والله لا يوصف بخلقه) أشار إلى أن السؤال عن كيفيته سؤال عن أمر محال لأن الكيف مخلوق والمخلوق ناقص من جهات شتى فالله المنزه عن النقايص لا يوصف به لاستحالة اتصافه بالنقص ولأن الكيف إن كان من صفات كماله كان عدم اتصافه به في مرتبة العلية محالا لأن كل كماله بالفعل وليس له كمال منتظر، وإن لم يكن من صفات كماله كان اتصافه به محالا، ولما علم السائل أن له ربا منزها عن الأين والكيف بل عن صفات الخلق كلها كما يرشد إليه الجواب عن الكيف (قال: فمن أين يعلم) غايب مجهول أو متكلم مع الغير.
(أنك نبي الله؟) سأل عن الآيات والمعجزات الدالة على صدقه في دعوى النبوة لعلمه بأن النبوة رئاسة عظيمة مطلوبة لكل أحد لا تثبت إلا بتصديق الرب تبارك وتعالى والعجب أن اليهودي كان يعلم ذلك وجماعة من هذه الامة لا يعلمون أن الإمامة التي هي أيضا رئاسة عظيمة مثل النبوة لا تثبت إلا بتصديق الرب حتى فعلوا ما فعلوا أخزاهم الله في الدنيا والآخرة.
(قال: فما بقي حوله) أي حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو حول سبحت (حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين) أي واضح الدلالة (يا سبحت إنه رسول الله) شهدوا بالرسالة مع أن السؤال في النبوة لكون الرسالة فوق النبوة ومستلزمة لها.
وفي كتاب التوحيد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «قال سبحت: فكيف لي أن أعلم أنه أرسلك فلم يبق
ص:159
بحضرتنا ذلك اليوم حجر ولا مدر ولا جبل ولا شجر ولا حيوان إلا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» (فقال سبحت: ما رأيت كاليوم أمرا أبين) أي أظهر (من هذا) في الدلالة على رسالة رسول من الرسل، وهذا واضح لأن كل معجزة من معجزات الرسل إنما نطقت بلسان الحال وهذه المعجزة نطقت بلسان الحال والمقال جميعا.
(ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله) لما كانت نيته صادقة كما أومأ إليه أولا هداه الله تعالى بفضله. والحمد لله رب العالمين.
10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من الصفة فرفع يده إلى السماء ثم قال: تعالى الجبار، تعالى الجبار، من تعاطى ما ثم هلك.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من الصفة) أي تحقيق شيء من صفات ذاته وكمالاته أو عن بيان شيء من كيفياته أو عن مائيته وحقيقته.
(فرفع يده إلى السماء) في رفع يده إلى السماء مع تساوي رفعها وخفضها بالنسبة إليه سبحانه وإلى علمه الشامل إيماء إلى علو شأنه ورفعة قدره.
(ثم قال: تعالى الجبار، تعالى الجبار) من أن يحيط الواصفون بحقيقة صفاته أو يتحرك السالكون إلى طلب كيفياته أو يقدر العارفون على معرفة كنه ذاته، والجبار من أسمائه تعالى وقد عرفت معناه آنفا.
(من تعاطى ماثم هلك) التعاطي التناول والجرأة على الشيء والخوض فيه يعني من تعرض لتحقيق ذات الحق وصفاته وخاض في معرفة حقيقتهما وأثبت له كيفية هلك هلاكا أبديا.
ص:160
أي رؤيته تعالى بالأبصار في الدينا والآخرة.
1 - محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم، عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟ فوقع (عليه السلام) يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلى آبائي أن يرى، قال: وسألته هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم عن يعقوب بن إسحاق قال كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام)) هو الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) (أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟) إن استبعد ذلك فليس بمستبعد لأن الرؤية القلبية أقوى من الرؤية العينية والنسبة بينهما عند أهل العرفان كالنسبة بين القلب والعين في القوة والشرف وإن سأل عن ذلك تثبيتا لما اعتقده وطلبا للقدرة على المناظرة مع الخصم فله وجه والثاني أنسب بحال هذا الرجل لأنه كان من أصحاب أبي جعفر الثاني وأبي الحسن (عليهما السلام) وكان مقدما عندهما فقيها صدوقا لا يطعن عليه بشيء وقد قتله المتوكل لأجل التشيع (2) ويستبعد من مثله أن يخفى عليه أمر الرؤية في زمن الإمامين إلى زمان
ص:161
العسكري (عليهم السلام).
(فوقع (عليه السلام)) قال الجوهري التوقيع ما يوقع في الكتاب (يا أبا يوسف جل سيدي) الذي وجبت علي طاعته (ومولاي) الذي هو ربي وناصري في جميع الأحوال (والمنعم علي وعلى آبائي) بالعلم والشرف والتقدم على العباد وغيرها من النعم الظاهرة والباطنة (أن يرى) بالإبصار.
(قال: وسألته) من باب المكاتبة أيضا كما دل على الجواب (هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع (عليه السلام) أن الله تعالى أرى رسول الله بقلبه من نور عظمته ما أحب) أي ما أحب الله أوما أحب رسوله ونظيره ما رواه مسلم بسنده أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «رآه بقلبه» وبسند آخر عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: «رآه بقلبه» وبسند آخر عن أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى: «ما كذب الفؤاد ما رآى.
ولقد رآه نزلة اخرى» قال: رآه بقلبه مرتين (1) قال بعض العامة في تفسيره: إنه (2) رآه بعين قلبه.
قال أبو عبد الله الآبي: ولا يعني قائل ذلك إنه خلق له إدراك بصري في قلبه لأن ذلك لا يخرجه
ص:162
عن كونه بصريا إذ لا يشترط في الإدراك البصري البنية المخصوصة لجواز أن يخلق في العصب أو غيره عن الأعضاء وإنما يعني أن العلوم تتفاوت فخلق له ليلة الإسراء أو في وقت مخصوص من الإدراك العلمي ما لم يكن له قبل وقد كانت حالاته في الأوقات متفاوتة كما قال: «لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرب، ولا نبي مرسل» وبما ذكرناه اندفع ما قال النووي إنه جعل بصره في فؤاده أو خلق لفؤاده بصرا حتى رآه كما يراه بالعين لأن ذلك لا يخرجه عن الرؤية العينية ولا يدخله في الرؤية القلبية.
وقال محي الدين البغوي: الحق أن الله تعالى يرى في الآخرة لما رواه مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم حذر الناس من الدجال «إنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كره عمله، ويقرؤه كل مؤمن (1)» وقال: «تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت» (2) إذ لو استحالت رؤيته فيها كما يقوله المعتزلة لم يكن للتقيد بالموت معنى.
وقال عياض: الحق أن رؤيته جايزة في الدنيا واختلف هل وقعت أم لا، لظاهر هذا الحديث ولقوله تعالى «لا تدركه الأبصار» على تأويل أنها في الدنيا وللسلف ومن بعدهم في ذلك اختلاف كثير وهل رآه النبي ليلة الإسراء، وعلل منعها بضعف هذه البنية (3) عن احتمال كمالها كما لم يحتمله موسى (عليه السلام) في الدنيا انتهى.
أقول: تقييد عدم الرؤية في حديث الدجال بقوله «حتى يموت» باعتبار أن الدجال يدعي الربوبية في الدنيا فكأنه قال: لا يرى أحد ربه في الدنيا فوجب أن لا يعتقد بربوبية الدجال ولا دلالة فيه على رؤية الرب في الآخرة إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة إتفاقا.
2 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن ادخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرفة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن (عليه السلام) فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس؟ لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علما وليس كمثله شيء، أليس محمد؟ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: بلى، قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله
ص:163
وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شيء، ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر، أما تستحيون، ما قدرت الزنادقة ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر، قال أبو قرة: فإنه يقول:
(ولقد رآه نزلة اخرى)(1) فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) (2)يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى. فآيات الله غير الله وقد قال الله: (ولا يحيطون به علما) (3)فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة، فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء؟.(4)
(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث) هو صاحب شبرمة (5) كما صرح به الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج، وقال بعض الأصحاب اسمه علي بن أبي قرة أبو الحسن المحدث رزقه الله تعالى الاستبصار ومعرفة هذا الأمر أخيرا انتهى.
وإنما وصفه بالمحدث لئلا يتوهم أنه أبو قرة النصراني اسمه يوحنا صاحب الجاثليق وقد سأل أبو قرة هذا أيضا صفوان بن يحيى أن يدخله على الرضا (عليه السلام) فأدخله فسأله عن النبوة كما هو المذكور في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام).
(أن ادخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة: إنما روينا) في بعض النسخ إنا بدل «إنما» قال في المغرب رويته الحديث حملته على روايته ومنه إنا روينا في الأخبار بضم الراء وشد الواو وكسرها.
(أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين (6)) على صيغة التثنية (فقسم الكلام لموسى ولمحمد
ص:164
الرؤية) تخصيص الكلام بموسى (عليه السلام) غير ثابت لثبوته لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاتفاق كما دل عليه حديث المعراج.
(فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما وليس كمثله شيء) قوله «لا تدركه الأبصار» وما عطف عليه مفعول المبلغ (أليس محمد؟) مبلغ هذه الآيات بحذف الخبر والاستفهام للتقرير، وجعل محمد خبر مبتدء محذوف واسم ليس ضمير المبلغ أي أليس المبلغ هو محمد بعيد (قال بلى) هو محمد (قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول «لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما وليس كملثه شيء» ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر؟!) كما رويتم أنه خلق آدم على صورته.
(أما تستحيون) من الله فيما ذهبتم إليه؟ (ما قدرت الزنادقة) الظاهر أن «ما» نافية (أن ترميه) أي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) (بهذا أن يكون) بدل لهذا (يأتي من عند الله بشيء) هو أنه لا يدركه الأبصار.
ص:165
(ثم يأتي بخلافه من وجه آخر) وهو أني رأيته ببصري والحاصل أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ إلى الإنس والجن هذه الآيات التي دلت على أنه لا تتعلق به الرؤية ولا يدركه بصر من الأبصار ومن المحال أن يقول بعد هذا أنا رأيته ببصري لاستحالة أن يأتي بالمتناقضين فقد رميتموه بشيء لا تقدر الزنادقة أن ترميه به، أما دلالة الآية الأولى على نفي الرؤية فلأن الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياقه فيعم النفي كل إدراك بالبصر سواء كان يكنه الحقيقة أو لا، فاندفع ما قيل: من أن الإدراك أخص من الرؤية ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، لا يقال: يجوز تخصيص هذه الآية بكنه الحقيقة للأخبار الدالة على جواز الرؤية لأنا نقول جواز تخصيص القرآن بخبر الواحد على تقدير صحته ممنوع، ولو سلم فنقول: تخصيص الرؤية في الأخبار بالرؤية القلبية أسهل وأولى (1). لا يقال:
الرؤية القلبية ثابتة لجميع الأنبياء فلا وجه لتخصيصه بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنا نقول: الرؤية القلبية تتفاوت فيجوز أن يخلق الله تعالى له من الإدراك العلمي ما لم يخلقه لغيره من الأنبياء والرؤية التي قسمها الله تعالى له هي هذه الرؤية الكاملة، ثم هذا على تقدير أن يكون الإدراك في الآية أخص من الرؤية وهو ممنوع، لأن المنفي هو الإدراك بالبصر وهو يساوي الرؤية.
وأما دلالة الآية الثانية على نفي الرؤية فلأن المقصود منها نفي إحاطة العلم: به مطلقا أي كما وكيفا وجهة وكنها، فلو تعلقت الرؤية به لكان معلوما بأحد الوجوده المذكورة وهي كالسابقة سؤالا وجوابا، ثم احتياجنا إلى هذه المقالات لأن كلامنا مع الخصم وإلا فتفسير المعصوم حجة، ولما لم يكن للخصم مفسر عالم يرجع إليه ذهب إلى ما اقتضاه رأيه فوقع في هذه المفاسد من جواز الرؤية وأمثالها مما يمتنع عليه سبحانه، وأما دلالة الآية الثالثة فلأن المقصود منها نفي المماثلة عنه مطلقا فلو تعلقت به الرؤية لكان مصورا بصورة وممثلا بكيفية ومتحيزا بحيز وواقعا في جهة فيكون مماثلا لخلقه من وجوه متعددة، تعالى الله عن ذلك.
ص:166
(قال أبو قرة: فإنه يقول: «ولقد رآه نزلة اخرى») قال القاضي مرة أخرى فعلة من النزول اقيمت مقام المرة ونصبت نصبها إشعارا بأن الرؤية في هذه المرة كانت أيضا بنزول ودنو، وقيل: التقدير ولقد رآه نازلا نزلة اخرى، ونصبها على المصدر والمراد نفي الريبة عن المرة الأخيرة.
(فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال) أولا قبل هذه الآية (1)، فهذا بيان للدلالة على ما رأى وتمهيد لها لا إشارة إلى البعد وبيان له.
(«ما كذب الفؤاد ما رأى» يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه) وما شك فيه بل عرفه حق المعرفة وصدق به تصديقا جازما (ثم أخبر) بعد هذه الآية (بما رأى فقال: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فآيات الله غير الله) استدل أبو قرة على أن النبي (عليه السلام) رآه سبحانه بالعين بقوله تعالى «ولقد رآه نزلة اخرى» بناء على أن ضمير المفعول راجع إلى الله تعالى، فأجاب (عليه السلام) بأن الضمير ليس براجع إليه سبحانه بل إلى آية من آياته الكبرى ومخلوق من مخلوقاته فهي مرئية كما دل عليه ما بعده هذه الآية وقد ذهب إلى هذا أيضا بعض العامة لما رواه مسلم في كتابه قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني، عن زر، عن عبد الله «ما كذب الفؤاد ما رأى» قال: رأى جبرئيل (عليه السلام) له ستمائة جناح (2)» وقال أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثني علي ابن مسهر، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة «ولقد رآه نزلة اخرى» قال: «رأى جبرئيل (عليه السلام) (3)» بصورته التي له في الخلقة الأصلية على أن لقائل أن يقول على تقدير أن يكون الضمير راجعا إليه سبحانه يكون المراد بالرؤية الرؤية القلبية على الوجه الكمال إلا أن الحق الذي لا ريب فيه ما ذكره (عليه السلام).
(وقد قال الله «ولا يحيطون به علما» فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت (4) به العلم وقعت المعرفة) أي المعرفة الضرورية المستلزمة للإحاطة بالضرورة ولما قرر أولا دليل الخصم على وجه لا يدل على مطلوبه وبين غلطه أورد هذا دليلا على نقيض مطلوبه وهو عدم جواز رؤيته تعالى ووجه دلالته على ذلك ما ذكرنا آنفا.
(فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟) أي بالروايات الدالة على رؤيته (فقال أبو الحسن (عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن) بحيث لا يمكن الجمع بينهما (كذبتها) لأن كل خبر مخالف للقرآن
ص:167
فهو مردود باتفاق الامة (1).
(وما أجمع المسلمون على أنه لا يحاط به علما (2)، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء)
ص:168
والروايات المخالفة لذلك باطلة مصنوعة فمن تمسك بها وقال إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رآه بالعين خالف القرآن وإجماع المسلمين وخرج عن الإسلام، على أن الروايات على تقدير صحتها لا نص فيها على أنه رآه بالعين فيجوز حملها على أنه رآه بالقلب، وفي كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي (رحمه الله) «قال صفوان فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا حتى قام وخرج».
3 - أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن سيف، عن محمد بن عبيد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة وسألته أن يشرح لي ذلك، فكتب بخطه: اتفق الجميع لا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة فإذا جاز أن يرى الله بالعين وقعت المعرفة ضرورة ثم لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا فالمعرفة التي دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان لأنها ضده، فلا يكون في الدنيا مؤمن لأنهم لم يروا الله عز ذكره وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول ولا تزول في المعاد فهذا دليل على أن الله عز وجل لا يرى بالعين إذ العين تؤدي إلى ما وصفناه.(1)
(أحمد بن إدريس عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن سيف، عن محمد بن عبيد قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما ترويه العامة) من جواز رؤيته في الآخرة (والخاصة) من عدم جوازها (وسألته أن يشرح لي ذلك) أي يوضح إلي عدم جوازها بالبرهان والبرهان الذي ذكره (عليه السلام) يتضح بعد تمهيد مقدمات (2) كلها ضرورية الاولى أن الشيء الواحد له 169
حقيقة واحدة ولا يجوز أن يكون له حقايق متعددة متخالفة كانت أو متضادة، الثانية: أن كل حقيقة إما نظرية حاصلة بالاكتساب أو ضرورية غير مفتقرة إليه ولا يجوز أن تكون نظرية وضرورية معا لأنهما نوعان متباينان من العلم، الثالثة أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد نظريا وضروريا في وقت واحد لاستحالة اجتماع الضدين في ذات واحدة في وقت واحد.
(فكتب بخطه اتفق الجميع لا تمانع بينهم) أي اتفق جميع الامة ولا تنازع بينهم (أن المعرفة من جهة الرؤية) أي التصديق بوجود شيء من جهة رؤيته (ضرورة) (1) غير محتاجة إلى النظر والاستدلال ألا ترى أنك إذا رأيت شيئا عرفت وجوده من غير نظر حتى أن من طلب منك الدليل على وجوده نسبته إلى السفه والجنون.
ص:170
(فإذا جاز أن يرى الله بالعين وقعت المعرفة) بوجوده (ضرورة) (1) بلا خلاف والمناسب «لو» بدل «إذا» إلا أنه بنى الكلام على المماشاة مع الخصم القائل بجواز الرؤية.
(ثم لم تخل تلك المعرفة) الضرورية من جهة الرؤية (من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان) لا ثالث لهما إذ لا واسطة بين النفي والإثبات وكل واحد من هذين القسمين باطل، أما الأول فأشار إليه بقوله (فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان) والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بيان الشرطية فأشار إليه بقوله (لأنها ضده) أي لأن الرؤية ضد الاكتساب لأن الرؤية تفيد العلم الضروري والاكتساب يفيد العلم الكسبي فإن كان الأول إيمانا لم يكن الثاني إيمانا لأن الإيمان له حقيقة واحدة بحكم المقدمة الأولى وتلك الحقيقة إن كانت ضرورية لم تكن نظرية بحكم المقدمة الثانية.
وأما بطلان التالي فأشار إليه بقوله (فلا يكون في الدنيا مؤمن لأنهم لم يروا الله عز ذكره) في الدنيا وإذا لم يروه لم يكونوا مؤمنين إذ الفرض أن الايمان هو المعرفة من جهة الرؤية وهذا باطل بالاتفاق فقد ثبت أن المعرفة من جهة الرؤية ليست بإيمان.
وأما بطلان القسم الثاني فأشار إليه بقوله (وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا لم تخل هذه المعرفة) التي حصلت في الدنيا (من جهة الاكتساب أن تزول) (2) أي لا بد من أن تزول
ص:171
في المعاد لاستحالة اجتماع المعرفة الضرورية التي من الرؤية والمعرفة النظرية التي هي ضدها في شخص واحد في وقت واحد بحكم المقدمة الثالثة.
(ولا تزول في المعاد) أي والحال أن هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب لا تزول في الآخرة لأن حشر المؤمن بلا إيمان باطل بالاتفاق، لأن ما اكتسبته النفس في الدنيا من الكمالات والمعارف كان معها بعد فراق البدن (1) وفي الآخرة بلا خلاف وإذ كانت هذه المعرفة باقية غير زايلة في الآخرة امتنع أن تحقق تلك المعرفة الضرورية التي هي ضدها بحكم المقدمة الثالثة فقد ثبت بطلان القسم الثاني أيضا فإذن بطل القسمان كلاهما وإذا بطلا بطل جواز رؤيته بالعين لأنه منحصر فيهما كما أشار إليه بقوله (فهذا دليل على أن تعالى الله ذكره لا يرى بالعين إذ العين تودي إلى ما وصفناه) من أنه يلزم على تقدير تحقق الرؤية العينية أن يكون في الدنيا مؤمن أو يزول الإيمان المكتسب في الآخرة، وقد عرفت بطلانهما بالعقل والإجماع وبطلان اللازم دليل على بطلان الملزوم، فإن قلت:
كما يلزم على تقدير أن تكون تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا أن لا يكون في الدنيا مؤمن كذلك يلزم أن تزول المعرفة الكسبية في الآخرة لاستحالة اجتماع العلم الضروري والعلم النظري بشيء واحد في وقت واحد وكما أن اللازم الأول باطل كذلك اللازم الثاني أيضا باطل فلم لم يذكر (عليه السلام)
ص:172
اللازم الثاني في القسم الأول أيضا؟ قلت: إما لأنه لا فساد في زوال المعرفة الكسبية في الآخرة على تقدير أن لا يكون تلك المعرفة إيمانا، أو لأن ما ذكره في القسم الأول كاف لإبطاله وما ذكره لإبطال القسم الثاني يستفيد منه العارف اللبيب وجها آخر لإبطال القسم الأول فأحال ذلك إلى فهمه.
ويخطر بالبال هنا إشكال في غاية الصعوبة (1) وهو أن هذا الدليل يجري فيما يجوز رؤيته بالاتفاق من أحوال القيامة مثل السؤال عن القبر والجنة والنار والصراط والميزان فإن معرفة هذه الامور عند مشاهدتها ضرورية وفي الدنيا كسبية فيجري فيه هذا الدليل بعينه، اللهم إلا أن يقال معرفة هذه الامور في الدينا أيضا ضرورية لحصولها بقول الرسول الصادق الأمين كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» ولا يجري مثل هذا الجواب فيما نحن فيه لأن معرفة وجود الباري لا يمكن أن تحصل بقوله لاستحالة الدور فليتأمل.
4 - وعنه عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم يصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.(2)
(وعنه عن أحمد بن إسحاق) في مرجع الضمير خفاء يزول بعد التأمل (قال كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسألة عن الرؤية وما اختلف فيه الناس) من جوازها واستحالتها قد ذكرنا آنفا
ص:173
بعض شبه المجوزين مع الجواب عنه ولا بأس أن نشير هنا إلى بعض آخر من شبهاتهم مع الجواب على سبيل الإجمال لتحصل الإحاطة بجهات كلامهم فنقول نقل الآبي في كتاب إكمال الإكمال عن بعض علمائهم أنه قال: رؤية الله تعالى جايزة في الدنيا عقلا لأنه تعالى علق رؤية موسى (عليه السلام) على استقرار الجبل وهو في نفسه أمر ممكن والمعلق على الممكن ممكن ولأنها لو كانت ممتنعة لم يسألها بقوله «رب أرني أنظر إليك» لأن العاقل لا يطلب المحال فسؤالها دل على أنه كان يعتقد جوازها فتكون جايزة وإلا لزم جهل النبي العظيم المعزز بالتكليم بما يجوز عليه ويمتنع واختلف في وقوعها وفي أنه هل رآه ليلة الإسراء (1) أم لا فأنكرته عايشة وجماعة من الصحابة والتابعين والمتكلمين وأثبت ذلك ابن عباس وقال: إن الله اختصه بالرؤية وموسى بالكلام وإبراهيم بالخلة، وأخذ به جماعة من السلف والأشعري في جماعة من أصحابه وابن حنبل وكان الحسن يقسم لقد رآه وتوقف فيه جماعة، هذا حال رؤيته في الدنيا وأما رؤيته في الآخرة فجايزة عقلا وأجمع على وقوعها أهل السنة للآيات وتواتر الأحاديث وأحالها المعتزلة والمرجئة والخوارج والفرق بين الدنيا والآخرة أن القوى والإدراكات ضعيفة في الدنيا إذا كانوا في الآخرة وخلقهم للبقاء قوى إدراكهم فأطاقوا رؤيته (2)
ص:174
سبحانه. انتهى كلامه.
الجواب عن الشبهة الاولى أنا لا نسلم أن المعلق عليه هو استقرار الجبل مطلقا فإن الجبل كان مستقرا مشاهدا وقت هذا التعليق بل استقراره حال التجلي وإمكانه حينئذ ممنوع وإثباته أشد من خرط القتاد، وعن الثانية بالمعارضة والحل، أما المعارضة فلأن رؤيته لو كانت جايزة لما عد طلبها أمرا عظيما ولما سماه ظلما أرسل عليهم صاعقة، ولما قال «فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم» ولما سمعوا هذه المعارضة اضطربوا فقالوا إن رؤيته جايزة في الدنيا لا على طريق المقابلة والجهة كما هو المعروف في رؤية الممكنات وممتنعة على هذه الطريقة فدمه وإنكاره بناء على أنه طلبها من هذه الطريقة الممتنعة. وأنت خبير بما في هذا الجواب من الركاكة لأن طلبه للرؤية من هذه الطريقة كيف يصلح أن يكون دليلا على جواز الرؤية من غير هذه الطريقة على أنه يلزم أن يكون النبي المعزز بالتكليم جاهلا بما يجوز عليه سبحانه ويمتنع.
وأما الحل فلأن الأمر في قوله (عليه السلام) «أرني» ليس محمولا على طلب الرؤية لعلمه (عليه السلام) بأنه لا يمكن رؤيته بل على إظهار حاله جل شأنه على الجماعة الحاضرين معه الطالبين لرؤيته تعالى القائلين له (عليه السلام) «أرنا الله جهرة» فقال ذلك القول ليسمعوا قوله تعالى «لن تراني» ويعلموا أنه لا يمكن رؤيته ويرجعوا عن اعتقادهم، والجواب عما نقل عن ابن عباس أنه ليس صريحا في الرؤية العينية لجواز أن يكون المراد بالرؤية التي اختصت به (صلى الله عليه وآله وسلم) الرؤية القلبية يعني الإدراك العلمي على الوجه الكمال، وقد نقلنا سابقا من طريقهم عن ابن عباس أنه قال: «رآه بقلبه» وعما نقل عن الحسن أنه إن كان قول الحسن من عند نفسه فليس حجة وإن كان من ظاهر الآيات والروايات فكذلك لأن فهمه ليس حجة على غيره، والظاهر قد لا يعمل به، والجواب عن وقوع الرؤية في الآخرة إن كثيرا من
ص:175
الآيات والروايات مأولة عن ظاهرها اتفاقا مثل ما وقع في القرآن من قوله تعالى (ومكر الله) (الله يستهزيء بهم) (1)وما وقع في رواياتكم عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن من العبيد يوم القيمة يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تبارك وتعالى فإذا ضحك منه قال: أدخله الجنة (2)» وعن ابن مسعود أن بعض أهل النار حين خرج منها ووصل إلى باب الجنة يقول «أي رب أدخلنيها، فيقول يا ابن آدم أيرضيك أن اعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزىء مني وأنت رب العالمين (3)» وأمثال ذلك كثيرة وأنتم قد أولتم المكر والضحك والاستهزاء بالجزاء والرضا والخذلان، فإذا جاز التأويل فكيف تتمسكون بالظواهر في الأمور العقلية وتجزمون عليها.
(فكتب لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر) (4) أي هواء شاف ينفذ فيه شعاع البصر ويتصل بالمرئي وهذا دل بحسب الظاهر على مذهب الرياضيين القائلين بأن الإبصار بخروج الشعاع لا على مذهب طايفة من الحكماء القائلين بأن الإبصار باعتبار أن المشف الذي بين البصر والمرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي في البصر ويصير بذلك آلة للإبصار ولا على مذهب الطبيعيين القائلين بأن الإبصار بانطباع صورة المبصر في الباصرة عند مقابلته لها، ويمكن أن يقال: المراد بنفوذ البصر في الهواء توقفه في الرؤية عليه وتوسله به فينطبق على المذاهب الثلاثة.
(فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي) بحايل أو بكمال القرب أو بغيرهما (لم تصح الرؤية بالضرورة وفي كتاب الاحتجاج «فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية» (وكان في ذلك الاشتباه) أي وكان في توسط الهواء والضياء بين الرائي والمرئي اشتباه كل منهما بالآخر في
ص:176
الاحتياج إلى ذلك المتوسط وفي كونه في جهة وفي طرف منه وعلل ذلك بقوله (لأن: الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه (1)) المراد بالسبب الموجب للرؤية الواقع بينهما هو الهواء المتوسط وكون كل واحد منهما واقعا في طرفه مقابلا للآخر ومتى ساوى الرائي من حيث أنه راء المرئي من حيث أنه مرئي في ذلك السبب ثبت مشابهة المرئي بالرائي.
(وكان ذلك التشبيه) اسم كان - وهو «ذلك» - إشارة إلى وجوب الاشتباه والتشبيه خبره يعني وكان ثبوت المشابهة بينهما تشبيه الحق الثابت بالذات وهو واجب الوجود المنزه عن صفات الخلق بالرائي الباطل بالذات في كونه طرفا من الهواء وواقعا في حيز وموصوفا بالجسمية ولواحقها مثله، وقد مر أنه وجب إخراجه تعالى عن الحدين حد الإبطال وحد التشبيه.
(لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات) يحتمل أن يكون تعليلا لقوله «وكان ذلك التشبيه» يعني أن اعتبار المشابهة بينهما يستلزم التشبيه المذكور لأنها سبب له والسبب لا بد أن يكون متصلا بالمسبب غير منفك عنه وأن يكون تعليلا لجميع ما ذكر في هذا الدليل، توضيحه أن الهواء المتوسط سبب للرؤية ولكون هذا رائيا من حيث أنه راء وذاك مرئيا من حيث أنه مرئي فوجب اتصاله بهما واتصاله بهما سبب لكون كل واحد منهما واقعا في حيز، وفي طرف منه وموصوفا بالجسمية ولواحقها فوجب اتصال هذا الاتصال بكونهما على هذه الأوصاف، وكونهما على هذه الأوصاف سبب لوقوع المشابهة بينهما فوجب أن يتصل به وتلك المشابهة سبب للتشبيه فوجب
ص:177
اتصالها به كل ذلك لوجوب اتصال الأسباب بالمسببات واقترانها معها وعدم انفكاكها عنها.
والأشعرية يقولون: الرؤية ليست بأشعة ولا انطباع وليس لها سبب (1) ولا شرط سوى حياة الرائي ووجود المرئي وإنما هي إدراك والإدراك معنى يخلقه الله تعالى في المدرك فإن خلق في جزء من العين سمي إبصارا وفي جزء من القلب سمي علما وفي جزء من الاذن سمي سمعا وفي اللسان سمي ذوقا وفي الجسد سمي حسا واختصاص خلقه بهذه المحال إنما بحكم العادة ويجوز أن تنخرق العادة فيخلق الإبصار في اليد، وأنت تعلم أن بناء هذا الكلام على نفي الأسباب مطلقا وقد تبين بطلانه في موضعه وأنه لا ينفعه هذه المزخرفات لأن الإبصار العيني في أي عضو خلق لا بد له من مشار إليه بالإشارة الحسية إما بالذات أو بالعرض وكل مشار إليه كذلك إما جسم أو حال كما تشهد به دفاتر الحكماء وعقول العلماء، فلو تعلقت به الرؤية لحق به التشبيه، تعالى الله عن ذلك
ص:178
علوا كبيرا.
5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن سنان، عن أبيه، قال: حضرت أبا جعفر (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟ قال: الله تعالى، قال: رأيته؟ قال: بلى لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو. قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن سنان، عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟ قال: الله تعالى) أي الله أعبد أو أعبد الله فحذف الفعل بقرينة السؤال.
(قال رأيته قال: بلى) قال المازري: صح الجواب ببلي في غير النفي وجاز الإقرار بها في الإثبات ومن شرط النفي وقال: لا يجوز الجواب بها إلا بعده يقدره في أمثال هذا الكلام أي ما رأيته، ولما كان مظنه أن يقول السائل: وكيف رأيته أجاب عنه بقوله (لم تره العيون بمشاهدة الأبصار) قيل:
الإبصار بالكسر على المصدر في مقابلة الإيمان لا بالفتح على الجميع في مقابلة القلوب، وفي كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) «بمشاهدة العيان» مكان «بمشاهدة الأبصار».
(ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان) هذا تنزيله له تعالى عن الرؤية بحاسة البصر وشرح لكيفية الرؤية الممكنة له تعالى ولما كان تعالى شأنه منزها عن الجسمية ولواحقها من الجهات والكيفيات وتوجيه الحدقة إليه وإدراكه بها وإنما يرى ويدرك بحسب ما يمكن لبصيرة العقل لا جرم نزهه عن تلك وأثبت له هذه، وأراد بحقايق الأيمان أركانه وهي التصديق بوجوده وتوحده وأسمائه الحسنى وسائر صفاته الثبوتية والسلبية وقد أشار إلى جملة منها بقوله (لا يعرف بالقياس) على الخلق لانتفاء المشاركة بينه وبينهم في أمر من الأمور (ولا يدرك بالحواس) لأن أقدام تصرفات الحواس لا تتجاوز عن طرق المحسوسات، وأيدي إدراكاتها لا تتناول غير الجسم والجسمانيات، وعالم القدس بعيد عن عالم الممكنات، وجناب الحق منزه عن تحديده بالصفات والكيفيات.
(لا يشبه بالناس) لا بالذات والصفات ولا بالصور وكيفياتهم (موصوف بالآيات) إشارة إلى
ص:179
طريق معرفته يعني أنه موصوف بأن له آيات دالة على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته كما أشار إلى تلك الآيات بقوله (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
(معروف بالعلامات) لأنه أرانا من علامات قدرته وعجايب حكمته وآثار إرادته مثل السماوات العلى والأرضين السفلى وغيرها من الصنايع الغريبة والبدايع العجيبة ما ينطق بوجوده وإن كان صامتا وينادي إلى وحدانيته وإن كان ساكتا ويدعو إلى ربوبيته وإن كان خافتا إلا أن أبصار الناظرين في إبصار هذه الآيات وقلوب العارفين في مطالعة هذه العلامات على درجات متفاوتة ومقامات متباعدة.
(لا يجوز في حكمه) التكويني والتشريعي لأن كل حكمه صواب يترتب عليه مصالح غير معدودة ومنافع غير محصورة، وأيضا الجائز في الحكم ناقص في العلم ضعيف في الحلم يطلب به جلب المنفعة ودفع المضرة أو تشفي النفس، وقدس الحق منزه عن جميع ذلك فسبحان الذي كل شيء آمن من ظلمه خائف من عدله.
(ذلك الله لا إله إلا هو) «ذلك إشارة إلى الموصوف بالصفات المذكورة لكمال ظهوره و «الله» خبر وكلمة التوحيد خبر بعد خبر أو بدل عنه أو حال والعامل معنى الإشارة وفيه تنزيه له عن الشريك والنظير وتخصيص له بالإلهية والتدبير.
(قال فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته) هذا تصديق بأن الرسالة ليست للشوكة والمال ولا للكسب والمنال ولا لكثرة العشيرة والإخوان ولا لتعدد الأنصار والأعوان بل هي بفضايل نفسانية وكمالات روحانية يخص الله تعالى بها من يشاء من عباده، فيختار لرسالته من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه، والظاهر أن هذا لرجل آمن به (عليه السلام) واعتقد بإمامته.
6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين! هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.(1)
(عدة من أصحابنا، عن احمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر) أي عالم من علماء اليهود (إلى أمير
ص:180
المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره) لما كان أره محتملا لمعنيين أحدهما الرؤية بالبصيرة القلبية وثانيهما الرؤية بالمشاهدة العينية وكان الثاني أشهر وأعرف حمله السائل على المعنى الثاني والمرئي بهذا المعنى لا يخلو من كيفية ووضع وجهة فلذلك (قال: وكيف رأيته) أي على أي وضع وكيف أبصرته وفي أي حيز وجهة رأيته.
(قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) مر شرحه.
وفي كتاب الاحتجاج «سأل الزنديق أبا عبد الله (عليه السلام) كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟ قال: رأته القلوب بنور الإيمان وأثبته العقول بفطنتها إثبات العيان وأبصرته البصاير بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته.
قال: أليس هو قادرا على أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين:؟ قال: ليس للمحال جواب».
7 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذاكرت أبا عبد الله (عليه السلام) فيما يروون من الرؤية فقال الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش والعرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب والحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الستر فإن كانوا صادقين فليملؤا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب.(1)
(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجار، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذاكرت أبا عبد الله (عليه السلام) فيما يروون من الرؤية أي رؤية الله بالعين (فقال:
الشمس) أي نور الشمس أو أطلق المحل على الحال مجازا.
(جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي (2) والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش) قال
ص:181
الصدوق (رحمه الله) «الكرسي وعاء جميع الخلق (1) وكل شيء خلقه الله تعالى في الكرسي» وفي وجه آخر «هو العلم والعرض حملة جميع الخق» وفي وجه آخر «هو العلم».
أقول: ويقرب من ذلك قول من قال: الكرسي يطلق على الفلك الثامن لأنه وعاء السماوات السبع وما فيهن وما بينهن وما تحتهن والعرش يطلق على الفلك الأقصى وهما يطلقان أيضا على العلم مجازا تسمية للشيء باسم مكانه لأنهما مكان لعلم العالم القاعدة عليهما ولذلك يسمى
ص:182
العالم أيضا كرسيا (1).
ويدل على المعنى الأول ما روي من طرقنا «إن الكرسي عند العرش كحلقة في فلاة» (2) ومن طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما السماوات السبع مع الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة،وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة (3) ويدل على المعنى الثاني ما سيجيء قريبا من الروايات المعتبرة وبالجملة هذان المعنيان مشهوران (4) في ألسنة الأصحاب
ص:183
وغيرهم معروفان في الأخبار. وأنت تعلم أن حملها على المعنى الأول بعيد إذ لو كان لجرم الفلكين نور كما للشمس لكان نورهما مرئيا كنور الشمس، اللهم إلا أن يقال: إن لهما نورا في الواقع ولكن رؤيته مشروطة بالتجرد والتنزه عن الهيئات البشرية والغواشي الناسوتية كما في نور الحجاب والستر، وعلى المعنى الثاني أبعد لانتفاء النسبة بين نور الشمس ونور علم الحق جل شأنه ولاستحالة تفضيل الشيء على نفسه ولعدم صحة المضمون في الكلام الآتي، اللهم إلا إن يراد بالكرسي علم النفوس المجردة، وبالعرش علم العقول المقدسة; ويمكن حملهما هنا على الجوهرين المجردين (1) النورانيين الموكلين بالفلك الثامن والتاسع مجازا من باب تسمية الشيء باسم متعلقه، وتفاوت نورهما بالذات أو باعتبار تفاوت تجلي نور الحق عليهما على النسبة المذكورة بل على الجوهرين الآخرين (2) وإن لم يكونا متعلقين بالفلكين، وتسميتهما بالكرسي
ص:184
والعرش باعتبار أنهما محلان لأنوار العظمة الإلهية والله أعلم بحقيقتهما.
(والعرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب والحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الشمس) ليس المراد من الحجاب والستر المعنى الحقيقي المعروف الواقع بيننا وبين ما هو محجوب ومستور عن أبصارنا، إذ ليس هناك حجاب وستر بهذا المعنى (1) بل المراد بهما مقامان من مقامات تجليات نور عظمة الرب والثاني وهو فوق الأول لم يصل إليه نور بصائر أحد إلا من شاء الله تعالى فأراه بقدر ما أحب، وأما مشاهدة نور عظمته على وجه الكمال فلا يقدر عليه إلا هو، والأول هو المانع من انكشاف نور العظمة على الخلق على وجه الكمال وإلا لانهدموا واحترقوا وقد تجلى نور العظمة من ذلك الحجاب على الجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا، والظاهر أن هذا الحجاب هو الذي كان بين نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الله تعالى في المعراج وقد كان قاب قوسين أو أدنى كما روي عن أبي
ص:185
عبد الله (عليه السلام) قال: «كان بينما حجاب يتلألأ فينظر مثل سم الأبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة (1)» الحديث طويل أخذنا بعضه.
ثم هذا الذي ذكرناه على سبيل الاحتمال دون الجزم (2) ولا يعلم أمثال هذه الأسرار إلا هو وولية وأنا أستغفر الله مما أقول.
(فإن كانوا صادقين) مما يدعونه من قدرتهم على رؤيته (فليملؤا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب) فإنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن رؤيتها باعتبار أن النور القوي مانع من الرؤية كعادة الأنوار الشديدة الساطعة في أنها تغشي البصر عن رؤية ما خلفها فإذا عجزوا عن رؤيتها لمنع نورها مع أن نورها جزء من ألف ألف ألف - ثلاث مرات - وستمائة وثمانون ألف ألف - مرتين - وسبعمائة ألف من نور الستر الذي هو من تجليات نور العظمة كما يظهر ذلك من ضرب السبعين
ص:186
في نفسه ثم الحاصل في السبعين ثم السبعين في الحاصل ثم الحاصل في السبعين فهم عن رؤية الله تعالى أعجز وهذا الكلام دل على امتناع رؤية الله تعالى بالعين.
وهذا القدر كاف في إلزامهم، وأما امتناع رؤيته بالذات فمستفاد من الأخبار الماضية والآتية.
8 - محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما اسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب.(1)
(محمد بن يحيى، وغيره عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما اسري بي إلى السماء سرى بالليل من باب ضرب بمعنى سار ليلا وأسرى مثله وأسراه وأسرى به مثل أخذ الخطام وأخذ بالخطام، وإنما قال الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) (2)وان كان السرى يكون بالليل للتأكيد كقولك سرت أمس نهارا والبارحة ليلا.
(بلغ بي جبرئيل (عليه السلام) مكانا لم يطأه قط جبرئيل) ولا غيره من الخلق ثم تخلف جبرئيل ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حيث شاء الله تعالى.
وذكر جبرئيل ثانيا من باب وضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم ولدفع توهم أن فاعل لم يطأ غيره لاهو، وللتصريح بأن وطأه ذلك المكان إنما هو ببركة مشايعته (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد دل على ما أضفناه من الأمرين ما رواه علي بن أبي حمزة «قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال جعلت فداك كم عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل [موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت] موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي - الحديث» (3) وما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى به جبرئيل (عليه السلام) إلى مكان فخلى عنه فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟ فقال: امضه فوالله لقد وطئت مكانا ما وطئه بشر وما مشي فيه بشر قبلك».
(فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب) أي ما أحبه الله تعالى أو ما أحبه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا الكلام إما قول أبي الحسن الرضا (عليه السلام) لبيان الواقع وحكاية قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل نفسه أو هو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على غيبته في مشاهدة جلاله سبحانه
ص:187
وضمير «له» و «أراه» على الاحتمالين يعود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوهم عودهما إلى جبرئيل (عليه السلام) على الاحتمال الثاني خطأ، والمقصود من هذا الحديث بقرينة ذكره في هذا الباب هو الدلالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يره في المراجع كما زعمه طائفة من المبتدعة بل على أن رؤيته تعالى محال وإلا لرآه ولكن لم يره وإنما رآى من نور عظمته.
(في قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار») أي الكلام في تفسيره هذه الآية وذكر الأحاديث المروية فيه. وهذا عنوان مستقل غير مربوط بالسابق ويحتمل أن يكون خبرا بعد خبر والخبر الأول هو قوله «في إبطال الرؤية» أي باب في قوله «لا تدركه الأبصار» وتعدد الخبر بلا عاطف جايز.
9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران. عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: لا تدركه الأبصار. قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم) (1)ليس يعني بصر العيون (فمن أبصر فلنفسه) (2)ليس يعني من البصر بعينه (ومن عمي فعليها) (3)ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين.(4)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: «لا تدركه الأبصار» قال: إحاطة الوهم) أي الإدراك المنفي (5) إحاطة الوهم له وإدراكه إياه دون الإدراك العيني لأن عدم إدراك العين له ظاهر لا سترة فيه والمراد بالوهم الإدراك المتعلق بالقوة العقلية المتعلقة بالمعقولات والقوة الوهمية المتعلقة بالمحسوسات جميعا وقد شاع ذلك في الاستعمال، ودل عليه مضامين الأخبار دون الأخير فقط ولما كان المتعارف من
ص:188
الإبصار عند الناس هو الإبصار بالعين دون الإبصار بالقلب نبه (عليه السلام) على صحة إرادة الثاني بالآية والعرف فقال (ألا ترى إلى قوله «قد جاءكم بصائر من ربكم» ليس يعني بصر العيون) بل يعني بصر القلوب وإدراك العقول، والبصائر جمع البصيرة وهي للنفس كالبصر للعين (فمن أبصر فلنفسه) أي فمن أبصر الحق وتبعه فقد أبصر لنفسه لأن نفعه لها.
(ليس يعني من البصر بعينه) بل عنى منه البصر بقلبه (ومن عمي فعليها) أي ومن عمى عن الحق وضل عنه فعلى نفسه يرجع وباله وإليها يعود نكاله (ليس يعني عمى العيون) بل يعني عمى القلوب عن الحق وعدم إدراكها له (إنما عنى) من الإدراك المنفي في قوله «لا تدركه الأبصار» (إحاطة الوهم) يعني لا تدركه أوهام القلوب ولا يحيط به إدراك العقول، وهذا تأكيد لما ذكره أولا ولما أشار إلى إطلاق البصر على الإدراك القلبي في القرآن الكريم أشار إلى إطلاقه عليه في العرف أيضا بقوله (كما يقال: فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب) أي عليم بهذه الأمور عارف بأحوالها مدرك لجيدها ورديها مميز بين صحيحها وسقيمها، ثم أشار إلى أن حمل الآية على نفي الإدراك القلبي أولى من حملها على نفي الإدراك العيني بقوله (الله أعظم من أن يرى بالعين) فعدم إمكان رؤيته بالعين أمر ضروري لا ينكره إلا شرذمة قليلون ممن لا يعتد بهم، وأما إدراكه تعالى بأوهام العقول فهو شأن جمع العوام وحال أكثر أهل العلم فإنهم يتصورونه بوجه ويتخيلونه بأمر لا يليق به ويجب تنزيهه عنه فهو أولى بالنفي، ويحتمل أن يكون هذا الكلام بمنزلة النتيجة للسابق توضيحه أن الإدراك العقلي أكثر اتساعا من الإدراك العيني إذ كل ما يدركه العين يدركه العقل دون العكس فإذا لم يدركه العقل فهو أعظم من أن يراه العين.
10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الله هل يوصف؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قال: أما تقرأ قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)؟ قلت بلى، قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت: بلى، قال: ما هي؟ قلت: أبصار العيون، فقال: إن أوهام القلوب أكبر (1) من أبصار العيون فهو لا تدركه
ص:189
الأوهام وهو يدرك الأوهام.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري) هو داود بن القاسم بن إسحق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) من أهل بغداد، ثقة جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (عليهم السلام) شاهد أبا الحسن وأبا جعفر وأبا محمد (عليهم السلام) وكان شريفا عندهم (2) له موضع جليل عندهم.
روى أبوه عن الصادق (عليه السلام) (عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الله هل يوصف) أي هل يدرك ذاته وصفته ويقال ذاته كذا وصفته كذا «فقال: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما تقرأ قوله «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» قلت: بلى) الاستفهام في الموضعين يحتمل الحقيقة والتقرير (قال: فتعرفون الأبصار) من باب تغليب الحاضر على الغايب أو من باب إدخال جماعة حاضرين في الخطاب معه، والغرض من هذا السؤال هو الحث على استماع ما يلقي إليه والكشف عن مقدار فهمه ومبلغ علمه (قلت. بلى، قال: ما هي قلت: إبصار العيون فقال: إن أوهام القلوب) أي النفوس المجردة والعقول المقدسة وأهل العرفان كثيرا ما يعبرون عن النفس والعقل بالقلب.
(أكبر من إبصار العيون) أكبر إما بالباء الموحدة أو بالثاء المثلثة. يعني إدراكات النفوس أكبر وأعظم من إدراكات العيون أو أكثر محلا وأبلغ اتساعا منها لأن كل ما تدركه العين تدركه النفس بل إدراك العين ليس إلا إدراك النفس وقد تدرك النفس متقلة ما لا تدركه العين والمنفي في الآية هو إدراكات النفوس على جميع أنحائها ويندرج فيه إدراكات العيون أيضا لأن نفي العام مستلزم لنفي الخاص وإليه أشار بقوله (فهو لا تدركه الأوهام) أي أوهام القلوب لأن الإدراك إما حسي أو عقلي ولا يجري شيء منهما في ساحة الحق عز شأنه لأنه لما كان منزها عن الجسمية والوضع والجهة وساير
ص:190
لواحقها استحال أن يدركه شيء من الحواس الظاهرة والباطنة، ولما كان مقدسا عن أنحاء التركيب الخارجية والذهنية وبعيدا عن عالم مدركات النفوس البشرية امتنع أن يكون للنفس إطلاع عليه بكنه ذاته أو بحقيقة صفاته، فإذن لا يناوله شيء من الإدراكات، وفي نسبة الأوهام إلى القلوب إشارة إلى أن القلوب البشرية لا يمكنها تعقل شيء بدون الاستعانة بالوهم وتعقلها للكليات باعتبار التجريد للموجودات والتفتيش في المحسوسات (وهو يدرك الأوهام) إذ لا يعزب عنه شيء وهو اللطيف الخبير.
11 - محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن محمد بن عيسى، عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من إبصار العيون. أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولاتدركها ببصرك وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن محمد بن عيسى، عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار») ما أراد الله سبحانه بهذا القول؟ ويحتمل أنه أراد بالأبصار أبصار العيون واستبعد وتعجب من عدم إدراكها له، فأجاب (عليه السلام) بما يرفع استبعاده وتعجبه فقال: (يا أبا هاشم أوهام القلوب) وإدراكاتها (أدق) أي ألطف وأسرع تعلقا (من أبصار العيون) لأن إدراك القلب ينفذ فيما لا ينفذ فيه أبصار العين وقد بين ذلك بقوله (أنت قد تدرك بوهمك) أي بعقلك (السند والهند والبلدان التي لم تدخلها (2) ولم تشاهدها
ص:191
بعينك ومع ذلك تعتقد بوجودها اعتقادا جازما بحكم وهمك ومقتضى عقلك.
(ولا تدركها ببصرك) لأنك لم تشاهدها ومن هنا ظهر لك أن إدراك القلب أدق من إبصار العين (وأوهام القلوب لا تدركه) لعجز القلوب عن ذلك واعترافها بأن ذاته تعالى وصفاته وجلاله وكماله أشرف وأعلى من أن تدركه وتعقله وأن كل ما أدركته وأحطت به فهو منزه عنه وأن السبيل إلى معرفة كنه عظمته مسدود وأن غاية معرفته هي العلم بأنه مقدس عن تعلق الإدراك به وعن الإحاطة بذاته وصفاته وعن المشابهة بخلقه في ذواتهم وصفاتهم وكيفياتهم.
(فكيف أبصار العيون) تدركه لأن عدم إدراك القوي دليل على عدم إدراك الضعيف وعدم تحقق الأعم حجة على عدم تحقق الأخص، وينبغي أن يعلم أن سؤاله هذا نشأ من نسيان ما سمعه (1) من الرضا (عليه السلام) أو الغرض منه زيادة التقرير والاستبصار.
12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن هشام بن الحكم قال: الأشياء [كلها] لا تدرك إلا بأمرين: بالحواس والقلب، والحواس إدراكها على ثلاثة معان: إدراكا بالمداخلة وإدراكا بالمماسة وإدراكا بلا مداخلة ولا مماسة، فأما الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات والمشام والطعون. وأما الإدراك بالمماسة فمعرفة الأشكال من التربيع والتثليث ومعرفة اللين والخشن والحر والبرد. وأما الإدراك بلا مماسة ولا مداخلة فالبصر فانه يدرك الأشياء بلا مماسة ولا مداخلة في حيز غيره ولا في حيزه، وإدراك البصر له سبيل وسبب فسبيله الهواء وسببه الضياء فإذا كان السبيل متصلا بينه وبين المرئي والسبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان والأشخاص فإذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعا فحكى ما وراءه كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة فإذا لم يكن له سبيل رجع راجعا، يحكي ما وراءه وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع راجعا فيحكي ما وراءه إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره، فأما القلب فانما سلطانه على الهواء
ص:192
فهو يدرك جميع ما في الهواء ويتوهمه، فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا رجع راجعا فحكى ما في الهواء، فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد جل الله وعز فانه إن فعل ذلك لم يتوهم إلا ما في الهواء موجود كما قلنا في أمر البصر تعالى الله أن يشبهه خلقه.(1)
(علي بن إبراهيم، عن بعض أصحابه عن هشام بن الحكم قال:) أي قال: هشام من قبله لا من جهة الرواية عن المعصوم، ويحتمل أن يكون من مسموعاته عنه (2).
(الأشياء لا تدرك إلا بأمرين بالحواس والقلب) الغرض منه أن المبدء تعالى شأنه لا يمكن إدراكه بشيء منهما كما سيتضح ذلك ولعل ذكره في هذا المقام باعتبار أنه يصلح أن يكون تفسيرا للآية المذكورة وبيانا لحملها على نفي الإدراك مطلقا.
(والحواس إدراكها على ثلاثة معان) يشمل هذه المعاني الثلاثة إدراك الحواس الخمس الظاهرة كما ستعرفه ويعرف حكم الحواس الباطنة بالقياس إليها بأدنى تأمل.
(إدراك بالمداخلة) أي بدخول المدرك في المدرك وحصول المحسوس في مكان الحاسة (وإدراك بالمماسة) أي بمماسة المدرك بالمدرك واتصافه به (وإدراك بلا مداخلة ولا مماسة فأما الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات) أي فإدراك الأصوات (والمشام) قيل: هي المشموم من باب استعمال المفاعل في المفاعيل، وقيل: هي جمع المشم وهو ما يشم (والطعوم) هذه الثلاثة يتحقق إدراكها بدخولها في الحاسة أما الصوت فإن إدراكه مشروط بدخول الهواء المتكيف به في
ص:193
الصماخ ووصوله إلى القوة المنبثة في العصب المفروش في مقعره وأما المشموم فإن إدراكه متوقف على دخول الهواء المتكيف به في الخيشوم ووصوله إلى القوة الكاينة في الزايدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي، وأما الطعم فإن إدراكه مفتقر إلى تكيف الرطوبة اللعابية به ووصول تلك الرطوبة إلى القوة المنبثة في العصب المفروش على جرم اللسان.
(وأما الإدراك بالمماسة فمعرفة الأشكال من التربيع والتثليث) الشكل هيئة حاصلة من إحاطة حد أو حدود، وعدة بعضهم من المبصرات.
(ومعرفة اللين والخشن والحر والبرد) الخشونة عند أهل اللغة ضد اللين وقد خشن الشيء بالضم فهو خشن إذا اختلفت أجزاؤه الظاهرة في الارتفاع والانخفاض وعند جماعة من الحكماء والمتكلمين ضد الملاسة دون اللين، واللين عندهم ضد الصلابة دون الخشونة، وقالوا: الخشونة اختلاف الأجزاء في ظاهر الجسم بأن يكون بعضها نباتا وبعضها غايرا والملابسة عبارة عن استوائها.
واللين كيفية تقتضي سهولة قبول الغمز في الباطن ويكون للشيء بها قوام غير سيال فينتقل عن وضعه ولا يمتد كثيرا ولا يتفرق بسهولة وإنما يكون الغمز بسبب الرطوبة وتماسكه بسبب اليبوسة والصلابة بخلافه، وإدراك هذه الكيفيات متوقف على مماستها بالقوة اللامسة.
(وأما الإدراك بلا مماسة ولا مداخلة فالبصر) أي فإدراك البصر (فإنه يدرك الأشياء بلا مماسة ولا مداخلة) أي بلا مماسة تلك الأشياء ولا مداخلتها فيه (في حيز غيره) الجار متعلق بيدرك أي يدرك البصر في حيز غيره، وهو الحيز الذي فيه المرئي بأن يخرج من البصر شعاع يمتد إلى المرئي ويراه في موضعه أو يحدث في سطح المرئي عند مقابلته بالباصرة شعاع مثل الشعاع البصري ويصير آلة لإدراك البصر له في حيزه، وقد رجح الثاني على الأول بأن الأول مستلزم لانتقال العرض عن موضعه وقد برهن على امتناع ذلك في موضعه، وهذا كما ترى منطبق على أن الإبصار بخروج الشعاع حقيقة كما في الأول أو توهما كما في الثاني، ويمكن انطباقه على مذهب من قال بأن الإبصار باعتبار أن الهواء المشف الواقع بين البصر والمرئي يتكيف بكيفية الشعاع البصري ويصير بذلك آلة لإبصار المرئي في موضعه ولكن الأنسب بسياق العبارات الآتية هو الأول.
(ولا في حيزه) عطف على قوله «في حيز غيره» أي البصر يدرك الأشياء لا في حيزه بأن يدخل من المرئي شيء في حيز البصر كما يقوله أصحاب الانطباع فليس هناك مماسة بين البصر والمرئي ولا مداخلة.
(وإدراك البصر له سبيل وسبب، فسبيله الهواء) الواقع بين البصر والمرئي (وسببه الضياء) المحيط بالمرئي إذ لو لم يكن الضياء لم يتحقق الإدراك (فإذا كان السبيل متصلا بينه وبين المرئي)
ص:194
غير منقطع بحايل كثيف مانع من نفوذ الشعاع فيه إلى ما وراءه (والسبب قايم) موجود (أدرك ما يلاقي) أي أدرك البصر ما يلاقيه شعاعه (من الألوان والأشخاص) الواقعة في منتهى المسافة الشعاعية (فإذا حمل البصر) يعني أرسلت خطوطه الشعاعية (على ما لا سبيل له) بأن يكون المرئي كثيفا صقيلا ليست فيه مسامات وفرج صغار يدخل فيها شعاع البصر (رجع راجعا) أي رجع البصر عند وصوله إليه راجعا وانعكس انعكاسا والمراد بالبصر شعاعه (فحكى ما وراءه) أي فأدرك ما وراءه وأخبر عنه.
(كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة) أي شعاع بصره (فإذا لم يكن له سبيل) في المرآة لعدم الفرج والمسامات فيها (رجع راجعا يحكي ما وراءه) مما وضعه من المرآة كوضعها من البصر فيكون زاوية رجوع الشعاع منها كزاوية وصوله إليها، فإذا وقعت المرآة في مقابل الرائي رجع الشعاع منها إلى وجهه فيراه ولا شعور له بالرجوع فيتوهم أنه يراه على الاستقامة فيحسب أن صورة وجهه منطبعة في المرآة فإذا كان الوجه قريبا منها كانت الخطوط الشعاعية الراجعة قصيرة فيظن أن صورته قريبة من سطحها، وإذا كان بعيدا كانت الخطوط طويلة فيحسب أن صورته غائرة في عمقها.
(وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع) شعاع بصره (راجعا فيحكي ما وراءه إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره) إلا أنه فرق بين المرآة والماء فإن الشعاع البصري لا ينفذ في جرم المرآة أصلا فلذلك يرجع صافيا غير مضطرب فيرى به على وجه الكمال بخلاف الماء فإن الشعاع ينفذ في جرمه في الجملة فلذلك لا يرجع على وجه الكمال، وقد ظهر مما ذكر أن الله جل شأنه لا يمكن إدراكه بالحواس لانتفاء المماسة والمداخلة فيه واستحالة أن يكون في حيز وطرف الخطوط الشعاعية والهواء المتوسط لأن ذلك من لواحق الجسمية وتوابعها.
(فأما القلب) أي النفس الناطقة (فإنما سلطانه على الهواء (1)» أي الهواء بالمد ما بين الأرض
ص:195
والسماء، ويطلق أيضا على الفضاء وهو البعد الخارجي وعلى كل خال وعلى الباطل ولعل المراد به هنا عالم الإمكان طولا وعرضا وتسميته بالهواء إما من باب تسمية الكل باسم الجزء أو باعتبار أنه بعد معين وفضاء في الخارج أو باعتبار خلوه عن الوجود في حد ذاته وبطلان حقيقته باعتبار نفسه إذ الحق بالحقيقة الحقة الثابتة هو الذي وجوده لذاته كما يرشد إليه قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه).(1)
(فهو يدرك) أي فهو قابل لأن يدرك (جميع ما في الهواء ويتوهمه) سواء حصل له إدراك الجميع بالفعل أو لا وذلك لأن النفس في مبدء الفطرة خالية عن العلوم وقد خلقت لها آلات بدنية لتتصفح بها صور المحسوسات ومعانيها وتتنبه لمشاركات بينها ومباينات فيحصل لها التجربة وسائر العلوم الضرورية والمكتسبة كلا أو بعضا على تفاوت مراتبها.
(فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا) وبلغ شعاع بصيرته إلى العدم الذي يمنع من نفوذه وفيما بعده (رجع راجعا) إلى ما وراءه (فحكي ما في الهواء) من المهيات والحقايق والكيفيات (فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد جل الله وعز) إذ ليس ذاته تعالى وماله من صفات كماله ونعوت جلاله موجودة في الهواء.
(فإنه إن فعل ذلك لم يتوهم من أمر التوحيد إلا ما في الهواء موجودا) وذلك بسبب رجوع البصيرة عما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد إلى ما هو موجود فيه من الأمور الممكنة (كما قلنا في أمر البصر) من أنه إذا حمل على ما لا سبيل له رجع راجعا فحكى ما وراءه فيلزم حينئذ أن يدرك الله تعالى على صفات خلقه.
(تعالى الله أن يشبهه خلقه) والحاصل أن صنع القلب هو التصرف في الممكنات والتقلب في الماديات والتعقل للمهيات وجزئياتها بتوسط الآلات فإذا تصدى لإدراك الواجب بالذات لا يدركه إلا على سبيل إدراك المخلوقات وهو سبحانه متنزه عن المادة والمهية والمشابهة بالخلق فقد ظهر أنه تعالى لا يمكن إدراكه بالقلب كما لا يمكن إدراكه بالحواس.
ص:196
1 - علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن ابن أبي نجران، عن حماد بن عثمان، عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام): أن قوما بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد؟ فكتب إلي: سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السيمع البصير، تعالى عما يصفه الواصفون المشبهون الله بخلقه المفترون على الله، فاعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله جل وعز فانف عن الله تعالى البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه هو الله الثابت الموجود تعالى الله عما يصفه الواصفون ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان.(1)
(علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن ابن أبي نجران، عن حماد بن عثمان، عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن قوما بالعراق يصفون الله تعالى بالصورة وبالتخطيط) فمنهم من يقول أنه مركب من لحم ودم، ومنهم من يقول: هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء طوله سبعة أشبار من شبر نفسه، ومنهم من يقول هو على صورة إنسان فبعضهم يقول: هو شاب مخطط مجعد وبعضهم يقول: هو شيخ أشمط الرأس ونقل أبو عبد الله الآبي في كتاب إكمال الإكمال عن محيي الدين شارح مسلم أنه قال: قال ابن قتيبة: الله صورة لا كالصور واستدل على ذلك بظاهر ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» (2) وقد غلط في ذلك وهل قوله إلا كقول المبتدعة أنه تعالى جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة قالوا: هو شيء لا كالأشياء طردوا ذلك فقالوا: هو جسم لا كالأجسام والفرق أن لفظ شيء لا يشعر بالحدوث والصورة تشعر بالتركيب والتركيب خاص بالأجساد والأجساد حادثة، والعجب منه أن لآدم (عليه السلام) عنده صورة وقد أبقى الحديث على ظاهره في أن لله تعالى صورة كصورة آدم (عليه السلام) فكيف يقول لا كالصور وهل هذا إلا
ص:197
تناقض، ثم يقال له: إن أردت بقولك لا كالصور أنه ليس بمركب فيرد أنه ليس بصورة وإن اللفظ لا يفيد ذلك وإن الحديث غير محمول على ظاهره وإنك وافقت القائلين بتأويله والتأويل فيه أن الضمير يعود إلى الأخ المضروب كما صرح به القرطبي، قال. معناه خلق آدم على صورة المضروب فكان الضارب ضرب وجه أبيه آدم (عليه السلام). فإن قيل فينبغي أن يجتنب ما سوى الوجه من الأعضاء لأنه يشبه أعضاء آدم فالجواب أن الوجه قد اختص بما ليس في غيره إذ فيه البصر الذي يدرك به العالم وما فيه من العجاب الدالة على عظم قدرة الله تعالى، والسمع الذي يسمع به أمر الله تعالى ونهيه ويتعلق به العلوم التي منها معرفة الله ومعرفة الرسول وفيه النطق الذي شرف به الإنسان على سائر الحيوان، وعلى تقدير أن يكون الضمير عايدا إليه سبحانه فنقول: الإضافة لتشريف آدم (عليه السلام) كقوله تعالى (ناقة الله وسقياها)(1)وبيت الله، وقد اختص آدم بأن خلقه بيده ولم يقلبه في الأرحام ولم يدرجه من حال إلى حال.
ونقول: المراد بالصورة الصفة كقولهم صورة فلان عند الأمير أي صفته لاختصاصه (عليه السلام) بصفات من الكمال والفضائل وسجود الملائكة له تعظيما وإن كان سجودهم كان لله حقيقة فصفاته شبيهة بصفاته تعالى ومثل هذه التأويلات إلا منع عود الضمير إليه سبحانه يجري فيما رواه البخاري (2) في باب السلام وخرجه مسلم في باب خلق آدم (عليه السلام) «من أنه قال تعالى لما خلق آدم على صورته:
إذهب فسلم على اولئك النفر من الملائكة» على أن الضمير فيه يجوز أن يعود على آدم (عليه السلام) ومثل ذلك متعارف فلا يرد أن الكلام حينئذ غير مفيد لأنه معلوم أنه خلق على صورته وأيضا يجري مثل هذه التأويلات فيما روي «أن الله تعالى خلق آدم (عليه السلام) على صورة الرحمن» ونقل الآبي عن بعض علمائهم أنه قال: هذه الرواية لم تثبت عند أهل النقل ولعل راويها توهم أن الضمير في الرواية الأولى المعتبرة عايد إليه سبحانه فأبدل الضمير بالرحمن من باب النقل بالمعنى. وإنما بسطنا الكلام بنقل رواياتهم وأقاويلهم لأن معرفة ذلك لا يخلو من فائدة عند المناظرة مع أهل الخلاف.
(فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد) جزاء الشرط محذوف أي فعلت (فكتب إلي) الصحيح والذي عليه جمهور المحدثين من العامة والخاصة وأكثر الفقهاء والاصوليين جواز العمل بالكتاب عن الكتاب إذا علم أنه خطه وهو عندهم معدود في المتصل لإشعاره بمعنى الإجازة وقال السمعاني هو أقوى من الإجازة ودليلهم ما صح واشتهر من كتبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى نوابه وعماله وكذلك الخلفاء والأئمة (عليه السلام) بعده ومنه هذا الحديث وغيره، ولكن الراوي يقول: كتب إلي وأخبرني بكتابه أو في كتابه أو فيما كتب به إلي كما في هذا الحديث، ولا
ص:198
يجوز أن يطلق ويقول: حدثني أو أخبرني، وجوز الإطلاق طايفة من المتقدمين من محدثي العامة.
(سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك) بكسر القاف وفتح الباء أي من هو عندك فالعايد إلى من مبتدء محذوف والظرف خبر له والموصول مع صلته فاعل ذهب (فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء) (1) فيه تنزيه له تعالى عما يقولون وإشارة إلى مخالفتهم في وصفه تعالى لنص القرآن.
(وهو السميع البصير) بلا سمع لا بصر فيسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ويعلم ما يعتقدون، وفيه وعيد لهم على ما يصفون ثم صرح بتنزيهه تعالى عما يقولون تأكيدا لما سبق بقوله (تعالى عما يصفه الواصفون المشبهون الله بخلقه المفترون على الله) ما لا يليق به. والتشبيه في الحقيقة جحود وإنكار لأن ما يتصوره المشبهون ويعتقدون أنه إليه ليس هو الإله الذي يثبته العقلاء ويقرون به ثم أشار بعد تنزيهه تعالى عما يصفون إلى المذهب الصحيح بقوله (فاعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله تعالى) التي بعضها صفات كمالية وبعضها صفات فعلية وبعضها صفات تنزيهية اشتملت على جميعها إجمالا قوله تعالى (ليس كمثله شيء).
(فانف عن الله تعالى البطلان) كما زعمه الملاحدة والثنوية وعبدة الأوثان والنيران وعبدة الشمس والمشتري وغيرهم من أصحاب الملل الفاسدة النافية للصانع (والتشبيه) بخلقه كما زعمه المجسمة والمصورة والكرامية والقايلون بأنه في جهة ومكان وبأن له كلاما ككلامنا وصوتا كصوتنا وسمعا وبصرا كسمعنا وبصرنا وصفات زايدة كصفاتنا وأصحاب البطلان والتشبيه هم المحجوبون عن ربهم بالمقايسات الحسية والاعتبارات الوهمية (فلا نفي ولا تشبيه) في أمر التوحيد وهذا في اللفظ إخبار وفي المعنى نهي عن القول بهما.
(هو الله الثابت الموجود) الذي لا يعرضه التغير من وصف إلى وصف والتحول من حال إلى حال ولا يسبقه عدم ولا يلحقه انقطاع وهو الموجود أزلا وأبدا (تعالى الله عما يصفه الواصفون) من صفات الخلق ولواحق الإمكان، وهذا إعادة لما مر تأكيدا له.
(ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان) إذ مدار القرآن على التوحيد المطلق والتنزيه التام وبيان القواعد الكلية التي بها كون صلاح نوع الإنسان في معاده ومعاشه فلا يجور لأحد التجاوز عما نطق به لأن كل ما فيه وثيق الأركان رفيع البنيان متين البرهان معدن الإيمان فكل وصف لا يوافقه باطل، وكل قول لا يطابقه كاذب، وكل أمر لا يناسبه ساقط وإنما قال «بعد البيان» لأن الضلال بعده أقبح من
ص:199
الضلال قبله والإثم المترتب عليه أتم وأشد لا لأن الضلال قبله لا إثم فيه كما ظن.
2 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي حمزة قال: قال لي علي بن الحسين (عليهما السلام): يا أبا حمزة إن الله لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدودية من لا يحد ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.(1)
(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي حمزة قال: قال لي علي بن الحسين (عليه السلام): يا أبا حمزة إن الله لا يوصف بمحدودية) أي لا يكون له هذه الصفة في الواقع فلا يجوز لأحد أن يصفه بها ولا بما يستلزمها من كونه جسما أو صورة أو ذا أطراف ونهايات أو ذا أجزاء وكيفيات إلى غير ذلك من الأمور الموجبة لتحديده.
(عظم ربنا عن الصفة) أي من أن يكون له صفة لأن كل ذي صفة مفتقر إلى الغير ناقص في حد ذاته، وفيه دلالة على أن صفاته الكمالية عين ذاته المقدسة.
(وكيف يوصف بمحدودية من لا يحد) أي من ليس له حد عرفي ولا لغوي لتنزهه عن الأجزاء والنهايات وتقدسه عن الأطراف والغايات، وقد روي «أن رجلا من الزنادقة قال لمولانا الرضا (عليه السلام):
فحده لي، قال: لا حد له قال: ولم؟ قال: لأن كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزي ولا متوهم» (2).
(ولا تدركه الأبصار) لتنزهه عن قبول الإشارة الظاهرة الحسية والإشارة الباطنة العقلية كما عرفت.
(وهو يدرك الأبصار) لإحاطة علمه بالمبصرات والمعقولات (وهو اللطيف) أي البعيد عن إدراك الخلق له أبو البر بعباده، الذي يلطف بهم ويرفق من حيث لا يعلمون أو العالم الكامل في الفعل والتدبير أو الخالق للخلق اللطيف الذي يعجز عن إدراك أعضائه وجوارحه أبصار الناظرين ومن تعقل خواصه ومنافعه عقول العارفين أو فاعل اللطف رأفة بعباده وهو ما يتقرب معه العبد من فعل الطاعة ويبعد عن المعصية كإنزال الكتب وإرسال الأنبياء ونصب الأوصياء.
(الخبير) أي العالم بحقائق الأشياء وغوامضها ودقايقها، والخبر بالضم العلم يقال لي خبر به أي
ص:200
علم وفلان خبير بالشيء أي عالم بكنهه ومطلع على حقيقته، واللطيف بالمعنى الأول يناسب قوله «لا تدركه الأبصار» والخبير يناسب قوله «وهو يدرك الأبصار».
3 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن إبراهيم بن محمد الخزاز ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فحكينا له أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة وقلنا: إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: إنه أجوف إلى السرة والبقية صمد، فخر ساجدا لله ثم قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبهوك بغيرك، اللهم لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ولا اشبهك بخلقك، أنت أهل لكل خير، فلا تجعلني من القوم الظالمين. ثم التفت إلينا فقال: ما توهمتم من شيء فتوهموا الله غيره، ثم قال: نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي، يا محمد إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة، يا محمد! عظم ربي عز وجل أن يكون في صفة المخلوقين، قال: قلت: جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة؟ قال: ذاك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب، إن نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك. يا محمد ما شهد له الكتاب والسنة فنحن القائلون به.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن إبراهيم بن محمد الخزاز، ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن) علي بن موسى (الرضا (عليه السلام) فحكينا له أن محمد أرأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة) قيل: الشاب الموفق هو الذي أعضاؤه موافقة بحسن الخلقة، وفي النهاية الأثيرية الشاب الموفق الذي وصل إلى الكمال في قليل من السن.
وقال الفاضل الأسترآبادي: يحتمل أن يكون الشاب الموفق من باب الاشتباه الخطي وأن يكون في الأصل الشاب الريق كما هو المتعارف في كتب اللغة.
أقول: الموفق كما هو المصحح في جميع النسخ له معنى مناسب للمقام وهو المروي عن طرق العامة رووا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه في صورة الشاب الموفق من أبناء ثلاثين سنة ورجلاه في خضرة
ص:201
وباقي جسده خارج» فالحكم بالاشتباه خطأ وكانه حكم به باعتبار أن الريق له معنى مناسب هنا لان الريق على وزن ضيق ذو بهجة وبها من راق الشيء إذا بلغ.
(وقلنا إن هشام بن سالم) قال العلامة في الخلاصة هو ثقة ثقة وكان الحديث ضعيفا لا يقدح فيه (صاحب الطاق) هو محمد بن علي بن النعمان أبو جعفر الأحول الصراف في طاق المحامل بكوفة (والميثمي يقولون إنه أجوف إلى السرة) أي ذو جوف وخالي الداخل وجوف كل شيء قعره (والبقية صمد) أي مصمد مصمت لا جوف له (فخر) أي سقط على الأرض (ساجدا لله) تخشعا لعظمته (ثم قال) في سجوده على الظاهر (سبحانك) أنزهك تنزيها عما لا يليق بك من التشبيه والتوصيف (ما عرفوك) على ما ينبغي من معرفتك (ولا وحدوك) (1) على ما وجب لك
ص:202
من توحيد وتنزيهك عن المشابهة بخلقك.
(فمن أجل ذلك وصفوك) بصفات المخلوقين ونعوت المصنوعين.
(سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك) في قولك وهو اللطيف الخبير. وليس كمثله شيء. ولم يكن له كفوا أحد. ولا تدركه الأبصار إلى غير ذلك من النعوت الجلالية والصفات الكمالية.
(سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبهوك بغيرك) مخالفا لكتابك وسنة نبيك بل لصراحة عقولهم (اللهم لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ولا اشبهك بخلقك أنت أهل لكل خير) يعني كل خير أنت مبدؤه ومنشأه، أو المراد أنت أهل لكل صفات حسنة كاملة دون صفات قبيحة باطلة كما زعموا.
(فلا تجعلني من القوم الظالمين) دعاء لحفظ عصمته مع تقدس ذاته عن الاتصاف بالظلم تواضعا لله وهضما لنفسه. أو تعليم لخواص شيعته، أو ابتهال لدفع ما استحقوا من العذاب عن نفسه المقدسة لأن شوم الظلمة قد يحيق بمن وراءهم لقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) وربما يستفاد من هذا الكلام أن أسماءه تعالى وصفاته توقيفية (1) بمعنى أنه لا يجوز أن يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله ويندرج فيه ما انعقد على التسمية به إجماع فما لم يرد فيه إذن ولا منع لا يجوز.
ص:203
واختلفت العامة في هذا القسم فقيل فيه بالوقف وقيل بالمنع، وقيل: إن أوهم معنى يستحيل امتنع وإن لم يوهم جاز.
وقال الباقلاني: يجوز أن يسمى بكل ما يرجع إلى ما يجوز في صفته كسيد وحنان ما لم يجمع على منع ما يجوز مثل عاقل وفقيه وسخي قال: وكره مالك التسمية بسيد وحنان بناء على أنه لم يرد عنده فيهما إذن ولا مانع وأما ما لا يجوز في أصله فلا يسمى به وإن كان الله تعالى وصف به نفسه بالفعل المشتق منه ذلك الاسم نحوه «الله يستهزئ بهم» و «سخر الله منهم» ومكر الله فلا يقال: يا مستهزىء ويا ساخر ويا ماكر لأن ما يستحيل عليه تعالى لا يجري منه عليه إلا قدر ما أطلقه السمع.
وهم أيضا اختلفوا في صبور ووقور فمنعه الباقلاني لأن الوقور الذي يترك العجلة في دفع ما يضره، والصبور الذي يتحمل الأذى. وبعضهم أجاز ذلك بناء على أن معناهما يرجع إلى الحلم.
(ثم التفت إلينا فقال: ما توهمتم من شيء فتوهموا الله غيره) أي فاعلموا واعتقدوا أنه تعالى غير ما توهمتموه وذلك لأن الآلات البدنية والعقول البشرية لكونها قاصرة عن إدراك ذاته وتناول صفاته كل ما أدركته فهو مخلوق محدود مثلها بعيد عن جناب الحق وساحة القدس، وسر ذلك أن النفس الناطقة لا تدرك الجزئيات الموجودة في نفس الأمر ومهياتها إلا بالآلات الجسمانية فلا تقدر أن تدرك الجزئي المجرد المنزفه عن المهية والمواد بالكلية.
(ثم قال: نحن آل محمد النمط الأوسط) أي الجماعة القايمين على الوسط يعني العدل في العلم والعمل، وينبغي أن يعلم أن طريق السالكين إلى الله تعالى إنما يستقيم بالعلم والعمل، والعلم طريق القوة النظرية والعمل طريق القوة العملية وكل واحد منهما واقع بين رذيلتين رذيلة الإفراط ورذيلة التفريط كالإبطال والتشبيه في معرفته تعالى والوسط بينهما هو العدل وهو طريق آل محمد (عليهم السلام) (الذي لا يدركنا الغالي) الموصول صفة للنمط الأوسط وإفراده باعتبار اللفظ والأصل أن يقول لا يدركه بالضمير للموصول إلا أنه أتى بضمير المتكلم من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم للتصريح بالمقصود كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنا الذي سمتني أمي حيدرة» والعالي بالعين المهملة المتجاوز عن حد الفضايل الإنسانية التي مدارها على الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة وبالغين المعجمة من الغلو الواقع في طرف الإفراط من الأمور المذكورة فهو قريب مما ذكر.
(ولا يسبقنا التالي) أي لا يسبق إلينا التالي، بالحذف والإيصال ليوافق قوله: «لا يدركنا»، والتالي هو المقصر عن بلوغ هذه الفضائل والواقع في طرف التفريط منها، والمقصود من هاتين الفقرتين هو الشكاية بعدم رجوع المفرطين إليهم وعدم لحوق المقصرين بهم، مع الإشارة إلى أن ولاية امور
ص:204
العباد ووراثة علم النبوة وخلافة الامة موجودة فيهم وأن بهم يكتسب الشخص تلك الفضائل ويستحق تلك الخصائل ولا ريب في ذلك فإن الفضائل وإن وجد بعضها في غيرهم فعنهم مأخوذ وإليهم منسوب وبالله التوفيق.
(يا محمد إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نظر إلى عظمة ربه) ورأى نورها ببصيرة قلبه (كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة) يعني أن الظرف حال عن فاعل رأي لا عن الرب ومعناه أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عند رؤية نور عظمته تعالى في هذه الهيئة والصورة دون الرب جل شأنه كما زعموا لتعاليه عن الهيئة والصورة والوجود المحدود بزمان، فإن قلت نظره هذا إلى عظمة ربه كان بعد البعثة وقد بعث بعد ما مضى عن عمره الشريف أربعون سنة فكيف صح أنه كان حينئذ في سن أبناء ثلاثين قلت: كون هذا النظر بعد البعثة غير معلوم على أنه لو ثبت ذلك فلا منافاة لأنه قال: كان في هيئة الشاب الموفق وفي هيئة سن أبناء ثلاثين لأنه كان له حينئذ ثلاثون سنة ويحتمل أن يعود. ضمير كان إلى الرب ويكون هذا الكلام واردا على سبيل الإنكار ولكنه بعيد جدا.
(يا محمد عظم ربي عز وجل) أي جاوز قدره ورفع شأنه (أن يكون في صفة المخلوقين) لوجوب التباين بين الخاق والمخلوق وامتناع اتصافه بما هو من لواحق الإمكان.
(قال: قلت: جعلت فداك من كان رجلاه في خضرة؟ قال: ذلك محمد) يعني أن الضمير في قوله «ورجلاه في خضرة وباقي جسده خارج» راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا إلى الرب تعالى شأنه كما فهموه لتعاليه عن أن يكون له جسد ورجل وتشابه بخلقه.
(كان إذا نظر إلى ربه بقلبه) وعرفه حق المعرفة الذي هو في أعلى مراتبها المقدورة للبشر (جعله في نور) أي جعل الرب محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جعل قلبه في نور من تجليفاته (مثل نور الحجب) (1) الذي هو أيضا من تجليات عظمته وكبريائه لتحصل المناسبة التامة بينه وبين الرب.
ص:205
(حتى يستبين له ما في الحجب) من العظمة وصفات الكمال ونعوت الجلال. وإضافة النور إلى الحجب إما بيانية لأن نور عظمته حجاب مانع من رؤيته، أو لا مية إن أريد بالحجب مقامات العارفين إذ لكل مقام نور من عظمته يظهر للعارف إذا بلغه وأرفع تلك المقامات وأعلاها هو الذي بلغه سيد العارفين حتى شاهد نوره على أكمل ما يتصور للبشر ببصيرة قلبه بل ببصر عينه، ولا يبعد ذلك كما يرشد إليه حكاية موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام في رؤيته لنور شجرة الطور، والنور في الموضعين على هذا التفسير محمول على ظاهره ويمكن أن يراد بالنور الأول منتهى ما عرف المقربون منه تعالى وقد شاع تسمية العلم بالنور ومنتهاه معرفة ما يليق به سبحانه وتنزيهه عمالا يليق به وقد تضمن على جميع ذلك قوله تعالى «ليس كمثله شيء» وهذه المعرفة تحجب عن معرفة ما وراء ذلك من تخييله وتمثيله وتجسيمه وتصويره وتشبيهه ورؤيته، فمعنى الحديث - والله أعلم - أنه كان إذا نظر إلى ربه بقلبه اللطيف وعقله الشريف جعل الرب قلبه في نور هو منتهى معرفته سبحانه وقد عرفت أن منتهى معرفته حجاب فلذلك قال: مثل نور الحجب بتشبيه ذلك النور بنور الحجب في المنع من الرؤية بل من جميع ما لا يليق بذاته المقدسة فإن ذلك النور مانع منها كما أن نور الحجب الذي هو نور العظمة ما منع منها، وغاية تلك المعرفة التي عبر عنها بالنور أن يستبين له (صلى الله عليه وآله وسلم) ما في الحجب مما يجوز له تعالى شأنه وما لا يجوز وكون رجليه في خضرة كناية عن أن قلبه في سبيل المعارف الإلهية كان مستغرقا في بحار معرفة ما يليق به من الصفات الكمالية والنعوت الجلالية لم يكن في وسعه التجاوز عنها إلى ذاته الحقة الأحدية.
ويمكن أيضا أن يراد بالنورين العلم وبالحجب الملائكة القدسية والجواهر العقلية (1) وإلى هذا أشار سيد المحققين بقوله من ضروب ملائكة الله تعالى جواهر قدسية وأنوار عقلية وهم حجب أشعة جمال نور الأنوار ووسائط النفوس الكاملة في الاتصال برب الأرباب والنفس الإنسانية إذ استكلمت ذاتها الملكوتية ونفضت الجلبات الهيولاني ناسبت نوريتها نورية تلك الأنوار وشابهت جوهريتها جوهريتها فاستحقت الاتصال بها والانخراط في زمرتها والاستفادة منها ومشاهدة أضوائها ومطالعة ما في ذواتها من صور الحقايق المنطبعة فيها، وإلى ذلك أشار (عليه السلام) بقوله «جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب» (2) يعني جعله في نور العلم والكمال مثل نور
ص:206
الحجب حتى يناسب جوهر ذاته جوهر ذاتهم فيستبين له ما في ذواتهم من الحقايق والعلوم. أقول:
هذه التأويلات غاية ما يصل إليه أفهامنا والله أعلم بمراد وليه.
(إن نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك) من الألوان هذا تعليل لوصف النور الذي كان رجلاه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخضرة وتحقيق له وينبغي أن لا يشك في أن لله تعالى في عالم الغيب أنوارا متصفة بالصفات المذكورة ولكن لا يراها إلا أصحاب القلوب الصافية الخالصة عن غواشي الأوهام وعلائق الأبدان وقد يظهر لبعض المجردين شيء (1) من ذلك كالبرق الخاطف، وصح أيضا أن يراد بالنور الأخضر علمه تعالى باعتبار تعلقه بما اخضر من الكائنات وبالنور الأحمر علمه باعتبار تعلقه بما احمر منها وبالنور الأبيض علمه باعتبار تعلقه بما ابيض منها، ويؤيده ما في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) في هذا الحديث «أن نور الله منه أخضر ما اخضر ومنه أحمر ما احمر ومنه أبيض ما أبيض وغير ذلك» ويحتمل أن يراد بتلك الأنوار صفاته تعالى فيراد بالنور الأخضر قدرته (2) على الممكنات وإفاضة الأرواح التي هي عيون الحياة ومنابع الخضرة وبالنور الأحمر
ص:207
غضبه وقهره على جميع الكائنات بالإعدام والتعذيب وبالنور الأبيض رحمته ولطفه على عباده أما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله إلى غير ذلك من الاعتبارات المناسبة ولا يبعد أن يوصف علم البشر ومعرفته بتلك الأنوار على هذين المعنيين بما يوصف به تلك الأنوار باعتبار المناسبة بين العلم والمعلوم.
(يا محمد ما شهد له الكتاب والسنة فنحن القائلون به) وقد شهدا له بأنه لا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء ولا يشبهه خلقه ولا يوصف بصفاتهم.
4 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن بشر البرقي: قال:
حدثني عباس بن عامر القصباني قال: أخبرني هارون بن الجهم عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال: لو اجتمع أهل السماء والأرض أن يصفوا الله بعظمته لم يقدروا.
(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن بشر البرقي) في بعض النسخ أحمد بن بشير بالياء المثناة من تحت بعد الشين.
ص:208
(قال حدثني عباس بن عامر القصباني) ثقة كثير الحديث (قال أخبرني هارون بن الجهم، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال: لو اجتمع أهل السماء والأرض وتعاونوا وتظاهروا (أن يصفوا الله بعظمته) التي له (لم يقدروا) إذ قد ضربت حجب العزة وأستار المنعة بينها وبينهم لأن عظمتها بحر لا قعر لها يصل إليه النظر ولا ساحل لها يقع إليه البصر ولا غاية لها يقف عندها الفكر، فالعقل لا يجد حقيقتها وإن غاص في أعماقها ولا يبصر ساحلها وإن نظر إلى أطرافها ومن البين أن ما يستحيل إدراكه وتحديده لا فرق في العجز عنهما بين أن يتوجه إليه عقل واحد أو عقول متكثرة على سبيل التعاون والتظاهر، ثم هذا الكلام وإن كان في اللفظ إخبارا عن كمال عظمته جل شأنه لكنه في المعنى نهي عن الخوض في معرفة حقيقتها وتحديد قدرتها.
5 - سهل، عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام): أن من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول: جسم ومنهم من يقول صورة فكتب (عليه السلام) بخطه، سبحان من لا يحد ولا يوصف، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم - أو قال: البصير -.(1)
(سهل) الظاهر أن روايته عن سهل بلا واسطة، ويحتمل أن يكون صدر السند محذوفا بقرينة السابق يعني علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد (عن إبراهيم بن محمد الهمداني) فهذا الحديث على الأول من عوالي الإسناد بلا خلاف لكونه من الثنائيات وعلى الثاني من عوالي الإسناد على الأشهر لكونه من الثلاثيات.
(قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام)) قال الصدوق في كتاب التوحيد بعد هذا القول: يعني أبا الحسن (عليه السلام) (أن من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد فمنهم من يقول جسم) أي جسم كسائر الأجسام أو جسم لا كسائر الأجسام كما هو مذهب جماعة من العامة، وكل من قال: هو جسم قال: ساكن في أشرف الأماكن وأعلاها وهو العرش وقال: تعاليه يمنع من السكون في أدناها.
(ومنهم من يقول صورة) أي هو صورة كسائر الصور، وجوهر حال في جوهر آخر، أو هو صورة لا كسائر الصور كما هو أيضا مذهب جماعة من العامة وهؤلاء الموالي قد أصابوا في بعض الاصول وهو أمر الرسالة والإمامة وأخطأوا في بعضها، وهو أمر التوحيد، وإنما منشأ خطائهم هو عدم معرفتهم بشيء من الحقايق كما في أكثر العوام أو التشبث بظواهر بعض الآيات أو بتقرير بعض من لم يعرفوه من العامة وعدم رجوعهم إلى إمامهم وقد وقعت البراءة من أضرابهم في بعض الروايات.
(فكتب بخطه سبحان من لا يحد) إذ ليس له جزء ولا نهاية فليس له حد عرفي ولا حد لغوي
ص:209
(ولا يوصف) إذ ليس له صفة حتى يوصف بها وكل ما اعتبرته العقول من صفات كماله فهو ليس من صفاته وكل ما هو من صفات كماله فهو عين ذاته ولما نزهه عن الحد والوصف بحيث يفهم منه فساد مذهب هؤلاء أشار إلى أن الواجب عليهم اتباع القرآن بقوله (ليس كمثله شيء) فان من نظر إليه علم أن كل قول يقتضي مماثلته بشيء من الأشياء كاذب وكل عقد يوجب مشابهة بنحو من الأنحاء باطل، ثم أشار إلى أنه ليس بغافل عما يقولون ولا بجاهل عما يعتقدون فيجزيهم بما كانوا يعملون بقوله (وهو السميع العليم) يسمع ما يقولون بأفواههم وما يفترون، ويعلم ما يسرون وما يعلنون.
(أو قال: البصير) بدل العليم والبصير العالم بالخفيات وقيل: العالم بالمبصرات، وهو على التقديرين نوع من العلم المطلق.
6 - سهل، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم، عن محمد بن حكيم، قال: كتب أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) إلى أبي: أن الله أعلا وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه وكفوا عما سوى ذلك.(1)
(سهل، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم، عن محمد بن حكيم قال: كتب أبو الحسن: موسى ابن جعفر (عليهما السلام) إلى أبي أن الله أعلا وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته) أي نهايته إذ ليس لما يعتبره العقول من كماله سبحانه نهاية يقف عندها أو حقيقتها إذ ليس لصفته حقيقة ملتئمة من أجزاء خارجية أو ذهنية فصفوه بما وصف به نفسه (2) وهو أنه خالق كل شيء وله الخلق
ص:210
والأمر ولا شريك له ولا نظير له، ولا والد له ولا ولد، وليس كمثله شيء، وهو السميع العليم إلى غير ذلك مما ذكره في القرآن الكريم.
(وكفوا عما سوى ذلك) من التوصيف والتحديد والتفتيش عن الكنه لئلا تعدلوا عن التوحيد إلى الشرك.
7 - سهل، عن السند بن الربيع، عن ابن أبي عمير، عن حفص أخي مرازم، عن المفضل قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء من الصفة فقال: لا تجاوز ما في القرآن.(1)
(سهل عن السندي بن الربيع، عن أبن أبي عمير، عن حفص أخي مرازم، عن المفضل قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء من الصفة) أي من صفة الرب وهل يجوز أن أصفه بوصف (فقال: لا تجاوز ما في القرآن) من صفاته، وصفه بما وصف به نفسه فإن ذلك منتهى ما يجوز لك من الصفة.
8 - سهل، عن محمد بن علي القاساني قال: كتبت إليه (عليه السلام) أن من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد قال: فكتب (عليه السلام): سبحان من لا يحد ولا يوصف، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.(2)
(سهل، عن محمد بن علي القاساني قال: كتبت إليه (عليه السلام) أن من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد قال:
كتب سبحان من لا يحد) بحد حقيقي ولا نهاية إذ ليس له حقيقة مركبة ولا طبيعة امتدادية.
(ولا يوصف بصفة أصلا لا بالجسمية والمقدار ولا بالتناهي والأقطار ولا بالعوارض والأحوال، وكل ما يوصف به من الصفات ليس له معنى موجود قائم به، فليس له علم موجود قائم به، وقدرة موجودة قائمة به، بل ذاته المقدسة علم من حيث عدم الجهل بشيء، وقدرة من حيث عدم العجز عن شيء، وهكذا سائر الصفات الكمالية.
(ليس كمثله شيء) ما يستفاد من هذه الكلمة الشريفة من التنزيه المطلق وجب الركون إليه والتصديق به وهو كمال الإيمان بالله وغاية معرفة الإنسان له، فمن زعم مشابهته بشيء فقد أشرك به بل أنكر وجوده وأثبت إلها آخر بمقتضى هواه النفسانية والوساوس الشيطانية (وهو السميع البصير) يسمع المسموعات بلا أداة، ويبصر المبصرات بلا آلة.
ص:211
9 - سهل، عن بشر بن بشار النيسابوري قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام): أن من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول: [هو] جسم، ومنهم من يقول: [هو] صورة، فكتب إلي سبحان من لا يحد ولا يوصف، ولا يشبهه شيء، وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.(1)
(سهل، عن بشر بن بشار النيسابوري قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام)) هو أبو الحسن (عليه السلام) كما صرح به الصدوق في كتاب التوحيد (ان من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد منهم من يقول جسم ومنهم يقول صورة) هؤلاء لعدم تجاوز عقولهم عن عالم المحسوس مع متابعة أوهامهم زعموا أن ربهم جسم متحيز بحيز متصف بالجسمية ولو احقها ذو مقدار وصورة.
(فكتب إلي: سبحان من لا يحد) بالجسمية والصورة لأن التحديد بهما مستلزم للتجزية والتكثر والمقدار المنافية للوجوب الذاتي وعدم الافتقار (ولا يوصف) لأن الصفة مغايره للموصوف لقيام الموصف بالذات وقيام الصفة بالغير فلو وصف كان الواجب إما نفس المجموع أو نفس الموصوف فعلى الأول يلزم افتقاره إلى الجزء وعلى الثاني يلزم افتقاره إلى الغير وكل ذلك محال.
(ولا يشبهه شيء) لاستحالة اتصافه بصفة الإمكان وتوابعه (وليس كمثله شيء وهو السميع البصير) في اقتباس هذه الآية مع ما فيها من الإفصاح عن المقصود والإرشاد إلى المطلوب من نفي المماثلة والمشابهة على الإطلاق إيماء إلى أنه تعال عالم بما يقولون وبصير بما يفترون، فيجزيهم بما فرطوا في جنب الله حيث لا ينفع مال ولا بنون وذلك حين تزول عنهم غواشي الأوهام وتطرح نفوسهم بالموت جلابيب الأبدان.
10 - سهل، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد، منهم من يقول: هو جسم ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولا على عبدك، فوقع بخطه (عليه السلام): سألت عن التوحيد وهذا عنكم معزول، الله واحدا أحد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك، وليس بجسم يصور ما يشاء وليس بصورة، جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.(2)
(سهل قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام)) يعني العسكري (سنة خمس وخمسين
ص:212
ومائتين) هذا الحديث على تقدير أن يكون الرواية عن سهل بلا واسطة عن أعلى الأسانيد العالية الاتحاد الواسطة بين المصنف والمعصوم ولكن ذلك بعيد لأن المصنف بقي بعد تاريخ هذه الرواية ثلاثا وسبعين سنة لما نقل من أنه مات (رحمه الله) ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة سنة وذلك مستبعد.
(قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد منهم من يقول هو جسم ومنهم من يقول هو صورة فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك) أي من التوحيد (ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولا على عبدك) فعلت جواب الشرط متطولا حال عن الفاعل من الطول وهو المن، وفي بعض النسخ فحلت بالحاء المهملة من الحيلولة أي صرت حايلا متطولا على عبدك بينه وبين قلبه في الميل إلى الباطل من أمر التوحيد.
(فوقع (عليه السلام) بخطه سألت عن التوحيد وهذا معزول عنكم) أي التوحيد يعني التوغل في ذاته وصفاته معزول عنكم لأنه خارج عن طاقة البشر وإنما عليكم الأخذ بما وصف به نفسه في القرآن كما أشار إليه بقوله (الله واحد أحد) الله يدل على أنه مستجمع لجميع صفات الكمال أعني الصفات الثبوتية والواحد يدل على أنه جامع لجميع صفات الجلال أعني الصفات السلبية إذ الواحد الحقيقي منزه عن التركيب والتعدد والجسمية والتحيز وغير ذلك من لواحق الإمكان والأحد يدل على أنه لا شريك له ولا نظير له.
(لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) لامتناع الشهوة والمجانسة وتقدم الغير والافتقار والمماثلة عليه (خالق وليس بمخلوق) إذ خالق كل شيء يمتنع أن يكون مخلوقا وإلا لكان خالق الكل غيره ولاستحالة استناد الوجود الذاتي إلى الغير.
(يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم) لأن خالق الأجسام وموجد حقيقتها ووجودها لا يجوز أن يكون جسما ولأنه لو كان جسما لكان محتاجا إلى الجزء والمحيز والجهة وكل ذلك ممتنع.
(ويصور ما يشاء وليس بصورة) لأن جاعل حقيقة الصورة ومفيض وجودها يمتنع أن يكون صورة ولأنه لو كان صورة لافتقر إلى محل يحل فيه وهو منزه عن الافتقار (جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه) لاستحالة اتصاف القديم بالحادث أو اتصاف الحادث بالقديم وامتناع تطرق التكثر والتعدد والكيفية في الواحد على الإطلاق.
(هو لا غيره) هذا الكلام يحتمل أمرين بينهما تقارب أحدهما أنه تعالى هو وحده لا يلاحظ معه غير أصلا فلو كان له شبه لكان معه غيره وهو وجه المشابهة بل من يشابهه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا تنزيه له على الإطلاق عن جميع ما سواه فافهم، وثانيهما أنه المتصف بالهوية المطلقة بالوحدانية دايما لا غيرها فلو لوحط معه غيره من المعاني والكيفيات لم يكن هو بل انتقل
ص:213
من هوية إلى اخرى وهذا محال، توضيحه أن المتصف بالهوية المطلقة هو الذي لا تكون هويته موقوفة على غيره ومستفادة منه فإن كل ما كان مستفادا من الغير لم تكن له هوية مطلقة إذ ما لم يعتبر ذلك الغير لم يكن هو هو فكل ما كانت هويته مطلقة كان هو هو لذاته وكل ما كان هو هو لذاته كان هو هو دايما من غير تغير وتبدل في هويته ولما كان الواجب هويته مطلقة كانت هويته المطلقة باقية دايما فلو طرد عليه المعاني والكيفيات لزم انتقاله من الهوية المطلقة إلى هوية إضافية لأن هوية المجرد عن الكيفيات غير هوية المقترن بها هذا خلف مع أنه على الله تعالى محال.
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) هذه الآية أفضل الآيات في معرفة الصانع ولما علم الله تعالى أنه يجيء أقوام متفرقون في الآراء والعقايد يصفه كل قوم بما يفتريه أذهانهم السقيمة وعقولهم العقيمة أنزل هذه الآية حجة عليهم (1) لئلا يكون لهم على الله حجة بعد البيان.
11 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إن الله لا يوصف كيف يوصف وقد قال في كتابه: «وما قدروا الله حق قدره» فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.(2)
محمد بن إسماعيل، عن الفصل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله عن الفضيل ابن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله لا يوصف) أصلا أو بوصف لا يقال به والأخير أنسب.
(وكيف يوصف وقد قال في كتابه «وما قدروا الله حق قدره») أي ما قدروا عظمته وعظمة وصفه حق قدره اللائق به والقدر بالفتح والسكون في الأصل مصدر بمعنى تعيين الشيء وتقديره بأمر لائق به ويطلق كثيرا ما على مبلغ ذلك الشيء ومقداره والأول هنا أنسب.
(فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك) لأن صفات كماله ونعوت جلاله في أغوارها وعدم
ص:214
إمكان الوصول إلى غور حقايقها يشبه البحر الخضم الذي لا يمكن الوصول إلى ساحله المسائرين ولا إدراك ما في باطنه للغائصين.
12 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، [أ] وعن غيره، عن محمد بن سليمان، عن علي ابن إبراهيم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته ولا يبلغون كنه عظمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيف ولا أين ولا حيث، وكيف أصفه بالكيف؟! وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين؟! وهو الذي أين الأين حتى صار أينا فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث؟! وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث، فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان وخارج من كل شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، لا إله إلا هو العلي العظيم، وهو اللطيف الخبير.(1)
علي بن محمد، عن سهل بن زياد، أو عن غيره، عن محمد بن سليمان) الظاهر أنه محمد بن سليمان ابن الجهم الثقة لا محمد بن سليمان بن عبد الله الديلمي (عن علي بن إبراهيم) الظاهر أنه علي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله جعفر بن أبي طالب وهو ثقة صدوق والعلامة ذكره في ترجمة ابنه عبد الله وقال: روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله عظيم رفيع) (2) أشار به إلى أن عظمته باعتبار الشرف
ص:215
وعلو الرتبة لا باعتبار الكمية والمقدار.
(لا يقدر العباد على صفته) إذ لا يصل أقدام عقولهم إلى ساحة حقايق صفاته ولا يتناول أيدي أذهانهم ذيل مراتب كمالاته لأن ذلك موقوف على تعقلها كما هي، وهو بعيد عن ساحة العقل الواهي فما هو دأب الوصافين من وصف رب العالمين بما هو أشرف طرفي النقيض ليس كمال وصفه في نفسه لعدم اطلاعهم على ما يليق به من المدح والثناء، فهم وإن بالغوا في الوصف والتعظيم كان له وراء ذلك أطوار من استحقاق الثنا والتكريم كما أشار إليه سيد المرسلين بقوله (لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (1) (ولا يبلغون كنه عظمته) لإنهم لا يقدرون على تحديد كنه عقولهم وتعيين حقيقة نفوسهم فكيف يقدرون على معرفة كنه عظمة الباري وعلى البلوغ إلى مالها من كمالها مع أنها أرفع الأشياء عنهم رتبة وأبعدها منهم منزلة فمن قدر كنهها بعقله الضعيف فقد ضل وهلك وهو من الجاهلين» كما أشار إليه سيد الوصيين بقوله «ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين (2)».
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أي لا تدركه العقول الثاقبة والمشاعر الظاهرة والباطنة وهو يدرك هذه القوى ومدركاتها (وهو اللطيف الخبير) يعلم كاشفات الأمور وجلياتها وأسرار
ص:216
القلوب وخفياتها.
(ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث) لأن الاتصاف بالكيفيات والاستقرار في المكان من لوازم الجسمية وتوابع الإمكان وقدس الحق منزه عنها (وكيف أصفه بالكيف) كيف هنا للإنكار أو للتعجب كما في قوله تعالى (وكيف تكفرون بالله) (1)(وهو الذي كيف الكيف) أي جعله جعلا بسيطا أو جعلا مركبا (حتى صار كيف فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف) والكيف معروف لنا وحال فينا أحوال بعضها نقص وبعضها كمال تتم به ذواتنا وتكمل هيئاتنا، وشئ من ذلك لا يليق بقدس الحق ولا نعرف كيفا غير ذلك.
(أم كيف أصفه بالأين) أي بالحصول فيه (وهو الذي أين الأين حتى صار أينا فعرفت الأين بما أين لنا من الأين) والأين المعلوم لنا هو الذي نحن مستقرون فيه ومفتقرون إليه، ولا نعلم أينا سواه، وجناب الحق منزه عن أن يحل في شيء ويفتقر إليه.
(أم كيف أصفه بحيث) يحتمل أن يراد منه نفي وصفه بحيثية تقييدية توجب التكثر في ذاته أو في صفاته لكن هذا داخل في نفي وصفه بالكيف لأن هذه الحيثية من جملة الكيفيات، ويحتمل أن يراد منه نفي الحصول في المكان وهذا بحسب الظاهر وإن كان داخلا في نفي الحصول في الأين لكن يمكن الفرق بينهما بأحد الوجهين أحدهما أن المراد بالأين نفي النسبة إلى المكان المطلق، وبحيث نفي النسبة إلى المكان المخصوص، وثانيهما أن حيث يضاف إلى جملة يحتاج إليها بخلاف أين وذلك لأن وضع حيث كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل لمكان منسوب إلى نسبة لا تحصل إلا بالجملة ووزانه في احتياجه إليها كاحتياج الذي إليها من أن وصفه لمن قامت به هذه النسبة.
(وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث) أي من الحيثيات التقييدية الثابتة لنا أو من المكان المخصوص القائم به نسبة ما مثل جلست حيث زيد جالس ولا نعرف حيثا غير ذلك وامتناع اتصاف خالق الحيث به ضروري لا يقبل الإنكار.
(فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان) لا كدخول الجسم والجسمانيات فيه بل بمعنى العلم والإحاطة به (2) والحفظ وليس علمه بالأمكنة وما فيها كعلم المخلوق الذي يحتاج إلى الانتقال من مكان إلى آخر ليعلمه ويعلم ما فيه، لأن الله العظيم المتعال لا يحتاج في العلم بها إلى الحركة
ص:217
والانتقال، ولا يخرج من علمه مكان، ولا يشتغل هو بمكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان بل نسبة جميع الأمكنة إلى قدس ذاته على السواء (1) وهذا الكلام كالنتيجة للسابق ولذلك فرع عليه بالفاء ووجه التفريع ظاهر لأنه إذا كان خالقا للأمكنة كان عالما بها بالصرورة، ولما كان المتبادر من الدخول في كل مكان هو الحلول فيه أشار إلى ما يخرجه عن هذا المعنى إلى المعنى المجازي الذي ذكرناه بقوله (وخارج من كل شيء) لا كخروج الجسم والجسمانيات وغيرهما من المخلوقات لاستحالة ذلك على الله سبحانه بل بمعنى تقدس ذاته عن الكون في شيء ويحتمل أن يقال معناه أنه متميز بذاته وصفاته عن كل شيء، لا يشاركه شيء بوجه من الوجوه.
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أشار بذلك إلى بعده عن مدارك عقول العارفين فضلا عن عقول الجاهلين، وقربة إلى جميع المخلوقين والعلم بأحوالهم وأسرارهم، ولما ذكر جملة من صفاته التي تقتضي تفرده بالإلهية والعلو والعظمة المطلقة صرح بذلك وقال: (لا إله إلا هو العلي العظيم اللطيف الخبير) تنبيها على أن هذا غاية معرفته وأن به يتم نظام التوحيد والإخلاص، ويحصل التصديق بعلمه بجلائل الأمور وخفياتها.
ص:218
1 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن علي بن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي نوري، معرفته ضرورة، يمن بها على من يشاء من خلقه فقال (عليه السلام): سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا يحد ولا يحس ولا يجس ولا تدركه [الأبصار ولا] الحواس، ولا يحيط به شيء. ولا جسم، ولا صورة، ولا تخطيط، ولا تحديد.(1)
(أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن علي ابن أبي حمزة) قال العلامة: علي بن أبي حمزة أحد عمد الواقفية. قال الشيخ الطوسي في عدة مواضع إنه واقفي، وقال أبو الحسن علي بن الحسن بن فضال، علي بن أبي حمزة كذاب متهم ملعون قد رويت عند أحاديث كثيرة إلا أني لا أستحل أن أروي عنه حديثا واحدا، وقال ابن الغضايري: علي بن أبي حمزة لعنه الله أصل الوقف وأشد عداوة للمولى من بعد أبي إبراهيم موسى (عليه السلام) فقوله ضعيف لا يقدح في جلالة قدر هشام بن الحكم (2) وقد رويت روايات كثيرة في مدحه عن الصادق
ص:219
والكاظم (عليهما السلام) وترحم عليه الرضا (عليه السلام) بعد وفاته.
(قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي) مصمت لا جوف له أصلا أو مصمت من تحت السرة كما مر في الباب السابق (نوري) له نور يعلو وهو نور مجسم (معرفته ضرورة) تقذف في القلب بلا اكتساب أو تعلم بالمشاهدة العينية.
(يمن بها على من يشاء من خلقه) أهل هذا المذهب يقولون يجوز أن يراه من كان بينه وبينه تعالى تشابه في نورية الذات وقد سمعت بعض من أثق به قال: رأيت في الهند رجلا ينظر إلى السماء جالسا وماشيا فسألته عن ذلك فقال: إن أهل السنة والجماعة يقولون يجوز رؤيته فأنا أنظر إلى السماء لعله يتجلى لي فأتشرف برؤيته كذلك زين للذين كفروا سوء أعمالهم.
(فقال (عليه السلام): سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) نزهه عما لا يليق به مثل القول المذكور وغيره مع الدلالة على أنه أرفع وأجل من أن يقدره أحد من خلقه ويشير إلى كيفية هويته إذ القديم الكامل في ذاته وصفاته ليس بينه وبين خلقه مشابهة، ولا بينه
ص:220
وبين عقولهم ملائمة بها يتمسك في تعيين هويته وتشخيص خصوصيته فمن ساواه بشيء فقد كفر بما نطق به محكم آياته، ومن قال يمكن معرفة هويته فقد عدل عما دل عليه شواهد حججه وبيناته (لا يحد) بأن يقال: هذا ذاته، وتلك نهايته، وهذه كيفيته (ولا يحس) بالبصر (ولا يجس) باليد وغيرها (ولا تدركه الحواس) الظاهرة والباطنة (ولا يحيط به شيء) من الأوهام والعقول وغيرها (ولا جسم) كما زعمه المجسمة لاستحالة حدوثه وافتقاره إلى الغير (ولا صورة) كما زعمه المصورة لا متناع حلوله في شيء (ولا تخطيط) بأن يكون خطا أو سطحا يفرض فيه الخطوط أو شابا مخطا كما زعمه طائفة (ولا تحديد) بأنه جسم صمدي نوري ولا بغير ذلك من الأمور المقتضية لتحديده.
وفي هذا الحديث تنزيه له عما نسب إلى هشام وعن غير ذلك من التشابه بصفات المخلوقات والاتصاف بكيفية المصنوعات.
2 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن حمزة بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الجسم والصورة، فكتب: سبحان من ليس كمثله شيء لا جسم ولا صورة. ورواه محمد ابن أبي عبد الله إلا أنه لم يسم الرجل.(1)
(محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن حمزة بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الجسم والصورة; فكتب سبحان من ليس كمثله شيء) نزهه عن الجسمية والصورة وأشار إليه دليله، ثم صرح بالمطلوب وقال: (لا جسم ولا صورة) لاستحالة اتصافه بالكمية والأقدار، واتسامه بالنهاية والأقطار، وركونه إلى المنازل والمساكن وسكونه في المواطن والأماكن (ورواه محمد بن أبي عبد الله) الظاهر مكاتبة ويحتمل غيرها (إلا أنه لم يسم الرجل) يعني قال:
كتبت إلى الرجل ولم يصرح باسمه.(2)
3 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن زيد، قال: جئت إلى الرضا (عليه السلام) أسأله عن التوحيد فأملى علي: الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الاختراع ولا لعلة فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء كيف شاء، متوحدا بذلك لاظهار حكمته وحقيقة ربوبيته; لا تضبطه العقول ولا تبلغه الأوهام ولا
ص:221
تدركه الأبصار ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية ووصف بغير صورة ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال.(1)
(محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع; عن محمد بن زيد) (2) قال العلامة محمد بن زيد بتري من أصحاب الباقر (عليه السلام) ولم يذكر غيره (؟).
(قال: جئت إلى الرضا (عليه السلام) أسأله عن التوحيد فأملى علي: الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء) الفطرة الخلق يقال: فطره يفطره بالضم أي خلقه والفطرة أيضا الشق يقال: فطرته فانفطر أي شققته فانشق ومنه فطر ناب البعير، وقال بعض العلماء الفطر حقيقة هو الشق في الأجسام ونحوها واستعماله في الخلق والإيجاد استعارة.
ووجهها ان المخلوق قبل دخوله في الوجود كان معدوما محضا والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا شق فإذا أخرجه الموجد المبدع من العدم إلى الوجود فكأنه بحسب التخيل شق ذلك العدم وأخرج من بطنه نور الوجود فيكون التقدير فاطر عدم الأشياء بإخراج وجوداتها.
(ومبتدعها ابتداء) (3) لما كان الله ولم يكن معه شيء كانت الأشياء منه، فصح أن إنشأها وابتداؤها منه، فلذلك أتى بالمصدرين تأكيدا لنسبتهما إليه سبحانه ثم الإنشاء والابتداء في اللغة بمعنى واحد وقد اختلفوا في الفرق بينهما حيث اجتمعا صونا للكلام في التكرار فقيل: الإنشاء هو الإيجاد لا عن مادة والابتداء هو الإيجاد لا لعلة، ففي الأول إشارة إلى نفي العلة المادية وفي الثاني إلى نفي العلة الغائية في فعله تعالى.
وقيل: الإنشاء هو الإيجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى إيجاد مثله والابتداء هو الإيجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله، وقيل: الإنشاء هو الإيجاد من غير مثال سابق، والابتداء هو الإيجاد من غير صورة إلهامية فايضة على الموجد، والغرض نفي المشابهة بين صنعه تعالى وصنع البشر، وذلك لأن الصنايع البشرية إنما تحصل بعد أن ترسم في الخيال صورة المصنوع، وتلك الصورة تحصل تارة عن مثال خارجي يشاهده الصانع ويحذو حذوه وتحصل تارة بمحض الإلهام والاختراع فإنه كثيرا ما يفاض على أذهان الأذكياء صور الأشكال لم يسبقهم إلى تصورها غيرهم
ص:222
فيتصورونها ويبرزونها في الخارج، وكيفية صنع الله تعالى للعالم وجزئياتها ونظام وجوداتها منزهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين.
أما الأول فلأنه تعالى شأنه لا قبل له وكان ولم يكن معه شيء، فلا يكون مصنوعاته مسبوقة بأمثلة من صانع آخر عمل هو بمثل صنع ذلك الآخر.
وأما الثاني فلأن الفاعل على وفق ما الهم به وإن كان مخترعا مبتدعا في العرف لكنه في الحقيقة مفتقر إلى الغير الذي هو المخترع والمبتدع، وإنما الفاعل يفعل على وفق ما حصل في ذهنه من الشكل والهيئة وهما مستفاد أن من ذلك الغير والله سبحانه منزه عن الصنع بهذا الوجه أيضا لعدم احتياجه إلى الغير.
(بقدرته وحكمته) أي فاطر الأشياء ومبتدعها بمجرد قدرته القاهرة على وفق ما تقتضيه حكمته البالغة من كمال نظام العالم وتمام مصالح الخلق وحدود الأشياء ومقاديرها وأشكالها ونهاياتها وآجالها وغاياتها ومنافعها وكيفياتها، وفيه تصريح بأن صدور تلك الآثار عنه بطريق الاختيار دون الايجاب لأن الايجاب ينافي القدرة وأيضا صدور الحادث عن القديم بطريق الإيجاب يوجب تخلف المعلول عن تمام علته حيث وجدت العلة في الأزل دون المعلول (لا من شيء) أي لا من مثال سابق يكون بمنزلة المنتسخ أو لا من أصل أزلي من مادة وصورة (فيبطل الاختراع) ضرورة أن خلقها من شيء ليس اختراعا هذا خلف مع لزوم النقص في قدرته لاحتياجه في التأثير إلى غيره.
(ولا لعلة) أي لا لعلة غائية تعود إليه سبحانه مثل الاستيناس بتلك الأشياء لرفع وحشة، والاستعانة بها لدفع شدة، والاستغاثة بها في دفع محنة، أو لا لصورة فايضة عليه من الغير وباعثة على الإيجاد وسماها علة لأنها بمنزلة العلة الغائية في البعث على الفعل.
(فلا يصح الابتداع) أما على الأول: فلأن الصانع لنفع يعود إليه كان ناقصا في حد ذاته مفتقرا إلى غيره وكل ناقص مفتقر مخلوق ومن البين أن المخلوق ليس مبتدعا لجميع الخلائق، وأما على الثاني فلأن الفاعل لشيء باعتبار صورة إلهامية غير حاصلة لغيره فايضة من المفيض وإن كان في العرف مبتدعا لذلك الشيء من جهة أن وجود ذلك الشيء لم يكن من غيره لكن في الحقيقة ليس هو مبتدعا وإنما المبتدع هو مفيض تلك الصورة وملهما، وأما حمل نفي العلة على نفي العلة الغائية الراجعة إلى الخلق ففيه كلام ذكرنا في شرح الخطبة.
(خلق ما شاء كيف شاء) بمجرد المشية والإرادة على سبيل الاختيار، لا بالإيجاب والاضطرار، ولا بتوسط أصوات ولا بتحريك آلات.
(متوحدا بذلك) الخلق المشتمل على الصنع العجيب والرتيب الغريب لا يشاركه أحد ولا
ص:223
يعينه صفة وفيه إشارة إلى نفي الشريك وعدم زيادة الصفة لأن التوحيد الحقيقي يقتضي نفيهما، ولاستحالة احتياجه في الإيجاد إلى غيره.
(لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته) تعليل لخلقه ما شاء وتوحده بذلك، يعني كان الله ولم يكن معه شيء، وكان أزلا عالما بحقائق الممكنات ومنافعها وخواصها، قادرا على إيجادها على نحو مشيته فخلقها وهو واحد في ذاته وصفاته بلا شريك ولا نظير ولا مشير ولا وزير وأبرزها من حد الكمون والتقدير إلى حد العقل إذا تفكر في هذه المصنوعات العجيبة والمخلوقات الغريبة وفي تدبير ما فيها من النظام الأكمل والاتقان والترتيب الأفضل والأحسن، وتأمل في مصالحها ومنافعها وآثارها الموجبة للحيرة والعجب العجيب علم أن صانعها عالم حكيم قادر رب مالك، بيده نواصيها يصرفها كيف يشاء على وفق الحكمة.
وما توهمه بعض الزنادقه والملاحدة من أن بعض أجزاء هذا العالم من الدود والبعوض والحيات والعقارب لا حكمة في خلقه فيقال: له أولا إن ذلك جهل منك بالباري وحكمته وإن عدم وجدان الحكمة لا يقتضي نفيها، وثانيا وهو ما أجاب به الصادق (عليه السلام) للزنديق الذي أنكر حكمته تعالى في الامور المذكورة وأن فيها حكما ومصالح أما العقارب فانها تنفع من وجه المثانة والحصاة ولمن يبول في الفراش، وأما الحيات فأن أفضل الترياق ما عولج من لحوم الأفاعي وأن لحومها إذا أكلها المجذوم نفعه، وأما البعوض والبق فقد جعلها الله أرزاقا للطيور وأهان بها جبارا تمرد على الله وأنكر ربوبيته فسلطها الله عليه فدخلت في منخره حتى وصلت إلى دماغه فقتلته، وأما الدود الأحمر الذ ى تحت الأرض فإنه نافع للآكلة.
(لا تضبطه العقول) ولو كان بعضها لبعض ظهيرا لقصورها عن الإحاطة بكنه ذاته وصفاته وعجزها عن إدراك ماله عن عظمته وكمالاته، وكلما أدركته من أمر التوحيد بالاستقلال أو بمعونة الوهم والخيال فهو أمر اعتباري لا وجود له في جانب الحق وإنما غاية كمالها في معرفته نفي الإبطال والتشبيه.
(ولا تبلغه الأوهام) لأنك قد عرفت آنفا أن الوهم لا يصدق حكمه إلا فيما كان محسوسا أو متعلقا به فأما الأمور الغايبة عن الحس المجردة عن المادة والوضع وعلايقهما فالوهم ينكر وجودها فضلا عن أن يدركه ويصدق بوجوده.
(ولا تدركه الأبصار) لأنه ليس بلون ولا ضوء ولا متلون ولا مضيء والبصر إنما يتعلق بهما (ولا يحيط به مقدار) إشارة إلى نفي الكمية عنه لأن الكم من لواحق الجسم، وهو سبحانه ليس بجسم ولا كم وإلا لكان قابلا للتجزية والتقسيم والتبعيض وقدسه بريء منها.
(عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار) بفتح الهمزة أو كسرها والأول أظهر يعني عجزت
ص:224
قبل البلوغ إلى صفاته عبارة الواصفين وأعيت قبل الوصول إلى ذاته أبصار الناظرين وإسناد العجز والكلال إلى العبارة والأبصار إسناد مجازي والمقصود بيان عدم إمكان تناول العبارة له وتعلق الأبصار به على سبيل المبالغة.
(وضل فيه تصاريف الصفات) يعني كل ما وصفوه تعالى به فهو غير موجود فيه وبعبارة اخرى ضل في طرق صفاته الحقة تصاريف صفات الواصفين وأنحاء تعبيراتهم عنها لأنهم وإن بالغوا في وصفه تعالى بها وانتقلوا من صفة إلى ما هو أعظم وأشرف عندهم لم يبلغوا كنه صفاته ولم يصفوه بما هو وصفه ولم ينعتوه كما هو حقه كيف ولسان التعبير يخبر عما في الضمير وكل ما هو في الضمير مخلوق مثله كما يرشد إليه ما روي عن الباقر (عليه السلام) «كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مصنوع مثلكم مردود إليكم» أو المعنى ضل في الوصول إلى منتهى بسيط بساط ثنائه وإحصائه أقدام تصاريف صفات الواصفين لأنها كلما بلغت مرتبة من مراتب المدح والتكريم كان وراءها أطوار من استحقاق الثناء والتعظيم.
(احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور) محجوب خبر مبتدء محذوف والظرف المتقدم متعلق به والجملة استيناف لدفع ما يتوهم من قوله «احتجب» من أن له حجابا حسيا وهو ما يحجب الحواس عن الجسم والجسمانيات أو حجبا عقليا، وهو ما يحجب العقل عن المعاني والصور العقلية وكذا الكلام في نظيره، والمعنى احتجب سبحانه عن العقول وهو محجوب بغير حجاب عقلي يحجبه، واستتر عن الحواس وهو مستور بغير ستر حسي يستره، لأن الحجاب والستر بهذا المعنى من لواحق الصورة والجسمية وعوارضها وإذا تنزه قدس الحق عنها فقد تنزه عنهما بالضرورة، وإنما احتجابه واستتاره لكونه خارجا عن عالم مدركات العقول والحواس وكون غاية ظهوره في بطونه ونهاية جلائه في خفائه، وهو الظاهر والباطن.
ومما يرشد إلى سبب خفائه مع كمال ظهوره هو ما اشتهر من أن ظهور الأشياء بأضدادها ألا ترى أنك إذا نظرت إلى أن ضوء النهار ضد لظلمة الليل وأن الأول يتحقق ما دامت الشمس على وجه الأرض ويزول عند غيبتها بطريان الظلمة علمت علما قطعيا أن ضوء النهار مستند إلى الشمس ولو بقيت الشمس على وجه الأرض دائما لا مكن أن تتوهم أن ضوء النهار غير مستند إليها.
ولما لم يكن لجناب الحق جل شأنه ضد ولا انتقال وكان نور وجوده ظاهرا فأيضا صار ذلك سببا لخفائه حتى أنكره من أنكره عذبهم الله تعالى في الدنيا والآخرة.
ولهذه العبارة احتمال آخر ذكرناه في شرح الخطبة (1) وهو أن الظرف متعلق باحتجب
ص:225
ومحجوب بالجر صفة لحجاب والغرض منه دفع ما يتوهم من قوله «احتجب» من أن احتجابه عن العقول بحجاب غليظ مانع من إدراك وجوده بالكلية يعني احتجابه ليس بحجاب محجوب ومستور به بأن يكون بعضه وراء بعض وهذا كناية عن نفي كون حجابه غليظا مانعا عن مشاهدة وجوده نظير ذلك قوله تعالى (حجابا مستورا) قال الجوهري في تفسيره أي حجابا على حجاب والأول مستور بالثاني يراد بذلك كثافة الحجاب والله أعلم.
(عرف بغير رؤية) الفعل إما مبني للمفعول أو مبني للفاعل و «رؤية» على التقديرين إما بضم الراء وسكون الواو أو بفتح الراء وكسر الواو وشد الياء فهذه احتمالات أربعة أما الأول: وهو المراد في ظني والباقي من الاحتمالات البعيدة فمعناه أنه تعالى عرف وجوده بغير رؤية بالأبصار، بل بآياته وآثاره وقد سبق مرارا أنه منزه عن الرؤية بحاسة البصر، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله «المعروف بغير رؤية» وأما الثاني: فمعناه عرف وجوده بغير فكر واستدلال وفيه إشارة إلى أن وجوده بديهي (1) كما ذهب إليه بعض المحققين أو إلى أن عرفانه بالحقيقة ليس إلا بالمشاهدة الحضورية كما هي لبعض العارفين وأما الثالث: فمعناه أنه تعالى عرف الأشياء بغير رؤية بحاسة البصر لتنزه قدسه عنها، وأما الرابع: فمعناه أنه تعالى عرف الأشياء بغير رؤية بحاسة البصر لتنزه قدسه عنها، وأما الرابع فمعناه أنه تعالى عرف الأشياء من غير استعمال روية وفكر وشوق وقصد، متوسط بينه وبين معلوماته كمعرفتنا للأشياء بل معرفته للأشياء عبارة عن انكشافها وحضورها عند ذاته بذاته.
(ووصف بغير صورة) أي وصف بأنه ليس بصورة ولا شكل ولا كيفية أو وصف بغير صفة فإنه وصف مثلا بأنه قادر بغير قدرة زائدة على ذاته وإطلاق الصورة على الصفة شايع أو وصف بغير حد لأنه بسيط ليس له مهية مركبة فليس له حد.
(ونعت بغير جسم) أي بأنه ليس بجسم ولا جسماني لتقدسه عنهما ولما ذكر (عليه السلام) من صفاته
ص:226
الفعلية والتنزيهية (1) ما دل على كمال عظمته ونهاية علوه وشرف رتبته أشار إلى التوحيد المطلق بقوله (لا إله إلا الله) نفيا لمشاركة الغير معه في الصفات المذكورة المقتضية لإلهيته واستحقاقه للعبادة.
(الكبير المتعال) أي العظيم الذي لا يستنكف شيء عن عظمته ولا يمتنع عن نفاذ حكمه وقدرته ولا يخرج عن علمه وسلطنته والمتعالى الذي تعالى بشرف ذاته وصفاته على أن يتصف بصفات المخلوقات ونعوت المصنوعات أو أن تدركه دقايق الأفكار ونواظر الأبصار.
4 - محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن علي بن العباس، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي إبراهيم (عليه السلام) قول هشام بن سالم الجواليقي وحكيت له قول هشام بن الحكم أنه جسم فقال: إن الله تعالى لا يشبهه شيء، أي فحش أو خنى أعظم من قول من
ص:227
يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن علي بن العباس (2)، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي إبراهيم (عليه السلام) قول هشام بن سالم الجواليقي) مقول القول محذوف وهو أنه صورة.
والجواليق بفتح الجيم جمع جولق بضمها وفتح اللام معرب جوال وهو وعاء ينسج من الشعر والصوف وكان النسبة لكونه بايعها.
(وحكيت له: قول هشام بن الحكم إنه جسم فقال: إن الله تعالى لا يشبهه شيء) كما قال: «ليس كمثله شيء» و «لم يكن له كفوا أحد» (أي فحش أو خنى) الخنا الفحش والفساد والعطف يقتضي المغايرة، ولعل الثاني أغلظ من الأول والشك من الراوي أيضا محتمل.
(أعظم من قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء) مثل الوجه والعين واليد والساق وغير ذلك من الأعضاء والجوارح التي للإنسان وإنما نشأ ذلك الوصف
ص:228
من استيلاء أوهامهم على عقولهم، وقد عرفت أن حكم الوهم لا يترفع عن المحسوسات وما يتعلق بها وأنه إن حكم في المجردات بحكم يقدرها محسوسة ذات أحجام ويجري عليها أحكام المحسوسات ولذلك كانت غاية معرفة المشبهة هي تشبيهه بالأصنام وتمثيله بالأجسام وتصويره بالصور والهيئات وتقديره بالحدود والغايات. (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) لتحقق المباينة بين الواحد الحق الثابت بالذات وبين المتكثر الباطل بالذات من جميع الجهات.
5 - علي بن محمد رفعه، عن محمد بن الفرج الرخجي قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة فكتب: دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قال الهشامان.(1)
(علي بن محمد (2) رفعه عن محمد بن الفرج الرخجي) بضم الراء وفتح الخاء المعجمة والجيم بعدها في النسبة إلى الرخج وفي المغرب الرخج بوزن زفر اسم كورة استولى عليها الترك وفي حاشيته «قد يشدد الخاء كما في قول الشاعر:
الرخجيون لا يوفون ما وعدوا * والرخجيات لا يخلفن ميعادا قول بعض أصحابنا الرخج قرية بكرمان.
(قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة فكتب: دع عنك حيرة الحيران) حار يحار حيرة أي تحير في أمره فهو حيران والمراد بالحيرة تردد الذهن في أن أي الأمرين أولى بالطلب والاختيار وقد يطلق على الميل إلى الباطل والتصديق به وكان منشأ ذلك معارضة الوهم والخيال للعقل حتى لا يعرف جهة الحق ليقصده.
(واستعذ بالله من الشيطان) أي من إبليس أو من كل متمرد فيشمل الاستعاذة من شياطين الإنس مثل المجسمة والمصورة وغيرهما من الفرق المبتدعة أيضا.
ص:229
(ليس القول ما قال الهشامان (1) أقول: إن أراد الهشامان بالجسم والصورة المعنى المعروف منهما فيرد عليهما أن كل واحد منهما مستلزم للتركيب والحدوث والله سبحانه منزه عنهما وإن أرادا غيره وقالا: إن الإطلاق مجرد التسمية من غير تحقق معناهما المتعارف كما ذهب طايفة إلى أنه تعالى جسم لا كالأجسام وطايفة إلى أنه صورة لا كالصورة لما رأوا أهل الحق يقولون هو شيء لا كالأشياء طردوا ذلك في الجسم والصورة فيرد عليهما أن لفظ شيء لا يشعر بالحدوث بخلاف الجسم والصورة على أن جواز إطلاق الاسم عليه موقوف على الإذن وقد وقع الإذن بإطلاق الشيء عليه في القرآن والحديث ولم يقع الإذن بإطلاق الجسم والصورة عليه.
واعلم أنه بالغ العلامة في الخلاصة في مدح الهشامين وتوثيقهما وقال ابن طاووس (رضي الله عنه) الظاهر أن هشام بن سالم صحيح العقيدة معروف الولاية غير مدافع، وقال بعض العلماء: ما رواه الكشي - من أن هشام بن سالم يزعم أن لله عز وجل صورة وأن آدم مخلوق على مثال الرب - ففي الطريق محمد ابن عيسى الهمداني وهو ضعيف وقال بعض أصحابنا: لما رأى المخالفون جلالة قدر الهشامين نسبوا إليهما ما نسبوا ترويجا لآرائهم الفاسدة، وقال بعض المتأخرين من أصحابنا لا حاجة في الاعتذار (2) عما نسب إلى هشام بن سالم إلى ما ذكروه من ضعف الرواية، لأن القول بأن
ص:230
الله تعالى صورة لا يستلزم القول بالتجسيم والتركيب فإن مثله قد يصدر عن العرفاء الكاملين إذ لفظ الصورة مشترك عند العلماء بين معان غير ما وقع في العرف من معنى الشكل والخلقة فإنهم يطلقونها تارة على ما هية الشيء، وتارة على وجوده في العقل، وتارة على كمال الشيء وتمامه، وتارة على الموجود البحت الذي لا تعلق له بجسم ولا جسماني كالذوات المفارقة عن المواد والأجرام، فيقولون: ذاته صورة الصور وحقيقة الحقائق كأن غيره سبحانه بالقياس إليه ناقص الوجود والحقيقة حيث يحتاج إلى مصور يصوره ويخرجه من حد القوة والإمكان إلى حد الفعل فلا يلزم من إطلاق الصورة عليه اعتقاد الجسم كيف؟ وقد ورد الحديث المشهور بين العامة والخاصة «أن الله خلق آدم على صورته» انتهى.
أقول: هذا الرجل يقول نصرة لهشام بأن الرواية على تقدير صحتها لا تدل على فساد عقيدته لما ذكره وفيه نظر أما أولا: فلأن هذا التوجيه لا يتمشى من قبل هشام لأنه يقول: هو صورة أجوف إلى السرة والبقية صمد أي مصمت كما مر وأما ثانيا: فلأنه لا يجوز إطلاق الصورة عليه سبحانه إما لأنها مشعرة بالتجسيم والتركيب أو لأن إطلاق الاسم والصفة عليه متوقف على الإذن ولذلك وقع الإنكار على القائلين بالصورة في الروايات مطلقا من غير تفصيل، وأما ثالثا فلأن ما ذكره من الحديث المشهور بين العامة ونسبه إلى الخاصة أيضا فهو على تقدير صحته مأول عند الخاصة وعند أكثر العامة وقد استقصينا في ذكر تأويله، في أول الباب السابق وسيجئ بعض تأويلاته في باب الروح عن أبي جعفر (عليه السلام) والله ولي التوفيق.
6 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة، عن محمد بن زياد قال: سمعت يونس ابن ظبيان
ص:231
يقول: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما إلا أني أختصر لك منه أحرفا، فزعم أن الله جسم لأن الأشياء شيئان: جسم وفعل الجسم، فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحه أما علم أن الجسم محدود متناه والصورة محدودة متناهية فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا، قال: قلت: فما أقول؟ قال: لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور، لم يتجزء ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ولا بين المنشئ والمنشأ لكن هو المنشئ فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح) في كتاب التوحيد للصدوق (رضي الله عنه) عن الحسين بن الحسن، والحسين بن علي، عن صالح بن أبي حماد، عن بكر بن صالح (عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة، عن محمد بن زياد قال:
سمعت يونس بن ظبيان (2) يقول دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما) صدور ذلك القول منه قبل دخوله في دين الحق محتمل.
(إلا أني أختصر لك منه أحرفا فزعم أن الله جسم لأن الأشياء شيئان) أي نوعان (جسم وفعل الجسم (3)) أي فعل صادر من الجسم، الحصر ممنوع (4) ولا دليل عليه عقلا ونقلا (فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل) لاستحالة احتياج الصانع إلى الفاعل والمحل.
(ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل) وهو الجسم لخلوه عن المحذور المذكور، وفيه أنه يلزم احتياج الصانع إلى علة مادية هي الأجزاء، وعلة فاعلية هي المؤلف بين تلك الأجزاء، وعلة
ص:232
صورية هي الصورة الحاصلة باعتبار التأليف.
(فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحه أما علم أن الجسم محدود متناه) (1) أي له أطراف ونهايات (والصورة) الجسمية والنوعية والشخصية (محدودة متناهية) لوجوب تناهي الأبعاد والأقطار.
(فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان) لأن كل قابل للحد والنهاية أعني المقدار قابل للزيادة أو النقصان، لا يتأبى عنهما في حد ذاته، وإن استقر على حد معين فإنما استقر عليه من جهة قسر القاسر وجعل الجاعل لا من جهة ذاته.
(وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا) خلقه قادر مريد حكيم وصرفته القدرة القاهرة على وفق الإرادة إلى القبول للجهات المختلفة وساقته الحكمة البالغة إلى الحدود والنهايات المعينة ولم يمكنه التخلف والاستصعاب عن ذلك التصرف فيلزم أن يكون صانع جميع الأشياء مصنوعا مخلوقا وأنه محال.
(قال: قلت: فما أقول؟ قال: لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور) الواو للحال يعني كيف يكون هو جسما أو صورة والحال أنه فاعل الأجسام والصور كلها والفاعل مباين للمفعول (2) بالبرهان والوجدان.
ص:233
(لم يتجزء ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص) خبر آخر لهو بترك العاطف فهو تعليل ثان لما ذكر.
يعني كيف يكون جسما أو صورة والحال أنه ليس بقابل للتجزئة والتناهي والتزايد والتناقص في حد ذاته وصفاته إذ هذه الأمور من لواحق الإمكان وتوابع الحدوث ولوازم المقدار، وساحة القدس منزه عنها.
(لو كان كما يقولون) من أنه جسم أو صورة (لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق) إذ الخالق على قولهم مثل المخلوق في الذات والصفات والاحتياج إلى المجسم والمصور والمدبر فكون أحدهما خالقا والآخر مخلوقا ليس بأولى من العكس، ويتسع حينئذ دايرة مناقشة الملاحدة، إذ لهم أن يقولوا: إذ كان هو جسما مستغنيا عن الموجد جاز استغناء غيره من الأجسام وعوارضها عن الموجد أيضا.
(ولا بين المنشئ والمنشأ) أي ولم يكن بين الموجد بلا مثال والمخلوق لا من شيء فرق وهو باطل بالضرورة (لكن هو المنشئ) (1) هذا في الحقيقة استثناء لنقيض التالي لينتج نقيض المقدم يعني لكن بين الخالق والمخلوق والمنشئ والمنشأ فرق بالضرورة والله سبحانه هو المنشئ وحده وكل ما عداه مخلوق منشأ فبطل قولهم بالتشابه المفضي إلى عدم الفرق بينهما، ثم أشار إلى دليل
ص:234
آخر على بطلان قولهم وعدم تحقق المشابهة بقوله (فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) «فرق» ماض معلوم من الفرق أو من التفريق و «إذ» ظرف للفرق يعني أنه فرق بين الأشياء وميزها في الإيجاد بأن جعل بعضها جسما وبعضها صورة وبعضها غير ذلك وأنشأها على وفق الحكمة حين كان الله ولا شيء معه حتى يشبهه شيء ويشبه هو شيئا في ذاته وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يقع المشابهة بعد الإيجاد في أمر من الأمور لأن ذلك الأمر إن كان من كماله كان خلوه عنه قبل الإيجاد نقصا وإذا لم يكن من كماله كان اتصافه به بعده نقصا والنقص عليه محال وجب تنزيه قدسه عنه.
7 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن العباس، عن الحسن ابن عبد الرحمن الحماني قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): إن هشام بن الحكم زعم أن الله جسم ليس كمثله شيء، عالم سميع، بصير، قادر، متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شيء منها مخلوقا فقال: قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته، من غير كلام ولا تردد نفس ولا نطق بلسان.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن العباس) قال العلامة: إنه رمي بالغلو وغمز عليه، ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعبأ بما رواه (عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني) بفتح الحاء المهملة منسوبا إلى حمان وهو اسم رجل، ويحتمل أن يكون بضم الجيم وتشديد الميم منسوبا إلى الجمة، قال الجوهري: الجمة بالضم مجتمع شعر الرأس وهو أكثر من الوفرة ويقال للرجل الطويل الجمة الجماني بالنون على غير قياس وأن يكون بالجيم أيضا منسوبا إلى الجمانة وهي حبة تعمل من الفضة وفي كتاب التوحيد الحمامي بالميم قبل الياء نسبة إلى حمام أعين وهو اسم بستان قريب من الكوفة وفي بعض النسخ الحسين بدل الحسن ولا أعرف حالهما (2).
(قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) إن هشام بن الحكم زعم أن الله جسم ليس كمثله
ص:235
شيء) يعني أنه جسم ممتاز عن غيره من الأجسام لا يماثله شيء منها في نورية ذاته وصفات كماله ونعوت جلاله.
(عالم سميع بصير قادر متكلم ناطق) كأنه أراد بذلك أنه سميع بذاته وبصير بذاته وهكذا (والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد) في أنها نفس الذات (ليس شيء منها مخلوقا) فالكلام عند غير مخلوق لكونه عين الذات مثل العلم والقدرة.
(فقال: قاتله الله) كناية عن مقته وإبعاده عن الرحمة (أما علم أن الجسم محدود) بحدود ونهايات وأطراف وغايات (1) وأقطار وكيفيات وبأجزاء وتركيب وأوضاع وتأليف وصور وترصيف وكل ما هذا شأنه فهو ممكن مفتقر إلى الغير من جهات شتى، والله سبحانه هو الغني المطلق لا يفتقر إلى شيء أصلا.
(والكلام غير المتكلم) (2) عطف على الجسم اه. يعني أما علم أن الكلام غير المتكلم بالضرورة ليعلم قبح ما ذهب إليه من أنه عين ذاته كالعلم والقدرة وأنه غير مخلوق مثلهما (معاذ الله) يقال عذت بفلان واستعذت به أي لجأت إليه، وهو عياذي أي ملجائي، وقولهم معاذ تقديره أعوذ بالله معاذا فهو مصدر مضاف مثل سبحان الله.
(وأبرء إلى الله من هذا القول) ومن دان به، لكون فحشا عظيما على الله سبحانه، وربما يتوهم أن فيه مدح هشام حيث قال (عليه السلام): أبرء من هذا القول ولم يقل أبرء من هذا القائل للتنبيه على أنه
ص:236
نسب إليه هذا القول وهو ليس بقائل به (1) وهذا التوهم مدفوع بأنه ينافي قوله «قاتله الله» والتوبيخ المذكور بعده، ولما فرغ من توبيخه بعدم علمه بقبح ما ذهب إليه أشار إلى نفي ما اعتقده بقوله (لا جسم ولا صورة ولا تحديد) وهو وإن لم يقل بالصورة والتحديد صريحا لكن يلزمه ذلك من حيث لا يعلم لأن الجسم لا يخلو عنهما.
(وكل شيء سواه مخلوق) لاستحالة أن يكون له شريك في الوجوب الذاتي فكلامه مخلوق لأنه غيره فليس الكلام مثل العلم والقدرة وسائر الصفات الذاتية، وإنما قلنا كأنه أراد بذلك كذا لأنه يحتمل أن يكون مراده بقوله عالم سميع بصير قادر متكلم ناطق أن له علما وسمعا وبصرا وقدرة وكلاما ونطقا زايدة على ذاته، بها يعلم ويسمع ويبصر ويقدر ويتكلم وينطق وأن هذه الصفات مشتركة في أنها قديمة غير مخلوقة وحينئذ قوله (عليه السلام) «وكل شيء سواه مخلوق بيان لفساد هذا القول إذ القول بزيادة الصفات لا يجامع بأنها غير مخلوقة إذ كل شيء سواه مخلوق، وآخر الحديث يناسب هذا الاحتمال وقوله (عليه السلام) «والكلام غير المتكلم» يناسب الاحتمال الأول وحمله على الاحتمال الثاني حينئذ لا يخلو من دقة وخفاء فليتأمل.
(إنما يكون الأشياء بإرادته ومشيئته) «يكون» بسكون الواو من الكون أو بكسرها وتشديدها من التكوين يعني إذا تعلقت إرادته بوجود شيء أذعن له ذلك الشئ وتحقق وجوده على غاية من السرعة بلا تخلف ولا بطؤ وما أمره في ذلك إلا واحدة كلمح بالبصر أو هو أقرب.
(من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان) سيجيء أن الكلام والإرادة حادثان والمقصود هنا نفي أن تكوينه للأشياء بأن يصدر عنه الحرف والصوت وينطق بكلمة كن ونحوها لأن ذلك من صفات الخلق وهو سبحانه منزه عنها، وكلمة كن في قوله تعالى (كن فيكون)(2) كناية عن تسخيره للأشياء وجريان حكمه في إيجادها وإحداثها وبأن يصدر عنه إرادة مترددة في النفس وتكفر في عواقب الأمور ليعلم وجوه مصالحها كإرادة أحدنا شيئا فإنها متوقف على تصور الفعل والنظر إلى مصالحه والتفكر في منافعه ليحصل اعتقاد النفع وانبعاث الشوق إلى أن يبلغ حدا يرجح الفعل منه
ص:237
على الترك وما ذلك إلا لنقصان العلم المنزه جناب الحق عنه، بل إرادته لإيجاد الأشياء عبارة عن إيجادها وإحداثها، ولذلك لا يلزم أن يكون محلا للحوادث مع أن الإرادة حادثة، وبالجملة فيه تنزيه له جل شأنه أن يعرض له من جهة ما هو فاعل شيء من هذه الكيفيات فإنها من عوارض الإمكان، ولواحق الحركة التي هي من عوارض الجسم الذي يفعل بالآلة والتفكر ويحتاج في فعله إلى الحركة التي تشتد وتضعف والله سبحانه منزه عن جميع ذلك.
8 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي الحسن (عليه السلام) قول هشام الجواليقي وما يقول في الشاب الموفق ووصفت له قول هشام بن الحكم فقال: إن الله لا يشبهه شيء.(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي الحسن (عليه السلام) قول هشام الجواليقي وما يقول في الشاب الموفق) فقد عرفت تفسيره سابقا (ووصفت له قول هشام بن الحكم) من أنه جسم.
(فقال: إن الله لا يشبهه شيء) (2) هذا من أوجز الكلام في تنزيه الواجب عما لا يليق به مثل
ص:238
الجسمية والصورة والتحديد وغيرها من صفات الممكنات المحدثة وكمالاتها المستفادة من الغير المستلزمة للنقصان والافتقار وإذا كان منزها عن أمثال هذا مما يوجب النقصان والزوال كان باعتبار اتصافه بأشرف طرفي النقيض في المرتبة الأعلى من الكمال وهو العلي الكبير.
ص:239
باب صفات الذات (1) صفات الذات عند الأشاعرة (2) ما قام به أو اشتق عن معنى قائم به كالعلم وعندنا ما لا يجوز سلبه عنه قط فإن العلم مثلا عندهم صفة زايدة قائمة بذاته تعالى ولا ينفك ذاته عنها أبدا وأزلا، وهذا غير صحيح عندنا إذ لا قديم إلا هو بل ذاته المقدسة علم بكل معلوم وجد أو لم يوجد، فالتغير إنما هو في المعلوم وهو معدوم تارة وموجود أخرى والعلم واحد في الحالتين لا تغير فيه بالزيادة والنقصان والظهور.
وصفات الفعل عندهم ما اشتق منه من أمر خارج عن الذات كالخالق والرازق فإنهما مشتقان من الخلق والرزق، وعندنا ما يجوز سلبه عنه في الجملة فانه كان في الأزل ولم يكن خالقا ورازقا، ولا نريد أنه يتجدد له صفاته حادثة كما زعمه طائفة من المعتزلة لأنه أجل وأعظم من أن يكون محل الحوادث بل نريد أنه يفعل هذه الأشياء ويوجدها من غير تغير في ذاته وحدوث صفة له، وزيادة البحث في باب صفات الفعل.
ص:240
1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور، فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع، والبصر على المبصر، والقدرة على المقدور، قال: قلت: فلم يزل الله متحركا؟ قال: فقال: تعالى الله، إن الحركة صفة محدثه بالفعل، قال: قلت فلم يزل الله متكلما؟ قال: فقال: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية، كان الله عز وجل ولا متكلم.(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ألم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم) قيل: علمه بالشيء قبل وجوده هو العلم بأنه سيقع لا العلم بأنه واقع لأنه جهل، أقول: الجهل إنما يلزم لو علم أنه واقع في غير وقته والحق أن علمه بما وقع وما هو واقع وما سيقع على نحو واحد من غير ترتب بالنظر إلى ذاته المقدسة المنزهة عن الامتداد الزماني ولواحقه من الماضوية والحالية والاستقبالية والتقدم والتأخر وإنما هذه الأمور يتحقق في المعلومات المتغيرة الزمانية المترتبة في حد أنفسها، فعلمه بما في القيمة كعلمه بما هو واقع الآن، وعلمه بما هو واقع الآن كعلمه بما وقع في زمن الطوفان من غير تغير وتفاوت في علمه أصلا.
(والسمع ذاته ولا مسموع (2) والبصر ذاته ولا مبصر) اختلف العلماء في أن السمع والبصر نفس
ص:241
العلم بالمسموعات والمبصرات أو صفة اخرى غيره؟ فذهب المحققون إلى الأول وذهب طائفة إلى الثاني وقالوا: ذكرهما مع العلم في كثير من الآيات والروايات وإثباتهما بالدليل بعد إثبات العلم بجميع المعلومات دليل على المغايرة والحق هو الأول لدلالة كثير من الروايات الآتية عليه وذكر الخاص مع العام شايع وإثباتهما بالدليل بعد إثبات عموم العلم للدلالة على تحقق هذا العلم المخصوص له سبحانه أعني العلم بالمسموع والمبصر من حيث أنه مسموع ومبصر حتى أنهما حاضران عنده على هذه الحيثية بالمشاهدة الذاتية بلا آلة كما أنهما حاضران عندك بالمشاهدة العينية والملاحظة الآلية، فإثبات السمع والبصر من حيث أنهما علم داخل تحت إثبات العلم مطلقا ومن حيث الخصوصية المذكورة مفتقر إلى دليل على حدة، فإن قلت: كما أنه تعالى عالم بالمسموع والمبصر بالحيثية المذكورة كذلك هو عالم بالملموس مثلا من حيث أنه ملموس فلم لا يطلق عليه اللامس للدلالة على أنه عالم بالملموسات بالحيثية المذكورة، قلنا: لا ريب في أنه عالم بها من هذه الحيثية لكن إطلاق الاسم عليه موقوف على الإذن حتى أنه لو لم يقع الإذن على إطلاق السميع والبصير عليه لما أطلقناهما عليه.
وقال بعض أصحابنا فإن قلت: لم يكن شيء من المسموعات والمبصرات في الأزل فلم يكن الله سميعا وبصيرا في الأزل (1) إذ لا يعقل سماع المسموعات الحادثة وإبصار المبصرات الحادثة
ص:242
في الأزل، قلنا إنه تعالى سميع وبصير في الأزل بمعنى أنه كان على وجه إذ أوجد المسموع والمبصر لأدركهما عند وجودهما.
أقول كل واحد من السؤال والجواب ليس بشيء أما السؤال فلأن السمع والبصر عبارة عن العلم والعلم بالشيء غير متوقف على وجوده. وقد يتحقق ذلك في أفراد البشر فكيف الباري الذي لا يخفى عليه شيء، وأما الجواب فلأن فيه اعترافا في الحقيقة بورود السؤال وأنه تعالى لا يدرك المسموع والمبصر قبل وجودهما وإشعارا بأن فيه جل شأنه استعدادا لحصول العلم والإدراك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(والقدرة ذاته ولا مقدور) لأنه تعالى كان في الأزل قادرا على الإيجاد في لا يزال (1) ولأن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وهذا أمر متحقق له في الأزل قبل وجود المقدور، وقد ظهر مما قرر أن هذه الصفات أزلية وأما أنها نفس ذاته المقدسة فلأنها لو كانت زائدة عليها فإن كانت وجوداتها واجبة لزم تعدد واجب الوجود بالذات وإن كانت ممكنة لزم افتقار الواجب الذات إلى الممكن، وبالجملة كان جل شأنه عليما سميعا بصيرا قديرا في الأزل بذاته المقدسة الأحدية لا بالمعنى المتعارف فينا، وإن لم يكن شيء من المعلومات والمسموعات والمبصرات والمقدورات موجودا فيه فذاته وعلمه وسمعه وبصره وقدرته شيء واحد وإنما يختلف بحسب اعتبارات يحدثها العقول بالقياس إلى المخلوقات، فإن ذاته المقدسة من حيث أنه لا يخفى عليها
ص:243
المعلومات علم ومن حيث أنه لا يخفى عليها المسموعات سمع وكذا البواقي.
(فلما أحدث الأشياء) بواسطة أو بغيرها (1) (وكان المعلوم) الظاهر أن «كان» تامة بمعنى وجد وإن في الكلام اختصارا أي كان المعلوم والمسموع والمبصر والمقدور (وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور) يعني وقع العلم على ما كان معلوما في الأزل وانطبق عليه لا على أمر يغايره ولو في الجملة، والمقصود أن علمه قبل الإيجاد هو بعينه علمه بعد الإيجاد والمعلوم قبله هو المعلوم بعينه بعده من غير تفاوت وتغير في العلم أصلا، وليس هناك تفاوت إلا تحقق المعلوم في وقت وعدم تحققه قبله. وليس المراد بوقوع العلم على المعلوم تعلقه به تعلقا لم يكن قبل الإيجاد لأن علمه تعالى متعلق به قبل الإيجاد وبعده على نحو واحد، وهذا الذي ذكره (عليه السلام) هو المذهب الصحيح الذي ذهب إليه الفرقة الناجية الإمامية وأكثر المخالفين، قال قطب المحققين في درة التاج: ذهب جمهور مشايخ أهل السنة والمعتزلة إلى أن العلم بأن الشيء سيوجد نفس العلم بذلك الشيء إذا وجد لأن من علم علما قطعيا بأن زياد يدخل البلد غدا عند طلوع الشمس مثلا يعلم بذلك العلم بعينه عند طلوع الشمس أنه دخل البلد، ولو احتاج أحدنا إلى تعلق علم آخر به فإنما احتاج إليه لطريان الغفلة عن العلم الأول والغفلة على الباري ممتنعة.
(قال: قلت: فلم يزل الله تحركا؟ قال: فقال: تعالى الله) من أن تعرضه الحركة (إن الحركة صفة محدثة بالفعل) لعل المراد بالتحرك التغير والانتقال من حال إلى حال فكان السائل توهم أن العلم والسمع والبصر والقدرة إذا كانت عين الذات ومتعلقها وهو المعلوم والمسموع والمبصر والمقدور يتغير ويتبدل من حال إلى حال كان العلم يعني الذات يتغير بتغيره من حال إلى حال أيضا فأجاب (عليه السلام) بأن الحركة صفة حادثة متعلقة بالفعل الحادث وهو المعلوم وأخواته دون الفاعل أعني الذات المقدسة (2) المنزهة عن طريان التغير والانتقال.
ص:244
وقيل: المراد بالتحرك والحركة هنا الإيجاد والخلق ومنشأ السؤال أن السامع لما سمع أن صفاته تعالى مثل العلم والسمع وغيرهما عين ذاته الأزلية، توهم أن الخلق والإيجاد أيضا عينها فتوهم أنه تعالى لم يزل خالقا موجدا فأجاب (عليه السلام) بأن صفاته القديمة الذاتية عين ذاته والخلق والإيجاد من الصفات الحادثة والفعلية.
أقول: لا مجال لهذا التوهم بعد سماع السائل قوله (عليه السلام) ولا معلوم ولا مسموع ولا مبصر ولا مقدور وقوله فلما أحدث الأشياء (قال: قلت: فلم يزل الله متكلما) توهم أن الكلام من الصفات الذاتية وأنه مثل العلم ونحوه عين ذاته (قال: فقال: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية كان الله تعالى ولا متكلم) اتفقت الامة على أنه تعالى متكلم وقد دلت عليه الآيات، والروايات من طرق العامة والخاصة وهم بعد ذلك اختلفوا في حدوثه وقدمه ومحله فذهب الإماميون رضوان الله عليهم أجمعين إلى أنه حادث لدلالة هذه الرواية وغيرها من الروايات المتكثرة المروية عن العترة
ص:245
الطاهرة على حدوثه ولأن الكلام عبارة عن الألفاظ المركبة والمعاني المرتبة ولا يعقل منه غيرهما ولا شك أن كل واحد منهما حادث وأيضا لو كان الكلام قديما لزم تحقق الخطاب والطلب في الأزل بدون المخاطب وأنه سفه لا يليق بجناب القدس، وإذا ثبت حدوثه ثبت أنه ليس عين ذاته تعالى لأن صفاته الذاتية الأزلية عين ذاته دون غيرها من الصفات الحادثة الفعلية ولا قايما بذاته تعالى لاستحالة حلول الحوادث فيه، بل هو قائم بالهواء أو بجبرئيل أو بالشجر أو بغيره من الأجسام الجمادية، وكونه تعالى متكلما عبارة عن إيجاد الكلام في هذه الأمور وأمثالها.
وأورد عليهم بعض متعصبي الأشاعرة الإيراد المشهور بين أصحابه وهو أنه لو جاز إطلاق المتكلم على شيء باعتبار كلام قائم بغيره لجاز إطلاق المتحرك عليه باعتبار حركة قائمة بغيره، ثم قال: والحق أن هذه المناقشة ضعيفة أما معنى فلأنه لا يمنع منه تعالى أن يخلق الأصوات المخصوصة في جسم حيواني أو جمادي ويجعلها دليلا على أنه تعالى مريد لشيء أو كاره له وأما لفظا فلأن النزاع إنما يرجع إلى أمر لغوي وهو أنه هل يصح بحسب اللغة إطلاق المتكلم على خالق تلك الأصوات في الأشياء المذكورة أم لا يصح بل يعتبر في صحة الإطلاق قيام المبدء المشتق منه به والأمر فيه هين فهذه المناقشة ليست بدافعة لقولهم وإنما الدافع له هو ثبوت الكلام النفسي القديم القايم بذاته تعالى.
أقول: لا دليل على اعتبار قيام المبدء ولا على ثبوت الكلام النفسي كما ستعرفه، وذهب الأشاعرة إلى أن له تعالى كلاما نفسيا قديما قايما بذاته كساير الصفات الذاتية عندهم ونحن لا نعرفه وهم أيضا لا يعرفونه وقد صدر ذلك عن لسان الأشعري مخالفا لجميع العقلاء السابقين، قال بعض أصحابنا ويؤيده ما نقل السيد معين الدين الايجي الشافعي في بعض رسائله عن بعض العلماء أنه قال ما تلفظ بالكلام النفسي أحد إلا في أثناء المائة الثانية ولم يكن قبل ذلك في لسان أحد انتهى.
ولا ريب في أن هذا إيراد على الأشاعرة واستدلوا على ذلك بأن كلامه تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلامه قديم وإذ ليس هو هذه الحروف المركبة ومعانيها المرتبة الدال عليها الفظ بحسب الوضع والتأليف لحدوثهما فهو أمر آخر، وهو المراد بالكلام النفسي القائم بذاته تعالى وأنت تعلم أن هذا الكلام لا طايل تحته لأن قولهم كلامه تعالى صفة له ممنوع وإنما يتم ذلك لو ثبت الكلام النفسي فإثباته من باب المصادرة على المطلوب ولو أثبتوه بأنه تعالى متكلم بالاتفاق والمتكلم في اللغة من قام به صفة التكلم والكلام، قلنا أولا لا نسلم أن المتكلم معناه ما ذكرته بل معناه فاعل الكلام واسم الفاعل معناه فاعل الفعل سواء قام به الفعل أو لا، ويؤيده ما ذكره الفخر الرازي في أوايل تفسيره الكبير من أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص جعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الاعتقادات والإرادات وعند هذا يظهر أن المراد من
ص:246
كون الإنسان متكلما بهذه الحروف مجرد كونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص انتهى.
وثانيا أن الموجود يطلق على الموجودات حقيقة مع أن الوجود عندكم عين تلك الموجودات لا صفة قائمة بها، وذهب الكرامية إلى أن كلامه (1) حادث قائم بذاته تعالى وهو يخلق الأصوات والحروف في ذاته. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كان الله عز وجل ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه.(2)
(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كان الله عز وجل ولا شيء غيره (3))
ص:247
ذكره في هذا الباب لإفادة أن صفاته الذاتية عين ذاته إذ لو كانت زايدة لكان معه غيره وأن جميع ما سواه حادث وقد دلت الأخبار المتواترة عن أهل الذكر (عليهم السلام) على أن من يقول بزيادة الصفات وتكثر المعاني فهو مشرك وأستدل الفخر الرازي على زيادتها بوجوه:
الأول: أن صفاته تعالى معلومة لنا وذاته غير معلومة لنا وغير المعلوم غير المعلوم فصفاته غير ذاته.
الثاني: لو كانت صفاته عين ذاته لكان قولنا الذات عالمة قادرة بمنزلة قولنا: الذات ذات فاستحال أن يكون ذلك محل البحث وأن يقام البرهان على نفيه وإثباته فإن من قال الذات ذات علم بالضرورة صدقه ومن قال: الذات ليست بذات علم بالضرورة كذبه، ولما كان قولنا الذات عالمة أو ليس بعالمة ليس بمثابة قولنا الذات ذات أو الذات ليس بذات علمنا أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات.
الثالث: لو كان الصفات عين الذات والذات شيء واحد كان الاستدلال على كونه قادرا يغني عن الاستدلال على كونه عالما وعلى كونه حيا، فلما لم يكن كذلك بل افتقرنا في كل صفة إلى دليل خاص علمنا أن الصفات امور زائدة على الذات.
الرابع: أن هذه الصفات ليس أمورا سلبية بل ثبوتية فهي امور حقيقية زايدة على ذاته قائمة بها.
ثم أورد على نفسه إشكالات، أحدها: أن اللازم من هذه الأدلة أن حقيقة الإله مركبة من أمور كثيرة فكيف القول فيه، وثانيها: أن الوحدة صفة زائدة على الذات قائمة بها وإذا كانت حقيقة الحق واحدة فهناك ثلاثة امور تلك الحقيقة والوحدة واتصاف الحقيقة بها، وكذا في الوجود والوجوب كثرة حاصلة بسبب الوجود والوجوب والمهية واتصاف المهية بهما، وثالثها: أن هذه الحقيقة هل يمكن الإخبار عنها أم لا والثاني محال لأن كل شيء يمكن الإخبار عنه ولو بالشيئية ونحوها فتعين الأول فهناك مخبر به ومخبر عنه لا أمر واحد، ثم أراد التفصي عنها بما أوحي الخبيث إلى نفسه فقال: والواجب عن الأول أنه تعالى ذاته موصوفة بهذه الصفات ولا شك أن المجموع مفتقر في تحققه إلى أجزائه إلا أن الذات قائمة بنفسها وواجبة بنفسها ثم إنها بعد وجوبها بعدية بالرتبة مستلزمة لتلك النعوت والصفات، وهذا مما لا امتناع للعقل فيه.
وعن الثاني أن لزوم التثبيت حق لكن فرق بين النظر إليه من حيث هو وبين النظر إليه من حيث
ص:248
أنه محكوم عليه بأنه واحد، فإذا نظرت إليه من حيث هو مع ترك الالتفات إلى أنه واحد، فهناك يتحقق الوحدة، وهنالك حالة عجيبة، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة وهذا هو الجواب أيضا عن إشكال الوجود والوجوب.
وعن الأخير أنك إذا نظرت إليه من حيث هو من غير أن تخبر عنه بنفي أو إثبات فهناك حق الوصول إلى مبادئ عالم التوحيد. انتهى كلام ذلك الفاضل الذي فضله الشيطان أفضل من فضلة فيه.
والجواب عن الأجوبة المذكورة أنها مشتملة على التناقض حيث جعل الذات الخالية عن الوحدة واحدة والذات المعراة عن الوجود والوجوب موجودة واجبة، وهكذا في سائر الصفات.
وعن الأدلة المذكورة أنه إما لم يفهم معنى عينية الصفات أو لم يفرق بين المفهومات الكلية وأفرادها أما الأول فلأن معنى كون صفات الواجب عين ذاته عند المحققين أن ذاته تنوب مناب تلك الصفات (1) ويرجع ذلك عند التحقيق إلى نفي الصفات وإثبات ثمراتها ونتايجها للذات وحدها بمعنى أن ما يترتب في الممكنات على الذات مع الصفات يترتب في الواجب على الذات وحدها على الوجه الأتم والأكمل وليس معناه أن تلك الصفات عين الذات حقيقة وحينئذ لا يدل شيء مما ذكر على نفي العينية بهذا المعنى وأما الثاني فلأن من قال أن تلك الصفات عين الذات حقيقة لم يرد أن المفهومات الكلية التي لهذه الصفات عين الذات حقيقة، مثلا لم يرد أن الوجود الذي يعبر عنه ببودن، والعلم بالمعنى الذي يعبر عنه بدانستن، وهكذا البواقي عين الذات بل أراد بالوجود مبدء الآثار وبالعلم مبدء الانكشاف، وقال: إن أفرادها في الممكنات زائدة على ذواتها بأن الوجود الخاص أعني مبدء الآثار في زيد زائد على ذاته والعلم الخاص أعني مبدء الانكشاف فيه
ص:249
زايد على ذاته فزيد ليس بوجود وعلم بل هو موجود وعالم بوجود وعلم زائدين على ذاته، وأما أفرادها في الواجب فهي عين ذاته، يعني أن ذاته بذاته مبدء الآثار ومبدء الانكشاف لا بصفة زائدة عليه فذاته بذاته وجود ووجوب (1) ووحدة وعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر إلى غير ذلك وكذا موجود وواجب وواحد وعالم وقادر حي وسميع بصير، لا يقال المشتق إنما يصدق على شيء باعتبار اتصافه بالمشتق منه لا على نفسه المشتق منه لأنا نقول: الحصر ممنوع إذ ليس من شرط صدق المشتق على شيء كالموجود والعالم أن يكون بإزائه في الخارج أمور ثلاثة موصوف وصفة واتصاف فلو فرض بياض مجرد قائم بذاته كان أبيض كما كان بياضا وكذا لو فرض ضوء كذلك كان مضيئا كما كان ضوء وكذا الحال في الوجود والعلم ونحوه خصوصا إذا أريد بهما معنى يعم العرض وغيره فإذا ثبت عقلا ونقلا وجود فرد منهما قائم بذاته وجب اتباعه وحينئذ لا دلالة فيما ذكره أولا على نفي العينية بهذا المعنى أيضا فإن ما نعلمه من كل صفة هو المفهوم الكلي دون كل فرد منه فلا يبعد أن يكون لهذا المفهوم فرد لا يكون معلوما لنا لغاية جلالته وعظمته فالدليل دل على أن تلك المفهومات الكلية ليست عين ذاته الواجب ولا نزاع فيه والنزاع إنما هو في عينية أفرادها مع الذات والدليل يدل على نفيها.
وكذا لا دلالة فيما ذكره ثانيا وثالثا على نفيها لأن ذلك مبني على الخلط بين المفهوم الكلي والفرد إذ لو كان المراد أن الذات بذاتها عين المفهومات الكلية كان لما ذكره وجه في الجملة، وأما إذا كان المراد أن الذات بذاتها عين أفراد تلك المفهومات فهو في غاية السقوط لأن قولنا الذات عالمة حينئذ بمنزلة قولنا الذات عين فرد لهذا المفهوم لا أن الذات ذات والاستدلال عليه لا يغني عن الاستدال على أنها عين فرد لمفهوم آخر كما لا يخفي والعينية بين الأفراد لا ينافي التغاير بين المفهومات والشبهة نشأت من سوء اعتبار الحمل أيضا فإن المفهومات المتغايرة لا يحمل بعضها على بعض وقد يحمل كل واحد منها على أفراد الباقي بالحمل المتعارف.
ص:250
فنفس مفهوم الموجود لا يحمل عليها مفهوم الواحد ولا بالعكس بأن يقال مفهوم الموجود مفهوم الواحد، ولكن يقال: كل موجود واحد وكذا العكس، فهكذا قياس صفاته الكمالية.
وأما ما ذكره أخيرا من أن تلك الصفات أمور حقيقية زايدة على ذاته قائمة بها فهو أول البحث لأن القائل بالعينية يمنع ذلك ويقول: يجوز أن يكون لتلك الصفات فرد قائم بذاته من غير قيام بشيء به (ولم يزل عالما بما يكون) من الكليات والجزئيات وقد أنكر بعض المبتدعة علمه بالجزئيات وقال: لو علم أن زيدا في الدار فإن بقي هذا العلم بعد خروجه عنها كان ذلك العلم نفس الجهل لزوال المعلوم دون العلم وإن لم يبق بل زال وحدث علم آخر بخروجه لزم مع حدوث التغير في علمه كونه محلا للحوادث.
أقول: ولقد كان احتباس نفسه عند التكلم بهذا الكلام بالموت ونحوه خيرا له من الدنيا وما فيها أما علم أن الله تعالى لما كان عالما بكل شيء كما هو كان عالما بكون زيد في الدار في وقت معين وبخروجه عنها بعد ذلك الوقت، وكان هذا العلم ثابتا لم يزل وباقيا لا يزال.
وقال قطب المحققين في درة التاج: زعم هشام بن الحكم أنه تعالى يعلم المهيات في الأزل ويعلم أفرادها عند وجودها (1) واستدل عليه بأنه لو علم الجزئيات قبل وجودها لزم سلب القدرة عنه تعالى وعن العبد لأن ما علم وجوده وجب وجوده وسلب القدرة ينفي الربوبية والعبودية والوعد والوعيد والثواب والعقاب وبعث الرسل وإنزال الكتب وأجاب عنه بأن العلم تابع للمعلوم
ص:251
لا علة له، فإن قلت: علمه بالأشياء في الأزل عبارة عن حضورها بعينها عنده وعدم غيبتها عنه وكيف يصح ذلك مع القول بحدوثها قلت: قد عرفت وجه ذلك فيما ذكرناه آنفا ونحن نقتصر هنا على كلمة إذا تأملت فيها حق التأمل وجردت ذهنك اللطيف عن الأحكام الوهمية علمت أن علمه الأزلي بالحوادث لا ينافي حدوثها ولا يقتضي قدمها وتلك الكلمة هي أنه تعالى شأنه عالم اليوم بالشيء الذي يوجد غدا وذلك الشيء حاضر عنده اليوم (1) كما أنه حاضر عنده غدا لا لأنه موجود اليوم بل لأنه تعالى لما لم يكن زمانيا (2) كان نسبته إلى اليوم والغد على السواء تأمل تعرف.
(فعله به) أي بما يكون (قبل كونه كعلمه به بعد كونه) لأن علمه عين ذاته تعالى فكما أن ذاته لا تتغير ولا تتبدل ولا تزيد ولا تنقص ولا تشد ولا تضعف أزلا وأبدا بوجود الكائنات وعدمها كذلك علمه بالكائنات قبل وجودها وبعد وجودها على نحو واحد وانكشاف تام لا يعزب عنه مثال ذرة، والتغير إنما هو في المعلومات لاتصافها بالعدم تارة وبالوجود اخرى، واما ما كان علمه بها بنفس ذاته المقدسة التي هي العلم بجميعها فلا يزداد بوجودها بعد عدمها ولا يختلف بوجه من الوجوه ولا يتجدد ولا يتحقق التفاوت فيه بين الحالين بالإجمال والتفصيل.
ص:252
3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن الكاهلي قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إلي: لا تقولن منتهى علمه فليس لعلمه منتهى ولكن قل: منتهى رضاه.(1)
(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن الكاهلي) عبد الله بن يحيى الكاهلي وكاهل أبو قبيلة من أسد وهو كاهل بن أسد بن خزيمة (قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام)) يعني الأول (في دعاء: الحمد لله منتهى علمه فكتب إلي لا تقولن منتهى علمه فليس لعلمه منتهى) ينتهي إليه لأن علمه من الصفات الذاتية التي ليس لها حد ونهاية ولدلالة هذا الحديث على أن العلم من الصفات الذاتية دون الفعلية التي لها نهاية ذكره في هذا الباب.
(ولكن قل: منتهى رضاه) من الصفات الفعلية التي لها نهاية لكونه متعلقا بأفعال العباد وهي متناهية ومن ثم قيل: إن تمام الكمالات الإنسانية هو منتهى رضاه من عباده، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وأوصاكم - يعني الله سبحانه - بالتقوى وجعلها منتهى رضاه (2)» وقال أيضا «جعل الله فيه - يعني في الإسلام - منتهى رضوانه (3)» وذلك لأن فيه أتم وسيلة للوصول إليه جل شأنه وهو منتهى رضاه من خلقه، وبالجملة منتهى رضاه من عباده هو إتيانهم بالمأمورات والاجتناب عن المنهيات وذلك أمر له نهاية.
4 - محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله; عن محمد بن عيسى، عن أيوب بن نوح
ص:253
أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله عز وجل أكان يعلم الأشياء قبل أن يخلق الأشياء وكونها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عندما خلق وما كون عندما كون؟ فوقع بخطه: لم يزل الله عالما بالأشياء، قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء.(1)
أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله تعالى أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكونها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عندما خلق وما كون عندما كون؟) إنما سأل عن ذلك لوقوع الخلاف فيه ممن لا يعتد به كما ستعرفه.
(فوقع (عليه السلام) بخطة: لم يزل الله تعالى عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء) أزلية علمه تعالى بالأشياء عقيدة أهل الإسلام (1) والدليل عليه وراء الأحاديث الإجماع والأدلة العقلية المذكورة في كتب الكلام قال أبو عبد الله الآبي في كتاب إكمال الإكمال:
ولم يخالفهم في ذلك إلا شرذمة قليلون نشأوا في آخر زمن الصحابة وقالوا الأمر انف أي مستأنف مبتدأ، يعني أن الله تعالى يعلم الأشياء أزلا وهم قد اختلفوا فقال بعضهم أنه يعلمها قبل أن يخلقها بمعنى أنه إذا أراد إيجاد شيء أحدث لنفسه علما خارجا عن ذاته قبل إيجاده ذلك الشيء بزمن ثم يوجده إذ لا يتأتى الإيجاد بدون العلم، فالعلم عنده متقدم على الوقوع، وقال بعضهم: إنه يعلمها بعد وقوعها وهما اتفقا في حدوث العلم واختلفا في التقدم والتأخر، وقيل: إنهم لقبح مذهبهم رجعوا عنه، وقال البلخي: إن القائلين بهذا المذهب انقرضوا جميعهم ولم يبق منهم أحد وكانوا
ص:254
احتجوا عليه بأنه تعالى لو كان عالما بالتكذيب لكان في الإرسال عابثا واحتج عليهم البخاري بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سئل عن أولاد الكفار الله أعلم بما كانوا عاملين يعني لو بلغوا سن التكليف والجواب عن استدلالهم العبث ممنوع لأن في الإرسال قطعا لعذرهم وإكمالا للحجة عليهم ولأن تعذيبهم منوط بالإرسال لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (1)
5 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله: أن مواليك اختلفوا في العلم فقال بعضهم: لم يزل الله عالما قبل فعل الأشياء، وقال بعضهم:
لا نقول: لم يزل الله عالما، لأن معنى يعلم يفعل فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئا. فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه؟ فكتب (عليه السلام) بخطه: لم يزل الله عالما تبارك وتعالى ذكره.(2)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله: أن مواليك) أي شيعتك وأنصارك (اختلفوا في العلم فقال بهم: لم يزل الله عالما (3) قبل فعل الأشياء وقال بعضهم لا نقول لم يزل الله عالما لأن معنى يعلم يفعل) أي يفعل العلم ويوجده بناء على أن العلم إدراك والإدراك فعل وكان هذا القائل توهم أن العالم من الصفات الفعلية مثل الخالق ونحوه وتحقق الصفات الفعلية يقتضي أن يكون معه غير فلذلك قال (فإن أثبتنا العلم) وقلنا إنه كان لم يزل عالما (فقد أثبتنا في الأزل معه شيئا) وهو العلم الذي مصنوع له وزايد عليه وهذا باطل لأنه متفرد بالوجود في الأزل حيث كان ولم يكن معه شيء وأنت تعلم أن هذه الشبهة نشأت من مزج الحق بالباطل كما هو حال جميع الشبهات، أما الحق فهو الاعتقاد بأن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، وأما الباطل فهو الاعتقاد بأن العالم صفة فعل يطلق على من يوجد العلم، كما أن الخالق يطلق على من يوجد الخلق ووجه بطلان أن العالم إذا أطلق عليه سبحانه كان من صفاته الذاتية التي يراد بها نفس الذات دون الذات مع صفات موجود قائمة بها
ص:255
نعم ما ذكره له معنى إذا أطلق العالم على الإنسان فقد اشتبه عليه حال الواجب بحال الممكن وقد يوجه قوله «معنى يعلم يفعل» بوجه آخر وهو أن معنى يعلم بحسب اللزوم يفعل يعني يعلم يستلزم يفعل بناء على أن العلم بالمعدوم ممتنع، فإذا قلنا بتحقق العلم في الأزل وجب أن يتحقق المفعول المعلوم فيه أيضا بعينه ووجوده فقد أثبتنا مع الله غيره وهو المعلومات.
(فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه) جواب الشرط محذوف أي فعلت أو تطولت أو نحو ذلك (فكتب (عليه السلام) بخطه لم يزل الله عالما تبارك) أي تطهر عن عيب الجهل وغيره (وتعالى ذكره) عما ينسبه إليه ألسنة الجاهلين ومنهم أبو الحسين البصري.
قال القطب في كتاب درة التاج: ذهب أبو الحسين البصري إلى أن ذاته تعالى تقتضي العلم بالأشياء بشرط وجودها فيحدث له العلم بها عند وجودها لتحقق الشرط ويزول العلم عنه عند زوالها ويحدث علم آخر لزوال الشرط، وما أفاد (عليه السلام) من أن ذاته تعالى في الأزل علم بذاته وبجميع الأشياء يبطل أمثال هذه الأقاويل المزخرفة.
6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عبد الصمد بن بشير، عن فضيل بن سكرة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) جعلت فداك إن رأيت أن تعلمني هل كان الله جل وجهه يعلم قبل أن يخلق الخلق أنه وحده؟ فقد اختلف مواليك فقال بعضهم: قد كان يعلم قبل أن يخلق شيئا من خلقه وقال بعضهم: إنما معنى يعلم يفعل فهو اليوم يعلم أنه لا غيره قبل فعل الأشياء فقالوا: إن أثبتنا أنه لم يزل عالما بأنه لا غيره فقد أثبتنا معه غيره في أزليته؟ فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني ما لا أعدوه إلى غيره؟ فكتب: ما زال الله عالما تبارك وتعالى ذكره.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عبد الصمد ابن بشير، عن فضيل بن سكرة) بضم السين المهملة وفتح الكاف المشددة.
(قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) الظاهر أن قلت على سبيل المكاتبة كما يشعر به آخر الحديث (جعلت فداك إن رأيت أن تعلمني هل كان الله جل وجهه) أي عظمت ذاته المقدسة وارتفعت عن إدراك العقول والحواس لها (يعلم قبل أن يخلق الخلق أنه وحده) أي أنه متفرد في الوجود الذاتي لا شريك له، أو أنه موجود حال كونه متفردا في الوجود فوحده على الأول خبر «أن» وعلى الثاني حال والخبر محذوف. (فقد اختلف مواليك فقال بعضهم: قد كان يعلم) نفس ذاته ووحدته لاستحالة الجهل عليه (قبل أن يخلق شيئا من خلقه) وإذا علم ذلك علم جميع الأشياء قبل أن
ص:256
يخلقها لأن ذاته الحقة علم بجميع الأشياء فعلمه بذاته علم بها أيضا (1) كما بين في موضعه.
(وقال بعضهم إنما معنى يعلم يفعل) فلو علم قبل الخلق أنه وحده لزم أن لا يكون وحده لما ستعرفه (فهو اليوم يعلم أنه لا غيره قبل فعل الأشياء) أي فهو اليوم بعد خلق الأشياء يعلم أنه كان واحدا قبل خلق الأشياء، لم يشاركه شيء في الوجود الأزلي لأن علمه بحدوث الأشياء يستلزم علمه بعدم مشاركة شيء معه في الوجود الأزلي وهذا معنى علمه بوحدته (فقالوا) لإثبات ما ادعوه من أنه لا يعلم في الأزل أنه وحده، وهذا القول بناء على ما زعموا من أن العالم من الصفات الفعلية الدالة على ثبوت صفة زائدة على الموصوف كما في الإنسان أو أن علمه بأنه وحده لا غيره يقتضي وجود ذلك الغير لأن تعلق العلم بلا شيء ممتنع. (إن أثبتنا أنه لم يزل عالما بأنه لا غيره فقد أثبتنا معه غيره في أزليته) وذلك الغير هو العلم الذي هو فعله تعالى أو المعلوم، وهذا باطل لأنه متفرد بأزلية الوجود ولأن علمه بأنه لا غيره يستلزم جهله لثبوت الغير معه.
(فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني ما لا أعدوه إلى غيره؟ فكتب (عليه السلام) ما زال الله عالما تبارك وتعالى ذكره) أشار (عليه السلام) إلى المذهب الصحيح الذي لا يجوز لأحد التجاوز عنه وهو أنه تعالى كان
ص:257
في الأزل عالما بذاته وبأنه وحده لا غيره (1)، ولا بالأشياء قبل وجودها كليها وجزئيها، وحقايقها المتميزة بعضها عن بعض، وخواصها وآثارها، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ص:258
ذكر فيه ما في الباب الأول من الصفات الذاتية وعينيتها مع زيادة، وهي أنه لا تشبيه ولا تركيب ولا تجزئة ولا تبعيض ولا صفة فيه جل شأنه وأنه مرجع جميع ما سواه.
1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن حماد، عن حريز عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال في صفة القديم: إنه واحد صمد أحدي المعنى، ليس بمعاني كثيرة مختلفة، قال: قلت: جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي يبصر ويبصر بغير الذي يسمع قال: فقال: كذبوا وألحدوا وشبهوا تعالى الله عن ذلك، إنه سميع بصير يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع، قال: قلت: يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه، قال فقال: تعالى الله إنما يعقل ما كان بصفة المخلوق وليس الله كذلك.(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال في صفة القديم أنه واحد) متنزه عن التركيب الخارجي والذهني والتعدد وما يتبعها من الجسمية والتحيز وغيرهما (صمد) مرجع لجميع الكائنات لكون وجوده وكماله نفس ذاته ووجوداتها وكمالاتها مستندة إليه.
(أحدي المعنى) قد يراد به أنه لا يشاركه شيء في وجوده ووجوبه وربوبيته وغيرها من الصفات الذاتية والفعلية وقد يراد به أنه ليس له صفات زايدة على ذاته فعلى الأول قوله (ليس بمعاني كثيرة مختلفة) تأسيس، وعلى الثاني تفسير وتأكيد يعني ليس هو موصوفا بصفات متعددة مختلفة زايدة عليه لتنزهه عن الاتصاف بالصفات والاحتياج إليها، ولحوق النقص به في مرتبة ذاته، ومشاركة الغير معه في القدم والوجود الأزلي، ولما علم محمد بن مسلم أنه لا يتصف بالمعاني المختلفة استعلم عن قول من أثبتها له فلذلك:
ص:259
(قال: قلت: جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع) يعني يزعمون أن له معنيين مختلفين ووصفين متغايرين يسمع بأحدهما ويبصر بالآخر فهو عندهم موصوف بمعاني مختلفة وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أنهم يزعمون أنه يسمع بالأذن ويبصر بالعين كالإنسان، وثانيهما أنهم يزعمون أن سمعه وبصره إدراكان قائمان به من غير آلة (قال: فقال كذبوا) على الله «ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة» (وألحدوا) حيث عدلوا عن منهج الصواب في معرفة الصانع (وشبهوا) حيث أجروا عليه أحكام الخلق، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «قال الله عز وجل ما آمن بي من شبهني بخلقي» (1).
(تعالى الله عن ذلك، إنه سميع بصير يسمع بما يبصر ويبصر يما يسمع) أي يسمع بما به يبصر ويبصر بما به يسمع، يعني يسمع ويبصر بنفس ذاته الحقة المجردة عن شائبة التكثر والتوصيف، وهذا الجواب دافع لكلا الاحتمالين ولكن لما فهم ابن مسلم من قوله (عليه السلام) شبهوا أنه أجاب عن سؤاله على الاحتمال الأول وحكم بأن ذلك يوجب تشبيهه تعالى بخلقه في الجسمية والافتقار إلى الآلة أعاد السؤال لبيان أن المراد هو الاحتمال الثاني فلذلك:
(قال: قلت: يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه) (2) أي يزعمون أنه بصير على الوجه الذي يعقلونه من معنى البصر وهو الذي يعبر عنه بالفارسية ب (ديدن) ويعقلون الواجب بهذا الوجه ويقولون لا معنى للبصر غير هذا المعنى وهذا المعنى أمر متحقق ثابت له قائم به بلا آلة العين ويزعمون أنه سميع على مثل هذا الوجه.
(قال: فقال تعالى الله إنما يعقل) على البناء للمفعول أي إنما يعقل بهذا الوجه (ما كان بصفة المخلوق وليس الله كذلك) أي بصفة المخلوق فتعقله بهذا الوجه أيضا تشبيه له بخلقه وفي بعض
ص: 260
النسخ على ما يفعلونه وإنما يفعل بالفاء والعين المهملة بعدها يعني يزعمون أنه بصير على ما يفعلونه ويوجدونه من الإدراك البصري الذي يقوم بهم فمعنى أنه تعالى بصير أنه يوجد الإدراك الذي يقوم به فيكون البصير من الصفات الفعلية كما قيل مثل ذلك في العلم وتقرير الجواب واضح.
2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم قال في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) أنه قال له: أتقول: إنه سميع بصير؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو سميع بصير، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه، ويبصر بنفسه وليس قولي: إنه سميع بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر ولكني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا فأقول: يسمع بكله لا أن كله له بعض لأن الكل لنا [له] بعض ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك كله إلا أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم، قال: في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) أنه قال له أتقول: إنه سميع بصير) توهم أنه يقول هو سميع بصير بالآلتين المعروفتين وقصده من هذا السؤال هو حمله (عليه السلام) على الإقرار به ليورد عليه أنه حينئذ شبيه بالخلق.
فكما أنه لا يحتاج إلى الموجد كذلك الخلق لا يحتاجون إلى الموجد فلا يثبت وجود الصانع (فقال أبو عبد الله (عليه السلام)) لدفع ذلك التوهم وإرشاده إلى الحق الصريح والقول الصحيح (هو سميع بصير سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة) لتنزهه عن الأحوال البشرية والعوارض البدنية واللواحق الحيوانية (بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه) ولدفع ما عسى أن يتوهم من إضافة النفس إليه أنه شيء والنفس شيء آخر قال: (وليس قولي إنه سميع بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر) وهو يسمع بذلك الشيء الآخر كالإنسان.
(ولكني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك) أي أردت إفهاما لك (إذ كنت سائلا) الخبير العارف إذا سئل عن البسيط الصرف لا بد له من الإتيان بعبارات مناسبة لتفهيم السائل جاذبة له إلى الطريق الحق ولكن لما كانت العبارات مغياة بغايات خيالية ومشعرة بتركيب
ص:261
وأجزاء عقلية أو خارجية يتنزه ذات ذلك البسيط عنها وجب عليه جذب السائل عما يفيده ظاهر العبارة وهدايته إلى ما هو المقصود منها فلذلك نبهه (عليه السلام) على براءة الحق عما يفيده ظاهر الكلام المذكور وأرشده إلى ما هو المقصود منه بقوله (فأقول يسمع بكله) لا ببعضه كما يفهم من ظاهر الكلام المذكور ولما كان لفظ الكل أيضا مشعرا بالتركيب دفعه بقوله (لا أن كله له بعض) يسمع هو بجميع أجزائه أو ببعضها.
(لأن الكل لنا بعض) تعليل للنفي يعني أن الكل لنا بعض فإن الإنسان مركب من أجزاء خارجية هي الأعضاء والجوارح والنفس ومن أجزاء ذهنية هي الجنس والفصل فلو كان كله له بعض وقع التشابه بيننا وبينه وليس كمثله شيء، ويحتمل أن يكون تعليلا للمنفي يعني لا يتوهم أن كله له بعض لأجل أن الكل المعروف لنا له بعض لأن الكل فينا عبارة عن مجموع الأجزاء والكل فيه عبارة عن ذاته المقدسة المنزهة عن أنحاء التركيب والتعدد.
(ولكن أردت إفهامك) بما يناسبك (والتعبير عن نفسي) فوقع توهم التركيب في العبارة لا في المقصود منها (وليس مرجعي في ذلك كله) أي في قولي يسمع بنفسه ويسمع بكله (إلا أنه السميع البصير) لانكشاف المسموعات والمبصرات على أكمل وجه عند ذاته المجردة عن شوائب التكثر (العالم الخبير) تفسير للسميع البصير وتوضيح لما هو المقصود منهما (بلا اختلاف الذات) بالتركيب والتجزئة والتبعيض (ولا اختلاف معنى) أي ولا اختلاف الصفات فإن صفاته عين ذاته فإن ذاته علم باعتبار حضور المعلومات وسمع وبصر باعتبار ظهور المسموعات والمبصرات وكذلك البواقي، وهذا هو التوحيد المطلق الذي هو عبارة عن نفي الاختلاف والتعدد والتكثر بحسب الذات والصفات على الإطلاق وقد مر شرح هذا الحديث في باب إطلاق القول بأنه شيء.
ص:262
الظاهر أن «باب الإرادة» مبتدء و «أنها» خبره ويحتمل أن يكون «باب الإرادة» خبر مبتدأ محذوف و «أنها» بدل الإرادة (وساير صفات الفعل) عطف على الإرادة وهو رحمه الله يذكر في هذا الباب ضابطة للفرق بين صفات الفعل وصفات الذات.
1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت: لم يزل الله مريدا؟ قال: إن المريد لا يكون إلا لمراد معه، لم يزل [الله] عالما قادرا ثم أراد.(1)
(محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: لم يزل الله تعالى مريدا؟ قال: إن المريد لا يكون إلا لمراد معه) فلو كانت إرادته أزلية كان مراده أيضا أزليا فلزم أن يكون معه غيره في الأزل وهو باطل.
(لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد) فالإرادة من صفات الفعل التي يصح سلبها عنه في الأزل. ولا يلزم منه نقص لا من صفات الذات المعتبرة له في الأزل مثل العلم والقدرة، فان نفيهما عنه يوجب النقص عنه وهو الجهل والعجز، وثبوتهما لا يوجب وجود المعلوم والمقدور معه، لا يقال قوله: ثم أراد دل على اتصافه بإرادة حادثة كما هو مذهب طايفة من المعتزلة وهو باطل لا ستحالة اتصافه بالحوادث لأنا نقول المراد بالإرادة الحادثة نفس الإيجاد والإحداث كما ينطق به الحديث الآتي، لا يقال تخصيص الإيجاد بوقت دون وقت لا بد له من مخصص والمخصص هو الإرادة فلو كانت الإرادة نفس الإيجاد دار لأنا لا نسلم أن المخصص هو الإرادة بل هو الداعي أعني العلم بالنفع والمصلحة والإيجاد في هذا الوقت دون غيره وفي الحديث دلالة واضحة على أن الإرادة غير العلم والقدرة كما هو مذهب الأشاعرة خلافا للمحققين منهم المحقق الطوسي (رحمه الله) فانهم ذهبوا إلى
ص:263
أن الإرادة هي الداعي يعني العلم بالنفع والمصالح، ويمكن أن يقال، الإرادة يطلق على معنيين كم صرح به بعض الحكماء الإلهيين (1) أحدهما الإرادة الحادثة وهي التي فسرت في الحديث بأنها نفس الإيجاد وإحداث الفعل، وثانيهما الإرادة التي هي من الصفات الذاتية التي لا تتصف الذات بنقيضها أزلا وأبدا وهي التي وقع النزاع فيها فذهب جماعة منهم المحقق إلى أنها نفس علمه الحق بالمصالح والخيرات وعين ذاته الأحدية، وذهب الأشاعرة إلى أنها صفة غير العلم.
2 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم، عن بكير بن أعين قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): علم الله ومشيئته مختلفان أو متفقان؟ فقال: العلم ليس هو المشيئة ألا ترى أنك تقول: سأفعل كذا إن شاء الله ولا تقول: سأفعل كذا إن علم الله فقولك إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء وعلم الله [ال] - سابق المشيئة.(2)
(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم، عن بكير بن أعين، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) علم الله ومشيته هما مختلفان أو متفقان فقال: العلم ليس هو المشية) الظاهر بالنظر إلى عنوان الباب وآخر الحديث أن المراد بهذه المشيئة الإرادة الحادثة التي هي نفس الإيجاد لا الإرادة القديمة بكل خير التي هي ذاته وعين علمه بالخيرات عند المحققين والمغايرة بين الإرادة الحادثة والعلم ظاهرة لأن الإرادة الحادثة من الصفات الفعلية والعلم من الصفات الذاتيه، ثم أشار إلى توضيح الفرق بمثال هو بمنزلة التعليل له فقال:
ص:264
(ألا ترى أنك تقول: سأفعل كذا إن شاء الله (1) ولا تقول: سأفعل كذا إن علم الله) ولو كانت المشيئة بمعنى العلم لصح هذا القول كما صح ذلك، ولما لم يصح علم أنها غيره، أما الملازمة فظاهرة وأما صحة ذلك القول فلأنه لا خلاف فيها ولأن قولك إن شاء الله دل على عدم مشيته بمعنى الإيجاد بتوسطك الفعل المطلوب بعد وإلا لكان ذلك الفعل واقعا موجودا وهو خلاف الغرض وأنت في تعلقها به في الاستقبال شاك غير عالم به.
وهذا معنى صحيح ولو قلت بدل ذلك: إن علم الله دل هذا القول على عدم تعلق علمه بذلك الفعل في الحال وعلى شكك في تعلقه به في الاستقبال وكل هذا باطل لأنك تعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة أزلا وأبدا وإلى ما ذكرنا أشار إجمالا بقوله (فقولك إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ) أي لم يشأ ذلك الفعل المطلوب لك بعد، ووجه الدلاله أنه لو شاءه لكان موجودا لا متناع تخلف متعلق مشيته عنها وليس كذلك وإلى هذا الوجه أشار بقوله (فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء) فالفاء للتعليل وبيان لدلالة إن شاء الله على ما مر، ويحتمل أن يكون هذا الكلام إشارة إلى شيء آخر دل عليه إن شاء الله وهو أن إن شاء الله دل على أنه لم يشأ بعد وعلى أنه إذا شاء في الاستقبال وجد ما شاء كما شاء من غير أن يتخلف عن مشيته بنحو من الأنحاء ومثل هذا المعنى الذي دل عليه إن شاء الله لا يجري في علم الله، فلا يجوز استعمال إن علم الله بدلا عنه فعلم المغايرة بين العلم والمشية.
(وعلم الله سابق المشية) يحتمل نصب المشية على المفعولية وجرها بالإضافة من باب إضافة الصفة إلى المفعول فعلى الأول سابق ماض معلوم من المسابقة، وعلى الثاني اسم فاعل من السبق.
وفي بعض النسخ المصححة المعتبرة «السابق المشية» بنصب المشية على أنها مفعول اسم
ص:265
الفاعل المعرف باللام، وفي بعضها «سابق للمشية» ومعنى الجميع واحد وهو أن علم تعالى سابق على مشيته وإرادته التي هي الإيجاد فليست مشيته المتأخرة نفس علمه المتقدم عليها وهذا الكلام كالتأكيد لما فهم من الكلام السابق أو كالنتيجة له أو دليل آخر على أن مشيته غير علمه.
فإن قلت هل يجوز أن يراد بالمشية في السؤال والجواب الإرادة التي هي عين ذاته المتعلقة بكل خير ومصالح أم لا؟ قلت: الظاهر لا لأن هذه الإرادة هي عين علمه بكل خير عند المحققين لا صفة زائدة عليه ولأن إرادة هذه الإرادة لا توافق ظاهر قوله: «إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ» إذ معناه حينئذ سأفعل كذا إن كان هذا الفعل من الخيرات التي تعلقت إرادته الذاتية الحقة بأنها خير وعدم وجود هذا الفعل في زمان التكلم لا يدل على أنه لم يتعلق إرادته الذاتية بأنه خير من الخيرات وإنما يدل ذلك على أنه لم تتعلق به الإرادة الحادثة التي هي عين الإيجاد وكذا لا توافق ظاهر قوله «وعلم الله سابق المشية» لأن سبق علمه تعالى على المشية بهذا المعنى غير ظاهر بل غير متصور.
3 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: قلت: لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل. وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لانه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له.(1)
(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام):
أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق) سأل عن الفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الخلق وطلب معرفة حقيقتهما.
(قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير) أي تصور الفعل وتوجه الذهن إليه (وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل) «من» صلة ليبدو لا بيان لما، لأن الفعل هو المراد دون الإرادة، اللهم إلا أن يراد بالفعل مقدمات الإرادة (2) مثل تصور النفع والإذعان به والشوق إليه والعزم له وتحريك القدرة إلى
ص:266
تحصيل الفعل المراد والحاصل أن إرادة الخلق عبارة عن تصور الفعل ثم تصور النفع سواء كان النفع عقليا أو خياليا أو عينيا أو دنيويا أو اخرويا، ثم التصديق بترتب ذلك النفع على ذلك الفعل والإذعان به إذعانا جازما أو غير جازم، ثم الشوق إليه، ثم العزم الراسخ المحرك للقوة والقدرة المحركة للعضو إلى تحصيل الفعل على ما ينبغي فالفعل يصدر عن الخلق عن هذه المبادي المترتبة التي هي عبارة عن إرادتهم التامة المستتبعة له.
(وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك) يعني أن إرادته بسيطة وهي إحداث الفعل وإيجاده على وجه يوافق القضاء الأصلي ويطابق العلم الأزلي من الكمال والمقدار والخواص والآثار لا مركبة من الأمور المذكورة في إرادة الخلق ولا شيء منها (لأنه لا يروي) أي لا يفعل باستعمال الروية يقال: رويت في الأمر تروية أي نظرت فيه ولم أتعجل والاسم الروية بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء (ولا يهم) أي لا يقصده من هم الشيء يهم بالضم إذا قصده والاسم الهمة (ولا يتفكر) ليعلم حسنه وقبحه والحاصل أنه لا ينظر إلى الفعل ليعلم نفعه ووجه حسنه ولا يهمه بالشوق والعزم المتأكد ولا يتفكر ولا يتأمل فيه ليعرف حسن عاقبته لتنزه قدسه عن استعمال الرأي
ص:267
وإجالة الهمة وتحريك الشوق والعزم وارتكاب التعمق في الأمور والتفكر في أمر عاقبتها.
(وهذه الصفات منفية عنه) لأنها من لواحق النفوس البشرية وتوابع الجهل ونقصان العلم وهو سبحانه منزه عن جميع ذلك (وهي صفات الخلق) لاحتياجهم في تحصيل مقاصدهم وتكميل أفعالهم على وفق مطالبهم إلى حركات فكرية وهمة نفسانية وأشواق روحانية وآلات بدنية بحيث لو فقدت إحداها بقوا متحيرين جاهلين لا يجدون إلى وجه الصواب دليلا ولا إلى طريق الفعل سبيلا.
(فإرادة الله تعالى الفعل) أي الإيجاد (1) والاحداث (لا غير ذلك) من الضمير المشتمل على
ص:268
المعاني المذكورة والفاء للتفريع لأن مدخولها نتيجة للمقدمات السابقة، ثم أشار إلى كيفية إيجاده للأشياء وتنزهه عن صفات الخلق تأكيدا لما سبق بقوله (يقول له) لما أراد وجوده لعلمه بما فيه من المصلحة (كن فيكون) قوله «كن» إشارة إلى حكمه وقدرته الأزلية ووجوب الصدور عن تمام مؤثريته. وقوله «فيكون» إشارة إلى وجود ودل على اللزوم وعدم التأخر بالفاء المقتضية للتعقب بلا مهلة.
(لا لفظ ولا نطق بلسان) أي يقول ذلك بلا صوت يقرع ولا نطق يسمع، لأن اللفظ والنطق واللسان من خواص الخلق المنزه قدسه عنها، وينبغي أن يعلم أن إطلاق القول عليه كإطلاق الكلام فأما اللفظ والنطق فلما كانا عبارة عن إخراج الحروف عن الآلة المعدة لهما وهي اللسان والشفة وغيرهما كانا لا يصدقان في حقه تعالى لعدم الآلة هناك والشارع لم يأذن في إطلاقهما عليه لأن دلالتهما على الآلة المذكورة أقوى من دلالة القول والكلام عليها.
(ولا همة) الهمة ملكة تحت الشجاعة وهي العزم الجازم المتأكد في تحصيل الإنسان ما ينبغي أن يحصله من تعرف الأمور واختيارها والنظر في مصادرها ومواردها وتحديق البصيرة نحو الأمور المعقولة وإرسال الوهم والخيال وسائر الحواس نحو المعاني والصور المحسوسة المعينة لدرك المقاصد والمطالب مع التألم والغم والهم بسبب فقدها والله سبحانه منزه عن هذه الامور.
(ولا تفكر) لأن التفكر عبارة عن حركة القوة المفكرة في طريق مبادي المطالب والأفعال والانتقال من ضمير إلى ضمير ثم الرجوع منها إلى تلك المطالب، وهي من خواص الإنسان، وأيضا فائدة التفكر تحصيل المجهولات والجهل على الله تعالى محال.
(ولا كيف لذلك) أي لإحداثه وإيجاده الذي هو من صفاته الفعلية (كما أنه لا كيف له) تعالى أي لله تعالى وإنما الكيفيات للمكنات الموجودة لا لإيجادها ولا لموجدها الواحد على الاطلاق.
4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خلق الله المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية) بعدما عرفت أن المراد بالمشية الإرادة الحادثة وأن المراد بالإرادة الحادثة الإحداث والإيجاد جوزت أن يكون المراد هنا أن الله تعالى خلق مهية
ص:269
الايجاد (1) بنفسها من غير إضافة الوجود عليها بتعلق الجعل على نفس تلك المهية أولا.
ثم خلق الأشياء بتلك المهية بسبب إضافة الوجود عليها وجعلها متعلقة بتلك الأشياء ومربوطة بها فالمشية وخلقها من صفاته الفعلية، أو أن الله تعالى خلق المشية والإيجاد يعني قدرها تقديرا صالحا لنظام الكل بل لنظام كل شيء ثم خلق الأشياء بتلك المشية المقدرة في الأزل على ما يقتضيه التقدير الأزلي، فالمشية من صفاته الفعلية وخلقها يعني تقديرها ووزنها من صفاتها الذاتية الأزلية.
وقال سيد المحققين (رحمه الله): المراد بالمشية هنا إرادة المخلوقين (2) المراد أنه تعالى خلق إرادتهم بنفسها لا بمشية اخرى مباينة لها إذ قد عرفت أن الروية والهمة والشوق المتأكد التي منها يتقوم حقيقة المشية إنما يكون لاولى الاختيار من المخلوقات والخالق سبحانه متقدس عن ذلك «ثم خلق الأشياء» يعني أفاعيلهم المترتب وجودها على تلك المشية بتلك المشية وبذلك تنحل تشكك المتشككين أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بإرادتهم واختيارهم سبقا بالذات لكانت الإرادة أيضا مسبوقة بإرادة اخرى وكان تسلسل الإرادات متماديا إلى ما لا نهاية له (3).
ص:270
5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن عيسى، عن المشرفي حمزة بن المرتفع، عن بعض أصحابنا قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما ذلك الغضب فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق وإن الله تعالى لا يستفزه شيء فيغيره.(1)
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن عيسى، عن المشرفي) ضبطه بعض الأصحاب (2) بفتح الميم والشين المعجمة قبل الراء والفاء بعدها نسبة إلى مشارف الشام قرى بقرب المدين، وقيل: قرى بين بلاد الريف وجزيرة العرب تدنو من الريف، قيل لها ذلك لأنها أشرفت على السواد، والضبط بالقاف تصحيف وهو هاشم وقيل هشام بن إبراهيم العباسي روى عن الرضا (عليه السلام)، وفي كتاب الرجال في أصحاب الرضا (عليه السلام) ابن هاشم العباسي (حمزة بن المرتفع) بدل عن المشرفي هكذا في النسخ التي رأيناها وقال بعض الأصحاب هذا من تحريفات الناسخين والصحيح «عن حمزة بن الربيع» كما في كتاب التوحيد للصدوق رحمه الله وهو حمزة بن الربيع المصلوب على التشيع (عن بعض أصحابنا) في كتاب التوحيد عمن ذكره.
(قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تعالى (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما ذلك الغضب؟) لما كان الغضب عبارة عن ثوران النفس وحركة قوتها الغضبية عن تصور المؤذي والضار لإرادة مقاومته ودفعه وهو يوجب ثوران دم
ص:271
القلب وتحرك النفس من حال إلى حال لإرادة الانتقام وإيقاع السوء والعقاب بالمغضوب عليه وكان ذلك من خواص المخلوق القابل للانفعال والتغير من حال إلى حال أشكل ذلك على السائل فسأل عن المقصود منه.
(فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب) أي عقاب العاصي وعذاب المخالف لأوامره ونواهيه مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب والأثر على المؤثر وعلى هذا، المراد برحمته التي في الأصل رقة القلب إثابة المطيع والإحسان إليه بالإنعام والإكرام وقد فسر رحمته وغضبه بهذا الوجه جماعة من المتكلمين، وقال بعضهم: المراد بهما إرادة العقوبة والإثابة، ولعل هذا القول يعود إلى الأول لما عرفت من أن إرادته عبارة عن الإحداث والإيجاد، وبعض العامة حملها على الإرادة الأزلية التي هي العلم بعقوبة العاصي وإثابة المطيع ويلزم [ه] العقوبة والإثابة ولذلك قال الرحمة والغضب من صفاته الذاتية وهما على ما ذكره (عليه السلام) من الصفات الفعلية، ولما أشار (عليه السلام) إلى المقصود من الغضب أشار إلى عدم جواز حمله فيه جل شأنه على المعنى المعروف في الخلق بقوله (يا عمرو إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء) وانتقل من حال إلى حال بأي وجه وأي سبب كان.
(فقد وصفه صفة مخلوق) ومن وصفه بصفة مخلوق فقد أشرك به وأقر بإله سواه، وقوله «صفة مخلوق» إما مفعول مطلق أو منصوب بنزع الخافض (وإن الله تعالى) عطف على قوله «إنه زعم) (لا يستفزه شيء فيغيره) أي لا يستخفه ولا يفزعه شيء ولا يزعجه ولا يطيره أمر فيغيره من حال إلى حال ومن صف إلى وصف لأن ذلك من لواحق الإمكان القابل للانفعال من الغير وقدس الحق منزه عنها.
6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فكان من سؤاله أن قال له: فله رضا وسخط؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): نعم ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين وذلك أن الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال لأن المخلوق أجوف معتمل مركب، للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه لأنه واحد واحدي المعنى فرضاه ثوابه وسخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال، لأن ذلك من صفة المخلوقين والعاجزين المحتاجين.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق
ص:272
الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فكان من سؤاله أن قال له: فله رضا وسخط) غرضه من هذا السؤال إما الاستعلام أو الإلزام بتشبيهه بالخلق.
(فقال أبو عبد الله (عليه السلام) نعم ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين) أي ليس رضاه وسخطه على المعنى الذي يوجد منهم (وذلك أن الرضا) من المخلوق (حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال) في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) «وذلك أن الرضا والسخط دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال» وما ذكره (عليه السلام) من أن الرضا حال أو دخال مصرح به في الحكمة العملية ومبدؤه تصديق أحد بما يوافقه ويلائمه عند تصور كونه موافقا وملايما له وإذعانه بأن ما قضاه الله تعالى وقدره حق موافق للمصلحة وإن لم يعلم وجهها فانه إذا حصل له هذا التصديق والإذعان حصولا لا يعارضه الوهم والخيال ينفعل قلبه ويدخل فيه حالة راسخة وهيئة ثابتة فتنقله من حال الاهتزاز والاضطراب إلى وصف الاطمئنان والانقياد وهو يتلقى ما يرد عليه بالقبول ويرضى به وإن كان أمرا مستبشعا في بادي النظر، وقد أشار إليه (عليه السلام) إلى تعليل أن رضاء المخلوق حال مذكورة وأن ذلك يلائمه ولا يلائم ذاته وحقيقته بقوله:
(لأن المخلوق أجوف) (1) أي ذا جوف له مقدار بحسب البطون كالجسم أو خالي الداخل الذي فيه القلب، وجوف الإنسان وغيره بطنه (معتمل) اعتمل اضطرب في العمل لعل المراد أن في صنعه اضطرابا لبناء خلقته على امور متعادية متقاضية للافتراق، أو المراد أن له في عمل نفسه وإدراكاته وتحصيل كيفياته النفسانية اضطرابا وانقلابا من حال إلى حال (مركب) من أجزاء متباينة في الحقيقة متخالفة في الصورة والكيفية أو من ذات وصفات، ومن ثم قيل كل ممكن وإن كان بسيطا فهو مزدوج بالذات والوجود والصفات.
ص:273
(للأشياء فيه مدخل) يحتمل وجهين أحدهما أن يراد بالأشياء الإدراكات والكيفيات النفسانية مثل الرضا والسخط وغيرهما يعني أن حصول هذه الأشياء له بطريق دخولها فيه وتغييره من حال إلى حال، ولا ينافيه ذلك لأن وضعه وتركيبه على التغير والانقلاب، وثانيهما: أن يراد أن للأشياء المتغايرة في الصورة والكيفية التي يقتضي كل واحد منهما تغير الآخر وانكساره مدخلا في تحقق حقيقته وإذا كان كذلك فدخول الحالات والكيفيات فيه وتحريكه من حال إلى حال لا ينافيه في حقيقته وذاته.
(وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه) بأحد الوجهين المذكورين (لأنه واحد) لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا ولا خارجا وهذا معنى الواحد كما عرفت آنفا (وأحدي الذات) ليس وجوده زايدا على ذاته والعطف دل على المغايرة، ويحتمل التفسير أيضا، ويؤيده ترك العطف في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) حيث قال فيه لأنه واحد أحدي الذات.
(وأحدي المعنى) ليست له صفات متكثرة متغايرة زايدة على ذاته ففي الأول إشارة إلى نفي الكثرة قبل الذات لعدم تركبه من الأجزاء وفي الثاني إشارة إلى نفي الكثرة في مرتبة الذات لكون وجود عين ذاته وفي الثالث إشارة إلى نفي الكثرة بعد مرتبة الذات لكون صفاته عين ذاته فهو الواحد المطلق الحق من كل جهة.
(فرضاه ثوابه) للمطيع (وسخطه عقابه) للعاصي، وقيل: رضاه إرادة ثوابه وسخطه إرادة عقابه.
وقال بعض العامة: رضاه علمه بطاعة العبد وسخطه علمه بعصيانه (من غير شئ يتداخله فيهيجه) أي يثيره ويحركه من هاجه الشيء أو من هيجه إذا أثاره.
(وينقله من حال إلى حال لأن ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين) في ذواتهم إلى أجزاء وفي وجوداتهم إلى موجود وفي كمالاتهم إلى مداخلة وإنفعالات وأما الله القادر الخالق الغني المطلق فهو متنزه عن جميع ذلك ومتقدس عن التغير والانفعال والانتقال من حال إلى حال والحاصل أنه إذا نسب الرضا والسخط والحب والبغض والموالاة والمعاداة إلى الله سبحانه وجب تأويلها وصرفها إلى معنى يصح في حقه لأن نسبة معانيها المعروفة فينا إليه غير صحيحة إذ الرضا فينا حالة للنفس توجب تغيرها وانبساطها لإيصال النفع إلى الغير أو الانقياد لحكمه.
والسخط حالة أخرى توجب تغيرها وانقباضها وتحركها إلى إيقاع السوء به أو الإعراض عنه والمحبة حالة لها توجب ميلها إليه أو نفس هذا الميل والبغض حالة لها توجب الإعراض عنه وإيصال الضرر إليه وقريب منهما الموالاة والمعاداة وكل ذلك عليه سبحانه محال، فوجب التأويل والتأويل أن الرضا والمحبة والموالاة بمعنى الإثابة والإحسان وإيصال النفع، وأضدادها بمعنى
ص:274
العقوبة وعدم الإحسان إما على سبيل الاشتراك أو على سبيل التجوز.
7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المشيئة محدثة.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المشية محدثة) قد عرفت مما ذكر أن المراد بالمشية الإرادة الحادثة أعني إيجاد الشيء وإحداثه، فهي من الصفات الفعلية وللتميز بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية طريقان أحدهما أن كل صفة توجد فيه سبحانه دون نقيضها فهي من الصفات الذاتية وكل صفة توجد فيه مع نقيضها فهي من الصفات الفعلية، وثانيهما أن كل صفة لا يجوز أن يتعلق بها قدرته وإرادته فهي من صفات الذات وكل صفة يجوز أن يتعلق بها قدرته وإرادته فهي من صفات الفعل والمصنف أشار إلى الأول بقوله:
ص:275
* جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل * (1)
إن كل شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعا في الوجود فذلك صفة فعل وتفسير هذه الجملة:
أنك تثبت في الوجود ما يريد وما لا يريد وما يرضاه وما يسخطه وما يحب وما يبغض فلو كانت الإرادة من صفات الذات مثل العلم والقدرة كان ما لا يريد ناقضا لتلك الصفة ولو كان ما يحب من صفات الذات كان ما يبغض ناقضا لتلك الصفة، ألا ترى أنا لا نجد في الوجود ما لا يعلم وما لا يقدر عليه وكذلك صفات ذاته الأزلي لسنا نصفه بقدرة وعجز [وعلم وجهل وسفه وحكمة وخطأ وعز] وذلة، ويجوز أن يقال: يحب من أطاعه ويبغض من عصاه ويوالي من أطاعه ويعادي من عصاه وإنه يرضاه ويسخط، ويقال في الدعاء اللهم ارض عني ولا تسخط علي وتولني ولا تعادني ولا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ولا يقدر أن لا يعلم ويقدر أن يملك ولا يقدر أن لا يملك، ويقدر أن يكون عزيزا حكيما ولا يقدر أن لا يكون عزيزا حكيما، ويقدر أن يكون جوادا ولا يقدر أن لا يكون جوادا، ويقدر أن يكون غفورا ولا يقدر أن لا يكون غفورا. ولا يجوز أيضا أن يقال: أراد أن يكون ربا قديما وعزيزا وحكيما ومالكا وعالما وقادرا لأن هذه من صفات الذات والإرادة من صفات الفعل ألا ترى أنه يقال: أراد هذا ولم يرد هذا وصفات الذات تنفى عنه بكل صفة منها ضدها. يقال: حي وعالم
ص:276
وسميع وبصير وعزيز وحكيم، غني، حليم، عدل، كريم، فالعلم ضده الجهل، والقدرة ضدها العجز، والحياة ضدها الموت. والعزة ضدها الذلة. والحكمة ضدها الخطأ وضد الحلم العجلة والجهل، وضد العدل الجور والظلم.(1)
(أن كل شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعا في الوجود فذلك صفة فعل) قوله «جملة القول» مبتدأ وقوله «في صفات الذات» متعلق بالقول أو بالجملة وقوله «أن» مع اسمه وخبره خبر المبتدأ.
وقوله «وصفت الله بهما» صفة لشيئين وقوله «وكانا» جملة حالية، وقوله «فذلك» خبر أن وإدخال الفاء باعتبار أن اسم «أن» مشتمل على معنى الشرط، وتوحيد اسم الإشارة باعتبار أنه إشارة إلى لفظ «كل» والحاصل أن كل شيئين متضادين وصفت الله تعالى بهما وهما في الوجود فهما من صفات الفعل كالمحبة والبغض فإنه يقال أحب من أطاعه وأبغض من عصاه وكلاهما موجود فالحب والبغض من صفات الفعل لا من صفات الذات لأنه لا يجوز وصفه تعالى بصفات الذات وبضدها فلا يجوز أن يقال مثلا هو عالم وجاهل وقادر وعاجز.
(وتفسير هذه الجملة) اختلف العلماء في أن هذه الجملة وتفسيرها من كلام المصنف أو من جملة الحديث فذهب بعض الأفاضل إلى أنهما من تتمة الحديث كما يقتضيه السوق ولا صارف هناك يوجب حملهما على أنهما من كلام المصنف، وقال السيد المحقق الداماد والفاضل الأمين الأسترآبادي أنهما من كلام المصنف فإن أحاديث هذا الباب مذكورة في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) وليس فيه جملة القول إلى آخره بل فيه بيان المعيار المميز بين صفات الذات وصفات الفعل بوجه قريب من كلام المصنف.
(إنك تثبت في الوجود ما يريد وما لا يريد وما يرضاه وما يسخطه وما يحب وما يبغض) قد عرفت معنى رضاه وسخطه وحبه وبغضه قبل ذلك، توضيح المقصود أن الشيء على خمسة أقسام لأنه إما خير محض أو خير غالب، أو شر محض أو شر غالب أو خير وشر على السواء وهو تعالى يريد الأولين بالذات من حيث أنهما خير وإرادته الشر التابع للثاني إنما هو بالعرض من جهة أنه تابع للخير للغالب لا بما هو شر ولا يريد الثلاثة الأخيرة أصلا لا بالذات ولا بالعرض، ومن ثم انحصر فعله تعالى في الخير المطلق والخير الغالب على الشر.
(فلو كانت الإرادة من صفات الذات مثل العلم والقدرة كان ما لا يريد ناقضا لتلك الصفة) أي
ص:277
صفة الإرادة وذلك لأن ما يريد على تقدير كون الإرادة من صفات الذات معناه أنه يريد جميع الأشياء ولا يريد معناه أنه لا يريد بعضها وهو نقيض لما يريد ضرورة أن الايجاب الكلي يناقضه السلب الجزئي.
(ولو كان ما يحب من صفات الذات كان ما يبغض ناقضا لتلك الصفة) أي صفة المحبة لمثل ما عرفت (ألا ترى أنا لا نجد في الوجود ما لا يعلم وما لا يقدر عليه) أوضح بذلك أن كل واحدة من الإرادة والمحبة ليست من صفات الذات مثل العلم والقدرة فإن العلم والقدرة لما كانا من صفات الذات كانا متعلقين بكل ما يدخل في الوجود ولا يجوز نفيهما بالنسبة إلى بعض وإن كان شرا مطلقا فإنه تعالى عالم بالشرور بالذات كما أنه عالم بالخيرات بخلاف الإرادة والمحبة فانا نجد في الوجود ما لا يتعلقان به كالشرور والقبايح وإنما يتعلق به نقيضهما.
(وكذلك صفات ذاته الأزلي) الأزلي صفة للذات والتذكير باعتبار المعنى أو صفة للصفات والتذكير باعتبار الوصف (لسنا نصفه بقدرة وعجز) لأن العجز نقص ينشأ من عدم القدرة أو من انتهائها قبل التعلق بجميع المقدورات وذلك عليه جل شأنه محال ([وعلم وجهل وسفه وحكمة وخطأ وعزة] وذلة) فيه حذف بقرينة المقام أي لسنا نصفه بعزة وذلة لأن الكلام في عدم جواز وصفه بصفة ذاتية وضدها، ويحتمل أن يكون الذلة مثل العجز ضد القدرة.
فإن قلت: تفسير هذه الجملة دل على أمرين كل واحد منهما خلاف ما هو المعروف عند المحققين: الأول أن الإرادة ليست من الصفات الذاتية، والثاني أن الإرادة غير العلم لأن علمه تعالى متعلق بالشرور بالذات وإرادته غير متعلق بها فلزم من ذلك أن الإرادة غير العلم.
قلت: المراد بالإرادة في هذا الباب الإرادة الحادثة التي هي وراء الصفات الذاتية ووراء الذات أعني الإيجاد والإحداث كما مر في حديث صفوان وأما الإرادة القديمة التي هي من الصفات الذاتية ونفس العلم بالخيرات عند المحققين فإنها مسكوت عنها نفيا وإثباتا.
(ويجوز أن يقال يحب من أطاعه ويبغض من عصاه ويوالي من أطاعه ويعادي من عصاه وأنه يرضى ويسخط) جواز هذا القول دل على أن هذه الصفات صفات الفعل لما أن صفات الذات لا يجوز اتصافه بها وبضدها أزلا وأبدا.
فان قلت: حب خير نظام الوجود لا بمعنى ميل القلب إليه لاستحالته فيه بل بمعنى العلم به وبإفاضته في وقته من صفاته الذاتية التي لا تفارق الذات في مرتبتها.
قلت: نعم ولكن المراد بالحب والبغض هنا نفس الفعل، أعني الإحسان والإكرام والعقوبة
ص:278
والانتقام كما أشرنا إليه آنفا.
(ويقال في الدعاء اللهم ارض عني ولا تسخط علي وتولني ولا تعادني) استشهاد لما ذكره، وفيه دلالة على ما قلنا من أن المراد بالحب والرضا نفس الفعل أعني الإحسان والإكرام دون العلم الأزلي بالخيرات وبإفاضتها في أوقاتها وأشار إلى الطريق الثاني للفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية بقوله (ولا يجوز أن يقال يقدر أن يعلم (1) ولا يقدر أن لا يعلم) «ولا يقدر» عطف على «يقدر» «ولا» لتأكيد النفي يعني أن الصفات الذاتية هي التي لا يتعلق بها القدرة بخلاف الصفات الفعلية، فلا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ويقدر أن لا يعلم لان العلم من صفاته الذاتية التي هي عين ذاته فوجوده واجب بالذات وعدمه ممتنع ولا يتعلق القدرة بشيء منهما، وقس عليه حال نظايره الآتية.
(ويقدر أن يملك ولا يقدر أن لا يملك) أي لا يجوز أن يقال: يقدر أن يملك ويقدر أن لا يملك لأنه مالك لم يزل كما مر وكل ما كان لم يزل لا يكون مقدورا (ويقدر أن يكون عزيزا حكيما ولا يقدر أن لا يكون عزيزا حكيما، ويقدر أن يكون جوادا ولا يقدر أن لا يكون جوادا، ويقدر أن يكون غفورا ولا يقدر أن لا يكون غفورا) فان: قلت كما لا يجوز أن يقال يقدر أن يكون جوادا ويقدر أن لا يكون جوادا ويقدر أن يكون غفورا ويقدر أن لا يكون غفورا كذلك لا يجوز أن يقال يقدر أن يكون مريدا للخير مؤثرا إياه مختارا لإفاضته ويقدر أن لا يكون مريدا للخير مؤثرا إياه مختارا لإفاضته ويقدر أن يكون مريدا للجود مؤثرا إياه ويقدر أن لا يكون مريدا للجود مؤثرا إياه، ويقدر أن يكون مريدا للمغفرة مؤثرا إياها ويقدر أن لا يكون مريدا للمغفرة مؤثرا إياها مع أن عدم جواز هذا القول أظهر إذ مرتبة الجود بعد مرتبة إرادته ومرتبة الغفران بعد مرتبه إرادته وما ذلك إلا. باعتبار أن إرادة الخير والجود واختيار إفاضتهما من الصفات الذاتية التي ليست بمتعلقة للقدرة فالفرق بالوجه المذكور
ص:279
تحكم والحق ما ذهب إليه المحققون من أن إرادته تعالى من الصفات الذاتية الملحوظة في مرتبة الذات مثل العلم بل هي نفس العلم بالخيرات.
قلت: إن أردت بالإرادة في قولك «لا يجوز أن يقال يقدر أن يكون مريدا للخير - إلى آخره» الإرادة القديمة التي هي نفس العلم بالخيرات التي لنظام الوجود فالأمر كما ذكرت من عدم جواز هذا القول ولكن الظاهر أن كلام المصنف ليس في الإرادة القديمة كيف وهو لا ينكر علمه تعالى بالخيرات، والظاهر أنه لا يناقش تسميته بالإرادة وإنما كلامه في الإرادة الحادثة كما عرفت مرارا أو إن أردت بها الإرادة الحادثة فعدم جواز ذلك القول ممنوع لأن الإرادة الحادثة مما تتعلق بها القدرة فالفرق المذكور موجه تام والله أعلم.
ثم أشار إلى أن الصفات الذاتية كما لا يجوز أن تتعلق بها القدرة كذلك لا يجوز أن تتعلق بها الإرادة بقوله (ولا يجوز أيضا) كما لا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ويقدر أن لا يعلم (أن يقال أراد أن يكون ربا وقديما وعزيزا وحكيما ومالكا وعالما وقادرا) (1) وأشار إلى عدم جواز هذا القول بقوله (لأن هذه) الصفات أي الرب وما بعده (من صفات الذات) وهي حاصلة في مرتبة الذات غير
ص:280
منفكه عنها.
(والإرادة من صفات الفعل) أي الإرادة الحادثة التي هي إحداث الفعل وإيجاده من صفات الفعل غير حاصلة في مرتبة الذات فلا يرد أن الإرادة أيضا من صفات ذاته الحقة لأن هذه الإرادة هي الإرادة القديمة التي ليس كلام المصنف فيها.
(ألا ترى أنه يقال أراد هذا ولم يرد هذا) تنبيه على أن الإرادة من صفات الفعل لأن معيار صفات الفعل عند المصنف كما عرفت جواز اتصافه تعالى بها وبضدها في الوجود وقد تحقق هذا في الإرادة فإنه يصح أن يقال: أراد هذا الفعل لاشتماله على الخير والمصلحة ولم يرد ذلك الفعل لاشتماله على الشر والمفسدة وإذا كانت الإرادة من صفات الفعل وتلك الصفات المذكورة من صفات الذات وصفات الذات أزلية فلا يجوز أن يتعلق بها الإرادة لأنها إنما يتعلق بالأمر الحادث.
ثم أشار إلى أن صفاته الذاتية عين ذاته تعالى وأن المراد بها نفي أضدادها لا إثبات صفة له بقوله (وصفات الذات تنفي عنه بكل صفة منها ضدها) لم يرد أن إثبات كل صفة من هذه الصفات له مستلزم لنفي ضدها عنه بأن يكون هناك إثبات صريحا ونفي ضمنا لأن هذا الحكم أعني كون ثبوت وصف لأحد مستلزما لنفي ضده عنه أمر ضروري لا يحتاج إلى البيان ولأن إرادة هذا المعنى يوجب القول باختلاف المعاني وقد ثبت استحالة ذلك بالعقل والنقل بل أراد أن صفات الذات عين الذات لا زايدة عليها كما زعمه الأشاعرة والقول بعينيتها راجع إلى نفي أضدادها عنه.
(يقال حي وعالم وسميع وبصير) المراد بالسمع هو العلم بالمسموعات لا بكل شيء والمراد بالبصر هو العلم بالمبصرات لا بكل شيء فهما أخص من علمه المطلق المتعلق بجميع الأشياء، ومن قال بالإرادة وبأنها نفس العلم بما هو خير لنظام الوجود كانت الإرادة عنده أخص من العلم المطلق (وعزيز) يغلب الأشياء بالإيجاد والإفناء ولا يغلبه شيء فيذله (وحكيم) يحكم خلق الأشياء بحسن التقدير ولطف التدبير (غني) عن الغير غير مفتقر إليه (ملك) نافذ الحكم والقدرة لا يقدر شيء على صرف أمره ورد حكمه (حليم) لا يغيره جهل جاهل ولا عصيان عاص (عدل) لا يجور في الحكم ولا يميل إلى الظلم (كريم) يحسن من غير استحقاق ويعطي من غير استخفاف وإنما ترك العاطف في الخمسة الأخيرة لمجرد الاختصار أو للتحرز عن الاستثقال.
(فالعلم ضده الجهل) والمراد بكونه عالما بالأشياء أنه ليس جاهلا بشيء منها (والقدرة ضدها العجز) والمراد بكونه قادرا أنه ليس بعاجز (والحياة ضدها الموت) والمراد بكونه حيا أنه ليس بميت (والعزة ضدها الذلة) والمراد بكونه عزيزا أنه ليس بذليل (والحكمة ضدها الخطأ) والمراد
ص:281
بكونه حكيما أنه ليس بمخطئ في التقدير (والاتقان وضد الحلم العجلة والجهل) والمراد بكونه حليما أنه ليس بمتسرع في المؤاخذة كما هو شأن الجهال (وضد العدل الجور والظلم) والمراد بكونه عدلا أنه ليس بجائر ولا ظالم، وتغيير الأسلوب لمجرد التفنن.
ص:282
الدالة على ذاته وصفاته التي هي عين ذاته.
1 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي ابن أبي حمزة، عن إبراهيم بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت، وباللفظ غير منطق وبالشخص غير مجسد، وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها وحجب منها واحدا وهو الاسم المكنون المخزون، فهذه الأسماء التي ظهرت، فالظاهر هو الله [تبارك و] تعالى: وسخر سبحانه لكل اسم من هذه الأسماء أربعة أركان، فذلك اثنا عشر ركنا، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس الخالق، الباري، المصور، الحي، القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم العليم، الخبير، السميع، البصير، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر. العلي العظيم المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن [البارئ] المنشئ، البديع، الرفيع الجليل، الكريم، الرازق، المحيي: المميت، الباعث، الوارث. فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة وهذه الأسماء الثلاثة أركان، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، وذلك قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى).(1)
(علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى خلق إسما) قيل هو الله (2)
ص:283
وقيل هو اسم دال على صفات ذاته جميعا وكان هذا القائل وافق الأول لأن الاسم الدال على صفاته جميعا هو الله عند المحققين، ويرد عليهما أن «الله» من توابع هذا الاسم المخلوق أولا كما يدل عليه هذا الحديث، ويحتمل أن يراد بهذا الاسم اسم دال على مجرد ذاته تعالى من غير ملاحظة صفة من الصفات معه وكأنه «هو» ويؤيده ما ذكره بعض المحققين من الصوفية من أن «هو» أشرف أسمائه تعالى وأن «يا هو» «أشرف الأذكار لأن هو إشارة إلى ذاته من حيث هو هو، وغيره من الأسماء يعتبر معه صفات ومفهومات لها إضافة ما إلى عالم الحدوث الذي هو عالم الكثرة والتفرقة حتى أن تلك المفهومات قد تكون حجابا بينه وبين العبد وأيضا إذا قلت هو الله الرحمن الرحيم الغفور الحليم كان «هو» بمنزلة الذات وغيره من الأسماء بمنزلة الصفات والذات أشرف من الصفات فهو أشرف الأسماء، ويحتمل أيضا أن يراد به العلي العظيم لدلالة الحديث الآتي عليه حيث قال (عليه السلام) «فأول ما اختاره لنفسه العلي العظيم» إلا أن ذكره في أسماء الأركان ينافي هذا الاحتمال ولا يستقيم إلا بتكلف وهو أنه مزج الأصل مع الفرع للإشعار بالارتباط ولكمال الملائمة بينهما، ويحتمل أن يكون المراد منه إسما آخر غير معروف عندنا لأن له تعالى أسماء مكنونة لا يعلمها إلا هو وخواص أوليائه كما يظهر لمن تصفح الآثار وحينئذ يراد بالأولية المذكورة الأولية بالإضافة إلى الأسماء الظاهرة لنا، وأما حمل الاسم هنا على المسمى يعني خلق مفهوما عظيما من
ص:284
مفهومات الأسماء وجعل ما بعده صفة له لدلالته على أن ذلك الاسم ليس من باب الحرف والصوت فبعيد جدا.
(بالحروف غير متصوت) (1) «غير متصوت» حال عن فاعل «خلق» (2) والجار متعلق بمتصوت يعني خلق الله سبحانه إسما والحال أنه لم يتصوت بالحروف ولم يخرج منه حرف وصوت لتنزه قدسه عن ذلك (وباللفظ غير منطق) بضم الميم وكسر الطاء من أنطق بالكلام إذا تلفظ به (وبالشخص غير مجسد) الجسد البدن، والمجسد من أكملت خلقته البدنية وتمت تشخصاته الجسمية (وبالتشبيه غير موصوف وباللون غير مصبوغ) (3) لاستحالة ذلك سبحانه (منفي عنه الأقطار) أي الأبعاد لاستحالة الامتداد والجسمية عليه (مبعد عنه الحدود) لامتناع التكريب والانقطاع والانتهاء عليه (محجوب عنه حس كل متوهم) لتعلق إدراك الحس بالجسم
ص:285
والجسمانيات وألله سبحانه منزه عن الجسمية ولواحقها (مستتر غير مستور) (1) أي مستتر عن الحواس غير مستور عن القلوب الصافية، أو مستتر من غير ستر يستره، لأن الستر العرفي إنما يستر الأجسام وتوابعها.
(فجعله كلمة تامة) (2) أي فجعل ذلك الاسم كلمة تامة لكماله وتمامه بالذات وعدم كونه تابعا
ص:286
لغيره من الأسماء الحسنى أو لتمامه باعتبار كونه أصلا ومبدءا لجميع تلك الأسماء أن المسمى به وهو الله تعالى مبدء لجميع الأشياء أو لتمامه في الدلالة على ذاته الحقة من غير ملاحظة صفة من الصفات معه، وقيل: لتمامه باعتبار دلالته على ذات جامعة لجميع صفات الكمال.
(على أربعة أجزاء (1) معا ليس منها واحد قبل الآخر) أي جعله على أربعة أسماء باشتقاقها وانتزاعها منه وتلك الأسماء في مرتبة ذواتها ملحوظة معا من غير ترتب بعض على بعض كترتب الخالق والرازق على العالم والقادر (فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها) (2) في تحصيل
ص:287
كمالهم وتكميل نظامهم في الدنيا والآخرة.
(وحجب منها واحدا وهو الاسم المكنون المخزون) (1) الذي لا يعلمه إلا هو ولا ينطق به الخلق أبدا حتى الأنبياء (عليهم السلام) وقد استأثره الله تعالى في علم الغيب ولم يأذن لأحد الاطلاع عليه، وهذا الاسم من جملة الاسم الأعظم الذي لا يرد سائله والاسم الأعظم كثير ففي حديث الراهب المذكور في مولد أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنه سبعة وفي باب ما أعطى الأئمة (عليه السلام) من أسم الله الأعظم أنه ثلاثة وسبعون اسما قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا
ص:288
اعطي محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنين وسبعين حرفا وحجب عنه واحد». وقال أبو الحسن العسكري (عليه السلام): «اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب» أقول:
المراد بالحرف الاسم وإطلاقه عليه شايع والمراد بهذا الاسم المكنون هو هذا الحرف الذي عند الله تعالى مستأثر به في علم الغيب وقد سكت الناظرون في هذا الحديث وهم محققون في السكوت عن أمثال هذه الغوامض إلا أنهم أخطأوا في تعيين هذا الاسم المكنون فقال بعضهم إنه الهاء وقال بعضهم إنه اللام وقال بعضهم إنه الألف كذا نقل عنهم بعض الأفاضل ولا أدري ما يعنون بذلك.
(فهذه الأسماء التي ظهرت فالظاهر هو الله تعالى) أي الظاهر البالغ (1) إلى غاية الظهور وكماله من بينها هو الله تعالى، ويؤيد أنه يضاف غيره إليه ويعرف به، فيقال «الرحمن» اسم الله، ولا يقال «الله» اسم الرحمن، وليس المراد أن المتصف بأصل الظهور هو الله لأن غيره أيضا متصف بالظهور كما قال (وأظهر منها ثلاثة) وهذا صريح في أن أحد هذه الثلاثة الظاهرة هو الله وأما الآخران فلا نعلمهما على الخصوص، ويحتمل أن يراد بهما الرحمن الرحيم، ويؤيده آخر الحديث كما سنشير إليه، واقترانهما مع الله في التسمية ورجوع سائر الأسماء الحسنى إلى هذه الثلاثة عند التأمل لأن بعض تلك الأسماء دل على المجد والثناء فهو تابع لله، وبعضها دل على إفاضة الوجود والخيرات الدنيوية فهو تابع للرحمن، وبعضها دل على إضافة الخيرات الاخروية فهو تابع للرحيم إلا أن عد الرحمن الرحيم في جملة ما يتفرع على الأركان ينافي هذا الاحتمال ولا يستقيم إلا بتكلف مذكور، وكأن العبارة كانت في نسخة بعض الأفاضل هكذا «فالظاهر هو الله تبارك وتعالى» فلذلك قال يعني، أن الظاهر ما يفهم من هذا اللفظ فأحدها: ما يفهم من لفظ الله وهو إله وثانيها: ما يفهم من لفظ تبارك وهو جواد وثالثها: ما يفهم من لفظ تعالى وهو أحد، وأنت خبير بأن هذا القول من باب الرجم بالغيب (2).
ص:289
(وسخر لكل اسم من هذا الأسماء) الثلاثة الظاهر (أربعة أركان) اعتبار الأركان لها إما على سبيل التخييل والتمثيل أو على التحقيق باعتبار حروف هذه الأسماء فإن الحروف المكنونة في كل واحد من الأسماء المذكورة أربعة وسميت حروفها أركانا باعتبار أن تمامها وقوامها إنما يتحقق بتلك الحروف، ويحتمل أن يراد بالأركان كلمات تامة مشتقة من تلك الكلمات الثلاثة أو من حروفها وإن لم نعلمها بعينها (فذلك اثنى عشر ركنا) حاصل من ضرب ثلاثة في أربعة.
(ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين إسما فعلا) (1) أي اسما دالا على فعل من أفعاله تعالى حتى حصل ثلاثمائة وستون اسما (منسوبا إليها) أي إلى الأركان الأربعة بأن يقال لها أسماء الأركان أو إلى الأسماء الثلاثة الظاهرة بتوسط الأركان كنسبة الفرع إلى الأصل ونسبة المشتق إلى المشتق منه ومن علم هذه الأسماء الثلاثة وأركانها الأربعة والأسماء المتعلقة بتلك الأركان ولا حظ المناسبات.
المخصوصة لو دعا بهن على الجبال لأطارها وعلى الأرض لأزالها (فهو الرحمن) بجميع الخلق في الدنيا (الرحيم) بالمؤمنين في الآخرة (الملك) في عالم الملك والملكوت لكونه متصرفا فيه كيف يشاء (القدوس) الطاهر عن النقايص والأضداد والمنزه عن الأولاد والأندار (الخالق) الموجد بلا مثال أو المقدر لهم لأن الخلق جاء بمعنى التقدير أيضا.
(الباري) الخالق بلا همة ولاروية وقد يخص بخلق النسمة، وقال في المغرب الباري في صفات
ص:290
الله تعالى الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت (المصور) الخالق للخلق على صور مختلفة ليتعارفوا بها، قال الشيخ بهاء الملة والدين في مفتاح الفلاح: قد يظن أن هذه الأسماء الثلاثة مترادفة لأنها بمعنى الإيجاد والإنشاء وليس كذلك بل هي أمور متخالفة ألا يرى أن البنيان يحتاج إلى التقدير في الطول والعرض وإلى إيجاد بوضع الأحجار والأخشاب على نهج خاص وإلى تزيين ونقش وتصوير فهذه امور ثلاثة مترتبة يصدر عنه جل شأنه في إيجاد الخلائق من كتم العدم، فله سبحانه باعتبار كل منها اسم على ذلك الترتيب.
(الحي القيوم) المدرك الدائم بلا زوال القائم على كل شيء بالحفظ والرعاية (لا تأخذه سنة ولا نوم) إشارة إلى اعتبارات سلبية، والسنة فتور يتقدم النوم (العليم) بجميع الأشياء كليها وجزئيها قبل وجودها وبعدها (الخبير) بدقائقها وحقايقها (السميع) العليم بالمسموعات (البصير) العالم بالمبصرات (الحكيم الموجد للأشياء على وفق المصالح والتقدير والمتقن لإيجادها على وفق الحكمة والتدبير (العزيز) الذي لا يعاد له شيء ولا يغلبه أحد (الجبار) الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما ليس لهم فيه اختيار، أو يجبر حالهم ويصلح نقائصهم (المتكبر) المنزه عن الحاجة والنقص (العلي) العالي على الخلق بالقدرة عليهم أو المرتفع عن الأشياء والاتصاف بصفاتهم (العظيم) الذي لا يدرك أحد كنه جلاله ولا يعرف نهاية كماله (المقتدر) الذي له اقتدار تام بحيث لا يجري شيء في ملكه بخلاف حكمه (القادر) الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل (السلام) وهو مصدر معناه ذو السلامة من كل عيب وآفة، أو معناه المسلم لأن السلامة تنال من قبله (المؤمن) الذي يصدق وعده أو يصدق ظنون عباده ولا يخيب آمالهم أو يؤمنهم من الظلم والجور أو يؤمن من عذابه من أطاعه (المهيمن) وهو الرقيب الحافظ لكل شيء أو الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول وفعل وأصله مأءمن بهمزتين من أءمن قلبت الثانية ياء كراهة اجتماعهما فصار مأيمنا ثم صيرت الاولى هاء كما قالوا أهراق الماء وأراقه.
(الباري) الظاهر أنه مكرر من الناسخ (المنشئ) بلا مثال من الغير (البديع) بلا مثال سابق منه (الرفيع) لرفعة ذاته وصفاته من ذوات الممكنات وصفاتهم (الجليل) لجلال ذاته وقدرته على الإطلاق بحيث يصغر دونه كل جليل (الكريم) لإضافة جوده بلا استحقاق (الرازق) لجريان رزقه على كل بر وفاجر (المحيي) لإفاضة الحياة ابتداء وبعد الموت (المميت) لإزالة الحياة عن كل ذي حياة بلا مماسة ولا آلات (الباعث) لبعث الخلائق بعد الممات وإعادتهم بعد الوفاة (الوارث) لرجوع الأملاك إليه بعد فناء الملاك واسترداد أملاكهم ومواريثهم بعد موتهم كما قال جل شأنه (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار).
ص:291
(فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستون إسما (1) فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة) النسبة بالكسر مصدر والحمل على سبيل المبالغة أو المصدر بمعنى المفعول (وهذه الأسماء الثلاثة أركان) لتلك الأسماء الحسنى واصول لها (وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة) الظاهر أن الجار متعلق بحجب والباء للسببية يعني حجب ذلك الاسم الواحد عن الخلق بسبب ظهور هذه الأسماء الثلاثة وكفايتها لهم في جميع حوائجهم.
والمقصود من هذا الحديث أن جميع أسمائه تعالى مخلوقة حادثة وأنه تعالى خلق أولا اسما واحدا ثم جعل هذا الاسم أصلا لأربعة أسماء وجعل واحدا من هذه الأربعة مكنونا مخزونا عنده مستأثرا به في علم الغيب وأظهر ثلاثة بين خلقه لحاجتهم إليها، ثم جعل هذه الثلاثة أصلا لاثني عشر اسما وجعل كل واحد من اثني عشر أصلا لثلاثين اسما حتى بلغ العدد ثلاثمائة وستين إسما فالثلاثمائة وستون يرجع إلى اثني عشر واثنا عشر يرجع إلى ثلاثة والثلاثة ترجع إلى ذلك الواحد
ص:292
فذلك الواحد مبدء ومرجع لجميع الأسماء كما أن الواحد الحق وهو سبحانه مبدء ومرجع لجميع الأشياء، والتصديق بهذا القدر واجب علينا (1) وكاف لما نحن بصدده من الحكم بحدوث الأسماء، وأما تعيين ذلك الواحد وما خرج منه بالغا ما بلغ فليس له مدخل في أصل المطلب وهو مع ذلك خارج عن أفهامنا فلو عيناه كان ذلك رجما بالغيب (2).
ص:293
(وذلك قوله تعالى «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) ذلك إما إشارة إلى فاقة الخلق والمقصود إثبات فاقتهم، وإما إشارة إلى كون الأسماء الثلاثة الظاهرة أركانا للبواقي وفيه إيماء لطيف إلى تلك الأسماء وإنما لم يذكر الثالث لقصد الاختصار أو لأنه أراد بالرحمن المتصف بالرحمة المطلقة الشاملة للرحمة الدنيوية والأخروية، ولعل المراد أنكم إن دعوتم الله فله أسماء حسنى تابعة له في الدلالة على الذات المقدسة والمجد والثناء اللائق به فادعوه بها وإن دعوتم الرحمن فله أسماء حسنى تابعة له في الدلالة على مطالبكم الدنيوية فادعوه بها، وإن دعوتم الرحيم فله أسماء حسنى تابعة له في الدلالة على مطالبكم الاخروية فادعوه بها، والحاصل أن دعاءكم إن كان راجعا إلى ذكر المجد والثناء فادعوا باسم الله وما يتبعه من الأسماء الشريفة وإن كان راجعا إلى طلب الخيرات الدنيوية فادعوه باسم الرحمن وما يتبعه من الأسماء العزيزة، وإن كان راجعا إلى طلب الخيرات الاخروية فادعوه باسم الرحيم وما يتبعه من الأسماء الكريمة، فطريق الدعاء واسع غير مضيق.
هذا ما خطر بالبال والله سبحانه أعلم بحقيقة أسمائه وبالمقصود من كلامه وكلام وليه، وللمفسرين في تفسير هذه الآية أقوال من أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى كتبهم.
2 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله; وموسى بن عمر، والحسن بن علي بن عثمان، عن ابن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام): هل كان الله عز وجل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال: نعم، قلت: يراها ويسمعها؟ قال: ما كان محتاجا إلى ذلك لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها، هو نفسه ونفسه هو، قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف فأول ما اختار لنفسه العلي العظيم لأنه أعلى الأشياء كلها، فمعناه الله واسمه العلي العظيم هو أول أسمائه علا على كل شيء.(1)
(أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله وموسى بن عمر) هو عمر بن بزيع الكوفي وابنه موسى ثقة. هذا الحديث بهذا الاسناد المذكور في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام):
وفيه موسى بن جعفر والظاهر أنه موسى بن جعفر القمي الكمنداني بضم الكاف والميم وسكون
ص:294
النون وكان مرتفعا في القول ضعيفا في الحديث (والحسن بن علي بن عثمان) في كتاب العيون:
والحسن بن علي بن أبي عثمان، قال العلامة الحسن بن علي بن أبي عثمان يلقب السجادة ويكنى أبا محمد من أصحاب أبي جعفر الجواد (عليه السلام) غال ضعيف في عداد القميين، وقال الكشي علي السجادة عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين ولقد كان من العليانية الذين يقعون في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس له في الإسلام نصيب.
(عن ابن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) (هل كان الله عز وجل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق قال: نعم) سؤال ابن سنان عن ذلك إما لضعف عقيدته في حق الباري جل شأنه وإما لأن طائفة من الفرق المبتدعة ذهبوا إلى أنه تعالى لم يكن عارفا قبل أن يخلق الخلق بنفسه وبأنه وحده لا غيره وإنما عرف ذلك عندما خلق الخلق كما مر في باب صفات الذات فسأل عن ذلك كشفا لفساد قولهم.
(قلت: يراها ويسمعها) أي يرى نفسه ويسمعها كلاما يصدر منه كما يرى أحدنا نفسه ويسمعها ويقول: أنا أفعل كذا في وقت كذا ويطلب منها شيئا ويقول أفعل كذا (قال ما كان محتاجا إلى ذلك) أي إلى أن يراها ويسمعها وفي ذكر الاحتياج إشارة إلى امتناع ذلك فيه عز وجل لامتناع تطرق الاحتياج إلى الغني المطلق.
(لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها (1) أي لم يكن من شأنه السؤال والطلب لأن السؤال والطلب وإن كانا من نفسه نقص والنقص عليه محال وهذا دليل على امتناع إسماعه نفسه (هو نفسه ونفسه هو) فهو هو يعني له هوية مطلقة معراة عن التجزي والتكثر والتعدد فليس له آلة النطق والسمع
ص:295
والإبصار وهذا دليل على امتناع الإسماع والإبصار بالمعنى المتعارف عليه وأما رؤية ذاته بمعنى العلم بها فليس السؤال عنها، وفيه دلالة على جواز إطلاق النفس عليه كما في قوله تعالى حكاية «ولا أعلم ما في نفسك» قال محي الدين البغوي النفس تطلق على الدم، وعلى نفس الحيوان، وعلى الذات، وعلى الغيب.
والأولان يستحيلان في حقه تعالى، والآخر أن يصح أن يرادا، ومنه «ولا أعلم ما في نفسك» أي في ذاتك أو في غيبك (قدرته نافذة) في جميع الأشياء بحيث لا يتأبى شيء من تلك الأشياء عن نفوذها فيه.
(فليس يحتاج أن يسمي نفسه) ويستعين بأسمائه الحسنى في إنفاذ قدرته كما يحتاج غيره لكونه نقاص القدرة إلى تسميته بتلك الأسماء والاستعانة بها (ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها) وفيه دلالة على ما هو المقصود بيانه في هذا الباب من حدوث أسمائه تعالى وعلى أن أسمائه تعالى توقيفية لا يجوز لأحد أن يدعوه إلا بما سمى به نفسه، وقد ذكرنا تفصيل ذلك سابقا.
(لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف) الضمير المنصوب راجع إليه سبحانه والفعلان مبنيان للمفعول وهذا تعليل لاختيار الأسماء، والوجه فيه ظاهر لأنه إذا لم يدع باسمه الذي اختار لنفسه ووصف نفسه به لربما يدعي بما لا يوصف به فلم يكن المعروف هو بل غيره، وأيضا من المعلوم بالضرورة أن معرفة الاسم وشهرته سبب لمعرفة المسمى بذلك الاسم وشهرته فعدم معرفة أسمائه تعالى سبب لعدم معرفته وقد كان المقصود الأصلي في إيجاد الخلق هو معرفتهم إياه وجعل التعليل تعليلا لقوله «يدعوه بها» وإرجاع الضمير المنصوب إلى الغير وبناء الفعلين للفاعل بعيد جدا وإن كان المآل واحدا للزوم تفكيك الضمير في قوله باسمه وحذف ضمير المفعول في الفعلين مع الغناء عنه بما ذكر.
(فأول ما اختار لنفسه العلي العظيم) الظاهر أنه الأول بالإطلاق فهو إذن ذلك الاسم المذكور في الحديث السابق الذي هو الأصل للجميع ويحتمل أنه أول بالإضافة كما أشرنا إليه (لأنه أعلى الأشياء كلها) أي فوقها بالرتبة والعلية وشرف الذات وكل شيء سواه ناش منه مفتقر إليه من جميع الجهات وهذا إما تعليل لتسميته بهذا الاسم أو تعليل لكون هذا الاسم أول الأسماء أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنك قد عرفت أن اختيار الاسم لأجل غيره من المخلوقات فينبغي أن يكون الاسم الأول ما يدل على أنه أعلى منهم بحسب العظمة والذات.
(فمعناه الله) أي الذات المقدسة عن النقايص والحالات المتصفة بجميع الصفات والكمالات (واسمه العلي العظيم) الدال على كمال علوه وعظمته كما أشار إليه بقوله (هو أول أسمائه علا على كل شيء) علوا عقليا مطلقا بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته ولا رتبة تساوي رتبته. بيان ذلك أن
ص:296
أعلى مراتب الكمال العقلية هو مرتبة العلية ولما كانت ذاته المقدسة هي مبدء كل موجود حسي وعقلي وعلته التي لايتصور النقصان فيها بوجه من الوجوه لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية وله الفوق المطلق في الوجود والعلو العاري عن الإضافة إلى شيء دون شيء، وعن إمكان أن يكون أحد يساويه في العلو أو يكون أعلى منه.
3 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان قال: سألته عن الاسم ما هو؟ قال: صفة لموصوف:
(وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان قال: سألته) يعني أبا الحسن الرضا (عليه السلام) (عن الاسم ما هو؟) طلب بيان أن اسمه عين ذاته أو غيره أو طلب حد اسمه ليعرف هل له اسم دل على مجرد الذات من غير دلالة على صفة من الصفات أم لا.
(قال: صفة لموصوف) (1) تقريره على الأول أن الاسم صفة لما يصلح أن يكون موصوفا به وهو اللفظ فإنه يقال مثلا «الله» أي هذا اللفظ المركب من ألف ولام وهاء اسم والرحمن أي هذا اللفظ المركب من الحروف المخصوصة اسم، فالاسم صفة لهذين اللفظين الموصوفين بالاسمية والتجزية والتركيب لا لذاته المقدسة المنزهة عن الاتصاف بصفة بأن يقال ذاته تعالى اسم فقد ثبت أن ذاته غير اسمه واسمه غير ذاته وأن الموصوف بالاسم مركب حادث مخلوق والله سبحانه قديم خالق لأسمائه، وتقريره على الثاني أن كل اسم من أسمائه دل على صفة كاينة لموصوف بها حتى «الله» فإنه دل على صفة باعتبار اشتقاقه من الإله الدال على اتصافه بالإلوهية ويفهم منه أيضا أن الاسم غير المسمى.
4 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن بكر بن صالح، عن علي بن صالح، عن الحسن بن محمد بن خالد بن يزيد، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
ص:297
اسم الله غيره وكل شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله، فأما ما عبرته الألسن أو عملت [ه] الأيدي فهو مخلوق، والله غاية من غايته، والمغيي غير الغاية والغاية موصوفة وكل موصوف مصنوع وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمى، لم يتكون فيعرف كينونيته بصنع غيره ولم يتناه إلى غاية إلا كانت غيره، لا يزل من فهم هذا الحكم أبدا وهو التوحيد الخالص فارعوه وصدقوه وتفهموه بإذن الله، من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن حجابه ومثاله وصورته غيره، وإنما هو واحد متوحد، فكيف يوحده من زعم أنه عرفه بغيره وإنما عرف الله من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره، ليس بين الخالق والمخلوق شيء والله خالق الأشياء لا من شيء كان، والله يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره.(1)
(محمد بن أبي عبد الله) هو محمد بن جعفر بن عون الأسدي الكوفي الثقة ساكن الري (عن محمد ابن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن بكر بن صالح، عن علي بن صالح، عن الحسن بن محمد خالد ابن يزيد) في كتاب التوحيد للصدوق «عن الحسن بن محمد عن خالد (عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اسم الله غير الله) في بعض النسخ «غيره» يعني اسم الله غير المسمى به وهو الذات المقدسة (وكل شيء) أي كل معنى أو ذات (وقع عليه اسم شيء) يعني أطلق عليه هذا اللفظ وهو الشيء فالإضافة بيانية (فهو مخلوق) حادث بعد العدم (ما خلا الله) فانه قديم غير مخلوق وقد ثبت مما ذكر أن أسماءه تعالى مخلوقة حادثة وهو المقصود هنا.
(فأما ما عبرته الألسن) عبرته إما بالتخفيف عن العبور بمعنى المرور أو بالتشديد عن التعبير (أو عملته الأيدي) أي أيدي الأبدان أو أيدي الأفكار (فهو مخلوق) يعني كل ما تناولته الألسن من الأقوال والأسماء وكلما عملته الأيدي من الصور والنقوش وكلما أدركته العقول العالية والسافلة من الحقايق والدقايق اللطيفة من صفاته فهو مخلوق محدث له نهاية ذكرية وحدود عقلية فمن اعتقد أنه هو الله فقد جعل إلهه ما بلغ إليه نظره واعتقد أن له نهاية وحدودا كما أشار إليه بقوله (والله غاية من غاياه) ضمير الفاعل راجع إلى الوصول وضمير المفعول إلى الله والمراد بالغاية نهاية ما تناوله الإنسان بالقلب واللسان يعني أن الله - نعوذ بالله - هو النهاية التي يتناولها كل من غياه وجعل له نهاية وحدودا ينتهي إليهما قلبه ولسانه، ثم أشار إلى فساد ذلك وصرح بأن الله ليس هذا بقوله (والمعنى غير الغاية) يعني المعنى الحق بذاته وهو ذاته المقدسة غير غاية ما يبلغ إليه نظر الخلق ونهايته
ص:298
المحدودة بالحدود المعلومة بوجه من الوجوه الاعتبارية والحقيقيه ويصفه من الصفات القولية والفعلية وإنما لم يقل والله غير الغاية لئلا يتوهم أن المراد هذا الاسم الشريف لأنه أيضا لا يخلو من غاية ذكرية وحدود قولية، وفي بعض النسخ «من غاياته» وفي بعضها «والمغيي» بضم الميم وفتح الغين المعجمة والياء المثناة المشددة والمراد به ذاته الأحدية التي جعلت لها غاية الكل متقاربة.
ولهذه العبارة احتمال آخر أسهل وهو أن «الله» اسم من أسمائه ومعناه غير هذا الاسم إلا أن إطلاق الغاية على الاسم غير متعارف فليتأمل ثم استدل على أن ذلك المعنى الحق بذاته غير الغاية الذكرية والنهاية الفكرية بالضرب الأول من الشكل الأول فقال (والغاية موصوفة) أي كل غاية ينتهي إليه نظر الخلق موصوفة بوصف معلوم أو موهوم ومحدودة بأطراف وحدود.
(وكل موصوف مصنوع) فكل غاية يبلغ إليها نظر الخلق مصنوعة فلا يجوز أن يقال: هي الله الذي هو صانع الأشياء لما أشار إليه بقوله (وصانع الأشياء) الواو للحال (غير موصوف بحد مسمى) المسمى إما مضاف إليه أو صفة لحد أي غير موصوف بحد مسمى مصنوع ملفوظا كان ذلك الحد أو معقولا محققا كان أو موهوما لاستحالة توارد الإحاطة عليه وامتناع تطرق الانتهاء إليه (لم يتكون) خبر بعد خبر لصانع الأشياء وفي بعض النسخ «لم يكن» يعني أن صانع الأشياء لم يتحصل وجوده من غيره.
(فيعرف كينونيته بصنع غيره) المصدر مضاف إلى فاعله أي بصنع غيره إياه وفيه إشارة إلى امتناع البرهان اللمي فيه إذ لا علة له حتى يعرف وجوده بعلته (ولم يتناه) خبر ثالث وضمير الفاعل راجع إلى صانع الأشياء أو إلى العقل والوهم بقرينة المقام والعايد إلى الصانع يأتي فيما بعد يعني ولم يتناه صانع الأشياء عند تصوره أو لم يتناه العقل والوهم في تصوره (إلى غاية إلا كانت غيره) إذ لا غاية لجناب العز ولا نهاية لحضرة القدس.
(لا يذل من فهم (1) هذا الحكم أبدا) الحكم بالضم الحكمة والعلم ومصدر بمعنى القضاء أيضا يعني لا يذل أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة من عرف هذا الذي أفدناه من العلم والحكمة أو هذا القضاء الذي قضينا به (وهو التوحيد الخالص) التوحيد الخالص هو الذي يرفع التعدد والتكثر عن جناب الحق باعتبار الأجزاء والوجود والصفات جميعا وهو التوحيد قبل الذات بنفي الأجزاء الذهنية والخارجية وفي مرتبة الذات بنفي زيادة الوجود وبعد الذات بنفي زيادة الصفات وإفادة ما ذكر (عليه السلام) هذا التوحيد ظاهرة لأنه لما نفى عنه التكون والمصنوعية علم أنه ليس له جزء ولا وجود زايد عليه وإلا لكان تركيبه واتصافه بالوجود من غيره ولما نفى عنه الموصوفية علم أن صفاته عين
ص:299
ذاته وأن أسماؤه غيره وأن الغاية دون مرتبة قدسه وإلا لزم أن يكون موصوفا هذا خلف.
(فارعوه وصدقوه وتفهموه بإذن الله) ارعوه إما من الرعاية بمعنى الرقوب والحفظ أي فارقبوه واحفظوه أو من الإرعاء بمعنى الإصغاء يقال: أرعيته سمعي أي أصغيت إليه يعني فاسمعوه وأصغوا إليه، فالهمزة على الأول للوصل وعلى الثاني للقطع.
(من زعم أنه يعرف الله بحجاب) المراد بالحجاب ما يمنع الوصول إليه تعالى ومعرفته بما يليق به كالنور والظلمة عند الثنوية، والطبع عند الملاحدة فإنهم طلبوا لهذا العالم سببا فأحالوه لظلمة طبيعتهم على الطبع إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة التي من جملتها القول بالمعاني والصفات الزائدة عليه القائمة به فإنها تحجب أيضا عن الوصول إليه.
(أو بصورة) أي بجوهر حال في غيره أو بهيئة خيالية أو وهمية كما زعمه المصوره (أو بمثال) جسماني كما زعمه المجسمة (فهو مشرك) اتخذ إلها غيره وهذا هو الشرك بالله (وإنما هو واحد متوحد) موصوف بالوحدة المطلقة المنافية لتلك المقايسات الخيالية والوهمية والاعتبارات الحسية والعقلية.
(فكيف يوحده) أي يعتقد أنه واحد على الإطلاق (من زعم أنه عرفه بغيره) فإن هذه المعرفة شرك مناف للتوحيد (وإنما عرف الله من عرفه بالله) أي بما يليق به أي بما عرفه الله من نفسه وهو أنه خالق كل شيء وليس كمثله شيء وقد مر توضيح ذلك.
(فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره) لأنه تعالى لما تقدس أن يشبه خلقا في شيء كان العارف المشبه له بخلقه أو المكيف له بكيفيات تحويها الأوهام وبصفات تعتريها الأفهام غير عارف به بل متصور الأمر آخر هو في الحقيقة غيره فهو مقر بوجود الصانع صريحا ومنكر له لزوما فيندرج من جهة الإقرار في جملة المشركين ومن حيث الإنكار في زمرة الملحدين.
(ليس بين الخالق والمخلوق شيء) مشترك معنى واشتراك العالم والقادر والموجود وغيرها بينهما إنما هو بمجرد اشتراك الاسم كما سيجيء تحقيقه (والله خالق الأشياء) فلا يجوز أن يتصف بشيء منها مشتركا بينه وبين خلقه لامتناع اتصافه بخلقه (لا من شيء كان) خبر بعد خبر يعني الله لا من شيء كان وسيجئ أن من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا، ويحتمل أن يكون متعلقا بخالق الأشياء يعني أنه خالق الأشياء لا من شيء كان في الأزل فيشاركه في الأزلية.
وفي كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي «قال الزنديق لأبي عبد الله (عليه السلام): من أي شيء خلق الأشياء؟» قال (عليه السلام): لا من شيء وفي بعض النسخ «من لا شيء» فقال: كيف يجيء من لا شيء
ص:300
شیء؟ قال (عليه السلام): إن الأشياء لا تخلوا أن تكون خلقت من شيء أو من غير (1) شيء فإن كانت خلقت
ص:301
من شيء كان معه، فإن ذلك الشيء قديم والقديم لا يكون حديثا ولا يفني ولا يتغير ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة (1) الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشأت منه الأشياء حيا، أو من أين جاء الحياة إن كان ذلك الشيء ميتا؟ ولا يجوز أن يكون من حي وميت قديمين لم يزالا لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيا ولا يجوز أن يكون الميت قديما لم يزل بما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة ولا بقاء.
(والله يسمى بأسمائه) التي وضعها لنفسه واختارها لعباده يدعونه بها (وهو غير أسمائه والأسماء غيره) لضرورة أن القديم غير الحادث والحادث غير القديم، وفيه رد على طائفة من الحشوية حيث ذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى حقيقة واعتقدوا ذلك وقد الزموا أن من قال: النار لزم أن يحترق وتخصيص الاتحاد بأسماء الله تعالى دون أسماء المخلوقين تحكم، وهذه الطائفة من الخسة والخفة بحيث لا تخاطب.
ص:302
(إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)... 152
(الرحمن على العرش استوى)... 115
(الله يتوفى الأنفس حين موتها)... 81
(الله يستهزيء بهم)... 176
(إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).... 115
(إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)... 91
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)... 152
(إن الله يفصل بينهم يوم القيمة)... 143
(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)... 87
(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)... 143
(أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)... 83
(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه
تعلمون).... 118
(حجابا مستورا)... 226
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).... 34
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)... 187
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)... 147
(فأصبحوا ظاهرين)... 56
(فأما الذين في قلوبهم زيع)... 19
(قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا الانبیاء22...44
ولعلا بعضهم على بعض)... 44
(يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)... 20
ص:303
(كل شيء هالك إلا وجهه).... 196
(كن فيكون)... 237
(لمن الملك اليوم لله الواحد القهار).... 291
(لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا)... 143
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).... 47
(ليس كمثله شيء).... 199
(ناقة الله وسقياها)... 198
(وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون)... 10
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)... 203
(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه... 9
(وإلي الله مرجعكم جميعا)... 129
(وإن إلى ربك المنتهى)... 118
(وإن أحد من المشركين استجارك)... 158
(وأشرقت الأرض بنور ربها)... 88
(وجادلهم بالتي هي أحسن)... 151
(وكيف تكفرون بالله)... 217
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)... 151
(ولاصلبنكم في جذوع النخل)... 22
(ولله يسجد ما في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال)... 117
(ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه)... 91
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا
يعلمون)... 143
(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)... 255
(ومكر الله)... 176
(ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم)... 58
(ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)... 272
(وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير)... 85
ص:304
کتاب التوحید...3
باب حدوث العالم...3
باب اطلاق القول بأنه شیء...59
باب انه لا یعرف إلا به...80
باب أدنی المعرفة...89
باب المعبود...96
باب الکون و المکان...109
باب نسبة...137
باب النهی عن الکلام فی الکیفیة...147
باب فی ابطال الرؤیة...161
باب النهی عن الصفة بغیر ما وصف به نفسه جل و تعالی...197
باب النهی عن الجسم و الصوره ...219
باب صفات الذات ...240
باب آخر و هو من الباب الأول ...259
باب الإرادة أنها من صفات الفعل و سائر صفات الفعل ...264
جملة القول فی صفات الذات و صفات الفعل ...276
باب حدوث الأسماء...283
ص:305