الطاف الرحمن فی فقه القرآن المجلد 3

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی ، جعفر، ‫ 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور : الطاف الرحمن فی فقه القرآن/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام صادق (ع) ‫، 1441ق. ‫ = 1398 -

مشخصات ظاهری : ج.

فروست : موسسه امام صادق (ع) ‫؛ 487.

شابک : ‫دوره ‫: 978-964-357-628-8 ؛ ‫ج.1 ‫: 978-964-357-627-1 ؛ ‫ج.2 ‫: ‫ 978-964-357-634-9 ؛ ‫ج.3 ‫: ‫ 978-964-357-645-5

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.3(چاپ اول: 1399) (فیپا).

مندرجات : ج.1. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام الطهاره والصلاه والصیام والزکاه والانفال والفیء والخمس والحج.-ج.2. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام : الجهاد والأمربالمعروف والنهی عن المنکر٬ والمکاسب المحرمة٬ و العقود الشرعیة والایقاعات والأحکام النکاح

موضوع : قرآن -- احکام و قوانین

Qur'an -- Law and legislation

موضوع : تفاسیر فقهی -- شیعه

Qur'an -- *Legislative hermeneutics -- Shiite

قرآن -- علوم قرآنی

Qur'an -- Qur'anic sciences

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : ‫ BP99/6

رده بندی دیویی : ‫ 297/174 ‮

شماره کتابشناسی ملی : 5781015

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ألطاف الرحمن

في

فقه القرآن/ 1

ص: 3

ص: 4

ألطاف الرحمن

في فقه القرآن

الجزء الثالث

في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة

والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ

تأليف

الفقيه المحقّق

جعفر السبحاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

ألطاف الرحمن في فقه القرآن / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1397.

2 ج (VOL.1) 1-627-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 8 - 628-357-964-978 ISBN

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

ج. 1. في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ .

1. قرآن -- احكام و قوانين. 2. تفاسير فقهى -- شيعه. الف. موسسۀ امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

7 الف 2 س 6/99 BP 174/297

1397

اسم الكتاب:... ألطاف الرحمن في فقه القرآن / ج 1

المؤلف:... الفقيه المحقّق جعفر السبحاني التبريزي

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1397 ه ش / 1440 ه. ق / 2019 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عدد النسخ:... 1000 نسخة

القطع:... وزيري

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1031 تسلسل الطبعة الأُولى: 487

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة

مركز التوزيع

قم المقدسة: ساحة الشهداء: مكتبة التوحيد

? 37745457؛ 09121519271

http://www.Tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص: 6

الفصل الثاني عشر: في أحكام الطلاق وغيره من الإيقاعات في الذكر الحكيم

اشارة

1. أحكام الطلاق في الذكر الحكيم.

2. تطليق الزوجة ثلاثاً دفعة واحدة.

3. أحكام العدد.

4. أحكام الظهار في الذكر الحكيم.

5. أحكام الإيلاء في الذكر الحكيم.

6. أحكام اللعان في الذكر الحكيم.

7. أحكام الارتداد في الذكر الحكيم.

ص: 7

ص: 8

أحكام الطلاق

1. أحكام الطلاق في الذكر الحكيم

اشارة

النكاح والطلاق لفظان أشبه بالمتضايفين وكلّ مَن سمع النكاح ربما يتبادر في ذهنه الطلاق وبالعكس، فالأوّل سماعه حلو والثاني سماعه مرّ، فالنكاح بناء بيت للمعاشرة وإبقاء النسل، والطلاق تهديم ذلك البيت وتخريبه، فالإسلام دعا إلى النكاح دعوة حثيثة وذمّ الطلاق، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وصف الأوّل: «ما بني في الإسلام بناء أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من التزويج».(1)

وفي الوقت نفسه وصف الطلاق بأنّه أبغض الأشياء، فقد روى الكليني بسنده عن صفوان بن مهران، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «تزوّجوا وزوّجوا، ألا فمن حظّ امرئ مسلم إنفاق قيمة أيّمة [أي التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً]، وما من شيء أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح، وما من شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجل من بيت يُخْرب في الإسلام بالفرقة، يعنى الطلاق» ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما وكّد في

ص: 9


1- . بحار الأنوار: 222/100، برقم 40.

الطلاق وكرّر القول فيه من بغضه الفرقة».(1)

ومع ذلك كلّه ربما يكون حفظ العلاقة بين الزوجين أمراً شاقّاً لسوء الخلق من أحد الزوجين أو عدم انسجامهما وكثرة المشاكل بينهما أو غير ذلك، ففي مثل هذه الظروف ربما يكون حفظ العلاقة بين الزوجين منتهياً إلى ما لا تحمد عقباه، فلذلك شرّع الإسلام الطلاق، بما أنّ آخر الدواء الكيّ ، ولكن جعل له شروطاً وحدوداً، تحفظ بها كرامة الزوجة. إنّ تشريع الطلاق في بعض الأزمنة دليل على أنّ رسالة النبي وشريعته شريعة خاتمة، فإنّ سدّ باب الطلاق كما في بعض الفرق من المسيحيّين على خلاف المصلحة العامّة، إذ ربما يكون بقاء الزوجين على ما هما عليه موجباً للحرج والضيق.

إذا تبيّن ذلك فلندرس ما ورد حول الطلاق من الآيات التي تتضمّن تشريعات سماوية تحفظ كرامة البيت.

الوظائف الخمس عند الطلاق وبعده

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ

ص: 10


1- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث 10. قوله: وكّد: اشتدّ، ولعلّ المراد من قوله: «إنفاق قيمة أيّمة» إنفاق ما يوازي قيمة ائمة «ايمة» في طريق زواجه، امّا جعلها صداقاً، أو إنفاقها وليمة ليله العرس، لكنّ العلّامة المجلسي أعلى اللّه مقامه - فسّره بوجه آخر. لاحظ مرآة العقول: 19/2.

ذلِكَ أَمْراً».(1)

المفردات

أحصوا: الإحصاء: معرفة العدّ وضبطه، أُخذ من الحصاة لأنّهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعل لكلّ معدود حصاة، ثم عدّوا ذلك الحصى.

العدّة: الشيء المعدود، والمراد الأيام، وعدّة المرأة هي الأيام التي بانقضائها يحلّ لها التزوّج. والاعتداد: قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدّة المرتبة في الشريعة.

بفاحشة: الفاحشة: الزنا أو كلّ فعل سوء يؤذي الزوج ومَن في البيت.

حدود: الحدود: الحدّ: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر.

التفسير

ابتدأ سبحانه كلامه في سور ثلاث بخطاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهي: سورة الأحزاب حيث قال: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّهَ » ، والثانية سورتنا هذه، والثالثة: سورة التحريم. حيث قال: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكَ ».

وعلى كلّ تقدير فقد خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ » أطلق الفعل «طَلَّقْتُمُ » وأُريد به قصده، نظير قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...»(2) : أي إذا أردتم الصلاة.

ص: 11


1- . الطلاق: 1.
2- . المائدة: 6.

ثم إنّه سبحانه بدأ الآية بخطاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم والخطاب بالتطليق بالمؤمنين كما قال: «إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ » وما هذا إلّالأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو المبيّن للأحكام، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يطلّق زوجة طيلة حياته ثمّ إنّه سبحانه أمر المؤمنين بعدّة أُمور:

1. «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » : أي طلّقوهن لغاية اعتدادهنّ ، أو عند عدّتهنّ .

2. «وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ » بضبط أيّامها، وعدم التساهل فيها، حتى لا يكون على الزوجين في أمر الإمساك أو التسريح حرج.

3. «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ رَبَّكُمْ » لم يذكر متعلّق التقوى ليعمّ جميع المقامات ولا سيّما في ضبط أيام العدّة؛ لأنّ التساهل في هذا الأمر ينتهي إلى ما لا تحسن عاقبته.

4. «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ » : أي لا يجوز للزوج أن يخرج المطلّقة المعتدّة من مسكنها التي كانت تسكن فيه قبل الطلاق. والنهي عن إخراجها من بيتها لمصلحة الزوجين؛ لأنّ بقاءهما في نفس البيت الذي يسكن فيه الزوج ربما يؤثّر في رجوع الزوج عن الفراق وعدوله عن الطلاق، وبما أنّ المعتدّة بحكم الزوجة يجوز لها التزيّن لجلب نظر الزوج.

5. «وَ لا يَخْرُجْنَ » : أي لا يجوز للمرأة أن تخرج في عدّتها من بيتها إلّا لضرورة ظاهرة، وذلك لأنّ المعتدّة بمنزلة الزوجة فلا تخرج إلّابإذن زوجها، فإن خرجت أثمت.

6. «إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ » الاستثناء يتعلّق بما مرّ من قوله: «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ » : أي ليس للزوج أن يخرج المعتدّة من مسكنها إلّاإذا أتت بفاحشة، أي ما عظم قبحه من الأقوال، أي ليس للزوج أن يخرج المعتدّة من مسكنها «إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ».

ص: 12

روى الكليني بسند منقطع عن الإمام الرضا عليه السلام في تفسير الآية، قال: أذاها لأهل الرجل وسوء خلقها.(1)

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ » : أي ما تقدّم من الأحكام في حدود اللّه التي حدّد بها حياة الزوجين، «وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ » : أي بتجاوزها «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ » لأنّ كلّ ما حدّده فهو لصالح الإنسان، ومن خالف وهدم الحدود فإنّه سيتضرّر وإن لم يقف على عاقبة الأمر حين المخالفة.

وفي ختام الآية يخلق الأمل في نفس الزوجين قائلاً «لا تَدْرِي» المخاطب كلّ مَن هو في هذا الصدد «لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» فتنقلب البغضاء إلى المحبّة، والكدورة إلى الصفاء.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيّتها، وإليك الكلام في أحكام أُخرى تتعلّق بالموضوع.

1. حكم الطلاق في الحيض

اتّفقت الإمامية على بطلان الطلاق في الحيض وأنّه لا يصحّ إلّافي حال الطهر من الحيض، وذهب فقهاء السنّة إلى أنّ الطلاق في الحيض إثم ويُسمّى عندهم طلاقاً بدعياً، ولكنّهم قالوا بصحّته، ومع ذلك لا تحسب هذه الحيضة من عدّة المطلقة فتنتظر حتّى تطهر من حيضتها وتنقضي مدّة طهرها ثم تبدأ العدّة من الحيضة التالية.(2)

ص: 13


1- . الكافي: 97/6، الحديث 1؛ الوسائل: 15، الباب 23 من أبواب العدد، الحديث 1، وفسّر في بعض الروايات بالزنا، لاحظ الحديث 3 من الباب الماضي من الوسائل.
2- . لاحظ: نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 46. والعدة عندهم هي الحيضات الثلاث كما ستأتي.

أقول: إنّ المستفاد من الآية بطلان الطلاق في الحيض، فإنّ ظاهر قوله سبحانه: «إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » أنّ الزوج إذا أراد أن يطلّق زوجته فعليه أن ينتظر الوقت المناسب للدخول في العدّة، بحيث يكون الوقت الّذي تطلّق فيه جزءاً من العدّة، والمفروض أنّها لو طلّقت في حالة الحيض لا تحسب منها بالاتّفاق.

وهذا هو الظاهر من القرطبي حيث فسّر اللام ب «في» وقال: معنى:

«فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » : أي في الزمان الّذي يصلح لعدّتهن، وقد حصل الإجماع على أنّ الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه.(1)

إنّ اللام في قوله: «لِعِدَّتِهِنَّ » بمعنى لام الغاية فمعنى قوله: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » : أي لغاية أن يعتددن، على نحو يترتّب الاعتداد على الطلاق بلا فصل ولا تريّث، والمفروض أنّ الحيض فاصل بين الطلاق والاعتداد. فيكون المعنى :

طلّقوهن لغاية اعتدادهن، والمفروض أنّ تلك الحالة لا تصلح لتحقّق هذه الغاية في جميع المذاهب.

فإذا طلّق الرجل زوجته في الحيض والنفاس فلا تحسب تلك الحيضة من الأقراء الثلاثة عند القائلين بصحّة الطلاق، بل تحسب الحيضة الثانية بعد انقضاء الأُولى بالدخول في طهرها. وعلى هذا الأصل ذهب بعض الباحثين(2) بأنّ الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض هو أن ذلك يُطيل على المرأة العدّة، فإنّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدّتها، فتنتظر حتّى تطهر من حيضها.

ص: 14


1- . تفسير القرطبي: 18/153.
2- . نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 27، طبعة مصر 1389 ه.

وتتمّ مدّة طهرها، ثم تبدأ العدّة من الحيضة التالية.(1)

***

2. بُطلان الطلاق في طهر المواقعة

اتّفقت الإمامية على بطلان الطلاق في طهر المواقعة، وإنّ الطلاق فيه كالطلاق في الحيض والنفاس في بطلانه، فلو جامع الزوج زوجته وهي طاهرة وأراد طلاقها فلابدّ أن يصبر حتّى تحيض ثم تطهر فيطلّقها. ولكن الطلاق في طهر المواقعة عند الحنفية والمالكية حرام، ومكروه عند غيرهما ولكنّه صحيح عندهم، ومع ذلك لا يحسب ذلك الطهر من الأطهار الثلاثة إذا فسّرت القروء في قوله سبحانه: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ »(2) ، بالأطهار، كما أنّ الحيضة الّتي بعدها لا تحسب من الحيضات الثلاث إذا فسّرت القروء بالحيضات، كما هو مذهب أهل السنّة.

هذا هو مذهبهم فلنعرض المسألة على الآية، فالآية كما دلّت على بطلان الطلاق في الحيض، دلّت أيضاً على بطلان الطلاق في طهر المواقعة؛ وذلك لأنّ اللام في قوله سبحانه: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » إمّا بمعنى (في)، فيكون المراد إيقاع الطلاق في الزمان الّذي يصلح للاعتداد، والمفروض أنّ المرأة في طهر المواقعة لا يصحّ منها الاعتداد كما هو مذهبهم، فإنّهم قالوا بصحّة الطلاق ولكن اتّفقوا على أنّ ذلك الطهر والحيضة الّتي بعده لا تحسبان من القروء الثلاثة، سواء أفسّرت بالأطهار أو بالحيضات الثلاث.

ص: 15


1- . لاحظ: نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 46.
2- . البقرة: 228.

وإمّا بمعنى الغاية، فيكون المعنى: طلّقوهن لغاية اعتدادهن، والمفروض أنّ تلك الحالة لا تصلح لتحقّق هذه الغاية في جميع المذاهب.

فالآية الواحدة تضمّنت بيان بطلان الطلاق في كلتا المرحلتين: كونها حائضاً، أو في طهر المواقعة.

ص: 16

أحكام الطلاق

2. تطليق الزوجة ثلاثاً دفعة واحدة

تمهيد

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً وتعسّفاً في الحياة الاجتماعية وأدّت إلى تمزيق الأُسر وتقطيع صلة الأرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً، دفعة واحدة، بأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، حيث تحسب ثلاث تطليقات حقيقة، وتحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

فربّما يتغلّب الغضب على الزوج فيطلّق الزوجة ثلاثاً في مجلس واحد، ثم يندم على عمله ندماً شديداً، ويحاول إيجاد مخرج لمشكلته فلا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة ولا الدعاة إليها مخرجاً فيقعد ملوماً محسوراً، ولو رجع الرجل إلى فقه الإمامية المأخوذ من الكتاب والسنّة وأحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام لوجد مخرجاً وهو بطلان الطلاق الثلاث في مجلس واحد.

ويدلّ على المقصود آيات ثلاث:

ص: 17

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ».(1)

المفردات

مرّتان: تثنية المرّة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة مثلها، وزناً ومعنى واعتباراً.(2)

فإمساك: الإمساك خلاف الإطلاق، والمُمسك: البخيل.

تسريح: مأخوذ من السرح بمعنى الإطلاق، يقال: سرّح الماشية في المرعى سرحاً إذا أطلقها، والمِسرَح المَشْط لإطلاق الشعر به.

افتدت: الفِدي والفداء: حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذله عنه، يقال: فديته بمال، أي بذلت له مالاً لإطلاقه.

جناح: الجناح: الإثم.

ص: 18


1- . البقرة: 229. وسيوافيك تفسير قوله سبحانه: «وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا...» في محلّه فانتظر.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 237/2.
التفسير

هذه الآية تتضمّن حكم الزوجات بعد طلاقهن، فإنّ الرجل بعد إيقاع الطلاق مخيّر بين الرجوع والإمساك بالمعروف، أو تركها وتسريحها لحالها حتّى تنقضي عدّتها، والأوّل مفاد قوله: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ » بمعنى الرجوع بعد الطلاق الثاني، والثاني مفاد قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » بمعنى ترك المطلّقة مرّتين حتّى تبين بانقضاء العدّة.

ولمّا لم يكن للعرب في الجاهليّة في الطلاق عدد معيّن فربّما طلّق الرجل امرأته مرّات عديدة وراجعها، وكانت المرأة بذلك أُلعوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق والرجوع متى شاء، أنزل اللّه سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ...» : أي أنّ الطلاق الذي شرع فيه الرجوع هو الطلاق الأوّل والثاني، وأمّا الثالث فقد ذكر حكمه في الآية التالية.

قال سبحانه: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ».(1)

قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» : أي فلو رجع بعد التطليقتين وطلقها ثالثة، فلا تحلّ له من بعد.

فدلّ قوله: «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ...» على الحرمة الأبدية، نعم لو طلّقها الزوج الثاني لا بأس أن يتراجعا بعقد جديد كما قال: «فَإِنْ طَلَّقَها» : أي الزوج الثاني «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا».

ص: 19


1- . البقرة: 230.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى دراسة دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً دفعة.

لزوم فصل كلّ طلاق عن الآخر

قوله سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ » ، اللام للجنس لا للعهد، فإذا كانت للجنس يعمّ مطلق الطلاق.

ثمّ إنّ قوله: «مَرَّتانِ » ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة، وإلّا يصير مرّة ودفعة، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وأنّه عبارة عن الواحد منه، والدفعة والكرّة والنزلة، مثل المرّة وزناً ومعنىً واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلّق: «أنتِ طالق ثلاثاً» لم يطلّق زوجته مرّة بعد أُخرى ، ولم يطلّق مرّتين، فإنّ قوله: (ثلاثاً) لا يصير سبباً لتكرّره، وتشهد على ذلك أُمور:

1. أنّه اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله: أربعاً.

2. لا يكفي في فصول الأذان إذا قال: اللّه أكبر وأردفه بقوله: اثنان.

3. لا يكفي في القسامة عندما يجب أن يحلف خمسين مرّة أن يقول:

«أُقسم باللّه خمسين يميناً».

4. يعتبر في رمي الجمرات، الرمي بعد الرمي إلى سبع مرّات، فلا يجزي رمي الحصيّات السبع مرّة واحدة.

5. في تكبيرات الصلاة سبعاً أو خمساً لا يجزي أن يقول: اللّه أكبر سبع مرّات.

ص: 20

وعلى هذا فالقول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد يضادّ صريح الآيات، حتى أنّ الجصّاص الحنفي اعترف بذلك وقال: إنّ قوله: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ » يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين. وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين، لم يجز أن يقال: أعطاه مرّتين.(1)

فإن قلت: إنّ ما ذكر إنّما يأتي إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، وأمّا لو كرّر الصيغة كما إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهناك طلاق بعد طلاق.

قلت: إنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع العلقة الزوجية، فلا زوجية مستقرّة بعد الصيغة الأُولى حتى تقطع، ولا رابطة قانونيّة حتى تصرم وتخرم.

وحصيلة الكلام: أنّ الطلاق يحلّ عقد الزواج، فكيف يمكن أن يتعدّد دون أن تتخلّل بينهما عقد الزواج ؟ فقول الزوج: «أنت طالق» بمعنى حلّ العقدة وقطع الربط، ومثله لا يمكن أن يتكرّر إذ هو أشبه بتحصيل الحاصل.

***

الآية الثانية

اشارة

قوله سبحانه: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ».(2)

ص: 21


1- . أحكام القرآن: 378/1.
2- . البقرة: 231.
المفردات

أجلهنّ : الأجل: آخر المدّة وعاقبة الأُمور. والمراد: قاربن انقضاء العدّة، لأنّ بعد انقضاء العدّة ليس للزوج الإمساك، وهذا كما تقول: بلغت البلد: إذا قربت منه.

فأمسكوهن بمعروف: أي راجعوهن قبل انقضاء العدّة بما تقبله النفوس.

سرحوهن بمعروف: اتركوهن حتى تنقضي عدّتهن.

ضراراً: أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن، بل لطلب الإضرار بهن.

لتعتدوا: أي لتظلموهن.

ظلم نفسه: أي أضرّ بنفسه وعرّضها لعذاب اللّه.

التفسير
اشارة

إنّ هذه الآية وإن وقعت بعد التطليقة الثالثة(1)، لكن كثيراً من المفسّرين قالوا بأنّها ترجع إلى الآية الأُولى، أي قوله سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ » ، فإنّه سبحانه يأمر بأنّ المطلّق مطلقاً يجب أن لا يتخذ الطلاق وسيلة لايذاء المرأة بل إذا طلق يجب أن يراعى أحد الأمرين في كلّ طلاق:

1. إمّا أن يمسك بمعروف، أي يرجع عن الطلاق ويأخذها بعنوان أنّها زوجته.

2. أو يترك حتى تخرج من العدّة كما يقول: «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ » إذا علمت هذا فاعلم انّ الآية فعندئذٍ فالآية تكون دليلاً ثابتاً على بطلان الطلاق الثلاث مرّة واحدة؛ وذلك لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد

ص: 22


1- . قوله سبحانه: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ...» (البقرة: 230)

أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والطلاق الثلاث مرّة واحدة فاقد لهذا. هذا إذا قلنا برجوع الآية إلى قوله: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ » ، وامّا إذا قلنا برجوع الآية إلى مَن طلّق مرّتين فالحكم هنا أيضاً نفس الحكم السابق، فليس أمامه إلّاأحد طريقين إمّا الإمساك، وإمّا التسريح حتى لا يتنهي إلى الطلاق الثالث.

قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها مادامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدّتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها، لا تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها.(1)

وقد تقدّم أنّ الآية دليل آخر على بطلان الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الأمرين: الإمساك أو تركها حتى ينقضي أجلها، سواء طلّقها بلفظ: أنت طالق ثلاثاً؛ أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق ؟!

***

3. لزوم الاعتداد بعد كلّ تطليقة

ظاهر قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ »(2) ، أنّ الطلاق يجب أن يكون في زمن يصلح للاعتداد أو لغاية الاعتداد، وهو لا يتحقّق إلّابفصل الأوّل عن الثاني والآية دليل ثالث على بطلان الطلاق ثلاثاً، لأنّه يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة ولا إحصاء لها إذا طلّق اثنتين مرّة واحدة، ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك. وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام بهذه الآية

ص: 23


1- . تفسير ابن كثير: 53/1.
2- . الطلاق: 1.

على بطلان الطلاق الثلاث.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّ رجلاً قال له: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال: «ليس بشيء، ثم قال: أما تقرأ كتاب اللّه «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » - إلى قوله سبحانه: - «لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» ثم قال: كلّما خالف كتاب اللّه والسنّة فهو يرد إلى كتاب اللّه والسنّة».(1)

رجاء

بعد كلّ تطليقة

ومعنى قوله سبحانه: «لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً»(2) هو: ولعلّ الزوج يندم من طلاقها ويرجع إلى زوجته، وهذا إمّا يتصوّر إذا كان بعد الطلاق الأوّل عدّة، وإلّا فلو أوقع الطلاق الثلاث مرّة واحدة فليس هناك أمر يترقّب لأنّها صارت محرّمة إلى أن تنكح زوجاً غيره.

هذا كلّه في الاستدلال بالكتاب وأمّا السنّة فهي خارجة عن موضوع بحثنا، فقد تضافرت السنّة من الفريقين على البطلان، ومع ذلك فأئمّة المذاهب الأربعة على القول بالصحّة! ولأجل أن يقف القارئ على تاريخ تصحيح هذا النوع من الطلاق نشير إلى شيء منه:

1. روى مسلم عن طاووس عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه

ص: 24


1- . قرب الإسناد: 30؛ الوسائل: 15، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 25.
2- . الطلاق: 1.

عليهم، فأمضاه عليهم.(1)

2. وروى مسلم عن ابن طاووس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس:

أتعلم إنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال: نعم.(2)

3. وروى مسلم عن طاووس أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه وأبي بكر واحدة ؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم.(3)

4. روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر، فلمّا رأى الناس قد تتابعوا (تتايعوا) فيها، قال: أجيزوهن عليهم.(4)

5. أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر قال: يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة، وإنّه مَن تعجّل أناة اللّه في الطلاق ألزمناه إيّاه.(5)

6. عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناةح.

ص: 25


1- . صحيح مسلم: 184/4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1. «أناة»: عدم العجلة.
2- . صحيح مسلم: 184/4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 2.
3- . صحيح مسلم: 184/4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 3. الهنات: الشر و الفساد، والتتايع: بمعنى التتابع في الشر.
4- . سنن البيهقي: 339/7؛ تفسير الدر المنثور: 279/1.
5- . عمدة القاري: 537/9، وقال: اسناده صحيح.

فاستعجلتم أناتكم، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك.(1)

7. عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِمْ كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه ؟ مَن قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، فهي حرام؛ ومَن قال لامرأته: أنت بائنة، فهي بائنة؛ ومَن قال: أنت طالق ثلاثاً، فهي ثلاث.(2)

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن اجتهاداً فيما لا نصّ فيه، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك النصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص، وإنّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد مقابل النص ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة ذكرناها في كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف» فلاحظ.(3)

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ

ص: 26


1- . كنز العمال: 676/9، برقم 27943.
2- . كنز العمال: 676/9، برقم 27944.
3- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 2/61.

كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ».(1)

المفردات

تعضلوهن: من العضل بمعنى المنع.

أزكى : الزكاة النماء والبركة في الشيء، ولعلّه أُريد صلاح حالهم.

التفسير
النهي عن منع المطلّقة عن الزواج بشخص آخر

الآية تتكلّم في الزوجة المطلّقة التي خرجت عن العدّة، وصارت مستعدّة للزواج من رجل آخر، فربما يتمسّك الزوج المطلّق بشتّى الحيل حتى يمنع زواجها من رجل آخر، وهذا هو الذي تتكلّم عنه الآية. قال سبحانه: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » : أي خرجن عن العدّة، «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ » : أي لا تمنعوهن «أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ » : أي لا تمنعوهن عن النكاح. ثمّ إنّ الفعل المنهي عنه مشروط بالشرط الوارد في قوله: «إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ » كمهر المثل وحسن المعاشرة، ثمّ إنّه سبحانه يصف وجه المنع عن الفصل بقوله: «ذلِكَ » : أي النهي عن العضل «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ».

وتخصيص المؤمن لأجل أنّه هو المتّعظ بالنهي، والسبب لهذا النهي هو ما يشير إليه بقوله: «ذلِكُمْ » إشارة إلى النهي عن العضل، ولفظة «كم» خطاب

ص: 27


1- . البقرة: 232.

للمؤمنين «أَزْكى لَكُمْ » أيّها المؤمنون «وَ أَطْهَرُ» لنفوسهن «وَ اَللّهُ يَعْلَمُ » صلاح العباد «وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ».

هذا كلّه إذا كان المانع هو الزوج المطلّق، المانع عن تزوّجها من شخص آخر، وهنا احتمال آخر وهو أن يكون المانع أولياء المرأة كالأب والجد، يصدّون بينها وبين زوجها الأوّل عن الزواج المجدّد به. وعندئذٍ يكون معنى الآية المنع من زواج المرأة بالزوج الأوّل، زواجاً بعقد جديد، ولكن الظاهر هو الوجه الأوّل بقرينة الخطاب في صدر الآية «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » الظاهر في أنّ المانع هو المطلّق، لا الأبوان.

ص: 28

أحكام الطلاق

3. أحكام العدد

تمهيد

يجب على المطلّقة والمتوفّى عنها زوجها صيانة النفس عن التزويج إلى مدّة محدّدة وذلك لوجهين:

1. ربما تكون المرأة ذات حمل خفيّ ، فالتزويج بلا فصل يورث اختلاط النسل، خصوصاً إذا كان الحمل في أوائله، فيجب عليها الصبر حتى يظهر حالها من حيث وجود الحمل وعدمه فلو بان الحمل تخرج من العدّة بوضعها الحمل، ولو بان عدمه فالمطلّقة المدخول بها تخرج من العدّة بثلاثة قروء، والمتوفّى عنها زوجها بمضي أربعة أشهر وعشرة أيام.

فإن قلت: فلو كان التربّص لأجل استظهار حالها من حيث احتمال الحمل، فعلى هذا يلزم عدم وجوبه إذا كنّا قاطعين بعدمه، كما إذا طال الفراق بينه وبين زوجه قرابة سنة، أو علمنا بعدم وجود الرحم بعملية جراحية.

قلت: ما ذكرناه من أنّ التربّص لأجل استظهار الحال من قبيل الحكمة لا العلّة، ففي الثانية يدار الحكم مداره. كما في قولنا: الخمر حرام لإسكاره فإذا تبدّل

ص: 29

إلى الخلّ يحلّ . وأمّا الأُولى فالحكم يكون أعمّ منه على أنّ تجويز عدم العدّة في هاتين الصورتين ربما ينتهي الأمر الى ما لا يحمد عقباه، فربما يدّعي أحد الزوجين كذباً عدم وجود الحمل لأجل أحد الأمرين، فلأجل سدّ هذا الباب حكم على الجميع بالتربّص؛ على أنّ للتربّص وجهاً آخر نذكره تالياً.

2. إنّ الأمر بالتربّص في المطلّقة لأجل احتمال طروء الندم على الزوج، ففي خلال ثلاثة قروء إذا ندم على عمله يصحّ له الرجوع، ولولا التربّص لربما يفوت هذا الأمر المهم على الزوج.

نعم الأمر بالتربّص في المتوفّى عنها زوجها إذا لم تكن حاملاً لأجل تكريم الزوج وتعظيمه، ولذلك يحرم عليها الزينة ويجب عليها الحداد، وهذا الأمر يفوت بجواز التزويج بعد الموت مباشرة.

إذا علمت ذلك فلندرس الآيات الواردة في أحكام العدد.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».(1)

ص: 30


1- . البقرة: 228.
المفردات

قروء: جمع القُرء، وعُدّ من الأضداد، فيقع على الطهر والحيض، فلو أُريد الأوّل يجمع جمع كثرة ويقال: قروء، ولو أُريد الثاني يجمع جمع قلّة، ويقال:

إقراء.(1) والمشهور أنّه حقيقة فيهما. وسيوافيك ما هو المراد عند التفسير.

أرحامهن: الرحم: مستودع الجنين في أحشاء الحُبلى.

بعولتهن: جمع البعل، زوج المرأة، وربما يفرّق بينهما باشتراط الدخول في صدق البعل دون الزوج، وفي الحديث: «جهاد المرأة حسن التبعّل» أي حسن العشرة وحسن الصحبة مع بعلها.(2)

درجة: منزلة، ويعبّر بها عن المنزلة الرفيعة.

التفسير
عدّة المطلقة الرجعية

إنّ الآية من غرر الآيات وأغزرها، حيث إنّها تتضمّن بيان أحكاماً خمسة، كلّها تتعلّق بحقوق الرجل والمرأة(3)، وكيفية معاشرتها أو مفارقتها في بعض الأحوال، وإليك بيانها تدريجاً:

الأوّل: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ».

قوله: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ » وهي تعمّ كلّ مطلقة، ولكن القرآئن الموجودة في الآية

ص: 31


1- . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك». سنن الدار قطني: 22/1، برقم 811؛ الوسائل: 1، الباب 8 من أبواب الحيض، الحديث 2.
2- . مجمع البحرين: 322/5، مادة «بعل».
3- . أو ما يُسمّى بالأحوال الشخصية.

تشهد على خروج الموارد التالية: 1. مَن لا تعتدّ، 2. مَن تعتدّ بأقل من ثلاثة قروء، 3. أو تعتد ثلاثة أشهر، 4. أو تعتد بوضع الحمل.

فاللّواتي لا يعتددن هنّ : أمّا اليائسة، لأنّ الغاية من العدّة هو كشف ما في الأرحام، واليائسة يئست من الحمل.

أو المطلّقة قبل الدخول، قال سبحانه: «إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها»(1).

أو الصغيرة دون التسع.

وأمّا مَن تعتدّ بقرأين فهي الأمة المملوكة.

ومَن تعتدّ بثلاثة أشهر لا بثلاثة قروء، وهي الشابة في سن مَن تحيض ولا تحيض.

والمسترابة: وهي الطاعنة في السن والتي لا تحيض لاحتمال عارض أو لكبر سنّها.

ويدلّ على حكم الخامسة والسادسة قوله سبحانه: «وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ »(2) . قوله:

«وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ » ناظرة إلى الصورة الخامسة.

وأمّا مَن تعتدّ بوضع الحمل، فلقوله سبحانه: «وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ».(3)4.

ص: 32


1- . الأحزاب: 49.
2- . الطلاق: 3.
3- . الطلاق: 4.

وبالنظر إلى هذه الآيات فيكون المراد من المطلّقات مَن دخل بها الزوج بعد أن أكملت التسع ولم تكن حاملاً ولا آيسة وكانت من ذوات الحيض، ولم تكن مملوكة.

وأمّا ما هو المراد من ثلاثة قروء، فسيأتي الكلام فيه بعد الفراغ عن تفسير الآية.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر التربّص في المقام مقيّداً بأنفسهنّ فيقول: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ » وفي الوقت نفسه يذكر التربّص في الإيلاء مجرّداً عن هذا القيد، يقول:

«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ»(1) والفرق واضح، فإنّ التربّص في الإيلاء فعل الزوج وهو معرض عن زوجته، غير راغب فيها، بخلاف المقام فإنّ التربّص هنا فعل الزوجة، وبما أنّ لها رغبة في الزواج بعد طلاق زوجها لها، يذكر سبحانه بأنّهن - مع وجود الرغبة والميل إلى الزواج بعد الطلاق - «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » : أي يحبسن أنفسهن عن الزواج حذراً عن اختلاط المياه، فأنفسهنّ راغبة في الزواج ولكن يجب عليهن تمكين الأنفس عن التربّص ثلاثة أشهر، وإلى ما ذكرناه يشير إليه صاحب الكشاف بعبارة موجزة، قال: في ذكر الأنفس تهييج لهنّ على التربّص وزيادة بعث؛ لأنّ فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربّصنّ وذلك أنّ أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأُمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربّص.(2)

الثاني: «وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ».1.

ص: 33


1- . البقرة: 226.
2- . تفسير الكشّاف: 137/1.

وهذا أمر للزوجة أن لا تكتم الولد الموجود في رحمها، وذلك أنّ المطلّقة إذاكانت من أُولات الأحمال، فلا تخرج من العدّة إلّابعد وضعها الحمل، وهذا ربما يوجب طول مدّة الاعتداد، هذا من جانب ومن جانب آخر تستعجل المطلقة في الزواج أو في الإضرار بالزوج فتكتم ما في رحمها حتى لا يتسنّى للزوج الرجوع، حتى تخرج عن العدّة بمضي ثلاثة قروء، واللّه سبحانه ينهى عن ذلك نهيّاً أكيداً بشهادة قوله: «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ» . نعم الاعتداد لغاية ظهور ما في أرحامهن من قبيل الحِكَم، فالحُكم عام يشمل ما علم أنّها حائل، والتي ليست بحائل، إذ لا يشترط في الحِكَم وجودها في عامّة المصاديق.

الثالث: «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً»

الضمير في «وَ بُعُولَتُهُنَّ » يرجع إلى المطلقات إلّاأنّ الحكم خاص بالرجعيات، ولا يشمل البائنات، والتشريع الإسلامي راغب في بقاء البيت الذي أنشأ بعنوان بيت الزواج، ولذلك يعطي للزوج حقّاً في الرجوع عن طلاقه، مادامت المرأة في عدّتها، «أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ » وصيغة «افعل» مجرد عن إفادة التفصيل لأنّه بمعنى أنّه ذو حقّ دون غيره نظير قول يوسف: «رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ »(1) . ثمّ إنّ كون الزوج أحقّ بالردّ: «إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» لا إضراراً، أي إصلاح حاله معها، وعدم قصد الإضرار بها من الرجعة، وما ذلك إلّالأنّ المعتدّة الرجعية باقية على العصمة الزوجية، ولذلك يُنفق عليها ولا يجوز له معها أن يتزوّج بأُختها أو أن يتزوّج بخامسة، فهي بعد زوجة على نحو لو لم يرجع3.

ص: 34


1- . يوسف: 33.

الزوج في المدّة لبانت، وهذا دليل على اهتمام الشريعة الإسلامية بحفظ حقوق الزوج والزوجة، فمن جانب ترغّب في حفظ بناء الزواج، وترخّص للزوج الرجوع في المدّة، وفي الوقت نفسه تشترط أن يكون الرجوع بقصد المعاشرة، لا الإضرار.

الرابع: «وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ».

أي للنساء على أزواجهنّ مثل الذي للأزواج عليهنّ من الحقّ بالمعروف، يقول الشيخ الطبرسي: وهذا من الكلمات العجيبة، الجامعة للفوائد الجمّة، وإنّما أراد بذلك ما يرجع إلى حسن العشرة وترك المضارّة والتسوية في القسم والنفقة والكسوة، كما أنّ للزوج حقوقاً عليها مثل الطاعة التي أوجبها اللّه عليها له، وألّا تُدخل فراشه غيره، وأن تَحفظ ماءه فلا تحتال في إسقاطه. وروي أنّ امرأة معاذ قالت: يا رسول اللّه ما حقّ الزوجة على زوجها؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «ألا يضرب وجهها، ولا يقبحها، وأن يطعمها ممّا يأكل، ويلبسها ممّا يلبس، ولا يهجرها».

وروي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «اتّقوا اللّه في النساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه، ومن حقّكم عليهنّ ألّا يوطئن فراشكم مَن تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرَّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف».(1)

فقوله سبحانه: «بِالْمَعْرُوفِ » ربما يختلف حسب اختلاف الظروف والأزمان، يقول صاحب المنار: وقد أحال في معرفة ما لهنّ وما عليهنّ ، على المعروف بين الناس في معاشرتهم ومعاملتهم في أهليهم وما يجري عليه عرف).

ص: 35


1- . مجمع البيان: 134/2. يقال: برح به الأمر: أتعبه وجهده وآذاه أذىً شديداً أو أذية شديدة (المنجد).

الناس.(1)

وكان عليه أن يذيّل كلامه بالقول: إلّاما حرّم في الشريعة الإسلامية، فإنّ المعروف يختلف في البيئات العلمانية، ولكونه معلوماً لم يذكره. وعلى كلّ تقدير فهذه الفقرة كلمة جليلة وقاعدة كليّة تبيّن أنّ الحقوق بين الزوجين متبادلة، ومتماثلة، وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قضى على ابنته بخدمة البيت وعلى عليّ ما كان خارجاً من البيت من عمل، وفي الوقت نفسه قال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».(2)

وهذه الفقرة يجب أن تكون مقياساً في معاملة الزوجين حتى لا يأخذ أحد الزوجين الآخر في خدمته دون أن يبادل بخدمة أُخرى، فلو أنّ المتجدّدين الذين ينادون بشعار تحرير المرأة، اتخذوا هذه الفقرة ميزاناً للحكم، لعمّت السعادة كلّ بيوت الزوجية.

الخامس: «وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ».

لمّا سبق أنّ لكلّ من الزوجين على الآخر حقّاً متماثلاً، جاء البيان القرآني مشيراً إلى نكتة أُخرى وهو أنّ إدارة البيت والعائلة ترجع إلى الزوج، وذلك لأنّ لكلّ مجتمع مديراً ينفذ حكمه في الموارد المختلفة، فإنّ كل بيت، مجتمع مصغّر ولبنة للمجتمع الكبير، فكما أنّ المجتمع الكبير بحاجة إلى حاكم مدير فهكذا المجتمع الصغير، والصالح لذلك هو الرجل، لا الزوجة ولا الأولاد. وقد ذكر وجه ذلك في آية أُخرى، قال تعالى: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ 2.

ص: 36


1- . تفسير المنار: 375/2.
2- . تفسير المنار: 379/2؛ الوسائل: 115/14، الباب 81 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 1؛ سنن ابن ماجة: 595/1، برقم 1852.

عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ »(1)، وجه كونهم قوامين أمران: 1. بما فضل الرجال على النساء في قوة التعقّل فيهم، والقوة والطاقة على شدائد الأعمال، فإنّ حياة النساء، حياة إحساسية عاطفية مبنية على الرقة واللطافة. 2. بما أنفقوا من أموالهم، فبما أنّ قوام البيت بالإنفاق ورفع حاجاته فهو أنسب لأن يكون مديراً للبيت نافذاً حكمه فيه لأنّ المهور والنفقات على الرجال.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: «وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » ، أمّا كونه عزيزاً فقد حدّد حقوق كلّ من الرجل والمرأة وصارت المرأة حرّة غير مهضومة الحقوق، وأمّا كونه حكيماً فإن جعل الرجل ذا درجة على النساء ومديراً للبيت ورئيساً له فإنّما هو عن حكمة يُضمن بها بقاء البيت وبناؤه.

ما هو المراد من القرء في الآية ؟

بعد أن تمّ تفسير الآية بعامّة فقراتها، بقي الكلام في بيان معنى «القرء» فهل هو بمعنى الطهر، فالاعتداد بثلاثة أطهار، أو بمعنى الحيض، فالاعتداد بحيضات ثلاث ؟ فيه اختلاف، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّها بمعنى الطهر، وعلى كلّ تقدير الفقهاء أجمعوا على أنّ الثلاثة يجب أن تكون من جنس واحد (أمّا الأطهار الثلاثة أو الحيضات الثلاث)، ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنّها الأطهار، ويُروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة، ومالك وربيعة وأحمد في رواية، وقال عمر، وعلي، وابن مسعود: هي الحيض، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى .(2)

ص: 37


1- . النساء: 34.
2- . غرائب القرآن ورغائب الفرقان: 2/457.

وتظهر فائدة الاختلاف في أنّ مدّة العدّة على القول بأنّها ثلاثة أطهار أقصر من القول بأنّها حيضات ثلاث، لأنّه تكفي الطهارات الثلاث مع حيضتين اثنتين وذلك فيما لو طلّقها في طهر - لم يواقع فيه - ثم حاضت ثم طهرت ثم حاضت ثم طهرت، ففي ظهور الطهر الثالث تخرج من العدّة، مع وقوع حيضتين في الوسط، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الميزان الحيضات الثلاث، ففي مثل ذلك لا يكفي الطهر الثالث بل يجب أن تحيض مرّة ثالثة.

وأمّا أنّ هذه الثلاثة من أي جنس فهي بحاجة إلى التدبّر في الآيات الّتي تأمر المرأة بالاعتداد، وما روي من الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ويمكن تقريب كون المراد هو الطهر بوجوه:

الأوّل: قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » ، ظاهر في أنّ الطلاق لغاية اعتدادهنّ ، ومعنى ذلك عدم وجود الفاصل الزماني بين الطلاق والاعتداد، فعلى هذا إذا طلق في طهر لم يواقع زوجته فيه، الّذي هو طلاق صحيح في جميع المذاهب الفقهية، تكون الزوجة مأمورة بالاعتداد، فيدلّ بالملازمة على أنّ هذا الطهر من إحدى الثلاثة، فيكون الثاني والثالث مثله؛ بخلاف القول الثاني إذ عندئذٍ يجب عليها التربّص حتّى تحيض وتعتد، وهذا على خلاف سياق الآية، الظاهر في عدم الفاصل الزماني بين التطليق والاعتداد.

ثمّ إنّ صاحب الكشّاف لمّا وقف على أنّ ذلك لا ينطبق على المذهب الرائج بينهم أوّل الآية، وقال: فطلّقوهنّ مستقبلات لعدّتهنّ (1)، فيكون الطهر الّذي وقع فيه الطلاق خارجاً من الثلاثة، بل المعدود منها ما يأتي بعده من الحيض.7.

ص: 38


1- . تفسير الكشّاف: 1/137.

وأنت ترى أنّه تأويل للآية، لغاية التطبيق على المذهب.

ونظير الآية، آيتنا هذه حيث إنّ المتبادر منه أنّ المطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء، أنّ التربّص يقع بعد الطلاق، فلو طلّقها في طهر فيكون أحد القروء.

فلو قلنا بأنّ القرء هو الحيض فلازم ذلك التربّص حتّى تحيض.

الثاني: أنّه لو كان المراد من القروء هي الحيضات الثلاث، كان الأنسب أو اللازم أن يقول: ثلاث قروء؛ لأنّ الحيض مؤنّث، وإذا كان المعدود مؤنثاً يعبّر عنه بالعدد المذكّر، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المراد هو الطهر، فهو مذكّر يعبر عنه بالعدد المؤنّث.

الثالث: أنّه سبحانه عبّر هنا على جمع الكثرة، وقال: ثلاثة قروء دون جمع القلّة، الّتي هي الأقراء، مع أنّ الوارد في كلام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو الأقراء حيث قال:

«دعي الصلاة أيام أقرائك»، ومن المعلوم أنّ أيام الحيض في الشهر أقلّ من أيام الطهر، وهذا يؤيّد كون المراد هو الطهر وإلّا لم يعدل عن جمع القلّة الّتي هي الأنسب في المقام إلى جمع الكثرة.

الرابع: اتّفاق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على أنّ المراد من القرء هو الطهر، كما في الروايتين التاليتين:

1. روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: إنّي سمعت ربيعة الرأي يقول: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة بانت منه، وإنّما القرء ما بين الحيضتين، وزعم أنّه أخذ ذلك برأيه، فقال أبو جعفر عليه السلام: «كذب لعمري ما قال ذلك برأيه ولكنّه أخذه من علي عليه السلام قال: قلت له: وما قال فيها عليّ عليه السلام ؟ قال: «كان يقول: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدّتها، ولا سبيل عليها، وإنّما القرء ما

ص: 39

بين الحيضتين».(1)

قوله: «إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدّتها» يكشف عن أنّه جعل الطهر الثالث بتمامه جزء من العدة، فجعل رؤية الدم من الحيضة الثالثة كاشفاً عن انقضائه.

وأمّا المختار عند الإمامية، هو خروجها من العدة بانقضاء الحيضة الثانية الذي لا يعلم إلّابالنقاء وظهور الطهر.

فما اختاره ربيعة الرأي قريب ممّا ذكرنا، نعم ذيل كلامه يدلّ على الموافقة تماماً حين قال: «وإنّما القرء ما بين الحيضين» فإنّه عبارة أُخرى عن الطهرين، بشرط محاسبة الطهر الذي وقع الطلاق فيه من العدة فيكون ثلاثة أطهار.

2. وروى زرارة، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: سمعت ربيعة الرأي يقول: من رأيي أنّها تبين عند أوّل قطرة، فقال: «كذب ما هو من رأيه إنّما هو شيء بلغه عن علي عليه السلام.».(2)

***

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً».(3)

ص: 40


1- . الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب العدد، الحديث 4.
2- . الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب العدد، الحديث 8.
3- . الأحزاب: 49.
المفردات

نكحتم المؤمنات: عقدتم عليهنّ .

تمسُّوهنّ : المسّ : أُريد به الدخول، ومن أدب القرآن التعبير عنه بالمسّ .

عدّة: العدّة: الأيام الّتي بانقضائها يحلّ بها التزوّج، ويُعلم خلوّ رحمها من الجنين.

فمتِّعوهنّ : أي أُعطوهنّ ما يتمتعنّ به.

سرِّحوهنّ : خلُّوا سبيلهنّ . والسراح الجميل الّذي ليس فيه إضرار ولا إيذاء.

التفسير
لا عدّة لغير المدخول بها

لمّا دلّ إطلاق قوله سبحانه: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ »(1) على لزوم العدّة لكلّ مَن عقد عليها تكون هذه الآية مخصّصة لها، بل يمكن أن يقال: إنّ الآية المذكورة ظاهرة في المدخول بها لما ورد في ذيلها قوله: «وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ».

ثمّ إنّ السبب لعدم العدّة لأنّ الاعتداد لأجل تبيّن حال الرحم من حيث الحمل وعدمه، والمفروض أنّه عُقد عليها ولم يدخل بها، فتكون العدّة أمراً غير لازم كما تقول: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها».

ثمّ إنّ قوله: «فَما لَكُمْ » يدلّ على أنّ العدّة حقّ للزوج على الزوجة ليتبيّن

ص: 41


1- . البقرة: 228.

وضع الرحم، غير أنّه سبحانه يأمر الزوج بتمتيعها فيقول: «فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً» بغير جفوة ولا أذى.

وأمّا كيفية التمتّع فيختلف حسب إمكانية الزوج، وسيأتي حكم المطلّقة قبل المسّ وقبل فرض المهر.

وعلى كلّ تقدير فظاهر الآية هو وجوب التمتيع سواء أفرض لها المهر أو لا. لكنّه إطلاق يمكن أن يُقيّد بما في قوله سبحانه: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ »(1) ، فالمتبادر من هذه الآية أنّ الواجب فيما فرض لهنّ فريضة هو نصف ما فُرض لا شيء آخر، وعلى هذا فيختصّ التمتيع بغير ما فرض لها المهر.

الآية الثالثة

قال سبحانه: «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ ».(2)

هذه الآية لها صلة بباب الطلاق، لأنّ الموضوع فيها هو المطلّقة، كما لها صلة بباب المهور حيث تتضمّن مهر المطلّقة قبل الدخول مع عدم فرض المهر عند العقد، وبما أنّا استوفينا الكلام فيها في باب المهور، وأوضحنا المراد من قوله:

«أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً » الذي اختلف فيه كلام المفسرين، اقتصرنا بنقل الآية

ص: 42


1- . البقرة: 237.
2- . البقرة: 236.

فقط، حذراً من التكرار.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: «وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً»(1).

المفردات

المحيض: الحيض، ووقت الحيض، وموضعه. قال الراغب: على أنّ المصدر في هذا النحو من الفعل يجيء على «مَفْعِل».(2)

ارتبتم: شككتم، والمرتابة على قسمين:

1. المرتابة التي لم يُعلم أنّ انقطاع حيضها لكبر سنّها أو لعارض آخر.

2. المرأة التي لم تحض وهي في سنّ مَن تحيض.

التفسير

الآية على وجازتها تتضمّن بيان عدد أصناف ثلاثة من النساء:

1. عدّة المرتابة التي لم يُعلم أنّ انقطاع حيضها لكبر سنّها أو لعارض آخر، وإلى هذا القسم يشير بقوله: «وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ».

ص: 43


1- . الطلاق: 4.
2- . المفردات للراغب: 136، مادة «حيض».

2. النساء اللّاتي لم يحضن وهي في سن مَن تحيض وإليه يشير بقوله:

«وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ » فعدّتهن أيضاً ثلاثة أشهر.

3. عدّة أولات الأحمال وضعهنّ حملهنّ ، كما يقول: «وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ».

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً».

إلى هنا تمّ بيان أحكام عدد النساء الأربع، بقي الكلام في الأقسام التالية:

1. عدّة المتوفّى عنها زوجها.

2. عدّة اليائسة إيجاباً وسلباً.

3. عدّة الصغيرة إذا طلّقت قبل الدخول.

وإليك دراسة هذه الأقسام:

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».(1)

المفردات

يذرون: يتركون.

بلغن أجلهن: أي خرجن عن العدّة.

ص: 44


1- . البقرة: 234.
التفسير
عدّة المتوفّى عنها زوجها

الآية تتضمّن بيان حكمين شرعيّين:

1. اعتداد المرأة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام.

2. إذا خرجن عن العدّة جاز لهن التزويج.

أمّا الأوّل فقوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ » فاللّه سبحانه هو المتوفّي والآخر هو المتوفّى ، أي الذين تُقبض أرواحهم «وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً» : أي يتركون زوجات، فعليهن كما يقول: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» وقد مرّ ما هي النكتة من التعبير بالتربّص بأنفسهنّ ، حيث لو كانت لهنّ رغبة بالزينة والزواج وغير ذلك، لكن عليهنّ إمساك أنفسهن عن ذلك ما دِمن في العدّة.

ثمّ إنّ التشريع الإسلامي لا يخلو عن حكمة ومصلحة، فما هي المصلحة في المقام ؟ ويمكن بيانه بوجهين:

1. أنّ احتمال كون الزوجة حاملاً أمر قريب فالتربّص يُظهر حالها.

2. أنّ التربّص والاعتداد بترك الزينة وعدم الزواج نوع تكريم للزوج المتوفّى، حيث تعبِّر الزوجة بتربّصها عن عدم نكرانه ونسيانه، فكأنّها تراه حيّاً بعد في البيت، ولذلك تعامل معاملة الزوجة.

ثمّ إنّ في جعل فترة التربّص أربعة أشهر وعشراً، هدم للسنن الجاهلية السائدة أيام نزول الآية بين سائر الأمم، فقد حكى السيد الطباطبائي أنّ الأُمم كانوا على أهواء شتّى في المتوفّى عنها زوجها، بين مَن يحكم بإحراق الزوجة الحيّة مع زوجها الميّت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين مَن يقضي بعدم جواز زواجها ما

ص: 45

بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين مَن يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلية، أو ما يقرب من السنّة كتسعة أشهر، كما هو كذلك عند بعض أصحاب الملل الراقية.(1)

كما أنّ التشريع الإسلامي مبني على العدل والإنصاف فمن خلال التربّص بالحدّ المذكور يُعلم حال المرأة أوّلاً، ويتحقّق تكريم المتوفّى ثانياً، وبعدئذٍ فللمرأة وما اختارت، هذا كلّه حول الحكم الأوّل.

جواز التزوّج بمَن شاءت بعد الخروج عن العدّة

وأمّا الحكم الثاني: وهو أنّ المرأة إذا خرجت من العدّة فلها أن تتزوّج بمَن شاءت بالمعروف، فيشير إليه بقوله: «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » : أي تمّ الأجل بكماله «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » : أي لا محظور عليكم أي الأولياء «فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » فلهنّ التزيّن وجاز للآخرين خطبتهنّ ، فبالخروج عن العدّة يرتفع المحذور تماماً «وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» : أي عليم، يعلم من يلتزم بما هو اللازم ومن لا يلتزم.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيّتها، ولكن يبقى هنا كلام، وهو بيان الفرق بين عدّة المطلّقة وعدّة الأرملة، فهناك فوارق بينهما نذكرها تالياً:

الفوارق بين عدّة المطلّقة والأرملة

1. عدّة المطلقة ثلاثة قروء، كما في قوله تعالى: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » هذا إذا لم تكن حاملاً، وإلّا فعدتها إلى حين وضع حملها

ص: 46


1- . الميزان في تفسير القرآن: 246/2.

كما قال: «وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ».(1)

وأمّا عدّة الأرملة فلو كانت غير حامل فهي كما قال سبحانه: «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» وأمّا إذا كانت حاملاً فعدّتها أبعد الأجلين، من وضع الحمل أو المدّة المذكورة. روى الكليني بسند صحيح عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «في الحامل المتوفّى عنها زوجها تنقضي عدّتها آخر الأجلين».(2)

2. إنّ المطلّقة تعتد من أوّل يوم طلّقت فيه، لا من يوم يبلغها الخبر، فإن لم تعلم متى طلّقت وعلمت بعدما مضت عليها ثلاثة قروء منذ طلّقها، خرجت عن العدّة. فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: «إذا طلّق الرجل وهو غائب فليشهد على ذلك، فإذا مضى ثلاثة أقراء، من ذلك اليوم فقد انقضت عدّتها».(3) بخلاف عدّة المتوفّى عنها زوجها فإنّ اعتدادها من يوم يبلغها الخبر ولو كانت بعد موته بسنين. روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: «في الرجل يموت وتحته امرأة وهو غائب، تعتدّ من يوم يبلغها وفاته»(4). ولعلّ الوجه أنّ اعتداد المتوفّى عنها زوجها لأجل تكريم الزوج وحفظ علقتها به، وهو رهن كونها عالمة بوفاته، حتى لا تتزيّن إلى غير ذلك من آداب الاعتداد.

3. إنّ المطلّقة غير المدخول بها ليس عليها الاعتداد، بخلاف عدّة الوفاة التي تجب أيضاً حتى على المرأة التي لم يدخل بها. روى الكليني عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يموت وتحته امرأة لم يدخل بها؟ قال: «لها1.

ص: 47


1- . الطلاق: 4.
2- . الوسائل: 15، الباب 31 من أبواب العدد، الحديث 1، ولاحظ: بقية روايات الباب.
3- . الوسائل: 15، الباب 26 من أبواب العدد، الحديث 1.
4- . الوسائل: 15، الباب 28 من أبواب العدد، الحديث 1.

نصف المهر ولها الميراث كاملاً وعليها العدّة كاملة».(1)

4. اليائسة إذا كانت مطلّقة سقطت عنها عدّة الطلاق، بخلاف ما لو توفّى عنها زوجها فعليها عدّة الوفاة للأخذ بإطلاق قوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» مضافاً إلى أنّ الغاية من الاعتداد هي تكريم الزوج بعد رحيله، على أنّه إذا وجبت على غير المدخول بها، كما مرّ، فعلى اليائسة التي عاشت مع الزوج فترة، بطريق أولى .

5. المفقود عنها زوجها إذا طلّقها الحاكم، ففي صحيحة بريد بن معاوية تعتد عدّة الطلاق.(2) وفي رواية الصدوق: «تعتدّ عدّة الوفاة».

وقال في رواية أُخرى: إن لم يكن للزوج ولي طلّقها الوالي ويُشهد شاهدين عدلين، فيكون طلاق الوالي، طلاق الزوج، وتعتدّ أربعة أشهر وعشراً.(3)

والجمع بين الروايتين موكول إلى محلّه.

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اِعْلَمُوا

ص: 48


1- . الوسائل: 15، الباب 35 من أبواب العدد، الحديث 1، ولاحظ بقية الروايات.
2- . لاحظ: الوسائل: 15، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه، الحديث 1.
3- . الوسائل: 15، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه، الحديث 2.

أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ».(1)

المفردات

عرّضتم: التعريض، ضد التصريح.

خطبة: - بكسر الخاء - من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام، وأُريد هنا طلب الرجل المرأة للزواج بالنحو المعروف. وأمّا الخُطبة - بالضم - فهو ما يوعظ به من الكلام.

أكننتم: أي أسررتم وأضمرتم في أنفسكم.

عقدة النكاح: العقدة عبارة عن اتّصال حبلين بالعقد بينهما، وكأنّ عقد النكاح يوصل كلّ من الزوجين بالآخر ويرفع الحاجز بينهما وكأنّهما شخص واحد.

الكتاب: أُريد المكتوب، أعني قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً».

التفسير

أقسام الخطبة وأحكامها

إنّ خطبة النساء تنقسم إلى قسمين:

1. مَن لا تجوز خطبتها لا تصريحاً ولا تعريضاً، نحو المتزوّجة، والمطلّقة رجعية، فإنّهما بحكم الزوجة، ولذلك لو توفّي زوجها وهي في أثناء العدّة، تعتد

ص: 49


1- . البقرة: 235.

عدّة الوفاة، ولو تُوفّي أحدهما فإنّ الآخر يرثه.

2. من تجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً، وهي التي توفّي عنها زوجها، وهذا هو المستفاد من قوله تعالى: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ » : أي تعرّضتم لخطبة النساء، دون التصريح، كما إذا قال: رب راغب فيك، أو إذا حللت فأريدني، أو إنّك لجميلة وإنّك لصالحة، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تختلف تعريضاً وتصريحاً حسب اختلاف اللغات والبيئات.

وأمّا التصريح فمعلوم ولا حاجة لذكر المثال.

وأمّا وجه التفصيل بين التصريح والتعريض هو مقتضى الأدب في عدم خطبة زوجة الميّت، لكن لمّا كان المنع على وجه الإطلاق ثقيلاً على مَن يريد الزواج من المرأة، فقد فصل الذكر الحكيم بين التعريض والتصريح.

وكما أنّه يجوز التعريض، يجوز عقد القلب على الزواج من المرأة بعد خروجها من عدّتها، كما يقول: «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ » : أي أسررتم وأضمرتم في أنفسكم من نكاحهنّ بعد مضيّ عدّتهن، فتبيّن من ذلك أنّ الحفاظ على حرمة الزوج أمر لازم إلّاما خرج من التعريض.

ثمّ إنّه سبحانه يحذّر عباده عن مخالفة ما شرّع لهم ويقول: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ » كما يعلم الأعمال التي تدفع إليها الأنفس، ومعنى ذلك أنّه يعلم السرّ والجهر، فما في الأنفس من مصاديق السرّ، وما تبعث عليه الأنفس هو الجهر، «فَاحْذَرُوهُ » من أن تخالفوه، وبما أنّ السنّة جرت على ذكر الإنذار مع التبشير، فيقول: «وَ اِعْلَمُوا» مع ذلك «أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ» يقبل توبتكم «حَلِيمٌ » لا يعاجل بالعقوبة بل يمهلكم إلى أن تتوبوا إليه.

ثمّ إنّه سبحانه يستثني، ويقول: «إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً» ففي تفسير هذه

ص: 50

الفقرة وجهان، أوضحهما هو:

أنّه استثناء منقطع لا صلة له بما سبق من المواعدة سرّاً، بل هي تؤكّد على ما سبق من التفصيل بين التعريض والتصريح، والمراد من القول المعروف هو التعريض، وربما يشير إلى ما ذكرنا ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث فسّر قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً» يقول: «يلقاها فيقول: إنّي فيك لراغب وإنّي للنساء لمكرم، فلا تسبقيني بنفسك».(1)4.

ص: 51


1- . الوسائل: 15، الباب 37 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4.

أحكام الطلاق وتوابعه

4. أحكام الظهار في الذكر الحكيم

تمهيد

قد تقدّم في صدر كتاب النكاح تأكيد الشريعة الإسلامية على المحافظة على الأُسرة وصيانة عقد النكاح، وأنّه لا يرضى بانحلال عقد الزوجية نتيجة بعض المشاكل التي تطرأ على حياة الزوجين، ولذلك وضع علاجاً لرفع هذه المشاكل وذلك بأُمور مرّ بيانها.

نعم إذا انقطعت الأسباب وبلغت كراهة الزوجين أو الزوج أو الزوجة مرحلة لا يمكن لهما العيش تحت سقف واحد، فعندئذٍ ذكر أنّ حلّ عقدة النكاح إنّما هو بالطلاق فقط، ولكن كان الظهار في الجاهلية من أحد أنواع الطلاق، وهذا هو الذي جاء البيان القرآني لتوضيح حقيقته وما على الزوجين من وظائف عنده، ضمن الآيات التالية:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «قَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي

ص: 52

إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ».(1)

المفردات

سمع: من السماع، الظاهر انّ الفعل بمعناه اللغوي وتفسيرية «استجاب بعيد، لانّه يتعدى باللام، ويقال سمع اللّه لمن حمده ويشهد لما ذكره قوله: «سَمِيعٌ بَصِيرٌ» فالسمع هنا بمعناه اللغوي.

تجادلك: المجادلة وهي المحاورة، ويدلّ على ذلك قوله: «يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» والتحاور: التراجع، وهو من المحاورة، يقال: حاوره محاورة: أي راجعه الكلام، وتحاورا.

تشتكي: من الاشتكاء وهو إظهار ما بالإنسان من مكروه، والشكاية: إظهار ما صنعه به غيره من المكروه.(2)

التفسير

روى المفسّرون أنّ خولة بنت ثعلبة، امرأة من الأنصار، ظاهر منها زوجها، فقال: أنتِ عليّ مثل ظهر أُمّي، فأتت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: إنّ زوجي كان تزوّجني وأنا أحبّ (الناس إليه) حتى إذا كبرت ودخلت في السنّ ، قال: أنت عليّ كظهر أُمّي، فتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول اللّه تنعشني وإيّاه بها فحدِّثني بها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ما أُمرت في شأنك بشيء حتى الآن، ولكن إرجعي إلى بيتك، فإن أُؤمر بشيء لا أغمِمه عليك إن شاء اللّه»، فرجعت إلى

ص: 53


1- . المجادلة: 1.
2- . مجمع البيان: 456/9.

بيتها، وأنزل اللّه على رسوله صلى الله عليه و آله و سلم في الكتاب رخصتها ورخصة زوجها: «قَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» إلى قوله: «وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ».

إذا عرفت شأن نزول الآية نشرع بتفسير فقراتها:

قوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اَللّهُ » مرّ تفسيره «قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» : أي أظهرت ما في نفسها من الألم «وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللّهِ » : أي تطلب من اللّه سبحانه أن يحلّ مشكلتها «وَ اَللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» : أي محاورة المرأة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم «إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ » لمحاورتكما «بَصِيرٌ» بمشكلة المرأة.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اَللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».(1)

المفردات

يظاهرون: أي مَن شبّه ظهر زوجته بظهر أُمّه، وقال: أنتِ عليّ كظهر أُمّي.

وكانوا يقولون هذا في الجاهلية يُريدون به تحريم نكاحها وبثّ عصمته.

التفسير

تذكر الآية أنّ الزوجة بمجرّد تشبيهها بالأُم لا تصير أُمّاً، كما يقول: «اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اَللاّئِي وَلَدْنَهُمْ ».

ص: 54


1- . المجادلة: 2.

ثمّ إنّه سبحانه يصف قولهم هذا بقوله: «وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ » :

أي ينكره الشرع ولم يعتبره. «وَ زُوراً» : أي كذب لا يوافق الواقع. وبما أنّ هذا التشبيه أمر حرام فاللّه سبحانه يعد المكلّفين بالمغفرة ويقول: «وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».

وحاصل الآية: أنّ الأُمومة أمر تكويني لا تتحقّق بالقول والإنشاء، ولذلك يصف سبحانه هذا الأمر في آية أُخرى بقوله: «وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ »(1).

وبما أنّ المرأة المشتكية طلبت من النبي حلّ مشكلتها، جاء البيان القرآني لحلّها ضمن الآيتين التاليتين.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه «وَ اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».(2)

المفردات

ثم يعودون: أي يُريدون العود، كما في قوله: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ »(3) أي: إذا أردتم القيام، فعلى هذا يكون المراد: يُريدون العود

ص: 55


1- . الأحزاب: 4.
2- . المجادلة: 3.
3- . المائدة: 6. البقرة: 237.

إلى ما حرّموه على أنفسهم.

يتماسّا: المسّ كناية عن المواقعة، وهو ظاهر في غير واحدة من الآيات، قال سبحانه: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ».(1)

التفسير

قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ » الفقرة ظاهرة أو صريحة في أنّ المظاهرة منها يجب أن تكون متزوّجة، ولا تصحّ المظاهرة قبل الزواج، خلافاً لمالك وأبي حنيفة حيث قالا بالصحّة.(2)

قوله تعالى: «ثُمَّ يَعُودُونَ » : أي يُريدون العود لما حرّموه على أنفسهم، فتجب عليهم الكفّارة، قبل العود وهي أحد أُمور ثلاثة بالترتيب:

1. «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا» بأن يقول المالك لمَن يملكه: أنت حرّ، ثم إنّه سبحانه يعلّل التغليظ في الكفّارة بقوله: «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ » : أي ذلك التغليظ أيّها المؤمنون في الكفّارة توعظون به حتى تتركوا الظهار «وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» : أي عليم بأعمالكم، فلا تَدَعوا ما وعظتم به من الكفّارة قبل الوطء، فيعاقبكم عليه.

إلى هنا تمّ بيان إحدى خصال الكفّارة وإليك الخصلتين الباقيتين:

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ

ص: 56


1- . البقرة: 237.
2- . لاحظ: الخلاف: 528/4، المسألة 7.

يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ».(1)

المفردات

متتابعين: أي أن يوالي أيام الشهرين الهلاليين، أو يصوم ستين يوماً، وقالت الإمامية: إنّه إذا صام شهراً ومن الثاني شيئاً ولو يوماً واحداً ثم أفطر لغير عذر يبني عليه ولا يلزمه الاستئناف.

التفسير

ثمّ إنّه ربما لا توجد الرقبة أو لا يتمكّن المظاهر من عتقها، جاءت الآية الكريمة لبيان هذا.

2. قال سبحانه: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» : أي لم يجد الرقبة «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ » قبل الوطء.

3. قال سبحانه: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ » : أي لم يطق الصوم «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» . وظاهر الفقرة اعتبار العدد، ولا يكفي إطعام شخص واحد ستين مرّة، لكن حُكي عن أبي حنيفة أنّه قال: إن أعطى مسكيناً واحداً كلّ يوم حقّ مسكين في ستين يوماً، أجزأه.(2)

ثمّ إنّه سبحانه يتمّ الآية بقوله: «ذلِكَ » : أي ما افترضناه عليكم «لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ » : أي لتصدّقوا بما أتى به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم «وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ » : أي ما وصفناه

ص: 57


1- . المجادلة: 4.
2- . لاحظ: الخلاف: 559/4، المسألة 59.

من الكفّارات من حدوده «وَ لِلْكافِرِينَ » : أي الجاحدين «عَذابٌ أَلِيمٌ ».

ثمّ إنّه يستفاد من الآية أنّ الكفّارات الثلاث على وجه الترتيب لا التخيير.

والدليل على أنّ الخصال الثلاث على وجه الترتيب لا التخيير هو أنّه قيّد الثانية بعدم وجدان الأُولى وقال: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» : أي لم يجد تحرير الرقبة «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ » ، كما قيّد الثالثة بعدم التمكّن من الثانية وقال: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ » : أي صيام شهرين «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً».

ثمّ إنّ الظاهر من الآيات هو حرمة الوطء قبل مضي صيام الشهرين المتتابعين، وعلى هذا فلا يمسّ زوجته حتى يُتمّ الشهرين المتتابعين، فإن مسّها في خلال الشهرين ليلاً أو نهاراً أثم ووجب عليه إعادة الشهرين، ومن عجيب القول ما نقل عن الشافعي أنّه قال: إذا كان الوطء ليلاً لم يبطل التتابع، لأنّ الليل ليس محلّاً للصوم.(1)

ولكن خفي عليه أنّ جواز الوطء مقيّد بصيام شهرين متتابعين، فمَن لم يُتمّ الشهرين ولم يُحصِّل الشرط لا يحلّ له الوطء، وكون الليل ليس محلّاً للصيام وإن كان صحيحاً، لكنّه لا يوجب تجويز الوطء، لأنّه مشروط بصيام شهرين متتابعين والمفروض أنّه لم يحصل.

ولذلك ردّ عليه ابن عربي بكلام فيه قسوة، وقال: إنّه كلام مَن لم يذق طعم الفقه، لأنّ الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحلّ المأذون فيه بالكفّارة، فإنّه وطء تعدٍّ، فلابدّ من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء.

هذه بعض الفتاوى الشاذّة عن ظواهر الكتاب.5.

ص: 58


1- . كتاب الأُمّ : 285/5. ولاحظ: الخلاف: 562/4، المسألة 65.

وعلى كلّ تقدير: لو صبرت المُظاهرة على ترك وطئها فلا اعتراض، وإن لم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيحضره ويخيّره بين الرجعة بعد التكفير وبين طلاقها، فعليه اختيار، أحدهما، وإلّا أنظره ثلاثة أشهر من حين المرافعة، فإن انقضت المدة ولم يختر أحدهما حبسه وضيق عليه في المأكل والمشرب حتى يختار أحدهما.

ص: 59

أحكام الطلاق وتوابعه

5. أحكام الإيلاء في الذكر الحكيم

الآيتان: الأُولى والثانية

اشارة

قال سبحانه: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ».(1)

المفردات

يؤلون: من الإيلاء وهو لغةَ آلى الرجل من امرأته يولي إيلاء: من الأليَّة والإلُوّة وهي الحلف، قال الشاعر:

كَفَيْنا من تَغَيَّبَ من نزارٍ ***وأحثنا أليّةَ مُقْسِمينا(2)

التفسير

الإيلاء في القرآن الكريم عبارة عن الحلف بأسماء اللّه تعالى ألّا يجامع زوجته إضراراً، فلو حلف لصلاح اللبن أو لتدبير في المرض، لم يكن له حكم

ص: 60


1- . البقرة: 226 و 227.
2- . مجمع البيان: 126/2.

الإيلاء وكان كالأيمان.(1)

وقال الشهيد الثاني في «المسالك»: اشتراط وقوع الإيلاء، بقصد الإضرار بالزوجة، بالامتناع من وطئها هو المشهور. فلو قصد بذلك مصلحتها، بأن كانت مريضة أو مرضعة لصلاحها أو صلاح ولدها، لم يقع الإيلاء؛ بل يقع يميناً يعتبر فيه ما يعتبر فيه.(2)

لا ينعقد الإيلاء حتى يكون التحريم مطلقاً أو مقيّداً بالدوام، أو مقروناً بمدّة، تزيد عن أربعة أشهر، فلو آلى بمدّة أقلّ من أربعة أشهر لا يقع إيلاءً ، بل يقع يميناً.

قلنا: (تزيد على أربعة أشهر) لأنّ للزوجة على الزوج حقّ المواقعة مرّة كلّ أربعة أشهر على الأقل، فلو آلى الزوجُ ثمّ رجع في أربعة أشهر يكفّر ويرتفع المانع كأن لم يكن شيء، وإن مضى أكثر من أربعة أشهر ولم يطء، فهنا حالتان:

1. فإن صبرتْ ورضيتْ ، فلها ذلك.

2. إن لم تصبر فعليها رفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيجبره على الرجوع ضمن أربعة أشهر من موعد رفع أمرها إليه، فإن رجع فهو، وإلّا فيلزم بالطلاق، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ » ويحلفون على الاعتزال عن وطء نسائهم إضراراً بهن «تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» : أي انتظار تلك الأشهر، فكأنّ هذه المدّة نوع إمهال للزوج في أن يتدبّر في أمر زوجته، وعندئذٍ «فَإِنْ فاؤُ» : أي رجعوا عن قصدهم «فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ» للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته، كما أنّه «رَحِيمٌ » به.3.

ص: 61


1- . شرائع الإسلام: 83/3-84.
2- . مسالك الأفهام: 82/3.

غير أنّ رجوع الزوج حنث لليمين بحاجة إلى التكفير.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: «وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » هذا بيان للشقّ الآخر لما يجب على الزوج فإنّ فاء ورجع فهو، وإلّا فعليه الطلاق يقول: «وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ » لأجل اليأس من إمكان المعاشرة بالمعروف، فهو مغفور، وعلى كلّ تقدير فعلى الزوج حسم النزاع إمّا بالرجوع وإمّا بالطلاق، وليس له إيذاء النساء فلا هي مزوّجة، ولا هي مطلّقة.

واختتم سبحانه الآية بقوله: «فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » : أي أنّه سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنيّاتهم.

ثمّ إنّ الإيلاء أخو الظهار داعياً ونتيجة، إذ ربما تبلغ كراهة الزوج لزوجته مرحلة يريد إيذاءها بالحلف على ترك المواقعة مطلقاً أو مقيّداً بزمان أكثر من أربعة أشهر. وبما أنّه حلف بأسماء اللّه هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ إمضاء حلفه وعدم علاجه يضرّ بالزوجة، جاء التشريع حافظاً لكرامة كلا الطرفين، أمّا الأوّل فلا يعود إلى الزوجة إلّابالتكفير الذي مضى في الظهار، وأمّا الثاني فلأنّه إذا لم يعد، يجبر من جانب الحاكم على الطلاق.

***

ويفترق الإيلاء عن الظهار بأنّ كفّارته، كفّارة يمين، يقول المحقّق في كتاب الكفّارات: الثالثة: كفّارة الإيلاء، مثل كفّارة اليمين.(1)

وعلّله في الجواهر بقوله: لأنّه من اليمين وإن اختصّ بأحكام لكن غير الاتّحاد في الكفّارة.(2)3.

ص: 62


1- . الشرائع: 77/3، في الكفّارات.
2- . الجواهر: 277/33.

وعليه المفيد في المقنعة(1)، والشيخ في النهاية(2)، وابن البراج في المهذب(3)، وابن إدريس في السرائر(4)، فإن تمّ الإجماع فهو، وإلّا ففيه تأمّل.3.

ص: 63


1- . المقنعة: 569.
2- . النهاية: 573.
3- . المهذب: 42/2.
4- . السرائر: 77/3.

أحكام الطلاق

6. أحكام اللعان في الذكر الحكيم

تمهيد

كرامة الإنسان تقتضي أن يصان دمه وماله وعرضه من كلّ سوء، حتى لا يظن به ظن السوء، وقد وردت الأُصول الأربعة في كلام مرويّ عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ اللّه حرّم من المسلم دمه، وماله، وعرضه، وأن يظن به ظن السوء».(1)

هذا بالنسبة إلى المسلم وعلى هذا فمَن رمى امرأة مسلمة محصنة بالزنا، ولم يأت بأربعة شهداء، فيجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل شهادته أبداً.

وما هذا إلّالحفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات من عبث مَن قد يستغل عرض المرأة وبذلك يُريد إسقاطها في أعين الناس، فلأجل سدّ هذا الباب بوجه هؤلاء الذين يلعبون بأعراض العفائف قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ

ص: 64


1- . بحار الأنوار: 201/75.

شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ».(1)

هذا كلّه إذا رمى المحصنات الأجنبيات، ويشتدّ الأمر إذا رمى الرجل زوجته بالزنا أو بنفي الولد مع كونه متولّداً على فراشه. فقد عالج هذا الأمر باللعان، وهو أشبه بالمباهلة بين زوج يقذف زوجته بالزنا، ولا شهود لديه على دعواه، وبين زوجة تنفي تهمة الزنا عن نفسها، والغاية من اللعان سقوط الحدّ عن الزوج بسبب القذف (الذي مرّ الحديث عنه في رمي المحصنة الأجنبية) أو نفي الولد. وعلى كلّ تقدير فمَن رمى زوجته بالزنا أو بنفي الولد فعليه حدّ القذف إلّافي صورتين:

1. أن يقيم البيّنة، وهو نادر.

2. يلاعن، وإليك شرحه، من خلال دراسة ما نزل فيه من الذكر الحكيم.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ ».(2)

المفردات

يرمون أزواجهم: يقذفونهن بتهمة الزنا.

التفسير

قوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ »

ص: 65


1- . النور: 4.
2- . النور: 6.

يُركِّز على عدم وجود الشهداء على ما يدّعون، وإلّا فلو كان عندهم شهداء سوى أنفسهم لانتفى موضوع اللعان، إنّما اللعان فيما لو كان المدّعي هو الزوج وحده.

وظيفة الزوج عند اللعان

يجب على الزوج أن يشهد أربع شهادات باللّه قائلاً: أشهد باللّه إنّي لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة، يقول ذلك أربع مرات.

يقول سبحانه: «فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ » : أي شهادة الزوج التي تدفع عنه حدّ القذف «أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ » ليقوم مقام الشهداء الأربعة في رمي المرأة بالزنا. وأمّا متعلّق الشهادة فقوله: «إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ ».

ثمّ إنّه لا يكفي في دفع حدّ القذف إلّاإذا قام بواجب خامس، وهو ما تذكره الآية التالية.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ ».(1)

المفردات

لعنة اللّه: الطرد من رحمة اللّه.

التفسير

أي بعدما أشهد اللّه على أنّه من الصادقين يقول في المرتبة الخامسة: «أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ » وبهذه الشهادات الأربع على صدقه والأمر

ص: 66


1- . النور: 7.

الخامس باللعن عليه إن كان كاذباً يدفع حدّ القذف عن نفسه.

إلى هنا تمّت وظيفة الزوج في المقام.

وظيفة الزوجة في دفع الحدّ عن نفسها

إنّ الزوجة تقوم بنفس ما قام به الزوج، غاية الأمر تُشهد اللّه أربع مرّات على أنّ الزوج من الكاذبين، كما في الآية التالية:

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ ».(1)

المفردات

يدرأ: يدفع.

العذاب: الحدّ.

التفسير

تقول الزوجة على غرار قول الزوج، غاية الأمر أنّ الزوج كان يركّز على صدقه، وهي تركّز على كذبه كما يقول سبحانه: «وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ » فقوله: «أَنْ تَشْهَدَ» مؤوّل بالمصدر، فاعل يدرأ، أي شهادتها، أربع شهادات، ومع ذلك كلّه فشهادتها أربع مرات على كذب

ص: 67


1- . النور: 8.

الزوج لا يكفي إلى أن تأتي بأمر خامس، كما في الآية التالية.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ اَلصّادِقِينَ ».(1)

المفردات

غضب اللّه: البعد عن رحمة اللّه.

التفسير

قلنا: إنّ شهادة الزوجة على كذب الزوج لا تكفي إلّاأن تلحقها باللعن عليها إذا كان الزوج صادقاً فيما رماها به كما يقول سبحانه: «وَ اَلْخامِسَةُ » منصوب معطوف على أربع شهادت، أي أن تشهد شهادة خامسة وتقول: «أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ اَلصّادِقِينَ ».

ففي كيفية اللعان توازن خاصّ ، فالزوج يشهد أربع مرّات على أنّه من الصادقين، ويلعن نفسه لو كان من الكاذبين؛ والزوجة تشهد أربع مرّات على أنّ الزوج من الكاذبين، ثم تلعن نفسها لو كان الزوج من الصادقين.

يقول الفقهاء: يجب أن يكونا قائمين عند الملاعنة، ومتى تمّت الملاعنة بشروطها ينفسخ عقد الزواج. وبهذين الأمرين يدفع كلّ من الزوج و الزوجة عن أنفسهما الحدّ، بل تحرم المرأة على زوجها الملاعن لها حرمة مؤبّدة، وينتفي

ص: 68


1- . النور: 9.

الولد عن الزوج شرعاً لا عن الزوجة، فلا يتوارثان ولا تجب نفقة أحدهما على الآخر، وأمّا بالنسبة للمرأة فهو ولدها الشرعيّ ، وهي أُمّه الشرعيّة.

ما هو السرّ لتشريع اللعان

وممّا يجب التنبيه عليه هو أنّ في هذه الأحكام الخاصّة بتشريع اللعان سترٌ لهذا الأمر الشائن على الزوجين، إذ لو لم يشرّع فإمّا أن تُردّ شهادة الزوج، فعندئذٍ يجب عليه الحدّ، ولو قبلت على الزوجة فتلزم بإقامة الحدّ عليها، وفي كلا الأمرين تكدير لحياة الزوجين إذا بقيا على ما كانا عليه، ولكنّه سبحانه بتشريع اللعان حفظ كرامتهما مع الفصل بينهما، وبذلك يظهر معنى قوله تعالى في الآية التالية: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّهَ تَوّابٌ »(1) : أي يقبل توبة المذنب «حَكِيمٌ » في شريعته.

ص: 69


1- . النور: 10.

أحكام الطلاق وتوابعه

7. إذا أسلم أحد الزوجين، أو ارتدّ أحدهما

تمهيد

اشارة

الارتداد: لغة من الردّة وهي الرجوع عن الشيء، وفي الاصطلاح: كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمّنه...

وحاصل الكلام: الارتداد هو الكفر المتعقِّب للإيمان.

اتّفق الفقهاء على أنّ الكفر بعد الإسلام يوجب الارتداد، وضابط الكفر إنكار أحد الأُمور الثلاثة:

1. إنكار اللّه سبحانه، أو إنكار بعض صفاته القطعية.

2. إنكار نبوّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو رسالته، أو تكذيبه في بعض ما جاء به منها.

3. إنكار ما هو ضروري من الدين، كالصلاة والصيام ونحو ذلك.

ثمّ إنّ ارتداد كلّ من الزوج أو الزوجة يوجب ارتفاع النكاح وانقطاع العصمة بينهما، وهذا ما يستفاد من دراسة الآية التالية:

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ اَلْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا

ص: 70

تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اَللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ».(1)

المفردات

مهاجرات: حال من قوله: «اَلْمُؤْمِناتُ ».

مؤمنات: مفعول ثان ل «عَلِمْتُمُوهُنَّ ».

فلا ترجعوهن: أي لا تردّوهنّ ، بشهادة تعدّيه ب «إلى».

بعصم: العصم من العصمة، وهي لغة: المنع، قال تعالى: «لا عاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ »(2) . والعِصَم جمع العصمة وهو ما يعتصم به من عقد وسبب، والمعنى: لا تتمسّكوا بنكاح الكافرات، وسمّي النكاح عصمة لأنّ المرأة بالنكاح ممنوعة من غير زوجها.(3)

الكوافر: جمع الكافرة.

التفسير

قبل البدء بتفسير الآية نذكر شأن نزولها، حيث روي أنّها نزلت بعد صلح الحديبية، فقد عقد النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع المشركين صلحاً يشتمل على مواد وبنود، منها

ص: 71


1- . الممتحنة: 10.
2- . هود: 43.
3- . مجمع البحرين: 116/6، مادة «عصم».

أنّه مَن أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومَن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه.

ثمّ إنّه بعد ما تمّت هذه المعاهدة هاجرت المؤمنات من نساء المشركين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولمّا طلب المشركون نساءهم المهاجرات من النبي حتى يردّهنّ قال: «الشرط بيننا في الرجال لا في النساء» ويشهد على ذلك أنّ المرأة إن أسلمت لم تحلّ لزوجها الكافر فكيف تُردّ عليه.

أقول: الآية تتضمّن بيان أُمور:

الأوّل: حرمة ردّهن إلى أزواجهن

إنّ المؤمنات المهاجرات يجري في حقّهنّ الامتحان، فلو ثبت أنّ الداعي لهجرتهن هو إيمانهن، فلا يُرجعن إلى أزواجهن، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ اَلْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ».

الثاني: ردّ ما أُخذ من المهور إلى أزواجهن

إنّ المرأة المسلمة إذا تركت زوجها المشرك والتحقت بالإسلام والمسلمين، وانقطعت الصلة بينهما يتوجّه ضرر إلى زوجها المشرك، لأنّه نكحها بمهر تمّ تسليمه لها. فلأجل ذلك أمر سبحانه بردّ المهر الذي بذله لها «وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» . والقائم بهذا الأمر هو الحاكم الإسلامي فيدفع من بيت المال ما يساوي مهرها. وفي التعبير عن المهر ب «ما أَنْفَقُوا» دلالة على انقطاع الصلة بينهما، فلم يسمّه «مهراً» بخلاف الفقرة اللاحقة حيث سمّاه فيها: «أجراً».

ص: 72

الثالث: جواز نكاحهنّ مع المهر

فإذا أسلمت الزوجة المشركة والتحقت بدار الإسلام فهي بحاجة إلى مَن يحميها بنكاح وإنفاق، واللّه سبحانه يسوّغ للمسلمين تزويج هؤلاء بشرط جعل المهر لها حتى لا تتصوّر المرأة بخلوّ نكاحها عن المهر، فقال: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » فلا يتصوّر أنّ ما دفع للزوج السابق مسقط لاستحقاق المرأة المهر من الزوج الثاني، أو أنّ ما أخذته المرأة من زوجها السابق مسقط لأخذ المهر من الزوج الثاني. نعم يجوز نكاحهنّ مع جعل المهر بعد الاستبراء وانقضاء العدّة من المشرك إذا كان قد دخل بها.

الرابع: إذا أسلم الزوج دون الزوجة

لمّا نهى سبحانه عن إبقاء الصلة بين المسلمة والكافر، كان ثمّة رجال قد أسلموا وهاجروا إلى المدينة، بينما بقيت نساؤهم على الكفر في قلّة، فجاءت الآية لبيان تكليف هؤلاء الأزواج، فقال سبحانه: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ» : أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات من غير فرق بين كونها كافرة أو ذمّية، وإن كان نزول الآية في مورد المشركات، لكن المعيار إطلاق الآية، فخرجنا بما يلي:

1. أنّ الآية تنهى عن إبقاء النكاح إذا كانت الزوجة كافرة، كما هو مفاد قوله:

«وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ».

2. إذا أسلمت الزوجة وكان الزوج كافراً فحكمه يُعلم من قوله: «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ » وتترتّب على ذلك الأُمور التالية:

1. لو كان الزوجان كافرين وأسلم هو من دونها، حرمت عليه لانقطاع العصمة بينهما.

2. إذا أسلمت هي من دونه، حرمت على الزوج. وتردّ مهرها إليه وتتزوّج

ص: 73

من غيره بعد الاستبراء.

3. إذا كانا مسلمين وارتدّ أحدهما عن الإسلام، يحرم كلّ على الآخر.

وهذه الصور الثلاث من مصاديق قوله سبحانه: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ» ، هذا هو المستفاد من الذكر الحكيم، وتؤيّدهُ السنّة في غير واحد من أبواب الفقه.

1. روى الكليني عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا ارتدّ الرجل المسلم عن الإسلام بانت منه امرأته كما تبين المطلّقة».(1)

2. وروى أيضاً عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المرتدّ؟ فقال: «مَن رغب عن الإسلام، وكفر بما أنزل اللّه على محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت امرأته منه، فليقسّم ما ترك على ولده».(2)

فإن قلت: إنّ الموضوع في قوله: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ» هو الكفر، فهل هناك دليل على أنّ المرتدّ يوصف بالكفر؟

قلت: يكفي في ذلك قوله سبحانه: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ »(3).

الخامس: «وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» تتميم لقوله: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » ، وذلك لأنّ المرأة إذا أسلمت والتحقت بدار الإسلام، يكون ذلك ضرراً للزوج المشرك، حيث إنّه دفع مهرها عند زواجه منها. وهكذا العكس فإذا أسلم الزوج والتحقت الزوجة بدار الكفر7.

ص: 74


1- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب موانع الإرث، الحديث 4.
2- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب موانع الإرث، الحديث 5.
3- . البقرة: 217.

يتضرر الزوج المسلم، وذلك لأنّه تزوّجها بمهر مسلّم إليها.

ففي هذه الفقرة يأمر سبحانه كلّ زوج أن يسأل عمّا أنفق، وقدّم حكم الصورة الثانية. أعني: إذا التحقت الزوجة المسلمة بدار الكفر. وقال: «وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ » والمسؤول بالاتّفاق هو الحكومة الإسلامية، كما بيّن حكم الصورة الأُولى وقال: «وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» ، والشاهد على ما ذكرنا من التفصيل هو توجيه الكلام في الصورة الثانية بالخطاب وتوجيهه في الصورة الأُولى بالغيبة فلاحظ. ومعنى الفقرتين أنّهم إذا أعطوا ما عليهم، أعطوهم ما عليكم.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى أنّ هذه الأحكام هي مقتضى العدل بين الفريقين ويقول: «ذلِكُمْ » أي: ذا، إشارة إلى الأحكام الماضية والضمير المتصل «كم» خطاب للمؤمنين، أي ما ذكر أيّها المؤمنون «حُكْمُ اَللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ » وحكمه ناشئ عن علم وحكمة، ولذلك قال: «وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ».

بقي هنا شيء وهو ربما يختلج في بعض الأذهان أنّ ما ورد حول الارتداد من الأحكام لا ينسجم مع الحرية التي هي أعزّ ما تنشده البشرية قديماً وحديثاً وتبذل من أجلها النفوس والدماء، وقد عملنا رسالة حول تلك الشبهة وغيرها ممّا يثار بين الشباب، والذي يمكن أن يقال على حسب الإجمال:

إنّ الحرية الدينية شيء وتجويز ارتداد الإنسان عن الإسلام شيء آخر، فللإنسان أن لا ينتحل ديناً، ويبلغ كافراً ولا يزاحم إنساناً آخر، أو يبقى على النصرانية و اليهودية ويخلّي بين نفسه وما فيها. لكن إذا اختار الإسلام عن بصيرة ووعي، ثم عدل عنه وتظاهر بذلك، فإنّه يوجب التزعزع في سائر المعتقدين بالإسلام، وينتهي إلى ما لا تحمد عقباه، ولذلك فالإسلام يحاربه بشدّة وبلا هوادة؛ وذلك لأنّ عمله هذا يُعتبر نوع محاربة للدّين الإسلامي، إذ الارتداد والتشهير به ليس أمراً فردياً يتسامح فيه، بل هو محاربة للدّين بنحو سرّي.

ص: 75

توضيح ذلك: أنّ الأنظمة على قسمين:

1. أنظمة قائمة على أُسس مادّية، وقوانين اجتماعية مستمدة منها، ولا علاقة لها بالدين، وما وراء الطبيعة، ومثالها الأنظمة السائدة في الغرب، فإنّ اللازم على كلّ مواطن في تلك البلدان، هو العمل على وفق القوانين السائدة فيها، من دون أن يكون للدين والعقيدة، تأثير في تلك الأنظمة، ومن ثم فلو تحوّل المواطن المسيحي إلى بوذيّ ، مثلاً، أو تحوّل البوذي إلى مسيحي، لا يكون مؤثراً في النظام ولا في استقرار المجتمع؛ لأنّ أعمدة النظام، هي تلك الأُسس المادّية الّتي يقوم عليها النظام، وهي معزولة عن أي فكر ديني أو عقيدة إلهية.

2. أنظمة قائمة على أُسس دينية وعقائد إلهية، مرتبطة بما وراء الطبيعة، ففي هذه الأنظمة، يُعدّ اعتقاد المواطن بالدين وأحكامه، ركناً ركيناً في حفظ النظام، كما أنّ الخروج عن العقيدة، والتظاهر به، يعدّ خروجاً عن أصل النظام، خصوصاً إذا أعلن المرتدّ عن فكرته، وفي المجتمع ضعفاء العقول سمّاعون لكلّ صوت، ففي هذه الحالة، يعدّ الشخص محارباً للنظام، داعياً إلى نقده وهدمه.

فهل يُتصوّر أن يمهل مدير النظام ورئيسه من يحاول إلغاء وجوده وسلب أثره عن المجتمع ؟ كلا، ولا، ولذلك لاترى في أي مجتمع - وإن كان ينادي بالحرية - يسمح لأحد أفراده أن يعمد إلى خلخلة النظام، وتعكير أمن المجتمع، والّذي يشهد لذلك أنّ الجاسوس في عامّة الأنظمة، يعاقب بأشدّ العقوبات، وما ذلك إلّاأنّه يحارب النظام ويعاديه.

***

تمّت دراسة الآيات المتعلّقة بأحكام الطلاق وتوابعه.

ص: 76

الفصل الثالث عشر: أحكام الأطعمة والأشربة في الذكر الحكيم

اشارة

1. الأطعمة المحرّمة.

2. الأطعمة المحلّلة.

حكم ذبائح أهل الكتاب.

3. الأشربة المحلّلة.

4. الأشربة المحرّمة.

5. أحكام اللباس.

6. أحكام الصيد والذبائح.

ص: 77

ص: 78

أحكام الأطعمة والأشربة

في الذكر الحكيم

لا شكّ أنّ الإنسان بحاجة - في حياته اليومية - إلى الطعام والشراب، وذلك أمر واضح ليس بحاجة إلى الاستدلال عليه.

هذا من جانب ومن جانب آخر أنّه ليس كلّ طعام وشراب يسدّ جوعه ويروي عطشه، بل ربما يضرّه ويقتله، فصار ذلك سبباً لبيان ما هو الحلال والحرام من الطعام والشراب، وما هو الطيب والخبيث منهما، ولذلك فتح الفقهاء في المقام بابين:

1. الأطعمة والأشربة.

2. الصيد والذباحة.

وإن كان الجميع في طريق سدّ حاجاته بصورة تنفعه ولا تضرّه.

ثمّ إنّ الأُصوليين فتحوا باباً باسم «الأصل في الأشياء الحليّة» واستدلّوا عليه بالآيات التالية، وأرادوا بالأصل أنّه يجوز للإنسان أن ينتفع بكلّ ما في الأرض ما لم يصل إليه دليل يصدّه عن الانتفاع، وإليك هذه الآيات.

ص: 79

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً».(1)

التفسير

«اللام» في قوله: «لَكُمْ » إمّا للانتفاع أو للغاية، وعلى كلّ تقدير فالآية تدلّ على أنّ ما في الأرض خلق لانتفاع الإنسان به على وجه الإجمال، وأمّا كيفية الانتفاع وحدوده فهو موكول إلى سائر الآيات والسنّة.

وبعبارة أُخرى: الآية بصدد بيان أصل التشريع، وأمّا حدوده وخصوصياته فلا يعلم إلّابالرجوع إلى سائر الأدلّة، وهذا نظير قول مَن حفر بئراً وأجرى الماء إلى القرية ثم خاطب أهلها بقوله: حفرت البئر لكم، وأمّا كيفية الانتفاع فهو بحاجة إلى بيان آخر حتى لا ينجر إلى الفوضى.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً».(2)

المفردات

كلوا: الأكل في اللغة: هو البلع عن مضغ، وأُريد هنا مطلق الانتفاع، سواء أكان بالأكل أم بغيره.

حلالاً: هو حال أي حال كونه حلالاً.

ص: 80


1- . البقرة: 29.
2- . البقرة: 168.

طيباً: الطيب: خلاف الخبيث، ويراد به المستلذّ.

التفسير

دلالة هذه الآية أضيق من الآية الأُولى حيث تأمر بالأكل من بعض ما في الأرض، حيث إنّ قوله: «ممّا» هو «من ما». ولفظة «من» للتبعيض.

ودلالة الآية على أصالة الحلّيّة، كما هو الحال في الآية السابقة، لا يتمسّك بها إلّابعد الرجوع إلى سائر الأدلّة.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ».(1)

المفردات

مضى تفسير الأكل والطيب في تفسير الآية السابقة. بقي الكلام في معنى الشكر.

الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، والأولى أن يضاف إليها صرف النعمة في محلّها بشهادة قوله سبحانه: «وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »(2)

ص: 81


1- . البقرة: 172.
2- . النحل: 78.

أي استعمال أدوات المعرفة في محالّها، والاجتناب عن إعمالها في غير محلّها.

التفسير

الآية تتضمّن أمرين:

1. يخاطب اللّه سبحانه المؤمنين بتناول الطيبات التي رزقهم اللّه بها، ويقول:

«يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ »(1) والأمر بالأكل يُراد به الإباحة في المقام وتقييد المأكول بالطيب حذراً من الخبيث.

2. الأمر بشكر المنعم إذا كانوا يعرفونه كما يقول: «وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ » لأنّ العقل يستقل بتقدير المنعم حيث إنّه يدلّ على استشعار العبد قيمة النعمة ومبدأها، وربما يصير ذلك سبباً لتواتر النعم واحدة بعد الأُخرى، وأنّ المراد من قوله: «إِيّاهُ تَعْبُدُونَ » أي إياه تعرفون، كما يحتمل أن يكون المراد هو الملازمة بين حصر العبادة للّه وحصر الشكر له.

ص: 82


1- . البقرة: 172.

أحكام الأطعمة والأشربة

1. الأطعمة المحرّمة

اشارة

لمّا استثنى سبحانه من قوله: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ » بقوله: «إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ »(1) نزلت آيات عديدة حول هذا المستثنى . وها نحن ندرس في هذا الفصل ما هو المستثنى .

ثمّ إنّ ما حرّمه الشارع فإنّما هو لمفسدة في أكله وشربه، سواء أوقف الإنسان على ذلك عن طريق التجربة أم لا؛ فإنّ الوحي لا يخطأ، ومن حسن الحظ أنّه كلّما مرّ زمان وتقدّم فيه الإنسان في كشف الحقائق ورفع الستر عن أسرار الخلقة تظهر حكمة كلّ ما حكم الشارع بحرمته ووجوب الاجتناب عنه، وكفانا في ذلك كلمات المكتشفين حول المحرّمات الإسلامية.

وعلى كلّ تقدير فاللّه سبحانه أشار إلى حرمة عشرة أشياء مضافاً إلى حرمة الاستقسام بالازلام وقال:

ص: 83


1- . المائدة: 1.

الآية الأُولى

اشارة

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ».(1)

المفردات

الميتة: ما مات حتف أنفه، وهو أخصّ من غير المذكّى ، لأنّ الثاني يشمل ما ذُكّي بغير التسمية عمداً، أو على غير وجه القبلة، أو ذبح من قبل الكافر، فإنّ الجميع غير مذكّى يحرم أكله، ولكنّه ليس ميتة، فأحكام الميتة كالنجاسة لا تشمل غير المذكّى.

أُهلّ : الإهلال رفع الصوت، يقال: استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، وأُريد هنا ما ذبح على غير ذكر اللّه، بل باسم اللات والعزّى، وسيأتي ذكر معنى سائر المفردات عند التفسير.

التفسير

قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ » : أي حُرّم أكلها حسب مناسبة الحكم والموضوع، الأُمور التالية:

1. «اَلْمَيْتَةُ » وهي ما مات حتف أنفه أي بدون عامل خارجي، وتقدير الآية حُرّمت عليكم البهيمة الميتة. وأمّا تفسير بعض الفقهاء بالحيوان غير المذكّى فهو تفسير بالأعمّ ، لأنّ أكثر ما يشير إليه بعد الميتة قسيم لها، لأنّ الموت فيها بفعل

ص: 84


1- . المائدة: 3.

فاعل. فكيف يمكن أن يكون قسماً لها.

نعم يحرم أكل الميتة؛ لأنّ الحيوان الذي مات حتف أنفه فإنّما يموت لمرض سبّب موته، ولحم مثل هذا الحيوان لا يخلو من سموم ومواد أثرت في حياة الحيوان فمات.

2. «وَ اَلدَّمُ » أُريد به الدم المسفوح الذي يخرج بقوّة، ويتميّز عن اللحم، ويشهد على ما ذكرنا، قوله سبحانه: «إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ»(1).

نعم الدم الذي هو كاللحم كما في الكبد فهو حلال، وأمّا ما يختلط باللحم فهو طاهر، وأمّا جواز أكله فيعلم حكمه من البحوث الفقهية.

3. «وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ» ولعلّ وجه حرمته ملازمته للقاذورات ورغبته فيها، ولهذا السبب أيضاً نُهي عن أكل لحوم الحيوانات الجلّالة وحتى عن شرب لبنها.

4. «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ » : أي ذبح على غير ذكر اللّه، حيث كانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم قائلين: بسم اللات والعزى .

ثمّ إنّ تحريم هذا القسم لأجل أنّه ترويج للشرك، والظاهر أنّه أُريد ب «لِغَيْرِ اَللّهِ » أعمّ من الأصنام والأوثان حتى أسماء الملائكة والأنبياء، وكأنّ الإهلال عند الذبح عبادة يجب الإخلاص فيها للّه سبحانه.

5. «وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ » فلو فسّرت بالموصوفة بالاختناق، تختصّ بما لو اختنقت الشاة بفعل نفسها، كما لو أدخلت رأسها بمضيق فاختنقت. وأمّا لو قلنا بأنّها المنخنقة أو بعامل، فيراد ما لو خنقت الشاة بحبل أو غيره. ويؤيد ذلك ما قيل من5.

ص: 85


1- . الأنعام: 145.

أنّ أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها.

والظاهر هو المعنى الثاني، لأنّ الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها يدخل في الميتة التي عرفت أنّها الحيوان الذي مات حتف أنفه.

6. «وَ اَلْمَوْقُوذَةُ » وهي المقتولة بالضرب، كما قال الراغب. وكأنّ العرب كانوا يأكلونها، فهي محرّمة، لأنّ هذا العمل تعذيب للحيوان.

7. «وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر فتموت.

8. «وَ اَلنَّطِيحَةُ » هي التي تنطحها غيرها فتموت.

9. «وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ » : أي حرم عليكم ما أكله السبع، أي قتله، وهي فريسة السبع، سواء أكل منها أو لا، وذكر الأكل قيد غالبي لأنّ السباع خصوصاً الأسد يأكل البعض ويترك البعض الآخر، والآية تدلّ على أنّ أهل الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع.

ثمّ إنّه سبحانه يستثني من الأصناف الخمسة الأخيرة ما يُدرك حيّاً فإنّه يحل بالذبح الشرعي، ولذلك يقول: «إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ » . وقد روي عن الصادقين عليهما السلام: «إنّ أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه».(1)

وأمّا حقيقة التذكية فهي قطع تمام الأوداج(2) الأربعة: المريء، وهو مجرى الطعام، والحلقوم، وهو مجرى النفس، ومحلّه فوق المريء، والودجان(3) وهما».

ص: 86


1- . مجمع البيان: 316/3.
2- . الأوداج جمع «الودَج».
3- . «ودَجان» أيضاً جمع «الوَدَج».

عرقان محيطان بالحلقوم، فلا يجزي قطع بعضها، والتفصيل في الكتب الفقهية.

ثمّ إنّ الظاهر كما قلنا: إنّ الاستثناء «إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ » من الخمسة المتأخّرة، أعني: «وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ » خلافاً لصاحب المنار الذي جعل الاستثناء يشمل الستة حيث أدخل فيه «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ ».(1)

إذ لا يبقى بعد الذبح شيء من الأوداج الأربعة حتى تقع عليها التذكية.

يلاحظ عليه: أنّ ما يذبح لغير اسم اللّه لا تصدق عليه الحالتان، حركة الأُذن والذنب أو طرف العين، حتى يحلّ بالتذكية في الحالة الثانية.

وهنا احتمال ثالث وهو رجوع الاستثناء إلى الأخير فقط أعني: «وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ » فلاحظ.

10. «وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ » ، قال الطبري: النُّصب هي حجارة حول الكعبة يذبح عليها أهل الجاهلية، وقال: النُّصب ليست بأصنام، الصنم يصوّر وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلاثمائة وستون حجراً، منهم من يقول: ثلاثمائة منها لخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت.(2)

لكن كونها متميّزة عن الأصنام لكونها غير منقوشة، لا يخرجها عن كونها معبودة، قال الراغب: وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها.(3) وقد يقال في جمعه أنصاب، كما سيأتي في قوله تعالى: «وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ »(4).

قال الأعشى الذي أنشد قصيدة وجاء إلى مكّة المكرّمة ليُسلم، والقصيدة0.

ص: 87


1- . لاحظ: تفسير المنار: 140/6.
2- . تفسير الطبري: 100/6.
3- . المفردات للراغب: 709، مادة «نصب».
4- . المائدة: 90.

مفصّلة مذكورة في سيرة ابن هشام ومنها قوله:

وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ***ولا تعبد الأوثان واللّه فاعبدا(1)

وعلى ما ذكرنا فيتميّز عمّا «أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ » لكون الأوّل ما ذكر عليه اسم غير اللّه كالعزّى أو هبل، ولكن أُريد بالثاني ما ذبح على الحجر الذي كانوا يعبدونه، من دون اسم صنم أو غيره.

وعلى كلّ تقدير فالغرض من تحريم هذه الأقسام الأخيرة هو النهي عن إيذاء الحيوان، فالإسلام يتحرّى أسهل أنواع التذكية حتى يكون الألم المتوجّه للحيوان أقل ما يمكن.(2)

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته.(3)

إلى هنا تمّ بيان ما هو المحرّم من اللحوم وهي عشرة، بقي في المقام بيان قسم آخر، لا يمتّ إلى حرمة اللحم، وإنّما الحرام هو استقسام ما ذبح بالمقامرة وهذا ما يقول فيه سبحانه:

11. «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ » وهو عطف على «اَلْمَيْتَةُ » : أي حُرّم عليكم أن تستقسموا بالأزلام. وللمفسّرين في تفسير تلك الفقرة وجهان:

أ. قيل: الأزلام جمع «زُلم» وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر يهمه أخذ ثلاثة من الأزلام، وكتب6.

ص: 88


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 260/1.
2- . ومن آداب الذبح هو أن تكون آلة الذبح حادّة.
3- . تفسير القرطبي: 56/6.

على واحد منها أمرني ربّي، وعلى ثان نهاني ربي، وأهمل الثالث، ثم يغطيها بشيء، ويدخل يده ويخرج أحدها، فإن كان أمراً فعل، وإن كان نهياً ترك، وإن كان مهملاً أعاد، حتى يخرج الأمر، أو النهي.(1)

ويرد عليه: أنّ سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أنّ الآية - وهي في مقام عدّ محرمات الأطعمة، وقد أُشير إليها قبلاً في قوله: «إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ » - تُعدّ من محرّماتها عشراً، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الأُمور، فكيف يشكّ - بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية - في تعيّن حمل اللفظ على استقسام اللحم قماراً؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك ؟(2)

ب. ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام: أنّ الأزلام عشرة، سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها. فالتي لها أنصباء: الفذ(3) والتوأم(4)والمسبل(5) والنافس(6) والحلس(7) والرقيب(8) والمعلى (9)؛ فالفذ له سهم،ء.

ص: 89


1- . تفسير الطبري: 99/6؛ مجمع البيان: 317/3.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 166/5.
3- . الفذّ: مصدر جمعه «افذاذ» بمعنى الفرد.
4- . التوأم: المولود مع غيره في بطن واحد.
5- . المُسْبِل: والمُسبَل والمسبَّل من السَبَلة: مقدم اللحية والمراد الرجل كثير الشعر على شاربها.
6- . الحاسد يقال: تنافس القوم في الأمر: بالغوا وزايدوا.
7- . الحِلْس: الملازم الذي لا يبرح.
8- . الرقيب: الحارس.
9- . المعلّى من العلو أي الارتفاع. كلّ هذه السبعة من سهام الميسر التي بها انصباء.

والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا أنصباء لها:

السفيح(1) والمنيح(2) والوغد(3)، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجّزئونه أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له التي لا أنصباء لها. وهو القمار، فحرّمه اللّه تعالى.(4)

والعجب أنّ هذا المعنى الذي يناسب سياق الآية لم يأت ذكره في أغلب التفاسير على وجه التفصيل حتى أنّ بعضهم وصفه بقوله: «قيل»، كما هو الحال في كشّاف الزمخشري قال: وقيل هو الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة.(5)

ثمّ إنّ اللحوم المحرّمة على قسمين:

1. قسم تكون الحرمة فيه ذاتية كما في الميتة وما عطف عليها.

2. قسم آخر تكون الحرمة عرضية كما هو الحال في الاستقسام بالأزلام، فإنّ الحرام هو نفس الاستقسام بالأزلام، أي حُرّم عليكم الاستقسام بالأزلام لا نفس اللحوم، وعلى هذا فلو ذكي الحيوان تذكية صحيحة واستقسموا عليه1.

ص: 90


1- . السفيح: من سفح الدم سفكه واراقه.
2- . المُنيح: لو كان مأخوذاً من «نوح» بمعنى مَن ينيح يبكي بصياح. ولو كان مأخوذ من «نيح» بمعنى المشدّد، يقال: «عظّم، نيّح».
3- . الوغد: ضعيف العقل. وأمّا ما هو المناسبة لتسمية سهام الميسر بهذه الأسماء، فيعلم بالتدبّر في معانيها. ثمّ القِدْح: السهم قبل أن يتّصل.
4- . مجمع البيان: 318/3، نقلاً عن تفسير القمي.
5- . تفسير الكشّاف: 322/1.

بالأزلام ولكن ندموا ودفعوا لكلّ مشترك سهمه، فلا يحرم الأكل من هذه الذبيحة عندئذٍ.

ثمّ إنّه سبحانه ختم ذكر المحرّمات بقوله: «ذلِكُمْ فِسْقٌ » والظاهر أنّ اسم الإشارة في قوله: «ذلِكُمْ » يرجع إلى جميع ما حُرّم أكله، ولا يختص بالاستقسام بالأزلام، وكونه فسقاً لأنّه خروج عن أمر اللّه تعالى. خلافاً للرازي حيث جعله راجعاً إلى الأخير، غير أنّ التعليل ينافيه لأنّ الجميع خروج عن طاعة اللّه وإعراض عن شرعه.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».(1)

المفردات

غير باغ: فُسّر بغير باغي اللّذة.

ولا عاد: أي غير متعدٍ سدّ الجوع.

التفسير

اهتمّ الذكر الحكيم بطعام المسلمين، فتعرّض لبيان المحرّمات في صور

ص: 91


1- . البقرة: 173.

مختلفة، وربما يؤكّد تحريم شيء من المحرّمات فقد حرّم اللّه سبحانه في هذه الآية الأُمور التالية:

1. الميتة. 2. الدم. 3. لحم الخنزير. 4. وما أهل به لغير اللّه.

وقد مرّ تفسير هذه الأُمور الأربعة.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة الاضطرار، وقال: «فَمَنِ اُضْطُرَّ» يجوز له أكل ما حرّم عليه ولكن بشرطين:

1. «غَيْرَ باغٍ » : أي غير باغي اللذّة.

2. «وَ لا عادٍ» : أي ولا متعد سدّ الجوع.

وربما فُسّر بغير هذا الوجه أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: «إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » . أمّا قوله: «غَفُورٌ» فربما يتبادر إلى الذهن بعدم وجود الصلة بينه وبين مضمون الآية من تحليل المحرمات لأنّ المضطر لم يرتكب حراماً حتى يغفر له، إلّاأنّ السيد الطباطبائي ذكر وجهه وقال: إنّ التجويز تخفيف ورخصة منه تعالى للمؤمنين، وإلّا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضاً.(1)

وبعبارة أُخرى: المقتضي للعقاب موجود، وإن كان مقروناً بالمانع، فصار المقام مناسباً للتجلّي بالغفران.

وأمّا قوله: «رَحِيمٌ » فواضح، فإنّ تحليل الحرام لأجل الاضطرار وحفظ النفس من مظاهر رحمته.

روى المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني جعلني اللّه فداك1.

ص: 92


1- . الميزان في تفسير القرآن: 426/1.

لِمَ حرّم اللّه الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده، وأحل لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرّم عليهم، ولا زهد فيما أحلّ لهم، ولكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوّم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلّه لهم، وأباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم. وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه، وحرّمه عليهم. ثمّ أباحه للمضطر وأحلّه له في الوقت الذي لا يقوّم بدنه إلّابه، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك، ثمّ قال: أمّا الميتة فإنّه لا يُدْمنها أحد إلّا ضَعُفَ بدنه ونحل جسمُه وذهبت قوّته وانقطع نسله ولا يموت آكل الميتة إلّا فجأة».(1)

بقي هنا سؤال وهو أنّ المحرّمات لا تنحصر بهذه الأُمور الأربعة بشهادة ورود محرّمات أُخرى في بقية السور، وقد مضى بعضها، مضافاً إلى أنّه سبحانه حرّم السباع وكثيراً من الحيوانات البحرية.

أقول: سيأتي الجواب عنه في تفسير الآية التالية.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ ».(2)

ص: 93


1- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1. وقد روي بأسانيد مختلفة تورث الاطمئنان بصدور الحديث.
2- . الأنعام: 145.
المفردات

ميتة: ما مات حتف أنفه.

مسفوحاً: مصبوباً.

رجس: اسم لكلّ شيء مستقذر، منفور عنه.

فسقاً: وصف لموصوف مقدّر: أي لحماً فسقاً، ومع أنّ الفسق وصف للفعل ولكن لأجل المبالغة حتى جعل وصفاً للّحم.

أُهِلّ : الإهلال رفع الصوت بشيء.

التفسير

أشار سبحانه في هذه الآية إلى المحرّمات الأربع، ومرّ تفسير جميعها عند دراسة الآية الأُولى، والمهم الإجابة عن سؤال مرّ ذكره وهو أنّ المحرمات لا تنحصر بهذه الأُمور الأربعة، والشاهد على ذلك ورود محرمات أُخرى في نفس الآية الأُولى.

والجواب: أنّ التحريم هنا نسبيّ إضافي وليس مطلقاً، والآية بصدد الردّ على ما حرّمه المشركون من اللحوم على أنفسهم، من المحلّلات، قال سبحانه:

«ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ »(1) ، فالآية ردّ على تحريم هذه المحلّلات، وأنّ اللّه لم يحرّم منها إلّاالأُمور الأربعة، وأمّا تحريم هؤلاء فهو كذب على اللّه

ص: 94


1- . المائدة: 103.

سبحانه.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».(1)

المفردات

قد مرّ تفسير مفردات الآية في الآيات السابقة، ونضيف هنا أنّ المراد من قوله: «وَ اَلدَّمَ » : أي الدم المسفوح منه، لقوله تعالى في آية أُخرى: «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً»(2) أي مصبوباً.

التفسير

قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ » الأُمور الأربعة:

1. «اَلْمَيْتَةَ ».

2. «وَ اَلدَّمَ ».

3. «وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ».

4. «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ » : أي ذبح باسم الأصنام.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من حرمة تناول تلك المآكل صورة الاضطرار، وقال:

ص: 95


1- . النحل: 115.
2- . الأنعام: 145

«فَمَنِ اُضْطُرَّ» فلا بأس بشرط أن يكون «غَيْرَ باغٍ » : أي غير طالب للّذة، وربما يفسّر غير ظالم «وَ لا عادٍ» عن حدّ الضرورة.

ثمّ إنّ المهم بيان أمرين:

الأوّل: قد مرّ أنّ الحصر في هذه الآية وما تقدّمها حصر إضافي في مقابل تحريم المشركين، غير هذه الأُمور، ولا ينافي وجود محرّمات في الحيوانات غير ما ذكر كالسباع، كما مرّ بيانه.

وبذلك يُعلم أنّ ما نقل عن مالك من تحليل لحم الكلاب مستدلّاً بهذه الآية وغيرها من عدم ذكرها في عداد المحرمات، غير تام لما عرفت من أنّ الحصر ليس حقيقياً، بل هو حصر إضافي في مقابل تحريم المشركين ما أحلّه اللّه، قال سبحانه: «ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ».(1)

1. البُحَيْرة: هي الناقة التي نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً مجرداً (شقّوا) أُذنها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولا يطرد من ماء ولا تمنع من مرعى.

السائبة: من سببت الدابة: أي تركتها تسيب حيث شاءت، والرجل إذا جاء من السفر أو البرء من علّة فقال: ناقتي سائبة فكانت كالبُحيرة.

الوصيلة: وهي الشاة إذا ولدت أُنثى فهو لهم وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتم.

الحام: وهو الذكر من الإبل كانت العرب إذا نتجب من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يُحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا من مرعى.3.

ص: 96


1- . المائدة: 3.

وقد قيل في معاني هذه الألفاظ وجوه أُخرى ذكرها الطبرسي في «مجمع البيان».(1)

الثاني: أنّ تحريم الأُمور الأربعة لمفسدة كاملة فيها، وقد جاء سرّ التحريم في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام وغيرها.

أمّا الميتة: فلأنّها مرتع لأنواع الجراثيم والميكروبات، ولذلك اعتبر الإسلام الميتة نجسة لكي يبتعد عنها المسلم، فضلاً عن عدم تناولها.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «أمّا الميتة فإنّه لم ينل منها أحد إلّاضعف بدنه، ووهنت قوّته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلّافجأة».(2)

وأمّا الدم، فهو بيئة مستعدّة لتكاثر أنواع الميكروبات المضرّة التي عندما تدخل البدن تتّجه أوّلاً إلى الدم وتتّخذه مركزاً لنشاطها، ولذلك فإنّ الكريات البيض حينما تموت بموت الحيوان يصبح الدم بذلك وسطاً صالحاً لتكاثر الميكروبات.

وأمّا لحم الخنزير، فقد كشف الطب عن مضار أكل هذا اللحم:

أوّلاً: أنّ هذا الحيوان مولع بأكل العذرة.

ثانياً: أنّ الدودة الشريطية (الوحيدة) التي تتواجد بيوضها في لَحم هذا الحيوان وتعيش في أمعائه تتكاثر بسرعة مدهشة، وهي تضع في الشهر خمسة عشر ألف بيضة، وتسبب للإنسان أمراضاً متنوّعة كفقر الدم، والإسهال، وآلام المفاصل، وتوتر الأعصاب، والحكّة، وتجمع الشحوم داخل البدن، والإحساس1.

ص: 97


1- . لاحظ مجمع البيان: 505/3-506.
2- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1.

بالتعب، وصعوبة مضغ الطعام وبلعه، وصعوبة التنفس.

وأمّا ما أهل به لغير اللّه، فهو الحيوان الذي يذبح على اسم غير اسم اللّه كالأصنام ونحوها ممّا يعبده المشركون، وأمّا سرّ التحريم فوجهه معلوم، حيث إنّ الإسلام يحارب الوثنية، فتجويز أكل لحم هذا الحيوان، إمضاء لها.

***

ص: 98

أحكام الأطعمة والأشربة

2. الأطعمة المحلّلة

اشارة

قد وقفت على قسم من الأطعمة المحرّمة التي ورد ذكرها في الكتاب العزيز؛ وإن كان المحرّم منها أوسع ممّا ورد فيه، وإليك الكلام في المحلّل من الأطعمة.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ».1,(1)

المفردات

بهيمة: من الإبهام، لما في صوت البهائم من الإبهام.

ص: 99


1- . وسيوافيك حكم الأشربة حلالها وحرامها فانتظر.

قوله سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ ».

يقع الكلام في موضعين:

1. ما هو المراد من العقود؟

2. ما هو وجه الصلة بين المعطوفين ؟

أمّا الأوّل فنقول: إنّ العقد ضدّ الحل، فلا تعريف أوضح من جعله في مقابل ضدّه، فوصل الحبلين أحدهما بالآخر بإيجاد الربط (عقد)، وحلّه بالبنان ضده، وعلى هذا الفقرة، تركّز على كلّ مورد فيه ربط بين شيئين وإيجاد صلة بين أمرين، وما ربما يفسّر العقد بالعهد، فهو تفسير بالمورد، وإلّا فهما مفهومان مختلفان ربما يفترقان وقد يجتمعان، فمَن باع شيئاً واشتراه الآخر بالثمن فهو عقد وليس بعهد، ومن نذر وحلف على شيء فهو عهد وليس بعقد، وربما يجتمعان كالاتفاقية بين المتخاصمين أو المتعاونين، فعليك ألّا تجعلهما أمراً واحداً.

إنّ اللام في قوله تعالى: «العقود» عوض عن المضاف إليه، أي عقودكم فهي تختص بما إذا كان الطرفان إنساناً، وأمّا التكاليف الشرعية التي يقال إنّ اللّه تعالى اهتمّ بها أو تعاهد على العمل بها فهو خارج عن مصب الآية. ومَن فسّر العقد بالعهد فقد غفل عن هذه النكتة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الفقرة تشتمل على الموردين التاليين:

1. العهود المتعاقدة بين المتخاصمين أو بين المتعاونين. وقد مرّ أنّ العقد والعهد ربما يجتمعان.

2. العقود الدارجة بين المتعاقدين صور مختلفة كعقد البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك، ويشهد على استعماله في المورد الثاني قوله سبحانه في

ص: 100

المتوفّى عنها زوجها: «وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ » ، قوله سبحانه: «أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ »(1).

إنّ الفقهاء منذ عصور يستدلّون بهذه الفقرة على لزوم المعاملات المشتملة على الإيجاب والقبول إلّاما خرج بالدليل، بل وعلى وجه يصحّ الاستدلال بها على لزوم العمل بالعقود الجديدة الدارجة في الغرب المنتشرة أخيراً في الشرق من الشركات المختلفة.

نعم أصبح اليوم الوفاء بالعقود أداة طيّعة للقوى الكافرة الاستكبارية فمادام العقد يدرّ عليهم بالأموال والثروات وينتفعون به فهم يحترمونه، وأمّا إذا رأوا أنّ مصلحتهم في نقضه، ينقضونه بأوهن الوجوه، وهذه هي سيرة الانتهازيين، فالأخلاق عندهم هي ما ينفع تجارتهم وتدرّ عليهم بالأرباح، وإذا انعكست تركوها وراء ظهورهم ولم يراعوها.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الأوّل، وأمّا الأمر الثاني فلم نعثر فيه بشيء يسكن له القلب إذا فسّر العقد بالمعنى الذي مرّ. نعم إذا فُسّر «العقد» بالعهد ربما يصحّ بعض الوجوه لكن المبنى غير مرضيّ عندنا.

التفسير

ثمّ إنّ الذي يرجع إلى ما نحن فيه هو تفسير قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ » ، والبهيمة هي كلّ حيوان لا نطق له، لما في صوته من الإبهام، ومع ذلك لا تطلق على السباع ولا على الطيور. وأُريد هنا خصوص الأنعام، فإضافتها إليها إضافة بيانية، أي البهيمة التي هي الأنعام، كقولك: خاتم فضّة، ومتعلّق الحلّية هو

ص: 101


1- . البقرة: 237.

الأكل بمناسبة الحكم والموضوع، أو أعمّ من الأكل، كالبيع والشراء، إنّما الكلام:

هل المراد الأنعام الإنسية وهي أربعة: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز، أو المراد أعمّ منها ومن الوحشية، وهي ما يشبه البهائم كالضبي، والبقر والحمر الوحشية ؟ وجهان.

وعلى كلّ تقدير فالآية مجملة لا يمكن التمسّك بها إلّابعد إخراج ما ورد في الآية الثالثة، تفسيراً لقوله سبحانه: «إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ » ، أعني قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».

الآية الثانية

اشارة

قوله سبحانه: «وَ اَلْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ »(1).

المفردات

الأنعام: جمع نعم، وقد مرّ أنّ المراد النعم الأربعة.

دفء: خلاف البرد.

التفسير

هذه الآية كالآية السابقة صريحة في حلّية لحوم الأنعام الأربعة. وأمّا حكم

ص: 102


1- . النحل: 5.

الفرس و الحمار والبغل، فيطلب من السنّة الشريفة، والمعروف فيها جواز الأكل مع الكراهة.

الآيات: الثالثة والرابعة والخامسة

اشارة

قوله سبحانه: «وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اَللّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ اَلنّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ».(1)

المفردات

حَمولةً : أُريد من «حمولة»: الإبل والبقر. بشهادة أنّه عطف البقر على الإبل حيث قال: «وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ » ووصفها بالحمولة لأنّها تحمل عليها الأثقال.

كما أنّه أُريد من قوله «فَرْشاً» الضأن والمعز بنفس الدليل أعني: عطف المعز على الضأن والحكم عليهما بأمر واحد، وأمّا وصفهما لأجل أنّهما - على

ص: 103


1- . الأنعام: 142-144.

خلاف الإبل والبقر - أقرب إلى الأرض حتى يتراءى القطيع منهما من بعيد، كأنّهما فرش منبسطة على الأرض.

خطوات: جمع خطوة وهي المسافة بين القدمين، وأُريد اتّباع الشيطان.

أزواج: الزوج يطلق في اللغة على كلّ واحد من الذكر والأُنثى في الحيوانات، وعلى كلّ قرينين كالخف والنعل، قال سبحانه: «وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى »،(1) فسمّى كلّ من الذكر والأُنثى زوجاً.

الضأن: ذوات الصوف من الغنم.

المعز: ذوات الشعر من الغنم.

التفسير

لمّا أكّد سبحانه في الآيات السابقة على حلّية النعم، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ المشركين حرّموا قسماً من الإبل والأجنّة - أعني: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام - جاء البيان القرآني يندّد بهم في أنّ هذا التحريم بدعة ما نزّل اللّه بها من سلطان، وإليك تفسير الآيات.

قوله: «وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ » : أي أنشأ من الأنعام، «حَمُولَةً » ما يحمل عليه من الإبل والبقر، «وَ فَرْشاً» : أي ما يفرش من أصوافها وأوبارها «كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ » استحلّوا الأكل ممّا أعطاكم اللّه «وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ » في التحريم والتحليل. والخطوة ما بين قدمي الماشي كناية عن اتّباعه في التشريع.

قوله: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » : أي أنشأ ثمانية أزواج «مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ » هما الكبش والنعجة (الأُنثى منه)، «وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ » هما التيس والعنز (الأُنثى منه)، ثم أمر

ص: 104


1- . النجم: 45.

النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يسألهم عن أي قسم من هذين الصنفين حرّم اللّه وقال: «قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ » اللّه من كلّ واحد من الزوجين «أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ » من كلّ واحد «أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ » : أي الأجنّة التي تشتمل على الذكور والإناث، وبما أنّ الاستفهام إنكاري فيكون معنى الآية أنّه سبحانه لم يحرم شيئاً من هذه الثلاثة لا الذكور ولا الإناث ولا الأجنّة بكلا قسميها.

ثم قال: «نَبِّئُونِي» : أي خبّروني هل أنتم حكمتم بحرمتها «بِعِلْمٍ » : أي بحجّة عقلية أو نقلية «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » فأتوا ببرهانكم وإلّا فحكمكم بالتحريم بدعة وضلالة.

إلى هنا تمّ الكلام في أربعة أزواج، والجميع من قبيل قوله: «وَ فَرْشاً» وقد مرّ وجه وصفها ب «فرشاً» في المفردات.

قوله: «وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ » الثور والبقرة، ويظهر من الآية أنّ «اَلْبَقَرِ» يطلق على الذكر والأُنثى. ثم إنّه سبحانه أمر نبيّه أن يسألهم استفهاماً إنكارياً بقوله: «قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ » اللّه منهما «أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ » منهما «أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ » من الأجنّة. وقد تقدّم في السؤال السابق قوله سبحانه: «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ » وأمّا في المقام فقال: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ » : أي حضوراً «إِذْ وَصّاكُمُ » : أي أمركم «اَللّهُ بِهذا» : أي حرّمه، فإنّ التحريم يجب أن يستند إمّا إلى علم أو نقل، فلم يكن هنا شيء منهما.

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ

ص: 105

اَلْمُسْرِفِينَ ».(1)

المفردات

معروشات: مرفوعات، العرش: الرفع، ويُسمّى السرير عرشاً لارتفاعه.

غير معروشات: وهي القائمة من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علوّاً لقوّة ساقه عن التعريش.

متشابهاً: في الطعم واللون والصورة.

غير متشابه: ما يخالف في الأُمور الثلاثة.

أُكله: الأُكل كلّ ما يؤكل وأُريد هنا: طعمه.

حصاده: وهو مخصوص بالزرع كما أنّ الجَني مختصّ بالثمار، وتفسير الحصد بالقطع لا تساعد عليه اللغة ولا الاستعمال.

لا تسرفوا: الإسراف: الخروج عن الحدّ، وأُريد هنا إنفاق جميع ما حُصد.

التفسير

لعلّ الآية نزلت لردّ ما كان المشركون عليه من تحريم بعض المحلّلات، ويدلّ عليه قوله سبحانه: «وَ جَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اَللّهِ وَ ما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ».(2)

توضيح الآية: انّهم كانوا يزرعون عنه زرعاً، وللأصنام زرعاً فكان إذا زكا

ص: 106


1- . الأنعام: 141.
2- . الأنعام: 136.

الزرع الذي زرعوه للّه ولم يزكّ الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها، ويقولون: إنّ اللّه غني والأصنام أحوج، وإليه يشير قوله سبحانه:

«وَ ما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ » وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام ولم يزكّ الزرع الذي زرعوه للّه لم يجعلوا منه للّه شيئاً، وقالوا: هو غني وإليه يشير قوله سبحانه: «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اَللّهِ ».(1)

وحكى سبحانه أيضاً عنهم بعض المحرّمات.(2)

فجاء البيان القرآني يردّ على زعمهم، وقال: «وَ هُوَ اَلَّذِي» : أي اللّه سبحانه «أَنْشَأَ» : أي خلق «جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ » هي بساتين الكرم التي ترفع أغصانها بعضاً على بعض بدعائم «وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ » . وهو قسم من الكرم ما يترك منبسطاً على الأرض. وعلى هذا فإنّ كلّاً من المعروشات وغير المعروشات يختصّ بالكروم، فإنّ بعض أشجار العنب يعرش وبعضها لا يعرش فيبقى على وجه الأرض منبسطاً. وعلى هذا فيكون ذكر النخل من قبيل عطف المباين على المباين. نعم لو فسّر غير المعروش بما يرتفع أعضاؤه بعضاً على بعض بدعائم وغير المعروش بما لا يعتمد على الدعائم، يدخل النخل وأمثاله فيه كما يعم غير المعروش من الكرم أيضاً.

ثمّ عطف سبحانه عليه قوله: «وَ اَلزَّرْعَ » وهو النبات الذي يكون بحرث الناس كالحنطة والشعير والعدس والحمّص، وكلا اللفظين - أعني: النخل والزرع - معطوفان على «جَنّاتٍ »: أي وهو الذي أنشأ النخل والزرع «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ » : أي طعمه. والظاهر أنّ قوله: «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ » يرجع إلى الكرم والنخل والزرع ويراد9.

ص: 107


1- . لاحظ: مجمع البيان: 169/4.
2- . الأنعام: 138-139.

اختلاف طعمها.

ولعلّ التركيز على الاختلاف فيه إشارة إلى التوحيد في الربوبية فإنّ التراب واحد والماء واحد، ولكنّ الأثمار مختلفة، قال سبحانه: «وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ »(1).

وهذا يدلّ على أنّ وراء العلل الطبيعية التي لها تأثير في وجود الاختلاف، قوّة غيبية تؤثّر في تنوّع الثمار.

ثمّ إنّه سبحانه ذكر بعد النخل والزرع إنشاء الزيتون والرمان وقال: «وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ » وهي الأشجار القائمة على أُصولها من غير دعائم.

ثم قال تعالى: «مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» والأمر هنا للإباحة لوقوعه بعد توهّم الحظر مثل قوله سبحانه: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا»(2) .

فلو صحّ إطلاق الثمر على الزرع يكون معنى الآية: كلوا من ثمر كلّ ما ذُكر من أوّل الآية إلى هنا، فليس لأحد أن يحرّم ذلك على أحد لأنّ التشريع للّه سبحانه. وأمّا تحريم بعض هذه الأثمار في بعض الأحوال كما إذا كان مريضاً لا يساعد وجوده لبعضها فليس هو تحريماً شرعياً بل إرشاد إلى تجنب الضرر، فإنّ الإنسان إذا كان يرغب في دوام صحّته يلزمه الإمساك عن بعض الثمار.

ثمّ إنّ قوله: «إِذا أَثْمَرَ» وتقييد الأمر بالأكل بالإثمار حمل على الغالب، وإلّا فيجوز أكل العنب إذا كان حصرماً، والتمر إذا كان بُسراً.2.

ص: 108


1- . الرعد: 4.
2- . المائدة: 2.

وبما أنّ اللّه سبحانه أنعم على العباد بهذه النعم الكبرى، فيلزم العباد شكره سبحانه، ومن مظاهر الشكر عدم الاستئثار بالجميع لنفسه، فهو من مظاهر البخل، فعلى الإنسان دفع شيء ممّا يحصل عليه إلى المحتاجين، ولذلك يقول: «وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » والظاهر أنّ الضمير في «حَقَّهُ » يرجع إلى الثمر، وأُضيف إليه «الحق» لتعلّقه به كما يضاف الحقّ أيضاً إلى الفقراء لارتباطه بهم، فالآية تدلّ على أنّه سبحانه جعل حقّاً للفقراء يؤدّى إليهم يوم الحصاد.

ثمّ إنّ ما يؤدّى يوم الحصاد غير الزكاة التي شُرّعت في الفترة المدنية، فإنّ الآية مكيّة والزكاة بالمعنى المعروف شُرّعت في المدينة. وقد ختم سبحانه الآية بقوله: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ » في الأكل، وقد نُهي عن الإسراف في غير واحدة من الآيات.(1)

الآيتان السابعة والثامنة

اشارة

قال سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».(2)

المفردات

تسيمون: أي ترعون، يقال: اسمت الإبل إذا رعيتها.

ص: 109


1- . لاحظ: الأعراف: 31، والفرقان: 67.
2- . النحل: 10-11.

والآيتان واضحتا المعنى تكرّر مضمونهما في الآيات السابقة.

الآية التاسعة

اشارة

قال سبحانه: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ».(1)

التفسير

الآية تتضمّن أحكاماً ثلاثة:

1. حلّية طعام أهل الكتاب.

2. حلية زواج العفائف من المؤمنات.

3. حلية العفائف من الكتابيات.

والذي يهمّنا في المقام هو الحكم الأوّل، وأمّا الثاني والثالث فقد مرّ بيانهما في كتاب النكاح.

نعم في الآية بحوث أُخرى أشرنا إليها في تفسيرنا «منية الطالبين»، فلنعرّج على ما يهمّنا في المقام.

ص: 110


1- . المائدة: 5.
حكم ذبائح أهل الكتاب

اتّفقت كلمة علماء أهل السنّة على أنّه لا يشترط في الذابح الإسلام بل يكفي أحد الأمرين: أن يكون مسلماً أو كتابياً. حيث قالوا: إنّه يشترط لصحّة الذبح في الجملة شرائط راجعة إلى الذابح، وهي: أن يكون عاقلاً، وأن يكون مسلماً أو كتابياً... إلى آخر ما ذكروه».(1)

وأمّا المشهور بين فقهاء الشيعة، فهو اشتراط الإسلام في الذابح.

قال الشيخ الطوسي: لا تجوز ذبائح أهل الكتاب - اليهود والنصارى - عند المحصّلين من أصحابنا، وقال شُذّاذ منهم أنّه يجوز أكله، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.(2)

وأراد من الشُذّاذ ابن أبي عقيل وابن الجنيد.

ثم إنّ البحث مركّز على مقدار دلالة لفظ الطعام في الآية حيث قال: «وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ » ، فإن فُسّر بالمأكول فيعمّ الحبوب واللحوم، وأمّا لو فُسّر بالبُرّ والشعير فيختصّ بغير اللحوم.

الطعام في لغة أهل الحجاز هو البرّ

وبما أنّ القرآن نزل بلغة أهل الحجاز فالطعام عندهم عند الإطلاق يستعمل في البُرّ، وقد نصّ عليه أهل اللغة.

1. وقال الخليل: والعالي في كلام العرب: أنّ الطعام هو البر خاصّة، ويقال له

ص: 111


1- . لاحظ: الموسوعة الفقهية الكويتية: 21/136، مادة «ذبح».
2- . الخلاف: 6/23، المسألة 23.

وللخبز المخبوز، ثم يُسمّى بالطعام ما قرب منه، وصار في حدّه، وكلّ ما يسدّ جوعاً فهو طعام.(1)

2. يقول ابن فارس: طعم: أصل مطرد منقاس في تذوّق الشيء، يقال:

طعمت الشيء طعاماً. والطعام هو المأكول، وكان بعض أهل اللغة يقول: الطعام هو البر خاصّة.(2)

3. وقال الفيّومي ناقلاً عن التهذيب: الطُعم: الحب الّذي يُلقى للطير، وإذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام عنوا به البُر خاصّة.(3)

4. وقال ابن منظور: وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُر خاصّة، وفي حديث أبي سعيد: كنّا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير. وأُريد من الطعام البُر بقرينة مقابلته بالشعير.(4)

5. وقال ابن الأثير في «النهاية»: وفي حديث أبي سعيد: كنّا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير. قيل: أراد به البُر، وقيل: التمر، وهو أشبه؛ لأنّ البر كان عندهم قليلاً لا يتّسع لإخراج الزكاة.(5)

ويؤيّد قول أهل اللغة من أنّ الطعام في مصطلح أهل الحجاز هو البُر ما ورد في الذكر الحكيم، في موارد أربعة:».

ص: 112


1- . كتاب العين: 2/25، مادة «طعم».
2- . معجم مقاييس اللغة: 3/410، مادة «طعم».
3- . مصباح اللغة: 2/373، مادة «طعم».
4- . لسان العرب: 12/364، مادة طعم.
5- . النهاية: 3/137، مادة «طعم».

1. قوله تعالى: «وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ».(1)

2. «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ».(2) فلو قتل نعامة ففيها بدنة، وهو مخير بين البدنة أو تقوم ثم يجعل قيمته طعاماً وهو البرّ أو طحينه.

ولذلك اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الطعام هو البر أو طحينه.

3. وقال سبحانه: «وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً» .(3)

وكان طعامهم الخبز.

4. قال تعالى في أصحاب الكهف: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ».(4) أريد الخبز، لا اللحم، إذ ليس الكهف مناسباً لطبح اللحم.

هذا مضافاً إلى ما تضافر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من أنّ المراد من الطعام هو الحبوب.

روى الكليني عن قتيبة الأعشى في حديث أنّ اللّه تعالى قال: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ » فقال له أبو عبداللّه عليه السلام: وكان أبي عليه السلام يقول: «إنّما هو الحبوب وأشباهها».(5)1.

ص: 113


1- . البقرة: 184.
2- . المائدة: 95.
3- . الإنسان: 8.
4- . الكهف: 19.
5- . الوسائل: 16، الباب 26 من أبواب الذبائح، الحديث 1.

وإنّما نسب الإمام عليه السلام التفسير إلى أبيه عليه السلام للمصلحة؛ لأنّ الرأي العام عند ذاك هو حلية ذبيحة الكتابي، ولأجل حفظ الوئام نسب التفسير إلى أبيه. وفي نفس الباب وأبواب أُخر روايات تدلّ على أنّ المراد بالطعام الحبوب.

ثم إنّ حلية البُرّ أو مطلق الحبوب يشمل ما هو المطبوخ كالهريسة وغيرها من أنواع الطعام من الخبز وغيره. فمَن فسّر الآية بما ذكرنا فقد قال بشرطية الإسلام في الذابح، وأمّا مَن فسّره بكلّ مأكول فقد عمّم الحليّة لذبائح أهل الكتاب.

اعتراضات صاحب المنار على المختار ونقدها
اشارة

بقيت هنا إشكالات وجّهها صاحب المنار(1) إلى هذا القول، نأت بها تباعاً.

الأوّل: استعمال الطعام في القرآن في مطلق المأكول

إنّ لفظ الطعام استعمل في مطلق المأكول في الذكر الحكيم أيضاً:

1. قال سبحانه: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ »(2) ، ولا يقول أحد: إن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب.

2. قال سبحانه: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ ».(3) والمحرّم هو اللحوم لا البرّ أو الحبوب.

3. قال سبحانه: «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا»(4) : أي أكلتم.

ص: 114


1- . لاحظ: تفسير المنار: 6/677.
2- . المائدة: 96.
3- . آل عمران: 93.
4- . الأحزاب: 53.

4. قال سبحانه: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً».(1)

كلّ ذلك قرينة على أنّ المراد من الطعام هو اللحوم.

أقول: أمّا الاستدلال بالآيتين الأُولتين على أنّ المراد هو اللحوم فلوجود القرينة في صيد البحر، وتحريم إسرائيل على نفسه، ولا إشكال أنّه يُعدل عن الأصل بالقرينة.

وأمّا الآيتان الثالثة والرابعة، فلأنّ المنصرف إلى البُر هو لفظ «الطعام» لا كُلّ ما يُشتق منه كقوله: «طعمتم» أو «يطعمه».

ونحن نضيف آية أُخرى، وهي قوله سبحانه حاكياً عن طالوت: «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي»(2) ، ففيها قرينة واضحة على أنّ المراد هو شرب الماء.

وحصيلة الكلام: أنّ انصراف الطعام إلى البُر مختص، بلفظ «الطعام» لا بما يشتقّ منه، وبالمجرد عن القرينة.

الثاني: أنّ اللحم مظنّة التحريم

إنّ الحبّ ليس مظنّة التحليل والتحريم، بل اللحم هو الّذي يعرض له ذلك لوصف حسيّ كموت الحيوان حتف أنفه.

يلاحظ عليه: بأنّ موضوع التحليل والتحريم هو أفعال المكلّفين لا الأعيان الخارجية حتّى في مثل قوله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ

ص: 115


1- . الأنعام 145.
2- . البقرة: 249.

وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».(1) وعليه لا فرق بين اللحوم والحبوب فالكلّ صالح لعروض الحكم الشرعي باعتبار الأكل.

الثالث: إضافة الطعام إلى الكتابي، دليل على أنّ له دخلاً في التحريم

إنّ إضافة الطعام إلى قوله: «اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ » دليل على أنّ لهم دخلاً في صنع الطعام مباشرة، والحبوب والبر المجرّدان من كلّ شيء لا يطلق عليه الطعام المضاف.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في صدق الإضافة مجرّد النسبة، مضافاً إلى أنّ الحلّية ليست مختصّة بالمجرد؛ بل تعمّ صنع الهريسة والخبز وألوان الأغذية المصنوعة من البر وبقية الحبوب.

الرابع: ما هو الوجه لحلّية البر في اليوم الخاص ؟

يظهر من قوله سبحانه: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ » أنّ طعام أهل الكتاب صار حلالاً في يوم خاص وهو في السنة العاشرة من الهجرة الّتي نزلت فيها سورة المائدة، وهذا يناسب حلّية اللحوم.

ص: 116


1- . النساء: 23.

والجواب: هو أنّ المسلمين في بدايات الدعوة الإسلامية كانوا مأمورين بالابتعاد عن المشركين والكافرين لئلّا يتأثّروا بما عندهم من العقائد الفاسدة، ولكن عندما سيطرت الدولة الإسلامية على الحجاز وصارت القوة والقدرة حليفة المسلمين أُجيز لهم أمران:

1. تزويج نساء أهل الكتاب كما في قوله: «وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ ».

2. حلّية طعامهم من بيع وشراء وأكل، وأكل ما يعمل منه، كما في قوله تعالى: «وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ».

والشاهد على ما ذكرنا تصدّر الآية بقوله: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ » مشعراً بأنّ الحلّيّة أمر طارئ.

وقد روي عن قتادة أنّه قال: ذكر لنا أنّ رجالاً قالوا: كيف نتزوّج نساءهم وهم على دين ونحن على دين، فأنزل اللّه: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ »(1) ومثله المقام فقد كان في أذهان البعض نفس هذا السؤال: كيف نعاشرهم بالبيع والشراء والمؤاكلة وهم على دين ونحن على دين، فأنزل اللّه قوله سبحانه: «وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ».

والّذي يُبعد كون الموضوع هو اللحوم، أنّ الآية في سورة المائدة وهي آخر سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أُخريات حياته، أعني: السنة العاشرة، مع أنّ أحكام اللحوم قد سبق بيانها في سورتي البقرة والأنعام، قال تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍظ.

ص: 117


1- . تفسير الدر المنثور: 2/261. لم يظهر وجه صلة الآية بسؤال القوم فلاحظ.

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».(1)

وقال سبحانه: «وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهَا اِفْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ».(2)

فدلالة الآية على مذهب أهل البيت عليهم السلام لا غبار عليها.8.

ص: 118


1- . البقرة: 173.
2- . الأنعام: 138.

أحكام الأطعمة والأشربة

3. الأشربة المحلّلة أمّا الأشربة المحلّلة

فمنها: الماء،

اشارة

ولولاه لما سادت الحياة على الإنسان والحيوان والأشجار، يقول سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».(1)

المفردات

تُسيمون: تَرعَون، يقال: أسأم الماشية وسوّمها جعلها ترعى .

زرع: قال ابن منظور: قد غلب على البُرّ والشعير، وجمعه زروع، وقيل:

الزرع نبات كلّ شيء يحرث.(2)

وقد جاء ذكر الماء في القرآن المجيد قرابة 60 مرّة، ويقول سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ » قسم «مِنْهُ شَرابٌ » للإنسان والحيوان، وقسم منه

ص: 119


1- . النحل: 10-11.
2- . لسان العرب: 141/8، مادة «زرع».

ما يشير إليه بقوله: «وَ مِنْهُ » أي ماء المطر يحصل «شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ » أي ترعون فيه أنعامكم، فإنّ الأنعام ترعى أوراق الأشجار، وعلى هذا أُريد من الشجر مطلق ما ينبت على الأرض فيشمل الكلأ والعشب وأوراق الأشجار.

ثمّ إنّ الآية الثانية تشير إلى فائدة ثالثة لماء السماء وراء الفائدتين المتقدّمتين: الشراب وإنبات الزرع والشجر، والآية صريحة في تأثير الأسباب والعلل الطبيعية في معاليلها وآثارها حيث يقول: «يُنْبِتُ » اللّه «لَكُمْ بِهِ » : أي بسبب الماء وتأثيره، أي بإذن اللّه وإرادته حيث جعل لكلّ سبب، سبباً خلافاً للأشاعرة وأهل الحديث حيث جعل الآثار المادية، مخلوقاً للّه بلا واسطة سبب ويقول:

ومن يقل بالطبع أو بالعلة ***فذاك كفر عند أهل الملة

وعلى أيّة حال فالذي ينبت بالماء عبارة عن «اَلزَّرْعَ » : من الحبوب والفواكه، «وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ » ولمّا كانت الفواكه كثيرة قال: ينبت به «وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ » وأمّا الغاية من ذكره هو «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً » على توحيده سبحانه «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».

ومنها: شهد النحل

اشارة

قال سبحانه: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».(1)

ص: 120


1- . النحل: 68-69.
المفردات

أوحى: الوحي هو الإشارة السريعة، وهو إمّا تشريعي، كالوحي إلى الأنبياء، وإمّا تكويني كما في الوحي إلى الحيوانات والجمادات. وربما يعبّر عنه بالغريزة.

نعم للوحي أسباب أُخرى قد استوفينا بيانها في تفسيرنا «منية الطالبين».(1)

يعرشون: يرفعون من الكروم.

ذُللاً: جمع ذلول وهو الطائع المنقاد.

التفسير

إنّ اللّه سبحانه يشير في الآية الأُولى إلى الأعمال التي تقوم بها النحلة، ولأجل عظمة أعمالها وبديع أمرها وجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ » . وأمّا ما هو الموحى إليه فأُمور ثلاثة وهو أنّها تتّخذ بيوتاً في أحد أماكن ثلاثة:

1. «أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً» . والتعبير ب «مِنَ اَلْجِبالِ » بدل: في الجبال لأنّها لا تبني بيوتها في كلّ جبل.

2. ومثله قوله سبحانه: «وَ مِنَ اَلشَّجَرِ» لأنّها لا تبني بيوتها في كلّ شجر، بل في مساكن وأشجار توافق مصالحها وتليق بها.

3. «وَ مِمّا يَعْرِشُونَ » : أي فيما يعرش الناس ويرفعون من السقوف والكروم ونحوها.

إلى هنا تمّ ما هو العمل الأوّل للنحل وهو بناء البيوت. ثم أشار سبحانه إلى

ص: 121


1- . منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 157/16-159.

الأعمال الأُخرى في الآية التالية:

امتصاص رحيق الأزهار

بعدما تمّ اتّخاذ البيوت حان وقت العمل الثاني، وقد ذكره سبحانه بلفظ ثمّ وقال: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ » ولأجل هذا الأمر يمصّ النحل الرحيق من الأزهار، قبل أن تصير ثمرات.

فما في الآية من أكل الثمرات مجاز بعلاقة الأُوّل، فإنّ الازهار تصير في المستقبل ثمرات.

العمل الثاني: إذا لم تجد النحلة زهرة انتقلت من مكان إلى آخر ومن روضة إلى أُخرى، وهذا ما أُشير إليه بقوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً».

العمل الثالث: إذا امتصت النحلة رحيق الأزهار فينزل ويجتمع في كيس بطنها وهناك يمتزج بعصارة خاصّة فيتحول إلى عسل فتفرز العسل من فمها إلى البيوت الشمعية التي خصصت لتخزين العسل، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:

«يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ » يتراوح لونه بين الأبيض والأصفر، وبما أنّ في عمل النحل من آيات تدل على قدرة الباري وحكمته ختم سبحانه الآية بقوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».

ومن الأشربة المحلّلة: اللبن

اشارة

قال سبحانه: «وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ ».(1)

ص: 122


1- . النحل: 66.
المفردات

لَعِبرة: العِبرة: العِظة.

فرث: ما يبقى في الكرش بعد الهضم، ويسمّى الثُّفل، وما يدفع إلى الخارج يسمّى الرَّوث.

سائغاً: السائغ ما سهل مروره في الحلق.

التفسير

«وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ » يعني الإبل والبقر والغنم «لَعِبْرَةً » اعتباراً ودلالة على قدرة الخالق «نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ » : أي بطون الأنعام «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ » نسقيكم «لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ ».

ثمّ إنّ المراد من كون اللبن، بين الفرث والدم، هو أنّ الغذاء يتحوّل إلى فرث، وعصارته تتحوّل إلى الدم الذي يذهب إلى كلّ خلية في الجسم فيتحوّل في عروق الضَّرع إلى لبن خالص سائغ للشاربين.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ كلمة «بَيْنِ » استعملت في مكان مجازي، وهي كثيراً ما تستعمل في إرادة الوسط بين مرتبتين كقولهم: الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن، فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكلّ طبقة من الناس، بحسب مبالغ علمهم مع كونه موافقاً للحقيقة.(1)

ثمّ إنّه سبحانه وصف اللَّبن بوصفين:

1. «لَبَناً خالِصاً» لا يشوبه شيء، لا من الفرث ولا من الدم.

ص: 123


1- . انظر: التحرير والتنوير: 160/13؛ روح المعاني: 178/20.

2. «سائِغاً لِلشّارِبِينَ » : أي لا يغصّ الشارب به. وقد حكي أنّه لم يغصّ باللبن أحد قط.(1) وربّما يكون الماء غير سائغ «روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ليس أحد يغصّ بشرب اللّبن لأنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: «سائِغاً لِلشّارِبِينَ ».(2)

***

إلى هنا تمّت الإشارة إلى الأشربة المحلّلة في القرآن الكريم، ومن المعلوم أنّ هناك أشربة تابعة لها من حيث الحلّيّة.3.

ص: 124


1- . تفسير الطبري: 133/14.
2- . تفسير نور الثقلين: 62/3.

أحكام الأطعمة والأشربة

4. الأشربة المحرّمة

اشارة

قد وقفت على بعض عناوين الأشربة المحلّلة، وأمّا العنوان المحرّم الوارد في الذكر الحكيم من الأشربة المحرّمة فليس هو إلّاالخمر، وقد ذكر حكمها في الآيات التالية:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ».(1)

المفردات

الخمر: وهو في اللغة: ستر الشيء، ويقال لما يستر به: خمار، وسمّيت الخمر خمراً لكونها خامرة لمقرّ العقل، وهو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر، وعند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب والتمر. وعلى كلّ تقدير فسواء أكان الخمر

ص: 125


1- . المائدة: 90.

هو المتّخذ عن العنب خاصّة أو هو مع التمر، فقد دلّ الدليل على حرمة كلّ مسكر، ففي رواية صحيحة: «إنّ اللّه حرّم الخمر بعينها وحرّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسكر من كلّ شراب».(1)

الأنصاب: الأصنام واحدها «النصب» سمّي بذلك لأنّها كانت تنصب للعبادة.

والأزلام: السهام.

وأمّا سائر المفردات فقد استوفينا بيان معانيها عند البحث عن القمار. كما استوفينا في مبحث النجاسات حكم الخمر من حيث الطهارة والنجاسة، ونركّز في المقام على حرمة شربها. والآية لا تدلّ على نجاستها؛ لأنّ لفظة «الرجس» محمول عليها وعلى الميسر والأنصاب بمعنى واحد، ومن المعلوم أنّهما غير محكومين بها.

التفسير

قال سبحانه: «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ » هذه الأُمور الأربعة «رِجْسٌ » : أي أمر مستقذر، حسّاً أو عقلاً، مضافاً إلى أنّها «مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ » كما سيأتي بيانه في الآية التالية «فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » . وأمّا أنّه من عمل الشيطان فتذكره الآية التالية:

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ

ص: 126


1- . أُصول الكافي: 266/1، الحديث 4.

فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ».(1)

ما هو السبب لتحريم الخمر والميسر؟

لمّا تقدّم في الآية السابقة من أنّ الخمر والميسر من عمل الشيطان جاءت هذه الآية تذكر سبب التحريم، ومنه يظهر كون تعاطيهما من عمل الشيطان، وتذكر لذلك أسباباً أربعة:

1. العداوة: والعداوة هي تجاوز الحدّ فإنّ السكران يقدم على كثير من القبائح ولا يبالي، وإذا صحا ندم على ما فعل. يقول السيد الطباطبائي: إنّ شرب الخمر يهيج سلسلة الأعصاب تهيجاً يخمر العقل ويستظهر العواطف العصبية فإن وقعت في طريق الغضب جوّزت للسكران أي جناية فرضت، وإن وقعت في طريق الشهوة زيّنت للإنسان أي شناعة وفجور في نفسه أو ماله أو عرضه وكلّ ما يحترمه ويقدّسه من نواميس الدين وحدود المجتمع من سرقة أو خيانة أو هتك محرّم أو إفشاء سر.(2)

2. البغضاء: الظاهر أنّها من آثار الميسر فإنّ الرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء، وتنتهي به المقامرة إلى ما يقامره بولده وأهله، فيؤدّي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه.(3)

3. الصدّ عن ذكر اللّه: قد تقدّم ذكر المفاسد الدنيوية للخمر والميسر، وهذه

ص: 127


1- . المائدة: 91.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 122/6-123.
3- . روح المعاني: 16/7.

هي المفسدة الدينية لهما. فالصدّ عن ذكر اللّه لأجل غيبوبة العقل والاستغراق في الملاذ الجسمانية، هذا في الخمر، وأمّا الميسر فهو يستغرق وقته لطلب الربح، ولا يفكّر إلّافي هذا الموضوع وكثيراً ما يمضي الوقت عن ذكر اللّه وهو شاغل ولاعب.

4. الصدّ عن الصلاة: وقد ذكر بعد الصدّ عن ذكر اللّه، إشعاراً بأهميتها.

ثم ختم الآية بقوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » : أي بعدما ظهرت لكم مفاسد الخمر والميسر، وغيرهما، فهل تنتهون، وهل هذا البلاغ كافٍ في انتهائكم ؟ وهذا مشعر بأنّ البيان بلغ الغاية وأنّ الأعذار منقطعة فلم يبق للخمّار إلّاالاجتناب وللاعب إلّاترك الميسر، ولأجل أنّ البيان بلغ الغاية صدر من بعضهم قوله: قد انتهينا، قد انتهينا.

ومن أراد أن يلمس مضار الخمر والميسر عن كثب فعليه الرجوع إلى الإحصاءات التي تذكر الجرائم التي تقع بسبب شرب الخمر ولعب القمار.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ».(1)

ص: 128


1- . المائدة: 93.
المفردات

طعموا: من الطعم: وأصله الأكل، قال سبحانه: «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا»(1) ، والشراب ليس من الطعام، ومع ذلك ربما يستعمل بمعنى ذاق وهو يعم الأكل والشرب. يقول سبحانه حاكياً عن عبده طالوت، «فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي».(2)

التفسير

ربما يجعل بعض الجهّال هذه الآية دليلاً على جواز طعم الخمر إذا لم تحصل معه المفاسد التي مرّ ذكرها، فلذلك يجب نقل شأن النزول.

قال الطبرسي: لمّا نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول اللّه ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل اللّه هذه الآية - عن ابن عباس وأنس بن مالك والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة والضحّاك - وقيل:

إنّها نزلت في القوم الذين حرّموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره، فبيّن اللّه لهم أنّه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات.(3)

قال سبحانه: «لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ » : أي المسلمين والمؤمنين «جُناحٌ » : أي إثم «فِيما طَعِمُوا» : أي شربوا، ولكن مرّوا بمراحل ثلاثة:

ص: 129


1- . الأحزاب: 53.
2- . البقرة: 249.
3- . مجمع البيان: 481/3.

1. «إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ».

2. «ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا».

3. «ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا».

فيقع الكلام في موضعين:

1. ما هو السبب لتكرار الإيمان ثلاث مرّات ؟ مرّتين مقروناً بالعمل الصالح، ومرّة ثالثة مقروناً بالتقوى؟

2. ما هو السبب لتكرار التقوى ثلاث مرّات ؟ حيث ذكرت مقرونة أوّلاً مع الإيمان والعمل الصالح، وثانياً مع الإيمان فقط، وثالثة مع الإحسان ؟

هذا وقد ذكر الرازي وجوهاً خمسة(1)، غير أنّ جميع هذه الوجوه تتعلّق ببيان سبب تكرار التقوى دون الإيمان.

أقول: أمّا الموضع الأوّل أعني تكرار الإيمان ثلاث مرات فيمكن أن يقال:

إنّ قوله: «إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ » إعادة لنفس الموضوع المتقدّم أعني: «لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ » للدلالة على مدخلية الوصف (أعني: الإيمان والعمل الصالح) في الحكم الذي هو نفي الجناح. وعلى هذا فيمكن أن يقال: إنّ المراد من الإيمان في كلتا الفقرتين بما أنّهما شيء واحد، هو الإيمان الإجمالي بما أنزل اللّه، وأمّا المراد من الإيمان في الفقرة الثالثة أعني قوله: «ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا» هو الإيمان التفصيلي بكلّ ما جاء به النبي من غير ردّ ولا امتناع، والتسليم للرسول فيما يأمر به وينهى عنه، نظير قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا2.

ص: 130


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 84/12.

اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ »(1).

وأمّا ذكر الإحسان بعد الإيمان في قوله: «وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا» لعلّه إشارة إلى أن يكون إتيان العمل الصالح مقروناً بنيّة حسنة لا بنيّة فاسدة، كما قال سبحانه: «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً»(2) . فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ قوله: «وَ آمَنُوا» في الفقرة الثانية ليس شيئاً جديداً بل تأكيد لما جاء في الفقرة الأُولى، وأُريد منهما الإيمان الإجمالي، كما أُريد من الإيمان في الفقرة الثالثة الإيمان التفصيلي مقروناً بعمل صالح حسن في ذاته.

هذا كلّه حول الموضع الأوّل.

وأمّا الموضع الثاني، أعني: تكرار التقوى ثلاث مرات وتقييد المراتب الثلاث جميعاً به، فهنا وجوه:

الأوّل: هو للتأكيد على وجوب مقارنة المراتب (مراتب الإيمان) جميعاً للتقوى الواقعية، من غير غرض آخر غير ديني. فيكون معنى الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرّمات بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم ومتلبّسين بالإيمان باللّه ورسوله ومحسنين في أعمالهم عاملين للواجبات وتاركين كلّ محرّم نُهوا عنه، فإن اتّفق لهم أن ابتلوا بشيء من الرجس الذي هو من عمل الشيطان قبل وقوفهم على تحريمه لم يضرهم ذلك شيئاً.(3)2.

ص: 131


1- . الحديد: 28.
2- . الكهف: 30.
3- . تفسير الرازي: 83/12.

الثاني: أنّ المراد من الأوّل أصل الاتّقاء، ومن الثاني الدوام عليه، ومن الثالث استناد جميع المعاصي مع ضم الإحسان.(1)

الثالث: أنّه سبحانه يقسّم المؤمنين في الذكر الحكيم إلى صنفين:

الأوّل: مَن ليس لهم ثبات في الإيمان باللّه ورسوله، فيوماً يؤمنون، ويوماً آخر يكفرون وهكذا، وهؤلاء هم المحرمون من غفران اللّه سبحانه كما يقال: «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً».(2)

الثاني: مَن لهم ثبات قدم في الإيمان وزادوا في إيمانهم وتقواهم يوماً فيوم، والدليل على ذلك كونهم ذوي أعمال صالحة وحسنات، فهؤلاء هم الذين لا جناح عليهم فيما طعموا قبل تحريم الخمر.

***

بقي الكلام في نقد بعض مَن استدلّ بالآية على جواز شرب الخمر، إذا لم يقترن بالمفاسد المذكورة في الآية.

والجواب: أنّ الآية تتضمّن بيان حكم الجاهل بالحكم إذا آمن وعمل الصالحات واتّقى عن المحارم في سائر الموارد، فهو معذور عند اللّه سواء شرب الأقل أو الأكثر. وأين هذا من تجويز شرب الخمر بوجه قليل بعد العلم بتحريمها، وبعدما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «أنهاكم عن قليل ما أُسكر كثيره».(3)ه.

ص: 132


1- . مجمع البيان: 481/3.
2- . النساء: 137.
3- . سنن الدارقطني: 165/4، برقم 4593، وغيره.

وفي رواية أُخرى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن قليل ما أُسكر كثيره.(1)

وقد عقد صاحب الوسائل باباً بعنوان: «ما أُسكر كثيره فقليله حرام» أورد فيه 12 رواية، وفيها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «كلّ مسكر حرام وما أُسكر كثيره فقليله حرام».(2)1.

ص: 133


1- . السنن الكبرى للنسائي: 217/3، برقم 5119.
2- . الوسائل: 16، الباب 17 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

أحكام الأطعمة والأشربة

5. تحليل الطيبات وصيد الجوارح المعلّمة

اشارة

قال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ ».(1)

المفردات

الجوارح: الكلاب المعلّمة للصيد.

مكلّبين: مفرده مكلّب: أي مؤدّب الكلب للصيد.

التفسير

لمّا نزل قوله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ

ص: 134


1- . المائدة: 4.

لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1) ، صار ذلك أرضية صالحة للسؤال عمّا يحلّ ، فأُجيبوا بأمرين، وأنّه يحلّ لكم الأمران التاليان:

1. الطيبات كما يقول: «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ ».

2. «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ » ، وسيأتي تفصيل الأمر الثاني.

تحليل الطيبات

أمّا الأوّل، فهو أنّ الضابطة في الحلال والحرام كون الشيء طيّباً وكونه خبيثاً، فهذه ضابطة كلّية يمكن أن تكون مصدراً للحكم الشرعي اعتماداً على الآية.

وقد جاء نظير هذه الضابطة في التعريف بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، قال سبحانه: «اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ »(2).

غير أنّ الإشكال في التعرّف على مصداق الطيّب والخبيث، ولذلك قال المحقّق الأردبيلي: معنى الخبيث غير ظاهر، إذ الشّرع ما بيّنه، واللغة غير مرادة،

ص: 135


1- . المائدة: 3.
2- . الأعراف: 157.

والعرف غير منضبط.(1)

غير أنّ الظاهر من الشهيد الثاني إمكان التعرّف عليها حيث قال: والمراد بالعرف الذي يرجع إليه في الاستطابة عرف الأوساط من أهل اليسار في حالة الاختيار، دون أهل البوادي وذوي الاضطرار من جفاة العرب، فإنّهم يستطيبون ما دبّ ودرج، كما سُئل بعضهم عما يأكلون ؟ فقال: كلّ ما دبّ ودرج إلّاأُم حُبَيْن:

فقال بعضهم: لتهنأ أُمّ حبين العافية لكونها أمنت أن تؤكل.(2)

والحقّ أنّ قسماً من الحيوانات ما هو طيب عند أغلب الناس وخبيث كذلك، ولكن قسماً منها مختلف فيه، فرب حيوان لذيذ الأكل عند قوم، كالضّب، وخبيث عند آخرين. حتّى أنّ قسماً من الحشرات طيّبة الطعم عند بعض الشعوب، مثل السرطان،(3) وخبيثة عند الآخرين، ولذا فيجب العودة إلى المصدرين (الكتاب والسنّة) مضافاً إلى ما عليه اتّفاق الفقهاء.

تحليل صيد الجوارح المعلّمة

ممّا أحله اللّه سبحانه ما صاده الكلب المعلّم: قال المحقّق تحت عنوان: «ما يؤكل صيده وإن قتل»: ويختصّ من الحيوانات بالكلب المعلّم، دون غيره من جوارح السباع والطير، فلو اصطاد بغيره كالفهد والنمر أو غيرهما من السباع لم يحلّ منه إلّاما يُدرك ذكاته، وكذا لو صاد بالبازي و العقاب والباشق وغير ذلك من

ص: 136


1- . جواهر الكلام: 238/36، نقلاً عن مجمع الفائدة والبرهان: 157/1.
2- . مسالك الأفهام: 9/12.
3- . وهو حيوان من القشريات، تُسمّيه العامّة: السلطعون، عشاري الأقدام، قصير الذيل، يوجد منه أنواع عديدة يعيش أغلبها على شواطئ البحر وبعضها في المياه العذبة. المنجد: مادة «سرط». وبالفارسية «خرچنگ».

جوارح الطير، معلّماً أو غير معلّم.

ثمّ إنّه ذكر في حليّة ما صاده الكلب المعلّم بأنّه يشترط فيه أُمور ثلاثة:

1. أن يسترسل إذا أرسله.

2. وينزجر إذا زجره.

3. وأن لا يأكل ما يمسكه.

ويشترط في المرسِل أُمور أربعة:

1. أن يكون مسلماً.

2. أن يرسله للاصطياد.

3. أن يُسمّي عند إرساله.

4. أن لا يغيب الصيد (عن المرسِل) وحياته مستقرّة.(1)

إنّ ما صاده الكلب فهو حلال، غاية الأمر إن وجده مجروحاً قابلاً للتذكية يذكّيه، وإلّا فهو حلال، بخلاف ما لو صاده غير الكلب من الجوارح، فإنّه يحلّ في القسم الأوّل بشرط التذكية دون الثاني.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.

قوله سبحانه: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ » : أي أكل الصيد الذي تصطاده الجوارح المعلّمة، والقرينة على أنّ المراد الأكل، قوله سبحانه بعده «فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ».

ثمّ إنّ صيد الجوارح إنّما يحلّ بشروط أربعة:6.

ص: 137


1- . شرائع الإسلام: 200/3. لاحظ: الجواهر: 37/36.

1. «مُكَلِّبِينَ » حال من قوله: «عَلَّمْتُمْ » ، والمكلّب هو مؤدّب الجوارح، ومعلّمها بالصيد لصاحبها ومروضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب.

ثمّ إنّ في قوله: «مُكَلِّبِينَ » دليل على اختصاص حليّة الصيد - سواء جاء به حيّاً أو ميّتاً بالكلب، فلا يجوز بسائر الجوارح كالفهْد والصَقْر، كما مرّ. وعلى هذا فيكون معناه صائدين بالكلب. وهنا احتمال آخر وهو كونهم حاذقين في تعليم الكلب وهو خيرة صاحب الكشّاف، وعلى أي حال قبل كلّ طائر يصيد إلّاالنسر والعقاب.

2. «تُعَلِّمُونَهُنَّ » : أي تؤدّبون الجوارح فتعلّمونهنّ طلب الصيد. وقد دلّت الآية على اشتراط كون كلاب الصيد معلّمة كيفية الصيد من جانب صاحبها أو غيره، فلا يحلّ صيد غير المعلّم إلّاإذا أُدرك حيّاً ويكون قابلاً للتذكية.

هنا كلام لطيف يقول الزمخشري في قوله: «تُعَلِّمُونَهُنَّ » فائدة جليلة: وهي أنّ على كلّ آخذ علماً أن لا يأخذه إلّامن [كان] أقتل أهله علماً، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذٍ عن غير متقنٍ قد ضيع أيّامه، وعضّ عند لقاء النحارير أنامله.(1)

وأمّا كيفية التعليم فيذكره سبحانه بقوله: «مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ » : أي ممّا ألهمكم إيّاه، وهداكم إليه من ترويضها والانتفاع بتعليمها بالفطرة.

3. الإمساك لصاحب الصيد، كما في قوله: «فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » : أي كلوا ممّا تصيده لأجلكم فتحبسه، ويُعلم ذلك بعدم أكلها منه، فإن أكلت منه يُعلم».

ص: 138


1- . تفسير الكشّاف: 323/2. قوله: من أقتل أهله علماً، مبالغة في العلم. وقوله: أكثرهم دراية، كناية عن نحر الجهل، وقتله. لاحظ المعجم الوسيط، مادة «قتل».

أنّها لم تمسكه لصاحب الصيد، فالظاهر أنّه لا يجوز أكله.

ثمّ إنّ قوله سبحانه وإن كان يدلّ على جواز الأكل ممّا أمسكته الجوارح لكن لا يجوز الأكل إلّابعد غسل موضع العض من أسنانه.

فإن قلت: إنّ إطلاق الآية وعدم تقييده بالغسل يدلّ على طهارة تلك المواضع.

قلت: ما ذكرته ممّا نقله الشيخ الأنصاري عن الشيخ الطوسي من التمسّك بالإطلاق والحكم بجواز الأكل من دون غسل، إلّاأنّ التمسّك بالإطلاق مشروط بكون المتكلّم في مقام البيان حتى يُستدلّ بترك ذكره على عدم مدخليته، ولكن الآية ليست في مقام بيان حكم هذه الحالة وإنّما هي بصدد بيان توسعة أمر التذكية وهو عدم اختصاصه بقطع الأوداج الأربعة بالسكين، بل يتحقّق بإمساك الجوارح وجرحها، فلو وجده الصائد مقتولاً فهو مذكّى، وإلّا فيذكّيه، ولذلك لا يمكن التمسّك بالإطلاق.

4. ذكر اسم اللّه عند إرساله كما في قوله: «وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ » قبل الإرسال، فإذا أرسل الكلب مقروناً بالتسمية فأخذ فقتل أو لم يقتل فيؤكل منه بشرط التذكية عند عدم القتل.

ثمّ إنّه سبحانه في نهاية الآية يأمر بالتقوى ويقول: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ » : أي اجتنبوا محارم اللّه مع وجود الطيبات، وأكل ما جاز من الصيد «إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ » :

أي إنّ اللّه يحاسب الناس كلّهم يوم القيامة، في يوم واحد.

هذا تفسير الآية بحرفيّتها.

فلو أردنا أن نفسّر الآية بلسان الفقه فنقول: إنّ ما يؤكل صيده بالكلب

ص: 139

المعلّم تُشترط فيه شروط:

1. الصيد بالكلب فقط، فلو صاد بغير الكلب، كالفهد أو النمر أو غيرهما من السباع، لم يحل إلّاإذا أدرك ذكاته، فغير الكلب من الأصناف سواء أكانت معلّمة أو غير معلّمة لا يؤكل صيدها إذا قُتل، نعم يحلّ إذا أدركه الصيّاد حيّاً وذكّاه. ودلّ على هذا الشرط قوله: «مُكَلِّبِينَ ».

روى الكليني في «الكافي» بسند صحيح عن الحلبي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «كان أبي عليه السلام يُفتي وكان يتّقي، ونحن نخاف في صَيْد البُزاة والصُقورة، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف، ولا نحلّ صيدها إلّاأن تدرك ذكاته، فإنّه في كتاب علي عليه السلام: أنّ اللّه عزّ وجلّ قال: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » في الكلاب».(1)

وروى القمي في تفسيره عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

سألته عن صيد البُزاة والصُقورة والفهود والكلاب ؟ قال: «لا تأكلوا إلّاما ذكّيتم إلّا الكلاب».(2) قلت: فإن قتله ؟ قال: كُل فإنّ اللّه يقول: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » . ثم قال عليه السلام: «كلّ شيء من السباع تُمسك الصيد على نفسها، إلّاالكلاب المُعلّمة، فإنّها تمسك على صاحبها» قال: «وإذا أرسلت الكلب المُعلّم فاذكر اسم اللّه عليه، فهو ذكاته».(3)

2. أن يكون معلّماً ومعناه أن يسترسل إذا أرسله، وينزجر إذا زجره، ويدلّ 1.

ص: 140


1- . الكافي: 207/6، الحديث 1. قوله: «وكان أبي عليه السلام يُفتي» أي بالجواز يشهد على ذلك ما رواه أبان بن تغلب، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «كان أبي عليه السلام يفتي في زمن بني أُمية انّ ما قتل البازي والصقر فهو حلال». (الكافى: 208/6).
2- . أي إلّاما أمسكته الكلاب.
3- . تفسير القمي: 162/1.

عليه قوله: «تُعَلِّمُونَهُنَّ ».

3. أن يكون المرسل مسلماً على المشهور. وهذا هو القدر المتيقّن من الآية حيث إنّ الخطاب للمؤمنين. روى عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد اللّه:

إنّي استعير كلب المجوس فاصيد، فقال عليه السلام: لا تأكل من صيده إلّاأن يكون علمه مسلم فتعلّمه.(1)

4. أن يرسله للاصطياد، فلو استرسل من نفسه لم يحلّ مقتوله. نعم لو جرحه الكلب وأدركه الصيّاد وذكّاه، يحل.

5. التسمية عند الإرسال، كما قال سبحانه: «وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ ».

روى الكليني في «الكافي» عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن كلب أفلت ولم يرسله صاحبه فصاد فأدركه صاحبه وقد قتله، أيأكل منه ؟ فقال: «لا». وقال عليه السلام: «إذا صاد وقد سمّى فليأكل، وإن صاد ولم يسمّ فلا يأكل، وهذا ممّا «ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ».(2)

6. أن يكون القتل مستنداً إلى الكلب، فلو وجد مقتولاً واحتمل أن يكون القتل من غيره، فلا يحل.

هذه هي الشروط التي ذكرها الفقهاء في محلّه، قسم منه يستفاد من الآية والآخر يستفاد من السنّة، والتفصيل في محلّه.(3)3.

ص: 141


1- . الكافي: 209/6.
2- . الكافي: 206/6، الحديث 16.
3- . لاحظ: شرائع الإسلام: 200/3.

أحكام اللباس والزينة

6. أحكام اللباس والزينة

اشارة

لا شكّ أنّ اللباس من ضروريات الحياة، فهو وقاية من الحر والبرد أوّلاً، وستر للعورة ثانياً، إلى غير ذلك ممّا له من المنافع. كما أنّ التزيّن من كماليّاته التي يرغب إليها كلّ شاب وشابة، بل الإنسان مطلقاً فندرس حكم الموضوعين حسب ما ورد في الذكر الحكيم.

الآية الأُولى

اشارة

«يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اَللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ».(1)

المفردات

يواري يستر.

ص: 142


1- . الأعراف: 26.

سوأتكم: عوراتكم.

وريشاً: الريش كسوة الطائر وزينته فهو للطائر كالشعر لغيره من الحيوان.

ويقسّم الريش في جناح الطائر إلى أقسام: منها الريشات الكبار: التي في مقدم الجناح، وأُريد في الآية منه: اللباس الفاخر.

زينتكم: قال الراغب: الزينة - بالقول المجمل - ثلاثة: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنيّة كالقوّة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه.(1)

والظاهر أنّ الراغب خلط بين الجمال والزينة، فما يرجع إلى الخلقة فهو جمال، وما يعرض الخلقة فهو زينة. فالوجه الحسن جمال، واللباس الفاخر زينة.

والقرآن الكريم لم يستعمل الزينة إلّافيما يطرأ على الخلقة فلاحظ مواردها في السور.

المسرفين: المتجاوزين الحدّ. والفرق بين الإسراف والتبذير، أنّ الأوّل تجاوز الحد، من غير فرق بين ما ينبغي وما لا ينبغي، والتبذير يختصّ بالتجاوز في الذي لا ينبغي، وما ربما يقال من اختصاص الأوّل بالتجاوز فيما ينبغي.(2) غير تام؛ لأنّه سبحانه وصف عمل قوم لوط بالإسراف وقال: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ »(3)1.

ص: 143


1- . المفردات للراغب: 218، مادة «زين».
2- . الطريحي في مجمع البحرين، مادة «سرف»؛ والموسوعة الفقهية الكويتية في نفس المادة.
3- . الأعراف: 81.
التفسير

قال تعالى: «يا بَنِي آدَمَ » ، هذا الخطاب من خطابات أوّل الخليقة، وقد جاء في هذه السورة كراراً نظير:

1. «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً».(1)

2. «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ ».(2)

3. «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ».(3)

4. «يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ».(4)

فقد خاطب اللّه سبحانه بهذه الخطابات عامّة بني آدم حين هبط آدم وزوجه الأرض، محذِّراً أولاده من فتن الوقوع في شبكة الشيطان ومرغّباً إلى اتّباع الرسل الذين سيبعثهم اللّه إليهم فيما يأتي.

وبما ذكرنا يعلم بطلان ما تمسّكت به الفرقة الضالّة البهائية على استمرار بعث الأنبياء بعد النبي الخاتم تمسّكاً بالخطاب الرابع، غافلين عن الظروف التي صدر هذا الخطاب وأمثاله فيها، فقد خاطب اللّه بها أوّل الخليقة، حين هبط آدم الأرض والمفروض أنّه جاءت الرسل بعده تترى إلى أن تمّت حلقة البعث بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

قوله سبحانه: «أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً» ، عبّر سبحانه عن هذه النعمة التي يستر

ص: 144


1- . الأعراف: 26.
2- . الأعراف: 27.
3- . الأعراف: 31.
4- . الأعراف: 35.

عوراتنا كما قال: «يُوارِي سَوْآتِكُمْ » ، عبّر بالإنزال، كما عبّر عن الحديد به أيضاً، وقال سبحانه: «وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ»(1) ، للدلالة على أنّ ما في عالم الطبيعة من النعم، لها جذور في فوق المادة، قال سبحانه: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ».(2) وأنّ كلّ ما في عالم الشهادة، ظلّ ما في عالم الغيب.

وعلى كلّ تقدير، فمن فوائد اللباس المنزول من اللّه سبحانه، هو ستر العورات.

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى نعمة أُخرى قائلاً: «وَ رِيشاً» وقد مر في تفسير المفردات أنّه كناية عن اللباس الفاخر الذي يلبسه الإنسان في مواقع خاصّة.

ثم إنّه سبحانه يعطف نظر بني آدم إلى لباس معنوي هو خير من اللباس المادي ويقول: «وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» لأنّ اللباس المادي شيء داثر واللباس المعنوي قائم بالإنسان غير داثر ويجتنى ثمره في الحياتين: البرزخية والأُخروية، قال سبحانه: «لَعَلَّهُمْ » بني آدم «يَذَّكَّرُونَ » ولم يقل «يعلمون» لعدم جهل الإنسان بما في اللباسين من الآثار، لكنّه لغفلته عن كون الجميع من نعم اللّه، لا يعبده بل يعبد غيره، ولذلك أمر بالتذكر.

***

الآية الثانية:

اشارة

«يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا

ص: 145


1- . الحديد: 25.
2- . الحجر: 21.

إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ ».(1)

المفردات

خذوا: كناية عن الأمر باللُبس.

التفسير

الآية خطاب للمكلّفين وتتضمّن تكليفين:

1. «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» : أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها للصلاة في الجمعات والأعياد، وقيل: عند كلّ صلاة. روى العيّاشي: أنّ الحسن بن علي عليهما السلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له: يابن رسول اللّه، لم تلبس أجود ثيابك ؟ فقال: «إنّ اللّه جميل يحب الجمال، فأتجمّل لربي».(2)

إنّ الإسلام ينهى عن التقشّف وترك النعم، مطلقاً، قائلاً بأنّ اللّه سبحانه خلقها للمؤمنين خاصّة الذين يعرفون نعمة اللّه ويشكرون له، دون الكافرين كما يقول:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا» وإن كان الكافرون يشاركونهم بالتنعّم بالطيبات في الدنيا ولكنّها في الآخرة تكون لهم «خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ».(3)

ص: 146


1- . الأعراف: 31.
2- . مجمع البيان: 369/4.
3- . الأعراف: 32.

2. ينهى الخطاب في الآية عن الإسراف وتجاوز الحدّ ويقول: «وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» وسيوافيك حكم الإسراف في خاتمة الجزء بإذن اللّه تعالى، فإنّه من الموضوعات التي غفل عن دراسته كّل مَن ألف كتاباً في آيات الأحكام ولذلك استدركناها بدراستها في آخر هذا الجزء بإذن اللّه.

***

وقد وردت في السنّة روايات كثيرة حول الألبسة حلالاً وحراماً وكراهة ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكافي.(1)ل.

ص: 147


1- . الكافى: 438/6-534، كتاب الزيّ والتجمل.

ص: 148

الفصل الرابع عشر: أحكام المواريث في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

1. نزول آية المواريث.

2. في نصيب الرجال والنساء من الميراث.

3. في إرث الأولاد والأبوين.

4. في إرث الزوجين والكلالة.

ميراث كلالة الأُمّ .

5. في إعطاء ذوي القربى والفقراء من التركة.

6. إرث المسلم من الكافر.

7. ميراث أولاد الأنبياء.

ص: 149

ص: 150

تمهيد

المواريث جمع الميراث الذي هو بمعنى اسم المصدر أعني: «الإرث»، أو بمعنى اسم المفعول أي الموروث، ويعرّف بأنّه ما يستحقّه إنسان بموت آخر، وربما يعبّر عن المواريث بالفرائض، جمع الفريضة بمعنى التقدير، أخذاً من قوله سبحانه: «نَصِيباً مَفْرُوضاً»(1).

قلّما يتّفق أن يموت إنسان ولا يترك شيئاً من الأموال والحقوق، كيف وأنّ الإنسان يجنح حسب طبعه إلى جمع المال، وزينة الحياة الدنيا، فيترك بموته ثروة قليلة أو كثيرة، فيقع الكلام في مَنْ يرثه ؟ أمّا الجاهلية فكانوا يتوارثون بالعقد الذي يعبّر عنه بضمان الجريرة، يقول العاقد: دمك دمي، وثأرك ثأري، وحربك حربي، وسلمك سلمي، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأُطلب بك، وتعقل عنّي وأعقل عنك.(2)

ثمّ إنّ الإسلام الحنيف لم يبطل هذه السنّة من أساسها، بل جعلها في نهاية الأمر، فإذا لم يكن للميّت قريب نسبي أو سببي ولا ولاء عتق، يورث بضمان الجريرة.

ولمّا هاجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة وآخى بين الأنصار والمهاجرين، كان المسلمون يتوارثون بالإيمان والهجرة، فكان ملاك الميراث الدين والهجرة. ثمّ إنّه سبحانه نسخ هذا الحكم بالآيات التالية:

ص: 151


1- . النساء: 7.
2- . كنز العرفان: 324/2.

أحكام المواريث

1. نزول آية المواريث

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي اَلْكِتابِ مَسْطُوراً».(1)

التفسير

اشتملت الآية على أحكام ثلاثة:

1. «اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ».

2. «وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ».

3. «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ ».

والذي يهمّنا في المقام هو دراسة الفقرة الثالثة.

وإنّما يتّضح معنى الآية بذكر أمرين:

1. ما تقدّم في تاريخ الميراث أنّ المسلمين بعدما هبطوا المدينة المنوّرة

ص: 152


1- . الأحزاب: 6.

كان محور الميراث هو الإيمان والهجرة.

2. انّ لفظة «أولى» في قوله تعالى: «أَوْلى » صيغة تفضيل تحتاج إلى المفضل عليه، وهو قوله: «مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ » وتقدير الآية: أُولو الأرحام أولى بالميراث في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين.

إذا علمت ذلك فلنبدأ بتفسير هذه الفقرة.

قوله: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ » ، وجه الأولوية هو القرابة. وأمّا المفضّل عليه فهو قوله: «مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ »(1) فهذه الآية وغيرها نسخت ما كان يورّثهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالهجرة والدين لا بالقرابة، تأليفاً لقلوبهم، كإسهام الكفّار من الصدقة. أعني: المؤلّفة قلوبهم في تقسيم الصدقات.

ولمّا كان معنى ذلك أنّ جميع التركة تتعلّق بأُولي الأرحام، استثنى سبحانه صورة واحدة، وهي الإيصاء بشيء من ماله إلى أصدقائه، وقال: «إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» والمراد بالأولياء المؤمنون - للولاية في الدين - فالأجانب لا يرثون الإنسان إلّاإذا أوصى الرجل بشيء ممّا ترك له، ومن المعلوم أنّ الوصية لغير الوارث نافذة في مقدار ثلث التركة، وعندنا كذلك حتى في حقّ الوارث. وقد مرّ في كتاب الوصية معنى المأثور عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا وصيّة لوارث». وأنّه لو صحّ أُريد الزائد على الثلث كما مرّ في محلّه.ر.

ص: 153


1- . نعم خلا قوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » (الأنفال: 75) من ذكر المفضّل عليه، فتدبّر.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً».(1)

المفردات

موالي: جمع المولى، وليس له إلّامعنى واحد، وهو: الأولى، ويختلف المقصود باختلاف متعلّقه، والمراد هنا: القريب لأنّه أولى بإرث المورّث.

أيمانكم: جمع اليمين، وهو اسم يقع على الجارحة، وبما أنّ الإنسان عند التعاقد والتعاهد يتصافح باليد ولذلك سُمّي القسم يميناً، تسمية الشيء باسم سببه.

التفسير

لمّا تقدّم في الآية السابقة أنّ أُولي الأرحام أولى بالميراث من غيرهم من المؤمنين و المهاجرين، جاء البيان القرآني تفصيلاً لما أُجمل في الآية السابقة، غير أنّ للمفسّرين في تفسير الآية بيانين:

الأوّل: أنّ المقصود من الموالي في الآية هم مَنْ يرث، ومن قوله: «والوالدان والأقربون والذين عقدت إيمانكم»، تفسير للموالي، والضمير في قوله: «ترك» يرجع إلى الميت، وعلى هذا يكون تقدير الآية بالنحو التالي: ولكلّ ميّت جعلنا

ص: 154


1- . النساء: 33.

موالي وارثين، يرثون ممّا ترك الميّت، ولمّا كان هنا موضع سؤال: من هم الموالي الذين يرثون ؟

فقيل: 1. الوالدان. 2. والأقربون. 3. والّذين عقدت أيمانكم أي الزوجات.

فهؤلاء هم الموالي الّذين يرثون كلّاً من الرجال والنساء الّذين اكتسبوا نصيباً.

هنا تمّ بيان الفقرة. ثم إنّه سبحانه يأمر المؤمنين بإتيان نصيب الموالي فيقول: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » والضمير في كلا الموردين يرجع إلى الموالي الوارثين في صدر الآية.

ثم إنّه سبحانه يصف نفسه بأنّه رقيب عليكم حاضر يشهد تصرّفكم في التركة وغيرها فلا يحملكم الطمع على أن تأكلوا من نصيب الموالي شيئاً كما يقول: «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً» .

إنّ صاحب المنار يصف هذا المعنى بأنّه المتبادر والّذي لا يعثر فيه الفكر، ولا يكبو في ميدانه جواد الذهن، ولا يحتاج فيه إلى تكلّف في الإعراب.(1)

وحاصل النظرية:

1. أنّ الموالي هم الذين يرثون.

2. أنّ الطوائف الثلاث: الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم، تفسير للموالي، فيرثون باعتبار أنّهم هم الموالي.

3. قوله: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » يرجع إلى الطوائف الثلاث، فيأمر سبحانه بإتيانهم نصيبهم.4.

ص: 155


1- . تفسير المنار: 5/64.

نقد النظرية

أوّلاً: أنّ لازم إرجاع الضمير في قوله: «مِمّا تَرَكَ » إلى الميّت، فقد الانسجام في الآية، حيث يستلزم شبه الوقف على قوله: «مِمّا تَرَكَ » ثمّ يقدّر سؤالاً يسأل عن الموالي فيأتيه الجواب بقوله: هم «الوالدان والأقربون والّذين عقدت أيمانهم».

وثانياً: أنّ إرجاع الضميرين في قوله: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » إلى الموالي بعيد لوجود الفواصل بين المرجع والضميرين.

نظرية أُخرى

إنّ المراد من الموالي في الآية هم الوارثون - كما في القول الأوّل - غير أنّ فاعل ترك هم الطائفتان: الوالدان والأقربون.

وأمّا قوله: «وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ » فقرة مستقلة والواو للاستئناف، وهؤلاء يجب إعطاؤهم نصيبهم، وعلى ما ذكرنا فالضميران يرجعان إلى الموصول أعني:

«وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » فيكون معنى الآية: والموالي يرثون ممّا ترك الوالدان والأقربون.

وأمّا الذين عقدت أيمانكم يجب عليكم إعطاؤهم نصيبهم.

والآية ناظرة لبيان سببين من أسباب الإرث، وهما النسب والسبب، واكتفى من الأوّل على عمودين، ثمّ إنّ الذي يشهد على ما ذكرنا من أنّ الموالي هم الذين يرثون، وأنّ الوالدين والأقربين هم المورّثون، هو قوله سبحانه: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً»(1) . ولفظة «لِلرِّجالِ » و «وَ لِلنِّساءِ » تعبير عن

ص: 156


1- . النساء: 7.

«الموالي» في آيتنا، فتدبّر وسيأتي تفسير هذه الآية عن قريب.

فعلى هذا فالوالدان والأقربون ممّن يُورّثون وليسا ممّا يَرثُون، فهذه الآية تفسّر آيتنا هذه.

نعم الفرق بين الآيتين أنّ الثانية بصدد بيان سبب واحد للإرث وهو النسب، ولكن آياتنا تذكر سبباً آخر، ويقول سبحانه مستأنفاً: «وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » فالضمير في كلا الموردين يرجع إلى الموصول.

وأمّا ما هو المراد من عقد الأيمان ؟ ففي تفسيره وجهان:

1. أُريد به عقد الزواج بين الزوج والزوجة، ويأتي نصيبهم من الميراث.

2. ويحتمل أن يراد الإرث بولاءٍ وهو على ثلاثة وجوه:

أ. إرث المعتَق، فَمَن أعتق إنساناً لوجه اللّه ومات ولم يكن له وارث، فهو للمعتق.

ب. عقد ضمان الجريرة، وهو أن يتّفق اثنان على أن يضمن كلّ منهما جناية الآخر، فإذا تمّ الاتّفاق بينهما حسب الشروط المقرّرة في الفقه كان على الضامن بدل الجناية وله ميراث الآخر إذا مات ولم يكن له وارث.

ج. عقد الإسلام، وهو العهد العام بين النبيّ ومَن آمن به، فإذا مات ولم يكن له وارث إطلاقاً فميراثه للنبيّ وبعده للإمام بعده.

ثم إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً» : أي رقيب على أعمالكم يشهد تصرّفاتكم في التركة، وقد مرّ في السابق أنّ لفظة «كانَ » ربّما تُحمل على كونها زائدةً ، كما يحتمل أن لا تكون كذلك لبيان كون الرقابة أمراً مستمراً.

ص: 157

أحكام المواريث

2. في نصيب الرجال والنساء من الميراث

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً».(1)

المفردات

نصيب: الحظ المعيّن، قال تعالى: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ »(2)،

مفروضاً: ثابتاً، فليس للمورّث أن يقلّل أو يكثّر، كما ليس للوارث الاعتراض عليه.

التفسير

قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ » : أي حظ وسهم «مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ » : أي من تركة الوالدين والأقربين، فللوراثة سببان:

ص: 158


1- . النساء: 7.
2- . النساء: 53.

1. الولادة، فلذلك يرث الوالد الولد وبالعكس، والأُمّ ولدها، والولد أُمّه.

2. القرابة، وإن لم يكن فيه عنوان الولادة، فلو مات الأخ يرثه أخوه إذا لم يكن أقرب منه. وإذا مات الرجل يرثه عمه، إذا لم يكن أقرب منه، ولأجل إبطال عادة أهل الجاهلية فقد ساوى النساء مع الرجال، وفي الحقيقة يساوي الإناث مع الذكور، فإنّ النساء والرجال في الآية كناية عن الجنسين: الذكر والأُنثى، ويقول:

«وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ » : أي سهم «مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ » ، فالبنت ترث أباها، كما أنّ الأب يرث بنته، فهكذا البنت ترث أُمّها والأُمّ ترث بنتها.

قوله: «مِمّا قَلَّ مِنْهُ » الضمير يرجع إلى الموصول في قوله: «مِمّا تَرَكَ » الذي أُريد به المال فالوارث يرث تركة مورّثه، سواء أكانت التركة كثيرة أم قليلة، وليس لمَن بيده التركة تخصيص الإرث بواحد دون آخر بحجّة أنّ التركة قليلة، ثمّ إنّه سبحانه يصف هذا النوع من النصيب بقوله:

«نَصِيباً مَفْرُوضاً» : أي فرض اللّه سبحانه تسليمه إلى مستحقّه.

وحاصل الآية: أنّ الأُناث تشترك مع الذكور كتفاً إلى كتف في الوراثة، فقوله:

«وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ » : أي كما للرجال نصيب فللنساء كذلك، فالآية تدلّ على بطلان أمرين:

الأوّل: التعصيب في بعض صوره يخالف مضمون الآية

الآية تدلّ على مشاركة الرجال والنساء في الإرث إذا كانا في درجة واحدة ولكن القول بالتعصيب يستلزم توريث الرجال دون النساء، في بعض الحالات، مع أنّ الجميع في درجة واحدة، وإليك بيانها:

ص: 159

1. إذا كان للميت بنت وابن أخ وبنت أخ.

أمّا الإمامية فيقولون: ترث البنت النصف فرضاً والنصف الآخر قرابة، إذ ليس في درجتها مَن يرث.

وأمّا فقهاء السنّة: يعطون النصف للبنت والنصف الآخر لابن الأخ، دون بنت الأخ، مع أنّهما في درجة واحدة.

2. إذا كانت للميّت أُخت وعمّ وعمّة، أمّا الإمامية فيقولون أنّ التركة جميعها للأُخت نصفها فرضاً والنصف الآخر قرابة.

وأمّا فقهاء السنّة فيعطون البنت النصف، والنصف الآخر للعم دون العمة.

مع أنّ القرآن الكريم يورّث النساء والرجال إذا كانوا في درجة واحدة، وهؤلاء يورّثون الرجال دون النساء!!

نعم للتعصيب صور أُخرى، مذكورة في محلّها.

الثاني: حرمان أولاد الأنبياء من الإرث

اشارة

إنّ إطلاق الآية وما تقدّم، يقتضي أنّ الأولاد يرثون الآباء من غير فرق بين كون الأب نبياً أو غير نبيّ ، وسيأتي بيانه مستقلّاً.

***

ما تقدّم من الآيات الثلاث تضمّنت أحكام الإرث على وجه الإجمال، أمّا التفصيل فسيأتي الكلام فيه في ضمن الآيات التالية.

ولأجل إيضاح الموضوع لابدّ من بيان أُمور:

ص: 160

1. موجبات الإرث في الإسلام

إنّ موجبات الإرث التي أقرّها الإسلام هي أحد أمرين: إمّا نسب، وإمّا سبب.

وللنسب: مراتب ثلاث:

الأُولى: الأبوان، والولد وإن نزل.

الثانية: الإخوة وأولادهم وإن نزلوا، والأجداد وإن علوا.

الثالثة: الأخوال، والأعمام.

وللسبب: مرتبتان، وهما: زوجية، وولاء. وللولاء ثلاث مراتب: ولاء العتق، ثم ولاء تضمّن الجريرة، ثم ولاء الإمامة.(1)

2. مراتب الإرث وملاكاتها

يظهر من التدبّر في مضمون هذه الآية والآية التي تتلوها، أنّه سبحانه رتب مراتب الإرث حسب قربهم من الميّت، فالأقرب إليه يمنع الأبعد، وبذلك يظهر وجه المراتب الثلاث التي مرّت قبل قليل، وإليك بيان ملاكات التقديم.

1. أقرب المراتب إلى الميّت طوائف أربع:

الأب والأُمّ والابن والبنت، فهما يمنعان الأبعد أعني الجد والجدّة وأولاد الابن والبنت. فلا يرثون مع وجوب الابن والبنت.

2. ثم الأقرب إلى الميّت الجدّ والجدّة وإخوة الميّت وأخواته، لأنّ الجميع يتّصلون بالميّت عن طريق الأب والأُمّ .

ص: 161


1- . شرائع الإسلام: 9/4.

3. ثمّ الأقرب: أعمام الميت وعمّاته وأخواله وخالاته، فإنّ بينهم وبين الميت واسطتين وهما الجدّ وأبو الميّت في الأعمام والعمّات، والجدّة وأُمّ الميّت في الأخوال والخالات، ولذلك اتّفقت كلمة الإمامية على أنّ الأقرب يمنع الأبعد، عملاً بقوله تعالى: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ »(1) ، فإنّ ملاك الأولوية هو الأقربية.

وعلى هذا الأساس تقدّم كلالة الأبوين على كلالة الأب بمعنى أنّه إذا كان للميّت أخ أو إخوة من جانبين وأخ من جانب الأب فقط، فالأوّل يقدّم على الثاني.

نعم خرج عن تلك القاعدة كلالة الأُمّ فالإخوة والأخوات من الجانبين لا تزاحم كلالة الأُمّ ، أي الأخ أو الأُخت من جانب الأُمّ فقد جاءت أحكام الكلالة في موردين من سورة النساء.(2)

وعلى هذا الأساس لا تعصيب في الإرث بمعنى أنّه إذا زادت التركة على السهام، يُرد الباقي أيضاً على صاحبها، مثلاً: لو مات عن بنت فقط، فسهمها النصف، والباقي يرد إليها قرابة، لأنّ الأقرب يمنع الأبعد. ولو مات وله أُخت، فترث النصف فرضاً والباقي ردّاً وقرابة، بذلك الملاك، أيضاً.

وأمّا غير الإمامية فيردّون الباقي إلى عصبة الميّت وإن كانوا بُعداء، وهذا يخالف ما ذكرنا من الملاك.

3. السهام المنصوصة في كتاب اللّه

وهي ستة سهام:

ص: 162


1- . الأحزاب: 6.
2- . لاحظ: النساء: 12 و 176.

أ. النصف، وله موارد ثلاثة:

1. الزوج إذا لم يكن للزوجة ولد.

2. البنت الواحدة.

3. الأُخت الواحدة للأب والأُمّ أو الأُخت للأب.

ب. الربع، وله موردان:

1. الزوج إذا كان للزوجة ولد.

2. الزوجة إذا لم يكن للزوج ولد.

ج. الثمن، وله مورد واحد وهو الزوجة إذا كان للزوج ولد.

د. الثلثان، وله موردان:

1. البنتان فصاعداً.

2. الأُختان للأب والأُمّ ، أو للأب، فصاعداً.

ه. الثلث، وله موردان:

1. الأُمّ إذا لم يكن للميّت ولد، ولا إخوة من الأبوين أو من الأب.

2. الانثيان فصاعداً من الأُمّ ، ويسمّون بكلالة الأُمّ .

و. السدس، وله موارد ثلاثة:

1. كلّ واحد من الأب والأُمّ إذا كان للميّت ولد.

2. الأُمّ إذا لم يكن للميّت ولد بل كان له إخوة من الأبوين أو الأب.

3. سهم الواحد ممّن يتّصل بالميّت عن طريق الأُمّ ذكراً كان أم أُنثى.

ثمّ إنّ الزائد على السهام يُرد على صاحب السهم قرابة لا فرضاً، ولا يرد

ص: 163

على الطبقة المتأخّرة.

4. الحاجب عن الإرث

الحجب عن الإرث على قسمين:

تارة يمنع عن أصل الإرث فلا يرث أبداً، وهي ثلاثة:

أ. الكفر، إذا كان المورّث مسلماً والوارث كافراً.

ب. الرق، إذا كان المورث حرّاً، والوارث مملوكاً.

ج. القتل، إذا قتل الوارث المورّث، فيُحرم من الإرث إرغاماً.

وتارة أُخرى يكون الحجب عن قسم من الإرث ؟ وهذا كما في مورد الأُمّ ، فلو مات ولدها بلا ولد، مع الأبوين، فإن لم يكن للميّت إخوة ترث الأُمّ الثلث والباقي للأب، وأمّا إذا كان للميّت إخوة، فترث الأُمّ السدس والباقي للأب، وما هذا إلّالأنّ إخوة الميّت أولاد للأب إمّا من الجانبين أو من جانب واحد، فنفقتهم عليه، فاقتضى ذلك تقليل سهم الأُمّ إلى السدس، ويعطى الباقي إلى الأب.

5. إرث أولاد الأولاد

ولد الولد يقوم مقام الولد، فإذا مات الرجل وليس له ولد بل ولد الولد، فيقوم الثاني مقام الولد، ويأخذ كلّ واحد نصيب مَن يتقرّب به إلى الميّت، فولد البنت يقوم مقام البنت ذكراً كان أو أُنثى و سهمه هو الثلث وولد الابن يقوم مقام الابن ذكراً كان أو أُنثى وسهمه هو الثلثان.

فعلى ما ذكرنا فولد الولد مطلقاً كولد الصلب يشارك الأبوين مثل ولد الصلب. ويدلّ عليه روايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام؛ ففي صحيحة عبد الرحمن

ص: 164

بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «ابن الابن إذا لم يكن من صلب الرجل أحد قام مقام الابن، قال: وابنة البنت إذا لم يكن من صلب الرجل أحد قامت مقام البنت».(1)

إذا تبيّن ما تقدّم من المقدّمات فلنذكر الآيات التي تتضمّن أحكام المواريث حسب الطبقات والمراتب على وجه التفصيل:5.

ص: 165


1- . الوسائل: 17، الباب 7 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 5.

أحكام المواريث

3. في إرث الأولاد والأبوين

الآية الرابعة

قال سبحانه: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً».(1)

الآية تتضمّن بيان إرث الأولاد والأبوين فقط، بمعنى إرث المرتبة الأُولى من المراتب الثلاثة، وتبيّن إرث ما يلي:

1. إذا مات وله أولاد، ذكوراً وإناثاً.

2. إذا مات وله أزيد من بنتين. وأمّا البنتان فيستخرج حكمها من التدبر في الآية كما سيأتي.

ص: 166


1- . النساء: 11.

3. إذا مات وله بنت واحدة.

إلى هنا تمّ بيان إرث الأولاد، وأمّا الأبوان:

1. لو مات عن أب وأُمّ مع كونه ذا ولد.

2. لو مات عن أب وأُمّ ولم يكن له ولد.

ففيه صورتان:

أ. إمّا أن لا يكون للميّت إخوة.

ب. أن يكون له إخوة.

ثم تذكر الآية بأنّ تقسيم التركة بعد إخراج ما أوصى به الميت وبعد أداء دينه.

وإليك تطبيق مقاطع الآيات على ما ذكر.

أمّا الأوّل: أعني إذا مات عن أولاد ذكوراً وإناثاً فهؤلاء يقتسمون ما ترك فللذكر سهمان وللأُنثى سهم واحد، ولكنّه سبحانه يعبّر عن هذا المعنى بقوله: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » فهو بتعبيره هذا يشير إلى أمرين:

1. جعل إرث الأُنثى أصلاً، وإرث الذكر فرعاً فقال: إنّ الذكر الواحد يرث إرث الأُنثيين، وبذلك تحفظ كرامة المرأة على خلاف الجاهلية حيث كانت محرومة من الإرث.

2. أنّه بتعبيره هذا يشير إلى حكم فرع سيأتي ذكره، وهو أنّه لو مات الميّت ولم يكن له إلّابنتان فترثان ثلثي التركة، لأنّ لكلّ أُنثى في مقابل الذكر الثلث وللثنتين ثلثان، فاحفظ ذلك.

ص: 167

وأمّا الثاني: إذا مات عن ثلاث بنات فصاعداً، فيشير إليه بقوله: «فَإِنْ كُنَّ » :

أي الأولاد «نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ » : أي للجميع «ثُلُثا ما تَرَكَ » وأمّا الثلث الآخر فيُردّ إليهنّ قرابة لا فرضاً.

ثمّ إنّ الآية تذكر حكم ما فوق الاثنتين ولم تذكر حكم الثنتين يعني إذا مات عن بنتين، فيمكن استفادة هذا الفرض من الفرع الأوّل، لأنّ اللّه تعالى فرض للأُنثيين سهمين في مقابل الذكر، فيستنبط أنّ سهم الأُنثيين مطلقاً، وإن لم يكن معهما ذكر، هو الثلثان. وإلى ما ذكرنا يشير السيد الطباطبائي بقوله: ولم يذكر سهم الأُنثيين فإنّه مفهوم من قوله: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » فإنّ ذكراً وأُنثى إذا اجتمعا كان سهم الأُنثى الثلث للآية، وسهم الذكر الثلثين وهو حظ الأُنثيين، فحظ الأُنثيين الثلثان، فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالاً - إلى أن قال -: على أنّ كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي صلى الله عليه و آله و سلم وجرى العمل عليه منذ عهده صلى الله عليه و آله و سلم إلى عهدنا بين علماء الأُمّة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس.(1)

ثمّ إنّه قدس سره ينقله عن الكليني في «الكافي» ويقول: إنّ اللّه جعل حظ الأُنثيين الثلثين بقوله: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » وذلك أنّه إذا ترك الرجل بنتاً وابناً فللذكر مثل حظ الأُنثيين وهو الثلثان فحظ الأُنثيين الثلثان، واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأُنثيين بالثلثين.(2)

وأمّا الثالث: أعني إذا مات عن بنت واحدة، فيشير إليه بقوله: «وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ » فرضاً والباقي يُرد إليها ردّاً وقرابة، لما قلنا أنّ الأقرب يحجب الأبعد.4.

ص: 168


1- . الميزان في تفسير القرآن: 208/4.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 208/4.

كلّ ذلك في إرث الأولاد، ويأتي بعده بيان إرث الأبوين.

وأمّا الرابع: أعني إرث الأبوين فله صورتان:

1. إذا مات الميّت عن أبوين وكان له ولد، فيشير إليه بقوله: «وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» ، وأمّا الأسداس الأربعة فهي للأولاد للذكر مثل حظ الأُنثيين، إن كانا من الجنسين، وإلّا فيقتسمان الباقي بالتساوي.

2. إذا مات الميّت عن أبوين ولم يكن له ولد، فيشير إليه بقوله: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ » والثلثان للأب.

نعم إنّ للأُم الثلث إذا لم يكن لها حاجب، بمعنى أنّه إذا كان للميّت إخوة من الأبوين أو الأب، فهؤلاء يحجبون الأُمّ عن الثلث وينزل فرضها إلى السدس كما يقول: «فَإِنْ كانَ لَهُ » للميّت «إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ » . والاسداس الخمسة للأب.

تحديد الحاجب

ظاهر قوله سبحانه: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ » هو أن لا يكون الحاجب أقلّ من ثلاثة، فحجب الاثنين من الإخوة يحتاج إلى الدليل، ولذلك اختلف ابن عباس مع عثمان في الأمر الأوّل حيث قال له: ليس الأخَوَان إخوة في لسان قومك فلم تحجب بهما الأُمّ؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد شيئاً كان قبلي.

قال ابن قدامة - بعد نقل هذا -: ومضى في البلدان وتوارث الناس به.(1)

وهذا يعرب عن أنّ الحكم السائد في زمن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وبعده هو حجب الأخوَين حيث يتعاملون مع التثنية معاملة الجمع.

ص: 169


1- . المغني: 234/5.

أقول: ظاهر الكتاب يوافق ما روي عن ابن عباس، ولكنّ السنّة تدلّ على العموم في كلا الجانبين، أي من حيث العدد ومن حيث الجنسية. وإن كان اختلاف ابن عباس مع عثمان في خصوص العدد، أمّا ما يدلّ على حجب الأخوَين أو أربع أخوات ففي صحيحة أبي العباس،(1) عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا ترك الميّت أخوين فهم إخوة مع الميّت حجبا الأُمّ عن الثلث، وإن كان واحداً لم يحجب الأُمّ .

وقال: إذا كنّ أربع أخوات حجبن الأُمّ عن الثلث لأنّهن بمنزلة الأخوَين وإن كنّ ثلاثاً لم يحجبن».(2)

ثمّ إنّ لازم التعليل - أعني: قوله: «لأنهنّ بمنزلة الأخوَين» - حجب الأخ والأُختين أيضاً، لأنّهما بمنزلة الأخ. نعم ورد النصّ على عدم حجب الأخ والأُخت الواحدة.

روى أبو العباس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «لا يحجب عن الثلث، الأخ والأُخت حتى يكونا أخوين أو أخاً وأُختين فإنّ اللّه يقول: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ »(3).

كما أنّ السنّة دلّت على كفاية أربع أخوات.

روى أبو العباس البقباق قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أبوين وأُختين لأب وأُمّ هل يحجبان الأُمّ عن الثلث ؟ قال: «لا» قلت: فثلاث ؟ قال: «لا» قلت: فأربع ؟ قال: «نعم».(4)1.

ص: 170


1- . هو الفضل بن عبد الملك البقباق، ثقة عين من أصحاب الصادقين عليهما السلام.
2- . الوسائل: 17، الباب 11 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 1.
3- . الوسائل: 17، الباب 11 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 7.
4- . الوسائل: 17، الباب 11 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 1.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ السنّة وسّعت الحاجب من حيث العدد إلى اثنين، ومن حيث الجنسية إلى أربع أخوات كما لا يخفى.

وقد مضى الإيعاز إلى فلسفة الحجب بأنّ وجود الإخوة للميّت من جانب الأبوين أو الأب يسبّب كون نفقتهم على الأب لا على الأُمّ ، ولذلك نزل سهم الأُمّ من الثلث (عند عدم الإخوة) إلى السدس (عند وجود الإخوة).

تقديم الوصية والدين على التقسيم

ثمّ إنّه سبحانه يؤكّد على أنّ الوارث يرث ما تركه الميّت بعد إفراز ما أوصى به وأداء ديونه. فلو أوصى بصرف ثلث ماله في وجوه الخير والمبرّات فهو خارج عن التركة التي يرثها الوارث، كما أنّه لو كان له دين أو ديون فتخرج الديون ثم تقسّم التركة، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ».

ثمّ إنّه سبحانه قدّم الوصية على الدين مع أنّ الثاني هو الأهم، ولعلّ وجهه أنّ الوارث ربما لا يهتم بتنفيذ الوصيّة ويتساهل فيها، دون الدين فإن له طالباً من الخارج، ولذلك قدّم الوصيّة على الدين.

وأمّا كيفية العمل والإخراج فقد روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «أوّل شيء يُبدأ به من المال، الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث».(1)

وروى محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الدين قبل الوصية، ثم الوصية على أثر الدين، ثم الميراث بعد الوصية، فإنّ أولى القضاء كتاب اللّه».(2)

ص: 171


1- . الوسائل: 13، الباب 28 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 1.
2- . الوسائل: 13، الباب 28 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 2.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بالفقرة التالية:

«آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فقد ذكر الطبرسي في تفسيرها وجوهاً خمسة.(1)

ويحتمل أن تكون الفقرة ناظرة إلى نقد ما ربّما يخطر ببال الإنسان بأنّه لو كان التقسيم بغير هذا الوجه لكان أصلح أو أنفع، فجاء البيان القرآني ينكر لهم هذا بأنّ عقولكم لا تحيط بالمصالح، فاللّه أعلم ما هو الأقرب لكم نفعاً من الآباء والأبناء، فلذلك فرض التقسيم على ما ذكر.

ويؤيّد ما ذكرنا من المعنى للفقرة قوله سبحانه: «فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ » : أي لا تبدّلوه ولا تتصرّفوا فيه، لماذا؟ «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» فكونه عليماً يلازم كونه عالماً بمصالحنا، كما أنّ كونه حكيماً يلازم كون ما يحكم به وفق الحكمة.

ويُستشم من توفير سهام الأبناء على الآباء، أنّهم أقرب نفعاً من غيرهم.

ثمّ إنّ المراد من الأقربية يحتمل أن يكون أنفع مادياً أو أنفع روحياً خصوصاً إذا صار الولد يستغفر له ويعمل الصالحات نيابة عن الأب قال رسول اللّه: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّامن ثلاث:.. ولد صالح يدعو له».(2)6.

ص: 172


1- . مجمع البيان: 35/3.
2- . مستدرك الوسائل: 12، الباب 15 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 6.

أحكام المواريث

4. في إرث الزوجين والكلالة

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ».(1)

المفردات

كلالة: الكلالة: الإحاطة مأخوذ من الإكليل. والإكليل: التاج شبه عصابة تزيّن بالجواهر. وأُريد هنا قرابة الإنسان من غير والديه وأولاده، كالإخوة والأخوات كأنّهم يحيطون بالميّت، وقد جاءت لفظ الكلالة في آيتين من القرآن: الأُولى هي

ص: 173


1- . النساء: 12.

آيتنا هذه والمراد إخوة الميّت من أُمّه. والآية الثانية هي: (يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ »(1) والمراد فيها إخوة الميّت لأبيه وأُمّه أو لأبيه فقط. وعلى كلّ تقدير فتسمية الإخوة بالكلالة إمّا لإحاطتهم بالميت، أو لكونهم ثقلاً عليه لقيامه بمصالحهم مع عدم التولّد الذي(2) يؤدّي إلى مزيد الإقبال والخفة على النفس. وفي الحديث: «ملعون من ألقى كَلّه على الناس».

ثمّ إنّ الكلالة ربّما يوصف بها الميّت الموروث على معنى أنّه أخ أو أُخت للورثة الأحياء. كما يوصف بها الحي الوارث على معنى أنّ الوارث أخ أو أُخت للميت. والمورد من المتضايفين اللّذين هما متلازمان وقد قالوا: المتضايفان متكافئان قوة وفعلاً.

غير مضار: الإضرار في الدين أن يقرّ بأنّ عليه ديناً بقصد الإضرار بالورثة مع أنّه ليس كذلك. وأمّا الإضرار في الوصية فهو أن يوصي بدفع مال إلى شخص لغاية الإضرار بالورثة أيضاً.

التفسير

هذه الآية تتضمّن بيان إرث الطوائف التالية:

1. إرث الزوج من الزوجة إذا لم يكن لها ولد.

2. إرث الزوج من الزوجة إذا كان لها ولد.

3. إرث الزوجة من الزوج إذا لم يكن له ولد.

4. إرث الزوجة من الزوج إذا كان له ولد.

ص: 174


1- . النساء: 176.
2- . الموصول وصف التولّد.

5. إرث الأخ الواحد أو الأُخت الواحدة من الأُمّ .

6. إرث الأخوين أو الأُختين من جانب الأُمّ .

ثمّ يذكر سبحانه أنّ التركة التي تقسّم بين الورثة هي التي تبقى بعد إخراج الوصية والدين.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

أمّا الطائفة الأُولى: أي إرث الزوج من زوجته إن لم يكن لها ولد، فيشير إليه بقوله: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ » : أي زوجاتكم «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ» لا ذكر ولا أُنثى ولا ولد الولد.

وأمّا الثانية: تلك الصورة ولكن كان لها ولد، فيشير إليها بقوله: «فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ » : أي من ميراثهن. ثمّ إنّ سهم الزوج مطلقاً في كلتا الصورتين من ميراث زوجته إنّما هو «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ » فالميراث ما يبقى بعد إخراج الوصية والدين، حتى بعد إخراج تجهيز الميّت من الكفن وغيره.

وأمّا الثالثة: أي ميراث الزوجة من الزوج اذا لم يكن له ولد، فيشير إليه بقوله: «وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ» واحدة كانت الزوجة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربع، فليس لهن أكثر من ذلك، فلو مات الزوج عن أربع زوجات، فيقسّم الربع بينهن، بالسوية.

وأمّا الرابعة: تلك الصورة لكن يكون للزوج ولد فيشير إليه بقوله: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ » من الميراث مثل الصورة السابقة. نعم ما ذكر من الميراث إنّما هو «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ » فيقدّمان على الميراث.

ص: 175

إلى هنا تمّ بيان ميراث الأزواج الذي يجتمع مع عامّة الطبقات الثلاث، وهو من خصائص هذه الطبقة؛ وذلك لأنّ الترتيب في الطبقات الثلاث كان على الأقربية، فيمنع الأقربُ الأبعدَ، وأمّا المقام فملاك الميراث هو السببية، أي الزوجية التي تجتمع مع عامّة المراتب.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه ذكر الرجال في هذه الآية على سبيل المخاطبة، وذكر النساء على سبيل الغيبة، وأيضاً خاطب اللّه الرجال في هذه الآية سبع مرّات وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقلّ من ذلك، وهذا يدلّ على تفضيل الرجال على النساء. هذا ما ذكره الرازي.(1)

أقول: لا شكّ أنّ اللّه سبحانه فضّل الرجال على النساء في القرآن المجيد وذكر وجه التفضيل وقال: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ »(2) ، غير أنّ ما ذكره الرازي في الاستدلال على التفضيل ليس بصحيح، فإنّ خطاب الرجال بالمخاطبة لأنّ الأموال بيدهم حتى أنّ أموال النساء في أيديهم، وهذا هو الذي سبّب خطاب الرجال بالمخاطبة وغيرهم بالغيبة.

كما أنّ كثرة الخطاب لا تدلّ على التفضيل، وليست ملاكاً له، كما عرفت.

ميراث كلالة الأُمّ

قد تقدّم منّا أنّه سبحانه ذكر كيفية ميراث الكلالة في موردين: أحدهما في المقام الذي يخصّ كلالة الأُمّ واحداً أو كثيراً، والثاني في آخر هذه السورة الذي

ص: 176


1- . تفسير الرازي: 220/9.
2- . النساء: 34.

يخصّ كلالة الأب.

أمّا المقام فيقول: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ » وتقدير الآية: وإن كان رجل أو امرأة يورثان كلالة، وقد مرّ أنّ الكلالة يوصف بها المورّث والوارث وهنا صورتان:

1. الوارث إمّا أخ أو أُخت فقط، فلكلّ واحد منهما السدس.

2. الوارث أكثر من أخ واحد أو أخت واحدة، كما يقول: «فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ » فيقتسمان بالسوية سواء كانوا اثنين أو أزيد.

نعم هذا المورد كسائر الموارد تقسّم التركة بعد إخراج الوصية والدين، كما يقول: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ».

ثمّ إنّه سبحانه يصف الوصية بقوله: «غَيْرَ مُضارٍّ» : أي غير موص وصيةٍ تضرّ بالورثة، ولعلّ المراد الوصية لغاية الإضرار بالورثة، فيحتمل أن يكون وصفاً للدين أيضاً بأن أوصى بدين ليس عليه، يريد بذلك ضرر الوارث.

ثمّ إنّه سبحانه أتم الآية بقوله: «وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ » وقد ختم الآية السابقة بقوله: «فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً».

أمّا وجه التعبير في الآية السابقة بالفريضة وهنا بالوصية فقد ذكر الرازي: أنّ لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، وهذا يدلّ على أنّ الكل وإن كان واجب الرعاية إلّاأنّ القسم الأوّل، أي رعاية حال الأولاد، أولى.(1)

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه بدأ بتقسيم ميراث الأولاد في نفس الآية بقوله:

«يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » فلا فرق بين اللفظين،9.

ص: 177


1- . تفسير الرازي: 226/9.

خصوصاً أنّ الوصية في آيتنا مقيّدة بقوله: «مِنَ اَللّهِ ».

إنّما الكلام في تبديل «الحكيم» الوارد في ختام الآية السابقة بالحليم في هذه الآية، وقد ذكر ابن عاشور أنّ الأحكام المتقدّمة [يعني في هذه الآية] إبطال لكثير من أحكام الجاهلية، وقد كانوا شرّعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة؛ أمّا الجهل فواضح، وأمّا القساوة فحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم.(1) فصار ذلك سبباً لأن يصف تعالى نفسه بالعلم والحلم وأنّ الأحكام الصادرة صدرت عن علم وحلم، واللّه العالم.

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ».(2)

المفردات

الكلالة: قد تقدّم أنّ الكلالة هي الإحاطة من الإكليل وهو التاج، أي العصابة التي تزيّن بالجواهر. ثمّ إنّ لفظ «الكلالة» جاء في القرآن الكريم في آيتين، هذه

ص: 178


1- . التحرير والتنوير: 54/4.
2- . النساء: 176.

الآية وفي الآية الثانية عشرة من سورة النساء، والمراد هنا إخوة الميّت لأبيه وأُمّه أو لأبيه فقط.

التفسير

قبل الدخول في تفسير الآية نقدّم أُموراً:

الأوّل: يظهر من غير واحدة من الروايات أنّ الصحابة بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم اختلفوا في معنى الكلالة.

أخرج الحاكم وصحّحه عن محمد بن طلحة عن عمر بن الخطاب أنّه قال:

لئن أكون سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ثلاث أحبّ إليّ من حُمر النعم:

1. من الخليفة بعده ؟

2. وعن قوم قالوا نقرّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤدّيها إليك، أيحلّ قتالهم ؟

3. وعن الكلالة.(1)

ويظهر من بعض الروايات أنّ عمر سأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومع ذلك خفي عليه المراد، حيث روى مسلم في صحيحه عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: إنّ عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وذكر أبا بكر فقال: ثمّ إنّي لا أدع بعدي شيئاً أهمّ عندي من الكلالة، ما راجعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء.(2)

ص: 179


1- . المستدرك: 303/2، وفي طبعة أُخرى: 332/2، الحديث 3186.
2- . تُسمّى هذه الآية بآية الصيف لنزولها في الصيف في حجّة الوداع. (لاحظ: صحيح مسلم، كتاب الفرائض: 3/2[428/3، مج 9]).

الثاني: اتّفقت الإمامية على أنّ المراد من الكلالة هو الإخوة والأخوات بشرط أن لا يكون للميّت ولد ولا والد، وإلّا فلا تصل النوبة إلى الكلالة.

ومن حسن الحظ أنّ في روايات الجمهور ما يشهد على ذلك.

أخرج البيهقي في «السنن الكبرى» عن الشعبي قال: قال عمر: الكلالة ماعدا الولد، قال أبو بكر: الكلالة ماعدا الولد والوالد، فلما طُعن عُمر قال: إنّي لأستحيي أن أخالف أبا بكر الكلالة ماعدا الولد والوالد.(1)

الثالث: قد تقدّم أنّه سبحانه ذكر الكلالة في كتابه المجيد مرّتين مرّة في صدر هذه السورة وجعل الفريضة فيها الثلث، سواء كانت اثنين أو أكثر فقال: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ »(2).

والمرّة الثانية هو ما في آخر هذه السورة التي سمّاها النبي صلى الله عليه و آله و سلم بآية الصيف، وجعل فريضة الكلالة هو النصف إذا كان منفرداً والثلثين إذا كانا اثنين حيث قال: «إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » ، فعندئذٍ يقع الكلام في موضع الآيتين حيث جعلت الفريضة في إحداهما السدس والثلث وفي الأُخرى النصف و الثلثان، فقد روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الآية الأُولى ناظرة إلى مَن ينتسب إلى الميّت عن طريق الأُمّ فيكون المراد الأخ والأُخت2.

ص: 180


1- . السنن الكبرى: 223/6.
2- . النساء: 12.

الأُميّين، والآية الثانية ناظرة إلى مَن ينتسب إلى الميّت من جانب الأب أو الأب والأُم، فيكون المراد هنا الأخ والأُخت المنتسبين للميّت من جانب الأب فقط، أو الأب والأُمّ .

روى العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ » : «إنّما عنى اللّه الأُخت من الأب والأُمّ ، أو أُخت لأب، فلها النصف ممّا ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد...».(1)

على أنّ هناك دليلاً آخر لاختصاص الآية الأُولى بالكلالة من جانب الأُمّ والثانية بالكلالة من جانب الأب، وهو أنّ كلّاً من الكلالتين يرث إرث مَن يتقرّب به، فكلالة الأُمّ ترث ما ترثه الأُمّ وكلالة الأب ترث ما يرثه الأب، هذا وأنّ الأُمّ عند عدم الولد للميّت ترث الثلث، والأب يرث الثلثين بشهادة قوله سبحانه: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ »(2) ، والباقي أعني الثلين للأب، ولذلك صارت الفريضة في كلالة الأُمّ هي الثلث لأنّهم يرثون فريضة الأُمّ وهي الثلث، وصارت الفريضة في كلالة الأب هي الثلثان لأنّهم يرثون فريضة الأب.

إذا تبيّنت هذه الأُمور فلندخل في تفسير الآية، فقد ذكر سبحانه فيها أحكام بعض الصور:

قوله تعالى: «يَسْتَفْتُونَكَ » حذف متعلّق الاستفتاء للاستغناء عنه بما يأتي من قوله: «قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ » : أي يسألونك في الكلالة قل اللّه يفتيكم1.

ص: 181


1- . تفسير العياشي: 286/1، برقم 312.
2- . النساء: 11.

فيها، فذكر لها حكم صور أربع:

1. «إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ » مات «لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» ولا أب ولا أُمّ - حسب ما مرّ من الروايات - «وَ لَهُ » من الورثة «أُخْتٌ » فقط، «فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ».

2. إذا ماتت الأُخت ولها أخٌ فهو يرث الأُخت إن لم يكن لها ولد، لأنّ الطبقة المتقدّمة تمنع عن المتأخّرة، والولد في الطبقة الأُولى كما يقول: «وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» . ولم يذكر المقدار وهو حاك انّ المال كلّه له.(1)

3. إذا مات رجل وله أُختان فقط، فلهما الثلثان، كما يقول: «فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ ».

4. تلك الصورة ولكن كان الورثة نساء ورجالاً فلهما الثلثان لكن للذكر مثل حظ الأُنثيين، كما يقول: «وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ».

هذه هي الصور المذكورة في الآية، وهناك صور أُخرى يظهر حكمها من التدبّر في الآية.

ثمّ إنّه سبحانه يتمّ الآية - بل السورة - بقوله: «يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» : أي كراهة أن تضلّوا، أو لئلّا تضلّوا «وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » في ما شرّع لكم من الأحكام فقد صدر عن علم.

ثمّ إنّ التعبير ب «أَنْ تَضِلُّوا» مكان «كراهة أن تضلّوا» شائع في لغة العرب، قال عمرو بن كلثوم:

فعجلنا القرى أن تشتمونا...

يعني: لئلّا تشتموننا.3.

ص: 182


1- . مجمع البيان: 297/3.

وفي نهاية السورة نذكر ما ورد في شأن نزول الآية.

قال الطبرسي: اختلف في سبب نزول الآية، فروي عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي أو سبع، فدخل عليّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول اللّه ألا أُوصي لأخواتي بالثلثين ؟ قال: «أحسن»، قلت: الشطر؟ قال: «أحسن»، ثم خرج وتركني ورجع اليّ ، فقال: «يا جابر إنّي لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وإنّ اللّه تعالى قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهنّ الثلثين»، قالوا: وكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ .(1)3.

ص: 183


1- . مجمع البيان: 296/3.

أحكام المواريث

5. في إعطاء ذوي القربى والفقراء من التركة

الآية السابعة

اشارة

قال سبحانه: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً».(1)

التفسير

دفع شيء لطائفتين لدى القسمة

ربما يحضر عند قسمة التركة طائفتان وهما:

1. أُولو القربى أي أقرباء الميّت ولكن ليسوا بوارثين.

2. اليتامى والمساكين، غير أُولي القربى .

فاللّه سبحانه يأمر الأولياء أو الوارثين أن يتصدّقوا على هؤلاء بشيء.

مثلاً: إذا مات الرجل وله أولاد وأخ فقير، وهو لا يرث إلّاأنّه من أقرباء الميّت، فدفع شيء إليه تودّداً واستمالة أمر مطلوب، ولذلك يقول: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى » : أي أقرباء الميّت المحجوبون من الميراث، كالأخ مع الابن

ص: 184


1- . النساء: 8.

«وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ » من غير أُولي القربى، كما إذا كانوا من عشيرة واحدة أو من الجيران «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ » : أي من المال المتروك، والخطاب موجّه إلى الورثة أو إلى الأولياء، فهل الأمر هنا للوجوب أو للندب ؟ وجهان.

قوله تعالى: «وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» الظاهر أنّه ناظر إلى صورة عدم دفع شيء إليهم، وعلى كلّ حال فالآية ليست منسوخة بآية المواريث كما ربما يتوهّم؛ لأنّ النسخ فرع وجود التناقض بينهما، وذلك لأنّ آية المواريث تعيّن فرائض الورثة، وهذه الآية تدلّ على أنّ الورثة - بعد ما يتسلم كلّ منهم سهمه - ينبغي أن يدفعوا شيئاً ممّا ورثوا إلى أقرباء الميّت أو اليتامى والمساكين من حولهم، سواء أكان الإعطاء واجباً أو ندباً.

ص: 185

أحكام المواريث

6. إرث المسلم من الكافر

اشارة

اتّفقت الإمامية على أنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً، ولم يختلف فيه اثنان.

قال الشيخ الطوسي: والكافر لا يرث المسلم بلا خلاف، والمسلم يرث الكافر عندنا، سواء كان حربياً أو ذمّيّاً، أو كافر أصل أو مرتدّاً عن الإسلام.(1)

ترى مثل هذه الكلمة في عامّة الكتب الفقهية للإمامية، وتضافرت روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام على الإرث، ونقتصر بذكر روايتين منها:

1. أخرج الصدوق عن الحسن بن صالح، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «المسلم يحجب الكافر ويرثه، والكافر لا يحجب المسلم ولا يرثه».(2)

2. وأخرج أيضاً بسند معتبر عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«سمعته يقول: لا يرث اليهودي والنصراني المسلمين، ويرث المسلمون اليهود والنصارى».(3) إلى غير ذلك من الروايات.

ونحن نعرض المسألة على الكتاب العزيز، فإن إطلاقاته دليل على إرث المسلم من الكافر، خرج منه إرث الكافر من المسلم دون العكس، وأمّا إطلاق الآيات فمنها قوله سبحانه: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ » وإليك غيرها.

ص: 186


1- . المبسوط: 4/79.
2- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 2.
3- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 7.

1. قال سبحانه: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ » .(1)

2. قال سبحانه: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ».(2)

فإنّ مقتضى إطلاق الآيات عدم الفرق بين كون المورّث مسلماً أو كافراً، ومثله الوارث، خرجت منه صورة واحدة وهي عدم إرث الكافر من المسلم وبقي الباقي تحت الإطلاق، فلا يعدل عنه إلّابدليل قطعي.

ويؤيّد ذلك أنّ حرمان المسلم من إرث الكافر خلاف الامتنان، فإنّ الحرمان من الإرث في بعض الموارد إمّا للإرغام، أو لضعف الوارث؛ فالأوّل كما في القاتل، فلا يرث المقتول، وذلك لأنّه حاول بقتله أن يرثه معجّلاً، فانعكس الأمر وصار محروماً بتاتاً، والثاني كما في الرقّ حيث لا يرث العبدُ الحرَّ لضعف مرتبته ودرجته، فعلى ضوء ما ذكرنا يجب أن يرث المسلم الكافر، وإلّا يلزم أن يكون حرمان المسلم من إرث الكافر إمّا إرغاماً له أو آية ضعفه، وكلاهما مردودان في الشرع.

وإن شئت قلت: إنّ التشريع الإسلامي قائم على الترغيب والترهيب، ففي الموضع الّذي يكون المورِّث كافراً والوارث على وشك اعتناق الإسلام، فلو قيل له: أنت لو أسلمت يكون جزاء إسلامك هو حرمانك من عطايا والدك وأُمّك، فهو يتراجع عن قراره ويتعجّب من هذا التشريع الّذي يُرهّب مكان أن يُرغّب، ويُبعِّد6.

ص: 187


1- . النساء: 12.
2- . النساء: 176.

بدل التقريب إلى الإسلام، ويوعده على طرف النقيض من الترغيب.

وقد ورد بعض ما ذكرنا في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام، منها: ما رواه عبدالرحمن بن أعين قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «لا نزداد بالإسلام إلّاعزّاً، فنحن نرثهم ولا يرثونا».(1)

وأمّا غير الإمامية فقد قال الشيخ الطوسي: قال الشافعي: لا يرث المسلم الكافر، وحكوا ذلك عن علي عليه السلام، وعمر، وعبداللّه بن مسعود، وعبداللّه بن العباس، وزيد بن ثابت، والفقهاء كلّهم.(2)

وقال ابن رشد: ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أنّه لا يرث المسلم الكافر.(3)

وأمّا ما هو الدليل فقد استدلّوا بطائفتين من الروايات:

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على عدم التوارث

وردت روايات على عدم التوارث، منها ما أخرجه أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عبداللّه بن عمرو، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا يتوارث أهل ملّتين شتّى».(4)

يلاحظ عليه: أنّ الحديث بصدد نفي التوارث لا الإرث من كلّ جانب، فلو قيل ما تضارب زيد وعمرو، كفى في صدقه عدم الضرب من جانب واحد،

ص: 188


1- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 19.
2- . الخلاف: 4/23، المسألة 16.
3- . بداية المجتهد: 5/430.
4- . سنن أبي داود: 3/126، برقم 2911.

ولذلك يقال: لم يكن هناك تضارب، بل ضرب من جانب واحد، فالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بصدد نفي التوارث وهو لا ينافي الإرث من جانب واحد، وبذلك فسّر الإمام الصادق عليه السلام الحديث، فقد أخرج الكليني عن جميل وهشام عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: «فيما روى الناس عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: لا يتوارث أهل ملّتين، قال: نرثهم ولا يرثونا، إن الإسلام لم يزده في حقّه إلّاشدّة».(1)

الطائفة الثانية: ما يصرّح على عدم إرث المسلم

أخرج البخاري عن أُسامة بن زيد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم».(2)

يلاحظ عليه: أنّه خبر واحد لا يُقيّد به الكتاب العزيز، فتفرّد أُسامة بنقل هذا الحديث مع كثرة الابتلاء به في عصر بدء الرسالة، أمر بعيد.

وربّما يُستدلّ بوجه ثالث، قال ابن حجر: إنّ التوارث يتعلّق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر، لقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ».(3)

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ الإرث من آثار الولاية في العتق وضمان الجريرة، وأمّا الوراثة في غير هذين الموردين فهي من آثار النسب والسبب، ولذلك فإنّ الفقهاء يذكرون عند بيان أسباب الإرث السبب والنسب، مقابل الولاء.

ص: 189


1- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 14.
2- . صحيح البخاري: 8/11، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
3- . المائدة: 51.

أسباب ميراث الورى ثلاثة *** كلّ يفيد ربّه الوراثة

وهي نكاح وولاء ونسب *** ما بعدهن من مواريث سبب(1)

وثانياً: أنّ كون الولاية هي السبب للميراث يخالف ما عليه الحنفية ومن تبعهم من أنّ المسلم يرث المرتدّ مع انقطاع الولاية بين المسلم والمرتدّ.

قال النووي في شرح المهذّب: قال أبو حنيفة والثوري: ما اكتسبه قبل الردّة ورث عنه، وما اكتسب بعد الردّة يكون فيها.(2)7.

ص: 190


1- . المجموع: 17/48.
2- . المجموع: 17/57.

أحكام المواريث

7 ميراث أولاد الأنبياء

تمهيد

ممّا فطر اللّه سبحانه به النوع الإنساني سواء في ذلك الصالح والطالح والنبيّ وغيره إذا لم ينحرف طبعه هو انسياقَه إلى طلب الولد، ويرى أنّ وجود الولد بعده بقاء لنفسه. والشرائع الإلهية لم تبطل هذا الحكم الفطري، ولا ذمّت هذا الدافع الغريزي، بل مدحته وكفى في ذلك قول إبراهيم الخليل عليه السلام: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّالِحِينَ »(1) ، وقوله تعالى عن المؤمنين: «هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ »(2).

ثم إنّ الرغبة القوية لدى عامّة الناس في أن تنتقل ممتلكاتهم بعد موتهم إلى أولادهم. وبما أنّ الشريعة الإسلامية شريعة الفطرة جعلت الفرائض المالية حسب ما تطلبه الفطرة، وجعلت متملّكات الوالدين لأولادهما من غير فرق بين أولاد الأنبياء وغيرهم، قال تعالى: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ »(3) ، وقال سبحانه: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ

ص: 191


1- . الصافات: 100.
2- . الفرقان: 74.
3- . النساء: 11.

نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً».(1)

هذا كلّه حول الإطلاق الشامل لأولاد الأنبياء.

وقد ورد في الذكر الحكيم ما يدعم هذا الإطلاق وإليك البيان:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا».(2)

ما هو المراد من الوراثة في قصة زكريا؟

في هذه الآيات الواردة في قصّة زكريا عليه السلام دليلان واضحان على أنّ المراد من الوراثة هي الوراثة المالية لا وراثة النبوّة، ولا وراثة العلم أو ما يشبههما، وأنّه طلب الولد من اللّه لكي يرثه ما يترك من الأُموال، وإليك الدليلين:

الدليل الأوّل: أنّ قوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ » ظاهر في أنّه كان هناك أمر يخاف منه، فلو رزق الولد لارتفع خوف زكريا، ولو مات بلا عقب لبقي الخوف على حاله.

فلو أُريد من الخوف خوف الوراثة، فهذا هو الّذي يرتفع مع وجود الولد، إذ

ص: 192


1- . النساء: 7.
2- . مريم: 4-6.

أنّ الموالي حينئذٍ لا يرثونه مع وجود الولد؛ وهذا بخلاف ما لو أُريد من الوراثة وراثة النبوّة أو العلم أو ما يشبهه، فإنّه عندئذٍ لا يخاف لو مات بلا عقب؛ لأنّ النبوّة والعلم ليسا من الأُمور الوراثية، فسواء أكان له ولد أم لا؟ أو صار ذا ولد أم لا؟ فهذا ليس ممّا يخاف منه؛ لأن اللّه سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته.

وبعبارة أُخرى: يجب أن نحدّد خوف زكريا بأنّه يرتفع مع وجود الولد ويبقى مع عدمه، وهو ليس إلّاالوراثة المالية حيث لو رزق الولد لورث المال وحرم الموالي، ولو لم يرزق ورثه الموالي وهم غير مرضيين.

وأمّا وراثة النبوّة والعلم فلا خوف عندئذٍ سواء أنجب أم لا؟ لأن اللّه يضع رسالته في مَن له أهلية.

الدليل الثاني: أنّ في كلتا السورتين (آل عمران ومريم) اللّتين تحدّثتا عن الموضوع جاء وصف الولد الموهوب بكونه «رَضِيًّا» كما في المقام أو «ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً » كما في سورة آل عمران، فلو كان طلب الولد لوراثة النبوّة والقيادة الدينية لَكان هذا القيد في الطلب أمراً لغواً، لأنّ الأنبياء كلّهم راضون مرضيّون طاهرون مطهَّرون. وتوهُّم كون التقييد لأجل التأكيد، في غير مورده، إذ لا شكّ في أنّ النبيّ يكون مرضيّاً قطعاً.

كلام للسيد الآلوسي في أنّ الوراثة، هي وراثة العلم

إنّ السيد الآلوسي من المصرّين على أنّ الوراثة ليست وراثة ماليّة، وذكر لتأييد رأيه ثلاثة وجوه:

الأوّل: قال: ممّا يؤيّد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال، أنّه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من

ص: 193

تعلّقات هذا العالم المتغيّر الفاني واتّصلت بالعالم الباقي، ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة، لا سيما جناب زكريا عليه السلام فإنّه كان مشهوراً بكمال الانقطاع والتجرّد، فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر، أو يظهر من أجله الكلَف والحزن والخوف، ويستدعي من حضرة الحقّ سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء، وهو يدلّ على كمال المحبّة وتعلّق القلب بالدنيا.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ خوف زكريا من وراثة الأغيار لم يكن لأجل تعلّق نفسه بالمال حتى يقال إنّ الهمم العلياء للنفوس القدسية انقطعت من تعلّقات هذا العالم، وإنّما خوفه أن تقع هذه الأموال التي تأتي إليه يوماً بعد يوم، بيد أشرار الناس فتُصرف في غير محلّها، ولذلك ورد في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يصرف ما يقع تحت يده من الغنائم بأسرع وقت. وليس هذا النوع من الخوف دليلاً على التعلّق بالدنيا ومتاعها؛ بل دليل على ورعه وتقواه، وخشيته من أن تُصرف الأموال في غير جهتها الشرعية.

الثاني: أنّ ذلك لا يُخاف منه، إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر، فصرفه على ذمّته صواباً أو خطأ، ولا مؤاخذة على الميّت من ذلك الصرف، بل لا عتاب أيضاً.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ الإنسان المؤمن شديد الحسّاسيّة من أي شرّ أو ظلم أو فساد يظهر في الناس، ويستشعر المسؤولية بتطهير جوّ الحياة منه، فيعمل على استئصاله من جذوره، أو على تجفيف المنابع التي تمدّه بأسباب القوّة والبقاء6.

ص: 194


1- . روح المعاني: 64/16.
2- . روح المعاني: 65/16.

والانتشار. وزكريا عليه السلام إذ خاف من وقوع الأموال، بعد رحيله عن الدنيا، بأيدي الأشرار، فرضَ عليه إيمانه وتقواه واشمئزازه من المنكر وأصحابه، أن يفكّر في أمر المستقبل، وأن يدبّر له بما يحول بين هؤلاء وبين الأموال التي سوف ينفقونها في السُّبُل البعيدة عن مرضاة اللّه تعالى. وعلى هذا فالقول بأنّ المال مالهم والوزر عليهم، قول مَن لم يقف على خصائص النبيّ وعلى ما يحسّه من مسؤولية تجاه ما سوف يملكه الأشرار من الأموال التي بيدهم.

الثالث: بأنّه كان في إمكان زكريا أن يصرف ما يملك قبل موته ويتصدّق به كلّه في سبيل اللّه، ويترك بني عمّه الأشرار خائبين.(1)

أقول: هذا الكلام أغرب من سابقَيه، وهو بمعنى أنّ زكريا كان يعلم بأجله متى يموت، فيتصدّق بماله قبل ذلك بسنة، مثلاً، وقد مرّ أنّ الأموال كانت تجبى إليه وقتاً بعد وقت.

ولعمري إنّ الداعي لنسج هذه الوجوه وصرف الآية عن ظاهرها هو تصحيح ما رواه أبو بكر في هذا المقام: (نحن معاشر الأنبياء لا نُورث) ولولا هذا لما خطر في بال أحد واحدٌ من هذه الوجوه!!

وبما أنّ ابن عاشور التونسي وقف على الحقّ وقوفاً نسبياً، فقد أنصف في المقام وقال: فقوله: «يَرِثُنِي» يعني به وراثة ماله. ويؤيّده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن [البصريّ ] أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يرحم اللّه زكريا ما كان عليه من وراثة ماله». والظواهر تؤذن بأنّ الأنبياء كانوا يورَثون، قال تعالى: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ 6.

ص: 195


1- . روح المعاني: 65/16.

داوُدَ»(1)، وأمّا قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «نحن معشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة» فإنّما يريد به رسول اللّه نفسه، كما حمله عمر في حديثه مع العباس وعلي في «صحيح البخاري» إذ قال عمر: «يريد رسول اللّه بذلك نفسه» فيكون ذلك من خصوصيات محمد صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

أقول: إنّ ابن عاشور وإن اعترف بظهور الآية في الوراثة المالية، لكنّه احتمل أن يكون ما في الرواية من خصائص النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن غفل عن أنّ الرواية - على فرض صحّتها - تعدّ وراثة المال من خصائص الأنبياء، لقوله فيها: «نحن معشر الأنبياء» لا من خصائص نبي الإسلام.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ زكريا طلب الولد للوراثة وأنّ الأنبياء يورثون كسائر الناس، وإن إطلاقات القرآن الّتي تقدّم بيانها محكمة غير مخصّصة، فإنّ الوارث يرث مطلقاً إلّافي موارد ثلاثة:

1. الكفر، فإنّ الكافر لا يرث من المسلم في عامّة المذاهب: الإمامية وغيرهم.

2. القتل، فإنّ القاتل لا يرث من المقتول.

3. الرقّيّة، فهي مانعة عن الإرث في الوارث والموروث، فإنّه لا يرث الرقّ من الحر، ولا بالعكس، والتفصيل في المصادر الفقهية.

فإذا كان أحد المعايير في تمييز الحديث الصحيح عن الزائف هو موافقة الكتاب ومخالفته، فهذه الآية الدالّة على أنّ زكريا الّذي هو أحد الأنبياء طلب من2.

ص: 196


1- . النمل: 16.
2- . التحرير والتنوير: 11/16-12.

اللّه أن يرزقه ولداً حتّى يرثه، فعندئذٍ فما نسب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا نُورّث، ما تركناه صدقة»(1) مخالف للقرآن الكريم.

ثمّ إنّ السيد الآلوسي استدلّ على ما تبنّاه برواية الشيخ الكليني، قال: روى الكليني في «الكافي» عن أبي البختري، عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق رضي اللّه عنه أنّه قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنّما ورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمَن أخذ بشيءٍ منها فقد أخذ بحظّ وافر».(2)

أقول: إنّ الآلوسي غفل عن مرمى الحديث ومفاده، فالحديث بصدد بيان أنّه ليس من شأن الأنبياء إيراث ورثتهم أموالاً طائلة وكنوزاً مكتنزة، وإنّما شأنهم التبليغ ومسؤوليتهم الإرشاد والتعليم وقد قاموا بها من خلال أحاديثهم.

وأمّا لو فرض أنّ نبيّاً ما، مات وعنده سجّادة أو إبريق أو عنده عباءة وقباء، فهذا لا يورَث ؟ فالرواية غير ناظرة إليه.

حرمان أولاد الأنبياء من الميراث على خلاف الفطرة

ومن ميزات أحكام الشريعة الإسلامية أنّها تطابق الفطرة الإسلامية والعقل الحصيف، ولذلك يقول سبحانه: «فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها»(3) ولأجل هذا التطابق تبقى الشريعة الإسلامية خالدة مستمرة مادام بنو آدم باقين على سطح الأرض، هذا من جانب.

ص: 197


1- . صحيح البخاري: 4/264، برقم 6727، كتاب الفرائض؛ سنن أبي داود: 568، برقم 2976، كتاب الخراج.
2- . روح المعاني: 64/16.
3- . الروم: 30.

ومن جانب آخر أنّ كلّ إنسان يجد في نفسه رغبة لأن يرث ما تركه من الأموال أولاده وفلذّات كبده وأقاربه لأنّه يراهم استمراراً لوجوده، وقد أقر الإسلام هذا الميل، حيث قال: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ »(1) .

فبملاحظة هذين الأمرين يجب أن يكون حكم الأنبياء كحكم سائر الناس، فالأولى بتركتهم أولادهم وأقاربهم ومن لهم به صلة من حيث القرابة، فإذا قيل:

«نحن معاشر الأنبياء لا نورث»!!؟ يطرأ العجب على هذا الحكم، لماذا؟ أفيهم أحد موانع الإرث من الكفر والإرتداد والقتل ؟ قطعاً لا، فلذلك ما لم يكن هناك دليل قاطع متواتر من النبي صلى الله عليه و آله و سلم يرد هذا النحو من الأحكام ردّاً باتّاً.

لو فرضنا أنّ الأنبياء لا يورَثون من غير استثناء، أفليس من واجب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يذكر ذلك على رؤوس الأشهاد أو لا أقلّ من أن يذكره لأولاده وورثته قبل أن يذكره لأبي بكر، حتى لا يحصل نزاع بينهم بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم ؟! ولذلك نرى أنّ سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام تحتجّ على أبي بكر في حرمانها من الإرث وتخاطبه بقولها: «يا ابن أبي قحافة أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً؟ أفعلى عَمْد تركتم كتابَ اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليه السلام: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » ».(2)

الآية الثانية

اشارة

قال تعالى: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ

ص: 198


1- . النساء: 11.
2- . تفسير نور الثقلين: 324/3.

اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ »(1).

التفسير

ذكر سبحانه في سورة النمل لسليمان أُموراً:

1. وراثة سليمان أباه داود.

2. علمهما بمنطق الطير.

3. أنّ اللّه أعطاه وأباه من كلّ شيء.

4. تسخير الجنّ والإنس والطير لخدمته.

5. عبوره وادي النمل وسماع كلام النملة.

6. قصته مع الهدهد وملكة سبأ.

نعم جاءت في غير هذه السورة أُمور أُخرى، كتسخير الريح وغير ذلك، فالجميع خارج عمّا هو المقصود في المقام سوى وراثته من داود عليهما السلام.

وراثة سليمان أباه داود

أمّا الأمر الأوّل - أعني: وراثة سليمان لداود - فقد أشار إليه سبحانه بقوله: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» ، وقد كان داود يتمتّع بأُمور أربعة:

1. العلم.

2. النبوّة.

3. المُلك.

ص: 199


1- . النمل: 16.

4. المال.

أمّا الأوّل: فلم يرثه سليمان من داود؛ وذلك لأنّ العلم غير قابل للإيراث، مضافاً إلى قوله سبحانه: «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ »(1) ، صرّحت بأنّه سبحانه أفاض عليهما العلم من دون أن يرث أحدهما الآخر.

وأمّا الثاني - أعني: النبوّة - فهي أيضاً غير قابلة للإيراث؛ لأنّها رهن ملَكات وقابليات خاصّة حتّى يختاره اللّه سبحانه للنبوّة، فلو كان فاقداً لها يمتنع أن يكون نبيّاً، ولو كان واجداً لاختاره اللّه للنبوّة من دون حاجة إلى أن يرثها عن الآخر.

وأمّا الثالث - أعني: الملك - فإن أُريد به الإمامة - كما هو الظاهر - المتمثّلة في تدبير أمر الأُمّة دنيوياً وأُخروياً، فهو أيضاً مقام تنصيصي يفاض من اللّه سبحانه، قال تعالى: «وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ »(2) ، فليست هي قابلة للإيراث لما ذكر في أمر النبوّة.

ولو فرضنا أنّ المراد بالمُلك هو التدبير بلا تنصيب من اللّه سبحانه فهو قابل للوراثة.

وأمّا الرابع - أعني: المال - فهو من أظهر مصاديق الوراثة، فكلّما أُطلقت الوراثة ينصرف إليه، ولو استعمل في غيره فإنّما هو نوع من التشبيه كما في قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوها»(3) ، وعلى هذا فمقتضى إطلاق الآية أنّ 2.

ص: 200


1- . النمل: 15.
2- . البقرة: 124.
3- . الزخرف: 72.

سليمان ورث من داود المال، أو هو مضافاً إلى مقام الملك، ولا وجه لتخصيصه بالملك.

قال السيد الطباطبائي: وأمّا قول بعضهم: المراد به وراثة النبوّة والعلم، ففيه:

أنّ النبوّة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم الذي يختصّ به الأنبياء والرسل كرامة من اللّه لهم، والنبيّ لا يرث علمه من نبيّ آخر ولا من غير نبيّ .(1)

ثمّ إنّ كثيراً من مفسّري مدرسة الخلفاء لمّا تلقّوا ما نُسب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من قوله: «لا نُورّث، ما تركناه صدقة»(2)، حديثاً صحيحاً عمدوا إلى تأويل الآية، فيقول الراغب الإصفهاني، مثلاً، في تفسير قوله تعالى: «وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ »(3) فإنّه يعني: وِراثة النبوّة والعلم والفضيلة دون المال، فالمال لا قَدْر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه، بل قلّما يقتنون المال ويملكونه.(4)

وتبعه ابن عاشور ففسّر الآية بقوله: فخلفه سليمان فهو وارث ملكه والقائم مقامه في سياسة الأُمّة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم، فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي.(5)

ونسأل هؤلاء ومن تبعهم: هل النبوّة أو العلم ممّا يورثان ؟ فكيف تقولون:

قام سليمان مقام داود في الحكمة والنبوّة ؟!4.

ص: 201


1- . الميزان في تفسير القرآن: 349/15.
2- . صحيح البخاري: 264/4، برقم 6727، كتاب الفرائض؛ سنن أبي داود: 568 برقم 2976، كتاب الخراج والإمارة والفيء.
3- . مريم: 6.
4- . المفردات للراغب: 519، مادة «ورث».
5- . التحرير والتنوير: 19/234.

إنّ الأمر يدور بين تفسير الوراثة بوراثة المُلك وسياسة الأُمّة أو هو مع المال، والوراثة في الثاني أظهر، والقول بالجمع هو المتّبع، فلا دليل على خروج المال من تحت الوراثة.

وأمّا قول الراغب: إنّ المال لا قدر له عند الأنبياء، فهو يناقض قوله سبحانه، الذي يصف فيه المال بالخير: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ».(1) نعم إنّ المال يوصف بالخير إذا كان بيد الصالحين وأنفقوه في وجوه البِرّ والإحسان والمعروف، وبالشرّ إذا كان بيد الطالحين وعملوا به في المعاصي والآثام.

أضف إلى ذلك: أنّ قول سليمان في ذيل آيتنا: «وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ » أفضل دليل على وراثة ما كان يملكه داود، وإلّا لكان معدماً غير غنيّ ، ومعه كيف يقول: «وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ »؟

ثم إنّ مقتضى إطلاقات الكتاب كما مرّت أنّ الأنبياء يورثون قال تعالى:

«يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ »(2) فإنّ إطلاقه حجّة ما لم يدلّ دليل قاطع على إخراج الأنبياء من الإطلاق، وليس هناك دليل صالح، فالخبر المذكور خبر واحد لا يخصّص به العموم القرآني.

نعم ربّما يتصوّر أنّ الآيات منسوخة بما نسب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال بصور ثلاثة:

1. إنّ الأنبياء لا يوّرثون.1.

ص: 202


1- . البقرة: 180.
2- . النساء: 11.

2. إنّ النبي لا يورّث.

3. لا نورّث، ما تركناه صدقة.

والجواب عنه بوجهين:

1. لو صحّت الرواية، فالمراد هو أنّ شأن الأنبياء هو إيراث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة لا المال، وهذا غير أنّه إذا ترك حصيراً أو إناء أو سجادة فهو ينتقل إلى الأُمّة لا إلى الأولاد، فإنّ موقف هذه الرواية هو تفكيك شأن الأنبياء عن سائر الملوك وطلّاب الدنيا فهم يتركون الأموال المكدّسة والكنوز الممتلئة، ويدلّ على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً ولكنّا نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة».(1)

ويؤيّد هذا المضمون ما رواه الكليني عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنّما أَورثوا أحاديث من أحاديثهم...».(2)

كلّ ذلك يرشدنا إلى أنّ مصبّ الروايات هو مصبّ السلب النسبي، وهو تبيين شأن الأنبياء عن غيرهم من أصحاب الدنيا، لا أنّه لا يُورّث مطلقاً حتى ما ملكه من الحوائج الأوّلية التي لا مناص للإنسان منها.

2. انّ قوله: «لا نورث» متوجّه إلى الأُمّة، لا إلى الأولاد بشهادة قوله: «ولكنّا نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة» ومن المعلوم أنّ هذه التركة لا تختصّ بالأولاد والأحفاد وإنّما تنتفع منها الأُمّة الإسلامية جمعاء، فتدبّر.م.

ص: 203


1- . شرح نهج البلاغة: 213/16.
2- . الكافي: 32/1، برقم 2، كتاب فضل العلم.

ثمّ إنّ هنا تأمُّلاً واضحاً في صحّة صدور الحديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، إذ لو كان النبيّ بصدد الإخبار عن أنّ الأنبياء لا يورّثون المال، لأخبر صلى الله عليه و آله و سلم كما مرّ بذلك من يرثه، أعني: ابنته فاطمة عليها السلام، ولَما تركها تبتلي بما ابتليت به في قصة ميراثها من النبي صلى الله عليه و آله و سلم وانصرافها من مجلس أبي بكر مغضبة متظلِّمة، فعدم إخبار بضعته الطاهرة بذلك، وإخبار غيرها، أمر لا ينسجم مع شأن النبوّة.

نقل ابن أبي الحديد عن كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري: إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللّه، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه بفدك وسهمه بخيبر، فقال لهما أبو بكر: إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة»، إنّما يأكل آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم من هذا المال، وإنّي واللّه لا أُغيّر أمراً رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يَصنعه إلّاصنعته. قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت.(1)

وفي نهاية المثال انّ الحديث على فرض صدوره فيه احتمالان:

1. ما عليه أهل السنّة من انّ الموصول «ما» مبتدأ وصدقة خبره: أي لا نورث، ما ركناه صدقة.

2. الموصول مفعول لقوله: «لا نورّث» وصدقة حال: أي لا نورث ما تركناه صدقة كالزكوات والغنائم فتدبّر.

فدك صودرت وبيوت الأزواج لم تصادر

ثمّ لا شكّ أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ترك بيوتاً لأزواجه وهي ملك له ولكن بقيت في

ص: 204


1- . شرح نهج البلاغة: 218/16. ورواه البخاري بإسناده عن عروة عن عائشة، لاحظ صحيح البخاري: 264/4، برقم 6725 و 6726.

يد أزواجه دون أن تُصادَر، كما كان عند عليّ سيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخاتمه وبعض ما يختص به، فلم يُطلب ولم يُصادَر، وهذا دليل على أنّ مصادرة فدك كانت ترتبط بقضية سياسية، ولذلك اختلفت سيرة الخلفاء بين ردّها إلى أولاد فاطمة وبين أخذها، يقول ابن أبي الحديد: ولمّا ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت الحسن بن علي عليهما السلام، فلم يزالوا يتداولونها حتّى خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.

فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كانت أوّل ظُلامة ردّها، دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام - وقيل: دعا علي بن الحسين عليهما السلام - فردّها إليه، وكانت بيد أولاد فاطمة عليها السلام مدّة ولاية عمر بن عبد العزيز، فلمّا ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم، وكان الأمر على هذا النحو إلى أيام العباسيّين.

رسالة المأمون إلى عامله بالمدينة يردّ فدك إلى أولاد فاطمة

وكان الأمر في عهد العباسيّين مثله أيام الأمويّين، فتارة كانت بيد الحاكم وأُخرى بيد أبناء فاطمة عليها السلام إلى أن جاء عصر المأمون فكتب إلى عامله على المدينة قثم بن جعفر الرسالة التالية:

أمّا بعد؛ فإنّ أمير المؤمنين بمكانة من دين اللّه، وخلافة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم والقرابة به أولى من استنّ سنّته، ونفّذ أمره وسلّم لمن منحه منحة وتصدّق عليه بصدقة، منحته وصدقته، وباللّه توفيق أمير المؤمنين وعصمته، وإليه - في العمل بما يقرّبه إليه - رغبته، وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعطى فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدكاً وتصدّق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول

ص: 205

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم تزل تدّعي منه ما هو أولى به من صدق عليه.(1)

فرأى أمير المؤمنين أن يردّها إلى ورثتها ويسلّمها إليهم تقرّباً إلى اللّه تعالى بإقامة حقّه وعدله وإلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه والكتاب به إلى عمّاله، فلأن كان ينادى في كلّ موسم بعد أن قبض اللّه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يذكر كلّ من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وينفذ عِدته، أنّ فاطمة رضي اللّه عنها لأولى بأن يصدَّق قولها فيما جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لها. وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره بردّ فدك على ورثة فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغَلّات وغير ذلك وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد اللّه بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين إيّاهما القيام بها لأهلها، فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه اللّه من طاعته ووفقه له من التقرّب إليه وإلى رسوله صلى الله عليه و آله و سلم واعلمه من قبلك، وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد اللّه بما كنت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلّاتها إن شاء اللّه والسلام. وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة عشر ومائتين، فلمّا استخلف المتوكّل على اللّه أمر بردّها إلى ما كانت عليه قبل المأمون.(2)

وبذلك تقف على صحّة ما في خطبة الزهراء عليها السلام حيث كانت تقول: «يا ابن أبي قحافة أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً. أفعلى7.

ص: 206


1- . يريد أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام لم تزل تدّعي منه ما هو أولى بالتصديق ممّن صدق على خلافه.
2- . فتوح البلدان للبلاذري: 46-47.

عمد تركتم كتاب اللّه فنبذتموه وراء ظهوركم و... وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا؟ أفخصّكم اللّه بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إنّ أهل ملَّتين لا يتوارثان ؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ؟ فدونكهما مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعمَ الحكم اللّه، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون».(1)

وللعالم المصري الشيخ محمود أبوريّة كلمة قيّمة في هذا الموضوع، يقول فيها:

بقي أمر لابدّ من أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة بنت الرسول رضي اللّه عنها، وما فعل معها في ميراث أبيها، لأنّنا إذا سلّمنا بأنّ خبر الآحاد الظنّي يخصّص الكتاب القطعيّ ، وأنّه قد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد قال إنّه لا يورّث، وإنّه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإنّ أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي اللّه عنها بعض تركة أبيها كأن يخصّها بفدك، وهذا من حقّه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخصّ مَن شاء بما شاء، وقد خصّ هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبيّ ، على أنّ فدكاً التي منعها أبو بكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان.(2)

***

تمّ الكلام في أحكام المواريث7.

ص: 207


1- . شرح نهج البلاغة: 251/16؛ الاحتجاج للطبرسي: 138/1.
2- . مجلة الرسالة المصرية، العدد 518، السنة 11، ص 457.

ص: 208

الفصل الخامس عشر: أحكام القضاء في الذكر الحكيم

اشارة

* القضاء ودوره في استتباب الأمن واستقرار العدل

* القضاء من ضروريات الحياة الاجتماعية

* هل القضاء منصب إلهي ؟

* حرمة التحاكم إلى مَن ليس له ولاية القضاء

* احتكام غير المسلم إلى المحاكم الإسلامية

ص: 209

ص: 210

القضاء ودوره في استتباب الأمن واستقرار العدل

تمهيد

تقوم الحكومة الإسلامية على دعائم ثلاث، يلعب كلّ منها دوراً مهمّاً في تشييد معالمها وهي عبارة عن:

1. السلطة التشريعيّة.

2. السلطة التنفيذيّة.

3. السلطة القضائيّة.

فللسلطة التشريعية مراحل نشير إليها على وجه الإيجاز:

أ. مرحلة التشريع: أي سنّ القوانين وجعلها، وهو مختصّ باللّه سبحانه، وليس لأحد حقّ التقنين والتشريع، وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في التقنين.

والواسطة بين اللّه والناس هو النبي وأوصياؤه الطاهرين.

ب. مرحلة الاستنباط: أي استنباط ما شرّعه اللّه سبحانه في الكتاب والسنّة وغيرهما من مصادر التشريع، ويقوم بتلك المهمة الفقهاء العظام.

ج. مرحلة التخطيط: وهي وظيفة المجلس النيابي الذي يضم نواب الأُمّة من ذوي الاختصاص، وتطرح فيه البرامج المختلفة في مجالات شتّى على ضوء القوانين الإسلامية.

ص: 211

هذا كلّه حول السلطة التشريعية.

وأمّا السلطة التنفيذية فهي التي تأخذ على عاتقها إدارة البلاد بصورة مباشرة دون أن يكون هناك التزام بأُسلوب وصورة خاصة لإدارتها غير كونه موافقاً للشرع، ولأجل ذلك تتبع كلّ ما تجده صالحاً حسب مقتضيات الزمان. فإنّ المطلوب من صاحب الشريعة هو التركيز على لزوم السلطة ومواصفات القائمين عليها، وأمّا أساليب التنفيذ فإنّما تتبع متطلّبات الزمان شريطة أن لا تكون مخالفة لما سنّه الإسلام.

وأمّا السلطة القضائية التي هي موضوع بحثنا في هذا التقديم، فتمثّل مكان الصدارة في استتاب الأمن والنظام، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحرّيات من التعسّف والتعدّي، وبذلك يسود التوازن والقسط والعدل ربوع ذلك المجتمع.

ويكفي في الإشارة إلى منزلة القضاء الرفيعة أنّه من شؤون الأنبياء، كما نلاحظه في قوله سبحانه: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ».(1)

وكان الأنبياء يصدرون في فصل الخصومات عن الكتب السماوية دون أن يتعدّوها قيد شعرة، قال سبحانه: «إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا».(2)

ويخاطب اللّه سبحانه نبيّه الخاتم بقوله: «وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ ».(3)9.

ص: 212


1- . ص: 26.
2- . المائدة: 44.
3- . المائدة: 49.

هذه هي مكانة القضاء وهؤلاء هم القضاة (الأنبياء) وهذه برامجهم، فليس للقاضي القضاء طبقاً للقوانين الوضعية التي لا تمتُّ إلى أحكام السماء بصلة، ولا القضاء بالهوى، وقد نوّه سبحانه إلى ذينك الأمرين بقوله: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ ».(1)

القضاء من ضروريات الحياة الاجتماعية

اشارة

الحياة الفردية لا تثير أي اختلاف ونزاع بين الشخصين حتى يحتاج إلى القضاء وفصل الخصومة، بخلاف الحياة الاجتماعية فإنّ الاختلاف فيها وافر، نابع من جهات عديدة فتثير التزاحم والتصادم في الحقوق والأموال، إمّا طمعاً في حقوق الآخرين وأموالهم، أو جهلاً بالحكم والوظيفة واعتقاداً بملكيّة ما ليس يملكه أو بحقّ ليس يستحقّه، فلا مناص من وجود قوّة قضائية وسلطة نافذة فاصلة للخصومات، محلّة للعُقد، ببنان العدل و الإنصاف وفي ضوء القانون النازل من اللّه سبحانه، وإلى ذلك تشير الآيات الواردة في سورة المائدة من الآية الثانية والأربعين إلى الآية الخمسين.

إذا عرفت ذلك فلندرس الآيات التي يمكن أن تكون سنداً للقضاء ودليلاً على الاستنباط.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ

ص: 213


1- . المائدة: 48.

يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ ».(1)

التفسير
تكريم النبي داود بأمرين كبيرين

دلّ قوله سبحانه في حقّ داود: «وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ » أي قوّينا ملكه بالحرس والجنود وكثرة العدد والعدّة «وَ آتَيْناهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطابِ »(2) : أي تمتّع بفضل من اللّه سبحانه بالنعمتين الكبيرتين: الحكمة وفصل الخطاب، فصار ذلك سبباً للخطابات الثلاثة؛ لأنّ لكلّ نعمة شكراً، وتزويده بالحكمة وفصل الخطاب لا يقتضي ذلك، وإليك الخطابات:

1. جعله خليفة في الأرض كما قال: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ » والخليفة هو من يخلف غيره ويقوم مقامه، والذي يمكن أن يقال: إنّه سبحانه خوّله أمر تدبير المجتمع وإدارة شؤونه في إطار الأحكام والضوابط التي جاء بها الدين.

2. «فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ » فهو يدلّ على أنّ أساس القضاء هو العدل والحقّ ، سواء اكتسب تأييد الناس أم لا، وبهذا يفترق عن مبنى القضاء في البلاد الغربية.

3. «وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى » لأنّ اتّباع الهوى يسبّب العدول عن الحقّ والانحراف عن العدل، وقد تقدّم أنّ الأمرين هما الأساس للقضاء.

ص: 214


1- . ص: 26.
2- . ص: 20.

ثمّ إنّه سبحانه يبيّن وجه النهي عن اتّباع الهوى ويقول: «فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ » . كما أنّه سبحانه يهدّد كل مَن يضلّ عن سبيل اللّه بالعذاب الشديد ويقول: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» إنّما الكلام فيما هو المبدأ للانحراف عن سبيل اللّه، وهذا ما بيّنه قوله تعالى في آخر الآية: «بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ » فنسيان الآخرة ونسيان يوم الحساب - وأنّ كلّ إنسان مجزيٌّ بعمله إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر - يجعل القاضي مطلق العنان يحكم بما يمليه عليه هواه ومصالحه، بخلاف المعتقد بدار الجزاء، فإنّه يكون عادلاً، عاملاً بأُصول الشرع، موضوعياً في أحكامه.

هل القضاء منصب إلهي ؟

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ القضاء هل هو منصب إلهي لا يتصدّى له إلّا المأذون من اللّه سبحانه، أو منصب اجتماعي يمكن فيه انتخاب الأفضل والأنسب للقضاء وفقاً للشريعة ؟ والظاهر هو الأوّل، لوجهين:

الأوّل: أنّ القضاء لا ينفكّ عن التصرّف في الأموال والأنفس والأعراض، ومن المعلوم فإنّ الأصل عدم ولاية أحد على أحد إلّااللّه سبحانه، فلا يكون أي حكم من الأحكام، ولو كان على وفق الشريعة، نافذاً إلّابإذن من اللّه سبحانه، حتى يكون القتل و الطلاق والتصرّف في الأموال بإذن من اللّه سبحانه.

الثاني: أنّ السرّ في نفوذ قضاء داود هو كونه خليفة من اللّه، فلولا الخلافة لما جاز هذا الأمر الخطير، وأنّه هو السبب في نفوذ حكمه، وعلى هذا يجب أن يكون القاضي مأذوناً ممّن له الخلافة، إما مباشرة (كالأنبياء والرسل، والمعصومين من أهل بيت النبي) أو غير مباشرة كالمأذون من قبلهم، ولذلك يقول الإمام

ص: 215

علي عليه السلام: «يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّانبيّ أو وصي نبي أو شقيّ ».(1)

والقدر المتيقّن من المأذون هو المجتهد المطلق الجامع للشرائط حسب ما أفادته مقبولة عمر بن حنظلة، والتفصيل في محلّه.

الآيتان الثانية والثالثة

اشارة

قال سبحانه: «وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ * فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ اَلْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنّا فاعِلِينَ ».(2)

المفردات

نفشت: النفش: رعي الماشية في الليل بلا راع. شاهدين: حاضرين.

التفسير

لمّا ذكر سبحانه أنّه جعل النبي داود خليفة في الأرض ليحكم بين الناس، جاءت آيتنا هذه تذكر شيئاً من قضائه، لكن الآية أجملت كيفية حكم الوالد والولد، وإنّما تذكر قصّة الحكم في مسألة الحرث بشكل موجز، وقال: «وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ » : أي آتينا داود وسليمان حكماً وعلماً «إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ » : أي

ص: 216


1- . الوسائل: 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
2- . الأنبياء: 78-79.

في الزرع «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ » : أي في الوقت الذي تفرّقت فيه (يعني في الزرع) غنم القوم ليلاً حتى أفسدته «وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ » : أي حاضرين، فلا يغيب عن علمنا شيء منه. هذا وقد ذُكرت القصة بصورة موجزة، وأمّا ما هو موضع الحكومة وما كان حكمهما فقد سكت عنه البيان القرآني. نعم يظهر من الآية التالية أنّ حكم سليمان عليه السلام في هذه المسألة كان بتفهيم من اللّه سبحانه.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ » : أي علّمناه الحكم في ذلك «وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» : أي الحكمة وعلم الشريعة.

والقرآن الكريم - كما ترى - لم يتناول قضية الحرث بتفصيل، ولم يُشر إلى ما قضى به سليمان وداود عليهما السلام فيها، وإنّما تناولت ذلك الروايات، وخلاصتها:

أقبل رجلان، أحدهما صاحب زرع، والآخر صاحب غنم، إلى داود عليه السلام للتقاضي عنده، فقال الأوّل: إنّ غنم هذا قد نفشت في زرعي(1)، أي رعته ليلاً، فلم تُبقِ منه شيئاً، فحَكَم داود عليه السلام - بعد أن ثبت له ذلك - لصاحب الزرع أن يأخذ غنم خصمه عِوضَ ما أفسدته من زرع.

فلمّا علم سليمان، قال لأبيه: الحُكم أن يأخذ صاحبُ الزرع الغنمَ ، وصاحب الغنم الأرضَ ، فينتفع بها الأوّل، ويتعهّدها الثاني إلى أن ينمو الزرع ويصبح كما كان، ثم يردّ كلٌّ منهما إلى خصمه ما تحت يده، فأقرَّ داود عليه السلام حكم ولده، الذي ألهمه اللّه تعالى وجهاً آخر في القضاء، كما يقول: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ».(2)

إنّ قوله تعالى : «وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» يدلّ على أنّ ما قضيا به كان قضاءً 5.

ص: 217


1- . كان الزرع كرماً قد بدت عناقيده كما في مجمع البيان والروايات. لاحظ: الميزان في تفسيرالقرآن: 318/24.
2- . التفسير الكاشف: 291/5.

صحيحاً جابراً للضرر من طريقين. وكان قضاء داود حقّاً لأنّه مستند إلى تحميل المُتسبِّبين في إهمال الغنم مسؤولية ما لحق بالزرع من ضرر، وإلزامهم بدفع الغرامة، كما أنّ حكم سليمان كان حقّاً، لأنّه مستند إلى إعطاء الحقّ لذويه مع إرفاق، فهو يشبه الصلح.

وبتعبير آخر: إنّ الضرر الوارد على أصحاب الحرث يساوي قيمة الغنم الّتي تفرّقت في الزرع وأتلفته، وعلى هذا الأساس قضى داود قضاءً باتّاً، وأمّا حكم سليمان فإنّما كان مبنياً على أساس أنّ فوائد الغنم في سنة كاملة تساوي ما تضرّر به أصحاب الحرث، فلو أخذوا الغنم واستفادوا من ألبانها وأصوافها لمدة سنة، فإنّه يساوي الضرر الوارد عليهم. مضافاً إلى تعهد صاحب الغنم على أن يسعى في نموّ الزرع ويصح كما كان.

والفرق بين القضاءين أنّ أصحاب الحرث في قضاء داود يملكون الأصل (الغنم)، وبالتَّبَع يملكون منافعه، فيكون القضاء قضاءً باتّاً غير تدريجي، بخلاف ما قضى به سليمان فالأصل يبقى على ملك أصحاب الغنم، وإنّما تنقل المنافع إلى أصحاب الحرث، فيكون جبر الخسارة برفق ولين وبصورة تدريجية.

الأمر دائر بين الصواب والأصوب

يقول الفاضل المقداد: ظاهر الكلام أنّ الحكمين صوابان لقوله تعالى:

«وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» مع أنّ بينهما منافاة، والصواب لا يكون في المتنافيين.

والجواب: المنع من المنافاة، لجواز أن تكون قيمة الغنم بقدر ما فات من الحرث، ولذلك حكم بتسليم الغنم إذ لا يجب عليه الصبر فيكون حكمه صواباً.

لكن حكم سليمان كان أصوب لأنّه راعى مصلحة الجانبين، والصبر وإن لم يكن

ص: 218

واجباً لكنّه ندبٌ من قسم التفضّل، فلا منافاة كما لا منافاة بين المصلحة والأصلح، والفصيح والأفصح.

***

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً».(1)

المفردات

يزعمون: الزعم: حكاية قول يكون مظنّة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذُمّ القائلون به.(2)

الطاغوت: مبالغة في الطغيان، الذي هو مصدر لفعل طغى، وربما يستعمل في الفاعل الطاغي تجوّزاً وقد صار حقيقة، وأُريد في المقام هو الثاني.

التفسير
حرمة التحاكم إلى مَن ليس له ولاية القضاء

قد تقدّم أنّ القضاء منصب إلهي لا يتصدّى له إلّاالمأذون من اللّه سبحانه

ص: 219


1- . النساء: 60.
2- . المفردات للراغب: 213، مادة «زعم».

مباشرة أو بالواسطة، فالرجوع إلى غير المأذون، على خلاف ما قضى به العقل والشريعة.

والآية تحكي أنّ جماعة من المتظاهرين بالإيمان حاولوا التحاكم إلى الطاغوت بدل أن يتحاكموا إلى الرسول وهو المأذون من اللّه.

فالآية تذكر ذلك باستنكار وتقول: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا» بأمرين:

1. «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ».

2. «وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ».

ومع ذلك «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ » إلى مظهر الطغيان، ولعلّ التعبير بالزعم دليل على أنّه لم يؤمن بالأمرين جدّاً، وإنّما تظاهر به فيكون منافقاً.

ثمّ إنّ مَن تُحاكم عنده إمّا كان يهودياً أو كاهناً، وكلاهما من مظاهر الطغيان «وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » : أي أُمروا بالاجتناب، قال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ »(1) فهؤلاء أو هذا الشخص عمله يناقض قوله. ثمّ إنّ الشيطان يُمدّهم أو يدعوهم أو يزيّن لهم عملهم كما قال: «وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ » حتى يضلّوا عن الحقّ «ضَلالاً بَعِيداً».

فإذا كان التحاكم إلى الطاغوت ضلالاً بعيداً يكون اجتنابه هداية، قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى ».(2)7.

ص: 220


1- . النحل: 36.
2- . الزمر: 17.

وقد روى الطبرسي في شأن نزول هذه الآية - عن أكثر المفسّرين - قال:

كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكم إلى محمد، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، ولا يجور في الحكم. فقال المنافق:

لا بل بيني وبينك كعب بن الأشرف، لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة، فنزلت الآية.(1)

روى عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك ؟ فقال: «مَن تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى طاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ».(2)

الآية الخامسة

اشارة

قوله سبحانه: «وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ».(3)

المفردات

تركنوا: يقال: ركن إليه: مال وسكن ووثّق به.

ص: 221


1- . مجمع البيان: 135/3.
2- . الوسائل: 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، وما يجوز أن يقضي به، الحديث 4.
3- . هود: 113.
التفسير

الإحتكام إلى الطاغوت سكون ووثوق بقوله وفعله، وقد نُهي عنه، فلا يجوز للمسلم أن يتحاكم إلى غير القاضي العدل. هذا وإنّ الحرمة مختصّة بما إذا أمكن الرجوع إلى القاضي الحقّ واسترداد ما يستحقّ .

فلو توقّف تحصيل الحقّ على الرجوع إلى الطاغوت لامتناع خصمه عن الرجوع إلى القاضي الحقّ ، جاز، فيكون المقام من قبيل الاستعانة بالظالم على تحصيل الحقّ المتوقّف على ذلك، ويتوجّه الإثم على الخصم، يقول الشهيد الثاني: ويستثنى منه ما لو توقّف حصول حقّه عليه، فيجوز كما تجوز الاستعانة على تحصيل الحقّ بغير القاضي، والنهي في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختياراً مع إمكان الغرض بأهل الحقّ ، وقد صرّح به في خبر أبي بصير الماضي.(1)

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: «سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ».(2)

ص: 222


1- . مسالك الأفهام: 335/13.
2- . المائدة: 42.
المفردات

أكّالون: صيغة مبالغة، أي أخّاذون للسحت.

السحت: أُريد به الحرام، المتحقّق في المقام بالربا والرشوة وأكل مال اليتيم، ويحتمل أن يُراد في المقام خصوص الرشوة.

التفسير
احتكام غير المسلم إلى المحاكم الإسلامية

إذا تخاصم ذمّيان سواء كانا من ملّة واحدة، كأهل التوراة، أم من ملّتين كأهل التوراة والإنجيل، فما هو الواجب على القاضي المسلم عند رجوعهما إليه ؟

المعروف أنّ القاضي مخيّر بين القضاء والترك، قال الشيخ: إذا تحاكم ذمّيان إلينا، كنّا مخيّرين بين الحكم بما يقتضيه شرع الإسلام، وبين ردّهم إلى أهل ملّتهم.

وللشافعي فيه قولان: أحدهما ما قلناه، وهو أصحّهما عندهم. والآخر: يجب عليه أن يحكم بينهما، وهو اختيار المزني.(1) ويدلّ على القول الأوّل ما تلوناه من الآية.

روى المحدّثون أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان فكرهوا رجمهما، فسألوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق يهود المدينة عن حدّهما؟ فقال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: هل ترضون بقضائي في ذلك ؟ قالوا:

نعم، فنزل جبرئيل بالرجم، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

ص: 223


1- . الخلاف: 336/4، المسألة 116.

الآية تصف رؤساء اليهود بوصفين:

1. «سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ » : أي كثيرو السمع لكلام النبي لغاية تكذيبه، أو كثيرو السمع لما يعلمون أنّه كذب.

2. «أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ » : أي الرشوة.

قوله تعالى: «فَإِنْ جاؤُكَ » : أي للاستفتاء عن حكم المحصن فاحكم بينهم أو أعرض عنهم أي فأنت مخيّر بين الحكم والإعراض، والظاهر أنّه ليس من خصائص النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلو تحاكم إلينا ذمّيان كان الحاكم مخيّراً بين الحكم عليهما بحكم الإسلام وبين الإعراض عنهما.

ثمّ إنّه سبحانه يثبّت قلب النبي بقوله: «وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً» لأنّك تحت عنايتنا. وعلى كلّ تقدير «وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ».

فالتخيير هو المتعيّن عند الإمامية، لكنّ المحكي عن الشافعي في أحد قوليه والمزني، إيجاب الحكم بينهم.(1) مستدلّين بالآية التالية:

«وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ ».(2)

حيث استظهرا من قوله سبحانه: «وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ » لزوم الحكم.

يلاحظ عليه: أنّه لا منافاة بين الآيتين، فإنّ الآية الثانية تبيّن كيفية الحكم9.

ص: 224


1- . لاحظ: جواهر الكلام: 318/21-319.
2- . المائدة: 49.

وأنّه لو اختار أحد الشقّين أي الحكم، وجب أن يحكم بما أنزل اللّه، لا أنّه يجب عليه أن يحكم.

قال المحقّق: إذا فعل أهل الذمّة ما هو سائغ في شرعهم، وليس بسائغ في الإسلام، لم يُتعرضوا، وإن تجاهروا به عُمِل بهم ما تقتضيه الجناية، بموجب شرع الإسلام، وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم، كالزنا واللواط، فالحكم فيه كما في المسلم. وإن شاء الحاكم دَفَعَهُ إلى أهل نحلته، ليقيموا عليه الحدّ فيه، بمقتضى شرعهم.(1)

وممّا يلفت النظر أنّه سبحانه يؤكّد في كثير من الآيات على أنّ أساس القضاء يجب أن يكون ما هو الحقّ أي ما أنزل اللّه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في محكم آياته، وإليك نصّ هذه الآيات:

1. قال تعالى: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً»(2).

2. قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ ».(3)

3. قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ».(4)

4. قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ».(5)

أمّا وصفهم بالكفر فلأنّهم رغبوا عن أحكام اللّه وفقاً لهواهم أو لأجل أخذ7.

ص: 225


1- . شرائع الإسلام: 334/1، في لواحق أهل الذمّة.
2- . النساء: 105.
3- . المائدة: 44.
4- . المائدة: 45.
5- . المائدة: 47.

الرُّشا، فكفروا بكتاب اللّه المنزل وآياته.

وأمّا وصفهم بالظلم فلأنّ القضاء على وفق الهوى وعلى أساس الرشوة يسبّب هضم حقوق الآخرين، فيكون القاضي وفق الرشوة، ظالماً.

وأمّا وصفهم بالفسق فلأنّهم خارجون عن طاعة اللّه سبحانه، والفاسق هو من خرج عن طاعة اللّه عزّ وجلّ .

تمّت دراسة آيات أحكام القضاء

***

ص: 226

الفصل السادس عشر: أحكام الشهادات في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

1. شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد.

2. الأمر بالقسط والشهادة للّه.

3. شهادة الولد على والده.

ص: 227

ص: 228

أحكام الشهادات في الذكر الحكيم

تمهيد

الشهادة اسم من المشاهدة، وهي الاطّلاع على الشيء عياناً، يقال: شهدت الشيء: اطّلعت عليه وعاينته فأنا شاهد، والجمع: أشهاد وشهود.

ومنه قوله سبحانه: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ »(1) وكأنّ المقيم يعاين الشهر، فيجب عليه الصوم، بخلاف المسافر.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفها الشهيد بقوله: إخبار جازم عن حقٍّ لازم للغير واقع من غير حاكم.(2)

وقال أيضاً: الشهادة والرواية تشتركان في الجزم وينفردان في أنّ المخبر عنه إن كان أمراً عامّاً لا يختصّ بمعيّن فهو الرواية كقوله عليه السلام: «لا شفعة فيما لا يُقسم» فإنّه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة، وإن كان لمعيّن فهو الشهادة كقوله عند الحاكم أشهد بكذا لفلان.(3)

ثمّ إنّه يشترط في حجّية شهادة الشاهد أُمور:

1. البلوغ. 2. كمال العقل. 3. الإسلام. 4. الإيمان 5. العدالة.

ص: 229


1- . البقرة: 185.
2- . القواعد والفوائد: 247/1، القاعدة 114.
3- . نفس المصدر يلاحظ.

قلنا: إنّه يعتبر الإسلام والإيمان والعدالة، فلا يحتجّ بقول شاهد يفقد هذه الأوصاف الثلاثة أو واحداً منه، خرج منه صورة واحدة، وهو أنّه إذا حضر الموت وأحسّ الإنسان بموته قريباً ولم يجد مسلماً مؤمناً عادلاً لأن يوصيه، فيجوز الإيصاء للكافر ويكون قوله حجّة وشهادته مقبولة، وهذا هو الذي درسناه في باب الوصية في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ »(1) ، فلا نعود إليه.

ثمّ إنّ الداعي إلى تجديد البحث هو ما ورد في الآية التي بعدها وهو أنّه إذا تبيّن ودلّت القرائن على كذب هؤلاء الشهود، فعندئذٍ يجوز للوارث أن يحتجّ عليهم بما ورد في الآية التالية.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اِسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اِعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ ».(2)

المفردات

ص: 230


1- . المائدة: 106.
2- . المائدة: 107.

عُثر: عثر الرجل على شيء إذا اطّلع على أمر لم يطّلع عليه غيره.

استحقّا: الاستحقاق الاستيجاب، يقال: استحق عليه كأنّه ملك عليه حقّاً.

ما اعتدينا: ما جاوزنا الحقّ فيما طلبناه.

التفسير

اشارة

تفسير الآية رهن بيان أُمور:

1. الآية من الآيات المشكلة حسب اعتراف المفسّرين

نقل الآلوسي عن الشهاب أنّه قال: ليس في القرآن أعظم إشكالاً وحكماً وإعراباً وتفسيراً من هذه الآية والتي قبلها يعني: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا...» * إلخ، وقوله تعالى: «فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا» حتّى صنّفوا فيها تصانيف مفردة، قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحدٌ من عهدتها.(1)

أقول: إنّ الصعوبة في الآية الثانية لا الأُولى، وقد مرّ تفسيرها.

ونقل الطبرسي عن الزجّاج أنّ قوله: «فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا» من أصعب ما في القرآن من الإعراب.(2) ثم قال: «وهذه الآية مع الآية التي قبلها من أعوص آيات القرآن إعراباً ومعنى وحكماً، ولست تجدهما في شيء من مظانّهما أوفر فائدة، وأغزر عائدة، وأجمع علماً، وأوجز لفظاً ومعنى، ممّا لخّصته لك، وسقته إليك وباللّه التوفيق».(3) غير أنّ الآلوسي بخس حقّ الطبرسي، وقال: وافتخر بما

ص: 231


1- . روح المعاني: 68/7.
2- . مجمع البيان: 516/3.
3- . مجمع البيان: 521/3.

أتى فيهما ولم يأت بشيء.(1) واللّه الحاكم.

نعم اعترف الرازي بصعوبة الآية في تفسيره،(2) ونقل عن عمر بن الخطاب أنّه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الحكم.

وقال السيد الطباطبائي: وقد ذكر المفسّرون في تركيب أجزاء الآية وجوهاً كثيرة جدّاً لو ضرب بعضها في بعض للحصول على معنى تمام الآية ارتقت إلى مئين من الصور.(3)

2. وجه كون الآية من أعوص الآيات

إنّ اختلاف القرّاء في موردين سبب ذلك، وإليك بيان الموردين:

1. «اِسْتَحَقَّ » استحقّ ، فقرئ تارة بصيغة المعلوم، كما هي قراءة الجمهور.

وأُخرى بصيغة المجهول.

2. «اَلْأَوْلَيانِ » ، فتارة قرئ تثنية ل (الأوْلى) الذي هو (أفعل التفضيل) فيكون المراد الأولى بالميّت، وأُخرى قرئ بصورة كونه تثنية للأُولى مقابل الثانية.

3. إعراب الآية

أ. قوله: «فَآخَرانِ » مبتدأ خبره «يَقُومانِ مَقامَهُما» ووجه دخول الفاء على المبتدأ لأنّ الجملة جزائية وهي إحدى مسوّغات الابتداء بالنكرة.

ب. «مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » بيان لقوله: «فَآخَرانِ » جاء بعد الخبر،

ص: 232


1- . روح المعاني: 53/7.
2- . لاحظ: تفسير الرازي: 121/12.
3- . الميزان في تفسير القرآن: 198/6.

أعني: «يَقُومانِ مَقامَهُما».

ج. أُريد من الموصول: «اَلَّذِينَ » : أقرباء الميّت.

د. قوله: «اَلْأَوْلَيانِ » فإن كان مأخوذاً من «الأولى» صيغة التفضيل يكون بدلاً من آخران.

كلّ ما ذكرنا من الإعراب على أساس قراءة «اِسْتَحَقَّ » بصيغة المعلوم، التي هي القراءة المشهورة وكون الأولى بصيغة أفعل التفضيل.

وأمّا على القراءة الأُخرى فيتغير تفسير اعراف الآية ويعلم ذلك في التفسير.

4. مضمون الآية

الآية تشير إلى صورة تبيّن كذب الشاهدين وأنّهما لم يؤدّيا تمام التركة، وقد ورد في شأن النزول أنّه كان مع المتوفّى جام من فضّة مخوص بالذهب ولم يكن فيما دفعوا من تركته، فأحلفهما رسول اللّه باللّه: ما كتمتماها ولا اطّلعتما. ثم وجدوا الجام بمكّة. فقيل اشتريناه من تميم وعدي، وعند ذلك يقوم رجلان من ورثة المتوفّى يقسمان باللّه وانّ شهادتهما أحقّ من شهادة ا لسابقين، أي نحن على حقّ وهما على باطل.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

فنقول: نفسّر الآية أوّلاً فيما لو كان الفعل «اِسْتَحَقَّ » بصيغة المعلوم و «اَلْأَوْلَيانِ » تثنية «الأولى» صيغة التفضيل كما هي قراءة المصاحف الموجودة.

ثمّ تفسّر الآية على الوجه الآخر وهو قراءة الفعل «اِسْتَحَقَّ » على صيغة المجهول، وقراءة «اَلْأَوْلَيانِ » تثنية للأولى، وإليك بيان الوجهين:

وقبل بيان الوجهين نشير إلى أنّ محلّ الإبهام هو قوله: «اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ

ص: 233

اَلْأَوْلَيانِ »، وأمّا سائر الفقرات فليس فيه إبهام.

قوله تعالى: «فَإِنْ عُثِرَ» : أي اطّلع «عَلى أَنَّهُمَا» : أي الشاهدين «اِسْتَحَقّا» اكتسبا «إِثْماً» : أي ذنباً بأيمانهما الكاذبة، فعندئذٍ يأتي دور الورثة الذين أظهروا كذب الشاهدين، وهذا ما تتكفّل ببيانه الفقرة التالية.

قوله: «فَآخَرانِ » فشاهدان آخران «يَقُومانِ مَقامَهُما» : أي مقام الأوّلين «مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » بيان لآخران، أي هذان الآخران من أهل الميّت الذين استحقّ عليهم الإثم، فيكون فاعل الفعل لفظة «الإثم» ومعناه: من الذين جُني عليهم وهم أهل الميّت وعشيرته، وعندئذٍ يكون المقام مظنة سؤال: مَنْ هذان الآخران اللّذان يقومان مقام ما قبلهما؟ فيجاب: «اَلْأَوْلَيانِ »: أي الأوليان بالميّت. فإذا قاما مقامهما «فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ » على خيانة الشاهدين وأنّهما «أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما» لاطّلاعهما على حقيقة الحال «وَ مَا اِعْتَدَيْنا» : أي ما تجاوزنا عن الحقّ فيما طلبناه من حقّنا، فإن اعتدينا «إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ » . تمّ التفسير على الوجه الأوّل.

وأمّا تفسير الآية على الوجه الثاني وهو كون الفعل «استحقّ » على صيغة المجهول لكن «الأوليان» تثنية الأُولى ضد الثانية فنقول: قوله تعالى: «فَآخَرانِ » : أي شاهدان آخران «يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » فيكون الموصول أي قوله:

«مِنَ اَلَّذِينَ » بياناً للضمير المتّصل في قوله: «مَقامَهُما» . ومعنى «اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » : أي خانوا بهم. وأمّا من الخائن فهو «اَلْأَوْلَيانِ » : أي الشاهدان الأوّلان. فعلى هذا يكون «اَلْأَوْلَيانِ » بدلاً من فاعل الفعل: أي استحق، ويؤيّد هذه القراءة، قراءة الحسن حيث قرأ «الأولان». ووجه التعبير عن الشاهد المذكّر بالمؤنث أي الأولى باعتبار الشهادة أي الشهادتان الأوليان.

إلى هنا تمّ تفسير الآية على كلتا القراءتين، وأمّا القراءة الثالثة والرابعة، أعني:

ص: 234

قراءة استحق بصيغة المجهول و «الأوليان»، تارة بصيغة التعجّب وأُخرى تثنية الأولى ضد الثانية فنوكله إلى القارئ اللبيب، وبما أنا لا نعتقد بكثرة القراءات وأنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، فالمعتبر هو القراءة الموجودة في المصاحف كلّها.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى فلسفة التشديد بالشهادة في الآية التالية.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِسْمَعُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ ».(1)

التفسير

إنّه سبحانه يشير إلى فلسفة التشديد بالشهادة، ويقول: «ذلِكَ » : أي تكليف المؤتمن على الوصية بالقيام على مشهد من الناس بعد الصلاة وإقسامه تلك الأيمان المغلّظة «أَدْنى » : أي أقرب الوسائل إلى «أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها» بلا تغيير ولا تبديل، وذلك لأحد وجهين:

أ. خوفاً من اللّه ورهبة منه، وهذا مفهوم من قوله: «عَلى وَجْهِها» للّه سبحانه.

ب. خوفاً من الفضيحة، أن يرد أيمان إلى الورثة بعد أيمانهم كما يقول: «أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ » إلى الورثة «بَعْدَ أَيْمانِهِمْ » ، وفي كلا الطريقين يغلق باب

ص: 235


1- . المائدة: 108.

الكذب على الشهداء إمّا خوفاً من اللّه أو خوفاً من الناس، وفي نهاية الآية يخاطب المؤمنين بأمرين:

1. «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ » من الشهادة بالزور.

2. «وَ اِسْمَعُوا» سماع قبول وعمل «وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ » لخروجهم عن طاعة اللّه.

ما يستفاد من الآية

يستفاد من الآية الأُمور التالية:

1. أنّ الشاهد العادل يستحلف، فعلى هذا فما دلّ من عدم استحلاف الشاهد العادل يخصّص بمورد الآية، وهو إذا كان الشاهد العادل ذميّاً في أمر مالي.

فإن قلت: قد اتّفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز إقامة الدعوى بعد الإحلاف، لقوله عليه السلام: «ومَن حلف فليصدق ومَن حلف له فليرض».(1) مع أنّ الذميّين قد حلفا كما في قوله: «فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ » ، ومع ذلك لم يصدق حيث قام الآخران بتكذيبهما.

قلت: فإنّ الحديث مطلق، يخصّص بمورد خاص وهو إذا كان الحالف من أهل الذمّة.

2. انّ التحليف بعد الصلاة على النحو الوارد في الآية دليل على جواز التغليظ في اليمين، ولكن يختصّ بمورد الآية.

3. يستفاد من الآية على ردّ اليمين من المنكر على المدّعي، ولكن في مورد

ص: 236


1- . الكافي: 437/7.

خاص، وهو إذا دلّت القرائن على كذب الشاهد المنكر.(1)

شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد

يقول سبحانه في مسألة التداين: «وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ ».(2)

ولا بُعد في ذلك، فإنّ سهم الرجل ضعف سهم الأُنثى، والرجل أقوى ذاكرة من المرأة، وأقوى أيضاً من سائر الجهات.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»(3).

المفردات

قوّامين: جمع قوّام بمعنى المبالغ في القيام بالشيء، وهذا التعبير أبلغ من أن يقال: كونوا قائمين بالقسط، لأنّ الأوّل يفيد المبالغة دون الثاني.

ص: 237


1- . لاحظ: في الوقوف على الأحكام المستفادة من هذه الآيات: كنز العرفان في فقه القرآن للشيخ جمال الدين المقداد: 100/2-101.
2- . البقرة: 282.
3- . النساء: 135.

بالقسط: أُريد به العدل، وفي كونه عربياً أو دخيلاً في اللغة العربية، كلام بين اللغويين.

شهداء: جمع شهيد، من المشاهدة بمعنى الحضور وهو قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر.(1)

الهوى: ميل النفس إلى الشهوة، ولذلك يُعدّ الهوى مزلة الأقدام.

تلووا: الليّ هو ليّ اللسان، وأُريد به تحريف الشهادة.

التفسير

وجوب اتباع الحق في الشهادة

الآية تأمر باتّباع الحقّ وتنهى عن اتّباع الهوى وميل النفس إلى ما فيه إزاحة للحقوق، فتأمر بالعدل إلى حدّ حتى لو كانت الشهادة مضرّة بحال الشاهد أو بحال الوالدين أو الأقربين، لأقام الشهادة، والآية تتضمّن أُموراً:

1. الأمر بالقسط في الشهادة.

2. أن تكون الشهادة للّه سبحانه.

3. لو تمّت الشهادة على الأنفس والأقربين لأقام الشهادة وإن تمّت على ضرره.

4. تمنع عن ليّ اللسان في الشهادة أو الإعراض عنها، وإليك البيان:

الأوّلان: الأمر بالقسط والشهادة للّه

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ» : أي مستمرّين على

ص: 238


1- . مفردات الراغب، مادة «شهد».

القيام بالعدل على نحو يكون القيام به صفة راسخة في نفوسكم كما يدلّ عليه التعبير بالقوّامين الذي هو آكد الصيغ في الدعوة إلى القسط، ثم إنّه سبحانه رتّب على هذا قوله: «شُهَداءَ لِلّهِ » : أي طلباً لمرضاة اللّه وتقرّباً إليه وهو نتيجة كون الشاهد قوّاماً بالقسط، فليكونوا شهداء طلباً لمرضاة اللّه.

أمّا الثالث: فهو ما يشير إليه بقوله: «وَ لَوْ» تمت الشهادة «عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ » : أي لو توقّف ثبوت الحقّ للمشهود له على الشهادة على الأنفس والوالدين والأقربين تقدّم الشهادة وإن بلغت ما بلغت، نعم أُمر الإنسان ببرّ الوالدين وصلة الأرحام لكنّه مقوّم بما فيه رضا اللّه تبارك وتعالى لا بما فيه سخطه «غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» : أي المشهود عليه.

ثمّ إنّ الإنسان ربما يشهد - ظلماً - لغني طمعاً بغناه، أو لفقير عطفاً ورحمة به، فاللّه سبحانه يمنع عن هذه الشهادة إذا كانت ظالمة، فقال: «إِنْ يَكُنْ » فلا تشهدوا لهما «فَاللّهُ أَوْلى بِهِما» : أي أولى بالغني والفقير، وأرحم بحالهما، ومن رحمته أنّه جعل الحقّ هو المتَّبع، والشهادة لغني طمعاً في ماله أو لفقير رحمة له، تُميت العدل ويتلوه موت الإنسانية، فلأجل ذلك يقول خطاباً للشهداء: «فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى » :

أي ميل النفس إلى ما فيه لذّته وإن كان على خلاف الحقّ «أَنْ تَعْدِلُوا» فيه وجهان:

1. مخافة: أي تنحرفوا عن الحقّ . فأُريد من الفعل «أَنْ تَعْدِلُوا» ، العدول عن الحقّ .

2. «فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى » لغاية أن تعدلوا في الشهادة، فأُريد من الفعل القسط في الشهادة.

أمّا الرابع: من أقسام العدول عن الحقّ الشهادة فهو يتصوّر بصورتين

ص: 239

التاليتين:

1. ليّ اللسان وتحريف الشهادة، كما يقول: «وَ إِنْ تَلْوُوا».

2. الإعراض عن الشهادة ومغادرة المحكمة كما يقول: «أَوْ تُعْرِضُوا».

فالفقرتان جملة شرطية حذف جزاؤهما، ولعلّه قوله: فيجازيكم عليهما، قام مقامه قوله: «فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً».

والآية مشهد من المشاهد المشرقة في القوانين الإلهية حيث يأمر باتّباع الحقّ وينهى عن اتّباع الهوى وميل النفس بما فيه إزاحة للحقوق، فيأمر بالعدل إلى حدٍّ حتى لو كانت الشهادة مضرّة بحال الشاهد أو بحال الوالدين أو الأقربين، ولا يقوم الشاهد بهذا العبء الثقيل إلّامَن كان اتّباع العدل ملكة راسخة في نفسه، وأمّا غيره، فيقوم بأحد أمرين: إمّا بليّ اللسان وتحريف الشهادة، أو تركها أساساً، انظر كيف أتى هذا النبي الأُمّي بهذا التقنين المشرق الذي لا يُدرس ولا يُنسخ، بل يبقى بقاء الدهر والزمان إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وما هذا إلّالأنّ الآية وحي من اللّه سبحانه على قلب سيد المرسلين.

ثمّ إنّ الآية وإن لم تذكر شرطية العدالة في الشاهد؛ بل اكتفت بلزوم الشهادة على الحقّ ولو على نفسه وأقاربه، ولكن تقدّم قولِه سبحانه: «كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ» يُعد دليلاً على اعتبارها في الشاهد، فإنّ القوّامين بالقسط لا ينفكّون عن العدالة، مضافاً إلى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ »(1) . وإلى ما في صحيح عبد اللّه بن يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: بم تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى6.

ص: 240


1- . المائدة: 106.

تقبل شهادته لهم وعليهم ؟(1)، فإنّ السؤال ظاهر في مفروغية شرطية العدالة، وإنّما طلب الراوي أن يتعرّف على طريقها.

شهادة الولد على والده

صريح قوله سبحانه: «شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ » جواز شهادة الولد على الوالدين، ولكن الظاهر من غير واحد من فقهائنا عدم الجواز، كالشيخ المفيد في مقنعته،(2) والسيد المرتضى في انتصاره،(3) إلى غير ذلك من الفقهاء.

وهذا يدلّ على وجود شهرة فتوائية بين القدماء، وكأنّهم اعتمدوا في منع شهادة الولد على الوالد على قوله سبحانه: «وَ صاحِبْهُما فِي اَلدُّنْيا مَعْرُوفاً»(4) بدعوى أنّ رد قول الوالد وتكذيبه، يضاد المصاحبة بالمعروف، واعتمدوا على أنّه نوع عقوق، والجميع كماترى، لا يعادل صريح الكتاب، أمّا المصاحبة بالمعروف أو الاجتناب عن العقوق فهو ناظر إلى ما هو مباح وحلال بالذات، فلو كان ارتكاب الحلال، على خلاف المصاحبة بالمعروف أو موجباً للعقوق فيتغيّر حكمه بعنوان ثانوي فيكون ممنوعاً، وأمّا المحرّم كترك الشهادة، أو الواجب كالشهادة على خلاف مصالحهما عن حقّ ، فلا يتغيّر حكمهما وإن استلزما خلاف المصاحبة بالمعروف أو أدّت إلى العقوق.

ونظير المقام، النذر فإنّ العمل به واجب للّه إذا كان المنذور حلالاً، دون ما

ص: 241


1- . الوسائل: 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.
2- . لاحظ: المقنعة: 726.
3- . لاحظ: الانتصار: 244.
4- . لقمان: 15.

إذا كان حراماً، فلا يوصف بالحلال لأجل تعلّق النذر به.

حاصل الكلام: أنّ الحرام أو الواجب لا ينقلب عمّا هو عليه بهذه الطوارئ والعوارض.

الآية الرابعة

«يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ »(1).

ومفاد الآية، نفس الآية السابقة فلا حاجة إلى التفسير.

الآية الخامسة

«وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ».(2)

تدلّ الآية على حرمة كمال الشهادة صريحاً، ويستفاد الحرمة من الآيات السابقة أيضاً، وقد مرّ بيان الآية في مبحث الدين.

ص: 242


1- . المائدة: 8.
2- . البقرة: 283.

الفصل السابع عشر: الحدود في الذكر الحكيم

اشارة

1. حدّ الزنا

2. حدّ القذف

3. حدّ السرقة

4. حدّ المحارب

ص: 243

ص: 244

الحدود

اشارة

سُمّيت أحكام اللّه حدوداً لأنّها خطوط يحرم تجاوزها، يقول سبحانه: «تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها»(1) ، وقال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ »(2) ، وقال أيضاً: «اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ »(3).

والحدّ في مصطلح الشرع عبارة عن: العقوبة التي عيّنها الشارع كمّاً وكيفاً في مورد العصاة، وهو في مقابل التعزير عقوبة لا تقدير لها بأصل الشرع؛ بل أوكلها الشارع إلى نظر الحاكم. وعلى هذا فالحدّ والتعزير تأديبان مقدّر وغير مقدّر. وتظهر الثمرة بينهما في الأُمور التالية وهو اختصاص الحدّ بأُمور:

1. درء الحدّ بالشبهة.

2. عدم اليمين في الحدّ.

3. عدم الكفالة فيه.

4. للإمام العفو عن الحدّ الثابت بالإقرار دون البيّنة.

5. عدم الشفاعة فيه.

ص: 245


1- . البقرة: 187.
2- . البقرة: 229.
3- . التوبة: 97.

وقد دلّت السنّة الشريفة على هذه الخصوصيات في الحدّ دون التعزير، كما دلّت على أنّ التعزير يجب أن يكون دون الحدّ.

ونحن ندرس الحدود التي وردت في الذكر الحكيم، وأمّا ما ورد في السنّة فهو موكول إلى الكتب الفقهية.

ص: 246

الحدود والتعزيرات

1 حدّ الزنا

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ».(1)

المفردات

الزانية: من الزناء وهو من المفاهيم العرفية الواضحة التي لا يتأمّل في فهم معناها أحد من الناس، فلا تحتاج إلى التعريف.

وقد روي أنّ ماعز بن مالك لمّا أقرّ بالزنا أربعاً، قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أتعرف الزنا؟ فقال: هو أن يأتي الرجل حراماً كما يأتي حلالاً.(2)

ومع ذلك فقد عرّفه المحقّق بقوله: إيلاج الرجل ذكره في فرج امرأة محرّمة

ص: 247


1- . النور: 2.
2- . جواهر الكلام: 260/41، والحديث مرويّ عن طريق العامّة. لاحظ سنن البيهقي: 237/8.

من غير عقد ولا ملك ولا شبهة، ويتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة قبلاً أو دبراً.(1)

فقوله: «من غير عقد...» تفسير للمحرّمة.

فاجلدوا: الجَلد: ضرب الجِلْد، والجِلْد قشر البدن، وقد شاع فعل الثلاثي من أسماء الأعيان يقال: رأَسَه وظَهَره وبَطَنه إذا ضرب رأسه وظهْره وبطْنه، وعلى كلّ تقدير فالمراد بالجَلد هو الضرب بالسوط.

جَلدة: مصدر بمعنى ضربة.

رأفة: أشدّ الرحمة.

دين اللّه: حُكم اللّه.

التفسير
اشارة

تضمنّنت الآية أحكاماً ثلاثة:

1. جلدهما مائة جلدة

فرض اللّه سبحانه على: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي» الحدَّ، وبيّنه بقوله: «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » ولعلّ الحكمة في تقديم الزانية على الزاني هي أنّ الزنا المستحقّ للحدّ لا يمكن أن يتمّ إلّابموافقة المرأة، إذا لم يكن بإكراه الرجل لها، فتكون والحالة هذه سبب الإثم فاستحقّت أن تُذكر قبل الرجل.(2) وقدّم العنوان على الحكم وقال: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا» لأنّ في تقديم العنوان إيجاد رغبة لسماع الحكم، نظير قوله تعالى: «وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما»(3).

ص: 248


1- . شرائع الإسلام: 149/4.
2- . التفسير الحديث: 364/8.
3- . المائدة: 38.

ثم إنّ الآية تخاطب المؤمنين بإجراء الحدّ كما هو الحال أيضاً في آية السرقة، وهذا يدلّ على أنّ للمجتمع، مع غضّ النظر عن الفرد، موضوعية في الأحكام يُخاطَب ويؤمر بشيء من الأحكام.

فإن قلت: المجتمع أمر اعتباري محض ولا واقعية له.

قلت: ما ذكرته صحيح إذا نظرنا إليهما (أعني: الأفراد والمجتمع)؟! بمنظار فلسفي، فللفرد وجود وليس للمجتمع وجود آخر وراء وجود الأفراد.

وأمّا إذا نظرنا إليهما من منظار التقنين والتشريع فيصحّ أن يقال: إنّ للمجتمع في عالم الحقوق واقعية وله وعليه أحكام، وبما أنّ الزنا كان جريمة بحقّ المجتمع، لذلك أُمر بأن يقيم الحدّ على مرتكبي هذه الفاحشة. نعم، الأحكام المتوجّهة إلى المجتمع إنّما يقوم بها الحاكم نيابة عن الجميع.

ثم إنّ إطلاق الآية يعمّ الأعزب والمتزوّج، وبتعبير آخر: المحصَن وغير المحصَن، وأُريد بالمحصَن البالغ العاقل المتزوّج المتمكّن من وطء زوجته متى شاء. ولكن الحكم في الآية مختصّ بغير المحصَن، أي غير المتزوّج أو المتزوّج الّذي ليس له هذا الشأن. وعلى هذا فإطلاق الآية مقيّد بإجماع المسلمين فيكون الجلد مختصّاً بغير المحصَن وغير المحصَنة، وأما حُكم هذين فهو الرجم حسب السنّة، ولم يأت في القرآن.

ثم إنّ الزنا في مصطلح الجاهلية يقابل البغاء، فلو كان العمل الشنيع بداعي المحبّة وبلا عوض فيسمّونه بالزنا، وأمّا لو كان بداعي العوض فهو البغاء، وإلى هذا القسم يشير قوله سبحانه: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ

ص: 249

تَحَصُّناً»(1) وكان هذا في الإماء أكثر، وكانت الطائف والمدينة تعجّان بذوات الأعلام، وهنّ اللواتي كنّ ينصبن على بيوتهن أعلاماً تدلّ على أنّها بيوت مَن يكتسبن بأعمال الفجور (البغايا).

روى أبو موسى المديني عن تمام بن جُراشة الثقفي، قال: قدمت على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط، فقال:

اكتبوا ما بدا لكم ثم إيتوني به، فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الرِّبا والزِّنا، فأبى عليّ رضى الله عنه أن يكتب لنا، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص فقال له عليّ : تدري ما تكتب ؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أَولى بأمره. فذهبنا بالكتاب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال للقارئ: إقرأ، فلمّا انتهى إلى الرِّبا قال: ضع يدي عليها في الكتاب فوضع يده فقال: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا»(2) ، ثم محاها وأُلقيت علينا السكينة فما راجعناه، فلمّا بلغ الزِّنا وضع يده عليها «وقال»:

«وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً »(3) ثم محاه وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا.(4)

ففي هذه الأجواء الفاسدة نزل قوله سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » وما هذا إلّالصيانة المجتمع من الفساد والضلال.

2. إجراء الحدّ بلا نقص ولا زيادة

ربّما تستولي الشفقة على مَن يُجري الحدّ فينقص من المئة شيئاً بتصوّر أنّه

ص: 250


1- . النور: 33.
2- . البقرة: 278.
3- . الإسراء: 32.
4- . أُسد الغابة: 1/216.

يعمل إحساناً للمجلود، غافلاً عن أنّه خيانة للمجتمع؛ لأنّ التخفيف ربّما يغري المجرم بارتكاب العمل مرّة أُخرى، ولذلك يقول سبحانه: «وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ» والمراد من قوله: «فِي دِينِ اَللّهِ » : أي في شريعة اللّه وأحكامه، وتقدير الآية: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ... وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ .

روى الرازي في الحديث: يؤتى بوالٍ نقص من الحدّ سوطاً، فيقال له: لِمَ فعلت ذلك ؟ فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم منّي ؟! فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمَن زاد سوطاً فيقال له: لِمَ فعلت ذلك ؟ فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيقول: أنت أحكم به منّي ؟! فيؤمر به إلى النار.(1)

إنّ تنفيذ الأحكام الإلهية حسب ما أمر اللّه تعالى أوضح دليل على إيمان مَن يقوم بتنفيذها، بالوحي وبمن جاء به، كما أنّ التدخّل في تشريعه والتأثّر بالعاطفة أمام النصّ ، أوضح دليل على ضعف الإيمان بالوحي وبمن جاء به.

3. إجراء الحدّ في مشهد علنيّ

هذا هو الحُكم الثالث بعد الحُكمين اللّذين مرّا من الجلد وعدم الخضوع للعاطفة، وهو أن يقام الحدّ بحضور جمع من الناس، كما يقول: «وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ » ، وما هذا إلّالأنّ إجراء الحدّ خفاءً وإن كان يؤثّر على المجرم ولكن لا يتّعظ به غيره ممّن غاب عن إجراء الحدّ، وذلك لأنّ حضور عدد من المؤمنين معاقبة الزاني سوف يؤدّي إلى شيوع الخبر بانتقاله من جماعة إلى أُخرى، الأمر الذي يساهم في ردع الآخرين عن ممارسة هذه الفاحشة، وبذلك

ص: 251


1- . تفسير الرازي: 23/149.

يصان المجتمع من العدوان على كرامته، ومن الفوضى والفساد، ومن أهمّ عوامل التفكّك والانحلال، ولذلك أوجب سبحانه حضور عدد من المؤمنين في ساحة إجراء الحدّ.

وربّما يتصوّر أنّ حضور ذلك العدد يوجب إهراق ماء وجه الزاني الذي ربّما لم يطّلع على فعلته أحد، فإحضار الجماعة على طرف النقيض من صيانة كرامته، ولكن الإجابة واضحة؛ لأنّ الكلام فيمن ثبتت جريمته بالبيّنة، أعني:

شهادة أربعة، ولابدّ في قبول الشهادة به من التصريح بالمشاهدة لوقوع الفعل على وجه لا ريبة فيه بأن يشهدوا بمعاينة الإيلاج، فهذا الزاني هو الذي أراق ماء وجهه بيده، وخرق ستره، قبل أن يريقه غيره.

وعلى كلّ تقدير فما جاء في هذه الآية من الأحكام الثلاثة أحكام فرضها اللّه سبحانه، ومن حسن الحظ أنّها جاءت في سورة سُمّيت بسورة النور.

الآيتان: الثانية والثالثة
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».(1)

ص: 252


1- . النساء: 15-16.
المفردات

اللّاتي: جمع الّتي، جمع سماعي.

يأتين: أي يفعلن، يقال: أتى الصلاة أي صلّاها، قال الأعشى:

ليعلم كل الورى أنّني ***أتيت المروءة من بابها(1)

الفاحشة: الفعل الشديد القبح كالزنا، واللواط، والسحاق.

حتى يتوفاهنّ الموت: حتى يأخذهن الموت، وقد طرح الرازي هنا سؤالاً وقال:

ما معنى يتوفاهنّ الموت، والموت والتوفّي بمعنى واحد، فصار في التقدير أو يميتهن الموت، ثم أجاب بأنّ المراد حتى تتوفاهنّ ملائكة الموت، كقوله: «اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ »2.(2)

يلاحظ عليه: أنّ التوفّي ليس بمعنى الإماتة، بل هو بمعنى الأخذ، يقال: توفّيت ديني أي أخذته بكماله، قال سبحانه: «اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها»(3) ترى أنّه سبحانه يستعمل التوفّي في صنفين: مَن كتب عليه الموت، ومَن نام ولم يكتب عليه الموت، فكلا الصنفين ممّن تعلّق به التوفّي، فلو كان بمعنى الإماتة فلا معنى لتعلّقه بالصنف الثاني، أعني: النوم. كلّ ذلك دليل على أنّ التوفّي بمعنى الأخذ، فيكون معنى «حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ » حتى يأخذهنّ الموت.

ص: 253


1- . ديوان الأعشى: 173، طبع مصر.
2- . تفسير الرازي: 233/9.
3- . الزمر: 42.

ومن هنا يعلم مفاد قوله سبحانه حاكياً عن عيسى «فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ»(1) . حيث إنّ المراد من قوله: «تَوَفَّيْتَنِي» هو الأخذ: أي لما أخذتني وهو لا يلازم الموت ويكفي في رفعه إليه حيّاً وبقاؤه كذلك إلى أن ينزل عند خروج الإمام الثاني عشر عجّل اللّه فرجه الشريف.

التفسير

اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير الآيتين على قولين:

القول الأوّل: حمل الآية الأُولى على المساحقة، والآية الثانية على اللواط.

القول الثاني: حمل الآية الأُولى على زناء المحصنات أي ذوات الأزواج، وحمل الآية الثانية على زنا المرأة والرجل من غير إحصان.

فعلى القول الثاني فالآيتان لهما صلة بالموضوع بخلاف القول الأوّل، فإنّ الآيتين لا صلة لهما بالزنا؛ بل ناظرتان إلى المساحقة واللواط، وإليك كلا التفسيرين.

تفسير الآيتين على وفق القول الأوّل

«وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ » الفاحشة وإن كانت تطلق على الزنا واللواط والسحاق ولكنّ تخصيص الموضوع بالنساء حيث قال: «مِنْ نِسائِكُمْ » يكون هذا دليلاً على أنّ العمل الشنيع قائم بهنّ فقط، فيحمل على المساحقة. فلإجراء الحدّ المناسب لظروف نزول الآية هو أنّه سبحانه يأمر بالاستشهاد ويقول: «فَاسْتَشْهِدُوا

ص: 254


1- . المائدة: 117.

عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ » فإن لم يشهدوا خُلِّي سبيلهن «فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ » وأُريد من البيوت البيوت المسكونة تحت نظر العائلة، خلافاً لابن عاشور الذي قال: المراد بالبيوت، البيوت التي يعيّنها ولاة الأمر لذلك، وليس المراد إمساكهن في بيوتهن.(1)

لكنّه خلاف إطلاق الآيتين وخلاف الظروف التي نزلتا فيها، إذ لم يكن عند نزولهما بيوت خاصّة تحت نظر ولاة الأُمور، وإنّما حدث ذلك بعد مضيّ سنين.

ثمّ إنّهنّ محكومات بالإمساك في البيوت لا الحبس المؤبّد، إذ بينهما فرق واضح فهنّ محكومات بالإمساك إلّاأن يشاء اللّه، أعني: «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» بأن يسهل اللّه لهنّ قضاء الشهوة عن طريق النكاح، أي بأن تتزوّج ويسهّل اللّه لها قضاء الشهوة عن هذا الطريق، فيكون «أو» بمعنى «إلّا».

وأمّا الآية الثانية فبما أنّ الآية تتحدّث عن العمل المختصّ بالذكر فيدلّ على أنّ العمل الشنيع قائم بهم فقط، فيحمل على اللواط أعني قوله تعالى: «وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها» اللواط «مِنْكُمْ » . وأمّا الجزاء «فَآذُوهُما» بالقول والفعل «فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».

فعلى ما ذكر تكون الآية الأُولى ناظرة إلى مساحقة النساء، والثانية إلى لواط الرجال. فجزاء الأُولى الإمساك في البيت، وجزاء الثاني: الإيذاء بالقول والفعل.

وهذا ما روي عن أبي مسلم واختاره صاحب المنار وقال: فالحقّ إنّ ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين.(2)4.

ص: 255


1- . التحرير والتنوير: 57/4.
2- . لاحظ: تفسير المنار: 439/4.

نعم نقله الرازي أيضاً مع ما يؤيّده وما يردّه من دون ترجيح لأحد الطرفين.(1)

***

ملاحظات حول القول الأوّل

إنّ هذا التفسير - وإن كان ربما يوافق في بدء النظر ظاهر الآيتين - إلّاأنّه غير خال عن الإشكال.

يلاحظ عليه أوّلاً: إذا كان المراد من الفاحشة هو المساحقة فلماذا جاء الموصول في الآية الأُولى بصيغة الجمع وفي الثانية بصيغة التثنية والسحق قائم باثنتين منهنّ ، كما أنّ اللواط أيضاً قائم باثنين منهم ؟!

وثانياً: أنّ الفاحشة وإن كانت بمعنى الفعل الشنيع القبيح وهو حسب الظاهر يشمل الزنا واللواط والمساحقة، غير أنّه لم يستعمل في القرآن إلّافي الأوّلين.

أمّا الأوّل، فقوله سبحانه: «وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً».(2) وأمّا الثاني، فقوله سبحانه: «وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ »(3) ، وحملها في الآية الأُولى على خصوص المساحقة يحتاج إلى دليل قاطع وإن كان اللفظ بمفرده مع قطع النظر عن الآيات يشملها بإطلاقه.

وثالثاً: إذا فسّرت الآية الأُولى بالمساحقة والثانية باللواط يلزم أن يكون حكم اللواط أسهل عقوبة من الأُولى حيث جاء فيها «فَآذُوهُما» وفسّر الإيذاء

ص: 256


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 231/9.
2- . الإسراء: 32.
3- . النمل: 54.

بالتعيير باللسان والضرب بالنعال.(1) وأين هذان العملان من إمساك المرأة في البيوت إلى أن يُجعل لها سبيلاً؟!

رابعاً: أنّ لازم ذلك أنّ الآية لم تهتم بالعمل الشنيع الشائع عصر نزول الآية، أعني: الزنا، وإنّما اهتمّت بغير الشائع. وإن اهتمّ به بعده في سورة أُخرى بقوله: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ »(2).

خامساً: أنّ هذا التفسير يخالف ما تضافرت الروايات التي ستوافيك في التفسير الثاني عليه. حتّى أنّ الطبرسي عدّ هذا القول مخالفاً للإجماع ولما عليه المفسّرون.(3)

تفسير الآيتين وفق القول الثاني

إنّ الآية الأُولى تتضمّن بيان حكم زنا المحصنات أي ذوات الأزواج، دون الرجال يدلّ عليه تخصيص الآية النساءَ بالذكْر دون الرجال، وإطلاق النساء على الأزواج شائع في اللغة، وخاصّة إذا أُضيفت إلى الرجال كما في قوله: «نِسائِكُمْ » في نفس الآية، وقوله: «وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً »(4) ، وقوله: «مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ »(5) فالنساء ذات الأزواج حكم عليهن بالإمساك في البيوت، «حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ » لئلّا تنتشر الجريمة في أوساط المجتمع، وعلى هذا ليس الحبس جزاء بل سد لانتشار الجريمة «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» بتشريع حكم،

ص: 257


1- . مجمع البيان: 46/4.
2- . النور: 2.
3- . مجمع البيان: 20/3.
4- . النساء: 4.
5- . النساء: 23.

وعلى ماذكرنا فليست الآية منسوخة لما عرفت من فلسفة الحبس.

وأمّا الآية الثانية فناظرة إلى حكم زنا المرأة والرجل من غير إحصان، فحكم عليه بالإيذاء، وهو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول.

والذي يدل على أنّ الآية الأُولى ناظرة إلى المحصنات من النساء حتى يتوفاهنّ الموت، والآية الثانية إلى غير المحصنين هو تشديد العقوبة في الأُولى دون الثانية، ولأجل هذا صار القول المشهور هو أنّ الآية الأُولى للمحصنات والثانية لغير المحصنين، فيكون المراد من «اللذان» هما الرجل والمرأة، غير المحصنين.

وبما ذكرنا يظهر وجه الجمع في الآية الأُولى، والتثنية في الآية الثانية.

فإنّ الموضوع في الآية الأُولى هو خصوص المحصنات من النساء فقط، دون الرجال منهم بشهادة أنّ الجزاء (الإمساك في البيوت) يختصّ بهنّ ولا يشمل الرجال المحصنين بمعنى انّ الآية ساكتة عن حكمهم فلزم التعبير عنهنّ بالجمع.

ولكن الموضوع في الآية الثانية، هو الزنا بغير إحصان وهو قائم بالطرفين، فعبّر عنها بالتثنية وقال: «اللَّذانِ » تغليباً للرجال على النساء والجزاء بالتعبير وهو يشملهما.

إنّ هذا التفسير تؤيّده الروايات من الفريقين وقد تضافر عنه صلى الله عليه و آله و سلم: قوله:

عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول اللّه إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد(1) وجهه «فأنزل اللّه عليه» ذات يوم فلمّا سرى عنه قال: «خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلاً، الثيّب جلد مئة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مئة ثم نفيه.

ص: 258


1- . كرب من الكرب قال: ونجيناه (نوح) من الكرب العظيم بمعنى الغم، وتربّد أي تغير وجهه.

سنة». وقد روى السيوطي في هذا المضمون روايات كثيرة لا يمكن تركها والاكتفاء بظاهر الآية.(1) والظاهر أنّه قد أُريد بالثيب المحصنة، لا مطلق الثيبوبة إذ لم تكن ذات زوج.

وأمّا من طرقنا فنكتفي برواية واحدة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

سألته عن هذه الآية «وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ » ، قال: «هذه منسوخة» أي بحكم الرجم. إلخ.(2)

ثمّ إنّ حول الآيات بحوث استوفينا بيانها في تفسيرنا «منية الطالبين» فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.(3)

وبما ذكرنا يظهر أنّه لم يرد حدّ السحق واللواط في القرآن الكريم إلّاعلى القول بالتفسير الأوّل، والمفروض أنّه غير معمول به.

***6.

ص: 259


1- . لاحظ: الدر المنثور: 455/2-457.
2- . تفسير العياشي: 227/1 برقم 61.
3- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: تفسير سورة النساء، الآيتين 15-16.

الحدود والتعزيرات

2 حدّ القذف

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ».(1)

المفردات

يرمون: يقذفون.

المحصنات: العفائف.

التفسير

لمّا بيّن سبحانه حكم الزاني والزانية من حيث العقوبة، بدأ سبحانه ببيان حكم ثانٍ من الأحكام المفروضة، والغاية من هذا الحكم حفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات من عبث مَن قد يستغلّ عقوبة الزاني والزانية فيتّهم العفائف

ص: 260


1- . النور: 4.

بهذا العمل الشنيع وبذلك يسقطهنّ من أعين الناس، فلأجل سدّ هذا الباب في وجوه هؤلاء الذين يسيئون الظنّ أو يطلقون التُّهم جُزافاً، قال: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ».

إنّ البيّنة حجّة في الدعاوي والمرافعات، ولكنّ الشريعة الإسلامية شرطت في ثبوت الزنا أربعة شهداء مع أنّه يكفي في ثبوت القتل شهادة عدلين، ولعلّ الوجه فيه أنّ الناس يتعجّلون في الرمي بالزنا بخلاف القتل، ولذلك شدّدت الشريعة على الشهادة في هذا الأمر حفاظاً على حرمات الناس وصيانة لسمعتهم؛ مضافاً إلى ما ورد في رواية إسماعيل بن حمّاد عن أبي حنيفة، قال: قلت لأبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام: أيّهما أشدّ الزنا أم القتل ؟ قال: فقال: «القتل». قال: فقلت: فما بال القتل جاز فيه شاهدان ولا يجوز في الزنا إلّاأربعة ؟ فقال لي: «ما عندكم فيه يا أبا حنيفة ؟» قال: قلت: ما عندنا فيه إلّاحديث عُمر أنّ اللّه أجرى في الشهادة كلمتين على العباد، قال: «ليس كذلك يا أبا حنيفة ولكن الزنا فيه حدّان ولا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد، لأنّ الرجل والمرأة جميعاً عليهما الحدّ، والقتل إنّما يقام الحدّ على القاتل، ويدفع عن المقتول».(1)

ثم إنّه سبحانه حكم على هؤلاء الذين يتلاعبون بسمعة النساء اللّواتي ربّما يكنّ طاهرات إلى آخر العمر بعقوبات ثلاث:

1. «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ».

2. «وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً».

3. «وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ».4.

ص: 261


1- . تفسير نور الثقلين: 3/574.

فهذه العقوبات بين ما هي عقوبة مادّية، أو عقوبة معنوية. أمّا الأُولى فهي الجلد ثمانين جلدة «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » ليذوق القاذف ألم السِّياط كما آلم العفائفَ باتّهامهنّ بالزِّنا.

وأمّا الفقرة الثانية فهي عقوبة معنوية وإليها يشير قوله سبحانه: «وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» فلا تقبل شهادتهم في الموضوعات التي لا تثبت إلّابالبيّنة العادلة، كحضورهم في الطلاق أو شهادة على رؤية الهلال أو غير ذلك.

وأمّا الفقرة الثالثة - أعني قوله تعالى: «وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ » - فهل هي عقوبة ثالثة أو تعليل للعقوبة الثانية ؟ وتظهر الثمرة فيهما - لو قلنا هي عقوبة ثالثة - فيما لو تاب، فعندئذٍ يزول فسقه وتترتّب عليه آثار العدالة، ولكن لا تُقبل شهادته لأنّها عقوبة مستقلّة لا تدور حول الفسق، وأمّا لو قلنا بأنّ الفقرة الثالثة ليست عقوبة مستقلّة بل هي تعليل لعدم قبول الشهادة فعندئذٍ يدور عدم قبول شهادته مدار صدق الفسق، فإذا زال الفسق زال عدم القبول، وجهان. وسيوافيك ما هو المختار.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».(1)

المفردات

أصلحوا: أصلحوا أعمالهم.

ص: 262


1- . النور: 5.
التفسير

للاستثناء في هذه الآية احتمالات ثلاثة:

1. أنّ قوله: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا» يرجع إلى العقوبات الثلاث، فإذا تاب وأصلح يرتفع عنه الجلد وتقبل شهادته ويحكم عليه بالعدالة. وهذا الوجه لم يقل به أحد.

2. أنّه يرجع إلى الأخيرين، فلو تاب تُقبل شهادته ويُحكم عليه بعدم الفسق.

3. أنّه يرجع إلى الأخير فلو تاب وأصلح يُحكم عليه بعدم الفسق فتجوز الصلاة وراءه ويُقبل قضاؤه ولكن لا تقبل شهادته أبداً، وهذا هو الظاهر.

وقلنا: هذا هو الظاهر؛ لأنّ الفقرة الثانية قيّدت بالتأبيد، أعني قوله:

«أَبَداً» ، وما ذلك إلّالأجل صيانة كرامة الناس حتى لا يعجل أحدٌ في رمي مؤمن أو مؤمنة بالفجور بلا دليل.

ولكن الظاهر من غير واحدة من الروايات الصحيحة قبول شهادته بالتوبة.

روى الكليني بسند صحيح عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبداللّه [الصادق] عليه السلام عن القاذف بعدما يُقام عليه الحدّ، ما توبته ؟ قال: «يكذّب نفسه».

قلت: أرأيت إن كذّب نفسه وتاب، أتُقبل شهادته ؟ قال: «نعم».

وروى أيضاً عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّاً ثم يتوب ولا يعلم منه إلّاخير، أتجوز شهادته ؟ قال:

«نعم»، ما يقال عندكم ؟ قال: يقولون: توبته فيما بينه وبين اللّه، ولا تقبل شهادته أبداً، فقال: «بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب ولم يعلم منه إلّاخير، جازت

ص: 263

شهادته».(1) ولو صحّت الروايتان يحمل التأبيد على ما إذا لم يتب.

بقي الكلام في قوله تعالى: «وَ أَصْلَحُوا» ، فما هو المراد منه ؟

يقول السيد الطباطبائي: أي أصْلَحوا أعمالهم، ويُحتمل أن يراد أنّه يكذّب نفسه عند الحاكم؛ ففي مرسلة يونس [بن عبد الرحمن] قال: يجيء فيكذِّب نفسه عند الإمام ويقول: قد افتريت على فلانة ويتوب ممّا قال.(2) إذ لا تُعاد كرامة مَن توجّهت لها التهمة - حتّى وإن أُقيم عليه الحدّ - إلّابتكذيب القاذف نفسه.7.

ص: 264


1- . الوسائل: 18، الباب 36 من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 1 و 2؛ ولاحظ سائر روايات الباب، وكذا روايات الباب 37.
2- . الوسائل: 18، الباب 36 من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 4؛ ولاحظ روايات الباب 37.

الحدود والتعزيرات

3 حدّ السرقة

الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».(1)

المفردات

فاقطعوا: القطع يستعمل تارة في فصل العضو عن مكانه، وأُخرى في جرحه كما في قوله تعالى: «فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ».(2) وأُريد في المقام، الوجه الأوّل.

أيديهما: جمع اليد، وهو عضو من بدن الإنسان يطلق إمّا على الأصابع، أو الكف، أو المجموع من المرفق إلى أطراف الأصابع، بل ربما يطلق على المجموع ابتداء من المنكب، وعلى ذلك فالآية تكون مجملة من حيث موضع القطع، ولا

ص: 265


1- . المائدة: 38-39.
2- . يوسف: 31.

يعلم ما هو الواجب إلّابالسنة.

نكالاً: النكل: المنع، ويطلق على قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين ويكون المراد عبرة للآخرين ومانعاً عن ارتكابهم. قال الخليل: النكال اسم لما جعلته نكالاً لغيره إذا بلغه، أو رآه خاف أن يعمل عمله.(1)

التفسير
اشارة

قبل الدخول في تفسير الآيتين نذكر النكات المهمّة التالية:

أوّلاً: الظاهر أنّ «الواو» استئنافية وكلّ من «السارق والسارقة» مبتدأ، خبرهما «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» ، وأمّا وجه دخول الفاء في الخبر، لأنّ اللام في المبتدأ لام الموصول، فكأنّه قال: مَن سرق، أو مَن سرقت فاقطعوا أيديهما، وقد قُرر في محلّه أنّ المبتدأ إذا تضمّن معنى الشرط يجوز دخول الفاء في خبره.

ثانياً: أنّ الأيدي جمع اليد وأُضيف إلى التثنية، ولو أخذنا بظاهره يجب قطع كلتا اليدين من كلّ من السارق والسارقة، غير أنّ الظاهر أنّ الإتيان بصيغة الجمع لأجل تعدّد المورد، فلو سرق أربعة أشخاص وقطعت يد كلّ واحد منهم لصدق أنّه قطعت أيديهم.

ثالثاً: أنّ الخطاب في قوله سبحانه: «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» في الواقع موجّه للحاكم الشرعي، وتوضيح ذلك: أنّ في نظام الإسلام أمرين:

1. أُمور فردية كالصلاة والصيام وإكرام الوالدين، إلى غير ذلك من الأُمور المطلوبة من الفرد.

2. سلسلة تكاليف وواجبات موجهة إلى المجتمع الإسلامي، فاللّه سبحانه

ص: 266


1- . العين للفراهيدي: 372/5، مادة «نكل».

يأمر المجتمع بقوله: «وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» كما يأمر بجلد الزاني والزانية ويقول: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ »(1) ، كما يأمر بالمرابطة والدفاع عن ثغور الوطن الإسلامي ويقول: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا»(2) ، ويأمر بقتال البغاة والطغاة حتى يفيئوا إلى الحقّ ويكفّوا عن البغي، قال سبحانه: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ »(3) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تأخذ المجتمع الإيماني موضوعاً للحكم، ومن المعلوم أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن القيام بها وأداؤها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز مقتدر يتولّى تنفيذها، وهذا يوجب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل حكومة تتقبّل مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعية الإسلامية، والوظائف المتوجّهة إلى المجتمع أساساً، صيانة للمجتمع من الانهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّاالهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

كلّ ذلك إذا لم يكن هناك حاكم منصوص من اللّه سبحانه، كالنبيّ والإمام لقوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ »(4) وإلّا فلا تصل النوبة إلى المجتمع، وبما أنّ المجتمع غير6.

ص: 267


1- . النور: 2.
2- . آل عمران: 200.
3- . الحجرات: 9.
4- . الأحزاب: 36.

عارف بالحدود الشرعية للحكومة، يجب أن يكون النظام مؤيداً بفقيه جامع للشرائط عارف بالكتاب والسنّة والظروف السائدة على المجتمع، فتكون الحكومة شعبية من جانب وإلهية من جانب آخر، والتفصيل في محلّه.

رابعاً: ذكر السارق والسارقة لئلّا يتوهّم أنّ الحكم مختصّ بالرجال دون النساء، وقدّم الرجال على النساء، لأنّ هذه الجريمة ممّا يُقدم عليها الرجال أكثر من النساء، على خلاف الزنا. والآية تتضمّن حكماً جزائياً لكلّ من السارق والسارقة لأجل استقرار الأمن المالي في المجتمع، والآية وإن كانت مطلقة ولكن الفقهاء تبعاً للسنّة الشريفة قيّدوا إطلاقها بقيود كثيرة فلا تقطع يد السارق والسارقة إلّا بعد شروط نذكر منها ما يلي:

1. البلوغ، فلو سرق الطفل لم يُحدّ، ولكن يؤدّب.

2. العقل، فلا يقطع المجنون، بل يؤدّب.

3. ارتفاع الشبهة، فلو توهّم المُلك، فبان غير مالك لم يقطع. وكذا لو كان المال مشتركاً فأخذ ما يظن أنّه قدر نصيبه سرّاً.

4. هتك الحرز، أي كون المال محرزاً موضوعاً في محلّ يمنع من الضياع والتلف، فلا قطع فيما ليس بمحرز.

5. إخراج المال بالمباشرة والتسبيب على نحو ينسب الفعل فيه إلى ذي التسبيب.

6. ألّا يكون السارق والداً يأخذ من مال ولده.

7. أن يأخذه سرّاً. فلو هتك قهراً ظاهراً وأُخذ، لم يقطع، كما هو الحال في قُطّاع الطريق.

ص: 268

هذا كلّه في السارق، وأمّا المسروق:

8. لا قطع فيما نقص عن ربع دينار، ويقطع فيما بلغه ذهباً خالصاً مضروباً عليه السكّة.

9. ألا يكون في مجاعة، فلا قطع على مَن سرق مأكولاً في عام المجاعة.

وهناك شروط أُخرى ذكرها الفقهاء في كتاب الحدود.(1)

ومن الشبه المتداولة حول مسألة القطع والتي نشرها بعض الملحدين، قائلاً بأنّ دية اليد في الشريعة الإسلامية هي 500 دينار، ولكنّها إذا سرقت تقطع بربع دينار، وهذا تناقض واضح. ولكنّ الملحد غفل عن أنّ الدية المقرّرة إنّما هي لليد الأمينة لا الخائنة، فإذا خانت فلا قيمة لها، ولا احترام، ولذلك لما أنشد الملحد قوله:

يد بخمس مئين عسجد فديت ***ما بالها قطعت في ربع دينار

أجابه السيد المرتضى رحمه الله بقوله:

عِزّ الأمانة أغلاها، وأرخصها ***ذلُّ الخيانة فافهم حكمة الباري(2)

خامساً: موضع القطع

اختلفت كلمة الفقهاء في موضع القطع، فالإمامية على أنّ موضعه قطع الأصابع الأربعة من اليد اليمنى وترك الراحة والإبهام، وقال جميع الفقهاء: إنّ القطع في اليد من الكوع، وهو المفصل الذي بين الكفّ والذراع. وقالت الخوارج:

ص: 269


1- . لاحظ كتابنا: الحدود والتعزيرات في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 289-393.
2- . القواعد والفوائد للشهيد الأوّل: 42/1. يلاحظ أنّ الآلوسي قد نسب هذا البيت إلى علم الدين السخاوي. لاحظ: روح المعاني: 134/6.

يقطع من المنكب لأنّ اسم اليد يقع على هذا.(1)

ويدلّ على قول الإمامية ما تضافر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في هذا الباب، فلنتبرّك بنقل بعض ما يدلّ عليه:

1. روى الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: من أين يجب القطع ؟ فبسط أصابعه وقال: «من هاهنا»، يعني: من مفصل الكف.(2)

2. وروى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «القطع من وسط الكف، ولا يقطع الإبهام، وإذا قطعت الرِّجْل تُرِك العقب لم يقطع»(3).

روى محمد بن عبد اللّه بن هلال عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له:

أخبرني عن السارق لِمَ تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ولا تقطع يده اليمنى ورجله اليمنى ؟ فقال عليه السلام: «ما أحسن ما سألت، إذا قطعت يده اليمنى ورجله اليمنى، سقط على جانبه الأيسر، ولم يقدر على القيام، فإذا قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، اعتدل واستوى قائماً. قلت له: جعلت فداك وكيف يقوم وقد قطعت رجله ؟ قال: إنّ القطع ليس من حيث رأيت يقطع، إنّما يقطع الرجل من الكعب ويترك من قدمه ما يقوم عليه يصلي ويعبد اللّه. قلت له: من أين تقطع اليد؟ قال: تقطع الأربع أصابع وتترك الإبهام يعتمد عليها في الصلاة ويغسل بها وجهه للصلاة...».(4)

والتفصيل يجده القارئ في البحوث الفقهية.7.

ص: 270


1- . الخلاف: 437/5؛ شرائع الإسلام: 176/4.
2- . الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 18، الباب 14 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.
4- . الكافي: 225/7.
سادساً: سقوط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته

إنّ حدّ السرقة يسقط بالتوبة كغيره من الحدود، قبل أن يثبت عند الحاكم، ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلى اللّه عزّ وجلّ ، تُرد سرقته إلى صاحبها ولا قطع عليه».(1)

ويمكن أن يستدل عليه بما ورد في المحارب، فإنّه إن تاب قبل رفع أمره إلى الحاكم يسقط الحدّ، فكيف في المقام، يقول سبحانه في حقّ المحارب «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(2) والاستدلال من قبيل القياس الأولوي، مضافاً إلى قوله سبحانه في المقام: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » .

سابعاً: ردّ المسروق إلى صاحبه

يجب ردّ المسروق إلى صاحبه، سواء أُقيم الحدّ على السارق أم لا. ونقل صاحب المنار عن بعض الفقهاء من عدم الجمع بين الحدّ وغرامة المال المسروق، وردّ عليه بقوله: فإنّ الحدّ حقّ اللّه تعالى لمصلحة عباده عامّة، والمال حقّ من سُرق منه خاصّة.(3)

وقد ورد في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام: «السارق يتبع بسرقته وإن قطعت يده ولا يترك أن يذهب بمال امرئ مسلم» وورد أيضاً في صحيح سليمان بن

ص: 271


1- . الوسائل: 18، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
2- . المائدة: 34.
3- . تفسير المنار: 382/6.

خالد قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إذا سرق السارق قطعت يده وغرم ما أخذ».(1)

ثامناً: شبهة حول حدّ السرقة

أثار بعض الغربيّين وتابعهم بعض الشرقيّين، شبهة حول حدّ السرقة وهي القطع، فقالوا: إن جعل القطع حدّاً وعقاباً للسرقة، يُسبّب أثرين غير مرضيين، وهما:

الأوّل: إنّ اللّه سبحانه خلق اليد للعمل حتى يعيش الإنسان بكدّ يمينه، فإذا قطعت اليد عجز عن العمل، وبهذا يكون عالة على المجتمع.

الثاني: إنّ في قطع اليد أثراً نفسياً سيّئاً على السارق حيث إنّه إذا خرج إلى المجتمع مقطوع اليد يورث عدم الثقة به وعدم احترامه من قبل الناس، وبالتالي يصير إنساناً معقّداً، كما أنّه يخرج إلى المجتمع بصورة إنسان مشوّه.

يلاحظ على الأوّل: أنّ قطع أحد اليدين لا يمنع الإنسان من العمل خصوصاً على قول الإمامية من أنّ موضع القطع هو الأصابع الأربعة، فإنّ العمل ممكن بما بقي في اليد اليمنى والكف اليسرى.

ويلاحظ على الثاني: أنّ القائل به ينظر إلى الحكم من منظار الفرد (السارق) فيترحّم عليه، ولكنّه غفل عمّا هو المهم وهو تقديم مصالح المجتمع على مصالح الفرد، لأنّها أهمّ ، فالشارع بتشريعه هذا يُريد قطع هذه الظاهرة الخطرة من الجذور.

ويشهد على ما ذكرنا أنّ القوانين الوضعية وما شرّعته من عقوبات للسرقة، لم تنتج إلّاانتشار السرقة وتنوّع وسائلها وأساليبها، على نحو أصبحت السجون تغصّ بالسرّاق، وهم يتعلّمون فيها أساليب جديدة لهذه الجريمة، ويتعلّمون كيفية

ص: 272


1- . الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4، ولاحظ الحديث 1.

التخلّص عن المتابعة القانونية لهم.

ثمّ إنّ ما يترتّب على قطع اليد من العقد النفسية أو تشويه الخلقة، فإنّما هو نتيجة اكتسبها الإنسان بسرقة الأموال والإخلال بالأمن في المجتمع ولا يلومنّ إلّا نفسه.

تاسعاً: ختام الآية

ختم اللّه سبحانه الآية بذكر اسمين من أسمائه الحسنى وقال: «وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » * مشعراً بأنّ المقام مقام العزّة والقدرة، فالحاكم الإسلامي مظهر عزّ اللّه سبحانه وقدرته، يقطع يد السارق التي أخلّت بأمن المجتمع، وهو حكيم في تشريعه هذا.

ومن لطيف ما روي عن الأصمعي أنّه قال: كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي فقرأت هذه الآية فقلت: «وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » * سهواً. فقال الأعرابي: كلام مَن هذا؟ فقلت: كلام اللّه. قال: أعد. فأعدت «وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » * ثم تنبّهت فقلت: «وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » * فقال: الآن أصبت. فقلت: كيف عرفت ؟ قال: يا هذا «عَزِيزٌ حَكِيمٌ » * فأمر بالقطع. فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع.(1)

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ فواصل الآيات التي تختتم بأسماء اللّه الحسنى لها صلة بمضمون الآية، وهذا أيضاً من معاجز القرآن الكريم وأنّه وحي من اللّه تعالى، وإلّا فالإنسان العادي الذي عاش وسط المجتمع الأُمّي يغفل عن التناسب بين الصدر والذيل من كلماته خصوصاً إذا تلا كثيراً من الآيات وهو يخوض معارك الحرب و القتال.

ص: 273


1- . تفسير الرازي: 229/11؛ تفسير المنار: 384/6.
عاشراً: فتح باب الأمل للمجرم بالتوبة

يفتح اللّه سبحانه أمام السارق باب الأمل والعودة إلى المجتمع، وهو أنّه لو تاب وندم على عمله فسوف يغفر اللّه له كما قال: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ » : أي أقلع وندم على ما صدر منه من فعل الظلم بالسرقة، «وَ أَصْلَحَ » ولعلّه إشارة إلى صدور فعل جميل منه، ويكون مفاد الآية من أصلح باطنه وظاهره «فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ » : أي يقبل توبته، فإنّ باب التوبة مفتوح للعصاة «إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » فكونه غافراً للذنوب ورحيماً بعباده، يقبل توبة مَن ندم وأصلح ظاهره، وقد مضى الكلام في حكم التائب قبل الثبوت عند الحاكم في الآية السابقة.

قال السيوطي: أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن عمر:

إنّ امرأة سرقت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول اللّه ؟ قال: نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمّك، فأنزل اللّه في سورة المائدة: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1).

ص: 274


1- . الدر المنثور: 74/3.

الحدود والتعزيرات

4 حدّ المحارب

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ».(1)

المفردات

يحاربون اللّه: أُريد الاعتداء على الناس، فكأنّه اعتداء على اللّه وعلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

يصلّبوا: الصُلب هو الظهر، ويراد هنا: تعليق الإنسان للقتل وهو شدّ صلبه على الخشب حتى يموت جوعاً وعطشاً. ويقال: إنّ الصلب يكون بعد القتل لأجل العبرة، والأوّل أفضل إذ لا يكون الصلب حينئذٍ عقوبة ثانية. إلّاإذا كانت الغاية من

ص: 275


1- . المائدة: 33.

الصلب هو الخزي كما في قوله: «لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا» وإن لم يكن عقوبة.

من خلاف: إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس.

خزي: الذُّلّ والفضيحة.

التفسير

لمّا أشارت الآية السابقة إلى تغليظ الإثم في قتل النفس بشرطين، أي «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً»(1) جاءت هذه الآية لبيان الشقّ الثاني، أعني: الفساد في الأرض الذي يبرّر القتل.

ولنذكر شأن نزول الآية ليكون كالتوضيح لمفادها.

روى الطبري بسنده عن أنس، قال: قدم ثمانية نفر من عُكلٍ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتوا إبل الصدقة (يخرجوا إلى إبل الصدفة) فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا (فصحّوا)، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل. فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثرهم قافة، فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وتركهم فلم يحسمهم حتى ماتوا.(2)

ثمّ إنّه يقع الكلام في تفسير الآية في موضعين:

الأوّل: تعريف المحارب

الثاني: حدّه الوارد في الآية

ص: 276


1- . المائدة: 32.
2- . تفسير الطبري: 270/4، برقم 11818. وفيه روايات أُخرى بهذا المضمون. قوله: «اجتووا» أي كرهوا. ولكن لفظ الطبرسي أوضح. لاحظ: مجمع البيان: 188/2.
الموضع الأوّل: تعريف المحارب
اشارة

فهو وإن كان عنواناً لغوياً لكنّه من مصطلحات القرآن أيضاً، ولا يعرف المراد منه إلّاباجتماع أمرين ذكرا في الآية، وهما:

1. محاربة اللّه ورسوله

المحاربة من باب المفاعلة ولم ترد في القرآن الكريم إلّافي موردين: الأوّل في المقام والثاني في قصة مسجد الضرار، قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ »(1) ، وبهذه الآية يمكن استكشاف المراد من قوله سبحانه: «يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ » وهو عدم الإذعان لدينه وشرعه في كافّة المجالات وحاولوا القضاء على ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم... فما روي عن الجصّاص من أنّ الآية على حذف المضاف أي يحاربون أولياء اللّه ورسوله، ليس بجيّد، فإنّ ذكر لفظ الجلالة والرسول رمز دينه وشرعه، فإنّ أبا عامر الراهب أراد القضاء على الإسلام باجتماع أنصاره في مسجد الضرار وتخطيط الأمر على ذلك.

2. الإفساد في الأرض

قال تعالى: «وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً» وأُريد به النهب والقتل وإحراق المزارع وانتهاك الأعراض بشهادة قوله سبحانه: «وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ »(2).

ص: 277


1- . التوبة: 107.
2- . البقرة: 205.

وقد فسّر الطبرسي قوله: «لِيُفْسِدَ فِيها» بقطع الرحم وسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل، أي البنات والأبناء.(1)

إذا عرفت ذلك فظاهر الآية لا ينطبق إلّاعلى طائفة خاصّة، وهم مَن يحاربون النظام الإسلامي في العهد النبوي أو العلوي، وأشاعوا الإرهاب في الطرق والبلاد، بقتل الأبرياء والإغارة على أموالهم وممتلكاتهم، وهذا ما يقال عنه:

هؤلاء يحاربون اللّه ورسوله يريدون القضاء على النظام الإسلامي كالمارقين في العهد العلوي ويفسدون في الأرض بإشاعة الإرهاب بين الناس وقتل الأبرياء.

لكن الظاهر من الفقهاء كون الموضوع أوسع من ذلك.

قال المحقّق: المحارب: كلّ مَن جرّد السلاح لإخافة الناس، في برّ أو بحر، ليلاً كان أو نهاراً، في مصر وغيره.(2)

وقال الشيخ: المحارب الذي ذكره اللّه تعالى في آية المحاربة هم قُطّاع الطريق الذين يشهرون السلاح ويخيفون السبيل.(3)

وقال ابن إدريس: المحارب كلّ مَن شهر السلاح لإخافة الناس في برٍّ كان أو في بحر، في العمران والأمصار، أو في البراري والصحاري.(4)

فلو تمّ الإجماع على ذلك فهو، وإلّا فشموله لبعض هذه الأقسام موضع تأمّل. والظاهر لزوم وجود شرطين: 1. التمرّد على النظام. 2. السعي في الفساد.3.

ص: 278


1- . مجمع البيان: 55/2.
2- . شرائع الإسلام: 180/4.
3- . الخلاف: 457/5، المسألة 1.
4- . السرائر: 505/3.

ثمّ إنّ الأصحاب لمّا وسّعوا معنى المحارب فرّعوا عليه فرعين:

هل يثبت هذا الحكم للطليع وهو المراقب للمارّة، ليخبر قُطاع الطريق، أو الردء، أعني: المعين لقطاع الطريق في ضبط الأموال ونحوها؟ المشهور عن الأصحاب عدم الشمول. قال المحقّق: فلا يثبت هذا الحكم للطليع ولا للردء.(1)

هذا كلّه حول تعريف المحارب.

نعم هنا عنوان آخر غير المحارب، وهو عنوان «المفسد في الأرض» الذي جاء في قوله سبحانه: «وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ »(2) ، و «وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ»(3).

وهل العنوانان متعدّدان مصداقاً أو متحدان فيه ؟ يظهر من الطبرسي التوحّد:

قال: «سَعى فِي اَلْأَرْضِ »: أي أسرع في المشي من عندك «لِيُفْسِدَ فِيها» قيل: ليقطع الرحم ويسفك الدماء، وقيل: ليظهر الفساد ويعمل بالمعاصي، «وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ » : أي البنات والأولاد، وروي عن الصادق أنّ الحرث في هذا الموضع:

الدين، والنسل: الناس.(4)

الموضع الثاني: حدّ المحارب

المستفاد من الآية أنّ حدّ المحارب هو أحد الأُمور التالية:

ص: 279


1- . شرائع الإسلام: 180/4.
2- . البقرة: 204.
3- . البقرة: 205.
4- . مجمع البيان: 80/2، ط مصر.

1. «أَنْ يُقَتَّلُوا» من باب التفعيل بالتشديد مكان أن يقول: «يُقتلوا»، ولعلّه إشارة إلى أنّ القتل حتم لابد منه حتى ولو أنّ المفسد قتل نفساً وعفا عنه ولي المقتول، فلا يُعفى عنه، قيل للإمام أبي جعفر عليه السلام: أرأيت إن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ألهم ذلك ؟ قال: «لا، عليه القتل».(1)

قال المحقّق: إذا قتل المحارب غيره طلباً للمال، تحتّم قتله فوراً، إن كان المقتول كفواً، ومع عفو الولي حُدّ، سواء كان المقتول كفواً أو لم يكن.(2)

2. «أَوْ يُصَلَّبُوا» والمبالغة فيه كالمبالغة في القتل.

3. «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ » وقد ذكرنا تفسير القطع من خلاف في المفردات. وفي موضع القطع إجمال، ويمكن أن يقال: الميزان ما يقطع في حدّ السرقة وهل يترك حتى ينزف ويموت كما عليه بعض الأصحاب استناداً إلى رواية «طلحة بن زيد» في مورد الأُسارى بأنّهم إذا أخذ الأسير قبل أن تضع الحرب أوزارها، تقطع يديه وأرجله من خلاف وترك يتشخط في دمه حتى يموت.(3)

أقول: إنّ طلحة بن زيد عامي لا يمكن الاحتجاج بروايته في مقابل ظاهر الآية في أنّ حكمه نفس حكم السارق، بل يمكن استظهار الخلاف من الآية حيث جاء الحد الثالث بعد القتل والصلب، أو يحمل على ما إذا لم يقتل نفساً وإنّما أخذ المال، فيجري فيه حكم السرقة بأشد الصور.

4. «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ » . وهذا إذا لم يقتل نفساًمحرمة ولم يأخذ مالاً بل1.

ص: 280


1- . الوسائل: 18، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 1 و 2.
2- . شرائع الإسلام: 181/4.
3- . الوسائل: 11، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

شهر سيفه وأخاف.

وحصيلة الكلام: أنّ القتل والصلب محمول على ما إذا قتل نفساً محرمة مع أخذ المال، وقطع الأيدي والأرجل محمول على ما إذا لم يقتل نفساً بل أخذ المال.

والنفي محمول على ما إذا أشهر سيفه وأخاف من دون قتل وأخذ مال، كلّ ذلك استظهاراً بالترتيب الوارد في الآية من الأشدّ إلى الأخف.

قال الطبرسي: الذي يذهب إليه أصحابنا الإمامية أن ينفوا من بلد إلى بلد حتى يتوب ويرجع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنّ النفي هو الحبس والسجن.

وعلّق عليه صاحب المنار وقال: وهو أغرب الأقوال، فالحبس عقوبة غير عقوبة النفي، والإخراج من الأرض (والحمل) يحتاج إلى دليل. والمقام مقام بيان حدود اللّه لا التعزير المفوّض إلى أُولي الأمر.(1)

ومع ذلك فقد استدلّ له بأنّ العرب تستعمل النفي بذلك المعنى، لأنّ الشخص بالسجن يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض المسجونين:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السُّجّان يوماً لحاجة *** عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا(2)

يلاحظ عليه: بأنّ الظاهر نفيه من الأرض التي يعيش عليها إلى أرض أُخرى، وأمّا اعتقاله في مكان خاصّ في نفس البلد لا يوصف بالنفي إلّامجازاً وتخيّلاً كما في شعر الشاعر.6.

ص: 281


1- . تفسير المنار: 361/6.
2- . مجمع البيان: 380/3؛ روح المعاني: 119/6.
هل العقوبات على وجه التخيير أو الترتيب أو التفصيل ؟

استدلّ للقول الأوّل بأنّ لفظ «أَوْ» في لسان العرب حقيقة في التخيير، وقد حمل عليه حكم كفّارة اليمين، كما في قوله تعالى: «لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »(1) ، وقد حُمل على التخيير حكم كفّارة الصيد للمحرم كما في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ ».(2)

يلاحظ عليه: أنّ الجزاء على قدر الجناية فيزداد بزيادة الجناية وينقص بنقصانها بمقتضى العقل والسمع، فالتخيير بالجزاء بمعنى التساوي بين الجناية القليلة والجناية الكثيرة، خلاف المعهود في الشرع، ومن المعلوم أنّ الإفساد في الأرض ذو درجات مختلفة فأين من قتل نفساً ممّن أباد طائفة ؟!

ولذلك نرى أنّ بعض القائلين بالتخيير فسّره بقوله: ولا يبعد أن يكون الأولى للحاكم أن يلاحظ الجناية ويختار ما يناسبها، فلو قتل، أختار القتل أو الصلب، ولو أخذ المال اختار القطع، ولو شهر السيف وأخاف فقط اختار

ص: 282


1- . المائدة: 89.
2- . المائدة: 95.

النفي.(1)

وأمّا القائل بالترتيب فقد استدلّ بأنّ السبب إذا كان واحداً والجزاء مختلفاً يحمل «أو» على التخيير كما في كفّارة اليمين وكفّارة جزاء الصيد، فالسبب واحد وهو نقض اليمين أو الصيد مُحرماً، فيكون المكلّف مخيّراً بين الأحكام المترتّبة على السبب.

وأمّا إذا كان السبب مختلفاً بالذات - كما في المقام - فتارة يأخذ المال فقط، وأُخرى يقتل، وثالثة يجمع بين أخذ المال والقتل، ورابعة يمارس مجرّد التخويف فقط، فلا يحمل لفظ «أو» في مثله على التخيير، وذلك لأنّ الاختلاف في السبب يقتضي الاختلاف في المسبب - العقاب - فيُحمل قوله: «أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا» على ما إذا قتلوا وأخذوا المال، ويُحمل قوله: «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ » على ما إذا أخذوا المال فيقطعوا، مثل ما يقطع في السرقة كما يُحمل قوله: «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ » على ما إذا أخاف الطريق فقط، ولم يقتل نفساً ولم يأخذ مالاً.

هذا كلّه بالنظر إلى الآية، وأمّا بالنظر للروايات فالمتضافر هو الترتيب.(2)

وتمام الكلام في المصادر الفقهية.

ثمّ إنّه سبحانه أكمل الآية بأنّ لهم مضافاً إلى هذا الحدّ أمرين:

1. «ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا» : أي فضيحة وهوان في الدنيا.

2. «وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ».

والفقرة الأخيرة تدلّ على عظمة الجريمة بحيث لا يُكفّرها الحدّ.1.

ص: 283


1- . تحرير الوسيلة: 444/2، المسألة 5.
2- . لاحظ: الوسائل: 18، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 5، 6 و 11.
الآية الثانية

قال سبحانه: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».(1)

إنّ من مظاهر رحمة اللّه تعالى هو استثناء مَن تاب وندم على عمله قبل أن يُؤخذ ويُقدر عليه، فإنّ الندامة في تلك الحالة آية أنّ توبته توبة نصوح نابعة عن وعي باطني، بخلاف ما لو تاب بعد وقوعه في يد الإمام وقيام البيّنة على جريمته إذ أنّ توبته في هذه الحالة نابعة عن الخوف من إجراء الحدّ، دون تطهير النفس من أدران المعصية، وإلى ما ذكرنا يشير قوله تعالى: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ » :

أي يقعوا في يد الإمام «فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ» يقبل توبتهم «رَحِيمٌ » لا يعذّبهم في الآخرة.

إنّ هذا الاستثناء من حقوقه تعالى، أمّا حقّ الآدمي من القتل والجرح والمال، فلا يسقطه إلّاالقصاص والأداء، سواء أكان المال موجوداً بعينه أو تلف فليزمه حينئذٍ قيمته، وقال بعضهم: الاستثناء من كلّ حقّ ، إلّاأن يوجد عين المال فيؤخذ منه، وتقييد التوبة بكونها قبل القدرة يدلُّ على أنّها لو حصلت بعد القدرة لم يسقط الحدّ وإن سقط العقاب الأُخروي.(2) والمساعدة معه مشكلة كيف يمكن أن يسقط حق القصاص، أو اشتغال ذمّته بمال الغير، باتلافه، والظاهر انّ الاستثناء ناظر إلى العذاب الأُخروي بشهادة وقوعه بعد قوله: «وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ » . واللّه العالم

ص: 284


1- . المائدة: 34.
2- . كنز العرفان: 353/2.

الفصل الثامن عشر: أحكام القصاص في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

تشريع القصاص والتخيير بينه وبين الدية.

القصاص فيه حياة المجتمع.

شبهات حول القصاص.

الجزاء على قدر الجريمة.

موقف خالد لأمير المؤمنين عليه السلام

التعامل بالمثل عند الاعتداء.

ص: 285

ص: 286

القصاص في الذكر الحكيم

ربما يتبادر إلى الأذهان أنّ القصاص أيضاً حدّ من حدود اللّه تعالى، شرّعه لوارث من قُتل مظلوماً، وعلى ذلك فكان اللازم دراسته تحت باب الحدود، دون فتح باب مستقلّ له.

ومع ذلك يمكن أن يُقال بوجود الفرق بين الحدّ والقصاص، فإنّ الأوّل من حقوق اللّه سبحانه، إثباتاً ونفياً، وأمّا القصاص فإنّه وإن كان حكماً شرعياً لكن إجراؤه بيد الوارث، فله العفو على الجاني، وله القصاص.

وبعبارة أُخرى: الحدود بيد اللّه سبحانه، وأمّا القصاص فبعد التشريع بيد الوارث، ولذلك جعلناه فصلاً مستقلاً.

تمهيد

لا شكّ أنّ الشارع اهتمّ بالدماء أتمّ الاهتمام، فقد شرّع التقية لصيانة الدماء، فلو بلغت التقيّة حدّ إراقة الدماء فلا تقيّة. ويكفي في اهتمام الشارع بذلك أنّه جعل قتل نفس واحدة بمنزلة قتل الناس جميعاً، وإحياءها إحياء الناس جميعاً، لذلك قال سبحانه: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ

ص: 287

لَمُسْرِفُونَ »(1)، وقد ورد حكم القصاص في الذكر الحكيم في الآيات التالية:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ».(2)

المفردات

كتب: في التعبير عن حكم الشيء بالكتابة، دلالة أكيدة على تثبيته.

القصاص: تتّبع الأثر، قال سبحانه: «فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً»(3) ، وكأنّ المجني عليه يتبع الجاني حتّى يأخذ منه ثأر الجناية.

عُفي: من العفو، بدّلت الواو ياء لكسر ما قبله.

فاتّباع: خبر لمبتدأ محذوف، أي فعليه [المجني عليه] اتّباع بالمعروف.

أداء: أي على الجاني أداء الدية إلى المجني عليه بإحسان وبلا مماطلة.

التفسير

تشريع القصاص والتخيير بينه وبين الدية

روى المفسّرون أنّ الآية نزلت في حيّين من العرب، لأحدهما طول على

ص: 288


1- . المائدة: 32.
2- . البقرة: 178.
3- . الكهف: 64.

الآخر، وكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور، وأقسموا: لنقتلن بالعبد منا، الحرّ منهم، وبالمرأة منا، الرجل منهم، وبالرجل منا، الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أُولئك حتى جاء الإسلام، فأنزل اللّه هذه الآية.(1)

وربما قالوا: إنّ واحداً قتل إنساناً من الأشراف، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، وقالوا: ماذا تريد؟ فقال إحدى ثلاث، قالوا: وما هي ؟ قال: إما تحيون ولدي، أو تملأون داري من نجوم السماء، أو تدفعوا إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.(2)

هذا هو حال العرب المشركين في عصر ما قبل البعثة النبوية، وأمّا اليهود فقد كان القصاص أمراً مكتوباً عليهم، قال سبحانه: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ »(3) . وأمّا النصارى فكانت الدّية أمراً مسلّماً عندهم، وعلى هذا فقد جاء الإسلام بحكم وسط بين حتمية القصاص وحتمية الدّية وهو أنّ الخيار بيد ولي الدم، فله أن يقتص وله أن يقنع بالدية، إذا اقتنع بها المجنيّ عليه.

وقد بدأ القرآن الكريم في هذه الآية وما بعدها من الآيات ببيان أحكام اجتماعية بها يحفظ كيان المجتمع وحياته وأمنه وأمانه، خصوصاً في إفراط العرب، في إراقة الدماء، فرب قبيلة قوية إذا قُتِل واحد منهم يسعى رئيس القبيلة في استئصال القبيلة الأُخرى، ولذلك آل الأمر في أغلب القبائل إلى الاحتماء5.

ص: 289


1- . لاحظ: مجمع البيان: 12/2؛ تفسير البيضاوي: 102/1.
2- . تفسير الرازي: 46/5.
3- . المائدة: 45.

بالولاء والحلف والنصرة إلى قبيلة أُخرى، ولولا أنّ الإسلام انقذهم من الهلاك العاجل ربّما ينتهي الأمر إلى استئصال العرب كلّهم، قال سبحانه: «وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »(1) ، فقوله: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ» لعلّه إشارة إلى أمر الإبادة «فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» بإيجاد الأُخوّة وإنساء المحن وتشريع القصاص.

ومن أراد أن يعرف حرصهم على إراقة الدماء لأمر جزئي فله أن يقرأ قصة حرب البسوس في كتاب «بلوغ الإرب» وغيره حتى أصبحت مضرباً للمثل في التشاؤم وقيل: أشأم من البسوس.(2)

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قوله: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى » الخطاب في الآية للمؤمنين، وهو دليل على اختصاص الحكم بالمؤمنين، وأمّا حدّ القصاص فيذكره سبحانه بقوله: «اَلْحُرُّ» يُقتل «بِالْحُرِّ» ، «وَ اَلْعَبْدُ» يُقتل «بِالْعَبْدِ» ، «وَ اَلْأُنْثى » تُقتل «بِالْأُنْثى » . ومعنى الفقرة واضح، إنّما الكلام فيما تهدف الآية إليه؛ وهنا احتمالان:

1. أنّ الآية بصدد بيان شرطية وحدة الصنف في القصاص، وعلى هذا فلا يقتل الحرّ بالعبد، والأُنثى بالذكر.

2. أنّ الآية بصدد بيان عدم التفاضل في أفراد الصنف الواحد، وإبطال ما7.

ص: 290


1- . آل عمران: 103.
2- . لاحظ: بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب: 151/2-157.

عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلّة اكتراث، فجاءت الآية تنادي بالتسوية «اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ» : أي لا فضل لحرّ شريف على حرّ ضعيف، ولا لعبيد السادة على عبيد العامّة، فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد الصنف، ولا مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأصناف إثباتاً ولا نفياً، وإنّما يُعلم حكم اختلاف أفرادها من دليل آخر.(1)

وحصيلة الكلام: هل الآية بصدد بيان شرطية وحدة الصنف في القصاص، وعلى هذا بما أنّ الحرّ والعبد من صنفين والذكر والأُنثى كذلك، فلو قتل الحر عبداً أو الذكر أُنثى، فلا يقتص من القاتلين ؟

أو أنّ الآية بصدد بيان أمر آخر، وهو بيان عدم الفرق بين أفراد الصنف الواحد، فالحرّ الشريف لو قَتَل حُرّاً وضيعاً يُقتل، أو أنّ عبداً مولى شريف قَتَلَ عبداً مولى ضعيف يقتصّ منه، وهكذا الأُنثى الشريفة لو قتلت أُنثى دونها في الشرف، فتقتل بها؟ والظاهر هو المعنى الثاني.

وعلى هذا الاحتمال فالآية لا تدلّ على أنّ الحرّ لا يقتل بالعبد، والذكر بالأُنثى كما لا تدلّ على عكسه فإنّما يؤخذ بالمفهوم حيث لم يذكر للتخصيص غرض سوى الحكم وتبيين ما هو الغرض.(2)

نعم في فقه الإمامية: إذا قتل الحرّ عبداً لا يقتل به، بل يُضرب ضرباً شديداً ويغرم دية العبد؛ وإذا قتلت المرأة رجلاً عمداً كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية إن رضيت هي وبين أن يقتلها، فإن اختارت القتل فلا يغرم أهلها1.

ص: 291


1- . التحرير والتنوير: 136/2، بتحرير منّا.
2- . تفسير البيضاوي: 102/1.

شيئاً؛ وإذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية إن رضي القاتل، وبين أن يقتله الولي على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرجل.

هذا كلّه في فقه الإمامية، وأمّا عند غيرهم، فقال مالك والشافعي وابن حنبل:

إن الحرّ لا يقتل بالعبد، وقال أبو حنيفة بل يقتل الحرّ بعبد غيره، ولا يقتل بعبده، واتّفق الأربعة على أنّ الرجل يقتل بالمرأة وبالعكس.

وقد خالف أبو حنيفة فقه الإمامية في موردين: 1. قتل الحرّ بعبد غيره، 2.

قتل الرجل بالمرأة على وجه الإطلاق.

وقد تقدّم أنّ المحتّم في مذهب اليهود هو القصاص كما أنّ المحتم عند النصارى هي الدية، ولكن الحكم الإسلامي هو الخيار بين القصاص والدية، أمّا الأوّل فقد مرّ بيانه، وأمّا الدية فهذا ما تذكره الفقرة التالية وهي قوله تعالى: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ » قد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الفقرة، قال القرطبي: اختلف العلماء في تأويل «مِنْ » و «عُفِيَ » على تأويلات خمس، ثم ذكر الجميع.(1)

ونحن نذكر ما هو الواضح من تلك الوجوه، فنقول:

1. «فَمَنْ » أُريد بالموصول: القاتل.

2. «عُفِيَ لَهُ » الضمير يرجع إلى الموصول، وأُريد من العفو حقّ القصاص وعزم ولي الدم بأن لا يقتصّ .

3. «مِنْ أَخِيهِ » ولي الدم، ووصفه بالأخ إمّا لأنّ الجميع إخوة في الدين أو لإثارة الرأفة، والإشارة إلى أنّ العفو أحبّ عند اللّه.2.

ص: 292


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 253/2.

4. «شَيْ ءٌ » : أي الصلح بالدية. والتعبير عن عوض الدم بشيء لأنّ العوض يختلف بين كونه نقداً أو عروضاً أو غير ذلك، خصوصاً يوم نزول الآية حيث كان النقد قليلاً.

أي عند ما عُفي «ف» على العافي «اتباع بالمعروف»: أي يتبع في مقام الصلح المعروف فلا يشدّد على الجاني ولا يطلب منه ما لا يقدر.

«وَ» على الجاني «أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ » : أي يؤدّي الدية من دون مماطلة فيها إيذاؤه.

روى الكليني بسنده عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:... وسألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ » قال: «ينبغي للذي له الحقّ أن لا يعسّر أخاه إذا كان قد صالحه على دية، وينبغي للذي عليه الحقّ أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدّي إليه بإحسان».(1)

فبتيسير ولي الدم في عوض الدم من جانب، وقيام القاتل بدفع العوض بصورة حسنة يرأب الصدع، ولذلك يقول سبحانه: «ذلِكَ » : أي تشريع العفو بدلاً عن القصاص «تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ » للجاني «وَ رَحْمَةٌ » منه له لوضوح أنّ استبدال القتل بالتعويض المادّي نوع تخفيف للجاني ورحمة له.

نعم بعدما تمّ الصلح وأُخذت الدية، فليس لولي الدم الانتقام من القاتل بقتله، كما يقول: «فَمَنِ اِعْتَدى » : أي ولي الدم «بَعْدَ ذلِكَ » : أي بعد المصالحة «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » ، لأنّ اعتداءه عليه يُعدّ اعتداء ابتدائياً.

روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:... وسألته عن قول اللّه عزّ7.

ص: 293


1- . الكافي: 358/7.

وجلّ : «فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » فقال: «هو الرّجل يقبل الدّية أو يعفو أو يصالح، ثمّ يعتدي فيقتل فله عذاب أليم، كما قال اللّه عزّ وجلّ ».(1)

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ».(2)

القصاص فيه حياة المجتمع

إنّ قتل النفس المحترمة عن عمد من الكبائر ومن المعاصي الموبقة، يقول سبحانه «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً»(3) ، وقال سبحانه: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ »(4).

ثمّ إنّ القرآن الكريم تلقّى قتل نفس واحدة، كقتل جميع الناس، قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً»(5).

كما أنّ إحياء نفس محترمة من أعظم الطاعات حتى تلقّاها الذكر الحكيم كإحياء جميع الناس، كما قال: «وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً»(6).

ص: 294


1- . الكافي: 358/7.
2- . البقرة: 179.
3- . النساء: 93.
4- . الأنعام: 151.
5- . المائدة: 32.
6- . المائدة: 32.

وهذا النوع من التأكيد والتشديد لغاية صدّ الناس عن هذه الجريمة، ما مرّ فقد عالج الشارع المقدّس هذا الداء المنتشر بتشريع القصاص تحت ضوابط معيّنة، قال سبحانه: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً»(1) ، فشرّع سبحانه القصاص في إطار خاص، وهو ألّا يُسرف في القتل ولا يأخذ البريء بجرم الجاني، فالغاية من تشريع القصاص المحافظة على دماء الناس.

قال الإمام علي عليه السلام: «فَرَضَ اللّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ ، وَالصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ ، وَالْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ ، وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ ، وَصِلَةَ الرَّحِمِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ ».(2)

نعم لم يكن تشريع القصاص في الإسلام أوّل تشريع سماوي جاء في القرآن الكريم، بل هو جاء في التوراة، قال سبحانه: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ »(3).

أقول: كما أنّ لصدّ الناس عن التجاوز على الأعراض والأموال قوانين رادعة، بها تصان الأعراض والأموال عن التعدّي، فهكذا النفوس وهي أغلى الأشياء فلابدّ أن يكون لصدّ الناس عن اقتراف هذه الجريمة قانون يصدّ أكثر الناس عن اقتحامها، وهو ليس إلّاتربية المجتمع على هذا التشريع، وهو أنّ من5.

ص: 295


1- . الإسراء: 33.
2- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 252.
3- . المائدة: 45.

يَقتل يُقتَل بلا هوادة، فهذا النوع من التفكير يصدّ أكثر الناس عن اقتراف الجريمة، وبذلك يتّضح معنى الآية: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ » أُريد من الحياة صيانة الناس عن القتل «يا أُولِي اَلْأَلْبابِ » فمَن كان يعلم بوجود القصاص يتّقي عن هذه الجريمة كما يقول: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ».

إنّ أشدّ ما تتوقّاه نفوس البشر من الحوادث، هو الموت فلو علم القاتل أنّه لا يقتل قصاصاً بل يعاقب بصورة أُخرى لأقدم على القتل مرّة أُخرى ، مستخفّاً بسائر العقوبات، فالطريق الوحيد لصيانة نفوس الناس هو تشريع القصاص وتطبيقه في المجتمع.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ » من جوامع الكلم وأفصحه، وأين هو من الكلمة المعروفة عند العرب: «القتل أنفى للقتل». ثمّ إنّ المفسّرين ذكروا وجوهاً كثيرة لأفضلية الآية على الكلام المعروف، يقول السيد الطباطبائي: إنّ الجملة، أعني قوله تعالى: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ » على اختصارها وإيجازها وقلّة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها، من أبلغ آيات القرآن في بيانها، وأسماها في بلاغتها، فهي جامعة بين قوّة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقّة الدلالة وظهور المدلول، وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة أُسلوبها ونظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم:

أكثروا القتل ليقّل القتل... إلى أن قال: غير أنّ الآية أنست الجميع ونفت الكل.(1)

ثمّ إنّ الآلوسي ذكر لفضل هذا الكلام وجوهاً، فلاحظ.(2)5.

ص: 296


1- . الميزان في تفسير القرآن: 433/1.
2- . لاحظ: روح المعاني: 50/25.

شبهات حول القصاص

اشارة

إنّ بعض الكتّاب المتأثّرين بالحضارة الغربية يطرحون شبهات حول هذا التشريع السماوي، وها نحن نذكرها على وجه الإيجاز ثم نجيب عنها:

1. القصاص علاج جريمة بجريمة مثلها

إذا صدر القتل من إنسان فضّ القلب، فقد ارتكب جناية، فقيام الآخرين بقتله تكرار للجريمة.

وبعبارة أُخرى: إنّ المجتمع الذي خسر (أو نقص) أحد أفراده، يجب ألّا نحمّله خسارة أُخرى بقتل فرد آخر من أفراده.

الجواب: إنّ المعترض ينظر إلى المجتمع بنظر انفرادي، فيصف القصاص من المجرم إعداماً لفرد صالح من المجتمع، وتكراراً للجريمة، وأمّا إذا نظرنا إلى المجتمع بنظرة جماعية كلّية، فقتل المجرم أشبه بقطع عضو زائد مضرّ يحصل في بدن الإنسان ربما يوجب هلاك صاحبه، ففي هذا المقام يقوم الجرّاح بقطع هذا العضو الفاسد لئلّا يسري فساده إلى سائر الأعضاء السالمة ويودي بالحياة، والعجب أنّه يصف القتل الثاني نظير القتل الأوّل في أنّ كليهما جريمة، مع أنّ الأوّل جريمة، ولكن الثاني تخليص للمجتمع من هذا الفرد الجاني الذي ربما لو بقي حيّاً لانتشر الفساد في المجتمع، أي أنّه سوف يقدم على الجريمة مرّة أُخرى.

2. القصاص ينافي الرحمة والرأفة

إنّ الرحمة والرأفة من الأوصاف المحمودة، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «مَن لا يَرحم لا يُرحم» فالإقدام على إعدام الجاني على طرف النقيض من

ص: 297

الرأفة والرحمة التي تنافي التشريع الإسلامي.

الجواب: أنّه ليس كلّ رأفة محمودة وكلّ رأفة فضيلة، فإنّ الترحّم على الجاني المتمرّد ظلم على المجتمع وتعدٍّ بالنسبة إليه، فإنّ الترحّم على الجاني أشبه بالترحّم على الذئب الذي ينتهي إلى ظلم الأغنام.

3. القسوة وحبّ الانتقام أمر مذموم

القسوة وحبّ الانتقام من الصفات المذمومة، فالإنسان الكامل هو مَن يملك قلباً رحيماً ليّناً محباً للناس جمعاء، فإعدام الجاني آية القسوة ونوع انتقام.

الجواب: أنّ تشريع القصاص لا ينطلق من القسوة وحب الانتقام، بل ينطلق من حب بقاء النظام وصيانة الدماء.

4. الجاني مريض يجب علاجه

إنّ مبدأ الجناية وقتل الإنسان البريء رهن عُقد روحية في الجاني، فلابدّ أن يعالج في مراكز العلاج النفسي بحلّ عقده وجعله إنساناً سالماً منها.

الجواب: أنّ كثيراً من الجنايات لا تصدر من إناس يعانون نقصاً أو مرضاً نفسيّاً، وإنّما منطلقها هو حبّ الجاه والمال، وها هم قطّاع الطرق والمحترفون من السرقة يملكون الأموال الطائلة ومع ذلك لا يتوقّفون عن اقتراف الجرائم.

5. ردع الجاني بأعمال إجبارية

آخر ما في كنانة هؤلاء المعترضين هو أنّ تنبيه المجرمين ومعاقبتهم يجب أن يكون بواسطة فرض الأعمال الشاقّة عليهم، أو حبسهم ومنعهم من الاختلاط بالمجتمع مدى الحياة.

ص: 298

الجواب: أنّه لو صحّ ذلك فيجب إلغاء عقوبة الإعدام في عامة الموارد مع أنّا نرى أنّ أصحاب هذه الفكرة لا يعترضون على إعدام الجواسيس وغيرهم، على أنّ التجربة قد أثبتت أنّ السجن إذا طال على المجرم تكون الحياة فيه أمراً معتاداً ولا يؤثّر في خلقه شيء، فلو حُرّر وخرج من السجن يعود إلى الجريمة مرّة، ومرّات.

وحصيلة الكلام: أنّ إلغاء حكم القصاص أشبه بإعطاء الضوء الأخضر أمام المجرمين ليرتكبوا جرائم القتل بقلب مطمئن، فيصبح عدد هذه الجنايات أضعاف مضاعفة.

الآية الثالثة

اشارة

قال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً».(1)

المفردات

سلطاناً: قدرة واستيلاء.

فلا يسرف: لا يتجاوز الحدّ.

منصوراً: مؤيَّداً، حيث إنّ اللّه سمح للوليّ أن يقتصّ أو يأخذ الدّيَة.

التفسير

الآية تتضمّن أُموراً:

ص: 299


1- . الإسراء: 33.

1. تنهى عن قتل النفس المحترمة وتقول: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ » حيث إنّه سبحانه كرّمها وجعلها محترمة.

2. استثنى سبحانه من حرمة القتل صورة واحدة وهي قوله: «إِلاّ بِالْحَقِّ » : أي أن يكون القتل مصحوباً وملابساً للحقّ ، كالقتل لقود أو لغيره من الأسباب الشرعية.

3. إنّ قتل النفس المحترمة على قسمين: قتل خطائي، وقتل عمْدي.

أمّا الأوّل: فبما أنّ القاتل لم يكن بصدد القتل وإنّما أصابه بلا سبق إصرار، فاللّه سبحانه عوّضه بالدِّيَة تدفع إلى أهل المقتول وورثته، وسيوافيك بيانه في الآية التالية.

وأمّا القسم الثاني: وهو القتل عن عمْد وإصرار، فاللّه سبحانه سلّط الوليّ على القاتل وخيّره بين تحريره بلا عوض، أو أخذ الدِّيَة، أو القصاص منه، وقال: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» : أي بلا سبب «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» : أي قدرة واختياراً، فهو مخيّر بين الأُمور الثلاثة، الّتي يدلّ عليها قوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ »(1) ، فقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ربّما يشير إلى القصاص أو الدِّيَة، ووصفها بالسيِّئة من باب المشاكلة، وقوله: «فَمَنْ عَفا» إشارة إلى العفو.

الجزاء على قدر الجريمة

إنّ الإسلام، مع تأكيده على حرمة دم الإنسان، فإنّه يؤكّد أيضاً على أن يكون

ص: 300


1- . الشورى: 40. ستوافيك دراسة الآية تحت رقم 6 فانتظر.

الجزاء على قدْر الجريمة، ويقول: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ »(1) ويقول في آيتنا هذه: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ » والضمير في «يُسْرِفْ » يرجع إلى الوليّ ، وهذا الحكم شُرّع ردّاً على ما كان شائعاً في الجاهلية، حيث كان من عادة عدد من القبائل آنذاك أن يقتل الوليّ غير القاتل، أو يقتل معه غيره، ولذلك يقول: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ ».

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل إعطاء السلطة للوليّ بقوله: «إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» : أي نصرناه وأعطينا له السلطة في القصاص. وفي الوقت نفسه يحتمل أن يكون تعليلاً للنهي عن الإسراف، أي أنّ وليّ المقتول منصور بحكم القوَد، فلماذا يتجاوز الحدّ من النصر إلى الاعتداء؟ قال الزمخشري: حسْبُه أنّ اللّه قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك.(2)

موقف خالد لأمير المؤمنين عليه السلام

من مناقب الإمام علي السنيّة، تلك الوصيّة التاريخية التي سجّل فيها أروع موقف ينطق بعدله وإنصافه، وتحكيمه للقيم والمبادئ التي آمن بها حتى مع عدوّه اللّدود، الذي فلق رأسه الشريف بسيفه الغادر المسموم، قال عليه السلام من وصيّة له لمّا ضربه ابن ملجم لعنه اللّه: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، لَاأُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ .

أَلَا لَاتَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي. انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ : إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ

ص: 301


1- . النحل: 126.
2- . تفسير الكشّاف: 232/2.

بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ».(1)

هذا، ولعلّ في قوله تعالى: «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» دون أن يقول: وله أن يقتل، إشارة إلى أنّ وليّ المقتول لا يقوم بذلك بنفسه وإنّما ينفّذ هذا الحكم مَن بيده السلطة والقدرة لإجراء الأحكام في مواضع مختلفة، وليس ذلك إلّاالحاكم صاحب القدرة والسلطة والدولة، ولا يخفى أنّ قيام الوليّ بنفسه لأخذ الثأر فيه من الفساد ما لا حدود له، ويؤدّي إلى نشر الفوضى في المجتمع.

أين منطق الإسلام الظاهر في قوله: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً»(2) ، من الأمر الرائج هذه الأيام من بدايات القرن الحادي والعشرين إلى يومنا هذا من جريان أنهار الدماء في الشوارع والسجون والأماكن العامّة، والحروب المصطنعة، حيث يُقتل في كلّ يوم المئات من البشر بأنواع وسائل القتل، وما ذلك إلّابتخطيط الدول الاستكبارية وصنائعها لضرب المسلم بالمسلم وتخريب المنشآت الحيوية من أجل أن تبقى المجتمعات الإسلامية متخلّفة في كافّة المجالات العلمية والاقتصادية وغيرها.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ

ص: 302


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.
2- . المائدة: 32.

فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ».(1)

المفردات

كتبنا: الكتابة دليل على ثبوت الحكم ولزومه، وعُدّي ب «على» لتضمّنه معنى الحكم، أي حكمنا عليهم بذلك، والباء في قوله: «بِالنَّفْسِ » ، «بِالْعَيْنِ » ، «بِالْأَنْفِ » ، و...» للبدلية، كقولك: هذا بهذا. وتقدير الكلام: كتبنا على بني إسرائيل - في التوراة - أنّ النفس تكون بدل النفس المعصومة إذا قُتلت، وكذا البواقي.

التفسير

قوله تعالى: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ » : أي فرضنا على بني إسرائيل «فِيها» التوراة «أَنَّ »:

1. «اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ » : أي أنّ النفس تعادل النفس في باب القصاص.

2. «وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ » : أي العين تقابل العين.

3. «وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ » : أي يقابل كل الآخر.

4. «وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ » هكذا.

فالباء في الجميع للمقابلة.

6. «وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ » : أي الجروح ذات قصاص، تعتبر فيها المساواة بقدر الاستطاعة. فعلى هذا فالنفس تقتل بالنفس إذا قتلت عمداً بغير حقّ ، والعين تفقأ بالعين، والأنف يجدع بالأنف، والأُذن تصلم بالأُذن، والسن تقلع بالسن، لأنّ

ص: 303


1- . المائدة: 45.

الكلّ متماثل في مقابل الآخر. نرى انّ التعبير في الجروح يختلف عما سبق وإلّا كان اللازم أن يقول: والجرح وبالجرح، وذلك لما سيأتي من أنّ القصاص في شجاج الرأس والوجه والصدر والبطن يجري في موارد خمسة من الحارصة إلى الموضحة، ولا يجري في الأربعة الباقية من «الهاشمة إلى الحاكفة. وهذا النوع من التعبير الدقيق أية اعجاز القرآن وانّه كلام منزل من اللّه سبحانه. وأضاف سبحانه أنّ حكم القصاص إجراء بيد الولي، فله أن يقتصّ وله أن يعفو، «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ » أي بالقصاص «فَهُوَ» : أي التصدّق «كَفّارَةٌ لَهُ » والضمير هنا يرجع إلى المتصدّق، لأنّه المالك للقصاص، فيغفر اللّه ذنوبه.

فمن حكم بحكم اللّه فهو، وأمّا مَن أعرض عن حكم اللّه كما يقول: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ » . وبما أنّ النفس بالنفس فلو قتل الرفيعُ الوضيعَ ، يُقتل الرفيعُ ، والاستنكاف عن إجراء القصاص في هذه الصورة دليل على تفضيل القاتل على المقتول مع أنّ الجميع أمام اللّه سواء، فالقاضي عندئذٍ ظالم، هضم حق المقتول.

ثمّ إنّ حكم القصاص موجود في التوراة الحالية التي بأيدينا رغم ما جرى عليها من تحريف وتغيير، وإليك نص ما ورد فيها:

وإن حصلت أذية تُعطي نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسنٍ ، ويداً بيد، ورجلاً برجل، وكيّاً بكيّ ، وجُرحاً بجُرح، ورضّاً برضّ .(1)

بقي هنا أمران:

1. ما جاء في هذه الآية معمول به في الشريعة الإسلامية، هذا من جانب1.

ص: 304


1- . الكتاب المقدّس، سفر الخروج، الإصحاح 23، صفحة 121.

ومن جانب آخر أنّ التوراة منسوخة فكيف يعمل بما هو منسوخ ؟ وقد طرح هذا الإشكال الفاضل المقداد وأجاب عنه بأنّ النسخ لم يتعلّق بكلّ واحد واحد من الأحكام الموجودة في التوراة، وإنّما المنسوخ بعضها، ورفع المجموع من حيث المجموع لا يستلزم رفع كلّ واحد؛ بل واحد منها لا بعينه.(1)

أقول: يمكن أن يقال - كما سبق بيانه منّا في بعض المواضع - أنّ القرآن كتاب هداية للبشر عامّة، فما يذكره في القرآن من الكتب السماوية أو غيرها، فيؤخذ به إلّاإذا دلّ دليل على كونه منسوخاً أو كان الكلام كلاماً باطلاً. وليس كتاب اللّه كتاب القصص والحكايات حتى يشتغل الناس بسماعها، بل كتاب أُنزل لهداية الناس إلى صراط اللّه المستقيم.

2. أنّ القصاص محدود بما لم يكن فيه تغرير بنفس أو طرف، ولذلك يقول الفقهاء: لا يثبت القصاص فيما فيه تغرير بنفس أو طرف، وكذا فيما لا يمكن الاستيفاء بلا زيادة ونقيصة، ويثبت في كلّ جرح لا تغرير في أخذه بالنفس وبالطرف وكانت السلامة معه غالبة، فيثبت في الموارد التالية:

1. الحارصة: وهي التي تسلخ الجلد من غير إدماء، ولا تأخذ من اللحم شيئاً.

2. الدامية: وهي التي تدخل اللحم يسيراً ويخرج منها الدم.

3. المتلاحمة: وهي التي تدخل اللحم كثيراً ولكن لا تبلغ السمحاق.

4. السمحاق: وهي التي تقطع اللحم وتبلغ الجلد الرقيق الذي يغشي العظم، وهو بين اللحم والعظم.

5. الموضحة: وهي التي تقطع الجلد الذي يغشّي العظم وتوضحه.2.

ص: 305


1- . كنز العرفان: 370/2.

ولا يثبت في الأربعة الباقية:

1. الهاشمة: وهي التي تهشم العظم وتكسره.

2. المنقّلة: وهي التي تنقل العظم من الموضع الذي خلقه اللّه تعالى إلى موضع آخر.

3. المأمومة: وهي التي تبلغ أُمّ الدماغ.

4. الجائفة: وهي التي تصل الجوف بطعنة أو رمية، ولا تختصّ بما يدخل جوف الدماغ، بل تعمّ الداخل في الصدر والبطن.

حتّى أنّه لا يثبت في كسر شيء من العظام، وفي رواية صحيحة إثبات القود في السن والذراع، إذا كسرا عمداً، والعامل بها قليل.(1) ومَن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا: «أحكام القصاص في الشريعة الإسلامية الغرّاء».(2)

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ».(3)

المفردات

سبيل: أُريد به هنا اللوم والمؤاخذة.

ص: 306


1- . تحرير الوسيلة: 542/2، كتاب القصاص، المسألة 9.
2- . أحكام القصاص في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 536.
3- . الشورى: 41.

التفسير

الآية تدلّ على أنّ من أُوقع به ظلم في نفس أو طرف أو شجاج أو مال، فانتصر بعد ظلمه، أي استوفى حقّه، فليس عليه اللوم، كما يقول: «وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ » وأخذ ما له على الآخر من حق «فَأُولئِكَ » : أي الآخذون لحقوقهم «ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ » : أي من لوم.

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ ».(1)

التفسير

التعامل بالمثل عند الاعتداء

تؤكد الآية على الانتصار وفي الوقت نفسه على الاعتدال في الانتقام، ومع ذلك تحثّ على العفو والصلح.

إنّ جزاء المعتدي ليس سيئة إذا كان معادلاً للظلم، وإنّما وُصف بالسيئة هنا لأجل المشاكَلة، ولذلك قال: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ، وفي الوقت الذي يؤكّد فيه سبحانه على الانتصار وعلى الاعتدال في الانتقام، يحثّ أيضاً على التحلّي بخصلة سامية، وهي العفو والصلح لأجله سبحانه، حيث قال: «فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ » ، ونحو ذلك قوله سبحانه: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ

ص: 307


1- . الشورى: 40.

بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ »(1).

الإصلاح والعفو إجابة لأمره سبحانه

للمجنيّ عليه الانتصار والأخذ بحقّه ممّن اعتدى عليه، ومع ذلك «فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ » ، وهذا يختصّ بما إذا كان الباغي مؤمناً، بقرينة قوله: «فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ » ، إذ لا أجر لمَن عفا عن الباغي المشرك وأصلح وتركه على فعله.

ولمّا كانت هناك مظنّة وهْم، وهي أنّ في هذه الخصلة حماية للظالم بشهادة أنّه يؤكّد على العفو والصلح، جاء البيان القرآني لردّ هذا الوهم قائلاً: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ » وإنّما أمر بالعفو والصلح لأجل ترغيب المظلوم فيما وراء العفو من أجر جزيل، وليس في ذلك إلغاء لحقّ انتصاره، فالمؤمن مخيّر بين أمرين:

1. الانتصار والانتقام.

2. العفو والصلح.

ولكلٍّ مزيّة، ولكلٍّ مقام، فلو كان الانتصار مؤثّراً في قلع الظلم وضرره، يقدَّم على العفو والصلح، وإذا كان العفو والصلح مؤثّراً في شمول الصلح على المجتمع وثباته، فهو مقدّم.

ص: 308


1- . النحل: 126.

الفصل التاسع عشر: أحكام الديات في الذكر الحكيم

اشارة

أحكام قتل المؤمن خطأ.

تعريف الدية.

في الكفّارات.

ص: 309

ص: 310

أحكام الديات في الذكر الحكيم

الآية

اشارة

قال سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً».(1)

المفردات

خطأ: خلاف الصواب، يقال: أخطأ في الأمر أي لم يُصب الصواب.

فتحرير: التحرير: مصدر تفعيل من الحرية بمعنى إخراج العبد من الرق إلى الحرية.

دية: الدية بتخفيف الياء، والتاء في آخره عوض عن الواو المحذوفة في

ص: 311


1- . النساء: 92. لم يرد حول الدية في الذكر الحكيم الآية واحدة ولذلك لم نرقمها.

أوّلها، والأصل (ودى ) حذفت الواو وأبدل مكانها التاء، مثل عِدة أصلها وعد، وعلى هذا فهو مصدر.

يصدّقوا: أصله يتصدّقوا، وأُدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما.

التفسير

قوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً». ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ الاستثناء منقطع، نظير قوله سبحانه: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ »(1).

وعلى هذا فقد تمّ الكلام في قوله: «أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» ثمّ قال فإن كان القتل خطأ فحكمه كذا. وجه كونه منقطعاً أنّه لو كان متّصلاً يعود معنى الآية إلى أنّه لا يجوز قتل المؤمن عمداً ولكن يجوز خطأ، مع أنّ قتل المؤمن لا يجوز مطلقاً، إذ لا يسمح سبحانه لأحد قتل المؤمن في كلتا الحالتين، يقول الشيخ الطوسي، قوله: «إِلاّ خَطَأً» استثناء منقطع - في قول أكثر المفسّرين - وتقديره: إلّاأنّ المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس ذلك ممّا جعل اللّه له.(2)

غير أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى كونه متّصلاً، قال الرازي: معنى الآية يؤاخذ الإنسان على قتل المؤمن إلّاإذا كان القتل خطأ فإنّه لا يؤاخذ به.(3)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إخراج للآية عن ظاهر لفظها. والمهم جعله متّصلاً مع حفظ ظاهر الآية.

ص: 312


1- . النساء: 29.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 289/3.
3- . تفسير الرازي: 228/10.

ويمكن أن يقال: إنّ الاستثناء متّصل لا منقطع، لكن لا بالمعنى الذي ذكره الرازي، يُعلم وجه ذلك بالتأمّل في قوله: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ » * فإنّ مثل هذه الصيغة يُراد بها عدم الإمكان أو عدم الشأنية، قال سبحانه: «وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ »(1) ، وقال سبحانه: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ »(2) ، وقوله تعالى: «وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ »(3) إلى غير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم، وأُريد منه إمّا نفي الإمكان أو نفي الشأن، وعلى هذا فمعنى قوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» : أي لا يمكن للمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن، أو ليس من شأن المؤمن ذلك، إلّاخطأ أي يكون غافلاً أو جاهلاً في الموضوع، فإنّه يصدر منه خطأ.

وعلى هذا فالآية بصدد رفع مقام المؤمن من أن يحوم حول قتل أخيه المؤمن. نعم يدلّ بالملازمة على الحرمة التكليفية.

أحكام قتل المؤمن خطأ

ثمّ إنّه سبحانه يذكر في هذه الآية أنواعاً ثلاثة لقتل المؤمن مؤمناً، وهي:

1. تارة يقتل المؤمن مؤمناً وهو جزء من المجتمع الإسلامي كمن كان في المدينة المنورة يقتل مؤمناً بزعم أنّه كافر، فأوجب فيه الدية والكفّارة.

2. وأُخرى يقتل المؤمن مؤمناً وهو يعيش في قومه الكافرين ولم يتوفّق للهجرة إلى المدينة، فأوجب فيه الكفّارة دون الدية.

3. تلك الصورة لكن بين الدولة الإسلامية وبين قوم هذا المؤمن - المقتول -

ص: 313


1- . البقرة: 143.
2- . الشورى: 51.
3- . آل عمران: 161.

عهد وأمان، ففيه أيضاً الدية والكفّارة.

وبذلك يعلم وجوب الكفّارة في الأقسام الثلاثة لأنّها تكفير للجريمة التي ارتكبها المؤمن، وأمّا الدية فشرطها أحد أمرين: إمّا أن يكون مهاجراً ويعيش في المجتمع الإسلامي، أو يعيش بين قومه، لكن بين المسلمين وقومه الكافرين عهد وأمان.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قلنا: إنّ الآية ذكرت أنواعاً ثلاثة لقتل المؤمن، وإليك بيانها:

النوع الأوّل: «وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا» الفقرة ناظرة إلى قتل المؤمن إنساناً مؤمناً في المجتمع الإسلامي، بظن أنّه باقٍ على كفره، مع أنّه أسلم وهاجر من الشرك إلى الإسلام ودخل المدينة المنوّرة، لكن القاتل يتصوّر أنّه باقٍ على شركه فقتله... فكفّارته أمران:

1. «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » : أي يحرّر القاتل عبداً مسلماً.

2. «وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ » : أي يدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة، إلّاإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدّقوا بها عليه، وقد جاء في شأن نزولها أنّها نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل لأُمّه، لأنّه كان أسلم وقتل بعد إسلامه رجلاً مسلماً وهو لا يعلم إسلامه، والمقتول الحارث بن يزيد أبو نبشة العامري.(1)

ثمّ إنّه يقع الكلام فيما هو الوجه لإيجاب الأمرين التاليين:3.

ص: 314


1- . مجمع البيان: 180/3.

أمّا الأوّل، أعني: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » : أي عبد مؤمن يُعدّ تعويضاً عن خسارة اجتماعية ناتجة عن القتل الواقع لإنسان مؤمن، إذ خسر المجتمع فرداً نافعاً من أفراده بسبب وقوع القتل عليه، فجاء التحرير ليقوم مقامه.

وأمّا الثاني أي الدية فواضح، فهو مقابل الخسارة المادية اللاحقة بأهل القتيل نتيجة فقدهم إيّاه، والحقيقة أنّ الدية ليست ثمناً لدم القتيل المسلم البريء لأنّ دمه لا يعادل قيمته، بل هي نوع تعويض عن خسارة مادّية لاحقة بعائلة القتيل، بسبب فقدانه.(1)

النوع الثاني: يشير إليه بقوله: «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » الضمير في قوله: «وَ هُوَ مُؤْمِنٌ » يرجع إلى المقتول، ويريد أنّ المسلم قتل شخصاً باعتقاد أنّه كافر ثم تبيّن أنّه مسلم لكن يقيم بين قومه الكفّار، على خلاف النوع الأوّل فإنّه كان يقيم بين المسلمين.

ففي هذه الصورة أوجب سبحانه شيئاً واحداً وهو تحرير رقبة دون الدية.

أمّا تحرير الرقبة، فلما مرّ وجهه من أنّه تكفير لجريمة ارتكبها القاتل، مضافاً إلى أنّه أعدم مسلماً فعليه أن يحرّر عبداً مسلماً يقوم مقامه، وله الحرية التامّة في العمل.

فإن قيل: لماذا لم تجب الدية مع أنّه قتل مسلماً؟

قيل له: إنّه لو دفعت الدية فإنّما تصير تعزيزاً لأعداء المسلمين، لافتراض أنّ قومه كلّهم كفّار.

النوع الثالث: ما أشار إليه بقوله: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ 3.

ص: 315


1- . الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل: 336/3.

فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » ، فيشير سبحانه إلى ما إذا كان المسلم المقتول خطأ من قوم كافرين ولكنّهم غير محاربين بل بينهم وبين المسلمين عقد مسالمة وأمان، فأوجب سبحانه في هذه الحالة أمرين:

1. إعطاء دية المقتول إلى أهله كما قال: «فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ » وإن كانوا كفرة، لأنّهم لأجل الميثاق صاروا بحكم المسلمين من حيث وجوب الدية.

2. أن يكفّر عن عمله بعتق نسمة، وقد مرّ ما هو الوجه لتحرير الرقبة.

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى تسهيل في المقام وهو أنّ من لم يتمكّن من تحرير رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين، كما يقول: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» الرقبة «فَ» عليه «صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ » : أي إذا لم يجد نفس الرقبة أو المال الذي يشتريها به من مالكها، فعليه صيام شهرين قمريّين متتابعين لا يفصل بيوم من أيامهما إفطار في النهار.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ » : أي شرّع اللّه تعالى هذه الكفّارة على القتل لتكون «تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ » منه على العبد بالرحمة «وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً» بكلّ شيء «حَكِيماً» بما يأمر به وينهى عنه.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: الدية هي المال الواجب بالجناية على الحرّ في النفس أو فيما دونها كالأطراف والمنافع.

ثمّ إنّ الدية في العمد والخطأ واحدة لا يختلفان إلّافي خصوصيات الإبل.(1)5.

ص: 316


1- . لاحظ في الوقوف على هذه الخصوصيات كتابنا «أحكام الديات»: 45.

إنّ الدية في قتل العمد على القاتل، وفي الخطأ على العاقلة.

فإن قلت: كون الدية على العاقلة ينافي قوله سبحانه: «أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى »(1) .

قلت: العاقلة ليس شخصاً واحداً بل هم كلّ عصبة سوى الوالدين والمولودين، وهم: الإخوة، وأبناؤهم، إن كانوا من جهة أب وأُمّ ، أو من جهة أب، والأعمام وأبناؤهم، وأعمام الأب وأبناؤهم(2)، وهم - كماترى - جماعة كثيرة يشاركون في دفع الدية، فهو تعاون من داخل العشيرة ليخف أمر الدية على الجاني. وأمّا قوله سبحانه: «أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » فلا صلة له بتحمّل العاقلة، إذ المراد من الوزر: العقوبة الأُخروية، كما يظهر من سياق الآيات، وأين هذا من مساعدة الأقرباء للدين الباهض المتعلّق بذمّة الجاني.

الثاني: لو ارتكب القتل في الأشهر الحرم أو في حرم مكّة المكرّمة تغلّظ الدية فعليه الدية وثلثها.

الثالث: في كفّارة القتل عمداً يجب مع تحرير الرقبة، صيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً.(3)

وأمّا القتل خطأ ففيه كفّارة واحدة كما عليه الآية المباركة، غير أنّها مرتّبة فالواجب أوّلاً تحرير رقبة مؤمنة، وإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.

الرابع: دية قتل المرأة نصف دية قتل الرجل وربما يتوهم أنّه على خلافت.

ص: 317


1- . النجم: 38.
2- . المبسوط: 173/7؛ الخلاف: 227/5، المسألة 98.
3- . شرائع الإسلام: 204/1، كتاب الصوم، القول في صوم الكفّارات.

العدل الذي دعا إليه الإسلام في كثير من آياته، مع أنّها كالرجل، إنسان تام يقوّم كلّ بشيء واحد.

والجواب: أنّ الغاية من تشريع الدية، هو جبر الخسارة المالية التي وردت على ورثة المقتول، ومن المعلوم أنّها عند قتل الرجل أكثر من قتل المرأة، حيث إنّ الرجل هو المنفق على العائلة عامّة، دون غيره يقول سبحانه: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ »(1).

والإشكال مبني على تصوّر خاطئ وهو أنّ الدية عوض عن نفس الإنسان المقتول وعندئذٍ يتوجّه السؤال بأنّه لا فرق بين إنسان دون إنسان.

ثمّ إنّه يشترط في تحرير الرقبة كونها مؤمنة في هذا المقام دون الظهار، قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا»(2) .

وأمّا سائر الموارد فالمتّبع هو ما في الروايات والنصوص.(3)ت.

ص: 318


1- . النساء: 34.
2- . المجادلة: 3.
3- . بلغ الكلام إلى هنا في اليوم الثامن والعشرين من شهر شوال المكرّم عام 1439 ه، وتمّ في ليلة ذلك اليوم، العقد الثاني والتسعون من عقود عمر المؤلف. الحمد للّه الذي بنعمته تتمّ الصالحات.

خاتمة

اشارة

آيات غفل عن عناوينها وتفسيرها مؤلّفو آيات الأحكام:

1. الإسراف

2. التبذير

3. البدعة

4. التكفير

5. نسخ الأحكام الشرعية

6. التعزير

7. التسليم

ص: 319

ص: 320

إكمال

قد تقدّم في مقدّمة الجزء الأوّل من كتابنا هذا، أنّه قد وردت في الكتاب العزيز، موضوعات عديدة، ولها أحكام فيه، ولكن لم نجد في كتب الأصحاب ولا في غيرهم ذكراً منها، نظير:

1. الإسراف. 2. التبذير. 3. البدعة. 4. التكفير.

5. نسخ الأحكام الشرعية. 6. التعزير. 7. التسليم.

فاقتضت الحال دراستها على غرار ما سبق من الموضوعات، مقتصرين بذكر الآيات التي تضمّنت بيان الأحكام الشرعية، دون ما تجرّدت عنها. فلنبدأ بدراستها.

ص: 321

1. حكم الإسراف ومواضعه في الذكر الحكيم

اشارة

قد وردت مادة الإسراف بالصيغ المختلفة إحدى وعشرين مرّة؛ بينما وردت مادة التبذير ثلاث مرّات: تارة بصورة المصدر «تَبْذِيراً» ، و أُخرى بصيغة اسم الفاعل «اَلْمُبَذِّرِينَ » ، وثالثة بصورة الفعل «تُبَذِّرْ» . وبما أنّ الإسراف أكثر ابتلاءً من الآخر جاء التأكيد عليه أكثر من التبذير.

الإسراف لغة وشرعاً

اشارة

قال الراغب: «الإسراف»: تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر.(1)

وقال الجرجاني: «الإسراف»: إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس.

وقيل: الإسراف: تجاوز الحدّ في النفقة، ثم ذكر وجوهاً أُخرى.(2)

وقال الطريحي: «الإسراف»: أكل ما لا يحلّ . وقيل: مجاوزة القصد في الأكل ممّا أحلّ اللّه.(3) إلى غير ذلك من التعريفات.

ص: 322


1- . المفردات للراغب: 230، مادة «سرف».
2- . التعريفات: 33.
3- . مجمع البحرين: 69/5، مادة «سرف».

إنّما المهم، هو الوقوف على ما أُريد به في الذكر الحكيم، والمتبادر منه من الآيات المتضمّنة لحكمه، هو مجاوزة القصد، وتجاوز الحدّ، وعندئذٍ يختلف حكمه بحسب متعلّقه، فربما يكون تجاوزه مباحاً أو مكروهاً، وأُخرى حراماً؛ فالإسراف مثلاً في الإنفاق مكروه، ولكنّه في القتل والقصاص حرام، كما سيوافيك.

وأضعف الأقوال في تعريفه ما نقله الجرجاني والطريحي وغيرهما من أنّ «الإسراف صرف الشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي، بخلاف التبذير، فإنّه صرف الشيء فيما لا ينبغي».

وجه الضعف أنّه سبحانه يصف قوم لوط بالمسرفين ويقول: «قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ».(1) ويصف فرعون بأنّه من المسرفين ويقول: «مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ »(2) ، مع أنّ عملهم كان فيما لا ينبغي، وأمّا التبذير فسيأتي الكلام فيه في محلّه.

إذا تمهد ذلك فلنبدأ بدراسة حكم الإسراف في الكتاب العزيز، ببيان مواضعه فيه:

1. الإسراف في الأكل والشرب
اشارة

قال سبحانه: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا

ص: 323


1- . الذاريات: 32-34.
2- . الدخان: 31.

تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ ».(1)

التفسير

أشار سبحانه الى بعض نعمه في الآيات التي سبقت هذه الآية وقال: «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً»(2) ، كما صرّح ببعض آخر من نعمه بعد هذه الآية وقال: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ ».(3)

إنّ الآية من أغزر الآيات، مفاداً، وإن قلّت ألفاظها، وفي الوقت نفسه تجسيد لقوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ»(4) : أي الحدّ الوسط. ولمّا أمر سبحانه في نفس السورة بالتزيُّن والتنعُّم بالطيّبات، فلربما تكون الآية ذريعة للإفراط فيهما فيفضي الأوّل إلى الاختيال والإحساس بالكبْر، ويفضي الثاني إلى الإتخام أو إلى انحراف المزاج عن الصحّة، جاءت الفقرة تؤكد أنّ خير الأُمور - حتى التزيُّن والتنعُّم بالطيِّبات - هو أوسطها، كما يقول: «وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا».

ثمّ إنّ الإنسان لو عمل بهذا القانون الإسلامي طيلة حياته، لقلّما يتّفق أن تنحرف حالته الصحية، وقد حُكي أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطبّ شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان ؟ فقال له عليّ : قد جمع اللّه الطب كلّه في نصف آية من كتابه، وهو قوله: «وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» وجمع نبيُّنا صلى الله عليه و آله و سلم الطبّ في

ص: 324


1- . الأعراف: 31.
2- . الأعراف: 26.
3- . الأعراف: 32.
4- . الأعراف: 29.

قوله: «المعدة بيت الداء والحِميةُ رأس كل دواء، وأعطِ كلّ بدن ما عوّدته»، فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً.(1)

وقال الإمام عليّ عليه السلام: «كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ مَنَعَتْ أَكَلَاتٍ !».(2)

وللحكيم طائر الصيت ابن سينا، أُرجوزة حول الموضوع يقول:

اسمع جميع وصيّتي واعمل بها ***فالطب مجموع بنظم كلامي

إلى أن يقول:

واجعل غذاءَك كلّ يوم مرّة *** واحذر طعاماً قبل هضم طعام

لا تشربنّ عقيب أكل عاجلاً *** فتقود نفسك للأذى بزمام(3)

***

2. الإسراف في الإنفاق
اشارة

قد وردت حول الإسراف في الإنفاق آيات ثلاث:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً».(4)

ص: 325


1- . مجمع البيان: 268/4.
2- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 171.
3- . ريحانة الأدب: 46/7. الزمام «المقود»: ما تُقاد به الدابّة.
4- . الفرقان: 67.
المفردات

يقتروا: التقتير: التضيق.

قواماً: وسطاً وعدلاً.

التفسير

الإنفاق سنّة كونية إذ كلّ موجود يُنفق ما يزيد عن حاجته ممّا يملك، فهذه الشمس تنفق ملايين الأطنان من الضوء والحرارة إلى المجموعة الشمسية، وهذه الأرض تعطي ما على ظهرها من الأشجار والأعشاب بما تملك من المواد الغذائية، وهذه الأشجار والأزهار لهما دور في حياة الإنسان والحيوان، ويتجلّى دورهما في الإنفاق ببذل الفواكه والأزهار، كما أنّ للأزهار دوراً في هذا المضمار حيث إنّ النحل يمتصّ رحيقَها ويصنع منه العسل، إلى غير ذلك من مظاهر الإنفاق الّتي يلمسها كلّ إنسان إذا نظر نظرة سطحية، فكيف إذا نظر بنظر عميق ؟!

فإذا كان الإنفاق سنّة كونية فليقتد الإنسان بها، ولذلك صار الإنفاق فريضة مالية في الإسلام وضريبة، فأمر بالزكاة والخُمس والصدقة والكفّارات وإغاثة اللاجئين وإعانة المحتاجين بصور مختلفة؛ روى السَّكوني عن جعفر بن محمد [ الصادق] عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «السخيّ قريب من اللّه، قريب من الناس، قريب من الجنة؛ والبخيل بعيد من اللّه، بعيد من الناس، قريب من النار».(1)

وكان العرب في الجاهلية يسرفون في الإنفاق في اللَّذات وفي الوقت نفسه

ص: 326


1- . بحار الأنوار: 70/308، برقم 37، باب البخل (136). وروي نحوه عن الإمام عليّ الرضا عليه السلام، لاحظ: عيون أخبار الرضا للصدوق: 2/15، برقم 27.

يقتِّرون على المساكين والضعفاء، فصار عملهم بين الإسراف والإقتار، ولذلك يذكر سبحانه أنّ عمل عباد اللّه على خلافهم ويقول: «وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا» : أي لا يتجاوزون الحدّ الذي يقتضيه الإنفاق «وَ لَمْ يَقْتُرُوا» : أي لا يمسكون ولا يقبضون أيديهم مع ما أعطوا من الثروة «وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» : أي عدلاً متوسطاً. أي كان الإنفاق بين الإسراف والقَتْر «قَواماً» عدلاً إذا قرئ بفتح القاف، وإذا قرئ بكسر القاف: أي ما يدوم عليه الأمر ويستقرَ.

الآية الثانية
اشارة

قال تعالى: «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً»(1).

المفردات

مغلولة: مقيّدة بالغُلّ .

تبسطها: تتوسَّع في الإنفاق.

محسوراً: منهوك القُوَى . والمراد: غير قادر على إقامة شؤونك.

التفسير

إنّ سياق الآية يحكي أنّ المراد من الإنفاق هو الإنفاق غير الواجب، أعني:

المندوب، ففي الإنفاق الواجب يتبع ما فرض عليه، وأمّا في المندوب فيجب أن يراعي فيه الطريق الوسط بين الإسراف والإقتار.

ص: 327


1- . الإسراء: 29.

روى الكليني بسنده عن عبد الملك بن عمرو الأحول قال: تلا أبو عبد اللّه عليه السلام هذه الآية، ثم ذكر الآية وقال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال:

«هذا الإقتار الذي ذكره اللّه عزّ وجلّ في كتابه»، ثم قبض قبضة أُخرى فأرخى كفّه كلّها. ثم قال: «هذا الإسراف»، ثم أخذ قبضة أُخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها، وقال: «هذا القَوام».(1)

وعلى كلّ تقدير، يجب في الإنفاق غير الواجب الاقتصاد إذ التخلّي عن الدنيا ومواهبها وترك لذّاتها تماماً خلاف الوسط، كما أنّ التوغّل فيها ونسيان الآخرة كذلك، وقد ذمّ سبحانه الطائفة الأُولى بقوله: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ »(2).

وهذا هو إمام المتّقين علي عليه السلام قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلمّا رأى سعة داره قال: «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ : تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا(3)، فَإِذَاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ ».

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له ؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: عليَّ به، فلمّا جاء قال: يَاعُدَيَّ نَفْسِهِ !ا.

ص: 328


1- . تفسير نور الثقلين: 29/4.
2- . الأعراف: 32.
3- . تُوقِعُها في مظان استحقاقها.

لَقَدِ اسْتَهَامَ (1) بِكَ الْخَبِيثُ ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ؟! أَتَرَى اللّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟! أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللّهِ مِنْ ذلِكَ !.(2)

قال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، هذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ !

قَالَ : وَيْحَكَ ، إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ ، إِنَّ اللّهَ تَعَالى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ (الحق) أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ !».(3)

وبذلك يُعلم أنّ المعيار في تقييم الفضائل الخلقية هو التوسّط والاعتدال، فلقد نهى الإسلام - مثلاً - عن الرهبانية وأمر بالنكاح وفي الوقت نفسه نهى عن كون الدنيا وزخارفها أكبرَ هموم الإنسان، وإلى عدم تجاوز الحدّ يشير قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ عليّ عليه السلام: «يا عليّ هلك فيك اثنان: محبّ غالٍ ، ومبغض قالٍ »(4)، وفي الوقت نفسه قال: «عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب».(5)

ولأمير البيان عليه السلام في المقام كلمة قيّمة حول الانتفاع بالدنيا، حيث قال: «وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ »(6). والشقّ الأوّل يرشد إلى النظر إلى الدنيا بما أنّها وسيلة لكسب الآخرة، وهذا يورث البصيرة للإنسان، والشقّ الثاني يرشد إلى النظر إليها بما أنّها هدف ومقصد نهائي، وهذا يورث العمى له.2.

ص: 329


1- . جعلك هائما ضالّاً. والباء زائدة.
2- . إنّ اللّه أحلّ لك وأنت تكره حلاله، فأنت أهون من هذا الأمر.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 209.
4- . شرح إحقاق الحق: 341/14.
5- . حلية الأولياء: 86/1.
6- . نهج البلاغة: الخطبة 82.
الآية الثالثة:
اشارة

قال تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ ».(1)

المفردات

أنشأ: من الإنشاء: وهو إحداث الفعل ابتداءً لا على مثال سابق.

معروشات: من العرش وهو الرفع وعرش الكرم، رفع بعض أغصانها على بعض.

حصاده: الحصد هو قطع الزرع بالمِنْجل.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أُمور:

1. أنّه سبحانه خالق هذه البساتين التي فيها الأشجار المختلفة فهي بين معروشات وغير معروشات، وفيها فواكه مختلفة اللون والطعم والصورة كما يقول: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ».

2. الأمر بأكل الثمرات كما في قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» والأمر

ص: 330


1- . الأنعام: 141.

هنا للإباحة لوقوعه بعد توهم الحظر. وإطلاق الثمر على الزرع من باب أنّ معنى الفقرة هو: كلوا من ثمر ونتاج كلّ ما ذُكر من أوّل الآية إلى هنا. كما أنّ تقييد الأكل بوقت الإثمار حمل على الغالب وإلّا فيجوز أكل العنب إذا كان حصرماً، والتمر إذا كان بُسراً.

3. وجوب شكر اللّه سبحانه على هذه النعم، كما يقول: «وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » وفيه احتمالان:

ألف. إخراج الصدقة الواجبة، فيكون المراد العشر ونصف العشر، ولو أُريد هذا يكون المتبع ما هو المفروض.(1)

ب. الإنفاق على المحتاجين والمساكين ممّا يحصل عليه الإنسان من ثمرات البساتين والمزارع. والظاهر أنّ الضمير في «حَقَّهُ » يرجع إلى الثمر. ويؤيد ذلك الأمر بعدم الإسراف.

4. النهي عن الإسراف في الأكل وفي الإنفاق والصدقة، فقال تعالى: «وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ » فالمراد عدم التصدّق بجميع ما حصل عليه من مزرعته وبستانه، على وجه يسبب فقر المعطي وعدم إبقاء شيء للعيال، فيكون المعنى النهي عن الإسراف في الإنفاق. ويحتمل أن يكون النهي عامّاً بمعنى ذم الإسراف في كلّ شيء.

التأكيد على الاقتصاد في الروايات

لو دلّت الآيات (ولو من باب الأخذ بروحها) على لزوم الاقتصاد في الحياة ففي الروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تأكيد عليه؛ روى الصدوق في

ص: 331


1- . لاحظ: الكافي: 564/3.

«الخصال» بسنده عن إبراهيم بن ميمون قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام، يقول:

«ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر».(1)

وروى أيضاً عن داود الرقّي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ القصد أمر يحبه اللّه عزّ وجل، وإنّ السرف يبغضه، حتى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء، وحتى صبّك فضل شرابك».(2)

وروى أيضاً عن علي عليه السلام أنّه قال: «ما عال امرؤ اقتصد».(3)

***

3. الإسراف في أخذ الثار بالقصاص
اشارة

قال سبحانه: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً».(4)

المفردات

سلطاناً: قدرة واستيلاء.

فلا يسرف: لا يتجاوز الحدّ.

منصوراً: أي مؤيّداً حيث سُمح للولي أن يقتصّ أو يأخذ الدية.

التفسير

تقدّم تفسير الآية في باب القصاص، وإعادة دراستها هنا لأجل النهي

ص: 332


1- . بحار الأنوار: 346/68، عن الخصال: 9.
2- . بحارالأنوار: 346/68، عن الخصال: 11.
3- . بحار الأنوار: 347/68، عن الخصال: 620.
4- . الإسراء: 33.

عن الإسراف في القتل الذي ورد في آخرها. وقد تقدم أنّ الإسلام يحترم دم الإنسان على حدّ يصف قتل واحد منه كقتل الناس جميعاً، كما مرّ في قوله سبحانه: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً»(1) وفي آيتنا هذه ينهى عن قتل النفس التي حرم اللّه إلّاإذا كان بالحقّ كما إذا قتل نفساً بظلم ويقول: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» : أي ولاية لإعمال القصاص، ومع ذلك يؤكّد على أن يكون الجزاء على قدْر الجريمة، ويقول: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ »(2) ويقول في آيتنا هذه: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ » والضمير في «يُسْرِفْ » يرجع إلى الوليّ ، وهذا الحكم شُرّع ردّاً على ما كان شائعاً في الجاهلية، حيث كان من عادة عدد من القبائل آنذاك أن يقتل الوليّ غير القاتل، أو يقتل معه غيره، ولذلك يقول: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ ».

ثمّ إنّ في قوله سبحانه: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ » وجهين:

1. أنّه تعليل لإعطاء السلطة للوليّ بقوله: «إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» : أي نصرناه وأعطينا له السلطة في القصاص. قال الزمخشري: حسْبُه أنّ اللّه قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك.(3)

2. أنّه تعليل للنهي عن الإسراف، أي أنّ وليّ المقتول منصور بحكم القوَد، فلماذا يتجاوز الحدّ أي القصد إلى الاعتداء؟2.

ص: 333


1- . المائدة: 32.
2- . النحل: 126.
3- . تفسير الكشّاف: 232/2.
4. الإسراف في قتال العدو
اشارة

قد وردت في النهي عن الإسراف في قتال العدو آيتان:

الآية الأُولى:
اشارة

قال تعالى: «وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ ».(1)

المفردات

يقاتلونكم: من المقاتلة وهي محاولة الرجل قتل من يحاول قتله.

تعتدوا: تتجاوزوا الحدّ.

التفسير

الآية على وجازتها تتضمّن بيان أُمور ثلاثة:

1. ما هي الغاية من الجهاد وقتال العدو؟

2. تحديد من يقاتَل.

3. النهي عن الاعتداء وتجاوز الحدّ.

أمّا الأوّل: فقال سبحانه: «وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ » : أي لإعلاء كلمة التوحيد، دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم ودون السيطرة على أسواقهم، فعلى هذا فالعامل المحرّك لجند الإسلام إلى القتال، هو تحرير الإنسان الوثني عن

ص: 334


1- . البقرة: 190.

الشرك والخرافة، وإيصاله إلى التوحيد ورفض الأنداد. وأين هذا من الحروب الدامية الّتي ترتكبها الدول الّتي وقّعت على وثيقة الأُمم المتحدة، حيث إنّ غايتهم حطّ كرامة الإنسان وسيادة الظلم والعدوان، والسيطرة على مصائر العباد.

وأمّا الثاني: فيشير إليه بقوله: «اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ » حيث قد ورد في شأن نزول الآية: أنّ المسلمين خافوا ألّا تفي لهم قريش ويقاتلونهم، فلو عملت قريش بما اتّفقوا عليه مع النبيّ لما بدأ المسلمون بالقتال، فكانت خيانة قريش بنقض العهد مبرراً لقتالهم، ومن حسن الحظ لم يصدر من المسلمين قبل نقض العدو العهد، أي اشتباك في هذا الحال.

قوله: «يُقاتِلُونَكُمْ » قد عرفت أنّه وإن كان بصدد بيان حال العدو ولكنّه في الحقيقة شرط ومبرر.

وأمّا الثالث: فأُشير إليه بقوله: «وَ لا تَعْتَدُوا» : أي لا تخرجوا عن الحد، كالابتداء بالقتال، أو بعد انتهاء العدو بالإيمان.

روى الكليني بسنده عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطروا إليها، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين، فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه».(1)

ما جاء من هذه الآداب في هذه الرواية وغيرها، من تخصيص قتال العدو،2.

ص: 335


1- . الوسائل: 11، الباب 15 من أبواب جهاد العدو وما يشابهه، الحديث 2.

بمن يقاتل يختصّ بمن يُعلم أو يظن أنّه يحترم علاقاته مع الآخرين، ولا يخون، وأمّا لو ظن الحاكم الشرعي، بأن العدو بصدد الخيانة، ورفض المعاهدة فعلى الحاكم الإسلامي المبادرة إلى رفض ما عاهدهم عليه، كما في قوله سبحانه: «وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ »:(1) أي خفت من قوم بينك وبينهم عهد، خيانة فيه «فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ » : أي فألق إليهم ما بينك وبينهم من العهد واعلمهم بأنّك قد نقضت ما شرطت لهم، وذلك لأنّ اللّه لا يحب الخائنين، ولذلك أوجب عليك إعلامهم بنقض العهد.

الآية الثانية
اشارة

قال تعالى: «اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ ».(2)

المفردات

الشهر الحرام: عبارة عمّا يحرم فيه ما يحل في غيره، وهن أربعة أشهر: رجب وذو القعدة وذو الحجّة ومحرم الحرام.

الحرمات: جمع حرمة، ما يجب حفظه ويحرم هتكه.

قصاص: الأخذ للمظلوم من الظالم بسبب حكمه إيّاه.

ص: 336


1- . الأنفال: 58.
2- . البقرة: 194.
التفسير

كان العرب يحرّمون القتال في الأشهر الحرم، حتّى لو أنّ رجلاً لقي قاتل أبيه أو أخيه، لم يتعرّض له بسوء، إذا تبيّن ذلك فقد كان المسلمون الّذين كانوا في ركاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستغربون القتال في الأشهر الحرم، فقد جاءت هذه الآية تبيّن لهم وجه الجواز وتقول: «اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ » الّذي هتك المشركون حرمته وخرجوا ومنعوا النبيّ ومن معه من العُمرة «بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ » : أي في مقابله، فأُذن للمسلمين القتال فيه إذا ظهر من المشركين النقض بالنسبة إلى الوثيقة، وإذا كانت عداوة المشركين للتوحيد ودين الحقّ ومحاربتهم للّه ورسوله لا تمنعهم حرمة هذا الشهر ولا حرمة البيت الحرام عن قتال المسلمين، فلهم معارضتهم بتجويز القتال إذا ظهر منهم النقض.

ثم إن قوله سبحانه: «اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ » بيان خاص أعقبه بيان عام يشمل جميع الحرمات حيث قال: «وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ » فمن هتك حرمة يقتص منه ولا تمنعه حرمته عن الاقتصاص، ثم جاء ببيان عام آخر وقال: «فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ » :

أي ظلمكم «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ » : أي فجازوه «بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ » ، ومن المعلوم أنّ الثاني ليس اعتداء، وتسميته بالاعتداء، من باب المشاكلة، نظير قوله سبحانه:

«وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ »(1) .

ص: 337


1- . آل عمران: 54.

معيّة مكانية أو زمانية، بل بمعنى كونه ناصراً لهم في سبيله. فالآية من أدلّة حرمة الإسراف في قتال العدوّ.

5. الإسراف على الأنفس
اشارة

قال سبحانه: «قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ».(1)

المفردات

تقنطوا: القنوط: اليأس من الخير قال تعالى: «فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ »(2) : أي من اليائسين.

التفسير

الآيات السابقة لهذه الآية في سورة الزمر تمثّل مشهد العذاب والزجر والعقاب، وهذه الآية تُمثِّل الرجاء والغفران فاللّه تبارك وتعالى يتجلّى - تارة - باسم العزيز المنتقم، فيوعد عباده، ويأخذهم بسيّئات أعمالهم؛ وأُخرى يتجلّى باسم الغفور الرحيم، كما في آيتنا هذه، فيخاطب عباده العصاة بقوله: «قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ » وفي تعدية الإسراف بلفظ «على» بدل «في» إشارة إلى أنّ الإسراف في الأعمال وإكثارها تثقل به النفس، كما يقال في مَن كلّم شخصاً مرّة بعد أُخرى، يقال له: وأكثرت على فلان. و المعنى أكثروا من الذنوب والمعاصي فتحمّلوها، فهؤلاء مع وصفهم هذا ليس لهم القنوط من رحمة اللّه كما

ص: 338


1- . الزمر: 53.
2- . الحجر: 55.

يقول: «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ » لماذا، ل «إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً» ويتجلّى ب «إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ».

ما جاء في هذه الآية جزاء مَن تنبّه وندم، وأمّا مَن بقي إلى نهاية العمر على الإسراف على النفس فهذا ما يذكره قوله سبحانه: «وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى »،(1) فقوله: «وَ كَذلِكَ » إشارة إلى المعيشة الضنك التي وردت في الآية السابقة، أي «نَجْزِي» بالمعيشة الضنك، أي الضيق و الشدة «مَنْ أَسْرَفَ » وجاوز الحد «وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ » التي عرضت عليه، هذا جزاؤهم في الدنيا وأمّا في الآخرة «وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ» من عذاب الدنيا «وَ أَبْقى » لكونه دائماً.

ولا منافاة بين هذه الآية التي تمثّل مشهد العذاب والآية السابقة التي تمثّل الرجاء، فإنّ مورد السابقة هو من تنبّه وندم على أعماله المثقلة على نفسه، بخلاف هذه الآية التي تبيّن حال مَن يصرّ على الشرك وأعماله السيئة.

إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي جاء الإسراف فيها وصفاً للأعمال الذي هو محور الدراسة في آيات الأحكام.

وهناك آيات وصفت أُناساً بكونهم مسرفين، نظير قوله سبحانه: «مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ »(2) وهذه الآيات بما أنّه لا تتضمّن بالدلالة المطابقية حكماً شرعياً، وإن دلّت التزاماً على حكم الأعمال التي لأجلها وصفوا بالمسرفين، ولأجل ذلك نترك دراستها إلى مظانّها في التفاسير.1.

ص: 339


1- . طه: 127.
2- . الدخان: 31.

كما أنّ إضرار الوارث لأجل إيصاء فوق الثلث الذي أُشير إليه بقوله سبحانه:

«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارٍّ»(1) نوع من الإسراف أي تجاوز الحد في الإيصاء، وقد تقدّمت دراستها في باب الوصية فلاحظ.2.

ص: 340


1- . النساء: 12.

2. حكم التبذير في الذكر الحكيم

الآية الأُولى:

اشارة

قال تعالى: «وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً».(1)

المفردات

تبذيراً: التبذير: لغة كما قال الراغب: التفريق، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكلّ مضيّع لماله، فتبذير البذر تضييع في الظاهر لمَن لم يعرف مآل ما يلقيه.(2)

وقال الطبرسي: التبذير، التفريق بالإسراف، وأصله أن يفرّق كما يفرّق البذر، إلّاأنّه يختصّ بما يكون على سبيل الإفساد، وأمّا ما كان على وجه الإصلاح

ص: 341


1- . الإسراء: 26.
2- . المفردات للراغب: 40، مادة «بذر».

لا يُسمّى تبذيراً.(1)

ويدلّ على ما ذكره الطبرسي هو وجود التشديد في التشبيه في التبذير حيث عدّ المبذِّر أخاً للشيطان. فيختصّ بصرف المال في جانب الفساد.

التفسير

الآية تتضمّن البذل المحمود والبذل المذموم.

أمّا الأوّل فهو إيتاء ذي القربى حقّه والمسكين وابن السبيل، فإنّ الإنفاق في حقّ هذه الطوائف الثلاث من أفضل القربات، فقد أعطى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة فدكاً، والخطاب وإن كان للنبيّ لكن لا يقتضي اختصاص الحكم به.

وأمّا الثاني فقد نهى عن البذل المذموم الرائج عند العرب يوم ذاك، وهو التبذير والذي يعرّف بأنّه التفريق، وأصله أن يفرّق ماله كما يفرّق البذر، إلّاأنّه يختصّ بما كان على سبيل الإفساد والمعصية وصرف المال في غير وجهه، كما مرّ.

وعلى هذا فالآية تتضمّن حكمين مختلفين، إيجابي وسلبي، فالإنفاق على الطوائف الثلاثة، محبوب ومثاب، وبذل المال في الأُمور المحرّمة المورثة للفساد مذموم محرّم.

قوله: «وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» : أي لا تفرّق ما أعطاك اللّه من المال في الفساد والمعصية، كصرفه في الخمر واللّذات المحرّمة وليالي السمر، إلى غير ذلك من الموارد التي يصرف المال فيها ولا يعود بخير على الفرد ولا على المجتمع.

ووجه النهي واضح، لأنّه سبحانه جعل المال لرفع الحاجات والضروريات

ص: 342


1- . مجمع البيان: 278/6.

وما يقع في حدود تطوير وسائل العيش، فصرفُه في غير هذه المواضع إضاعة للمال وموجب للحرمان، ولذلك تؤكّد الآية وتقول: «وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً».

ثمّ إنّ النسبة بين الإسراف والتبذير هو العموم والخصوص، ويظهر ذلك بعد الوقوف على أنّ التبذير هو صرف المال في جانب الفساد، وعلى هذا فكلّ تبذير إسراف، وصرف المال في اللَّهو والشهوة والخمر والميسر تبذير وإسراف، ولكن بعض الإسراف ليس تبذيراً، كما إذا اشترى ثوباً بمئة دينار للُّبس مع إمكانه أن يشتري ثوباً بخمسين ديناراً، وكلّ من الثوبين يؤمّن حاجاته الفردية والاجتماعية، غير أنّ شراء الثوب الغالي إسراف وخروج عن الاعتدال، لأنّ ما اشتراه يعادل الثمن الذي بذله في مقامه، حتى أنّ الإنفاق الأكثر إسراف وليس بتبذير، إذ ليس من قبيل صرف المال في الفساد.

الآية الثانية:

اشارة

قال تعالى: «إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً».

المفردات

إخوان الشياطين: قرناءهم وأصدقاءهم.

التفسير

قوله تعالى: «إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ » وظاهر صيغة الجمع في قوله: «إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ » هو أنّ لكلّ مبذِّر أخاً خاصّاً به من الشياطين، وهذا ما يستفاد من بعض الآيات، قال تعالى: «وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

ص: 343

وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ »(1).

وأمّا وجه التنزيل أو الاشتراك فهو أنّه سبحانه أعطى كلّ شيطان نِعماً ليصرفها في طاعة اللّه، ولكنّه يجحد نعمة اللّه ويصرفها في سبيل إغواء الناس وحملهم على المعصية، فيعد مبذِّراً للنعمة، ويكون أخاً لمن يصرف المال في غير وجهه.

وأمّا كون الشيطان كفوراً، فواضح بنفس البيان، حيث إنّ الشيطان يصرف ما أُوتي من القوى في غير طاعة اللّه، وأخو الشيطان وأولاده كلّهم قد جحدوا نعمة اللّه بصرفها في غير محلّها.

يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: «أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللّهِ ».(2) وأُريد من التبذير هو صرف المال في جانب الفساد.

***6.

ص: 344


1- . فصّلت: 25.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 126.

3. البدعة والتشريع في الذكر الحكيم

اشارة

البدعة والتشريع تناولهما المفسّرون بالدراسة ضمن آيات متعدّدة، ولكن مؤلّفي آيات الأحكام قد غفلوا عن عنوانهما وبيان حكمهما، وسيوافيك الفرق بين التشريع والبدعة ونحن ندرسهما ضمن مباحث، ولنقدّم البحث عن معنى البدعة في اللغة والكتاب والسنّة:

المبحث الأوّل: في تفسير البدعة لغة وكتاباً وسنّة

البدعة لغة
اشارة

قال الخليل: البَدع: إحداث شيء لم يكن له من قبلُ خلق ولا ذكر ولا معرفة... والبِدع الشيء الذي يكون أوّلاً في كلّ أمر كما قال اللّه تعالى: «ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ » : أي لست بأوّل مرسل.(1)

فالخليل بيّن معنى اللفظين المشتقين من مادّة واحدة.

وقال ابن فارس: البَدع: له أصلان، إبتداع الشيء وصنعه لا عن مثال،

ص: 345


1- . كتاب العين: 54/2، مادة «بدع».

والآخر: الانقطاع والكلال.(1)

وقال الراغب: الإبداع: إنشاء صنعة بلا إحتذاء ولا اقتداء، والبدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدّمة وأُصولها المتقنة.(2)

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة للغويين.

والإمعان في هذه الكلمات يثبت بأنّ للبدعة في اللغة معنى عامّاً يشمل كلّ جديد لم يكن له مماثل، سواء كانت في العادات كالأطعمة والألبسة والأبنية والصناعات أو في الدين.

معنى البدعة في الكتاب والسنّة

لكن البدعة في الكتاب والسنّة تختصّ بما استحدث بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الأهواء والأعمال في أُمور الدين، وقد مرّ عليك قول الراغب: «البدعة في المذهب إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه...». كلّ ذلك يُعرب عن أنّ إطار البدعة المحرّمة، هو الإحداث في الدين، ويؤيّده قوله سبحانه في نسبة الابتداع إلى النصارى بإحداثهم الرهبانية وإدخالهم إيّاها في الديانة المسيحية، قال سبحانه:

«وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ »(3).

فقوله سبحانه: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ » يعني ما فرضناها عليهم ولكنّهم نسبوها إلينا عن كذب.

ص: 346


1- . مقاييس اللغة: 209/1، مادة «بدع».
2- . المفردات للراغب: 38-39، مادة «بدع».
3- . الحديد: 27.

وأمّا التطوير في ميادين الحياة وشؤونها فإن كان بدعة لغة فليس بدعة شرعاً، بل يتبع التطوير في الحياة جوازاً ومنعاً الحكمَ الشرعي بعناوينه، فإن حرّمه الشرع ولو تحت عنوان عام فهو محرّم، وإلّا فهو حلال، لحاكمية أصل البراءة ما لم يرد دليل على الحرمة.

البدعة في كلمات العلماء

قد عرّف أصحابنا البدعة بتعاريف كثيرة مترادفة غير أنّ أوضح التعاريف هو ما يلي:

قال السيد المرتضى رحمه الله: البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه مع إسناد إلى الدين.(1)

وقال الطريحي (المتوفّى 1086 ه): البدعة: الحدث في الدين وما ليس له أصل في الكتاب والسنّة. وإنّما سُمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدع هو نفسه.(2)

وقال المحقّق الآشتياني (المتوفّى 1322 ه): البدعة: إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين ولكن يفعله بأنّه أمر به الشارع.(3)

وقال السيد محسن الأمين (المتوفّى 1371 ه): البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرّم أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب، أو ندبه.(4)

ص: 347


1- . الرسائل للشريف المرتضى: 224/2.
2- . مجمع البحرين: 298/4، مادة «بدع».
3- . بحر الفوائد: 80.
4- . كشف الارتياب: 143.

غير أنّ الذي ينقص بعض هذه التعاريف هو تقييد البدعة بما لم يرد فيه نصّ على الخصوص ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، وهذا ما ذكره المجلسي (المتوفّى 1111 ه) إذ قال: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ولم يرد فيه نصّ على الخصوص، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً، فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس وأمثالها، الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم، وكإنشاء بعض الكتب العلمية، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والأطعمة المحدثة، فإنّها داخلة في عمومات الحلّية، ولم يرد فيها نهي(1).(2)

هذه كلمات أصحابنا، وإليك كلمات أهل السنّة فقد عرفوها بتعاريف كثيرة نذكر بعضها:

1. قال ابن رجب الحنبلي [البدعة]: ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة.(3)

2. وقال ابن حجر: المحدثات جمع محدثة، والمراد بها - أي في حديث:

«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» -: ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ويُسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليسد.

ص: 348


1- . قلنا: بعض هذه التعاريف لأنّ في تعريف الطريحي إشارة إلى كلتا الصورتين حيث قال: ما ليس له أصل في الكتاب والسنّة.
2- . بحار الأنوار: 202/71، طبعة مؤسسة الوفاء - بيروت.
3- . جامع العلوم والحكم: 160، ط الهند.

ببدعة.(1)

وهذه التعاريف تحدّد البدعة تحديداً وتصوّر لها قسماً واحداً وهو التداخل في أمر التقنين والتشريع، وهناك من حدّدها ثمّ قسّمها إلى: محمودة ومذمومة، فقد روى هرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنّة فهو محمود، وما خالف السنّة فهو مذموم. وعلى ما ذكرنا من أنّ البدعة هي التدخّل في الدين بما لم يرد فيه دليل خاص أو عام، يُعلم أنّ تقسيم البدعة إلى محمودة ومذمومة وسيئة وحسنة أمر لا يوافقه الكتاب والسنّة، وسيوافيك الكلام فيه.

إلى هنا تمّ كلامنا في بيان البدعة لغة واصطلاحاً بقي الكلام في حكم البدعة في الكتاب العزيز.

تقديم

تُعدّ البدعة في الدين من المعاصي الكبيرة التي دلّ على حرمتها الكتاب والسنّة، لأنّ المبتدع ينازع سلطان اللّه تبارك وتعالى في التشريع والتقنين ويتدخّل في دينه ويشرِّع ما لم يشرّعه، فيزيد عليه شيئاً وينقص منه شيئاً في مجالي العقيدة والشريعة، كلّ ذلك افتراء على اللّه عزّ وجلّ .

إنّ المسلمين بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تفرّقوا إلى أُمم ومذاهب مختلفة، ولم يكن ذلك إلّاإثْر تلاعب المبتدعين في الدين والشريعة، بإدخال ما ليس من الدين، في الدين، وكان عملهم تغييراً لصميم العقيدة الإسلامية وشريعتها، فلولا البدعة والمبتدعون وانتحال المبطلين، لكانت الأُمّة الإسلامية أُمّة واحدة، لها

ص: 349


1- . فتح الباري: 212/13.

سيادتها على جميع الأُمم والشعوب في أنحاء المعمورة، وما أثنى ظهورهم إلّا دبيبُ المبتدع بينهم، فشتتهم وفرّقهم بعدما كانوا صامدين كالجبل الأشمّ .

إنّ صراط النجاة في الإسلام هو صراط واحد مستقيم دعا اللّه إليه المؤمنين عامّة وقال: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »(1) فاللّه سبحانه أمر المسلمين أن يدعوا اللّه سبحانه، لكي يثبتهم على هذا الصراط كي لا ينحرفوا يميناً ولا شمالاً كما يقول سبحانه تعليماً لعباده: «اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ »(2) ولكن المبتدع يسوق الناس إلى سبل منحرفة لا تنتهي إلى السعادة التي أرادها اللّه سبحانه لعباده.

إذا عرفت ذلك فلنذكر حكم البدعة في الأدلّة الأربعة.

المبحث الثاني: أدلّة حرمة البدعة في المصادر الأربعة

اشارة

اتّفقت المصادر الأربعة على حرمة البدعة، أعني: الكتاب والسنّة والعقل والإجماع.

[حرمة البدعة في الكتاب العزيز...]
اشارة

أمّا الكتاب العزيز، فقد اتّفقت فيه الآيات على حرمتها، نظير:

1. البدعة تقدّم على اللّه ورسوله في التشريع

كان في عصر الرسالة مَن يتقدّم على اللّه ورسوله، لا مشياً وإنّما يقدّم رأيه على الوحي فنزل الوحي مندِّداً بهم وقال: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ

ص: 350


1- . الأنعام: 153.
2- . الفاتحة: 6.

اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(1).

2. البدعة كذب على اللّه

الكذب من المحرّمات الموبقة التي أوعد اللّه عليها بالنار، والبدعة من أفحش الكذب، لأنّها افتراء على اللّه ورسوله، قال سبحانه: «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ »(2) . فالمبتدع يظهر بزيّ المُحقّ عند المسلمين، فيفتري على اللّه تعالى دون أن يكشفه الناس فيضلّهم عن الصراط المستقيم.

3. البدعة تصرّف في حلال اللّه وحرامه

المبتدع يتصرّف في التشريع الإسلامي فيجعل منه حلالاً وحراماً بدون إذن منه سبحانه في ذلك، يقول اللّه تعالى: «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اَللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ تَفْتَرُونَ »(3) فالآية واردة في عمل المشركين، حيث جعلوا ما أنزل اللّه لهم من الرزق بعضه حراماً وبعضه حلالاً، فحرّموا السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوها، لذا يردّ عليهم سبحانه: «آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ تَفْتَرُونَ » :

أي أنّه لم يأذن لكم في شيء من ذلك؛ بل أنتم تكذبون على اللّه، ثمّ يهدّدهم بالعذاب فيقول: «وَ ما ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ »(4) ، ويؤكد عليه

ص: 351


1- . الحجرات: 1.
2- . الأنعام: 21.
3- . يونس: 59.
4- . يونس: 60.

في آية أُخرى ويقول: «وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ »(1).

ولعلّ هذا المقدار من الآيات كاف في المقام.

وأمّا السنّة الشريفة

روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم حول البدعة والتشديد عليها روايات كثيرة، نكتفي بالقليل عن الكثير:

1. روى أحمد بن حنبل عن جابر قال: خطبنا رسول اللّه فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال: «أمّا بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب اللّه، وإنّ أفضل الهدى هدى محمد، وشرّ الأُمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة».(2)

وقد تكرّر مضمون الحديث في غير واحدة من الروايات، ولذلك اقتصرنا بصورة واحدة منها.

2. روى ابن ماجة: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يقبل اللّه لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا صدقة ولا حجّاً ولا عمرة ولا جهاداً».(3)

3. وروى مسلم في صحيحه، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ».(4)

هذا ما رواه المحدّثون من أهل السنّة، وإليك بعض ما رواه أصحابنا عن

ص: 352


1- . النحل: 116.
2- . مسند أحمد: 310/3، ط دار الفكر، بيروت.
3- . سنن ابن ماجة: 19/1.
4- . صحيح مسلم: 133/5، كتاب الأقضية، الباب 8؛ مسند أحمد: 270/6.

أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

1. روى الكليني عن محمد بن جمهور، رفعه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالم علمه، فمَن لم يفعل فعليه لعنة اللّه».(1)

2. وبهذا الإسناد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن أتى ذا بدعة فعظّمه فإنّما يسعى في هدم الإسلام».(2)

3. وبهذا الاسناد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أبى اللّه لصاحب البدعة التوبة»، قيل: يا رسول اللّه وكيف ذلك ؟ قال: «إنّه قد أُشرب قلبه حبّها».(3)

وأمّا الإجماع فقد كفانا فيه ما مرّ من كلمات علماء الفريقين في تعريف البدعة الدالّة على اتّفاقهم على الحرمة.

وأمّا العقل، فإنّ التشريع من خصائص مَن له الولاية على المولّى عليه، ولا ولاية لأحد على أحد إلّااللّه سبحانه، فالناس جميعاً - في النظام التوحيدي - متساوون كأسنان المشط كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم، فلا فضل لأحد على أحد ولا امتياز.

وبعبارة أُخرى: إنّ التشريع والتقنين من شؤون الربوبية، فمَن كان ربّاً فله تدبير المربوب تكويناً وتشريعاً، فالتدخل في حق الرب، نوع ظلم وتجاوز على حقوقه.

وإن شئت قلت: إنّ التقنين والتشريع من الأفعال الإلهية التي يقوم بهاع.

ص: 353


1- . الكافي: 54/1، ح 2، باب البدع.
2- . الكافي: 54/1، الحديث 3، باب البدع.
3- . الكافي: 54/1، الحديث 4، باب البدع.

سبحانه فحسب، فلو أنّ أحداً اعتقد بأنّ غير اللّه يملك هذا الحقّ إلى جانب اللّه، وإنّ الحبر اليهودي أو الراهب النصراني مثلاً أو من يشاكلهما له الحقّ في أن يسنّ للناس القوانين، ويعيّن من لدن نفسه لهم الحلال والحرام، فقد اتّخذ سوى اللّه ربّاً، وبذلك نسب فعل اللّه إلى غيره، وتجاوز حدّ التوحيد بتعميم هذا الحقّ على غيره سبحانه، وصار بذلك مشركاً. فلو اعتقد أحدٌ بأنّ لغيره سبحانه حقّ التقنين وأنّ بيده زمام التحليل والتحريم ومصير العباد في حياتهم الاجتماعية والفردية فقد اتّخذه ربّاً، أي مالكاً لما يرجع إلى عاجل العباد وآجلهم، فلو خضع مع هذا الاعتقاد أمامه صار خضوعه عبادة، وعمله شركاً.

ولأجل هذا نجد القرآن يقول: إنّ اليهود والنصارى اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، إذ معنى الربوبية في هذا المورد هو امتلاك الأمر وامتلاك زمام الاختيار في التحليل والتحريم، في حين أنّ اللّه سبحانه لم يعط لأحد مثل هذا الاختيار.

ص: 354

المبحث الثالث: في مقومات البدعة

اشارة

قد مرّت تعاريف مختلفة في مورد البدعة، والذي يستنتج منها أنّ البدعة تتقوّم بأُمور ثلاثة تؤيّدها النصوص، وإليك تلك المقوّمات، مع دلائلها في الكتاب والسنّة:

1. التدخل في الدين عقيدة وحكماً بزيادة أو نقيصة

البدعة لغة وإن كانت بمعنى الإحداث والإبداع، لكن المتفاهم من التعاريف اختصاص البدعة في المصطلح على التدخل في الدين، وأمّا التدخل في غيره فخارج عن مصطلح القوم ومصبّ الأدلّة.

أمّا الأوّل: فيكفي فيه التأمّل فيما مرّ من الكلمات للفريقين.

وأمّا الثاني: فيتّضح من التأمّل في أدلّة حرمة البدعة، وقد مرّ بعضها في المبحث الثاني، وإليك بيانها:

1. تضافرت الآيات على ذمّ عمل المشركين حينما كانوا يقسّمون رزق اللّه إلى ما هو حلال وحرام، فجاء الوحي مندِّداً بقوله: «قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ

ص: 355

تَفْتَرُونَ »(1) وفي آية أُخرى يعدّ عملهم افتراءً على اللّه كما يقول: «وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ »(2) ، ومن المعلوم أنّ المشركين كانوا ينسبون الحكمين إلى اللّه سبحانه، وأنّه عزّ وجلّ قد جعل منه حلالاً وحراماً، فكان عملهم بدعة في الدين.

2. إنّ اللّه سبحانه يصف من لم يحكم بما أنزل اللّه بكونه كافراً وظالماً وفاسقاً، ومن المعلوم أنّ أحبار اليهود كانوا يحرّفون الكتاب فيصفون ما لم يحكم به اللّه، بكونه حكم اللّه، قال سبحانه: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ »(3) ، فقوله «هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ » صريح في أنّهم كانوا يتدخّلون في الشريعة الإلهية فيعرِّفون ما ليس من عند اللّه على أنّه من عند اللّه، وهذا يؤكّد بأنّ الموضوع في هذه الآية وأمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها.

3. ذمّ اللّه سبحانه الرهبان لابتداعهم ما لم يكتب عليهم، قال سبحانه:

«وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ اِبْتِغاءَ رِضْوانِ اَللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها»(4) ومعنى الآية أنّهم كانوا ينسبون الرهبانية إلى شريعة المسيح مدّعين بأنّه هو الذي شرّع لهم ذلك العمل، والقرآن يردّهم بقوله: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ».

4. أنّه سبحانه وصف أهل الكتاب بأنّهم اتّخذوا رهبانهم وأحبارهم أرباباً من دون اللّه، وقد فسّره النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بأنّهم كانوا يحرّمون ما أحلّ اللّه7.

ص: 356


1- . يونس: 59.
2- . النحل: 116.
3- . البقرة: 79.
4- . الحديد: 27.

فيتبعونهم أتباعهم، أو يحلّلون ما حرّم اللّه عليهم فيقبلونه بلا تردّد، ومن المعلوم أنّ الأحبار والرهبان كانوا يعرِّفون ما تخيّلوه من الحرام والحلال على أنّه حكم اللّه سبحانه، وليس هذا إلّابدعة في الشرع، وتدخلاً في أمر الشريعة.

وإذا تدبّرت في هذه الآيات وأمثالها يتّضح لك أنّها تدور حول محور واحد هو البدعة في الدين لا مطلقها، ولا يضرّ عدم ذكر القيد في اللفظ؛ إذ هو مفهوم من القرائن القطعية.

2. الإشاعة والدعوة إلى التمسّك بها

الإشاعة والدعوة إلى التمسّك بالبدعة هي المقوّم الثاني لماهيّة البدعة، من غير فرق بين مجالي العقيدة والشريعة، فلا يتحقّق مفهومها بقيام الشخص بذلك العمل، وحده في بيته ومنزله، كأن يزيد في صلاته ما ليس فيها أو ينقص منها شيئاً، فعمله هذا ليس ببدعة وإن كان باطلاً ويصير بفعله عاصياً؟ بل البدعة تتوقّف على إشاعة فكرة خاطئة في العقيدة، أو عمل غير مشروع في المجتمع ودعوتهم إليه بعنوان أنّه من الشرع، ولك أن تستظهر ذلك القيد من الآيات والروايات، فإنّ عمل المشركين في التحليل والتحريم لم يكن عملاً شخصياً في الخفاء، بل إنّ المُبدع قد أحدث فكرة وأشاعها ودعا الناس إليها، كما كان الحال كذلك في الرهبان والأحبار، ويشهد على ذلك بوضوح ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً».(1)

ص: 357


1- . صحيح مسلم: 62/8، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار.

ويدلّ عليه قول القائل يوم القيامة: «إنّهم قد بدّلوا بعدك»(1)، فإنّ تبديل الدين، ليس عملاً شخصياً، بل هو عمل جماعي، إلى غير ذلك من القرائن الموجودة في الروايات.

3. عدم وجود أصل للمبتدع في الدين

المقوّم الثالث لمفهوم البدعة هو فقدان الدليل على جواز العمل بها، لا في الكتاب ولا في السنّة، وذلك ظاهر، إذ لو كان هناك دعم من الشارع للعمل، لما كان أمراً جديداً في الدين أو تدخّلاً في الشرع، وبذلك يُعلم أنّ أفضل التعاريف هو قولهم: «إدخال ما ليس من الدين، في الدين» أو «إدخال ما لم يُعلم من الدين، في الدين».

وبعبارة واضحة: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يرد فيه نصّ من النصوص، ولم يكن داخلاً في بعض العمومات.

وبما ذكرنا تنحل عويصة المصاديق التي ربما تُعدّ من البدعة، لعدم ورود نصّ خاص فيها ولكن تشملها العمومات بصورة كليّة، فهذه لا تكون بدعة، وذلك لأنّه لو كان هناك نصّ خاص، لأخرجها عن البدعة، وهذا واضح جدّاً، أمّا إذا لم يكن هناك نصّ خاصّ ، ولكن العمومات تشمله بعمومها فهذا ما نوضحه بالمثال التالي:

إنّ الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده عن الأعداء، أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ

ص: 358


1- . صحيح مسلم: 151/1؛ مسند أحمد: 408/2، وج 297/6.

رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ »(1)، فإنّ قوله: «مِنْ قُوَّةٍ » مفهوم كلّي يشمل كيفية الدفاع، ونوعيّة السلاح، وشكل الخدمة العسكرية المتبعة في كلّ عصر ومصر، فالجميع برمّته هو تطبيق لهذا المبدأ، وتجسيد لهذا الأصل، فالتسلّح بالغوّاصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع، ليس بدعة، بل تجسيد لهذا الأصل.

ثمّ إنّ من يعدّ التجنيد العسكري بدعة فهو غافل عن حقيقة الحال، فإنّ الإسلام يأمر بالأصل، ويترك الصور والأشكال لمقتضيات العصور. وكم لهذا من نظائر في حياتنا الاجتماعية والسياسية، فتدبّر.0.

ص: 359


1- . الأنفال: 60.

المبحث الرابع: الابتداع في تفسير البدعة

اشارة

قد تقدّم أنّ البدعة عبارة عن التدخّل في الدين في مجالي العقيدة والشريعة بالزيادة أو النقيصة إذا لم يكن له أصل في الدين، من غير فرق بين أن يكون التدخّل بالنحو المذكور في عصر الرسول أو بعده بقليل أو كثير، غير أنّ جماعة ابتدعوا في تفسير البدعة وقالوا: البدعة ما لا يكون في القرون الثلاثة.

إنّ هؤلاء جاءوا بتحديد ليس له دليل في الشريعة، ومع ذلك فقد أصرّوا وقالوا: إنّ المقياس في تمييز البدعة عن السنّة هو العصور الثلاثة الأُولى بعد رحيل الرسول، فما حدث فيها هو سنّة، وما حدث بعدها فهو بدعة، وإن تعجب فإليك نصّ القائل: «وممّا نحن عليه، أنّ البدعة - وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة - مذمومة مطلقاً خلافاً لمَن قال: حسنة وقبيحة ولمن قسّمها خمسة أقسام».(1)

وهذه النظرية الشاذّة عن الكتاب والسنّة نظرية خاصّة استنتجها القائل مما رواه الشيخان في باب فضائل أصحاب النبيّ وإليك نصّهما:

1. روى البخاري عن زهرم بن مضرب قال: سمعت عمران بن الحصين

ص: 360


1- . الهدية السنية: 51، الرسالة الثانية.

يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «خير أُمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، «ثمّ إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون (يوفون)، ويظهر فيهم السمن».(1)

2. وروى أيضاً عن عبد اللّه بن مسعود رضى الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثمّ يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»، قال: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.(2)

إنّ الاحتجاج بهاتين الروايتين على أنّ الميزان في تمييز البدعة عن السنّة، هو أنّ كلّ ما حدث في القرون الثلاثة الأُولى ليس ببدعة، وأمّا الحادث بعدها فهو بدعة، باطل بوجوه:

أمّا أوّلاً: فإنّ الاستدلال مبني على تفسير القرن بمئة عام، وهذا مصطلح جديد لا يصحّ حمل الحديث عليه.

وثانياً: أنّ لفظ القرن في اللغة هو النسل(3)، وهو الأُمّة بعد الأُمّة، وبهذا المعنى استعمل في القرآن الكريم، قال سبحانه: «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ »(4).6.

ص: 361


1- . صحيح البخاري: 189/4، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ صحيح مسلم: 186/7.
2- . صحيح البخاري: 151/3، وج 189/4. قال الطحاوي: أي يكثرون الأيمان في كلّ شيء حتى يصير لهم عادة فيحلف أحدهم حيث لا يُراد منه اليمين ومن قبل أن يستحلف. لاحظ: فتح الباري: 473/11.
3- . لاحظ: لسان العرب: 333/13، مادة «قرن».
4- . الأنعام: 6.

وعلى هذا بما أنّ المتعارف أنّ عمر كلّ نسل (أو جيل) يتراوح بين الستين والسبعين، وبما أنّ عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد انقضى برحيله ويبقى عصر الآخرين فيكون المراد مجموع عمر النسلين الذي يتراوح بين 120 أو 140 سنة.

فإن قلت: لعلّ المراد من القرنين الآخرين هو مجموع الأشخاص الذين عاشوا في تينك الفترتين، وعلى هذا فيجب أن يلاحظ آخر من مات من النسل الثاني والثالث.

قلت: أمّا النسل الثاني - أعني: الصحابة - فآخر مَن مات من الصحابة هو أبو الطفيل، وقد اختلفوا في تاريخ وفاته على أقوال: فقيل: إنّه توفّي سنة 120 أو دونها أو فوقها بقليل(1)، وأمّا نسل التابعين فآخر من توفّي منهم كان عام 170، أو 180، فيقلّ أيضاً مائة وعشرون سنة.

فإن قلت: إنّ أوّل القرون في كلامه صلى الله عليه و آله و سلم هو عصر النبي، ومن عاصره من الصحابة إلى أن يموت آخرهم، كما أنّ ثاني القرون هو عصر التابعين إلى آخر من مات منهم. وثالثها عصر تابعي التابعين هكذا.

قلت: مع أنّ هذه المحاسبة على خلاف ظاهر كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّها غير مثمرة إذ مات آخرهم سنة 220 ه، وعندئذٍ ينقص أيضاً بثمانين سنة أيضاً.

ولأجل عدم انطباقه على ثلاثمائة سنة، قال ابن حجر القسطلاني: «وفي هذا الوقت 220 ه ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيّرت الأحوال3.

ص: 362


1- . فتح الباري: 5/7؛ الثقات لابن حبّان: 291/3.

تغيّراً شديداً، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن».(1)

ما هو الملاك في وصف القرن بالخير؟
اشارة

هناك احتمالات:

1. اتّفاقهم في الأُصول والعقائد

إنّ الملاك في وصف القرن بالخير، عدم دبيب الاختلاف بين المسلمين في الأُصول والعقائد. وأنّ المسلمين كانوا متمسّكين جملة واحدة بمعتقد واحد صحيح في القرون الثلاثة الأُولى ثمّ ظهرت رؤوس الشياطين ودبّت فيهم المناهج الكلامية الفاسدة.

فإن كان هذا هو الملاك، فتاريخ الملل والنحل لا يؤيّد ذلك بل ويكذّبه، فإنّ الخوارج ظهروا بين الثلاثين والأربعين من القرن الأوّل، وكانت لهم ادّعاءات وشبهات وعقائد سخيفة خضّبوا في طريقها وجه الأرض، ولم يتمّ القرن الأوّل إلّا وظهرت المرجئة، الذين دعوا المجتمع الإسلامي إلى التحلّل الأخلاقي، رافعين عقيرتهم بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية، فقد ضلّوا وأضلوا كثيراً حتى دبّ الإرجاء بين المحدّثين وغيرهم في القرن الثاني، وقد ذكر أسماءهم جلال الدين السيوطي في «تدريب الراوي»(2)، حيث كان الإرجاء يقود المجتمع الإسلامي إلى التحلّل الأخلاقي، والفوضى في سلوكيات الأفراد.

إلى أن ظهرت المعتزلة في أوائل القرن الثاني عام 105 ه قبل وفاة الحسن

ص: 363


1- . فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 5/7.
2- . لاحظ: تدريب الراوي: 328/1.

البصري بقليل، فتوسّع الشقاق بين المسلمين وانقسموا إلى فرق كثيرة، حيث كان النزاع قائماً على قدم وساق منذ أن ظهر الاعتزال على يد واصل بن عطاء حتى أواسط القرن الخامس الذي قضي فيه على هذه الفرقة.

هذا كلّه حول القرن الأوّل، وأمّا القرن الثاني فصار ميداناً لتضارب الأفكار واختلاف المناهج فانقسم العلماء:

إلى محكّم يكفر كلّ الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته.

إلى مرجئي يكتفي بالإيمان بالقول، ويقدّمه ويؤخّر العمل.

إلى معتزلي يؤوّل الكتاب والسنّة بما يوافق عقائده وعقليّته.

إلى جهميّ ينفي صفات اللّه كلّها ويحكم بفناء الجنة والنار، وقد هلك جهم بن صفوان عام 128 ه.

إلى كراميّ مجسّم (وقد هلك كرّام عام 255 ه)، إلى غير ذلك من المناهج الباطلة التي أفسدت على المسلمين عقائدهم.

2. سيادة السلم والصلح على المسلمين

إنّ الملاك هو صفاء المجتمع من حيث السلم والصلح وسيادة الأمن على المسلمين.

فلو كان هذا هو الملاك فقد كان القرن الأوّل قرناً دموياً لم ير التاريخ مثله، فكيف يكون خير القرون ؟! وأيّ يوم فيه كان يوم الصفاء والصلح ؟! أيوم قُتل فيه عثمان بن عفان في عقر داره بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار؟

أم يوم فتنة الجمل الذي قتلت فيه عشرات الآلاف من الطرفين بين صحابي وتابعي، وقد عقب ذلك ترميل النساء وإيتام الأطفال، وحدوث الأزمة الشديدة.

ص: 364

أم يوم صفّين الذي خرج فيه أمير الشام بوجه الإمام عليّ عليه السلام، الذي بايعه المهاجرون والأنصار بيعة لم ير لها نظير في التاريخ، فوقع صِدَام بين طائفتين من المسلمين كانت نتيجته إراقة دماء عشرات الأُلوف، إلى أن انتهى إلى التحكيم ؟

أم يوم ظهر الخوارج على الساحة الإسلامية يَغيرون ويقتلون الأبرياء إلى أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان ؟

أم يوم أُغير على آل رسول اللّه بكربلاء، حيث قتل فيه أبناء المصطفى ، وفيهم سبطه وريحانته سيد شباب أهل الجنّة، وسُبيت بنات الزهراء ومن معهنّ من نساء أهل البيت حتى لم يبقَ بيت له برسول اللّه صلة إلّاوقد ضجّت فيه النوائح وعمّته الآلام والأحزان ؟

أم يوم أُبيحت فيه مدينة رسول اللّه في وقعة الحرّة الشهيرة فقُتل الأصحاب والتابعون، ونهبت الأموال، وبقرت بطون الحوامل وهتكت الأعراض حتى ولدت الأبكار دون أن يعرفن آباء أولادهن ؟(1)

أم يوم حاصر جيش بني أُميّة مكّة المكرّمة والبيت العتيق ورموه بالحجارة، لأجل القضاء على عبد اللّه بن الزبير؟

أم يوم تسنّم عبد الملك بن مروان منصّة الخلافة، وقد عيّن الحجاج بن يوسف عاملاً على العراق، فسفك دماءً طاهرة، وقتل الأبرياء، وزجّ بالسجون رجالاً ونساءً من دون أن تظلّهم مظلّة تقيهم حرّ الشمس وبرد الليل القارص ؟

فكلّ تلك الحوادث الدموية قد وقعت قبل أن ينقضي القرن الأوّل، فكيف يمكن أن يكون خير القرون وأفضلها؟!7.

ص: 365


1- . منهج في الانتماء المذهبي: 277.

وإن كان صاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق ؟ إلّاأنّ سيرته، تختلف عن سيرة أُمّته التي وقفْتَ على صورة مجملة من أفعالها الدموية.(1)

3. تمسّكهم بالدين في مجال الفروع

إنّ الملاك هو تمسّكهم بالدين في مجال الأحكام والفروع ولو فرض الملاك فهو أيضاً لم يتحقّق، وإن شئت فارجع إلى ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة، فإنّ كثيراً ممّن رأى النبيّ الأكرم وأدركه وسمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة، بل وارتدّ بعض عن دين الإسلام.

لكن لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدّث القرآن الكريم، حيث يعتبر قوماً أعرف بمواقع الإسلام ويفضّلهم على مَن كان في حضرة النبيّ من الصحابة الكرام وقد ارتدّ، يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ »(2).

قل لي: مَن هؤلاء الذين يعتز اللّه بهم سبحانه ويفضّلهم على أصحاب النبي ؟ فلاحظ التفاسير.(3)

لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان أم نؤمن بما روياه

ص: 366


1- . للوقوف على هذه الحوادث المرّة، لاحظ تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، مروج الذهب للمسعودي، الكامل في التاريخ للجزري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، إلى غير ذلك من المعاجم التاريخية المعتبرة.
2- . المائدة: 54.
3- . لاحظ: تفسير الرازي: 427/3؛ تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري: 165/6.

نفسهما في باب آخر، قالا: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجلون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ».(1)3.

ص: 367


1- . جامع الأُصول: 120/11، برقم 7973.

المبحث الخامس: في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة

اشارة

يظهر من غير واحد من الفقهاء تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، والأصل في ذلك قول عمر بن الخطاب، وقد ظهر على لسانه في السنة الرابعة عشرة من الهجرة، عندما جمع الناس للصلاة بإمامة أُبيّ بن كعب في شهر رمضان ووصف الجماعة بقوله: «نِعْمَ البدعة هذه»، كما رواه البخاري.

قال عبد الرحمن بن عبد القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله.(1)

إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين:

الأُولى: إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة، فعندئذٍ يكون عمل الخليفة

ص: 368


1- . صحيح البخاري: 58/3، كتاب الصوم، باب فضل من قام رمضان.

إحياء لسنّة متروكة، سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد، فلا يصحّ قوله: «نعم البدعة هذه» إذ ليس عمله تدخّلاً في الشريعة.

الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسيّين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة، أو بقارئ واحد، وعندئذٍ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.

وبعبارة أُخرى: أنّ البدعة التي تحدّث عنها الكتاب والسنّة هي التدخّل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة، والتصرّف في التشريع الإسلامي، وهي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إلّاأمراً محرّماً ومذموماً ولا يصحّ تقسيمها إلى حسنة وقبيحة، وهذا شيء واضح لا يحتاج إلى استدلال.

سؤال وجواب

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: أنّه إذا كانت البدعة قسماً واحداً وأمراً محرّماً مقابل السنّة، لا تقبل التقسيم إلى غيره، فما معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده، كُتب له أجر مَن عمل بها ولا ينقص من أُجورهم من شيء؛ ومَن سنّ سنّة سيئة فعُمل بها بعده كُتب له مثل وزر مَن عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء».(1)

والجواب: أنّ الشقّ الأوّل راجع إلى المباحات العامّة المفيدة للمجتمع، كإنشاء المدارس والمكتبات وسائر الأعمال الخيريّة، فلو أنّ رجلاً قام بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أُسوة للغير، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة، فهو سنّة حسنة.

ص: 369


1- . صحيح مسلم: 61/8، كتاب العلم.

وأمّا الشقّ الثاني فهو راجع إلى الأُمور المحرّمة بالذات، فلو قام أحد بعقد احتفال أشرك فيه النساء السافرات المتبرّجات، ثمّ صار عمله قدوة للآخرين، فعلى هذا المسنّن وزر عمله ووزر مَن عمل بسنته.

وعلى ضوء ذلك فالحديث لا يمتّ بصلة إلى البدعة المصطلحة.

نعم يصحّ تقسيم البدعة بالمعنى اللغوي - أي إذا لم يكن فيه تدخّل بالشرع - إلى حسنة وقبيحة، مثلاً إذا احتفل المواطنون بيوم استقلال بلدهم كلّ عام، يُعدّ بدعة حسنة من دون انتسابه إلى أمر الشارع به، وأمّا من أحدث أمراً كدخول النساء السافرات المتبرّجات في مجالس الرجال في الضيافات، فهذه بدعة قبيحة، مضافاً إلى أنّه أمر حرام.

ص: 370

المبحث السادس الاحتفال في ميلاد النبي ليس بدعة

اشارة

قد عرفت أنّه إذا كان للشيء الجديد أصل في القرآن والسنّة وإن لم يكن للصورة الجديدة دليل خاص فيهما، فليس هذا بدعة، مثلاً: الاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعترته الطاهرة عليهم السلام وإن كان أمراً حديثاً لم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالكيفية الرائجة في زماننا، لكنّه ليس بدعة؛ لأنّ الاحتفال في الميلاد - إذا تجرّد عن الأُمور المحرّمة - من مصاديق حبّ النبيّ وإظهار حبه، ومن المعلوم أنّ حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أصل من أُصول الإسلام.

نعم لا ينحصر حب النبي بالاحتفال، بل الحب له مظاهر منها الاحتفال وقراءة الاشعار في حقّه وتلاوة الآيات النازلة في تكريمه ومدحه، وإن كان له صورة أُخرى وهي الاتباع والاستنان بسنته.

وبذلك يظهر أنّ تشديد الوهابيين على أُمور ترجع إلى حب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحجّة أنّها لا دليل عليها بالخصوص في الكتاب والسنّة، نابع عن عدم تحديد البدعة كما هو حقّها.

وهناك حديث ظريف ننقله ليكون عبرة لهؤلاء القوم.

ص: 371

لقد كان في التاريخ الإسلامي أُناس يفهمون - بصفاء أذهانهم وخلوص قرائحهم - أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة من وصفه سبحانه بصفات الجمال والكمال أُسوة لما لم يرد، فللمسلم أن يدعو ربّه بأوصاف جميلة وإن لم ترد حرفيّاً في الكتاب والسنّة.

روى الطبراني: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرّ على أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول:

يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل، وأشرق عليه النهار، لا تواري سماء منه سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحرٌ ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، إجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك.

فوكّل رسول اللّه بالأعرابي رجلاً، وقال: إذا صلّى فأتني به، وكان قد أُهدي بعض الذهب إلى رسول اللّه، فلمّا جاء الأعرابي وهب له الذهب، وقال له: تدري لم وهبت لك ؟

قال الأعرابي: للرحم التي بيني وبينك.

قال الرسول الكريم: «إنّ للرحم حقّاً، ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على اللّه».(1)

وأين هذا الكلام ممّا روي عن الشاذلي أنّه قال: مَن دعا بغير ما دعا به رسول اللّه فهو مبتدع.(2)9.

ص: 372


1- . المعجم الأوسط للطبراني: 172/9؛ تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل لمحمد الغزالي: 102.
2- . تفسير روح البيان للبروسوي: 385/9.
في البدع التي حدثت بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم

1. قبض اليد اليمنى باليُسرى بصور مختلفة.

2. صلاة الضحى.

3. إقامة صلاة التراويح جماعة.

4. الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد.

5. النهي عن متعة الحج (حج التمتع).

6. الإتمام في السفر.

7. الصوم في السفر.

وقد مرّت دراسة الأُمور الأربعة الأخيرة في محالّها فلاحظ.

هذا كلّه في الفروع، وأمّا الأُصول والعقائد فنقتصر بذكر أمر واحد وهو:

8. جعلت رؤية اللّه تعالى في الآخرة من الأُصول والعقائد، على نحو لو أنكر ذلك أحد المسلمين لربما يُكفّر، مع أنّ الرؤية وأخواتها - أي التجسيم والتشبيه والجهة - كلّها أفكار مستوردة وبدع يهودية.

هذا آخر الكلام في البدعة فمَن أراد

التفصيل والتبسّط فليرجع إلى كتابنا: «البدعة:

مفهومها وحدّها وآثارها ومواردها»

واللّه الهادي

ص: 373

4. التكفير في الذكر الحكيم

اشارة

التكفير في اللغة التغطية والستر، يقال للزارع كافرٌ لأنّه يغطّي الحبّ تحت التراب، قال سبحانه: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ »(1).

والكفر في الشرع نقيض الإيمان ويُراد من الثاني التصديق، يقول سبحانه حاكياً عن أبناء يوسف: «وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ »(2) ، فيكون الكفر - بحكم التضاد - بمعنى الجحد، ومنه قوله تعالى: «إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ »(3) : أي جاحدون.

وأمّا التكفير الذي هو موضوع بحثنا فهو نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر.

وأمّا الفسق فهو في اللغة خروج الشيء من الشيء، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرتها.

وأمّا شرعاً فهو الخروج عن طاعة اللّه كما يقول سبحانه حاكياً عن

ص: 374


1- . الحديد: 20.
2- . يوسف: 17.
3- . القصص: 48.

إبليس: «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ »(1) ، وعلى هذا فهو أعمّ من الكفر، إذ ربما يكون إثماً ولا كفراً، باللّه أسمائه وصفاته وآياته وأنبيائه فمَن كذب فقد أثم دون أن يكفر.

خطورة التكفير

إنّ مَن نسب أحداً إلى الكفر، أو قذفه بوصف يتضمّن معنى الكفر، دون أن يأتي ببيّنة، فحكمه أن يُعزّر.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلّا رجعت عليه».(2)

كيف لا يكون كذلك فإنّ الآثار السلبية المترتّبة على التكفير خطيرة جدّاً ويكفي في خطورتها: أنّها تزيل عصمة النفس والنفيس، فالنفوس تُقتل والأعراض تُهتك والأموال تُسلب بلا دليل، وتنشر الفوضى في المجتمع الإسلامي وتجعله شيعاً، والذي يعدّه سبحانه من ألوان العذاب، ويقول: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً»(3) ، إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى جذور التكفير في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

التكفير في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

أوّلاً: روى المفسّرون في تفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً»(4) ، أنّها نزلت

ص: 375


1- . الكهف: 50.
2- . صحيح البخاري: 97/7، كتاب الأدب، باب مَن كفّر أخاه، برقم 6103؛ صحيح مسلم: 57/1.
3- . الأنعام: 65.
4- . النساء: 94.

في أُسامة بن زيد وأصحابه، بعثهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم في سرية فلقوا رجلاً قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه، فبدر إليه أُسامة فقتله واستاقوا غنمه؛ عن السدي.(1)

ثانياً: ذكر المفسرون - أيضاً - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّهم مَنَعُوا صدقاتهم، وكان الأمر خلافه، فغضب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهمّ أن يغزوهم، فنزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ »2.(2)

كلّ ذلك يدلّ على أنّ التكفير بلا دليل وحجّة، أمر منكر، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم، الذي له ذمّة اللّه وذمّة رسوله».(3)

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ الرفق لا يكون في شيء إلّازانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه».(4)

إذا عرفت ذلك فيجب علينا أن نبحث في ملاك الإيمان والكفر أي ما يجب التصديق به الذي يستلزم إنكاره الكفر، وإليك بيانه:ب.

ص: 376


1- . مجمع البيان: 190/3.
2- . مجمع البيان: 241/9-242.
3- . صحيح البخاري: 102/1، باب فضل استقبال القبلة.
4- . صحيح مسلم: 22/8، كتاب البر والصلة والآداب.
1. التوحيد في الذات

ويُراد به توحيده سبحانه وتنزيهه عن المثل وعن التركيب، فاللّه سبحانه واحد لا مثيل ولا نظير له، موجود بسيط لا جزء له ولا تركيب في ذاته، وسورة الإخلاص تتكفّل ببيان ذينك التوحيدين.

أمّا الأوّل فيبينه قوله تعالى: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ».

وأمّا الثاني - أي بسيط لا جزء له - فيكفي فيه قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اَللّهُ أَحَدٌ».

2. التوحيد في الخالقية

ويُراد به أنّه لا خالق في صحيفة الوجود على وجه الاستقلال إلّااللّه سبحانه، وقد تضافر التنصيص عليه في الذكر الحكيم، قال سبحانه: «قُلِ اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ»(1).

قلنا: إنّ الخالقية على وجه الاستقلال منحصرة باللّه سبحانه، خرجت الخالقية على وجه التبعية وبإقدار من اللّه سبحانه كما هو الحال في خلق الإنسان ما بدا له من الصنائع، ويكفي في ذلك أنّه سبحانه ينسب خلق الطير وإبراء المريض وإحياء الموتى إلى نبيّه المسيح عليه السلام ويقول: «وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتى بِإِذْنِي»(2).

ص: 377


1- . الرعد: 16.
2- . المائدة: 110.
3. التوحيد في الربوبية

«الرب» بمعنى الصاحب، ورب البستان مَن يدبّر ويدير حاجاته، كما أنّ رب الدار يحمي الدار من الخراب، فاللّه سبحانه خالق السماوات والأرض وفي الوقت نفسه مديرها ومدبّرها، ولذلك نرى أنّه سبحانه بعدما يذكر خلق السماوات والأرض يصف نفسه بالتدبير، قال: «اَللّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ »(1) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حصر تدبير الكون باللّه.

ثمّ إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الخالقية دون الربوبية، فزعموا أنّ تدبير العالم والإنسان موكول إلى الآلهة المكذوبة من الملائكة والجن والأصنام والأوثان، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا»(2) ، وقوله تعالى: «وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ »(3) ، فكانوا يرون العزّ في الحياة والنصرة في الحرب بيد الآلهة، وبذلك يُعلم أنّ ما ذهب إليه محمد بن عبد الوهاب(4) من أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الربوبية والمدبّرية، أمر لا يصدقه الكتاب الكريم ولا التاريخ الذي يصف عادات الجاهلية.

وعذره في ذلك لأنّه فسر الربوبية بالخالقية، وخلط بينهما.

ص: 378


1- . الرعد: 2.
2- . مريم: 81.
3- . يس: 74.
4- . لاحظ: كشف الشبهات: 4-6، طبعة مصر بتصحيح محبّ الدين الخطيب.
4. التوحيد في العبودية

العبادة عبارة عن الخضوع بالجوارح أمام مَن بيده مصير العابد في الحياة على جميع الأصعدة، اعتقاداً صحيحاً أو باطلاً، فقد بعث الأنبياء كلّهم لأجل نشر هذا الأصل وأنّه لا معبود إلّاإيّاه، فقال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ »(1).

وجه الحصر أنّه سبحانه هو المؤثّر الواحد في الكون خلقة وتدبيراً، فكان هو اللائق بالعبادة، وأمّا المنحرفون عن أصحاب رسالات السماء فبما أنّهم وزّعوا أمر التدبير على آلهتهم المكذوبة، لا يرون حصر العبادة باللّه سبحانه؛ بل كانوا يعبدون غيره لكي يتقرّبوا بعبادتهم إلى اللّه سبحانه.

5. الإيمان بالمعاد

الإيمان بالمعاد وأنّه سبحانه يحيي الناس بعد مماتهم يوم القيامة ويحاسبهم ويجزيهم حسب أعمالهم، من صميم الإيمان، ولذلك كثيراً ما يجمع القرآن الكريم بين الإيمان باللّه والمعاد معاً، ويقول: «مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ»(2) .

والإيمان بالمعاد أمر دعت إليه عامّة الشرائع السماوية، فلا توصف دعوة بالدين إذا خلت عن الدعوة إلى الإيمان بالحياة بعد الممات.

6. رسالة النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم

كان شعار الإسلام وشعار مَن يدخل تحت خيمته هو الاعتراف بتوحيده

ص: 379


1- . النحل: 36.
2- . البقرة: 62.

سبحانه ورسالة نبيّه محمد صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا أمر واضح لا سترة فيه. وأنّه خاتم الأنبياء والرسل وقد ختم به باب النبوّة، يقول سبحانه: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً»(1).

7. القرآن وحي منزل

إنّ مركز النزاع ومحوره بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومشركي قريش كان يتمثّل في كون القرآن وحياً منزلاً من اللّه على رسوله، فقد كانوا منكرين لذلك أشدّ الإنكار وينسبونه إلى السحر تارة، والكهانة أُخرى، أو أخذه من أهل الكتاب ثالثة.

وبهذا يتّضح أنّ الإقرار والإيمان بأنّ القرآن وحي من اللّه هو من صميم الإيمان، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: «آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ».(2)

كيف لا يكون من صميم الإيمان والقرآن هو المعجزة الكبرى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والبرهان الخالد على رسالته عبر الزمان، إلى قيام القيامة، يقول اللّه سبحانه: «قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً».(3)

ص: 380


1- . الأحزاب: 40.
2- . البقرة: 285.
3- . الإسراء: 88.
8. الاعتقاد بالضروريات

لا شكّ أنّ قسماً من الأحكام الشرعية يُعدّ من ضروريات الشريعة الإسلامية كوجوب الصلاة والزكاة وحجّ بيت اللّه الحرام، إلى غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ مسلم على وجه الإجمال، فقد ذكر الفقهاء أنّ إنكار الحكم الضروري يُسبّب خروج الإنسان عن خيمة الإيمان والإسلام، لأنّ إنكار حكم الضروري يلازم إنكار رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فهو بنفسه وإن لم يكن سبباً للخروج والارتداد، لكنّه بما أنّه يلازم إنكار رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يكون سبباً للكفر.

إنّما الكلام في ظرف الملازمة، فهل الميزان هو وجود الملازمة بين الإنكارين في نظر المنكر، أو وجود الملازمة في نظر المسلمين ؟

المحقّقون على الأوّل فلو كان المنكر يعيش بين المسلمين فترة طويلة ووقف على وضوح هذه الأحكام ومع ذلك أنكر واحداً منها عناداً ولجاجاً، فيحكم بكفره وخروجه، لأنّ مثل هذا الإنكار يلازم إنكار رسالة الرسول ونبوّته.

وأمّا إذا لم تكن الملازمة بين الإنكارين إلّاعند المسلمين لا عند المنكر، كما إذا كان جديد الإسلام أو نزيلاً في البوادي، فإنكار مثل هذا لا يسبّب الكفر إذ ليس عنده تلك الملازمة.

ثمّ إنّ من الضروريات حُبّ أهل البيت عليهم السلام وأنّ بغضهم أمر محرّم بالضرورة، فمن بغض أهل البيت فقد أنكر أحد الأُمور الضرورية، فيكون محكوماً بالكفر كالنواصب.

هذه الأُصول التي يجب الإيمان بها، وأمّا من أنكر واحداً من هذه الأُصول إنّما يكفّر بعد اجتماع الشرائط التالية:

ص: 381

[الشروط اللازمة للتكفير...]

1. إقامة الحجّة على المنكر

اتّفق العلماء على أنّه ليس لأحد أن يكفّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجّة، وتتبيّن له المحجّة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشكّ ، بل لا يزول إلّابعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة.(1)

ويترتّب على ذلك أنّ منكر الضروري إذا كان جديد الإسلام أو من أهل البادية البعيدة لا يُحكم عليه بالكفر؛ لأنّ المفروض أنّه لم تتم عليه الحجّة لحداثة دخوله في الإسلام، أو بعد محلّه عن العلم والعلماء.

روى النسائي أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: «ما شاء اللّه وشئت»، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أجعلتني نداً للّه، فقل: ما شاء اللّه ثم ما شئت».(2)

2. كونه قاصداً للمعنى المخرج

إذا كان تعبير الرجل ذا احتمالات ووجوه، وهي بين صحيح وباطل فلا يحكم عليه بالكفر بعبارة ذات وجوه، مثلاً: لا يحكم على القائل بوحدة الوجود إلّا إذا ثبت أنّه أراد عينية وجود الواجب مع الوجود الإمكاني.

3. كونه مختاراً في البيان والعمل

إذا كان الإنسان مكرهاً على الكفر، كما هو في قضية عمار رحمه الله فلا يحلّ تكفيره، وقد مضى بيانه في مبحث التقيّة.

4. لم يكن الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار

ربما يتّفق لبعض الناس إنكار حكم ضروري لشبهة طرأت على ذهنه

ص: 382


1- . مجموع الفتاوى لابن تيمية: 466/12.
2- . السنن الصغرى للنسائي: 304/4.

بسبب وسائل الإعلام المعادية التي تنشر كلّ يوم وليلة عشرات الشبهات، فإذا أُحضر إلى الحاكم فعليه أن يحيله إلى أُستاذ يعرف الداء والدواء، حتى يُزيل ما طرأ على ذهنه من جانب الأعداء. نعم لو استمر على الإنكار بعد إتمام الحجّة يحكم عليه بالكفر آنذاك.

5. عدم احتمال التأويل

إذا تكلّم الإنسان بشيء عن جدٍّ بما يخالف أحد الأُصول لكن كان كلامه على وجه يقبل التأويل، مثلاً لو قال أحد: «الحمد للّه الذي خلق الأشياء وهو عينها»(1)، ربما يقصد من عبارته هذه شدّة تعلّق الممكنات بالواجب لذاته، تعلّق المعنى الحرفي بالاسمي، على نحو لو انقطعت الصلة بينهما لعمّ العدم صفحة الوجود الإمكاني. وهذا النوع من الاحتمال في حقّ القائل يصدّنا عن التسرّع في تكفيره.

وفي ختام البحث نشير إلى الذرائع الباطلة التي اتّخذت ذريعة من بعض الفرق لتكفير المسلمين، وهي عبارة عن الأُمور التالية:

1. طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم كقولنا: اشفع لنا عند اللّه. وهذا النوع من الدعاء لا ينافي قوله سبحانه: «قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً»(2) لأنّه معناه أنّ شفاعة الشفعاء بإذن اللّه سبحانه فالقائل: اشفع لنا عند اللّه، أي بإذن اللّه سبحانه.

2. التوسّل بدعائه صلى الله عليه و آله و سلم في قضاء الحاجات.

3. الاستغاثة بدعائه صلى الله عليه و آله و سلم في الشدائد والمصائب.

ص: 383


1- . صدّر محيي الدين العربي كتابه المسمّى بالفصوص بهذه العبارة.
2- . الزمر: 44.

4. الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء. لأجل التبرّك بمقابرهم، هذا وانّ اللّه سبحانه يحكي عن الموحّدين: أنّهم بعدما تعرّفوا على أصحاب الكهف وموتهم فيه قالوا: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً».(1)

5. النذر للّه سبحانه وإهداء ثواب المنذور للنبي والإمام.

6. التبرّك بآثار الأنبياء.

هذه أُمور يُكفّر بها الوهابية جميع المسلمين مع أنّ هذه المسائل فروع فقهية والاختلاف فيها لا يوجب التكفير بل للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد!!

ثمّ إنّ هناك ذرائع يكفّر بها خصوص الشيعة، كلّها أكاذيب ومفتعلات يعزّر شرعاً من نسبها إلى الإمامية.

1. تأليه الشيعة لعليّ وأولاده وأنّهم يعبدونهم ويعتقدون بألوهيتهم.

2. إنكار ختم النبوة برحيل سيدنا محمد وأنّ الوحي ينزل على عليّ وأولاده.

3. أنّ النبوة كانت لعلي ولكنّ جبريل خان الأمانة وأعطاها لمحمد.

4. بغض أصحاب النبي.

5. القول بتحريف القرآن الكريم.

أقول: كلّ ذلك دعايات لا تجد منها أثراً في معتقدات الشيعة.

نعم للشيعة في مجال العقائد بعض الأُصول ربما يختلفون فيها مع سائر الفرق لفظاً لا معنى، وأخصّ بالذكر ما يلي:1.

ص: 384


1- . الكهف: 21.

[بعض العقائد المختلف فيها بين الفريقين...]

1. القول بالبداء

وهو من صميم العقيدة الإسلامية ولكنّ له تفسيرين:

أحدهما: أنّ معنى بدا للّه أي ظهر الصواب للّه سبحانه بعد الخلاف. والبداء بهذا المعنى كفر وزندقة، واللّه سبحانه هو العالم بالشهود والمغيبات.

ثانيهما: تغيير مصائر العباد بالأعمال الصالحة أو الطالحة، وهذا أمر مسلّم بين المسلمين، قال سبحانه: «يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ »(1) ، وقال تعالى:

«وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ »(2).

ومن حسن الحظ أنّه وردت لفظة «بدا للّه» في صحيح البخاري بالمعنى الثاني، قال: عن أبي هريرة أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا للّه أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص... إلى آخر ما ذكره».(3)

وأمّا التعبير في لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «بدا للّه» فإنّه من قبيل المشاكلة نظير قوله سبحانه: «وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ »(4).

2. الإيمان بخلافة الخلفاء

الإيمان بخلافة الخلفاء من الفروع، والاختلاف في الفروع لا يوجب

ص: 385


1- . الرعد: 39.
2- . الأعراف: 96.
3- . صحيح البخاري: 405/2-406، كتاب أحاديث الأنبياء، الباب 53، برقم 2464.
4- . الأنفال: 30.

التكفير، قال التفتازاني: لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات.(1)

وقال الجرجاني: الإمامة ليس من أُصول الديانات والعقائد، بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمة سمعاً.(2)

فإذا كانت الإمامة من الفروع فما أكثر الاختلاف في الفروع، فلا يكون الاختلاف بها موجباً للكفر.

3. علم الأئمّة بالغيب

لا شكّ أنّ العلم بالغيب علماً ذاتياً غير مكتسب وغير محدّد بحدٍّ، يختصّ باللّه سبحانه، ولكن لا مانع من أن يُعلِّم سبحانه شيئاً من الغيب لبعض أوليائه فيخبر عن الملاحم لأجل كونهم محدَّثين، والمحدَّث يسمع صوت الملك ولا يراه، وهو ليس أمراً بدعيّاً في مجال العقيدة، فقد رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء».(3)

4. التقية من المسلم

وممّا يخطئون به الشيعة هو تقيتهم من المخالف المسلم زاعمين

ص: 386


1- . شرح المقاصد: 232/5.
2- . شرح المواقف: 344/8.
3- . صحيح البخاري: 194/2، باب مناقب المهاجرين وفضلهم.

اختصاص التقية بالكافر مع أنّها أعمّ من الكافر.

قال الرازي في تفسير قوله سبحانه: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً »(1) : ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.(2)

5. تكفير الصحابة

سبحانك اللّهم، فما هذا إلّابهتان عظيم، فإنّ تكفير الصحابة من الإفتراءات التي تشهد الضرورة ببطلانها، كيف، وثمّة طائفة من الصحابة هم من روّاد التشيّع ؟! ثم كيف وهذا كلام إمامهم، بل إمام المسلمين عامّة، أعني: علي بن أبي طالب عليه السلام يقول في حقّ الصحابة: «أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ ، وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ !

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ . دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ ».(3)

***

ص: 387


1- . آل عمران: 28.
2- . مفاتيح الغيب: 13/8.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 182.

5. نسخ الأحكام في الذكر الحكيم

اشارة

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: النسخ لغة واصطلاحاً

النسخ - لغة - هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مكانه، يقال: نسخت الشمس الظلّ ، أي: أذهبته وحلّت محلّه، كما يقال: انتسخ الشيب الشباب.

والتناسخ في الفرائض والمواريث هو أن يموت أحد الورثة وأصل الميراث قائم لم يقسّم.

وربّما يطلق النسخ لجعل البدل، وبهذا المعنى يقال: نسختُ الكتابَ أي استنسخته.

وبهذا المعنى أيضاً يطلق الاستنساخ على التجارب الّتي تسعى لإنتاج الشبيه والمثل في الحيوانات.

وأمّا النسخ - إصطلاحاً - فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان سائداً.

ص: 388

فإن قلت: إذا كان الحكم مؤقّتاً في الواقع فلماذا خرج بصورة الحكم المؤبّد؟

قلت: إنّ الحكم الشرعي خرج بصورة المطلق من دون تصريح بالتأبيد، وأمّا التأبيد فهو نتيجة فهم المكلّف. نعم اقتضت المصلحة عدم التصريح بالتوقيت.

الأمر الثاني: الفرق بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية

لا شكّ أنّ النسخ يتطرق إلى كلا القسمين من الأحكام مع وجود فارق بين الأمرين، فالحكم الوضعي الموضوع في مجلس النواب حكم شُرّع للتأبيد زاعمين وجود المصلحة كذلك، ولمّا ظهر الخلاف عادوا إلى النسخ، فيكون عملهم هذا بداءً بمعنى ظهور ما خفى.

وأمّا النسخ في الشريعة الإسلامية، فاللّه سبحانه عالم بعواقب الأُمور، وأنّ الحكم مؤقت لا مؤبّد، غير أنّ المصلحة اقتضت عدم التصريح بالتوقيت، وإن كان المخاطب ينتزع التأبيد.

ومن هنا يُعلم أنّ النسخ في الأحكام الوضعية من قبيل الرفع، لأنّ الحكم شُرّع من أوّل يومه على وجه التأبيد عند المقنّنين، فيكون النسخ رفعاً للحكم الذي شُرّع على وجه الاستمرار، وأمّا النسخ في الأحكام الشرعية فهو من قبيل الدفع لأنّه شرّع من يومه الأوّل على وجه التوقيت، فالنسخ حقيقة إعلام بانتهاء الحكم ونهايته.

ص: 389

الأمر الثالث: في بيان ما يخضع للنسخ

إنّ بعض الأحكام الشرعية يخضع للنسخ، وهناك قسم آخر من الأحكام غير خاضع لذلك، وأخصّ بالذكر الأحكام المطابقة للفطرة الإنسانية، فبما أنّ وجود الإنسان مستمر إلى يوم القيامة، فإنّ هذا النوع من الأحكام لا ينفكّ عن مقتضيات الفطرة ومتطلباتها، نحو قوله تعالى: «إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ »(1).

ونظيره أيضاً قوله تعالى: «وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ».(2)

ومنه يظهر عدم إمكان تطرّق النسخ إلى الأُصول والعقائد لأنّها أُمور تكوينية غير خاضعة للجعل والتشريع حتى يُشرّع ثم يُنسخ. فكونه سبحانه عادلاً حكيماً قادراً، من هذا القبيل.

الأمر الرابع: في إمكان النسخ

اتّفق أصحاب الشرائع السماوية على إمكان نسخ بعض الأحكام، إلّااليهود فقد قالوا بامتناعه، وقد استدلّوا لذلك بالوجه التالي:

إنّ الدليل لا يخلو من حالات ثلاث:

أ. أن يدلّ على الدوام.

ب. أن يدلّ على كونه مؤقّتاً.

ص: 390


1- . النحل: 90.
2- . النور: 32.

ج. أن يكون مهملاً ومبهماً لا يدلّ على شيء.

فالأوّل منها لا يمكن نسخه، لاستلزامه كذب الدليل الأوّل، والأنبياء معصومون عن الكذب.

وأمّا الثاني فلا يُعدّ نسخاً، لأنّ المفروض أنّ الدليل مؤقّت ومحدّد.

وأمّا الثالث فمثله، إذ المفروض أنّه مهمل ومبهم لا يدلّ على الاستمرار وعدمه، فجعل حكم آخر مكانه لا يوصف بالنسخ، إذ لم يكن الحكم ثابتاً حتى يُرفع.(1)

قلت: إنّ الدليل ظاهر في الاستمرار في نظر المخاطب، وإن لم يكن في الواقع كذلك، ولأجل هذا الظهور يُعدّ الدليل الثاني ناسخاً للدليل الأوّل، وإن لم يكن في الواقع كذلك. وقد مرّ أنّ النسخ في الشريعة السماوية من قبيل الدفع لا الرفع.

ولليهود دليل آخر لامتناع النسخ، أوضحنا حاله في «المبسوط».(2)

ثمّ إنّه ربما يُستدلّ من بعض المنحرفين على امتناع النسخ بأنّه يستلزم تبديل آيات اللّه مع أنّه سبحانه يقول: «وَ اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ »(3).

والجواب: يتوقّف على توضيح معنى كلمات اللّه التي لا تخضع للتبدّل، فنقول: استعمل مصطلح كلمات اللّه أو كلمته في موارد مختلفة نذكر منها ما يلي:7.

ص: 391


1- . مفاتيح الغيب: 228/2-229.
2- . لاحظ: المبسوط في أُصول الفقه: 507/2، الفصل 14، في حالات العام والخاص.
3- . الكهف: 27.

1. عالم الخلقة، كما في قوله سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».(1)

2. المسيح، كما في قوله سبحانه: «إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ».(2)

إلى غير ذلك ممّا يجده المتتبع في القرآن الكريم، غير أنّ المراد منها في الآية الشريفة هو القرآن بقرينة صدرها حيث قال: «وَ اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ » ويؤيّد ذلك أنّ المشركين كانوا يقترحون على النبي أن يأتي بشيء غير هذا وأن يبدله بقرآن آخر، كما يدلّ عليه قوله سبحانه: «قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ ».(3)

ولذلك وافاهم الجواب بأن يأمر النبي أن يقول لهم: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي».

وأين هذا من تبديل حكم شرعي إلى حكم شرعي آخر؟!

فقوله: «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ » * ناظر إلى زعم المشركين حتى يأتي النبي في الأصل والفروع ما يوافق أهواءهم.

إذا تبيّنت هذه الأُمور فلندخل في صلب الموضوع.5.

ص: 392


1- . لقمان: 27.
2- . النساء: 171.
3- . يونس: 15.

قلّة النسخ في القرآن الكريم

اختلف العلماء في وجود النسخ في الآيات القرآنية الكريمة، فهم بين مكثر ومقلّ ، ونافٍ بتاتاً، ونحن من المتوسطين، فلا تجد في القرآن حكماً منسوخاً إلّا في موارد أربعة ستوافيك في آخر البحث، ولذلك ندرس الآيات التي تُوهّم فيها النسخ مع أنّها من المحكمات عندنا ولم تنسخ.

الآية الأُولى: عدم الإكراه في الدين

اشارة

قال سبحانه: «لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ »(1).

فربما يُقال بأنّها منسوخة بآيات السيف والجهاد حيث نُسب إلى ابن عباس وابن زيد.(2) والحق أنّ آيتنا هي من المحكمات وذلك يظهر بعد التدبّر في شأن النزول، فقد روى الطبرسي أنّها نزلت في رجل من الأنصار يدعى (بالحصين) وكان له إبنان، فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة آتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهم إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأنزل اللّه تعالى الآية، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أبعدهما اللّه، هما أوّل من كفر، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم حين لم يبعث في طلبهما.(3)

إذا عُلم ذلك فنقول: إنّ الآية محكمة غير منسوخة، وهي تحكي عن حقيقة واقعية وهو أنّ الدين بمعنى الاعتقاد الجازم باللّه سبحانه وأسمائه وصفاته

ص: 393


1- . البقرة: 256.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 206/2.
3- . مجمع البيان: 205/2.

والشريعة المحمدية، أمر لا يخضع للإكراه، وإن بُذل في طريقه آلاف الجوائز، وذلك لأنّ عمل الإنسان على قسمين:

1. عملٌ جوارحيٌّ ، وهذا يخضع للإكراه، كأن يأمر المكرِّه لمن هو تحت أمره، أن يفعل كذا وكذا، وإن كان الفعل غير مرضي عند الفاعل.

2. العمل الجوانحي، وإن شئت سميّته (العمل القلبي) وهو أن يأمر المكره أحد الأفراد أن يعتقد اعتقاداً جازماً وهو جازم على خلافه أو شاكّ فيه. فهذا النوع من الإكراه لا يثمر ولا ينتج إلّاإذا تحقّقت مبادئ الاعتقاد عند المكرَه.

إذن فالآية ناظرة إلى تلك الحقيقة الواقعية بأنّ التصديق بالمفاهيم الدينية والتديّن ليس عملاً جوارحياً حتى يلزم به، بل هو عمل قلبي لا يتحقّق إلّابوجود مبادئه.

سؤال وجواب
اشارة

إنّه سبحانه أمر بقتال المشركين، وقال: «فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ»(1).

قلت: إنّ قتال المشركين لم يكن لإخضاعهم للدين ولا لأجل إكراههم على الاعتقاد بالإسلام؛ بل كان لأجل الأمرين التاليين:

1. نكث الأيمان

فإنّهم عقدوا المعاهدات مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّهم نكثوا عهودهم، قال سبحانه: «أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ

ص: 394


1- . التوبة: 5.

أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ».(1)

2. إلزام المجتمع المشرك على رفض الشرك خدمة لهم

إنّ الشرك مرض روحي خطير، ربما يبتلي به الجاهل، فالسعي لإخراج هذا المرض من نفوس الناس، يُعدّ نوع خدمة لهم، فالأمر بقتالهم لأجل ترك عبادة الحجر والأخشاب، وليس لأجل الدخول تحت خيمة الإسلام. نفترض أنّ مرضاً مهلكاً سارياً حلّ في بلد من البلدان، فنرى وزارة الصحّة تُصدرُ تحذيراً وتعليمات للناس جملة من التعاليم وأوجبت على جميع المواطنين التلقيح ضد الإصابة بهذا المرض الساري، فمَن استجاب ولقّح نفسه فهو الذي سيسلم من المرض، وأمّا مَن امتنع عن ذلك، فبما أنّ عمله يوجب هلاكه وهلاك الآخرين تقوم وزارة الصحّة بتلقيحه بالقوة والإكراه. وهذا النوع من الإكراه يُعدّ أمراً مستحسناً عند العقل ينقذ المُكره من الموت الحتمي.

وبهذا يظهر أنّ الإكراه على ترك عبادة الأصنام والأوثان يُعدّ خدمة للفرد وللمجتمع. أو ليس عاراً على الإنسان الذي يعد خليفة اللّه في أرضه، أن يتخضع أمام الحجر والشجر والحيوان.

فإن قلت: إنّ الآية مذيّلة بقوله تعالى: «فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(2).

قلت: إنّ هذا الاشتراط لأجل استظهار أنّهم خرجوا من الشرك واقعاً، ولذلك نرى أنّ الشريعة المحمدية تركت أهل الكتاب بحالهم ولم تلزمهم

ص: 395


1- . التوبة: 13.
2- . التوبة: 5.

بالصلاة والزكاة، لاجتنابهم عن الشرك.

دراسة مفاد آية القتال

ربما يتوهّم أنّ الآية الآمرة بالقتال ناسخة لآية نفي الإكراه، ولكنّه توهّم غير صحيح؛ لأنّه سبحانه يأمر بقتال من يقاتِلون المسلمين، قال سبحانه: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».(1)

فقوله: «يُقاتَلُونَ » بصيغة المجهول، فهؤلاء بما أنّهم مقاتلون في عقر دارهم وأعتُدِيَ عليهم، فقد أُذن لهم الدفاع عن أنفسهم، بشهادة أنّه يعلل الإذن بأنّهم ظلموا...

وأمّا تولي الكفّار فاللّه سبحانه يفصل بين كافر لم يعتد على المسلمين، وكافر آخر قد اعتدى عليهم، ففي الأوّل يأذن بالبرّ بهم، قال تعالى: «لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ »(2).

وفي الوقت نفسه ينهى المسلمين عن تولّي مَن يقاتلهم ويخرجهم من ديارهم ويظاهر الأعداء ضدهم، قال تعالى: «إِنَّما يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ».(3)

فظهر ممّا ذكرنا أنّ آية عدم الإكراه آية محكمة لم يمسّها النسخ والتبدّل.

***

ص: 396


1- . الحج: 39.
2- . الممتحنة: 8.
3- . الممتحنة: 9.

الآية الثانية: إمساك الزانية في البيت

من الآيات التي توهم تطرّق النسخ إليها، قوله سبحانه في حقّ الزانية:

«وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً».(1)

فقد زعم القائل أنّ قوله سبحانه: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ » كان حكماً تشريعياً جزاءً للزانية آنذاك، ثمّ نُسخ هذا النحو من الجزاء بالجلد، أعني قوله سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ »(2).

إنّ النسخ مبنيّ على أنّ الإمساك في البيوت جزاء للزانية المحصّنة، ولكن الظاهر أنّ الإمساك في البيوت لم يكن جزاء للزانية، بل كان إمساكهنّ في البيوت من أجل سدّ ومنع انتشار هذه الجريمة في أوساط المجتمع، حتى يأتي الحكم الشرعي بحقّها، ويشهد على ذلك قوله سبحانه في آخر الآية: «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» فالآية تخبر عن تشريع آخر سيوافيهن، وهو الرجم إذا كانت محصنة أو الجلد إذا لم تكن.

وبذلك تبيّن أنّه سبحانه أمر بالإمساك لصيانة المجتمع عن الجريمة ثم أخبر عن تشريع حكم الزانية، وقد وافاهم في سورة النور التي جاء فيها الأمر بالجلد، والرجم في السنّة.

***

ص: 397


1- . النساء: 15.
2- . النور: 2.

الآية الثالثة: تعدد الزوجات مشروط بالعدالة

قال سبحانه: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا».(1)

زعم القائل بالنسخ بأنّ النكاح بأكثر من واحدة مشروط بتحقيق العدالة بين الزوجتين، والآية التالية تحكي عن عدم إمكان تحقّق هذا الشرط، وبذلك تصير ناسخة للآية الأُولى، حيث قال تعالى: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».(2)

فقوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا» إخبار عن عدم إمكان العمل بالشرط وبانتفائه ينتفي المشروط.

أقول: يظهر من بعض الروايات أنّ ابن أبي العوجاء أحد الملحدين في عصر الإمام الصادق عليه السلام نشر هذه الفكرة والتقى بتلميذ الإمام الصادق عليه السلام - أعني:

هشام بن الحكم - فقال له: أليس اللّه حكيماً؟ قال: بلى وهو أحكم الحاكمين، قال:

فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ : «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » أليس هذا فرض ؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا

ص: 398


1- . النساء: 3.
2- . النساء: 129.

كُلَّ اَلْمَيْلِ »(1) أي حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه عليه السلام فقال: «يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة ؟» قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمّني، إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: «وما هي ؟» قال: فأخبره بالقصّة فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: «أمّا قوله عزّ وجلّ : «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » يعني في النفقة، وأمّا قوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ » يعني في المودّة». فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال:

واللّه ما هذا من عندك.(2)

ويشهد على ما ذكره الإمام - من أنّ المراد من العدالة اللازمة هو العدالة في النفقة - أمران: قول اللّه سبحانه في ذيل الآية «ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا» : أي لا تجوروا ولا تظلموا، فالاكتفاء بالواحدة لأجل أنّه أقرب إلى عدم الميل بالجور، وهذا يشهد أنّ النهي لغاية الاقتصاد في النفقة، فلو قام الرجل بالعدل فيه فلا مانع من أن يختار أزيد من واحدة.

2. قوله تعالى: «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ » فهو يُشعر بأنّ المنهيّ عنه هو صرف الميل إلى إحداهن دون الأُخريات، وعندئذ تصبح لا مزوّجة ولا مطلّقة، وهذا إنّما يتحقّق بصرف الميل القلبي إلى إحداهنّ دون الأُخريات.

وأمّا إذا حفظ العلقة القلبية بين الزوجتين وإن كانت في إحداهن أكثر وأشدّ،3.

ص: 399


1- . النساء: 129.
2- . الكافي: 362/5-363.

فعندئذٍ لا تترتّب على ذلك مفسدة من صيرورة المرأة (كالمعلّقة)، أي لا مزوّجة ولا مطلّقة.

***

الآية الرابعة: تمتع الأرملة ببيتها إلى حول كامل

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».(1)

فربما يقال: إنّ قوله سبحانه: «مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ » لبيان حدّ العدّة، أي يتمتعن في البيوت إلى أن ينتهي الحول، وعندئذٍ يخرجن من العدّة، فنسخت الآية بقوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً»(2).

وربما يؤيّد ذلك بما رواه العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» جاءت النساء يخاصمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقلن: لا نصبر، فقال لهن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في خدرها ثم قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول

ص: 400


1- . البقرة: 240.
2- . البقرة: 234.

أخذتها ففتتها، ثم اكتحلت بها ثم تزوّجت فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر».(1)

يلاحظ عليه: أنّ اللام في قوله: «إِلَى اَلْحَوْلِ » وإن كانت إشارة إلى ذلك الحول، ولكن لا دليل على أنّ التمتّع بالحول ظرف للعدة؛ بل هو أمر للأزواج أن يوسعوا على زوجاتهم بالترخيص لهن بالتمتع بالبيت إلى الحول حتى يتزوّجن.

فعلى ما ذكرنا فكلا الحكمين سائدان.

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النسخ أمر محتمل كما أنّ بقاء الآيتين في الاستمرار محتمل أيضاً، بأن تكون مدّة الاعتداد أربعة أشهر وعشرة أيام، وفي الوقت نفسه يأمر الزوج أن يسمح للزوجة أن تتمتّع بالبقاء في البيت إلى حول كامل.

***

الآية الخامسة: وجوب اتّقاء اللّه حقّ تقاته

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ».(2)

فربما يقال: إنّ هذه الآية قد نسخت بقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ وَ اِسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ

ص: 401


1- . تفسير العياشي: 121/1، برقم 386.
2- . آل عمران: 102. التقاه اسم كالتقوى، والجمع تُقىً ، والمعنى: اتقوا اللّه كما يحق ويليق أن يحترس من عذابه.

اَلْمُفْلِحُونَ »(1)، حيث روي عن قتادة أنّه قال: إنّها ناسخة لقول اللّه تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ » ، قال الطبرسي: كأنّه يذهب إلى أنّ فيه رخصة لحال التقيّة، وما جرى مجراها ممّا تعظم فيه المشقّة وإن كانت القدرة حاصلة معه.(2)

أقول: إنّ قول قتادة ليس حجّة، فشرط النسخ غير موجود في المقام، إذ لا تضادّ ولا تنافي بين الآيتين، لأنّ للتقوى مراتب مختلفة:

1. العمل بالواجبات وترك المحرّمات.

2. المحافظة على المستحبات كصلاة الليل وقراءة القرآن في الأسحار.

3. ترك المكروهات.

4. ترك المشتبهات.

فالآية الأُولى تشمل عامّة المراتب، والآية الثانية تحدد تكليف كلّ شخص بقدر الاستطاعة، وكأنّ الآية الثانية نظير قوله تعالى: «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها»(3) ، أو قوله سبحانه: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(4).

وإلى ما ذكرنا يشير الطبرسي بعبارة مختصرة حاكياً عن بعضهم أنّه قال:

ليس بناسخ وإنّما هو مبيّن لإمكان العمل بهما جميعاً.(5)

***0.

ص: 402


1- . التغابن: 16.
2- . مجمع البيان: 35/10.
3- . البقرة: 233.
4- . الحج: 78.
5- . مجمع البيان: 35/10.

الآية السادسة: قيام الليل بمراتب مختلفة

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ * قُمِ اَللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً»(1).

أمر سبحانه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الآيات بقيام الليل إلّاقليلاً، وبما أنّ المستثنى منه (الليل) صار بعد الاستثناء مجملاً، رُفع إجماله بالآية التالية، حيث قال: «نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً».

والظاهر أنّ ضمير «نِصْفَهُ » يرجع إلى الليل، وضمير «مِنْهُ » و «عَلَيْهِ » يرجعان إلى النصف، والمعنى: قم نصف الليل أو أقلّ من النصف بقليل، أو أكثر من النصف بقليل، وعلى هذا تكون كلمة: «نِصْفَهُ ...» بدل من الليل. وأمّا الترديد بين المقادير الثلاثة فيحتمل وجوهاً:

1. للتخيير.

2. لاختلاف حالات النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد تقتضي الحال أن يقوم نصف الليل، وتارة أقلّ ، وأُخرى أكثر.

3. لاختلاف الليالي في الطول والقصر.

ثمّ إنّ الأمر الموجَّه إلى النبي بالقيام في الليل في الساعات المعيّنة، خاصّ بما إذا لم يُوجد هناك واجب أهمّ كجهاد العدو ذهاباً وعودة ومكوثاً، فربما يقوم بالصلاة دون هذا التفصيل.

ثمّ إنّ الأمر إنّما هو للنبي فقط دون المؤمنين، ومع ذلك يظهر من الآية التالية

ص: 403


1- . المزمل: 1-4.

أنّ طائفة من المؤمنين - لا جميعهم - كانوا يقومون مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما يقول سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ »(1) .

فقوله: «وَ طائِفَةٌ » يحكي عن عدم وجوبه على المؤمنين.

إذا علمت ذلك فربما يقال إنّ بقية الآية ناسخة للآية الأُولى حيث قال سبحانه: «وَ اَللّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ »(2).

حاصل الآية: أنّ تقدير هذه الأوقات وضبطها كان أمراً متعسّراً لعدم وجود الساعات التي يعرف بها مقدار الوقت (نصف الليل أو أقلّ منه أو أكثر) فجاء البيان القرآني يشير إلى هذا بقوله: «وَ اَللّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ» : أي يقدّر أوقاتهما إذ خلقهما بهذا النظام والإتقان، ولكن «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ » : أي علم أنّكم لا تطيقون إحصاءه على الحقيقة «فَتابَ عَلَيْكُمْ » : أي رجع عليكم بالرحمة بالتخفيف عنكم.

ثمّ إنّ بقية الآية تشير إلى وجود مشاكل أُخرى في تحديد هذه الأوقات الثلاثة، غيرما سبق من وجود العسرة في تقدير الليل، إجمالها كالتالي:

أ. «سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ».

ب. «وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ ».

ج. «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ».0.

ص: 404


1- . المزمل: 20. قوله: «أدنى»: فسّره الطبرسي بوجهين: أقرب وأقل، فينطبق على قوله في الآية الأُولى «أَوْ زِدْ عَلَيْهِ »: أي على النصف، فيكون المراد أقرب إلى الثلثين أو أقل منهما، وانطباق سائر الفقرات على الآية الأُولى واضح.
2- . المزمل: 20.

فهذه الجهات الثلاث وما تقدّم من عُسر معرفة هذه الأوقات صار سبباً لرفع الحكم المذكور.

إلى هنا تمّ بيان الآية، فقد زعم القائل بالنسخ أنّ القيام كان فريضة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمؤمنين، فنُسخ لأجل هذه الوجوه الأربعة.

فالقائل بالنسخ يجعل قوله سبحانه: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ » ، ناسخاً للقيام للتهجد على إحدى التقديرات الثلاثة.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الرفع لو ثبت كان مختصّاً بالمؤمنين دون النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ » ، فالحكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم باق بحاله (على حاله) دون أن يُنسخ.

وثانياً: أنّ الحكم بالنسبة إلى المؤمنين لم يكن إلزامياً عليهم، بشهادة قوله:

«وَ طائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ » إذ لو كان إلزامياً لما جاز للطوائف الأُخرى أن يتخلّفوا عن هذا الأمر.

ثمّ إنّ المرفوع ليس هو أصل الحكم بشهادة أنّ المؤمنين لو تحمّلوا الحرج وقاموا إلى العبادة بالنحو المذكور في الآية لكان جائزاً، بل المرتفع هو التأكيد على القيام لا أصله.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ الحكم بالنسبة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم باق بحاله، وأمّا بالنسبة إلى سائر المؤمنين فالترخيص جاء للتأكيد على العمل لا أصل العمل، فلا يوصف هذا النوع من الرفع، نسخاً.

***

وبهذا عرفت أنّ هذه الآيات الست آيات محكمة غير منسوخة، وإليك

ص: 405

دراسة ما ثبت عندنا كونها منسوخة، وهي أربع آيات، لكنّ واحدة منها جاء المنسوخ والناسخ في نفس القرآن الكريم، وأمّا الأُخريان فالناسخ في الذكر الحكيم والمنسوخ في السنّة الشريفة.

[في الآيات المنسوخة...]

الآية الأُولى: وجوب التصدّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».(1)

أمر اللّه سبحانه المؤمنين بتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لأجل أنّ الأغنياء من الصحابة كانوا يُكثرون من مناجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويظهرون بذلك نوعاً من التقرّب إليه، فأُمروا بأن يتصدّقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم.

قلنا: إنّ ذلك الحكم كان مكتوباً على الأغنياء دون الفقراء، بشهادة قوله في ذيل الآية: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » .

ولمّا نزلت الآية توقّف الأثرياء عن مناجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وخلا مجلسه من أي سائل وسامع منهم، وما ذاك إلّالأنّ الصدقة ولو بدرهم كانت عندهم أكثر قيمة من مناجاتهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومحاورته.

وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أمرين:

أ. أنّ ما كانوا يتناجون به لم يكن أمراً مهماً يسوّغ شَغْلَ وقت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولذلك كفّوا عن مناجاته صلى الله عليه و آله و سلم لامتناعهم من التصدّق.

ص: 406


1- . المجادلة: 12.

ب. لم يكن أكثر الصحابة على درجة رفيعة بحيث يغتنم مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسماع كلامه، بدفع الصدقة على فقراء المدينة. وإذا لم تكن هذه الضابطة منطبقة على أكثرهم، فهي تنطبق على كثير منهم، وهذا يعني أنّ محبّة المال أقوى عندهم من محبّة استماع كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومناجاته.

ثمّ إنّ هذا الحكم - أعني: وجوب الصدقة قبل المناجاة - كان حكماً امتحانياً مؤقّتاً ليعلم مبلغ تعلّق هؤلاء الرجال بنبيهم صلى الله عليه و آله و سلم، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان خلو مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم من السؤال والإجابة، يعود بالضرر على المجتمع الإسلامي ويفوِّت عليه فرصة التعلّم.

ولذا جاء الوحي الإلهي بنسخ ذلك الحكم بعد أن عُمل به لمدة قصيرة، وقد روى الطبرسي في «الاحتجاج» عن أمير المؤمنين عليه السلام حديثاً طويلاً يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب: أنشدكم باللّه هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية: «إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً » فكنت أنا الذي قدّم الصدقة، غيري ؟ قالوا:

لا.(1)

وروى الصدوق في «الخصال» في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وتعدادها، قال:

وأمّا الرابع والعشرون فإنّ اللّه أنزل على رسوله: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً » ، فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول اللّه أتصدق قبل ذلك بدرهم، فواللّه ما فعل هذا أحد من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل اللّه عزّ وجلّ : «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ » الآية، فهل تكون التوبة إلّامن ذنب5.

ص: 407


1- . تفسير نور الثقلين: 264/5، نقلاً عن الاحتجاج: 1/205.

كان ؟(1)

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن علي عليه السلام أنّه قال: «بي خفّف اللّه عن هذه الأُمّة، لم تنزل في أحد قبلي ولم تنزل في أحد بعدي».(2)

وأخرج الحاكم وصحّحه، وابن المنذر، وعبد بن حُميد وغيرهم عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «إنّ في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى ...».(3)

وروى الطبريّ بإسناده عن مجاهد، في قوله: «فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً » ، قال: نُهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى يتصدّقوا، فلم يناجهِ إلّاعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، قدّم ديناراً فتصدّق به، ثم أُنزلت الرخصة في ذلك.(4)

الآية الثانية: إيذاء الزاني غير المحصن

قال تعالى: «وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».(5)

وقد تقدّم في كتاب الحدود أنّ الآية ناظرة إلى حكم زنا المرأة والرجل من غير إحصان، فحكم عليهما بالإيذاء، وهو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول.

نعم ما جاء في الآية تعزير غير أنّ هذا الحكم نُسخ بالقرآن، أعني قوله

ص: 408


1- . الخصال: 574.
2- . مجمع البيان: 467/9.
3- . مستدرك الحاكم: 2/482؛ روح المعاني للآلوسي: 28/31. وانظر: جامع البيان (تفسير الطبري): 14/28، برقم 33794.
4- . جامع البيان: 14/27، برقم 33791-33793.
5- . النساء: 16.

سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ »(1).

الآية الثالثة: نسخ التوجّه إلى بيت المقدس حين الصلاة

قال تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ ».(2)

لمّا فرضت الصلاة على المؤمنين كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه يتجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، فصلّى صلى الله عليه و آله و سلم والمؤمنون إليه في مكة المكرمة وفي المدينة المنوّرة بعد الهجرة إلى سبعة عشر شهراً.

ولمّا انتشر الإسلام في دار الهجرة بدأ اليهود بالتشكيك فقالوا: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم. فصار ذلك سبباً لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المعظمة، ولذلك يقول سبحانه: «وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ » وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس.

والمورد - كما يقول الطبرسي - ممّا نسخ من السنّة بالقرآن، لأنّه ليس في القرآن ما يدل على التعبّد بالتوجّه إلى بيت المقدس.

***

ص: 409


1- . النور: 2.
2- . البقرة: 144.
الآية الرابعة: نسخ تحريم مسّ الزوجة في ليالي شهر رمضان
اشارة

قال تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ».(1)

المفردات

الرفث: الجماع.

اللباس: الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان.

الخيط الأبيض: بياض الفجر.

الخيط الأسود: سواد الليل.

التفسير

روي أنّ النكاح كان حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان عدداً من الشباب ينكحون في الليل سرّاً في شهر رمضان فأنزل اللّه هذه الآية، وقال: «أُحِلَّ

ص: 410


1- . البقرة: 187.

لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ » ثم قال: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » والظاهر أنّ المراد أنّ كلّاً من الزوجين يصون الآخر من الوقوع في الحرام فيكون ساتراً للآخر.

وعلى كلّ تقدير فالناسخ في القرآن الكريم والمنسوخ في السنة الشريفة.

إلى هنا تبيّن من هذه الدراسة المفصّلة، اختصاص النسخ بموارد أربعة فقط، في اثنين منها جاء الناسخ والمنسوخ في الذكر الحكيم، وفي موردين آخرين جاء الناسخ في القرآن الكريم والمنسوخ جاء في السنّة الشريفة.

***

بقي هنا أمران:

اشارة

الأوّل: توهّم إنساء بعض الآيات

الثاني: تقسيم النسخ إلى أقسام ثلاثة

وإليك دراسة كلّ منهما على حدّة.

توهّم إنساء بعض الآيات

ربما يُدّعى أنّ قسماً من الآيات القرآنية قد أنساها سبحانه عن ذهن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولعلّ فيها آيات منسوخة، مستدلين بقوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(1).

توضيح ذلك: أنّ في قوله: «أَوْ نُنْسِها» قراءتين:

الأُولى: أنّ هذا الفعل من «النسيان»، والأصل «ننسيها» ولمّا وقع جزاءً

ص: 411


1- . البقرة: 106.

للشرط حذفت الياء بأداة الجزم في آخر الفعل.

القراءة الثانية: أنّ هذا الفعل من «نسأ» بمعنى أخّر. إلّاأنّ القراءة المتواترة هي الأُولى.

وأمّا القراءة الثانية فهي غير صحيحة لوجهين:

1. لو كان الفعل مأخوذاً من «نسأ» يجب أن يُقرأ: ننسأها، لأنّ الهمزة من الحروف الأصلية التي لا تُحذف، عند عامل الجزم، وعمل الجزم يتحقّق بسكونها «ننسأها» مع أنّ القراءة بلا همزة.

2. أنّه لو كان المراد تأخير الآية لما ترتّب عليه قوله: «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها» لأنّ الآية عند التأخير موجودة لا حاجة إلى مجيء آية أُخرى، وإنّما الحاجة فيما لو حذفت الآية من رأس.

إلى هنا تمّ توضيح مفاد الآية، إنّما الكلام ما هو المراد من إنساء الآية.

فنقول: أوّلاً: إنّه - على القراءة المشهورة - لا دليل على تحقّق الإنساء، لأنّه سبحانه أتى بالفعل مقروناً ب «ما» المتضمّنة معنى الشرط لا ب «إذا»، فلو كان الشرط محقّق الوقوع يأتي مقروناً بإذا، كما في قوله تعالى: «إِذا وَقَعَتِ اَلْواقِعَةُ »(1) فإنساء الآية ليس أمراً محتملاً.

ثانياً: لو فرضنا تحقّق الإنساء فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم مستثنى منه لقوله سبحانه:

«سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ وَ ما يَخْفى »(2).

فإن قلت: إنّ قوله: «إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ » يدلّ على خلاف ما ادُّعي، فإنّه سبحانه7.

ص: 412


1- . الواقعة: 1.
2- . الأعلى: 6-7.

يستثني صورة مشيئته إذ عندئذٍ ينسي النبي أيضاً ما أُنزل إليه من الآيات.

قلت: إنّ قوله سبحانه: «إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ » بمنزلة قوله: «وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»(1) ، فإنّ الاستثناء ليس بمعنى أنّه سبحانه يخرج السعداء من الجنة؛ بل بمعنى أنّ خلودهم في الجنّة ليس بمعنى خروج القدرة عن يده سبحانه، بل مع القول بخلودهم في الجنّة فمشيئة اللّه فوق ذلك، فلو أراد أخرجهم ولكنّه لا يريد. ومثله الآية المباركة فإنّ الإخبار عن عدم نسيان النبي ليس بمعنى أنّه سبحانه لا يقدر على إنسائه؛ بل القدرة في جميع الحالات بيد اللّه سبحانه، فلو شاء لأنساه ولكنّه لا يشأ.4.

ص: 413


1- . هود: 108.

فاللّه سبحانه يحتجُّ عليهم بأنّه لو أنسى ما في التوراة عن قلوبهم يجيء بخير منها، أعني: الشريعة المحمدية الخاتمة لكلّ الشرائع.

والذي يدلّ على ذلك أنّ المراد من إنساء الآية هو وقوع الآية في ثنايا الآيات التي يحتجّ بها اللّه سبحانه في سورة البقرة على بني إسرائيل مبتدأ بالآية 40 وخاتماً بالآية الثالثة والعشرين بعد المئة، فمجموع تلك الآيات يحتجّ بها على بني إسرائيل، فوقوع آيتنا هذه في ثنايا هذه الآيات أفضل دليل على أنّ المراد من النسيان هو نسيان ما عندهم من الكتاب.

الأمر الثاني: أقسام النسخ

ذكر المفسّرون أنّ للنسخ أقساماً:

القسم الأوّل: نسخ التلاوة والحكم

نسخ الآية المتضمّنة للتشريع ورفعها من القرآن الكريم تلاوة وحكماً، وقد مثّلوا لذلك في حديث صحيح الإسناد إلى عائشة قالت: «كان فيما أُنزل من القرآن:

«عشر رضعات معلومات يحرّمن» ثم نُسخن بخمس معلومات، قالت: وتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهنّ فيما يُقرأ من القرآن».(1)

والحق بطلان هذا النوع من النسخ فإنّه لا يفارق القول بالتحريف، فإنّ معنى ذلك أنّه كانت آية ذات حكم تشريعي، وكانت تُتلى في حياة رسول اللّه ثم نسيت، وأيّ تحريف أوضح من ذلك، ولذلك حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار هذا القسم لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها.(2)

ص: 414


1- . صحيح مسلم: 167/4، كتاب الرضيع
2- . البرهان في علوم القرآن: 47/2.

ومن هذا القسم ما ذكره القرطبي من أنّ سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة التي يبلغ عدد آياتها 286 آية.(1)

أقول بصراحة تامّة: إنّ القول بنسخ التلاوة والحكم تعبير آخر عن التحريف ولكن بحيلة معسّلة، وهو في المقام محال عاديّ ، إذ كيف يمكن أن يبلغ عدد آيات سورة الأحزاب ما يقرب من عدد آيات سورة البقرة وقد نزلت في السنة الخامسة من الهجرة، فرفع أكثر آيات السورة (إمّا في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) أو بعد رحيله حتى لم يبق شيء منها في ذاكرة أحد من المسلمين والصحابة الكرام، ليُلحق بالقرآن عند تأليفه وجمع آياته، وهو أمر لا يقبله العقل الحصيف ولا ينسجم مع ما عرف عن جمع من الصحابة من اهتمام شديد بحفظ القرآن الكريم.

ولو فرضنا وقوع هذا القسم من النسخ في السنة الخامسة من الهجرة، لأحدث هزة في أذهان المسلمين، إذ ليس المرفوع آية واحدة أو اثنتين، بل فوق المئتين، ولو وقعت هذه الهزة لنقلها المحدّثون والمؤرّخون.

كلّ هذه الشواهد تدل على أنّ الزنادقة والملحدين أشاعوا هذه الفكرة بين المسلمين.

القسم الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم

يُشير العنوان إلى أنّ آية من القرآن الكريم كانت تحمل حكماً تشريعياً ثم نُسيت ومُحيت عن صفحة الوجود لكن بقي الحكم مستمراً معمولاً به غير منسوخ، وقد ذهب إلى جواز هذا القسم فريق من علماء أهل السنّة.

قال الزرقاني: أمّا نسخ التلاوة دون الحكم، فيدلّ على وقوعه ما صحّت

ص: 415


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 113/14.

روايته عن عمر بن الخطاب وأُبيّ بن كعب، أنّهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن:

الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة.(1)

ثمّ يقول: وأنت تعلم أنّ هذه الآية لم يَعُدْ لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القرّاء مع أنّ حكمها باق على إحكامه لم ينسخ.(2)

ثمّ إنّ عبارة: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة» نوع اقتباس من قوله تعالى: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ »(3) ، ومع ذلك فإنّ أُسلوبها بعيد عن أُسلوب القرآن الخلاب للعقول، على أنّ مضمون الآية المزعومة على خلاف ما أجمعت الأُمّة عليه، فإنّ الرجم لا يختصّ بالشيخ والشيخة بل هو حكم المحصن والمحصنة.

القسم الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة

وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسّرين، وقد عرفت أنّ ما ثبت منه أقل بكثير ممّا اشتهر، وقد مرّ أنّ المقبول من هذا القسم لا يتجاوز الثلاث آيات، إحداها ورد الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، واثنتان ورد الناسخ فيه دون المنسوخ.

***

تمّ الكلام في الناسخ والمنسوخ

ص: 416


1- . رواه ابن ماجة في سننه: 853/2، برقم 2553؛ وأحمد بن حنبل في المسند: 153/5.
2- . مناهل العرفان في علوم القرآن: 233/2.
3- . النور: 2.

6. التعزير في الذكر الحكيم

اشارة

التعزير لغة: التأديب، وشرعاً: عقوبة أو إهانة لا تقدير لها بأصل الشرع. وفي الشرائع: كلّ ما له عقوبة مقدّرة يُسمّى حدّاً، وما ليس كذلك يُسمّى تعزيراً.(1)

ومقدار التعزير إلى الإمام ولكن لا يبلغ به حدّ الحُرّ في الحر وهو الثمانون، ولا حدّ العبد في العبد وهو الأربعون.

وقد قال العلّامة الحلّي في قواعده: ويقتصر على ما يرجو الرجوع به، ولا يبرح ولا يدمي، ولو تلف بالضرب شيء ضمن.(2)

وعلى كلّ تقدير فلم يرد التعزير في القرآن الكريم إلّافي موردين:

الآية الأُولى: في تأديب الزوجة الناشز

قال سبحانه: «وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي

ص: 417


1- . شرائع الإسلام: 174/2.
2- . قواعد الأحكام: 96/3.

اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً»(1).

روى الحسن بن علي بن شعبة في «تحف العقول» عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال في خطبة الوداع: «إنّ لنسائكم عليكم حقّاً ولكم عليهنّ حقّاً، حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرشَكم ولا يُدخلن بيوتكم أحداً تكرهونه إلّابإذنكم، وأن لا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإنّ اللّه قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».(2)

يقال: ضرب مبرح - بكسر الراء - أي شاقّ . وفي «مجمع البيان»: وقيل في معنى غير المبرح أن لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً.(3)

ونسبته إلى القيل إشارة إلى ضعفه، ثمّ نقل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: أنّه الضرب بالسواك(4)، وعلى كلّ تقدير فالقدر المتيقّن أن لا يكون الضرب شاقّاً.

الآية الثانية: في إيذاء الزاني غير المحصن

قال تعالى: «وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».(5)

ص: 418


1- . النساء: 34.
2- . الوسائل: 15، الباب 6 من أبواب النفقات، الحديث 2.
3- . مجمع البيان: 92/2.
4- . لاحظ: من لا يحضره الفقيه: 521/3.
5- . النساء: 16.

وقد تقدّم في كتاب الحدود أنّ الآية ناظرة إلى حكم زنا المرأة والرجل من غير إحصان، فحكم عليهما بالإيذاء، وهو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول.

نعم ما جاء في الآية تعزير غير أنّ هذا الحكم نسخ بالقرآن كما مرّ.

وبما أنا استوفينا البحث عن كلا الموردين: ضرب النساء عند النشوز، وإيذاء الزانيين غير المحصنين في كتاب الحدود، فلنقتصر الكلام في المقام.

***

ص: 419

7. التسليم في الذكر الحكيم

اشارة

التسليم: هو التحية عند اللقاء، لكنّه يختلف التعبير عند الأقوام، ويظهر من بعض الروايات أنّ التسليم عند أهل الجاهلية كان بلفظ: أنعم صباحاً، حيث روي أنّ أسعد بن زرارة اجتمع مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل الهجرة وكان وثنيّاً، فقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنعم صباحاً، فرفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأسه إليه وقال: قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم».(1)

وأمّا ما ورد حول التسليم من الآيات القرآنية الكريمة، فهي كما يلي:

الآية الأُولى

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ».(2)

ص: 420


1- . بحار الأنوار: 8/19-9؛ إعلام الورى: 35-40.
2- . النور: 27.

الآية تتضمّن حكمين:

1. الاستئذان عند دخول بيوت الغير.

2. التسليم على أهلها.

أمّا الأوّل، فيقول سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا» : أي تستأذنوا.

وأمّا الثاني: أي التسليم على الأهل، قال سبحانه: «وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» : أي تقولوا: «السلام عليكم».

ثمّ إنّه سبحانه يصف ذلك بقوله: «ذلِكُمْ » : أي الاستئذان والتسليم «خَيْرٌ لَكُمْ » من الدخول بلا إذن، فربما يوجب كراهته لاستلزامه الاطّلاع على ما لا يحبّ الاطّلاع عليه.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » : أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرفيعة، وإنّما قال: «تَذَكَّرُونَ » لأنّ هذا أمر يدركه كلّ إنسان اذا رجع إلى عقله وفطرته.

الآية الثانية

قال تعالى: «... فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ».(1)

والظاهر أنّ المراد من التسليم على الأنفس هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل، روى الصدوق بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر

ص: 421


1- . النور: 61.

الباقر عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ » فقال: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردّون عليه، فهو سلام على أنفسكم».(1)

ومع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية أعمّ من ذلك، وهو أنّ الداخل إذا لم يجد أحداً فيسلّم على نفسه، ولعلّ هذا أقرب لأنّ المفروض هو الأكل من هذه البيوت بلا استئذان.

وقد وردت بهذا الوجه أيضاً رواية عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته، فإذا كان فيه أحد يسلّم عليه، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول اللّه عزّ وجلّ : «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ».(2)

الآية الثالثة

قال تعالى: «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً»(3).

يأمر اللّه سبحانه المسلمين بقوله: «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ » فعليكم ردّها بأفضل ما حييتم كما يقول: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها» هذا إذا كان السلام للمسلمين «أَوْ رُدُّوها» إذا كان لغير المسلمين، قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «السلام تطوّع والردّ فرض، وجواب سلام الذميّ : وعليكم، وجواب المسلم: وعليكم ورحمة اللّه (وبركاته)

ص: 422


1- . معاني الأخبار: 162-163.
2- . تفسير القمي: 85/2، وهي من روايات أبي الجارود عن الباقر عليه السلام.
3- . النساء: 86.

فهي أحسن من الأوّل».(1)

وهنا احتمال آخر وهو أن يقال - واللّه العالم -: إنّ الآية ناظرة لكلّ حسنة أسداها المسلم لأخيه المسلم فيلزم أن يقابلها بأفضل ما يمكن أو بمثلها. وقد روي عن أنس أنّ جارية جاءت للحسن بن علي عليهما السلام بطاقة ريحان فقال لها: «أنت حرّة لوجه اللّه... فقلت له: في ذلك ؟ فقال: أدبنا اللّه تعالى فقال: «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ ...» وكان أحسن منها إعتاقها».(2)

ويؤيّد ذلك قوله سبحانه: «هَلْ جَزاءُ اَلْإِحْسانِ إِلاَّ اَلْإِحْسانُ »(3).

فإن قلت: إنّ المتبادر من التحية هو التسليم عند اللقاء، قال الراغب: فالتحية أن يقال: «حياك اللّه»: أي جعل لك حياة، يقال: حيّاً فلان فلاناً تحيّة، إذا قال له ذلك فلا يعمّ غير حالة اللقاء.(4)

قلت: لا منافاة، فإنّ التحيّة مصدر حيّاه، ثم صارت التحيّة اسماً لكلّ حسنة يقوم بها المؤمن، وهو كما يتحقّق باللفظ هكذا يتحقّق بالأفعال التي تدلّ على تكريم الرجل، فلا مانع من أن يكون للتحية في الآية معنى واسع.

وعلى كلّ تقدير فالآية تدلّ على شمولية دين الإسلام وأنّه أتى بأدب رفيع، حتى لم يغفل عمّا يرجع إلى حياة المسلمين الاجتماعية، فذكر التحية وكيفية أدائها.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً» : أي».

ص: 423


1- . تفسير الطبري: 588/8-590.
2- . مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 21/4.
3- . الرحمن: 60.
4- . المفردات للراغب: 140، مادة «حيّى ».

يحاسب كلّ إنسان بكافّة أعماله.

***

قد تمّ ما أردناه في هذا الجزء من تفسير آيات الأحكام على ضوء مؤلّفات الأصحاب، واستدركنا بأُمور سبعة، ومع ذلك فهناك آيات ترجع إلى فقه الأخلاق وهي بين ما تبيّن الفضائل والرذائل وبين ما يجب أو يستحب أو يحرم، فكان اللازم تفسير هذه الآيات في كلا الحقلين، غير أنّنا أخذنا دراسة هذه الآيات بالتأليف وأسميناه ب: «الآداب والأخلاق في القرآن الكريم» فمَن أراد الإحاطة بهذه الآيات فعليه الرجوع إليه.

***

نحمده سبحانه على أن وفقنا لإتمام هذا المشروع

ونشكره على ما منّ به علينا من النعم الجسيمة،

وقد لاح بدر تمامه في شهر جمادى الأُولى

من شهور عام 1441 من الهجرة النبوية.

حرّره مؤلّفه جعفر السبحاني

الراجي رحمة الباري.

***

والحمد للّه الذي بنعمته تتمّ الصالحات

ص: 424

فهرس المحتويات

الفصل الثاني عشر

في أحكام الطلاق وغيره من الإيقاعات في الذكر الحكيم

1. أحكام الطلاق في الذكر الحكيم... 9

الوظائف الخمس عند الطلاق وبعده... 10

المفردات... 11

التفسير... 11

1. حكم الطلاق في الحيض... 13

2. بُطلان الطلاق في طهر المواقعة... 15

2. تطليق الزوجة ثلاثاً دفعة واحدة... 17

تمهيد... 17

الآية الأُولى... 18

المفردات... 18

التفسير... 19

لزوم فصل كلّ طلاق عن الآخر... 20

ص: 425

الآية الثانية... 21

المفردات... 22

التفسير... 22

لزوم الاعتداد بعد كلّ تطليقة... 23

رجاء بعد كلّ تطليقة... 24

الآية الثالثة... 26

المفردات... 27

التفسير... 27

النهي عن منع المطلّقة عن الزواج بشخص آخر... 27

3. أحكام العدد... 29

تمهيد... 29

الآية الأُولى... 30

المفردات... 31

التفسير... 31

عدّة المطلقة الرجعية... 31

ما هو المراد من القرء في الآية ؟... 37

الآية الثانية... 40

المفردات... 41

التفسير... 41

لا عدّة لغير المدخول بها... 41

ص: 426

الآية الثالثة... 42

الآية الرابعة... 43

المفردات... 43

التفسير... 43

الآية الخامسة... 44

المفردات... 44

التفسير... 45

عدّة المتوفّى عنها زوجها... 45

جواز التزوّج بمَن شاءت بعد الخروج عن العدّة... 46

الفوارق بين عدّة المطلّقة والأرملة... 46

الآية السادسة... 48

المفردات... 49

التفسير... 49

أقسام الخطبة وأحكامها... 49

4. أحكام الظهار في الذكر الحكيم... 52

تمهيد... 52

الآية الأُولى... 52

المفردات... 53

التفسير... 53

الآية الثانية... 54

ص: 427

المفردات... 54

التفسير... 54

الآية الثالثة... 55

المفردات... 55

التفسير... 56

الآية الرابعة... 56

المفردات... 57

التفسير... 57

5. أحكام الإيلاء في الذكر الحكيم... 60

الآيتان: الأُولى والثانية... 60

المفردات... 60

التفسير... 60

6. أحكام اللعان في الذكر الحكيم... 64

تمهيد... 64

الآية الأُولى... 65

المفردات... 65

التفسير... 65

وظيفة الزوج عند اللعان... 66

الآية الثانية... 66

المفردات... 66

ص: 428

التفسير... 66

وظيفة الزوجة في دفع الحدّ عن نفسها... 67

الآية الثالثة... 67

المفردات... 67

التفسير... 67

الآية الرابعة... 68

المفردات... 68

التفسير... 68

ما هو السرّ لتشريع اللعان... 69

7. إذا أسلم أحد الزوجين، أو ارتدّ أحدهما... 70

تمهيد... 70

المفردات... 71

التفسير... 71

الأوّل: حرمة ردّهن إلى أزواجهن... 72

الثاني: ردّ ما أُخذ من المهور إلى أزواجهن... 72

الثالث: جواز نكاحهنّ مع المهر... 73

الرابع: إذا أسلم الزوج دون الزوجة... 73

الفصل الثالث عشر

أحكام الأطعمة والأشربة في الذكر الحكيم

الآية الأُولى... 80

ص: 429

التفسير... 80

الآية الثانية... 80

المفردات... 80

التفسير... 81

الآية الثالثة... 81

المفردات... 81

التفسير... 82

1. الأطعمة المحرّمة... 83

الآية الأُولى... 84

المفردات... 84

التفسير... 84

الآية الثانية... 91

المفردات... 91

التفسير... 91

الآية الثالثة... 93

المفردات... 94

التفسير... 94

الآية الرابعة... 95

المفردات... 95

التفسير... 95

ص: 430

2. الأطعمة المحلّلة... 99

الآية الأُولى... 99

المفردات... 99

التفسير... 101

الآية الثانية... 102

المفردات... 102

التفسير... 102

الآيات: الثالثة والرابعة والخامسة... 103

المفردات... 103

التفسير... 104

الآية السادسة... 105

المفردات... 106

التفسير... 106

الآيتان السابعة والثامنة... 109

المفردات... 109

الآية التاسعة... 110

التفسير... 110

حكم ذبائح أهل الكتاب... 111

الطعام في لغة أهل الحجاز هو البرّ... 111

اعتراضات صاحب المنار على المختار ونقدها... 114

ص: 431

الأوّل: استعمال الطعام في القرآن في مطلق المأكول... 114

الثاني: أنّ اللحم مظنّة التحريم... 115

الثالث: إضافة الطعام إلى الكتابي، دليل على أنّ له دخلاً في التحريم... 116

الرابع: ما هو الوجه لحلّية البر في اليوم الخاص ؟... 116

3. الأشربة المحلّلة... 119

1. الماء... 119

المفردات... 119

2. شهد النحل... 120

المفردات... 121

التفسير... 121

امتصاص رحيق الأزهار... 122

3. من الأشربة المحلّلة: اللبن... 122

المفردات... 123

التفسير... 123

4. الأشربة المحرّمة... 125

الآية الأُولى... 125

المفردات... 125

التفسير... 126

الآية الثانية... 126

ما هو السبب لتحريم الخمر والميسر؟... 127

الآية الثالثة... 128

ص: 432

المفردات... 129

التفسير... 129

5. تحليل الطيبات وصيد الجوارح المعلّمة... 134

المفردات... 134

التفسير... 134

تحليل الطيبات... 135

تحليل صيد الجوارح المعلّمة... 136

6. أحكام اللباس والزينة... 142

الآية الأُولى... 142

المفردات... 142

التفسير... 144

الآية الثانية... 145

المفردات... 146

التفسير... 146

الفصل الرابع عشر

أحكام المواريث في الذكر الحكيم

تمهيد... 151

1. نزول آية المواريث... 152

الآية الأُولى... 152

التفسير... 152

ص: 433

الآية الثانية... 154

المفردات... 154

التفسير... 154

نقد النظرية... 156

نظرية أُخرى... 156

2. في نصيب الرجال والنساء من الميراث... 158

الآية الثالثة... 158

المفردات... 158

التفسير... 158

الأوّل: التعصيب في بعض صوره يخالف مضمون الآية... 159

الثاني: حرمان أولاد الأنبياء من الإرث... 160

1. موجبات الإرث في الإسلام... 161

2. مراتب الإرث وملاكاتها... 161

3. السهام المنصوصة في كتاب اللّه... 162

4. الحاجب عن الإرث... 164

5. إرث أولاد الأولاد... 164

3. في إرث الأولاد والأبوين... 166

الآية الرابعة... 166

تحديد الحاجب... 169

تقديم الوصية والدين على التقسيم... 171

ص: 434

4. في إرث الزوجين والكلالة... 173

الآية الخامسة... 173

المفردات... 173

التفسير... 174

ميراث كلالة الأُمّ ... 176

الآية السادسة... 178

المفردات... 178

التفسير... 179

5. في إعطاء ذوي القربى والفقراء من التركة... 184

الآية السابعة... 184

التفسير... 184

دفع شيء لطائفتين لدى القسمة... 184

6. إرث المسلم من الكافر... 186

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على عدم التوارث... 188

الطائفة الثانية: ما يصرّح على عدم إرث المسلم... 189

7. ميراث أولاد الأنبياء... 191

تمهيد... 191

الآية الأُولى... 192

ما هو المراد من الوراثة في قصة زكريا؟... 192

كلام للسيد الآلوسي في أنّ الوراثة، هي وراثة العلم... 193

ص: 435

حرمان أولاد الأنبياء من الميراث على خلاف الفطرة... 197

الآية الثانية... 198

التفسير... 199

وراثة سليمان أباه داود... 199

فدك صودرت وبيوت الأزواج لم تصادر... 204

رسالة المأمون إلى عامله بالمدينة يردّ فدك إلى أولاد فاطمة... 205

الفصل الخامس عشر

أحكام القضاء في الذكر الحكيم

القضاء ودوره في استتباب الأمن واستقرار العدل... 211

تمهيد... 211

القضاء من ضروريات الحياة الاجتماعية... 213

الآية الأُولى... 213

التفسير... 214

تكريم النبي داود بأمرين كبيرين... 214

هل القضاء منصب إلهي ؟... 215

الآيتان الثانية والثالثة... 216

المفردات... 216

التفسير... 216

الأمر دائر بين الصواب والأصوب... 218

ص: 436

الآية الرابعة... 219

المفردات... 219

التفسير... 219

حرمة التحاكم إلى مَن ليس له ولاية القضاء... 219

الآية الخامسة... 221

المفردات... 221

التفسير... 222

الآية السادسة... 222

المفردات... 223

التفسير... 223

احتكام غير المسلم إلى المحاكم الإسلامية... 223

الفصل السادس عشر

أحكام الشهادات في الذكر الحكيم

تمهيد... 229

الآية الأُولى... 230

المفردات... 230

التفسير... 231

1. الآية من الآيات المشكلة حسب اعتراف المفسّرين... 231

2. وجه كون الآية من أعوص الآيات... 232

3. إعراب الآية... 232

ص: 437

4. مضمون الآية... 233

الآية الثانية... 235

التفسير... 235

ما يستفاد من الآية... 236

شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد... 237

الآية الثالثة... 237

المفردات... 237

التفسير... 238

وجوب اتباع الحق في الشهادة... 238

الأوّلان: الأمر بالقسط والشهادة للّه... 238

الشاهد قوّاماً بالقسط، فليكونوا شهداء طلباً لمرضاة اللّه.... 239

شهادة الولد على والده... 241

الآية الرابعة... 242

الآية الخامسة... 242

الفصل السابع عشر

الحدود في الذكر الحكيم

الحدود... 245

1. حدّ الزنا... 247

الآية الأُولى... 247

المفردات... 247

ص: 438

التفسير... 248

1. جلدهما مائة جلدة... 248

2. إجراء الحدّ بلا نقص ولا زيادة... 250

3. إجراء الحدّ في مشهد علنيّ ... 251

الآيتان: الثانية والثالثة... 252

المفردات... 253

التفسير... 254

تفسير الآيتين على وفق القول الأوّل... 254

ملاحظات حول القول الأوّل... 256

تفسير الآيتين وفق القول الثاني... 257

2. حدّ القذف... 260

الآية الأُولى... 260

المفردات... 260

التفسير... 260

الآية الثانية... 262

المفردات... 262

التفسير... 263

3. حدّ السرقة... 265

الآيتان: الأُولى والثانية... 265

المفردات... 265

ص: 439

التفسير... 266

موضع القطع... 269

سقوط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته... 271

ردّ المسروق إلى صاحبه... 271

شبهة حول حدّ السرقة... 272

ختام الآية... 273

فتح باب الأمل للمجرم بالتوبة... 274

4. حدّ المحارب... 275

الآية الأُولى... 275

المفردات... 275

التفسير... 276

الموضع الأوّل: تعريف المحارب... 277

1. محاربة اللّه ورسوله... 277

2. الإفساد في الأرض... 277

الموضع الثاني: حدّ المحارب... 279

هل العقوبات على وجه التخيير أو الترتيب أو التفصيل ؟... 282

الآية الثانية... 284

الفصل الثامن عشر

أحكام القصاص في الذكر الحكيم

تمهيد... 287

ص: 440

الآية الأُولى... 288

المفردات... 288

التفسير... 288

تشريع القصاص والتخيير بينه وبين الدية... 288

الآية الثانية... 294

القصاص فيه حياة المجتمع... 294

شبهات حول القصاص... 297

1. القصاص علاج جريمة بجريمة مثلها... 297

2. القصاص ينافي الرحمة والرأفة... 297

3. القسوة وحبّ الانتقام أمر مذموم... 298

4. الجاني مريض يجب علاجه... 298

5. ردع الجاني بأعمال إجبارية... 298

الآية الثالثة... 299

المفردات... 299

التفسير... 299

الجزاء على قدر الجريمة... 300

موقف خالد لأمير المؤمنين عليه السلام... 301

الآية الرابعة... 302

المفردات... 303

التفسير... 303

ص: 441

الآية الخامسة... 306

المفردات... 306

التفسير... 307

الآية السادسة... 307

التفسير... 307

التعامل بالمثل عند الاعتداء... 307

الإصلاح والعفو إجابة لأمره سبحانه... 308

الفصل التاسع عشر

أحكام الديات في الذكر الحكيم

الآية... 311

المفردات... 311

التفسير... 312

أحكام قتل المؤمن خطأ... 313

خاتمة

1. حكم الإسراف ومواضعه في الذكر الحكيم... 322

الإسراف لغة وشرعاً... 322

1. الإسراف في الأكل والشرب... 323

التفسير... 324

2. الإسراف في الإنفاق... 325

الآية الأُولى... 325

ص: 442

المفردات... 326

التفسير... 326

الآية الثانية... 327

المفردات... 327

التفسير... 327

الآية الثالثة... 330

المفردات... 330

التفسير... 330

التأكيد على الاقتصاد في الروايات... 331

3. الإسراف في أخذ الثار بالقصاص... 332

المفردات... 332

التفسير... 332

4. الإسراف في قتال العدو... 334

الآية الأُولى... 334

المفردات... 334

التفسير... 334

الآية الثانية... 336

المفردات... 336

التفسير... 337

5. الإسراف على الأنفس... 338

ص: 443

المفردات... 338

التفسير... 338

2. حكم التبذير في الذكر الحكيم... 341

الآية الأُولى... 341

المفردات... 341

التفسير... 342

الآية الثانية... 343

المفردات... 343

التفسير... 343

3. البدعة والتشريع في الذكر الحكيم وفيها مباحث... 345

المبحث الأوّل: في تفسير البدعة لغة وكتاباً وسنّة... 345

البدعة لغة... 345

معنى البدعة في الكتاب والسنّة... 346

البدعة في كلمات العلماء... 347

المبحث الثاني: أدلّة حرمة البدعة في المصادر الأربعة... 350

حرمة البدعة في الكتاب العزيز... 350

1. البدعة تقدّم على اللّه ورسوله في التشريع... 350

2. البدعة كذب على اللّه... 351

3. البدعة تصرّف في حلال اللّه وحرامه... 351

السنّة الشريفة وتحريم البدعة... 352

ص: 444

المبحث الثالث: في مقومات البدعة... 355

1. التدخل في الدين عقيدة وحكماً بزيادة أو نقيصة... 355

2. الإشاعة والدعوة إلى التمسّك بها... 357

3. عدم وجود أصل للمبتدع في الدين... 358

المبحث الرابع: الابتداع في تفسير البدعة... 360

ما هو الملاك في وصف القرن بالخير؟... 363

1. اتّفاقهم في الأُصول والعقائد... 363

2. سيادة السلم والصلح على المسلمين... 364

3. تمسّكهم بالدين في مجال الفروع... 366

المبحث الخامس: في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة... 368

سؤال وجواب... 369

المبحث السادس: الاحتفال في ميلاد النبي ليس بدعة... 371

في البدع التي حدثت بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 373

4. التكفير في الذكر الحكيم... 374

خطورة التكفير... 375

التكفير في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 375

1. التوحيد في الذات... 377

2. التوحيد في الخالقية... 377

3. التوحيد في الربوبية... 378

4. التوحيد في العبودية... 379

ص: 445

5. الإيمان بالمعاد... 379

6. رسالة النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم... 379

7. القرآن وحي منزل... 380

8. الاعتقاد بالضروريات... 381

الشروط اللازمة للتكفير... 382

1. إقامة الحجّة على المنكر... 382

2. كونه قاصداً للمعنى المخرج... 382

3. كونه مختاراً في البيان والعمل... 382

4. لم يكن الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار... 382

5. عدم احتمال التأويل... 383

بعض العقائد المختلف فيها بين الفريقين... 385

1. القول بالبداء... 385

2. الإيمان بخلافة الخلفاء... 385

3. علم الأئمّة بالغيب... 386

4. التقية من المسلم... 386

5. تكفير الصحابة... 387

5. نسخ الأحكام في الذكر الحكيم... 388

الأوّل: النسخ لغة واصطلاحاً... 388

الأمر الثاني: الفرق بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية... 389

الأمر الثالث: في بيان ما يخضع للنسخ... 390

ص: 446

الأمر الرابع: في إمكان النسخ... 390

قلّة النسخ في القرآن الكريم... 393

الآية الأُولى: عدم الإكراه في الدين... 393

سؤال وجواب... 394

1. نكث الأيمان... 394

2. إلزام المجتمع المشرك على رفضه الشرك خدمة لهم... 395

دراسة مفاد آية القتال... 396

الآية الثانية: إمساك الزانية في البيت... 397

الآية الثالثة: تعدد الزوجات مشروط بالعدالة... 398

الآية الرابعة: تمتع الأرملة بيتها إلى حول كامل... 400

الآية الخامسة: وجوب اتّقاء اللّه حقّ تقاته... 401

الآية السادسة: قيام الليل بمراتب مختلفة... 403

في الآيات المنسوخة... 406

الآية الأُولى: وجوب التصدّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 406

الآية الثانية: إيذاء الزاني غير المحصن... 408

الآية الثالثة: نسخ التوجّه إلى بيت المقدس حين الصلاة... 409

الآية الرابعة: نسخ تحريم مسّ الزوجة في ليالي شهر رمضان... 410

بقي هنا أمران:... 411

الأوّل: توهّم إنساء بعض الآيات... 411

الأمر الثاني: أقسام النسخ... 414

ص: 447

القسم الأوّل: نسخ التلاوة والحكم... 415

القسم الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم... 415

القسم الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة... 416

6. التعزير في الذكر الحكيم... 417

الآية الأُولى: في تأديب الزوجة الناشز... 417

الآية الثانية: في إيذاء الزاني غير المحصن... 418

7. التسليم في الذكر الحكيم... 420

الآية الأُولى... 420

الآية الثانية... 421

الآية الثالثة... 422

فهرس المحتويات... 425

ص: 448

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.