الطاف الرحمن فی فقه القرآن المجلد 2

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی ، جعفر، ‫ 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور : الطاف الرحمن فی فقه القرآن/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام صادق (ع) ‫، 1441ق. ‫ = 1398 -

مشخصات ظاهری : ج.

فروست : موسسه امام صادق (ع) ‫؛ 487.

شابک : ‫دوره ‫: 978-964-357-628-8 ؛ ‫ج.1 ‫: 978-964-357-627-1 ؛ ‫ج.2 ‫: ‫ 978-964-357-634-9 ؛ ‫ج.3 ‫: ‫ 978-964-357-645-5

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.3(چاپ اول: 1399) (فیپا).

مندرجات : ج.1. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام الطهاره والصلاه والصیام والزکاه والانفال والفیء والخمس والحج.-ج.2. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام : الجهاد والأمربالمعروف والنهی عن المنکر٬ والمکاسب المحرمة٬ و العقود الشرعیة والایقاعات والأحکام النکاح

موضوع : قرآن -- احکام و قوانین

Qur'an -- Law and legislation

موضوع : تفاسیر فقهی -- شیعه

Qur'an -- *Legislative hermeneutics -- Shiite

قرآن -- علوم قرآنی

Qur'an -- Qur'anic sciences

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : ‫ BP99/6

رده بندی دیویی : ‫ 297/174 ‮

شماره کتابشناسی ملی : 5781015

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ألطاف الرحمن

في

فقه القرآن/ 1

ص: 3

ص: 4

ألطاف الرحمن

في فقه القرآن

الجزء الثاني

في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة

والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ

تأليف

الفقيه المحقّق

جعفر السبحاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

ألطاف الرحمن في فقه القرآن / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1397.

2 ج (VOL.1) 1-627-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 8 - 628-357-964-978 ISBN

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

ج. 1. في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ .

1. قرآن -- احكام و قوانين. 2. تفاسير فقهى -- شيعه. الف. موسسۀ امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

7 الف 2 س 6/99 BP 174/297

1397

اسم الكتاب:... ألطاف الرحمن في فقه القرآن / ج 1

المؤلف:... الفقيه المحقّق جعفر السبحاني التبريزي

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1397 ه ش / 1440 ه. ق / 2019 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عدد النسخ:... 1000 نسخة

القطع:... وزيري

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1031 تسلسل الطبعة الأُولى: 487

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة

مركز التوزيع

قم المقدسة: ساحة الشهداء: مكتبة التوحيد

? 37745457؛ 09121519271

http://www.Tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص: 6

مقدّمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين.

والصّلاة والسّلام على أفضل بريّته وخاتم أنبيائه ورسله محمد وآله الطيّبين الطاهرين الذين هم موضع سرّه وعيبة علمه، هم أساس الدين وعماد اليقين، صلاة دائمة ما برح الليل والنهار.

أمّا بعد؛ فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا «ألطاف الرحمن في فقه القرآن»، يتضمّن تفسير الآيات الواردة في بيان أحكام: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحكام المكاسب المحرّمة، والعقود الشرعية كالبيع والإجارة والدين والضمان والكفالة والصلح والإيداع والوديعة والعارية والرماية والشفعة والوصية والحجر، والإيقاعات كالنذر واليمين والعتق، وأحكام النكاح.

أرجو من اللّه سبحانه أن يصدّنا عن الزلّة في تفسير آياته، ويرشدنا إلى موضع قبوله، إنّه بذلك قدير، وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

28 ربيع الأوّل 1440 ه

ص: 7

ص: 8

الفصل السابع: أحكام الجهاد في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

1. في وجوب الجهاد.

2. الطوائف الأربع الذين لا يجب عليهم الجهاد.

3. الجهاد الدفاعي.

4. الجهاد الابتدائي.

5. كيفية القتال وشروطه.

6. التعبئة والاستعداد التام للدفاع عن المجتمع المسلم.

7. الصلح في ظروف خاصّة.

8. الصلح بين طائفتين مسلمتين.

9. حرمة المبادرة إلى التكفير بلا دليل.

ص: 9

ص: 10

الجهاد في الذكر الحكيم

تمهيد

الجهاد: مصدر جاهد يجاهد جهاداً، وهو استفراغ الوسع في مدافعة العدو، فالجُهد - بضم الجيم - بمعنى الطاقة، يقول سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ ) (1).

أمّا الجَهد - بفتح الجيم - فهو بمعنى المشقّة، قال سبحانه: (وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) (2)، أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

وهو في مصطلح الفقهاء بذل النفس والمال لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان، فيدخل في الأوّل قتال الكفّار وفي الثاني قتال البغاة، وهو من أعظم أركان الإسلام، قال الإمام علي عليه السلام: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ، فَتَحَهُ اللّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ . وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوى ، وَدِرْعُ اللّهِ الْحَصِينَةُ ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ ، وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ ، وَدُيِّثَ (3) بِالصِّغَارِ(4)

ص: 11


1- . التوبة: 79.
2- . النور: 53.
3- . دُيّث: ذُلّل.
4- . الصِغار: الذُلّ والضَيم.

وَالْقَمَاءَةِ (1)، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ (2) (الأسداد)، وَأُدِيلَ (3) الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ (4) الْخَسْفَ (5)، وَمُنِعَ النَّصَفَ (6)».(7)

إنّ اللازم قبل دراسة الآيات من تقديم مقدّمة يُعلم بها أنّ جهاد العدو أمر لا محيص منه.

لا شكّ أنّ اعتداء الإنسان على مثله، أو شعب على آخر، أمر تستنكره طبيعة أغلب الناس، وخاصة أُولئك الذين لم تتلوّث فطرتهم بالشهوات والنوازع الحيوانية، وكلّما سمع الإنسان أجراس الحرب، دخله الاضطراب والقلق، وسيطر عليه الخوف والهلع، لأنّ في الحرب إراقة الدماء، وخراب البلاد، وحرقاً للحرث والنسل.

ولعلّ قوله سبحانه يشير إلى ذلك بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) (8)، ووجه الكُره هو ما ذكرنا. غير أنّ القتال الذي كُتب على الناس في الذكر الحكيم غير ما هو المكروه لهم، فإنّ فيما كتب عليهم، استمرار حياتهم وبقاء كيانهم؛ وذلك لأنّ مجال الجهاد هو قطع دابر الخصم الذي يُريد السيطرة على6.

ص: 12


1- . القماءَة: يقال قمؤ الرجل قماءً وقماءة: صار صغيراً ذليلاً.
2- . بالاسهاب: ذهاب العقل.
3- . أُديلَ : أُضيع.
4- . سيم: الظاهر أنّه صيغة مجهول لقولهم «سام»: كلّف.
5- . الخَسف: الذلّ والمشقة.
6- . النَّصَف: الإنصاف.
7- . نهج البلاغة: الخطبة 27.
8- . البقرة: 216.

البلاد وما فيها من خيرات وثروات طبيعية وغيرها، واستعباد الشعوب، ففي هذه الظروف الحسّاسة يرى الإنسان الغيور الجهادَ أمراً لذيذاً مطلوباً للنفس محبوباً عند العقلاء، ولذلك يبذل في طريقه كلّ غال ونفيس.

التشريع الإسلامي مبني على الفطرة الإنسانية وهي تقبّح قتل الإنسان لأجل السيطرة عليه، ولكن إذا واجه الإنسان عدوّاً يُريد استعباده ونهب ما يملكه، فهي تقضي قضاء باتاً بمواجهته والتصدي له وبذل النفس والنفيس في طريقه. فالجهاد الإسلامي مبني على قضاء الفطرة ولذلك يقول سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ،(1) حيث يعلّل الإذن في القتال لرفع الظلم عن أنفسهم واسترجاع ما نهب منهم حتى يعد المجاهدين بالنصر، ثم يقول: (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ ) ،(2) فيصف المجاهدين بأنّهم هم الذين يُهجَّرون دون أن يرتكبوا جريمة، نعم ذنبهم الوحيد أنّهم رفضوا الوثنية وذلّة الإنسان أمام الأحجار والأخشاب الصامتة، ورجعوا إلى عبادة اللّه خالق السماوات والأرض، كما قال: (إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ ) .

الغاية من الجهاد الابتدائي

ما ذكرنا يرجع إلى الجهاد الدفاعي، وأمّا الغاية من الجهاد الابتدائي، فهي تحرير الإنسان من الاستعباد، وإعطاء الحرية له في سماع كلمة الحقّ عن طريق أنبيائهم أو مبعوثيهم، فإنّ حكّام الجور والظلم كانوا صادّين الناس عن سماع كلمة الأنبياء والأولياء، فالغاية من الجهاد رفع هذه السدود وتحرير المجتمع من أي

ص: 13


1- . الحج: 39.
2- . الحج: 40.

منع، فعند ذلك يختار كلّ إنسان ما يختار، وما ربما يتّهم جهاد الإسلام لأجل إكراه الناس على الدين فهو أمر مفتر لا صحّة له، وقد سمعت أُذن الدنيا قوله سبحانه:

(لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ ) (1) .

روى المفسّرون أنّها نزلت في رجل من الأنصار يُدعى أبا الحصين كان له ابنان فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما [تجار الشام] إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأنزل اللّه تعالى: (لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ ) فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أبعدهما اللّه هما أوّل مَن كفر» فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل اللّه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (2).

إنّ منطق الإسلام في سبيل دعوته هو قوله سبحانه: (اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (3) وإنّ طريق الإسلام في نشر دعوته هو قوله سبحانه: (وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (4).

إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمّن حرية الإنسان في اتّخاذ دينه.

نعم ومع الاعتراف بالحرية التامّة للإنسان في مجال العقيدة والتديّن، ولكن الحكومة الإسلامية لا تعترف بالوثنية وعبادة الإنسان الحجر والمدر، والتذلّل أمام6.

ص: 14


1- . البقرة: 256.
2- . النساء: 65.
3- . النحل: 125.
4- . الكهف: 29.

الأجسام الخرساء التي لا تعقل ولا تسمع، وما ذلك إلّالأنّ فيه ذلّ الإنسان ونزوله من مقامه الشامخ إلى درجة نازلة تخضع أمام الأجسام الفاقدة للشعور.

وأمّا ماوراء ذلك فالمرء وما اختار من أحد الشرائع السماوية.

إنّ صدّ الإنسان عن عبادة الأصنام ترفيع لمقامه وعلاج للداء الموجود في حياته. والموجود الوثني إنسان مريض يحتاج إلى العلاج، فالأنبياء هم الأطباء يعالجونه بأحسن وجه وإن كان المريض لا يقدّر أعمالهم وربّما يستكرهها، وهذا ليس أمراً غريباً وله نظائر في حياتنا المعاصرة.

مثال: لقد شاعت أنواع المخدّرات في المجتمع من قبل سماسرة الدول الاستعمارية ولكن الحكومات يمنعون استيرادها وبيعها وشراءها واستعمالها ويعاقبون المستوردين لها بأشدّ العقوبات، لماذا؟ لأنّ في تعاطي المخدّرات قضاءً على حياة المعتاد وإن كان هو لا يشعر بذلك، ولكن الحكومة الراشدة تشعر بذلك فتقف بوجهه بصلابة وشدّة وقوة.

مثال آخر: نفترض أن داءً مهلكاً - كالكوليرا - انتشر في البلد فوزارة الصحّة تضع سداً لانتشاره فتلزم الناس بالتلقيح الإجباري حتى يصون الناس عن أضرار هذا الداء الوبيل. وربما يوجد في المجتمع من لا يريد ذلك، غير أنّ القوّة القهرية تجبره على التلقيح مكرهاً، وما ذلك إلّالأنّه جاهل بالأضرار التي تحدق به.

فكما لا يعدّ الإكراه والجبر في هذه المواضع على خلاف الحرية، فهكذا الأمر في مورد المنع عن عبادة الحجر والمدر، إذ فيه إنقاذ لعابد الوثن من الهلاك والدمار.

إذا علمت ذلك على وجه الإجمال فنقول: في المقام فصول نذكرها حسب ما ترشدنا إليه الآيات.

ص: 15

أحكام الجهاد

1. في وجوب الجهاد(1)

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

كره: قيل: الكَره والكُره، واحد، نحو الضَعف والضُعف، وقيل: الكَره المشقّة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، والكُره ما يناله من ذاته وهو يعافه.(2)

عسى: يدل على الترجّي، واستعماله في القرآن باعتبار المخاطب فهو راج، دون اللّه، نظير قوله سبحانه: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ) (3).

ص: 16


1- . البقرة: 216.
2- . مفردات الراغب: 429، مادة «كره».
3- . الأعراف: 129.
التفسير

التعبير بالكتابة يدلّ على أنّ الجهاد فرض على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة، بناء على أنّ نزول سورة البقرة التي وردت هذه الآية فيها كان في تلك السنة، وكان الجهاد قبل هذه الآية أمراً مأذوناً لا واجباً، كما يشعر به قوله سبحانه:

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (1) . ولمّا كان المتبادر من الآية كون الجهاد أمراً مأذوناً لا واجباً نزلت الآية لبيان صعود الحكم إلى درجة الوجوب لتغيّر الظروف فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ ) ، وهل هو واجب عيني أو كفائي ؟ فهذا موكول إلى علم الفقه. وممّا يورث العجب أنّ بعض السلف قال بكون الجهاد أمراً مندوباً، مستدلّاً بقوله سبحانه: (فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى ) (2)، ووهن الاستدلال واضح، لأجل أنّ المراد من القاعدين هم أصحاب الضرر العاجزون عن القتال كما يظهر من سياق الآيات، وهؤلاء لم يكتب عليهم الجهاد من أوّل الأمر.

قوله تعالى: (وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) : أي مكروه طبعاً، إذ فيه - كما مرّ - قتل النفس وتدمير الأوطان، وهجرانها، هذا بحسب الطبع، ولكن لا ينافي أن يكون أمراً لذيذاً، في ضوء الإيمان الخالص، الذي يرى فيه حياة طيبة، وقد أطال السيد الطباطبائي الكلام في كون القتال كُرهاً، وذكر وجوهاً، والظاهر عدم الحاجة إلى الإطناب، إذ لا مانع من أن يكون شيء غير مطبوع بالذات، ومحبوباً حسب العوارض، فإنّ الإنسان يكره الدواء المرّ بالذات، لكن يصرّ على شربه لما فيه من

ص: 17


1- . الحج: 39.
2- . النساء: 95.

البرء من المرض. وما ذكره في الوجه الأوّل في كلامه هو الظاهر، قال: وكون القتال المكتوب، كُرهاً للمؤمنين؛ لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان، والمضار المالية، وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية وغير ذلك، ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة.(1)

قوله تعالى: (وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) ، لأنّ الإنسان ينال في ظل الجهاد كلتا السعادتين الدنيوية والأُخروية. وقد مرّ كلام الإمام علي عليه السلام في حقّ الجهاد فلاحظ.

ثمّ إنّه سبحانه يردّ على ما ربما يستكره الإنسان شيئاً وهو غافل عن ثمراته، ويقول: (وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) : أي أحسن أثراً وعافية في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما. وربما يحتمل أن تكون الآية ناظرة إلى ما جرى في صلح الحديبية حيث كرهوا الصلح واستحبوا القتال لأنّهم يومئذ كانوا جيشاً عرمرماً جرّاراً، فيكون تذكيراً لهم بأنّ اللّه أعلم بمصالحهم.(2)

أقول: الظاهر أنّ الآية ضابطة كلّية لها مصاديق في عصر النبوّة وبعدها عبر الزمان، ومن مصاديقها ما جرى في الحديبية. ثمّ إنّه سبحانه لم يقتصر بما في هذه الفقرة بل أشار إلى خطأ آخر للإنسان، وهو كما قال: (وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) وإنّ المؤمنين مع أنّهم يكرهون القتال ويحبون السَّلم (وَ) لكنّه «شَرٌّ لَهُمْ »، كما مرّت الإشارة إليه في قوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ 2.

ص: 18


1- . الميزان في تفسير القرآن: 167/2.
2- . التحرير والتنوير: 304/2.

خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ) (1) ، وعلى هذا فالإنسان لأجل ضآلة علمه بالمحاسن والمفاسد يقع في خطأين: تارة يكره شيئاً وهو خير له، وأُخرى يحب شيئاً وهو شرّ له، فعليه أن يتجرّد عن نوازع النفس ويستمع إلى الوحي فاللّه سبحانه عالم بمصالح العباد، كما يقول: (وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ) مصالح العباد ومفاسدهم (وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) كيف (إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ ) (2)، وقال تعالى: (وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ ) .(3)

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ) .(4)

المفردات

جاهدوا: قال الراغب: الجهاد والمجاهدة: استفراغ الجهد في مدافعة العدوّ،

ص: 19


1- . البقرة: 214.
2- . آل عمران: 5.
3- . البقرة: 255.
4- . الحج: 78.

والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدوّ الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وثلاثتها تدخل في قوله تعالى: (وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ) .(1)

في اللّه: في سبيل اللّه.

اجتباكم: اختاركم.

حَرَج: ضيق، بتكليفكم ما يشقّ عليكم.

التفسير
كون الجهاد خالصاً للّه تعالى

يتابع اللّه سبحانه في هذه الآية خطابه الذي وجّهه في الآية السابقة إلى المؤمنين، مع إيراد ما يعدّ تكريماً لهم في ثناياها، فقال: (وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ) وهو عطف على قوله: (اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا) في الآية المتقدّمة. وقيّد الجهاد بقوله: (فِي اَللّهِ ) أوّلاً، و (حَقَّ جِهادِهِ ) ثانياً؛ أمّا الأوّل فأُريد به الجهاد في سبيل اللّه بحيث يكون الباعث هو أمره وكسب رضاه سبحانه، وأمّا الثاني أي قوله: (حَقَّ جِهادِهِ ) فهو تأكيد لقوله: (فِي اَللّهِ ) فيكون المعنى: جاهدوا في سبيل اللّه حقّاً خالصاً لوجهه الكريم لا تخشون فيه لومة لائم. والفقرة بمنزلة قوله تعالى: (اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (2).

ويحتمل أن يراد: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة النفس والشيطان.

ثمّ إنّه سبحانه يخاطب المؤمنين بأُمور:

ص: 20


1- . مفردات، الراغب: 101، مادة «جهد».
2- . آل عمران: 102.

1. (هُوَ اِجْتَباكُمْ ) : أي اختاركم من بين سائر الأُمم، وخصّكم بأفضل الرسل، وأكمل الشرائع، وصرتم أفضل الأُمم لو شعرتم بذلك.

2. (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وهذه هي الصفة الثانية للشريعة الإسلامية حيث إنّ أحكامها سهلة سمحة، ولذلك أكّد على ذلك بقوله في سورة أُخرى، قال: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) (1).

فإن قلت: كيف يقول سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) مع أنّا نلمس الحرج في عدد من الأحكام الشرعية، كالصوم في الصيف، والحج والجهاد في سبيل اللّه، ولزوم الثبات في مقابلة الكفّار، وحرمة الفرار من الزحف، إلى غير ذلك من الأحكام الواردة في أبواب الحدود.

قلت: إنّ الأحكام الشرعية التي تقترن بالحرج على أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما يكون الناس هم السبب في جعل تلك الأحكام حفظاً للأمن والسلام، نظير الأحكام المشرّعة في الحدود والقصاص والدّيات، إذ لولا هذه الأحكام لسادت الفوضى في المجتمع، وآية الحرج منصرفة عن هذا القسم.

الثاني: الأحكام التي أُسّست على أساس الحرج والعسر، بحيث يُعدّ الحرج موضوعاً لها، وهذا كالأمر بالجهاد والحجّ والصيام في الصيف والتوضّؤ في البرد القارص، ومن المعلوم أنّ الآية غير ناظرة إلى هذا القسم، نظير قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ضرر ولا ضرار» حيث إنّه منصرف عن الضرائب الضررية كالزكاة والخمس والكفّارات.

الثالث: توجد في الشريعة تكاليف ليس طبعها الحرج، ويتلقّاها المكلّفون5.

ص: 21


1- . البقرة: 185.

برحابة صدر كالوضوء والغسل والصلاة، ولكن ربما يطرأ عليها الحرج في بعض الأحوال الذي لا يتحمّل عادة، فالآية تكشف عن عدم تشريع استمرار الأحكام في صورة استلزام الامتثال بها الحرج.

وممّا ذكرنا يعلم أنّ لهذه القاعدة دورَ تحديدٍ لإطلاقات الأحكام التي هي ليست بطبعها حرجية، وإنّما يطرأ عليها الحرج في بعض الأحيان فتتحدّد بطروء الحرج، فعند ذلك ينقطع استمرار الحكم، ولأجل إيضاح القاعدة نذكر تطبيقات لها حتى يُعلم دورها في تحديد الأحكام:

1. العفو عن دم الجرح والقرح في حال الصلاة.

2. جواز الصلاة في ثوب المربية للصبي إذا كان تبديله حرجيّاً لها.

3. رخصة المبطون ومن في حكمه في الصلاة.

4. عدم لزوم الاحتياط في الشبهة غير المحصورة.

5. صحّة بيع الصبي فيما جرت به العادة.

6. القصر في السفر.

7. عدم لزوم قضاء الصلاة على الحائض.

8. إباحة الإفطار للحامل والمرضى والشيخ والشيخة وذي العطاش.

9. جواز قطع الصلاة لأُمور مهمّة.

10. كفاية الشاهد الواحد في الوصية.

إلى غير ذلك من التطبيقات.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ قوله سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ

ص: 22

حَرَجٍ ) (1) ، ناظر إلى القسم الثالث من الأحكام ولا يشمل القسمين الأوّلين.

لمّا تقدّمت كلمة الدين في قوله: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) أوضحه بقوله بأنّ المراد هو الشريعة الإبراهيمية كما قال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) . و (مِلَّةَ ) منصوب بالاختصاص أي: أخصّ ملّة إبراهيم. ويحتمل أن يكون منصوباً بفعل مضمر أي: اتّبعوا ملّة إبراهيم. وقد وصف تعالى إبراهيم بالأب لأنّ العرب العدنانيّين هم الذين كانوا مسلمين، وكانوا من نسل إسماعيل. وبما أنّ أكثر المؤمنين في زمان الخطاب كانوا من ولد إبراهيم، جاز ذلك.

وهناك احتمال آخر، وهو أن يراد بالأب الأب الروحي للموحِّدين كلّهم، حيث إنّه عليه السلام بطل المناظرة مع المشركين، والداعي الوحيد يومذاك إلى التوحيد.

قوله: (هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) الفقرة تدلّ على تسمية المؤمنين بالمسلمين، وأمّا من هو المسمّي ؟ هل هو إبراهيم عليه السلام أو اللّه تعالى ؟ ظاهر السياق هو الأوّل بشهادة أنّ الضمير أعني: (هُوَ) يرجع إلى أقرب المراجع وهو إبراهيم عليه السلام. وعلى هذا فالمراد من قوله: (مِنْ قَبْلُ ) : أي قبل القرآن، فأبناء الأُمّة الإسلامية موسومون في الكتب السماوية بالمسلمين، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) (2)، ولا ينافي ما ذكرنا أنّه سبحانه رضي الإسلام ديناً لنا كما قال عزّ من قائل: (وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً) (3).3.

ص: 23


1- . الحج: 78.
2- . البقرة: 128.
3- . المائدة: 3.

ويشير إلى ما ذكرنا ما ورد في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ * إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ * وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (1).

ثم أشار سبحانه إلى تسميتهم بالمسلمين في القرآن أيضاً بقوله: (وَ فِي هذا) : أي في القرآن كقوله: (وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ) (2). ثمّ إنّ قوله سبحانه: (لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ ) كأنّه تعليل لقوله: (جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ) والفقرة تدلّ على أمرين:

1. الرسول شهيد على المسلمين.

2. المسلمون شهداء على سائر الناس.

إنّما الكلام في ما هو المراد من الشهادة ؟

إنّ قسماً من المفسّرين قالوا بأنّ المراد من شهادة الرسول هو شهادته يوم القيامة بأنّه قد بلّغهم عن اللّه ما أُوحي إليه، كما أنّ المراد من شهادة المسلمين على الناس هو شهادتهم على أنّ رسلهم قد بلّغوا ما أُوحي إليهم.(3)

يلاحظ عليه: أنّ شهادة النبيّ على أُمّته أمر لا سترة عليه، يقول سبحانه: (وَ قالَ اَلرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً) .(4)0.

ص: 24


1- . البقرة: 130-132.
2- . يونس: 72.
3- . تفسير الكشّاف: 41/2؛ تفسير القرطبي: 101/12؛ روح المعاني: 211/17.
4- . الفرقان: 30.

وقد روي أنّ أعمال الأُمّة تُعرض عليه وهو في البرزخ في كلّ أُسبوع أو أكثر أو أقلّ ، إنّما الكلام في شهادة المسلمين على سائر الأُمم، فإنّ الشهادة من الشهود وهو الإخبار عن حسٍّ ، والمفروض أنّهم فاقدون لهذا العلم، والاستناد في الشهادة إلى إخبار اللّه تعالى شهادة على الشهادة لا شهادة على الأُمم. ثمّ إنّه سبحانه أعظم من أن يشهد على شهادته، غيره.

وأمّا ما هو المراد من شهادة الرسول أوشهادة الناس فليرجع إلى محلّه.(1)

ثمّ إنّه سبحانه خصّ المسلمين بالأعمال العبادية و المالية وقال: (فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ ) في جميع الأحوال (هُوَ مَوْلاكُمْ ) : أي أولى بكم وبتدبيركم (فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ) ، فأتمّ السورة بما فيه تطييب لنفوس المؤمنين، وتقوية لقلوبهم.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً) .(2)

المفردات

حِذركم: الحَذَر: احتراز من مخيف يقال: حَذَرَ حَذَراً. وأمّا الحِذْر في الآية ففيه وجهان:

1. السلاح، معناه: خذوا أسلحتكم، وسُمّيت الأسلحة حِذْراً لأنّها الآلة التي

ص: 25


1- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 362/18-364.
2- . النساء: 71.

بها يتقي الإنسان الحَذَر.

2. بمعنى احذروا عدوكم بأخذ السلاح كما يقال للإنسان: خذ حذرك بمعنى إحذر.

ويؤيّد الثاني أنّه استعمل الحِذر في مقابل السلاح في قوله تعالى: (وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ ) (1)، وعلى هذا فمعنى (خُذُوا حِذْرَكُمْ ) : أي احذروا وتهيّئوا للدفاع وكونوا منتبهين غير غافلين عن كيد العدو وغدره.

فانفروا: النفر: الخروج إلى الغزو.

ثباتٍ : جمع ثُبة: جماعات متفرّقة، يقابله: النفر (جَمِيعاً) : أي مجتمعين.

التفسير

الآية تؤكد على المسلمين أن يستعدوا في جميع الأحوال للدفاع عن الإسلام، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ) : أي إحذروا وكونوا على وجل من جانب العدو ولا تنسوا وجود عدو غاشم يريد القضاء عليكم ليل نهار.

ثمّ إنّ التهيّؤ للدفاع عن كيان الإسلام والمسلمين رهن التعرّف على العدو وطاقاته الحربية وجنوده ومن يعينهم من الخارج، فهذا الذي يقال: فلان على الحذر من العدو. وأمّا اليوم فالحذر يتحقّق بأُمور كثيرة يعرفها العسكريون ولا يعلم ذلك إلّابإرسال جواسيس مؤمنين حتى يرصدوا ما عليه العدو من نية السلم

ص: 26


1- . النساء: 102.

والحرب، وعلى فرض الحرب استعدوا بأي سلاح من الأسلحة الأرضية والهوائية، وقد كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم عيون كما كان للوصي كذلك. فهذا الخطاب - أعني قوله سبحانه: (خُذُوا حِذْرَكُمْ ) - كما كان مهمّاً في وقته، فهو في هذه الأيام على جانب كبير من الأهمية أيضاً. فلو كانت آلة الحرب يوم ذاك، السيف والرمح وكانت الكلمة الدارجة لدى العسكريين «السيف بالسيف والرمح بالرمح»، ناظرةً إلى تلك العهود، وأمّا اليوم فقد تغيّر الوضع كما هو واضح في عامة الجهات.

ثمّ إنّ الظروف مختلفة فتارة يكون العدو ضعيفاً في الدفاع فهناك يكفي بعث جماعة خاصّة، وأُخرى يكون على استعداد شديد فلا يكفي للدفاع بعث جماعة بل يجب هناك النفر جميعاً والأخذ بعامة القوى. وإلى الأوّل يشير بقوله: (فَانْفِرُوا ثُباتٍ ) : أي سرية، وإلى الثاني يشير بقوله سبحانه: (أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً) ، وقد كان للنبي حوالي 55 سرية بعثها لإخماد الفتن التي كانت تنعقد في بداية أمرها كما كانت له 27 غزوة شارك فيها بنفسه وشارك فيها أكثر من له صلاحية المشاركة.

وبما ذكرنا من أنّ لكلّ من البعثين ظرفاً خاصّاً، فظروف الجيش الكثيف غير بعث السرايا - وبما ذكرنا - يُعلم فساد ما يقال: من أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً) (1)، وبقوله: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ ) (2).(3)ه.

ص: 27


1- . التوبة: 41.
2- . التوبة: 39.
3- . تفسير القرطبي: 275/5 نقله عن بعضهم ولم يقبله.

الآية الرابعة

قال سبحانه: (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) .(1)

لمّا تقدّم في الآية السابقة الحثُّ على الجهاد وذم القاعد أو المبطئ عنه، جاء البيان القرآني يؤكّد الحثّ على الجهاد وذلك بأبلغ البيان، وهو بيع الأنفس، بيع الحياة الدنيا في مقابل الحياة الأُخروية كما يقول: (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) لا للفوز بالغنائم (اَلَّذِينَ يَشْرُونَ ) : أي يبيعون (اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ) ، فإنّ الشري والاشتراء كما يستعمل في مورد من يشتري متاعاً بثمن، هكذا يستعمل في بيع المتاع، وأُريد هنا المعنى الثاني لاستعماله في هذا المعنى بشهادة قوله سبحانه: (وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ ) (2).

ثمّ إنّ قوله سبحانه: (وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) يشير إلى أنّ أمر المقاتل في سبيل اللّه ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين:

1. (فَيُقْتَلْ ) في سبيل اللّه.

2. (أَوْ يَغْلِبْ ) عدو اللّه.

وعلى كلّ تقدير (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) سواء أقتل أم غلب.

ثمّ إنّه سبحانه قدّم القتل على الغلبة، يقول السيد الطباطبائي: فالمقتول في

ص: 28


1- . النساء: 74.
2- . يوسف: 20.

سبيل اللّه يستوفي أجره حتماً، وأمّا الغالب في سبيل اللّه فأمره مراعى في استيفاء أجره إلى أن لا يرتكب ما يحبط عمله، وكلّ عمل بخواتيمه.(1)

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ) (2).

المفردات

التهلكة: وهي الهلاك، يقال: هلك، يهلك، هلاكاً، وهلكاً، وتهلكة.(3)

التفسير

لا شكّ أنّ الجهاد مع المشركين المجهّزين بأنواع الأسلحة الفتّاكة والأموال الوفيرة، رهن كون المجاهدين مجهّزين بالسلاح والمال، ولذلك يأمر سبحانه المسلمين بشيء وينهاهم عن شيء آخر.

أمّا الأوّل: فيقول: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) وأُريد من السبيل هو الجهاد في سبيله سبحانه، دفاعياً كان أو ابتدائياً.

وقد ورد التأكيد على الإنفاق في طريق الجهاد في سورة التوبة، قال تعالى:

(لكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْراتُ

ص: 29


1- . الميزان في تفسير القرآن: 419/4، طبعة الأعلمي - بيروت.
2- . البقرة: 195.
3- . تفسير الرازي: 136/5.

وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) (1) ، وفي قوله تعالى: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) .(2)

وأمّا الثاني: فيقول سبحانه: (وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ) الباء في قوله: (بِأَيْدِيكُمْ ) للسببية، ومفعول الفعل محذوف، أي: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وأُريد من التهلكة هو أنّ الامتناع من الإنفاق في طريق الجهاد يُسبِّب غلبة الشرك على التوحيد، وتفوّقه عليه، فالبخل والإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة، وينتهي الأمر إلى انتصار العدو على المسلمين.

ثم إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ أَحْسِنُوا) أعمالكم (إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ) . وإمداد المجاهدين وتعبئتهم عمل حسن، فاللّه سبحانه يحب عملكم.

ما هو المراد من التهلكة ؟

ثمّ إنّ المراد من التهلكة ما لا تترتّب عليه أي فائدة، لا دنيوية ولا أُخروية، بل يُعدّ إضاعة للنفس والنفيس، وبذلك يُعلم أنّ المشاركة بالجهاد والاستعداد وتعريض النفس للموت في سبيل إعلاء كلمة الحقّ ، لا يُعدّ إلقاء في التهلكة، وإلّا فيكون الأمر بالجهاد - حسب هذا الزعم - أمراً بالإلقاء بالهلكة، مع أنّه سبحانه يَعدُّه حياة للمجتمع، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ

ص: 30


1- . التوبة: 88.
2- . الأنفال: 60.

إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .(1)

وبذلك يُعلم أنّ النهضة الحسينية التي استعدّ فيها الإمام الحسين عليه السلام لبذل النفس والنفيس في سبيل إحياء منهج الحق، لا يُعدّ إلقاء في التهلكة؛ كيف وهو عليه السلام ذكر سبب قيامه وثورته، فقال: «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّاسعادة والحياة مع الظالمين إلّابرماً».(2)

وبذلك يُعلم أنّ ما أجاب به الشيخ الطبرسي عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، بعيد عن التحقيق وغير لائق بمقامه الشامخ.(3)2.

ص: 31


1- . الأنفال: 24.
2- . نفس المهموم: 95؛ اللهوف: 47.
3- . لاحظ: مجمع البيان: 57/2.

أحكام الجهاد

2. الطوائف الأربع الذين لا يجب عليهم الجهاد

اشارة

قد عرفت الآيات التي تدلّ على وجوب الجهاد، ومع ذلك فهناك طوائف لم يكتب عليهم الجهاد، وقد جاء ذكرهم في الآيتين التاليتين:

قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ) .(1)

المفردات

الضعفاء: جمع ضعيف وهو مَنْ كان له وهن في القوّة البدنية من غير مرض.

المرضى : جمع مريض وهو الذي طرأ عليه اختلال في المزاج.

الحرج: الضيق، وأُريد ضيق التكليف.

نصحوا: أي أخلصوا، ويطلق على العسل الخالص «ناصح العسل». والنصح:

العمل النافع للمنصوح. والتوبة عن إخلاص هي: التوبة النصوح.

ص: 32


1- . التوبة: 91-92.

سبيل: طريق، وأُريد: السلطة والمؤاخذة والمعاقبة.

تفيض: من الفيض: الجري عن امتلاء. يقال: فاضت العين دمعاً، كأنّه جعل العين كلّها دمعاً فائضاً.

حزناً: ألم في القلب لفوت أمر.

التفسير

نفي السبيل عن الطوائف الأربع

استثنت هاتان الآيتان من لهم أعذار مقبولة، وهم طوائف أربع، وهي:

الأُولى: (لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ ) جمع الضعيف وهو مَن لا يقدر على الجهاد لشيخوخته أو خلق ضعيفاً، كالزمنى.

الثانية: (وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى ) جمع المريض، وهو من له مقدرة على الجهاد لكن طرأت عليه حالة يشقّ معها الجهاد.

وفي «المجمع» قيل: نزلت الآية في عبد اللّه بن زائدة، وهو ابن أُمّ مكتوم، وكان ضرير البصر، جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: يا نبي اللّه، إنّي شيخ ضرير، خفيف الحال، نحيف الجسم، وليس لي قائد، فهل لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه و آله و سلم. فأنزل اللّه الآية، عن الضحاك.(1)

وروى العياشي في حديث طويل: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما أقبل من صفين، حتى وصل إلى مكان تُرى منه بيوت الكوفة، فإذا بشيخ جالس في ظل بيت وعلى وجهه أثر المرض، فأقبل إليه أمير المؤمنين ونحن معه حتى سلّم عليه وسلّمنا

ص: 33


1- . مجمع البيان: 113/5.

معه، فردّ ردّاً حسناً وظننا أنّه قد عرفه - إلى أنّ دار الحديث معه - إلى قول أمير المؤمنين: فهل شهدت معنا غزاتنا هذه ؟ فقال: لا، ولقد أردتها ولكن ماترى فيّ من لجب(1) الحمّى خذلتني عنها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ) إلى آخر الآية.(2)

والإمام بتمسّكه بإطلاق الآية علّمنا كيفية الاستفادة من الآية في غير مورد النزول.

الثالثة: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ ) ، إذ لا يجد شيئاً ينفق على عياله ونفسه، لأنّ مؤونة المجاهد آنذاك كانت على نفسه من دون أن ينفق الرسول أو من يقوم مقامه شيئاً عبر جهاده.

فاللّه سبحانه يقول: ليس على هؤلاء (حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ) : أي يكونون مخلصين في إيمانهم، قائمين على سائر وظائفهم من تشجيع الواجدين للشرائط على الجهاد والمحافظة على عاصمة الدولة الإسلامية وعيال المجاهدين وأموالهم، ثمّ إنّه سبحانه علّل نفي الحرج عن المذكورين بقوله: (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) لأنّ مَن أخلص في إيمانه وقام بسائر وظائفه فهو ممّن وقع في حصن حصين لا يصيبهم ما يكرهون.

قاعدة الإحسان

ثمّ الفقهاء اتّخذوا قوله سبحانه: (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) قاعدة رتّبوا عليها فروعاً نذكر شيئاً منها:

ص: 34


1- . لَجَبَ البحر لجباً إذا هاج واضطرب موجه.
2- . البرهان في تفسير القرآن: 521/4.

1. قال المحقّق: إنّ الولاية في مال الطفل والمجنون للأب والجدّ للأب، فإن لم يكونا فللوصي، فإن لم يكن فللحاكم.

ولمّا لم يذكر المحقّق ولاية المؤمنين بعضهم على بعض، استدرك صاحب الجواهر وقال: إنّ مقتضى قاعدة الإحسان ولاية المؤمنين بعضهم على بعض ولزوم التعطيل بل والضرر في كثير من الموارد.(1)

2. قال المحقّق: ولو اختلف في التلف فالقول قول الوكيل لأنّه أمين وقد يتعذّر إقامة البيّنة بالتلف غالباً فاقتنع بقوله دفعاً لالتزام ما تعذّر غالباً.

وعلّله صاحب الجواهر بالقواعد التالية: قاعدة العسر والحرج والإحسان والأمانة.(2)

ولكن جعل المقام من مصاديق قاعدة الإحسان لا يخلو من نظر؛ لأنّ المتيقّن من القاعدة من كان محسناً ولم يكن منتفعاً، والوكيل منتفع.

3. قال المحقّق: فالبعير لا يؤخذ إذا وجد في كلأ وماء فلو أخذه ضمنه.

وفي «الجواهر»: وفي ضمانه بنية الحفظ لمالكه قولان، من إطلاق الأخبار بالنهي، والإحسان.(3)

4. لو كانت السفينة مشحونة بأموال شخص واحد، فرأى ربّان السفينة بأنّ نجاتهم ونجاة أموال صاحب الأموال هو بإلقاء قسم من أمواله في البحر لتخفّ السفينة، فألقاها فهو ليس بضامن.ن.

ص: 35


1- . جواهر الكلام: 26/103، كتاب الحجر.
2- . جواهر الكلام: 27/433، كتاب الوكالة.
3- . جواهر الكلام: 38/221، كتاب الضمان.

5. لو افترضنا أنّ الولي حبس المبيع لغاية ارتفاع الأسعار، وكان أمراً عقلائياً، ولكن نزل السوق فلا ضمان على الولي.

6. لو قام الولي بالزراعة في أرض المولّى عليه غير أنّ الجفاف أضرّ بالمحصول، ولم يفِ حتّى بثمن ما صُرف في الزراعة، فلا ضمان على الوليّ .

إلى غير ذلك من الفروع الّتي ذكرها الفقهاء في تصرّف الأولياء وعدول المؤمنين والحكّام، إنّما لغاية دفع الضرر أو إيصال المنفعة.(1)

الرابعة: مَن لا يجد الراحلة

ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآية الثانية إلى الذين استعدوا للمشاركة في الجهاد ولكن لم يجدوا ما يحملهم إلى أرض المعركة، فليس عليهم سبيل، وإليه يشير قوله سبحانه: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ) .(2)

فهذه هي الطائفة الرابعة، وقد حكى المفسّرون أنّ الآية نزلت في البكّائين الذين جاءوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: يا رسول اللّه احملنا فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه كما يحكي عنهم سبحانه: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ) ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ) .(3) وظاهر الآية هو أنّهم سألوه الدابة أو البعير، وما في بعض المأثورات من أنّهم ما سألوا الدواب بل سألوا النعال،(4)

ص: 36


1- . لاحظ: الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 84/3-93.
2- . التوبة: 92.
3- . الدر المنثور: 264/4.
4- . الدر المنثور: 265/4.

خلاف سياق الآية، ثم إنّه سبحانه يصف حال هذه الطائفة بقوله: (تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ ) : أي سحّت أعينهم من الدمع لحرمانهم من الجهاد بين يدي رسول اللّه (حَزَناً) : أي أسفاً مضافاً إلى (أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ) .

ظاهر قوله: (أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ) أنّهم كانوا يفتقدون المأكل والمشرب أيضاً وراء افتقادهم المركب وعندئذٍ يدخلون في الفقراء الذين أُشير إليهم في الآية السابقة بقوله: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ) (1)، ولعلّ تخصيصهم بالذكر لأجل الإشارة بمكانتهم وإخلاصهم ومنزلتهم عند اللّه إذ لا شكّ أنّ لهؤلاء منزلة رفيعة عند اللّه حيث امتازوا عن الطوائف السابقة، بالرغبة الشديدة للجهاد وتضحية النفس من طريق إشادة كلمة اللّه العليا، فحضورهم عند النبي وإصرارهم على الحمل وبكاؤهم بعد اليأس على وجه صارت أعينهم فيّاضة بالدمع، مضافاً إلى عدم تمكّنهم من الإنفاق أفضل دليل على رسوخ إيمانهم باللّه ورسوله، فاستحقّوا بالذكر مستقلّاً بوجهين: افتقاد المركب والمأكل.

قال السيد الطباطبائي: إنّ عطف هذا الصنف على ما تقدّمه، من عطف الخاص على العام عناية بهم لأنّهم في أعلى درجة من النصح وإحسانهم ظاهر.(2)

وذلك لأنّ الطائفتين تشتركان في عدم المشاركة في أنّهم لا يجدوا ما ينفقون، غير أنّ الطائفة الثانية تتميّز عن الأُولى في أنّهم تألّموا بسبب عدم المشاركة بالجهاد على نحو قد فاضت عيونهم بالدمع.

وتظهر مكانتهم السامية ممّا رواه الواحدي في شأن الآية قال: نزلت في9.

ص: 37


1- . التوبة: 92.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 363/9.

البكائين وكانوا سبعة: معقل بن يسار، وصخر بن خنيس، وعبد اللّه بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد اللّه بن مغفل، أتوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: يا نبي اللّه إنّ اللّه عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولّوا وهم يبكون.(1)2.

ص: 38


1- . أسباب النزول: 172.

أحكام الجهاد

3. الجهاد الدفاعي

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ ) .(1)

المفردات

يقاتلونكم: من المقاتلة، وهي محاولة الرجل قتل مَن يحاول قتله، وأمّا التقاتل: فهو محاولة كلّ واحد من المتعاديين قتل الآخر. فالأُولى من باب المفاعلة، والآخر من باب «التفاعل».

ومورد الآية هو الأوّل كما سيتّضح في التفسير، ويظهر أنّ الآية ناظرة إلى الجهاد الدفاعي.

تعتدوا: من الاعتداء: تجاوز الحدّ.

التفسير
قتال مَن يقاتل المسلمين

إنّ الجهاد الدفاعي عبارة عن مقاتلة الأعداء المعتدين دفاعاً عن النفس

ص: 39


1- . البقرة: 190.

والمال وذبّاً عن الوطن والحرية، وذوداً عن الشرف والاستقلال، وآيتنا هذه من هذه المقولة. روى السيوطي عن ابن عباس: لمّا سار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معتمراً سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه ومن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام، حتّى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية.(1)

فلمّا كان العام المقبل تجهّز المسلمون لقضاء العمرة، ولكنّهم خافوا أن لا تفي لهم قريش فيقاتلونهم، وكره النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه قتال المشركين، في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل اللّه هذه الآية وأذن لهم بالقتال.(2)

ثمّ إنّ الآية على وجازتها تتضمّن بيان أُمور ثلاثة:

1. ما هي الغاية من الجهاد وقتال العدو؟

2. تحديد مَن يقاتل معهم.

3. النهي عن الاعتداء وتجاوز الحدّ.

أمّا الأوّل: فقال سبحانه: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) : أي خالصاً لوجهه.

وأمّا الثاني: فيشير إليه بقوله: (اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) حيث قد مرّ أنّ المسلمين خافوا ألّا تفي لهم قريش ويقاتلونهم، فلو عملت قريش بما اتّفقوا عليه مع النبيّ لما بدأ المسلمون بالقتال. فصارت خيانة قريش بنقض العهد، مبرراً لقتالهم، ومن حسن الحظ لم يصدر منهم أي اشتباك في هذا الحال.

قوله: (يُقاتِلُونَكُمْ ) قد عرفت أنّه وإن كان بصدد بيان حال العدو ولكنه في2.

ص: 40


1- . الدر المنثور: 497/1.
2- . مجمع البيان: 49/2.

الحقيقة شرط ومبرّر.

وأمّا الثالث: فأُشير إليه بقوله: (وَ لا تَعْتَدُوا) : أي لا تخرجوا عن الحدّ، كالابتداء بالقتال، أو بعد انتهاء العدو بالإيمان.

روى الكليني بسنده عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، لا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطرّوا إليها، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين، فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه».(1)

ما جاء في الرواية وغيرها من الآداب، يختصّ بمن يُعلم أو يظن أنّه يحترم علاقاته مع الآخرين، ولا يخون، وأمّا لو ظنّ الحاكم الشرعي، بأنّ العدو بصدد الخيانة، ورفض المعاهدة فعلى الحاكم الإسلامي المبادرة إلى رفض ما عاهدهم عليه، كما في قوله سبحانه: (وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ ) .(2)

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ

ص: 41


1- . الوسائل: 10، الباب 15 من أبواب جهاد العدو وما يشابهه، الحديث 2.
2- . الأنفال: 58.

وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ ) .(1)

المفردات

الشهر الحرام: عبارة عمّا يحرم فيه ما يحلّ في غيره، وهو أربعة أشهر:

رجب، وذو القعدة، وذو الحجّة، ومحرّم الحرام.

الحرمات: جمع حرمة، ما يجب حفظه ويحرم هتكه.

قصاص: الأخذ للمظلوم من الظالم بسبب ظلمه إيّاه.

التفسير
قتال المعتدين بمثل ما اعتدوا

الأشهر الحرم أربعة، ثلاثة متوالية: ذو القعدة وذوالحجّة ومحرّم، ورابع فرد وهو رجب، وقد كانت العرب يحرّمون فيها القتال، حتّى لو أن رجلاً لقي قاتل أبيه أو أخيه، لم يتعرّض له بسوء.

إذا تبيّن ذلك فقد كان المسلمون الّذين كانوا في ركاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستغربون القتال في الأشهر الحرم، فقد جاءت هذه الآية تبيّن، لهم وجه الجواز وتقول: (اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ ) الّذي هتك المشركون حرمته وخرجوا ومنعوا النبيّ ومن معه من العُمرة (بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ ) : أي في مقابله، فأُذن للمسلمين القتال فيه إذا ظهر منهم النقض بالنسبة إلى الوثيقة، وإذا كانت عداوة

ص: 42


1- . البقرة: 194.

المشركين للتوحيد ودين الحق ومحاربتهم للّه ورسوله لا تمنعهم حرمة هذا الشهر ولا حرمة البيت الحرام عن قتال المسلمين، فلهم معارضتهم بتجوير القتال إذا ظهر منهم النقض.

ثم إن قوله سبحانه: (اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ ) بيان خاص أعقبه بيان عام يشمل جميع الحرمات حيث قال: (وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ ) فمَن هتك حرمة يقتص منه ولا تمنعه حرمته عن الاقتصاص، ثم جاء ببيان عام آخر وقال:

(فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ ) : أي ظلمكم (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) : أي فجازوه (بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ ) ، ومن المعلوم أنّ الثاني ليس اعتداء، وتسميته بالاعتداء، من باب المشاكلة، نظير قوله سبحانه: (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ ) (1).

ومن المعلوم أنّ هذه القاعدة (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ ) مخصّصة بما لا يجوز فيه التعامل بالمثل فلو قتل صبيّاً مثلاً فلا يجوز لنا قتل صبيانهم، ولذلك مضى في الرواية من المنع عن أُمور فلاحظ.

وبما أنّ المجازاة ربّما تشرف المجزي على الاعتداء بأكثر من الجريمة، يخاطب اللّه سبحانه المسلمين عامة بقوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ ) في مقام الإجزاء (وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ ) : أي يصاحبهم بالنصرة لهم، ومن المعلوم أنّ هذه المعيّة ليست معيّة مكانية أو زمانية، بل بمعنى كونه ناصراً لهم في سبيله.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي

ص: 43


1- . آل عمران: 54.

سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) .(1)

التفسير
قتال أولياء الشيطان

الآية تتضمّن أُموراً أربعة:

1. قتال المؤمنين في سبيل اللّه.

2. قتال الكافرين في سبيل الطاغوت.

3. الأمر بقتال أولياء الشيطان.

4. وصف كيد الشيطان بالضعف.

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه: (اَلَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين أمرهم اللّه سبحانه بالخروج للحرب سرايا أو كافّة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) لنشر الدعوة الإلهية وكسر الوثنية وإنقاذ المستضعفين من مخالب المستكبرين، فهم يقاتلون للحقّ والعدل.

وأمّا الثاني: فيقول سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ ) قد سبق أنّ الطاغوت من الطغيان، والصيغة للمبالغة في الطغيان، وعلى هذا فالذين كفروا يقاتلون في سبيل الظلم والشر ومجاوزة الحق.

ولا شكّ أنّ الفقرة الثانية جملة خبرية أي تخبر عن أحوال الكافرين بأنّ

ص: 44


1- . النساء: 76.

الداعي لقتالهم هو بسط السيطرة وحفظ القدرة، وأمّا الفقرة الأُولى فيحتمل أن تكون الجملة الخبرية بداعي الإنشاء، أي فليكونوا كذلك. كما يحتمل أن تكون خبرية محضة حفظاً لوحدة السياق.

وأمّا الثالث: أعني قوله: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ ) لأنّ الناس على قسمين فالمؤمنون أولياء الرحمن وأمّا الكافرون فأولياء الشيطان، وأمّا عمل الشيطان فهو تزيين أعمالهم الباطلة، قال سبحانه: (وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّاسِ ) (1). وعمل الشيطان كلّه تمويه وتلبيس.

وأمّا الرابع: أعني قوله: (إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) كيد الشيطان أي مكره وخدعه واحتياله ضعيفاً، ويمكن أن يقرّر بوجوه:

1. تدخل الشيطان إمّا من جانب إثارة الغضب أو تهييج الشهوة، والمؤمن بإيمانه باللّه والآخرة يقاوم هاتين الغريزتين اللّتين وراءهما الشيطان.

2. أنّ المؤمنين في جهادهم يصدرون عن ولاية اللّه تعالى فهي وراءهم، وأمّا الكافرون فهم خارجون عن ولاية اللّه ويصدرون عن ولاية الشيطان، وأين ولايته عن ولاية اللّه تعالى.(2)

3. أنّ المؤمنين في قتالهم يعتمدون على الحقّ ويطلبونه، وأمّا الكافرون فيعتمدون على الباطل ولا يصدرون إلّاعنه، والحقّ باقٍ في بقائه والباطل كالزبد يذهب جفاء. فأين جهاد من يضحي بنفسه في طريق حفظ كيانه ودينه وحرّيته عن ظلم المستكبرين، من قتال الآخرين لتسخير الناس5.

ص: 45


1- . الأنفال: 48.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 420/5.

والاستيلاء على الأرض، فالفطرة الإنسانية تميل إلى الأوّل، وتنزجر عن الثاني فيصير مغلوباً.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً) .(1)

التفسير
ردّ بأس الكافرين

يظهر من هذه الآية أنّ قسماً كبيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا من القاعدين أو من المثبّطين، ولذلك أمر سبحانه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه من المؤمنين بالقيام بواجبهم ولا يقتدوا بتقاعس الآخرين عن واجباتهم كما يقول:

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) الفاء للتفريع، أي لا تعتد بتساهل القوم، فقم بنفسك (لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ ) : أي لا تهتم بتقاعس الآخرين (وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ ) :

أي حثّهم على القتال وذلك كما يقول: (عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) وهذه الفقرة قرينة على أنّ الآية ناظرة إلى الجهاد الدفاعي، واستعمال كلمة (عَسَى) لأجل إيجاد الرجاء في قلوب المؤمنين كما قال: (وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً) :

أي عذاباً (وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً) : أي عقوبة.

ص: 46


1- . النساء: 84.

الآيتان: الخامسة والسادسة

اشارة

قال سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) .(1)

المفردات

أُذِن: رُخص.

صوامع: هي بيوت عبادة الرهبان من النصارى، واحدها صومعة.

بيع: هي بيوت عبادة النصارى عامّة، واحدها بيعة. كسدرة وسدر.(2)

صلوات: قيل هي معرّب «صلوتا» بالعبرانية، ومعناها في لغتهم المصلّى .

ويقال: الصلوات جمع صلاة، وهي مصلّى اليهود، سمّي بها تسمية للمحل باسم الحال.(3)

مساجد: هي بيوت عبادة المسلمين.

ص: 47


1- . الحج: 39-40.
2- . مجمع البحرين: 303/4، مادة «بيع».
3- . لاحظ: مجمع البيان: 167/3؛ تفسير الرازي: 40/23؛ الميزان في تفسير القرآن: 385/16.
التفسير
القتال لحفظ مراكز العبادة

قد مرّ الإيعاز إلى الآية الأُولى في مقدّمة الفصل، والآية تتضمّن سبب الإذن للمؤمنين بالدفاع، بقوله: (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) فجاءت هذه الآية لبيان نوعية ظلمهم وهي كونهم مشرّدين من ديارهم بغير سبب، فقال: (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) : أي بغير سبب، وأيّ ظلم أعظم من الإبعاد القسري عن الأوطان ومعاناة مرارة الغربة والبُعد عن الأهل والأحباب!! وهؤلاء الظالمون الذين شرّدوا المؤمنين من ديارهم لا يملكون ما يسوّغ لهم ذلك. نعم السبب الذي استحقّوا لأجله الإبعاد و التغريب هو رفض الوثنية والالتزام بخط التوحيد كما يقول: (إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ ) والتعبير مدح بصورة الذم فإنّ قولهم (رَبُّنَا اَللّهُ ) شرف وعزة لهم ولكن العدو الخائن اتّخذه جريمة، نظير قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنّي من قريش»، وقول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وعندئذٍ فقد تجلّى في دراسة هذه الآية أنّ تشريع قسم من الجهاد لم يكن لأجل الاعتداء على حقوق الناس، بل كان لأجل الدفاع عن حقوق المستضعفين وغيرهم.

إذا كان السبب الأوّل لتشريع الجهاد أو الدفاع كون المؤمنين مشرّدين، فهناك سبب آخر لتشريع الدفاع في عامّة الشرائع من غير فرق بين الموسوية والعيسوية والمحمدية، وهو أنّه لولا تشريع الجهاد ولزوم الدفاع عن التوحيد

ص: 48

والرسالات السماوية لهدّم المشركون معالم الدين ومراكز العبادة كما يقول:

(وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) : أي دفع المشركين برجال غيارى من أهل الديانة (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ ) تتعلّق بالرهبان من النصارى (وَ بِيَعٌ ) تتعلّق بعامة النصارى (وَ صَلَواتٌ ) تتعلّق باليهود وقد مرّ تفسيرها، (وَ مَساجِدُ) تتعلّق بالمسلمين، فتشريع الجهاد في عامّة الشرائع لصيانة هذه المراكز المختصة للعبادة وإلّا فالمشركون في كلّ عصر يهدمونها.

ثم إنّه سبحانه ذكر المساجد بأنّها (يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً) وبهذا تمتاز مساجد المسلمين عن معابد سائر الديانات حيث تقام فيها الصلاة خمس مرّات في اليوم والليلة.

قال السيد الطباطبائي: في الآية إشارة إلى أنّ القتال في الإسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية وهي دفع الناس بعضهم بعضاً عن شؤون حياتهم، وإذا نسب إلى اللّه سبحانه يكون دفعه الناس بعضهم ببعض حفظاً لدينه عن الضياع.

وإنّما اختصّ انهدام المعابد بالذكر مع أنّ من المعلوم أنّه لولا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه وانمحت جميع آثاره لأنّ هذه المعابد والمعاهد هي الشعائر والأعلام الدالّة على الدين المذكّرة له الحافظة لصورته في الأذهان.(1)

وفي نهاية الأمر أنّه سبحانه يعد بنصر من ينصر دينه ويقول: (وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) : أي شريعته ودينه، وذلك ل: (إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) : أي قادر وقاهر، فلا يستطيع أحد أن يحول بينه وبين إنجاز وعده.7.

ص: 49


1- . الميزان في تفسير القرآن: 386/17.

الآية السابعة

اشارة

قال سبحانه: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ) .(1)

المفردات

يرغبوا: الرغبة طلب المنفعة، يقال: رغب فيه إذا طلب المنفعة به. ورغب عنه: أعرض.

ظمأ: شدّة العطش.

نصب: تعب.

مخمصة: مجاعة.

موطئاً: الموطئ: الأرض.

يغيظ: الغيظ: الغضب.

نيلاً: أسراً وقتلاً وهزيمة.

ص: 50


1- . التوبة: 120.
التفسير
النفير العام بسبب قوّة العدو

لا شكّ أنّ الجهاد واجب كفائي، فإذا قامت عدّة لهم إمكانية الدفاع عن أرض الإسلام سقط الوجوب عن الباقين، وأمّا إذا كان العدو قوّياً على نحو لا يمكن دفعه إلّابالنفير العام، فعندئذٍ يجب على الجميع تلبية دعوة الجهاد، ولعلّ الآية تشير إلى الحالة الثانية، فقالت: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ ) : أي ليس من شأنهم (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ ) : أي يطلبوا نفع نفوسهم معرضين (عَنْ نَفْسِهِ ) : أي نفس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم طالبين نفعهم منصرفين عن نفس رسول اللّه، فيتركوه في مخاطر الأسفار ووعثاء السفر.

قال الإمام علي عليه السلام: «إذا حضرت بلية فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أنّ الهالك من هلك دينه، والحريب من سُلب دينه، ألا وأنّه لا فقر بعد الجنّة ولا غنى بعد النار».(1)

فالموحّد يضحّي بأمواله وبنفسه من أجل الحفاظ على الدين، ومن المعلوم أنّ الرسول جزء من الدين ومبيّن للشريعة فيقدّم على الأموال والأنفس، ولذلك يقول سبحانه: (وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) .

يقول الشريف الرضي رحمه الله: قوله: (وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) فيه استعارة، والمراد بها أنّهم لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم عمّا يبذل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيه

ص: 51


1- . تحف العقول: 216.

نفسه، ولا يحفظوا مهجهم في المواطن التي تحضر فيها مهجته اقتداء به واتّباعاً لأثره، فهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيراً.(1)

لا شكّ أنّ حماية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمشاركة في الجهاد يترتّب عليها مواجهة مشاكل ومتاعب عديدة، ذكر سبحانه منها ما يلي، وقال: (ذلِكَ ) : أي النهي عن التخلّف (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ) في هذا الطريق:

1. (ظَمَأٌ) : أي عطش شديد.

2. (وَ لا نَصَبٌ ) : أي تعب في الأبدان.

3. (وَ لا مَخْمَصَةٌ ) : أي المجاعة.

كلّ ذلك (فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) وما يقوم به المجاهدون من الأعمال الجهادية، نظير:

1. (وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) : أي لا يضعون أقدامهم في موضع من أرض العدو بحيث (يَغِيظُ اَلْكُفّارَ) ويسخطهم لأنّهم يرون بأُمّ أعينهم أنّ المسلمين على مقربة من السيطرة عليهم.

2. (وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) : أي لا يصيبون من المشركين من قتل أو جراحة أو أسر، فكلّ هذه الأُمور مقبولة عند اللّه تعالى وما يصيبون بشيء أو يقومون لعمل: (إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ ) : أي بما يصيبون وما يقومون به من (عَمَلٌ صالِحٌ ) : أي مقبول، واللّه يجزيهم (إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ) ، والفقرتان الأخيرتان من قبيل الصغرى والكبرى.2.

ص: 52


1- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 52.

أمّا الصغرى فهي كونهم أصحاب أعمال حسنة.

وأمّا الكبرى فهي: (إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى ما يقدّمون من أعمال ويقول:

الآية الثامنة

اشارة

قال سبحانه: (وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(1)

المفردات

وادياً: الوادي: المفرج بين الجبلين.

التفسير
الجزاء على الأعمال صغيرها وكبيرها

قوله تعالى: (وَ لا يُنْفِقُونَ ) : أي في سبيل الجهاد (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً ) يريدون بها إعزاز الدين والتقرّب إلى اللّه تعالى، (وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً) :

أي في سيرهم بين منفرجات الجبال وأغوار الآكام، خَصَّ سبحانه من المشي إلى الجهاد خصوصَ قطع الوادي لأنّ فيه من المشقّة الشيء الكثير، فلا يترك شيء منه ولا يُنسى (إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ ) ويسجّل في صحائف أعمالهم لغاية الإجزاء كما يقول: (لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ ) بكتابته في صحف أعمالهم (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وهذه

ص: 53


1- . التوبة: 121.

الفقرة تحتمل وجهين:

1. أنّ لفظ (أَحْسَنَ ) منصوب بنزع الخافض فيكون المعنى أنّ اللّه يجزي على أحسن أعمالهم وهو الجهاد في سبيل اللّه أو يجزي بأحسن أعمالهم، ومن المعلوم أنّ الجزاء على أحسن الأعمال لا ينافي الجزاء على غير الأحسن من أعمالهم.

2. وهو أنّ اللّه سبحانه يجزيهم بجزاء هو أحسن من أعمالهم، ويأتي الاحتمالان في قوله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).

وفي الآية دليل على أنّه سبحانه كما يثيب على المقصود بالذات، فهكذا يثيب على المقدّمات التي يتوقّف عليها المقصود بالذات، فإنّ قطع الوادي أمر مقدّمي حتى يصل الإنسان إلى أرض العدو، فاللّه سبحانه يقول بأنّه يُكتب له ويجزى عليه. وذلك أنّ الأُمور المقدّمية إذا أتى بها الإنسان تقرباً إلى اللّه وكان العمل صالحاً للتقرّب به، يترتّب عليه الثواب.

حصيلة الآيات

قد عرفت جُلّ ما ورد من الآيات الواردة في الجهاد الدفاعي، وهو أمر مستحسن عقلاً وأيّده الشرع، ولا يوجد على وجه الأرض مَن ينكر هذا النوع من الجهاد، وقد تضمّنت الآيات السابقة الأسباب التي تدفع المسلمين للقيام بهذا الفرض، وهي عبارة عن الأُمور التالية:

ص: 54


1- . النحل: 97.

1. قتال مَن يقاتل المسلمين، كما في قوله تعالى: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) (1).

2. قتال المعتدين بمثل ما اعتدوا، كما في قوله: (فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) (2).

3. قتال أولياء الشيطان، أي قتال مَن زيّن الشيطان لهم أعمالهم الباطلة، فصاروا يكيدون المسلمين كما في قوله: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ ) (3).

4. ردّ بأس الذين كفروا، كما في قوله تعالى: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) (4).

5. الجهاد لحفظ مراكز العبادة، كما في قوله تعالى: (وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (5).

6. النفير العام لأجل قوّة العدو، كما في قوله سبحانه: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ ) (6).

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ السبب لقيام المسلمين بالقتال هو لأجل الدفاع عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلولا تعرّض العدو لم يكن أثر من هذا الجهاد.0.

ص: 55


1- . البقرة: 190.
2- . البقرة: 194.
3- . النساء: 76.
4- . النساء: 84.
5- . الحجّ : 40.
6- . التوبة: 120.

أحكام الجهاد

4. الجهاد الابتدائي

اشارة

قد عرفت الآيات التي تحثّ المسلمين على الدفاع عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وأوطانهم وحريتهم واستقلالهم، كما عرفت الدوافع التي تدفع المؤمنين للقيام بهذه الفريضة، إنّما الكلام في الجهاد الابتدائي، وهو جهاد المشركين والوثنيّين وإن لم يكونوا متعرضين ولا مقاتلين للمسلمين، غير أنّ القيادة الحكيمة للأُمة الإسلامية في الشريعة تفرض على نفسها ضرورة إنقاذ هذا المجتمع من الوثنية وذلك ببعث سرية أو سرايا لكسر العوائق التي تمنع المجتمع عن سماع كلمة الحقّ ، فالاشتباك بين المجاهدين والعدو لأجل أنّ القوى الكافرة يحولون بين الناس وتبليغ آيات اللّه، فلو سكت العدو عن المعارضة وفتح الطريق لمبلّغي التوحيد، لم يكن أي اشتباك بينهما، وهذا هو الذي نسمّيه بالجهاد الابتدائي، ولأجل أنّه وقع غرضاً لطعون المستشرقين نأتي بمقدّمة، لكي يُعلم أنّ هذا النوع من الجهاد عمل عقلائي يقبله العقل الحصيف، وسيوافيك توضيح أكثر عند التفسير فنقول:

إنّ كلّ موجود حيّ يتوقّف بقاؤه على دفع المزاحم وطرد المضرّات، فالإسلام بما أنّه شريعة سماوية بحاجة في بقائه واستمرار حياته إلى دفع ما يزاحمه، فنقول: إنّ الإسلام، لكونه رسالة إلهية منزلة لهداية البشر كافّة، يسعى إلى تغيير العادات والتقاليد البالية، والأوضاع الفاسدة والنظم الباطلة... فمن الطبيعي أن

ص: 56

يواجه معارضة مَن يخالف هذا التغييرُ مصالحهم، ويتعارض مع مآربهم ومطامعهم... وعندئذٍ يجب على هذا الدين أن يقوم برفع هذه الموانع واكتساح تلكم الحواجز، ليمضي قدماً في أداء رسالته، وتحقيق أهدافه.

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين (المذهب الفلسفي) و (الدين الإلهي).

فالفيلسوف، يكتفي ببحث الأُمور الفلسفية لمجرّد التوضيح أو النقد، وينشر أفكاره وتحليلاته بين الناس ليقفوا عليها ويعرفوها دون أن يرَ إلزامهم بشيء منها. فهو لا يهمّه سوى طرح أفكاره والدفاع عنها بواضح الدليل وقاطع البرهان.

وأمّا (الدين الإلهي) فليس مذهباً فلسفيّاً ليكتفي بمجرّد البيان والتوضيح ويحصر همّته في النقد والإشكال، إنّما هو ثورة إصلاحية، وعملية تغييريّة، تستهدف إقامة نظام صالح عادل فوق رُكام الأنظمة الفاسدة، والأوضاع المنحطّة.

وبديهي أنّه لا يتحقّق ذلك دون مواجهة الموانع، وقيام الصراعات والحروب، مع الجهات والقوى المعارضة لهذا التغيير.

فهل في العالم حركة تغييريّة استطاعت تحقيق أهدافها دون خوض الصراعات الحامية، ودون نشوب الحروب وسقوط الضحايا، أو إراقة الدماء؟

فهل استطاعت (الثورة الفرنسية) أن تتجنّب إراقة الدماء؟

ص: 57

الإمكان، ولا يلجأ إليها إلّامن باب الضرورة وفي حدود الإنسانية والرحمة، بخلاف سائر الثورات.

هذا مضافاً إلى بقيّة الفوارق التي تتجسّد في (أحكام الجهاد الإسلامي) المذكورة في محلّها.

وصفوة القول: إنّ كلّ ثورة إصلاحية وحركة تغييريّة تتطلّب - بحكم الضرورة - هذه المواجهات الساخنة، دفعاً للمزاحم ورفعاً للموانع والحواجز، وإلّا ماتت هذه الثورة في المهد، كما تموت الخليّة الحيّة إذا تركت كذلك.

وبعبارة واضحة: إنّ الإسلام نظام إجتماعي ثوري، لم ير العالم نظيراً له قطّ، وبما أنّه رسالة إلهية تضمن سعادة البشر، فإنّه يرى لنفسه حق التوسعة والتعميم.

ولأجل ذلك يسعى إلى إزالة الموانع والحواجز بأسهل الطرق وأعدلها، فيبتدئ بالتبليغ والتعليم والبحث والمجادلة والتوجيه والإرشاد، فإذا رأى أنّ الموانع لا ترتفع إلّابقوّة قاهرة سعى إلى رفعها بتلك القوّة.

وليس هذا يختصّ بالدين الإسلامي، بل كان هذا هو طريق الأنبياء ومنهاجهم في الدعوة إلى طريق الحق. وفي ذلك يقول سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْمِيزانَ لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ ) .(1)

والكتاب والميزان إشارة إلى أنّهم كانوا يتوسّلون في بدء الأمر بأسهل الطرق، وهي تنوير الأفكار وإقناعها بمنطق العقل.5.

ص: 58


1- . الحديد: 25.

وأمّا إذا رأوا أنّ ذلك المنطق لا يجدي في رفع الموانع توسّلوا بمنطق القوّة، فالحديد في الآية كناية عن ذلك المنطق، وحياة الأنبياء وتاريخهم خير شاهد على ذلك.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) .(1)

المفردات

في سبيل اللّه: في سبيل دين اللّه وإعلاء كلمته لا طمعاً في غنيمة.

المستضعفين: الضعف خلاف القوّة، يقال: لقد ضعف فهو ضعيف، والمستضعفون في الآية عبارة عن المؤمنين في مكة يضطهدهم المشركون ويظلمونهم، وهم لا يستطيعون الهجرة من مكّة إلى المدينة أو غيرها. فأوجب اللّه سبحانه على المؤمنين أن يجاهدوا في طريق تحريرهم من ظلم المشركين.

القرية: أُريد بها هنا مكّة وتطلق على المدن الكبيرة أيضاً، قال سبحانه عن لسان إخوة يوسف عليه السلام: (وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها) (2).

ص: 59


1- . النساء: 75.
2- . يوسف: 82.
التفسير
الجهاد الابتدائي لتحرير المستضعفين من ظلم المستكبرين

التدبّر في الآية يرشدنا إلى أنّ الغاية من الجهاد الابتدائي أحد أمرين:

1. نشر الدين الإلهي بين الناس وهدايتهم إلى ما فيه سعادة الدارين.

وهذا ما يشير إليه سبحانه بقوله: (فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) .

2. إنقاذ المستضعفين من مخالب المستكبرين، وهذا ما يشير إليه قوله: (وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ ) إلخ، وهذه أُمنية معنوية قلّما توجد في قوانين الدول العلمانية، فإنّ البنية الأساسية للقتال الموجود بين الأُمم هو التوسّع في السلطة وضم الأراضي إلى الدول والهيمنة الاقتصادية والسياسية على الجيران. وأمّا القتال لرفع الظلم عن المضطهدين فليس موجوداً في قواميسهم.

أمّا الداعي الأوّل: أي نشر الدين في المجتمع البشري كافّة، فنقول: الإنسان المثالي (النبي) الذي يتبنّى أيديولوجية إلهية، لا مناص له - في سبيل نشر دعوته وبثّ أفكاره - من السعي وراء هدفه. وهذا ما يعبّر عنه القرآن بالجهاد في سبيل اللّه، وقد جاءت الكلمة (الجهاد) ثمانية وعشرين مرّة مع مشتقاتها في الكتاب العزيز، وهذا يعرب عن أنّ مسألة الجهاد ليست مجرّد مسألة قتل وقتال وسفك دماء وتدمير بيوت، وإنّما هو سعي في نشر الأيديولوجية الإلهية بأنواع الوسائل الممكنة، فإذا واجه الداعي في طريق نشر دعوته، مقاومةً من العدو ومنعاً من الطواغيت، فلا مناص له عندئذٍ من رفع المانع بالجهاد والقتال. يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ

ص: 60

يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (1) .

فلو كان المقصود هو حياة المسلمين فالآية تدلّ على إحيائهم، وأمّا لو كان المقصود المجتمع الإنساني فتكون الآية دالّة على الجهاد الابتدائي. فتدبّر.

وأمّا الداعي الثاني: وهو إنقاذ المستضعفين من ظلم المستكبرين فهذا يدلّ على أنّ الغاية من الجهاد غاية إنسانية، حيث يبذل المجاهد نفسه وماله لإنقاذ الآخرين.

وقد مرّ أنّه لا يوجد في القوانين العالمية قانون يبعث جيشاً لإنقاذ الآخرين دون أن تكون له إطماع دنيوية.

وأمّا المستضعفون في الآية فهم المؤمنون الذين آمنوا في الفترة المكية بالنبي وشاركوه في السراء والضراء، فلمّا هاجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة ضاعف المستكبرون ظلمهم لهؤلاء، ولذلك فاللّه سبحانه يحثّ المؤمنين إلى إنقاذهم مقروناً بالتعجّب ويقول: (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) وقد التفت من الغيبة في قوله: (فَلْيُقاتِلْ ) إلى الخطاب في هذه الآية لزيادة الحثّ على الجهاد، حتى لا يتذرّع أحد بعذر من الأعذار، لأنّ الحثّ مع التعجب يكشف عن أنّهم في العلم الإلهي غير معذورين في إنقاذ هؤلاء أعني: (وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ ) : أي في سبيل تحريرهم، وقد بلغ ظلم المستكبرين لهم إلى حدٍّ كان المستضعفون يدعون اللّه تبارك وتعالى بأدعية ثلاثة:

الأوّل: بقولهم: (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها) : أي سهّل لنا الخروج من هذه القرية، فإنّ الساكنين فيها لم يزالوا يفتنون المؤمنين عن دينهم.4.

ص: 61


1- . الأنفال: 24.

الثاني: (وَ اِجْعَلْ لَنا) بألطافك وتأييدك (مِنْ لَدُنْكَ ) : أي من عندك (وَلِيًّا) : أي يلي أمرنا حتى ينقذنا من أمر الظلمة.

الثالث: (وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا. وقد استجاب اللّه تعالى دعاءهم عندما فتح رسول اللّه مكّة، فقلبت الأُمور ضد المستكبرين.(1)

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ ) .(2)

المفردات

يدينون: يدين بكذا: إذا اتّخذه ديناً وعقيدة.

دين الحق: أُريد الدين الذي أنزله سبحانه على أنبيائه.

الجزية: ضرب من الخراج، تارة يضرب على الأشخاص وأُخرى على الأرض، وهو مشتق من الجزاء، وربما قيل إنّه معرّب «گزيت» الفارسية، كما في «روح المعاني».(3)

ص: 62


1- . مجمع البيان: 154/3.
2- . التوبة: 29.
3- . روح المعاني: 271/5.

عن يدٍ: عن قدرة وسعة.

صاغرون: خاضعون لأحكام الإسلام وسيادته.

التفسير

الإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم ليس ديناً خاصّاً بفئة محدّدة ومكان معيّن وزمان محدود، بل هو دين عالمي شامل لأهل الأرض جميعاً، ولذلك يخاطب الكل بقوله: (يا أَيُّهَا اَلنّاسُ ) * وكان أمام ذلك الأمل الكبير طائفتان:

المشركون، وأهل الكتاب.

أمّا المشركون فسيوافيك أنّه سبحانه أمهلهم أربعة أشهر فإن آمنوا فهو، وإلّا فمصيرهم القتل في أي موضع وجدوا فيه، وسيأتي وجهه.

وأمّا أهل الكتاب فتحدّثت عنهم هذه المجموعة من الآيات.

وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس، أمّا الأوّلان فقد ذكر اسمهما في الذكر الحكيم مرّة بعد مرّة، وأمّا الثالث (المجوس) فقد جاء ذكرهم في سورة الحج، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ) .(1)

وأمّا الصابئون فالفقهاء لم يحسبوهم من أهل الكتاب.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الأمنية الكبرى للإسلام هو تأسيس دولة إسلامية عالمية شاملة لكافّة الشعوب والشرائع. وقد صرّح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذه الأمنية

ص: 63


1- . الحج: 17.

عندما قال لصناديد قريش: «تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم».(1)

وبما أنّ أهل الكتاب يختلفون عن المشركين من جهات شتّى ، فلذلك كان التعامل معهم غير التعامل مع المشركين، فالمشرك إمّا أن يُؤمن أو يُقتل، وأمّا أهل الكتاب فبما أنّهم مؤمنون باللّه ورسله، ولهم طقوس خاصّة وشرائع مقتبسة من التوراة، صار التعامل معهم بشكل آخر وهو جهادهم وقتالهم إلى أن يعطوا الجزية ويتفيّئوا في ظلال الإسلام مقابل دفع ضريبة خاصّة، وعندئذٍ تتكفّل الدولة الإسلامية بحمايتهم وحفظهم عن الشر والأذى.

إذا علمت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

أُريد من الموصول في قوله: (قاتِلُوا) أهل الكتاب (اَلَّذِينَ ) جاء بهم التصريح في قوله تعالى في نفس الآية: (مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ ) فكأنّه يقول:

قاتلوا الذين أُوتوا الكتاب، وأُريد من الكتاب التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية وإن حُرّفت فيما بعد.

ثمّ إنّه سبحانه يصف أهل الكتاب بأوصاف ثلاثة وكأنّها هي الأسباب الحقيقية لقتالهم وهي عبارة عن الأُمور التالية:

1. (لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ) .

2. (وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ ) .

3. (وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ ) .

ولأجل ذلك يأمر بقتالهم إلى أن (يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ ) .2.

ص: 64


1- . السيرة الحلبية: 45/2.

وعندئذٍ يقع الكلام في تفسير كلّ من هذه الأسباب، والمفسّرون في حيرة فيما أُريد بها.

أمّا الأوّل: فاللّه سبحانه وصفهم بقوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ) . كيف يصفهم بذلك مع أنّهم أهل الكتاب، والكتاب هو المنزل من اللّه سبحانه. وكيف يصفهم بذلك مع أنّه سبحانه أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يدعوهم إلى أُصول مشتركة منها (قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) .(1)

أقول: إنّهم وإن آمنوا باللّه ولكن إيمانهم مقرون بالشرك: أمّا اليهود، فإنّهم أهل التجسيم والتشبيه مضافاً إلى قولهم بأنّ عزيراً ابن اللّه كما في قوله سبحانه: (وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ ) ؛ وأمّا النصارى فإنّهم أهل التثليث، فالألوهية عندهم قائمة بأُمور ثلاثة: إله الأب، وإله الابن، وإله روح القدس، ولذلك سلب عنهم الإيمان باللّه، وأمّا اليوم الآخر فقد قال المحقّقون إنّه لم يذكر في التوراة شيء يرجع إلى القول بالمعاد والحياة الأخروية. ولو قال بعضهم فإنّما يقولون به على وجه التحريف كما يحكي عنه سبحانه قولهم (وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً ) (2).

و أمّا الثاني: فإنّهم (لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ ) فلو أُريد من قوله: (وَ رَسُولُهُ ) رسول كلّ طائفة كموسى لليهود والمسيح للنصارى، أمّا اليهود فقد أكلوا أموال الناس بالباطل كالربا وشرب الخمر وأكل الخنزير وحرّفوا ما كتب اللّه0.

ص: 65


1- . آل عمران: 64.
2- . البقرة: 80.

لهم في التوراة.

وأمّا النصارى فقد استباحوا ما حُرّم عليهم في التوراة ممّا لم ينسخه الإنجيل. وهذا أمر محسوس ملموس في أنّ حياة النصارى فإنّها لا تنطبق على أحكام التوراة.

وأمّا لو قلنا بأنّ المراد من قوله: (وَ رَسُولُهُ ) هو رسول الإسلام - كما هو المتبادر من اللفظ في كافة آيات القرآن الكريم - فعندئذٍ فالمراد المحرّمات التي حرّمها اللّه ورسوله محمد صلى الله عليه و آله و سلم الصادع بالدعوة الإسلامية كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأكل المال بالباطل وبما أنّ فيها فساداً كبيراً على المجتمع فالإسلام يطلب منهم ألّا يتظاهروا بهذه الأعمال، غير أنّهم كانوا يتظاهرون بها، ولأجل هذه الغاية أمر بقتالهم حتى يدخلوا في حكم الإسلام ويعملوا بأحكام الذمة التي منها عدم التظاهر بهذه المحرّمات.

و الثالث: فإنّهم (لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ ) : أي الدين المنسوب إلى اللّه سبحانه، أي لم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم وإنّما دانوا بما حرّفوا منه وهو ليس دين الحق... فهذه الأُمور الثلاثة أعدّت أرضية خاصّة لقتالهم إلى أن (يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ ) فإنّ في إخضاعهم لأحكام الجزية تطويقاً لقسم من تأثير أعمالهم الفاسدة على المجتمع الإسلامي ومنعاً من التظاهر بها، فأُمروا بإعطاء الجزية في مقابل حقن دمائهم وتوفير أسباب الحياة الآمنة لهم.

قوله: (عَنْ يَدٍ) : في تفسيره وجهان:

1. أن يعطوا الجزية عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالانقياد، أو عن

ص: 66

يدهم أي مسلّمين، أو مسلّمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول؛ لأنّ القصد فيها التحقير وهذا ينافيه، ولذا منع من التوكيل شرعاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر من الشدّة والغلظة لا ينسجم مع روح التشريع الإسلامي.

2. أي عن قدرة وسلطة، فالمعدم والعاجز معفو عنها، وهذا هو الأظهر.

ثمّ قال سبحانه: (وَ) الحال (هُمْ صاغِرُونَ ) : أي خاضعون. والدليل على تقدير لفظة (لكم) بعد لفظة «يد» هو قوله: (هُمْ صاغِرُونَ ) فكونهم خاضعون يدلّ على وجود السلطة والاستعلاء للآخذين. والظاهر أنّ المراد من الذيل هو خضوعهم للحكومة الإسلامية، لا الإهانة والسخرية، فإنّه لا يناسب الحكومة الإسلامية المبنية على المثل العليا والأخلاق الحسنة.

يقول السيد الطباطبائي: والاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمّتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنّة الإسلامية والحكومة الدينية العادلة في المجتمع الإسلامي فلا يكافئوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصية مستقلّة حرّة في بثّ ما تهواه أنفسهم وإشاعة ما اختلقته أهواؤهم من العقائد والأعمال المفسدة للمجتمع الإنساني، مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان.(2)

ونقل الرازي اعتراضاً عن ابن الراوندي على قوله سبحانه: (تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ 9.

ص: 67


1- . روح المعاني: 78/10.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 242/9.

وَلَداً) (1) فبيّن أنّ إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحدّ، ومع ذلك لما أخذ منهم ديناراً واحداً قرّرهم عليه وما منعهم منه.

وأجاب عنه وقال: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدّة، رجاء أنّه ربما وقف في هذه المدّة على محاسن الإسلام وقوّة دلائله، فينتقل من الكفر إلى الإيمان.(2)

أخذ الجزية ومصارفها

ربما يتصوّر أنّ الجزية ضريبة مجحفة بالنسبة إلى أهل الكتاب سواء أكانت مفروضة على النفوس أم على الأراضي، ولكن ذلك تصوّر خاطئ لأنّ المسلمين أيضاً فرضت عليهم ضرائب مالية كالزكاة والخمس والكفّارات، وغيرها، مع أنّ المسلمين يشاركون في الجهاد دون أهل الكتاب وهم يُضحّون بنفسهم ونفيسهم دون الآخرين. مع أنّ الضريبة المأخوذة من أهل الكتاب تصرف في مصالحهم وتوفير أسباب الحياة لهم وحفظهم والدفاع عنهم، إلى غير ذلك من الأُمور، وليس هذا أمراً يوصف بالإجحاف. بقي أن نعرف أنّ الإسلام فرض على أهل الكتاب - بعد الغلبة عليهم - دفع ضريبة تُسمّى بالجزية، وهي - كما سبق - بمنزلة الضريبة التي تؤخذ من المسلمين تحت عناوين مختلفة من الزكاة والخمس وسائر الصدقات لتصرف في شؤون الدولة الإسلامية، ولكن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله، ولا الصبيان ولا النساء، لأنّ الجزية إنّما هي في مقابل الدخل تقريباً. قال الإمام

ص: 68


1- . مريم: 90-91.
2- . تفسير الرازي: 32/16.

الصادق عليه السلام: «جرت السنّة أن لا تؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلوب على عقله».(1)

ثمّ إنّ الجزية تقدّر بقدر المُكنة والقدرة فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن حدّ الجزية فقال: «ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يُطيقُ ».(2)

كما أنّ الإمام مخيّر في الجزية في أن يضع الجزية على حسب رؤوسهم دون أرضهم أو على أرضهم دون رؤوسهم... في حين أنّه يأخذ من المسلمين الضرائب المتوجّبة عليهم من أموالهم خاصّة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى روح التسامح والعطف والعدالة التي يتعامل بها الإسلام مع الأقليّات الأُخرى؛ فعن محمّد بن مسلم قال: سألته عليه السلام عن أهل الذمّة ماذا عليهم ما يحقنون به دماءهم وأموالهم ؟ قال: «الخراج، وإن أُخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم، وإن أُخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم».(3)

كما أنّه لا يجوز للحكومة الإسلاميّة أن تأخذ من الأقليّات شيئاً علاوة على الجزية؛ فعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم سوى الجزية ؟ قال: «لا».(4)

وبالتالي، إنّ الجزية لم تكن ضريبة شاقّة لو عرفنا مقاديرها فقد جعل4.

ص: 69


1- . الوسائل: 11، الباب 51 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1. وراجع: تحرير الوسيلة للإمام الخميني: 532/2-533؛ باب: في مَن يؤخذ منه الجزية.
2- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب، جهاد العدوّ، الحديث 1.
3- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
4- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.

الإسلام على أغنيائهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهماً، وعلى فقرائهم إثنا عشر درهماً... يؤخذ منهم كلّ سنة، راجع لمعرفة ذلك، الحديث المروي في هذا الباب.(1)

وفي الحقيقة لا تقدير خاصّ للجزية، ولا حدّ لها؛ بل تقديرها إلى الوالي، (والحكومة الإسلاميّة) بحسب ما يراه من المصالح في الأمكنة والأزمنة ومقتضيات الحال(2)، والمقدار المذكور في الرواية هو مصداق لهذا التقدير.

وبالتالي فإنّ ما تأخذه الدولة الإسلاميّة من الأقليّات باسم الجزية إنّما هو في الحقيقة لتقديم الخدمات إليهم، وحمايتهم، لا أنّه أتاوة على نحو ما يفعل الفاتحون عادة.

فالجزية إذن ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لهم الحراسة والحفظ وتوفير ضروريات الحياة.

والدليل على ما ذكرنا ما رواه البلاذري في أمر «حمص»، قال: إنّ أبا عبيدة ابن الجراح قدم حمص على طريق بعلبك فنزل بباب الرستن فصالحه أهل حمص على أن أمنهم على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرحائهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد واشترط الخراج على مَن أقام منهم.(3)

ثمّ يقول بعد عدّة صفحات: إنّ القائم بأُمور الخراج قال: بلغني أنّه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا على7.

ص: 70


1- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
2- . تحرير الوسيلة للإمام الخميني: 533/2، المسألة 1، باب القول في كمية الجزية.
3- . فتوح البلدان للبلاذري: 137.

أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَوِلايتكم وعدلكم أحب إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم.(1)

وبذلك يبقى الكتابيّ على دينه ويقيم شعائره في حدود المصلحة الإسلاميّة العامّة حسب ما قُرّرت لها من شروط، وأحكام.

في شرائط الذمّة

الشرائط المقوّمة للذمّة التي تنتفي بانتفاء واحدة منها، ثلاثة:

1. أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين أو إمداد المشركين والتواطئ معهم ضد مصالح الإسلام والمسلمين.

2. أن يلتزموا بأن تجري عليهم أحكام المسلمين بمعنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون من أداء حقّ أو ترك محرّم، والمراد من الأحكام هي الأحكام الاجتماعية والجزائية كجلدهم إذا زنوا وقطع أيديهم إذا سرقوا وما شابه ذلك.

3. قبول دفع الجزية.

فهذه الشروط الثلاثة تعتبر من مقوّمات الذمّة، وأمّا غير ذلك من الشروط فإنّما يجب العمل بها من جانبهم إذ اشترطت في عقد الذمّة.(2)

وفي الختام: إنّ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس، ويكفي في ذلك ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام حيث سُئل عن المجوس: أكان لهم نبيّ؟ فقال:

ص: 71


1- . فتوح البلدان للبلاذري: 143.
2- . لاحظ: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 271/21.

«نعم. وقال: أما بلغك كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أهل مكّة أن أسلموا وإلّا نابذتكم بحرب؛ فكتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أن خذ منّا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان.

فكتب إليهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي لست آخذ الجزية إلّامن أهل الكتاب. فكتبوا إليه يُريدون بذلك تكذيبه: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلّامن أهل الكتاب، ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه، وكتاب أحرقوه. أتاهم نبيّهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور».(1)

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) .(2)

المفردات

جاهد: من الجهاد وهو استفراغ الوسع في مدافعة (دفع) العدو.

اغلظ: من الغلظة وهي الخشونة والشدّة في المعاملة.

التفسير

الآية تتضمّن أُموراً ثلاثة:

1. أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بجهاد الكفّار والمنافقين.

2. أمره صلى الله عليه و آله و سلم بالتغليظ عليهم.

ص: 72


1- . الكافي: 567/3-568.
2- . التوبة: 73.

3. أنّ مأوى الكفّار والمنافقين في الآخرة هو جهنم وبئس المصير.

ما هو المراد من جهاد المنافقين ؟

أمّا الأوّل: فقوله: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ ) وقد دلّ التاريخ على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يقاتل المنافقين بل تعامل معهم معاملة المسلمين، فعلى هذا فأُريد بالجهاد معناه الوسيع، أي السعي في طريق دفع العدو؛ أمّا الكفّار، فبالتبليغ والإرشاد فإن لم ينفع فالقتال؛ أمّا المنافقون فببذل الجهد في مقاومتهم حسب اقتضاء المصلحة، فتارة المصلحة تقتضي البشاشة في الوجه، وأُخرى الوعظ باللسان، وثالثة العبوس في الوجه، إلى غير ذلك من مراتب المصلحة التي تركت إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وكون الجهاد مستعملاً في الجهاد بالسيف فهو من مصاديق الجهاد، وإلّا فالجهاد بمعنى السعي وله طرق مختلفة.

يقول السيد الطباطبائي: ربما يسبق إلى الذهن أنّ المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم، فإن اقتضت المصلحة هُجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا، وإن اقتضت وعظوا باللسان، وإن اقتضت أُخرجوا وشرّدوا إلى غير الأرض أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردّة، أو غير ذلك.(1)

ثمّ إنّ من ألطف التعابير في طريق نشر الدعوة الإسلامية، التعبير بالجهاد دون القتال، وهذا يشعر بأنّ الغاية هي السعي في إصلاح المجتمع وأنّ القتال من باب آخر الدواء الكيّ .

وأمّا الثاني - أعني قوله: (وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) -: أي عاملهم بالغلظة والشدّة

ص: 73


1- . الميزان في تفسير القرآن: 339/9.

حسب سوء حالهم فلا يقاتلون إلّاإذا أظهروا الكفر البواح بالردّة، وقد روي عن ابن عباس في تفسير الآية أنّه قال: جهاد الكفّار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان.(1)

ثمّ إنّ الأمر بالتغليظ على الكفّار والمنافقين لا ينافي كونه صلى الله عليه و آله و سلم رحمة للعالمين؛ وذلك لأنّ التغليظ هنا آخر الدواء، لهذا الداء العيّاء، وقد ثبت في التاريخ أنّهم آذوا رسول اللّه بصور مختلفة كما أنّهم همّوا بقتله غيلة، واللّه سبحانه حفظه وصانه عن شرّهم، ففي مثل هذه الموارد لا محيص من قطع جذور الفساد حتى يأمن الرسول و المسلمون من شرور الأشرار وكيدهم، في الليل والنهار.

وعن ابن مسعود في تفسير قوله: (جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ ) قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليلقه بوجه مكفهّر.(2) فلابدّ أن يُراد «بيده» غير القتال بالسيف.

وأمّا الثالث: أعني قوله: (وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) ، فيا للقوم من مصير هالك!

***

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ

ص: 74


1- . تفسير الدر المنثور: 239/4.
2- . تفسير الدر المنثور: 239/4.

تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(1)

المفردات

انسلخ: السلخ: نزع جلد الحيوان، وأُريد هنا انقضاء الأشهر الحُرم.

مرصد: طريق، ومثله: المَرقَبْ والمَربى .

التفسير
الجهاد الابتدائي لقتال الناقضين لأيمانهم

كانت سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلّامن قاتله، ولا يحارب إلّامن حاربه وأراده بسوء، امتثالاً لقوله سبحانه: (فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (2) فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتّى نزلت عليه (سورة براءة) فأمره اللّه بقتال المشركين إلّاالّذين قد عاهدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم فتح مكة إلى مدّة، منهم صفوان بن أُمية وسهيل بن عمرو،(3) ولم ينكثوا أيمانهم.

كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يفكّر في أمر المشركين وما نقضوا به عهودهم وأيمانهم والأعمال الشنيعة الّتي يرتكبونها في الطواف، وحينذاك نزل جبرئيل بسورة براءة

ص: 75


1- . التوبة: 5.
2- . النساء: 90.
3- . البرهان في تفسير القرآن: 4/383.

وقد أمره فيها سبحانه بأن يتبرّأ من المشركين ويرفع أي أمان أعطاهم إلّاالّذين لم ينقضوا أيمانهم فيتمّ النبيّ عهده معهم إلى مدّتهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اختار أبا بكر لرفع الأيمان عن المشركين بقراءة آيات من سورة البراءة، فخرج أبو بكر إلى مكّة لإنجاز مهمته، وبعد ذلك نزل الوحي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. بعزل أبي بكر ونصب عليّ مكانه.

فقام عليّ يوم النحر والمشركون والمسلمون حضور، فقرأ ست عشرة آية من أوّل السورة إلى قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) (1).

إنّ في غضون هذه الآيات نكات تشير إلى سبب رفع الأمان عن المشركين وإمهالهم مدّة أربعة أشهر، فإن تابوا وأسلموا فهو، وإلّا فيقتلون في أي طريق ومكان تواجدوا فيه. وعندئذٍ يقع الكلام في إيضاح ما هو السرّ في قتال المشركين ؟ إنّه سبحانه يضيّق الأمر على المشركين لوجوه:

أوّلاً: الأنبياء من أوّلهم إلى آخرهم بعثوا لغاية واحدة وهي هدم الوثنية وإنقاذ الإنسان من عبادة الشجر والحجر أو الموجودات الغيبية، وهذا هو الأصل الأصيل في المعارف الإلهية، قال سبحانه: (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ ) (2). فإذا كان هذا هو الأصل الأصيل في الشرائع السماوية، فلا يمكن لرسول السماء أن يعترف بجماعة يكون أصلهم الأصيل مناقضاً له.6.

ص: 76


1- . التوبة: 16.
2- . النحل: 36.

وليس هذا أمراً غريباً في الحكومات التي تدّعي الحرية والديمقراطية فلو تشكّلت جماعة لهم أفكار خاصّة يعتمدون في أُصولهم على فكرة تضاد الأصل الأوّلي للقانون الأساسي للبلاد التي هم فيها، لمنعتهم الحكومة ولن تسمح لهم بنشر فكرهم، ولهذا لا يمكن أن يعترف نبيّ التوحيد بجماعة يتظاهرون ليل نهار على ضد الأصل الذي بُعِثَ لأجله.

ثانياً: أنّ محاربة المشركين لم تكن لغاية إلزامهم بالاعتراف بالإسلام وإنّما كانت الغاية هي صدّهم عن العمل الجاهلي الذي يحطّ من مقام الإنسان، ولذلك يعترف الإسلام بأتباع الشرائع السماوية كاليهودية والنصرانية والمجوسية، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن معترضاً على هؤلاء، فلو كان المشرك انتقل من شركه إلى إحدى هذه الديانات لم يكن أي إلزام عليه.

ثالثاً: أنّ إكراه الناس على ترك عبادة الأصنام والأوثان، وإن كان أمراً إجبارياً وصادراً عن إكراه، لكنّه لغاية انتفاع المكرَه من هذا العمل، وعابد الوثن وإن كان يكره ذلك، لكن لمّا كان خضوع الإنسان للشجر والحجر خزياً للإنسان وإسقاطاً لكرامته فالإجبار على ترك هذا الشرك ليس أمراً قبيحاً بل يُعدّ أمراً حسناً ومطلوباً.

نفترض أنّه شاع مرض معيّن في بلدٍ ما، عندئذٍ تقوم وزارة الصحة بإجبار جميع المواطنين على التلقيح ضد هذا المرض، ومَن يرفض التلقيح يجبر عليه بالقوّة، وهذا لا يُعد مخالفةً لحرية الأفراد، وقد مرّ الإيعاز إلى ذلك فيما سبق.

ثمّ إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عَبْر ثلاث عشرة سنة كان قد فتح باب الحوار مع المشركين وأقام الحجج وجاء بالبراهين الكافية التي تثبت أنّ الشرك أمر خرافي، ولكن القوم لم يذعنوا لذلك بل ازدادوا طغياناً وكفراً حتّى أنّهم همّوا بقتله، ولمّا

ص: 77

انتقل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة حشّدوا الجيوش لمحاربته والقضاء على دولته، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان في موضع الدفاع، ثم لمّا عُقد ميثاق المتاركة بين الطرفين خانوا عهودهم مع اللّه ورسوله، فلم يكن هناك بد إلّاالقضاء على الشرك واستئصاله من الجذور وتخريب أوكار الوثنية، إذ لم يكن من البعيد أن يستعيد المشركون قوّتهم ويتجمّعوا لمحاربة الإسلام مرّة أُخرى.

الحرية وحدودها

إنّ الحرية أحلى كلمة سمعتها أُذن الإنسان على طول الدهر، و - يا للأسف - هي من الكلمات التي تستخدم في كبح الحريات ونقضها، فالغرب وعلماؤه هم الذين يتبنّون هذا الأصل وله عندهم شرط واحد وهو أنّ الإنسان حرّ في عمله وعقيدته ما لم يزاحم الآخرين، وبذلك اعترفوا بكلّ الشرائع السماوية والمسالك البشرية التي لا صلة لها بالسماء وإن كان أكثرها أمراً خرافياً كما هو واضح.

غير أنّ الحرية في الإسلام لها شرطان:

1. ما تقدم ذكره.

2. أن لا تكون على طرف النقيض من مصلحة الإنسان وسعادته، ولذلك لا يعترف بمن يحارب المُثُلَ العليا في الأخلاق والقيم، وكذلك لو قام أحد ببيع المخدّرات على الشباب فيؤخذ بأشدّ المجازاة لأنّها على طرف النقيض من سعادة الإنسان.

وعلى هذا فالإنسان حرّ في عقيدته وعمله بشرط أن لا يكون مخالفاً لسعادته وكماله، فعبادة الأصنام على طرف النقيض من ذلك، فلو قام الإسلام بتخريب الأصنام المنصوبة على سطح الكعبة أو أرسل وفوداً لكسر الأوثان

ص: 78

الرائجة بين القبائل فلا يعدّ ذلك مخالفاً للحرية المعقولة، بل هو في رأي العقل والإنصاف خدمة جليلة للإنسان على مرّ العصور وإخراجاً له من الشقاء إلى السعادة.

يقول الإمام علي عليه السلام في وصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ، وَأَحْمَى (امضى ) مَوَاسِمَهُ ، يَضَعُ ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ ، وَآذَانٍ صُمٍّ ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ ؛ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ ».(1)

أو ليس من الجهل المطبق أن تعيش الأبقار الهندية في الشوارع والطرق تسرح وتمرح وتأكل كلّ شيء، ولكنّ قسماً كبيراً من الناس جوعى لا يملكون ما يسدّ الرمق، وما سبب ذلك إلّاأنّ للإبقار قداسة لا يمكن التعرّض لها، حتى لو أرادت أنّ تبرك على سكّة القطار فلا يسمح دينهم بإزعاجها وإزالتها عن مكانها.

***

نعم ربّما يتوهّم أنّ موقف الآية من المشركين في المقام ينافي حرية الاعتقاد الّتي نادى بها بيان منظمة الأُمم المتحدة حيث أجازت للإنسان انتخاب العقيدة الّتي يريد، ومنعت من الإكراه.

أقول: إنّ الإسلام يفترق عمّا عليه منظمة الأُمم المتحدة، فهو أيضاً يعترف بأنّ الإنسان محترم وما انتخبه أيضاً محترم مثله، بشرط أن يكون الثاني أمراً محترماً لا مخلّاً بسعادته. وما ربّما يقال من أنّ الإنسان حرّ فيما يعتقد ويختار، فهو ليس بصحيح، بشهادة أنّه لو اختار قتل نفسه لا يعدّ أمراً صحيحاً ولا يقال: إنّه كان مختاراً في إبقاء حياته وعدمها.8.

ص: 79


1- . نهج البلاغة: الخطبة 108.

وإن أردت أن تعرف موقف الإسلام من الوثنية، فاعطف نظرك إلى قوله تعالى: (هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً) (1).

فهذه الآية تجعل ما في الأرض في خدمة الإنسان، أين هذا المنطق من منطق الوثنية الّتي تفرض على الناس عبادة الشجر والحجر والحيوان، وتجعلهم عبيداً والمعبودات سادة ؟ فمنع الإنسان عن هذا العمل الّذي يورث ذلّته، هل يُعدّ ظلماً وتعدّياً أم أنّه يُعدّ خدمة وتكريماً له، وإن لم يدرك الإنسان نفسه ذلك ؟

إلى هنا تمّت دراسة الآيات الدالّة على مشروعية الجهاد الابتدائي وظهر أنّ هذا النوع من الجهاد شُرّع لغاية صيانة كرامة الإنسان وشرفه، وهذا لا ينافي الحرية المعقولة.

***

بقيت هنا كلمة وهي: دراسة ما هي شروط الجهاد الابتدائي ؟ فهل يختصّ بإذن الإمام المعصوم عليه السلام أو يكفي إذن الفقيه الجامع للشرائط؟

الجهاد الابتدائي وشروطه

المتيقّن من الآيات التي درسناها هو وجوب الجهاد الابتدائي بشرط وجود المعصوم؛ لأنّ الخطاب في هذه الآيات للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فلا يجوز إلّامع وجود معصوم مثله، وهذا أيضاً هو الظاهر من المحقّق، يقول: وفرضه على الكفاية بشرط وجود الإمام أو مَن نصبه للجهاد.(2)

ص: 80


1- . البقرة: 29.
2- . شرائع الإسلام: 307/1.

وفي المسالك علّق على عبارة الشرائع بقوله: أراد من وجود الإمام كونه ظاهراً مبسوط اليدين متمكّناً من التصرّف.(1)

وما ذكره هو الظاهر من فقهائنا. ولكن المورد - مورد الآيات والروايات هو وجود المعصوم - ليس مخصّصاً فلو اقتضت المصلحة فللفقيه الجامع للشرائط، الدعوة إليه، والتفصيل في محلّه.

ثمّ إنّ الفقيه الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء قسّم الجهاد إلى أقسام خمسة، فالأربعة الأُولى من أصناف الجهاد الدفاعي، والخامس هو الجهاد الابتدائي، أمّا الأربعة الأُولى فقد ذكرها بشكل مبسوط ثم لخّصها بقوله:

1. ما يكون لحفظ بيضة الإسلام إذا أراد الكفّار الهجوم عليه.

2. ما يكون لدفعهم عن بُلدان المسلمين، وقُراهم، وأراضيهم، وإخراجهم منها بعد سلطانهم عليها.

3. ما يكون لدفع الملاعين عن التسلّط على دماء المسلمين، وهتك أعراضهم على نحو ما مرّ.

4. ما يكون لدفعهم عن طائفة من المسلمين التقت مع طائفة من الكفّار، فخيف من استيلائها عليهم.

ثمّ أشار إلى الجهاد الابتدائي بقوله:

5. ما يكون لأجل الدعوة إلى الإسلام وإقرارهم بشريعة خير الأنام صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم ذكر الفروق بين القسم الخامس والأربعة المتقدّمة عليه، ونشير إلى1.

ص: 81


1- . مسالك الأفهام: 119/1.

بعضها:

1. يشترط في القسم الأخير نيّة التقرّب إلى اللّه تعالى دون باقي الأقسام.

2. يشترط في الأخير الحرية والسلامة من العمى والإقعاد والمرض و (عدم) بلوغ حدّ الهمّ ، والفقر الباعث على العجز عن مسيره ونفقته ونفقة عياله.

3. عدم منع أحد الوالدين وعدم حلول الدين مع القدرة على وفائه.

4. عدم وجود مَن تقوم به الكفاية لكثرة الكفّار وقلّة المسلمين.

5. الذكورة فلا يجب على مَن عُلم خروجه عن حقيقتها أو شُكّ فيه، كالأُنثى المشكل.

6. عدم المعارضة لشيء من الواجبات الفورية من حج إسلام أو حج نيابة يجب السعي إليها فوراً.

7. أن لا تتوقّف على تخلّفه تهيئة الزاد والأسباب التي تتوقّف عليها استقامة عساكر المسلمين.(1)

ثمّ إنّه في موضع آخر عرّف الجهاد الابتدائي وجعله من خواص النبيّ والإمام والمنصوب الخاصّ منهما دون العامّ ، وإليك نصّ عبارته.

قال: جهاد الكفر والتوجّه إلى محالّهم، للردّ إلى الإسلام، والإذعان بما أتى به النبيّ الأُميّ المبعوث من عند الملك العلّام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.(2)

هذا هو إجمال الكلام في المقام والتفصيل يطلب من محلّه.4.

ص: 82


1- . كشف الغطاء: 337/4-339.
2- . كشف الغطاء: 289/4.

أحكام الجهاد

5. كيفية القتال وشروطه

اشارة

بما أنّ الهدف الأقصى للجهاد سواء أكان ابتدائياً أم دفاعيّاً، هو نشر المثل العليا في المجتمع الإنساني، وإنقاذه من الأوهام والخرافات وسوقه إلى الفضائل وكرائم الأخلاق، فلذلك نرى وجود ضوابط للجهاد على نحو يجب على المجاهدين رعايتها بحذافيرها.

ثمّ إنّ هذه الضوابط بين ما هي مذكورة في السنّة أو في الكتاب العزيز؛ أمّا السنة فنذكر شيئاً موجزاً منها، ثم نعود إلى الآيات القرآنية الكريمة.

روى الكليني في «الكافي» بسنده كالصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، لا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطروا إليها، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه».(1)

ص: 83


1- . الوسائل: 10، الباب 15 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 2. ولاحظ سائر أحاديث الباب.

وبعد أن عرفت بعض ما ورد في السنّة الشريفة نعود إلى ذكر ما ورد في الذكر الحكيم من آداب القتال وشروطه.

الآيتان: الأُولى والثانية

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ * وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) .(1)

المفردات

لقيتم: من اللقاء وهو الاجتماع على وجه المقاربة وجهاً لوجه.

زحفاً: الزحف: الدنو قليلاً قليلاً كما في حبو الصبي، وأُريد في المقام مشي المقاتل إلى عدوّه في ساحات القتال باحتراس وترصّد فرصة. ثمّ إنّه يستعمل في مصطلح اليوم على الجيوش الكثيرة العدد فيقال: الفرار من الزحف، وهذا مصطلح جديد لا صلة له بالآية.

الأدبار: جمع دبر وهو الخلف وأُريد استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة.

وإدبار النجوم في قوله سبحانه: (وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ اَلنُّجُومِ ) (2)، ضد إقبالها.

متحرّفاً: الانحراف من جهة الاستواء إلى الجانب.

ص: 84


1- . الأنفال: 15 و 16.
2- . الطور: 49.

متحيّزاً: وهو أخذ الحيّز أي المكان.

فئة: الجماعة من الناس.

التفسير
حرمة التولّي عن العدو

لمّا أنعم اللّه على المؤمنين في غير واحدة من الغزوات بالنصر والغلبة مع قلّة عددهم وعدّتهم وكثرة عدد الأعداء وعُدّتهم، وأكرمهم بإنزال الملائكة لتثبّت قلوبهم، نهاهم عن الفرار من أمام العدو في ساحة القتال إلّافي موضعين كما سيأتي في الآية التالية، وقال: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب عام يشمل أهل بدر وغيرهم، وما ربما يقال من اختصاصه بأهل بدر، تردّه طبيعة الحكم إذ تقتضي أن يكون الحكم عامّاً سائداً في عامّة الأجيال، فإنّ في الثبات أمام العدو عزّة، وفي الفرار ذلّة، كما يقول: (إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) يقتربون منكم تدريجاً (فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ) : أي لا تجعلوا ظهوركم ممّا يليهم، وهو كناية عن الفرار عند مواجهة العدو.

ولكن الظاهر كما قلنا كون الآية ضابطة كلّية تعمّ عامّة المواقف حالتي الزحف وعدمه، لقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).

ثمّ إنّ قوله: (وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) جملة شرطية جزاؤها قوله: (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ ) .

ص: 85


1- . الأنفال: 45.

ثم إنّ المراد من قوله: (يَوْمَئِذٍ) : أي في ذلك الوقت لا النهار في مقابل الليل، أي وقت الزحف ووقت تقابل المجاهدين مع أعدائهم. ثم إنّه سبحانه استثنى قبل بيان الجزاء طائفتين:

أ. (إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ) : أي تاركاً موقفاً إلى موقف آخر أصلح للقتال من الأول، وكأنّه ينحرف عن وجه العدو ويُريه أنّه بصدد الفرار لكنّه يكرّ عليه ثانياً، وقد قيل: الحرب كرّ وفرّ. ويعدُّ مثله خدعة عسكرية، وقد قيل:

الحرب خدعة.

ب. (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ) بمعنى أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم.

وأمّا جزاء التولّي فقد بيّنه سبحانه بقوله: (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ ) : أي رجع بالتولّي مصحوباً بغضب من اللّه (وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) .

ثمّ إنّ استثناء الطائفتين ليس تولّياً في الحقيقة، بل تولّياً في الظاهر ولكنّه مواصلة للحرب بشكل آخر يكون أفضل.

روى الكليني قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في كلام له: «وليعلم المنهزم بأنّه مسخط ربّه، وموبق نفسه، وأنّ في الفرار موجدَة اللّه، والذلَّ اللازم، والعار الباقي، وإنّ الفارّ لغير مزيد في عمره ولا محجوز بينه وبين يومه، ولا يرضي ربّه، ولموت الرجل محقّاً قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبّس بها، والإقرار عليها».(1)1.

ص: 86


1- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 1.

وروى الصدوق بإسناده عن محمد بن سنان، أنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: «حرّم اللّه الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل، وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدوّ على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين اللّه عزّ وجلّ وغيره من الفساد».(1)

ما ذكر في الآية جزاء مَن تولّى على العدو ليسلم، وأمّا مَن ثبت في مكانه فمصيره إلى الجنة ونعيمها.

الآيتان: الثالثة والرابعة

اشارة

قال سبحانه: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .(2)

المفردات

أسرى: جمع أسير كالقتلى والجرحى، جمع قتيل و جريح، يقول ابن مالك:

فَعْلى لوصفٍ كقتيلٍ وَزَمِنْ *** وَهالكٍ وَمَيِّتٍ به قَمِنْ

وهو من الأسر بمعنى الشدّ، فكلّ مَن يؤخذ من العسكر في الحرب، يُشدّ

ص: 87


1- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 2.
2- . الأنفال: 67 و 68.

لئلّا يهرب، ثم أُطلق على كلّ مأخوذ وإن لم يُشدّ.

يثخن: الثخانة بمعنى الغلظة، وثوب ثخين ضد رقيق، وأُريد في الآية «الاستقرار».

وعلى هذا فالمراد منه مواصلة الحرب والقتل حتى حصول الإثخان في الأرض بدم المقتولين من الكفّار.

عرض الدنيا: المتاع.

كتاب من اللّه سبق: أجمل سبحانه ما هو المكتوب، وسيوافيك بعض الوجوه المحتملة.

التفسير
منع أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب

تتحدّث هاتان الآيتان عن أحكام الأسرى، كما تحكي عن سنن النبيّين فيهم، وكأنّ السابقين من الأنبياء قد خاضوا حروباً مع الكافرين دون أن يأخذوا أسرى إلّابعد أن يظهر انتصارهم وغلبتهم على الأعداء، فإنّ في أخذ الأسرى قبل ذلك احتمالَ لحوقهم بالكافرين بعد إطلاق سراحهم بأخذ الفدية لكي يهجموا على المؤمنين مرّة أُخرى.

ويظهر من الآية الأُولى وما روي من الروايات حولها أنّ المسلمين قد أسروا جمعاً من الكافرين لغاية الفدية قبل أن تنتهي الحرب وتُعلم نتائجها، وهذا أمر ممنوع في عامّة الشرائع، لما عرفت من أنّ أسرهم لغاية أخذ الفدية منهم سوف يجعلهم يلتحقون من جديد بجيش العدو، ولذلك نرى أنّ الآية تندّد بعمل

ص: 88

المسلمين بهذا الخصوص، وأنّه لم يكن أمراً مشروعاً في عامّة الشرائع، فعاتبهم اللّه سبحانه على قيامهم بهذا العمل غير المشروع.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قوله تعالى: (ما كانَ لِنَبِيٍّ ) : أي لم يكن شأن نبي من أنبياء السلف (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) من المشركين للفداء أو المنّ (حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ ) : أي حتى يقوى ويشتدّ ويغلب، فيدل على جواز أخذ الأسرى بعد حصول الإثخان في الأرض، والآية تحكي عن أنّ المجاهدين في غزوة بدر أخذوا الأسرى قبل الإثخان في الأرض لغاية الفداء أي تحريرهم في مقابل المال، كما يقول:

(تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا) وسمّيت المنافع الدنيوية بالعرض لأنّها لا ثبات لها ولا دوام على عكس نعم الآخرة، (وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ) لكم، أي يريد لكم ثواب الآخرة، الثابت الدائم (وَ اَللّهُ عَزِيزٌ) لا تُغلب أنصاره، فيجب أن يكون المؤمنون أعزة غالبين (حَكِيمٌ ) في أحكامه.

والآية تدلّ على التنديد بالمؤمنين في أخذهم الأسرى قبل الإثخان في الأرض، حيث إنّ أخذهم قبل ذلك أمر مبغوض إلى حدٍّ يستحقّ الآخذ العذاب العظيم، كما سيأتي في الآية التالية.

نعم بعد أن يستتب الأمر وتضع الحرب أوزارها، فيأتي أحد التكليفين كما في سورة (محمد)، أعني قوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً ) (1) فبعد الإثخان فأُسلوب التعامل مع الأسرى يكون بوجهين:4.

ص: 89


1- . محمد: 4.

1. إمّا منّاً يطلق سراحهم بلا عوض.

2. وإمّا فداء يطلق سراحهم بعوض.

الفداء أو بيع الإنسان

قلنا: إنّه سبحانه جعل أمام المسلمين في الأسرى أحد أمرين:

1. إطلاق سراحهم بلا عوض، وهذا يدلّ على كرامتهم وتكريم الإسلام لمقام الإنسانية.

2. إطلاق سراحهم بعوض.

وقد قام المسلمون في غزوة بدر بالأمر الثاني فأطلقوا سراح الأسرى بأخذ مبلغ يتراوح ما بين 4000 درهم عن الأسير الغني و 1000 درهم عن الأسير الفقير.

وربما يتصوّر أنّ الفداء هو نوع من بيع الإنسان بعد أسره لكنّه توهّم محض، إذ في كلّ حرب إذا كان العدو مُشعِلاً لفتيلها تكون سبباً في إهدار الكثير من الطاقات في المجال الاقتصادي والإنساني، فالفداء نوع تعويض عن هذه الخسائر التي حمّلها العدو على المسلمين. أضف إلى ذلك: أنّ المسلمين تركوا أموالاً كثيرة في مكة عند هجرتهم إلى المدينة فصارت أموالهم بيد المشركين فيصح للمسلمين أخذ الفدية لتحرير الأسير ليكون عوضاً لأموالهم التي صادرتها قريش.

وهنا طريق ثالث وهو الاسترقاق وله مصالح تربوية وثقافية أوضحنا حالها في رسالة مستقلة تقرأها في ذيل تفسير سورة محمد صلى الله عليه و آله و سلم، في موسوعتنا

ص: 90

التفسيرية «منية الطالبين».(1)

العفو عن أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب

يظهر من الآية أنّ أخذ الأسرى لغاية الانتفاع بهم قبل انتهاء الحرب وقبل أن تضع أوزارها كان ذنباً يستحقّ صاحبه العذاب العظيم، ولكنّه سبحانه لم يؤاخذهم بذلك وعفا عنهم بكتاب من اللّه كما قال: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ ) :

أي سنة من سنن اللّه، (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

اختلف المفسّرون في ما هو المراد من (كِتابٌ ) في قوله سبحانه: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ ) .

وقد ذكر الطبرسي وجوهاً مختلفة.(2)

وأوضح هذه الوجوه هو الوجه الأوّل من كلامه أي: لولا ما مضى من حكم اللّه أن لا يعذب قوماً حتى يبيّن لهم ما يتّقون، قال سبحانه: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (3) ومعنى الآية: أنّه لولا ما كتب سبحانه وفرض على نفسه أن لا يعاقب عبداً إلّابعد ما يبيّن له ما يتّقي - لولا هذا - لمسّكم في ما أخذتم من الأسرى عذاب عظيم.

إلى هنا تبيّن مفاد الآية إنّما الكلام في بيان مَن هو المخاطب في هذه الآية ؟

الخطاب متوجّه إلى مَن ؟!

قد اختلفت كلمة المفسّرين في تعيين المخاطب حسبما روي إلى أقوال

ص: 91


1- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 152/26-162.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 535/3-536.
3- . الإسراء: 15.

مختلفة:

1. العتاب متوجّه إلى النبي والمؤمنين جميعاً.

2. العتاب متوجّه إلى النبي والمؤمنين ماعدا عمر.

3. العتاب متوجهّ إلى النبي والمؤمنين ماعدا عمر وسعد بن معاذ.

4. العتاب متوجّه إلى المؤمنين دون النبي.

5. العتاب متوجّه إلى شخص أو إلى أشخاص أشاروا إليه بالفداء بعدما استشارهم.

وهذه الأقوال ليس لها رصيد في الآية فإنّما تبنّوها لما روي في المقام من الآثار، وحاشا نبيّ العظمة أن يكون مخاطباً في هذه الآية. والشاهد على ذلك وجود خطابين متوجهين إلى غير النبي:

1. قوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا) وجلَّ نبيُّ العصمة أن يكون طالب الدنيا.

2. قوله: (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) فهل يخطر ببال أحد أن يراد به النبي مع المؤمنين ؟!

كلّ ذلك دليل على أنّ العتاب متوجّه إلى مَن أخذوا الأسرى طمعاً بالفدية.

فما في الآثار عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه استشار النبي أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: فادهم، وقال عمر: اقتلهم... وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمره بقتلهم...! فأخذ رسول اللّه بقول أبي بكر ففاداهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأنزل اللّه: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إن كاد ليمسّنا

ص: 92

في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلّاعمر».(1)

كلّ ذلك من الآثار المكذوبة التي تحطّ من مقام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الذي هو في غنى عن الاستشارة في أحكام اللّه سبحانه، ولو أُمر بالاستشارة فإنّما يستشير في الموضوعات تكريماً لشخصية صحابته، ومعنى ذلك أنّ عمر كان أعرف بمصالح الإسلام والمسلمين من النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم. أعاذنا اللّه وإيّاكم عن التعصّب بغير الحقّ .

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: (فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) .(2)

المفردات

الرقاب: جمع رقبة، وهو اسم للعضو المعروف.

أثخنتموهم: ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ، واستعير في الآية للقتل الكثير أو الجرح بحيث يوجب توقّف العدو وعجزه عن الحركة.

ص: 93


1- . تفسير الدر المنثور: 108/4.
2- . محمد: 4.

الوثاق: ما يُشدّ به من قيد أو حبل ونحوهما.

منّاً: أي إطلاقاً من الأسر بالمجّان.

فداء: أي إطلاقاً في مقابلة مال أو غيره.

أوزارها: الأوزار: الأحمال، ويُراد بها هنا آلات الحرب وأثقالها.

التفسير
ضوابط أخذ الأسرى

دلّت الآيات القرآنية على أنّ فئة المؤمنين على الحقّ وفئة الكافرين على الباطل، إذا تلاقوا في ساحة الحرب فعلى المؤمنين أن يُديروا على الكافرين كؤوس المنايا بوضع السيوف في رقابهم، كما قال: (فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ ) . ولعلّ الحكم ورد مورد الغلبة، وإلّا فالمراد قتلهم بأي نحو كان بالرمي بالسهام أو الطعن بالرماح، ثمّ إنّ ضرب الرقاب له حدّ معيّن أوضحه بقوله:

(حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ) : أي أكثرتم القتل في صفوف العدو حتى ظهر الضعف فيهم وإن لم تتم الحرب فيتوقّف ضرب الرقاب، بل يشدّ وثاق الأسرى كما يقول:

(فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ ) ، بقيد أو حبل أو نحوهما، لكي لا يفرّ أحد منهم ويعيد الكرّة على المؤمنين.

وأمّا أُسلوب التعامل مع الأسرى إذا أُخذوا بعد الأثخان فذكرت له الآية طريقين:

أ. (فَإِمّا مَنًّا) : أي يطلق سراحه بلا عوض.

ب. (وَ إِمّا فِداءً ) : أي يطلق سراحه بعوض.

ص: 94

والتعامل مع الأسرى بأحد الأُسلوبين محدّد باستسلام العدو في ساحة القتال وإلقاء السلاح، كما يقول: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) .

وبذلك نرى أنّه سبحانه في هذه الآية يشير إلى برامج الحرب:

أ. ضرب الرقاب عند اللقاء.

ب. استمراره إلى حدّ الإثخان واصطباغ الأرض بدماء العدو، حتى تتحطّم القوة العسكرية للعدو، ويتحطّم غروره واستعلاؤه، ويكفّ عن البغي والعدوان.

ج. أخذ الأسرى بعد الإثخان، وشدّهم.

د. التعامل مع الأسرى بأحد الوجهين مشروط باستسلام العدو، وإلقاء السلاح وترك المعركة، وهروبهم عنها بحيث لم ير أثرهم فيها.

وحاصل الكلام: أنّ في الآية غايتين:

الأُولى: قوله: (حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ) .

الثانية: قوله: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) .

أمّا الأُولى فهي غاية لضرب الرقاب، فعند الإثخان يتوقّف الضرب لطروء الضعف على قوّة العدو العسكرية، وفقدان القدرة على التحرّك والمواجهة، وإن لم تتمّ الحرب وكان الاشتباك مستمراً، وعند ذاك تأتي الخطوة التالية، وهي أخذ الأسرى.

وأمّا الثانية أعني: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) : أي يشد الوثاق إلى نهاية وضع الحرب أوزارها. وعندئذٍ أي عند ما انتهت الحرب تماماً، إمّا يمنّ عليهم بإطلاق سراحهم أو تؤخذ منهم الفدية.

وممّا ذكرنا يظهر الضعف فيما ورد في «كنز العرفان» حيث قال: إنّ الأسير

ص: 95

إن أُخذ والحرب قائمة تعيّن قتله إمّا بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويترك حتّى ينزف ويموت، وإن أُخذ بعد تقضيّ الحرب، يتخيّر الإمام بين المنّ والفداء والاسترقاق، ولا يجوز القتل.(1)

الصحيح أن يقول: وإن أُخذ بعد الإثخان، لا بعد تقضّي الحرب.

وجه النظر: أنّ الغاية للقتل هي الإثخان وهو يتحقّق وإن كانت الحرب قائمة. وبعد الإثخان يأتي دور أخذ الأسير إلى تقضّي الحرب، وعندئذٍ يتخيّر الإمام بين المنّ والفداء، وعلى قول الاسترقاق.

إذا طالت الحرب شهوراً

وبذلك تُعلم الإجابة عن سؤال يُطرح في المقام، بأنّه ربما تطول الحرب شهوراً، فكيف يجوز قتل الأسير مادامت الحرب قائمة ؟ والجواب ما قلناه من أنّ القتل محدّد بالإثخان وهو ربما يحصل قبل انتهاء الحرب وتقضّيها، وإن كانت الحرب قائمة، ولا يتوقّف على انتهائها.

وهناك احتمال آخر وهو: أنّ الآية (أي قتل الأسير قبل الإثخان) ناظرة إلى الحروب السائدة في عصر الرسالة التي كانت تتقضّى بمضي ساعات أو بضعة أيام، فيصحّ أن يقال بجواز قتل الأسير قبل الإثخان، وأمّا الحروب العالمية أو الإقليمية التي تدوم شهوراً وسنين فالآية منصرفة عنها، والمرجع هنا رأي قائد الجيش الذي يقف على مصالح الإسلام والمسلمين وسمعتهم في العالم، فربما يحكم بالمحافظة على أرواح الأسرى.

ص: 96


1- . كنز العرفان: 365/1.

ثمّ إنّ الغاية الأُولى - أعني: إيقاف ضرب الرقاب إلى حدّ الإثخان - جاء ذكرها - أيضاً - في قوله سبحانه: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .(1) وقد تقدّم تفسير الآية فلاحظ.

ثمّ ربّما يقال: إنّ قوله: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) ناسخة لقوله تعالى: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ ) (2)، لأنّ هذه السورة متأخّرة نزولاً عن سورة الأنفال فتكون ناسخة لها. وعلى هذا يستمر القتل إلى انتهاء الحرب تماماً.

يلاحظ عليه: أنّ القائل خلط بين الغايتين، فالإثخان غاية لضرب الرقاب وقتل العدو، وهو ينتهي بالإثخان، وإن كانت الحرب قائمة؛ وأمّا وضع الحرب أوزارها، فهو غاية لشدّ الوثاق وحبس الأسرى، وهما ينتهيان بانتهاء الحرب، وعند ذلك يطلق سراحهم بأحد الأُسلوبين.

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى صدر الآية، وبقي الكلام في ذيلها، أي قوله تعالى:

(وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ) : أي من الكفّار بإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء (وَ لكِنْ ) يأمركم بالحرب وبذل الأرواح في إحياء الدين (لِيَبْلُوَا) : أي ليمتحن (بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) فيظهر المطيع من العاصي.

وبعبارة أُخرى: لو كان الغرض هو هلاك الكفّار فقط فاللّه سبحانه قادر على إهلاكهم بما شاء من أنواع العذاب، ولكنّه سبحانه أراد من وراء ذلك ابتلاءكم7.

ص: 97


1- . الأنفال: 67.
2- . الأنفال: 67.

حتى يتبيّن المستحقّ للثواب من غيره، ولذلك أمركم بالقتال و الجهاد.

قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) متفرّع على اختبار الحاضرين في أمر القتال، أي فمن بذل روحه في إحياء الدين والدفاع عن الحقّ ، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) بل يقبلها ويجازيهم عليها ثواباً.

الآيات: السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة

اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ ) .(1)

المفردات

الدواب: جمع الدابة: أُريد: كلّ ما يدب في الأرض.

تثقفنّهم: قال ابن فارس: ثقفت به إذا ظفرت به، والثقافة: المهارة، استعملت في مهارة الإمساك بالعدو.

فشرّد بهم: أي فرّق وبدّد جمعهم. والتشريد: الطرد، أي عاقبهم وبالغ بالقسوة عليهم وتعذيبهم.

ص: 98


1- . الأنفال: 55-58.

فانبذ: النبذ الطرح.

على سواء: أي على طريق واضح، لا خداع فيه ولا خيانة.

التفسير
وصف الطوائف الثلاث الناقضين للعهد

تحدّثت هذه المجموعة من الآيات عن الضوابط والمقرّرات التي تثبت الأمن في المجتمع الإسلامي عند كيد من لا عهد لهم من المشركين والكافرين.

وهم بين ناقض عهده، ومَن يترقّب منه النقض، فالآيات الثلاث الأُولى ناظرة إلى المنافقين والآية الأخيرة ناظرة إلى مَن يترقّب منه النقض.

أمّا الآية الأُولى فهي تصف هؤلاء الأعداء الذين لا خير فيهم دون أن تشير إلى أعيانهم بقوله سبحانه: (إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ ) أُريد من الشر من ليس فيه أي رجاء للخير، أي الإيمان (عِنْدَ اَللّهِ ) لا عند الناس وهم (اَلَّذِينَ كَفَرُوا) وصفهم بصيغة الماضي، وقال: (كَفَرُوا) مع أنّهم كانوا كافرين، ولكنّه سبحانه يخبر عن أنّهم عدلوا عن الإيمان إلى الكفر، وما ذلك إلّالأنّهم كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه و آله و سلم معتقدين بأنّه سبحانه سيبعث نبيّاً من جانبه مصدقاً لمَن قبله، على حدّ كانوا (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) (1)، بل كانوا: (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا) (2)، فلأجل تلك الحالة كانوا مؤمنين لكن (فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) بعد ما كانوا مؤمنين (فَلَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلْكافِرِينَ ) (3).

ص: 99


1- . البقرة: 146.
2- . البقرة: 89.
3- . البقرة: 89.

وبما أنّ الكفر صار راسخاً في طبيعتهم أخبر سبحانه بقوله: (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

فإن قلت: كيف يجتمع قوله سبحانه في هذه الآية في حقّ بني آدم مع قوله سبحانه في موضع آخر يصفهم بقوله: (وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (1).

قلت: الجواب واضح فلا شكّ أنّ الإنسان هو خليفة اللّه في الأرض وهو مكرّم بما له من فضائل الصفات وعظائم الأخلاق، فلو تجرّد عنها يصبح حيواناً ضارياً. فالإنسان الذي يعاهد ثم ينقض بلا سبب فهو إنسان صورة لا سيرة.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا وصفهم بشرّ الدواب بيّن وجهه في الآية التالية وهي تشير إلى الطوائف الثلاث من اليهود - أعني: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة - فقد عقدوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معاهدة تشتمل على بنود منها: أن لا يعينوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع (أي الخيل وغيرها من المراكب) في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار، واللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم.

وقد كتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكلّ قبيلة من هذه الطوائف الثلاث كتاباً على حدة على هذا الغرار، ثم وقّع عليها «حُيي بن أخطب» عن بني النضير، و «المخيريق» عن قبيلة بني قينقاع، و «كعب بن أسد» عن بني قريظة.(2)1.

ص: 100


1- . الإسراء: 70.
2- . بحار الأنوار: 110/19-111.

ومع ذلك كلّه فهذه الطوائف الثلاث جميعاً نقضوا معاهداتهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما هي مذكورة في كتب السيرة والتفاسير، بل يظهر على احتمال من الآية التالية أنّهم عاهدوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من مرّة ثم نقضوا عهدهم كذلك.

إذا عرفت ذلك فلننتقل إلى تفسير الآية الثانية.

قوله سبحانه: (اَلَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ) الظاهر أنّ «من» تبعيضية (وما يأتي من الأوصاف يدلّ على أنّ الضمير يرجع إلى أهل الكتاب القاطنين في المدينة) يذكر سبحانه خصيصتين لهؤلاء وكأنّ طينتهم خمرت بهما.

1. (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ) : أي أكثر من مرّة، وهل كان العهد مرّة والنقض متعدّداً أو كان كلّ متعدّداً؟ وجهان.

(وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ ) : أي لا يتّقون في نقض العهد، بل على وجه الإطلاق لا في مجال العهد ولا في غيره.

ويكفي في اهتمام الإسلام بحفظ العهد ما روي عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ثلاث لم يجعل اللّه عزّ وجلّ لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين».(1)

روى ابن عباس وقتادة أنّ المراد بهم بنوقريظة فإنّهم عاهدوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعُدّة يوم بدر، واعتذروا فقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه أن لا يعودوا بمثل ذلك، فنكثوا عهدهم يوم الخندق، ومالوا مع الأحزاب وأمدّوهم بالسلاح5.

ص: 101


1- . الكافي: 162/3، الحديث 15.

والأدراع.(1)

وحصيلة الكلام: أنّ الطوائف الثلاث نقضوا عهدهم فتعامل معهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم وفق ما أقرّوا به في المعاهدة.

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن نقض عهده وطائفة وراءه

لمّا عرّف الذكر الحكيم الناقضين للعهد، أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يتّخذ موقفاً شديداً تجاه مَن نقض عهده ومعه طوائف أُخرى يترقّب أن ينقضوا عهدهم، فأمره سبحانه أن ينكّل بهم متى ظفر بهم حتى يكونوا عبرة لمَن وراءهم يقول سبحانه في الآية الثالثة: (فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ ) : أي إنّك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفّار الذين ينقضون العهد (فَشَرِّدْ بِهِمْ ) : أي فرّق وبدّد جمعهم وعاقبهم عقاباً يؤثّر في (مَنْ خَلْفَهُمْ ) حتى يكونون سبباً لشرود مَن وراءهم من الأعداء وتفرّقهم كالإبل الشاردة(2)، أو يكون عبرة حتى لا ينقضوا العهد معكم من بعد، ويخافوا أن تتعامل معهم مثل تعاملك مع من قبلهم، ويدلّ على ما ذكرنا قوله:

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) : أي يذكروا ما حلّ بمن قبلهم من العقوبة.

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن يترقّب منه نقض العهد

قد عرفت ما هو موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن نقض العهد، بقي الكلام في مَن لم ينقض عهده ولم تظهر منه خيانة، ولكن القرائن تشهد على أنّهم بصدد نقض العهد، هذا ما تضمنت الآية الأخيرة لبيان حكمه فيأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأن يلقي إليهم ما

ص: 102


1- . تفسير الكشّاف: 131/2.
2- . تفسيرالمنار: 50/10.

بينه وبينهم من العهد، ويعلمهم بذلك، ليكونوا على علم بالنقض على استواء، كما يقول: (وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ) بمعنى ظهور بوارقها واتّصال أخبار تؤيّد ذلك ففي هذه الحالة (فَانْبِذْ) : أي فاطرح وألق (إِلَيْهِمْ ) المشركين، العهد الذي بينك وبينهم ولا تنتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون؛ لأنّ في انتظار ذلك خطراً على الأُمّة، وبما أنّ نقض العهد من جانب من دون إعلام الطرف الآخر على خلاف العدل، يأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأن يخبرهم على الطرح كما يقول: (عَلى سَواءٍ ) : أي نبذاً على سواء، أي على طريق واضح لاخداع فيه، وهذا أدلّ دليل على أنّ الإسلام ملتزم بأُصول الأخلاق ورعاية العدالة في مورد خصومه وأعدائه.

فإن قلت: إنّ اللّه سبحانه يصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (1) فكيف يرشده في هاتين الآيتين إلى التغليظ والتشديد؟

قلت: إنّ التشديد والتغليظ في مقابل العدو العنيد الذي نقض عهده غير مرّة أو بصدد النقض على نحو لو لم يعاقبه النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو لم يلغ عهده لتعرّض الإسلام إلى خطر داهم وكبير. وهذا ما يسوّغه العقل الحصيف.

فقوله: (إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ ) تعليل لقوله: (عَلى سَواءٍ ) فإنّ نقض العهد من جانب واحد على غفلة من الخصم، يُعدّ خيانة واللّه لا يحب الخائنين.07

ص: 103


1- . الأنبياء: 107

أحكام الجهاد

6. التعبئة والاستعداد التام للدفاع عن المجتمع المسلم

اشارة

قال سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

أعدّوا: الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل.

رباط: الحبل الذي تربط به الدابّة، وإذا أُضيف إلى الخيل وقيل: رباط الخيل:

أُريد حبسها واقتناؤها.

التفسير

الإسلام بما أنّه نظام شامل لكافّة جوانب الحياة، فلابدّ أن يؤسّس دولة تقوم بتطبيق شرائعه جميعاً، وأن تُرفرف رايته في كلّ نقاط العالم لينعم البشر كافة

ص: 104


1- . الأنفال: 60.

بالعدالة السماوية، وتعيش كافّة الشعوب تحت ظلّه، وهذا الكيان وهذه الدولة لابدّ لها من وسائل دفاع قوية تصونها من كيد الأعداء والخصوم.

واعطف نظرك إلى كافّة الموجودات الحيّة، تجد أنّها مجهّزة بآلات للدفاع عن نفسها من غير فرق بين صغيرها وكبيرها، الوحشي منها والأهلي، وذلك لأنّ استمرار التعايش بين الأقران والأعداء لا ينفك عن تزاحم وصراع، فاللّه سبحانه خلقها وجهزها بوسائل الدفاع، فالدين الإسلامي بمنزلة موجود حيّ أحاطت به أصناف من الأعداء، من عدو ظاهر إلى آخر خفي ومبطن للعداء، فلا يكتب للدولة البقاء، أمام الأعداء إلّابالاستعداد وتهيئة أدوات الدفاع، وقد أُثر عن بعض الحكماء أنّ كلّ عهد لم يكن مقروناً بالقوّة والقدرة فهو حبر على ورق؛ لأنّ الطرف الآخر إذا أحسّ بضعف المعاهد سوف ينقض عهده معه ويرفضه. فلذلك يأمر سبحانه المجتمع الإسلامي دون شخص النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقط بأُمور:

الأوّل: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ ) المشركين (مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) : أي ما قدرتم عليه ممّا يتقوّى به على القتال من الرجال وآلات الحرب، والجملة ضابطة تامّة تستدعي تهيئة ما هي القوة في كلّ عصر، فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: ألا أنّ القوّة الرمي، ألا أنّ القوّة الرمي، قالها ثلاثاً(1)؛ فإنّما هو إشارة إلى الآلة في عصره، وأمّا عصرنا هذا فليس عصر السيوف والرماح، والأقواس والنبال، بل هو عصر الدبابات والمدافع والطائرات والصواريخ والطائرات المسيّرة التجسّسية إلى غير ذلك، لو أُريد من الرمي بما هو وسيلة، يشمل أكثر الآلات الحربية الرائجة لأنّها تقوم على الرمي.ب.

ص: 105


1- . تفسير الدر المنثور: 83/4، وقد وردت بهذا المضمون روايات أُخرى في نفس الكتاب.

الثاني: قوله: (وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ ) من قبيل عطف الخاصّ على العام؛ لأنّ الرمي كان أداة بارزة عند المخاطبين بهذه الآية غير محتاج إلى الذكر ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين، لخاطبهم بمجهولات محيّرة، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

ثمّ إنّ الرباط حسب ما ذكره الراغب هو المكان الذي يخصّص لإقامة الخيل فيه وحفظها، وعلى هذا فالآية تخاطب المسلمين بأن يهيّئوا هذا المكان الذي تربط فيه الخيل لتكون مستعدّة للحرب والدفاع، فالدعوة إلى تهيئة الرباط دعوة إلى تهيئة المكان وما فيه.

نعم في «الكشّاف»: الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه.(1)

يلاحظ على ما ذكره الكشّاف: أنّه لو كان اسماً للخيل لاستغنى عن ذكر الخيل، وما ذكره في المفردات أوضح، وهنا احتمال ثالث أنّ الفقرة من مقولة إضافة الوصف إلى الموصوف، أي الخيل المربوطة في مكانها؛ وروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة».(2) ولعل الآية تدلّ على أنّ الدولة الإسلامية يجب أن تنشأ معسكرات أو مخيّمات في أماكن مختلفة يتدرّب فيها الفرسان للركوب على الخيل والدفاع عن حدود الدولة وكيانها.

الثالث: قوله: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ ) هذا هو الواجب الثالث للمجتمع الإسلامي، وهو أنّ الغاية من إعداد القوة ورباط الخيل هو إدخال الرهبة4.

ص: 106


1- . تفسير الكشّاف: 132/2.
2- . تفسير الدر المنثور: 91/4.

في قلوب أعداء اللّه وأعداء المسلمين، ثم إنّه سبحانه يقسّم الأعداء إلى قسمين:

1. مَن يعرفهم كمشركي قريش.

2. (وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ ) : أي مشركي مكّة (لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ ) ، فعلى هذا فأعداء الإسلام على قسمين: نوع ظاهر يعرفهم المسلمون، ونوع آخر لا يعرفون عداءهم؛ وأمّا مَن هو الصنف الثاني من الأعداء فلعلّه أُريد الدول الكافرة القوية آنذاك كالفرس والروم.

ثمّ إنّ في إيجاد الرهبة نوع صيانة لدماء الإنسان الموافق والمخالف، فإنّ العدو إذا خاف من قدرة المسلمين لما تجاوز حدّه، وهذا دليل على رحمة الإسلام ومحافظته على دماء البشر جميعاً.

الرابع: قوله: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) لا يخفى أنّ تهيئة الأُمور المتقدّمة بحاجة إلى ميزانية مالية يجب على المؤمنين الإنفاق في هذا الطريق، وهذا ما وصفه سبحانه بالإنفاق في سبيل اللّه، فالقوة الرادعة رهن مال يتكفّل بحاجاتها، فقوله: (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) بمعنى يعود عليكم بتمامه، ولعلّ الفقرة من أدلّة تجسّم الأعمال، فما أنفقه في سبيل اللّه في الحياة الدنيا يتمثّل له في الآخرة بالجنة ونعمها، ثمّ إنّه سبحانه (وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) الظلم هنا بمعنى النقص أي لا ينقص شيء ممّا أنفقتم في الدنيا، نظير قوله سبحانه: (كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (1) أي لم تنقص.3.

ص: 107


1- . الكهف: 33.

أحكام الجهاد

7. الصلح في ظروف خاصّة

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ) .(1)

المفردات

جنحوا: مالوا.

السلم: الاستسلام بعد الحرب.

التفسير

إنّ الدين العالمي الذي أنزله اللّه سبحانه لإسعاد البشر إلى يوم القيامة لا يمكن أن يتجهّز بقانون واحد وهو قانون الحرب والدفاع كما لا يمكن أن يحكم مستمراً بقانون السلم والاستسلام، فإنّ الظروف تختلف حسب اختلاف المصالح فلازم الخاتمية وكون الإسلام ديناً عالمياً هو وجود القانون لكلّ ظروف وشرائط.

ولذلك لمّا أمر في الآية السابقة بتهيئة لوازم الحرب مهما تمكّنوا، أمر المسلمين

ص: 108


1- . الأنفال: 61.

في هذه الآية بقبول السلم إذا مال إليه العدو وقال: (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ) : أي الاستسلام (فَاجْنَحْ لَها) : أي أمل مثلهم، وقد أمر الإمام عليه السلام والي مصر بالصلح عند وجود شرائطه وقال: «وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ وَلِلّهِ فِيهِ رِضًى، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ ، وَأَمْناً لِبِلَادِكَ ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ ، وَاتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ »(1). وتأنيث الضمير في «لها» إمّا باعتبار السلامة، أو باعتبار كونها مؤنثاً سماعياً كضدها، أعني: الحرب، يقول الزمخشري: السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب، ثم استشهد بالبيت التالي:

السلم تأخذ منها ما رضيت *** به والحرب يكفيك من أنفاسها جُرع(2)

وعلى ما ذكرنا فالآية غير منسوخة بقوله: (قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) (3) و لا بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (4)، بل لكلّ مورد خاص حسب ما يراه الإمام من حرب أو سلم، ويشهد على ما ذكرنا أنّ قوله:

(فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ ) نزلت في سنة تسع، وبعث بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة، ثم صالح بعد ذلك أهل نجران على ألفي حلّة في صفر، وألف في رجب.(5)

وربما يتصوّر وجود الاختلاف بين الآية وما في قوله سبحانه: (فَلا تَهِنُوا5.

ص: 109


1- . نهج البلاغة: الخطبة 53.
2- . تفسير الكشّاف: 133/2.
3- . التوبة: 29.
4- . التوبة: 5.
5- . التبيان في تفسير القرآن: 150/5.

وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّهُ مَعَكُمْ )(1). فقوله: (وَ تَدْعُوا) معطوف على (فَلا تَهِنُوا) : أي لا تتوانوا ولا تضعفوا عن القتال ولا تدعوا الكفّار إلى المسالمة والمصالحة وأنتم القاهرون الغالبون.

والجواب واضح وهو أنّ قوله: (فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ ) ناظر إلى خصوص الحالة التي يحكي عنها قوله: (وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ ) فإنّ الدعوة إلى الصلح في هذه الحالة أي حالة علوّكم وضعف عدوّكم، يضركم وينفع عدوكم. بخلاف غير هذه الحالة فإنّ الصلح ربما ينفع كما في صلح الحديبية.

ثمّ إنّه أتمّ الآية بقوله: (وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ ) : أي فوّض أمرك إلى اللّه في الحرب والسلم (إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ) الذي لا تخفى عليه خافية.

والأمر بالتوكّل في كلتا الحالتين لغاية أنّ الواجب على المسلم إعداد ما يتمكّن منه في حالتي الحرب والسلم ولكن يجب أن يعتقد بأنّ ماهيّته من قبيل العلل الاعدادية والمقتضيات وليست علّة تامّة للنصر، بل النصر من عند اللّه سبحانه فيفوض ما لم يتمكّن منه إلى اللّه سبحانه.

بقيت هنا نكتة وهي: أنّه سبحانه خاطب المسلمين في الآية السابقة بقوله: (أَعِدُّوا) ، (تُرْهِبُونَ ) و (وَ ما تُنْفِقُوا) ولكنّه في هذه الآية خصّ الخطاب بالنبي وقال: (فَاجْنَحْ لَها) مشعراً بأنّ أمر الدفاع حرباً أو سلماً بيد النبي صلى الله عليه و آله و سلم والقائد، فهو الذي يتّخذ القرار النهائي في هذه الظروف، وأنّ هذه الأُمور العظيمة بيد الحاكم الأعلى.5.

ص: 110


1- . محمد: 35.

أحكام الجهاد

8. الصلح بين طائفتين مسلمتين

اشارة

قال تعالى: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ) .(1)

المفردات

بغت: بغى عليه: استطال عليه وظَلَمهُ .

فاءت: رجعت.

أقسطوا: إعدلوا.

التفسير

تتكفّل الآية ببيان أحكام ثلاثة تضمن حماية الإنسان في دمه وعرضه، بالصلح أوّلاً، وقتال المتجاوز بعد الصلح ثانياً، ثم التصالح إن رجع عن البغي ثالثاً.

أمّا الحكم الأوّل: فيشير إلى أنّه لو حدث خصام وقتال بين طائفتين من

ص: 111


1- . الحجرات: 9.

المؤمنين فعلى سائر المؤمنين السعي للمصالحة بينهما صوناً للدماء من أن تُسفك، وحفظاً لوحدة الكلمة وجمع الشمل، ولذلك ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة»؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إصلاح ذات البين»(1). وعليه قال سبحانه: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) .

ثم إنّ التعبير بضمير الجمع في (اِقْتَتَلُوا) مع كون المرجع هو التثنية - أعني: (طائِفَتانِ ) - باعتبار المعنى، فإنّ كلّاً من الطائفتين تضمّ جمعاً من الناس.

وفي وصية الإمام علي للحسن والحسين عليهم السلام بعد أن ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه)، قال: «أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللّهِ ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا صلى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ : «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ».(2)

وأمّا الحكم الثاني - أعني: لزوم حماية الإنسان في عامّة شؤونه -: فهو محدّد بعدم تجاوز العدل والإنصاف، وإلّا فلو تجاوزهما فقد هتك حرمته وضيّع كرامته، ولذلك يجب ردعه ودفعه إلى حدّ العدل كما يقول سبحانه: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى ) : أي استطالت وتجاوزت على أُختها (فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي) تتجاوز وتعتدي (حَتّى تَفِيءَ ) ترجع (إِلى أَمْرِ اَللّهِ ) إلى ما أمر به اللّه تعالى.

وأمّا الحكم الثالث: فإنّ القتال مع الطائفة المعتدية محدّد برجوعها إلى أمر اللّه (فَإِنْ فاءَتْ ) إلى أمر اللّه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) : أي بإجراء أحكام اللّه على7.

ص: 112


1- . مسند أحمد: 444/6.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.

المعتدي على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، دون الاكتفاء بوضع السلاح وترك القتال والحيلولة بينهما.

ثم أمر سبحانه بانتهاج سبيل العدل في كلّ ما يأتون به من قول أو فعل وقال: (وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ) .

الظاهر أنّ مورد الآية، هو قتال طائفتين من المسلمين لأُمور دنيوية أو غيرها من دون خروجهما على الإمام المفترض طاعته، ففي هذه الصورة يدخل الإمام أو نائبه في أمرهما بالدعوة إلى التصالح أوّلاً، وقتال المتجاوز بعد الصلح ثانياً، وعلى هذا فالآية لا صلة لها بقتال البغاة المصطلح في الفقه، أعني: الخارج عن طاعة الإمام، فالاستدلال بالآية على المورد الثاني، غير تام إلّابالملاك، ولذلك جعلنا عنوان البحث الصلح بين طائفتين من المسلمين، فالبغي الوارد في الآية أُريد به المعنى اللغوي، لا البغي المصطلح، أعني: الخروج على الحاكم الشرعي.

قتال البغاة

الحكومة الإسلامية تقاتل فئتين:

1. الفئة الباغية حتى تفيء.

2. الفئة الكافرة حتى تُسلم.

فمَن خرج على إمام عادل وحاربه، وجب قتاله، لما أوجب اللّه تعالى من طاعة أولياء أمره في محكم كتابه حيث يقول: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1)، وقد أجمع أهل القبلة على فسق محاربي

ص: 113


1- . النساء: 59.

أئمة العدل وفجورهم بما يرتكبونه.(1)

وانطلاقاً من هذه القاعدة قاتل الإمام علي عليه السلام (ومعه أجلّاء المهاجرين والأنصار) البغاة من الناكثين والقاسطين والمارقين في وقائع: الجمل وصفّين والنّهروان. قال الإمام الصادق عليه السلام: «كان في قتال عليّ أهل القبلة بركة، ولو لم يقاتلهم عليّ عليه السلام لم يدر أحد بعد كيف يسير فيهم».(2)

فإن قلت: فلو كان التصالح بين الطائفتين المسلمتين أمراً وفريضة على الآخرين لزم من ذلك دعوة الخوارج علياً إلى التصالح مع معاوية أمراً موافقاً للكتاب العزيز، فلماذا امتنع علي من قبول التصالح إلّابعد الضغط من جانب جماعة من عسكره والذين صاروا بعد ذلك خوارج.

قلت: قد مرّ أنّ مصب الآية هو قتال طائفتين كلتيهما من المؤمنين المطيعين لإمامهم، غير باغين على ولي أمرهم، ففي هذا الموقف يجب على المسلمين دعوتهما إلى التصالح وإيقاف الحرب والتعامل معهم بالعدل.

وأمّا الحرب في أرض صفين فلم يكن بين طائفتين مسلمتين لإمامهم، بل كانت أحدى الطائفتين باغية خارجة عن إطاعة إمامهم الذي اتّفق المهاجرون والأنصار على إمامته وبايعوه، ففي هذا الموقف يجب على المسلمين الالتحاق بالصف الذي فيه الإمام لا التأكيد عليه بالصلح، فإنّ الصلح في هذا المقام مضر وداخل في قوله سبحانه: (فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ ) (3)، إذ كان5.

ص: 114


1- . النصرة لسيد العترة في حرب البصرة للشيخ المفيد: 92-93. وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي الشافعي: 54-57.
2- . الوسائل: 12، الباب 26 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 4.
3- . محمد: 35.

علي على مقربة من القضاء على العدو الباغي وجيشه، فالصلح في هذا الزمان أمر محكوم، غير أنّ رفع المصاحف من البغاة صار سبباً لاغترار طائفة من جيش علي بأنّ هؤلاء يريدون الصلح والعمل بالقرآن الكريم، وما دروا أنّهم تذرّعوا بهذا العمل ليسلموا من الموت المحقّق بعد أن بدت هزيمتهم النكراء ظاهرة للعيان.

وقد أثبت التاريخ أنّ الدعوة للتصالح كانت لعبة مكشوفة وخداعاً من أخدع الخادعين، أعني: عمرو بن العاص.

ثمّ إنّ البحث عن البغاة في المقام، بحث جانبيّ لا صلة له بالآية كما مرّ.

***

ص: 115

أحكام الجهاد

9. حرمة المبادرة إلى التكفير بلا دليل

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(1)

المفردات

ضربتم: الضرب: إيقاع شيء على شيء، والضرب في الأرض الذهاب فيها وضربها بالأرجل.

ألقى إليكم السلام: حيّاكم بتحيّة أهل الإسلام.

عرض: ما لا يكون له ثبات، ولذلك يقال: إنّ الدنيا عرض حاضر.

مغانم: نعم وفواضل كثيرة.

شأن نزول الآية

اختلف المفسّرون في شأن نزول الآية والمعروف أنّها نزلت في أُسامة بن

ص: 116


1- . النساء: 94.

زيد وأصحابه، بعثهم النبي في سرية فلقوا رجلاً قد انحاز بغنم على جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلّااللّه محمد رسول اللّه، فبدر إليه أُسامة فقتله واستاقوا غنمه؛ عن السدّي.

وروي عن ابن عباس وقتادة أنّه لمّا نزلت الآية حلف أُسامة ألا يقتل رجلاً قال لا إله إلّااللّه، وبهذا اعتذر إلى عليّ لمّا تخلّف عنه، وإن كان عذره غير مقبول؛ لأنّه قد دلّ الدليل على وجوب طاعة الإمام في محاربة مَن حاربه من البغاة، لا سيّما وقد سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «حربك يا علي حربي وسلمك سلمي».(1)

ورواه أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه بنحو أبسط ممّا ذكر كما يلي:

حدّثنا أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سرية إلى الحرُّمات، فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً فلمّا غشيناه قال: لا إله إلّااللّه، فضربناه حتى قتلناه، فعرض في نفسي من ذلك شيء فذكرته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «مَن لك بلا إله إلّااللّه يوم القيامة ؟» قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّما قالها مخافة السلاح والقتل، فقال: «ألا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك أم لا؟ مَن لك بلا إله إلّااللّه يوم القيامة ؟» قال: فما زال يقول ذلك حتى وددت أنّي لم أُسلم إلّايومئذٍ.(2)

وقريب منه ما ذكره الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في قضية ذي الخويصرة، حيث اعترض عليه بقوله: اعدل، فعندئذٍ ثارت ثورة مَن كان في المجلس منهم خالد بن الوليد، قال: يا رسول اللّه، ألا أضرب عنقه ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فلعلّه يكون9.

ص: 117


1- . مجمع البيان: 190/3.
2- . مسند أحمد: 187-188، الحديث 21861؛ صحيح البخاري: 64، الباب 45، الحديث 4269.

يصلّي» فقال: إنّه رب مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي لم أُؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشقّ بطونهم».(1)

وبعد أن عرفت شأن نزول الآية نعود إلى تفسيرها.

التفسير

وجوب الاحتياط في الدماء

لمّا حذّر سبحانه قبل هذه الآية من قتل المؤمن، وأنّ قتله جريمة كبيرة تستتبع عواقب ثقيلة، جاء البيان القرآني يعلّم المسلمين بأنّه لا يجوز لهم قتل إنسان أظهر الإسلام بظن أنّه كافر أو منافق، فإظهاره الإسلام حصن يصونه عن القتل ما لم يعلم أنّه مهدور الدم، يقول: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) للغزو والجهاد (فَتَبَيَّنُوا) : أي تثبّتوا حتى تميّزوا بين الكافر والمؤمن، فالضابطة الكلّية في كلّ إنسان تلقونه هو الحكم بكونه محقون الدم ومصونه ما لم يثبت خلافه، خصوصاً إذا أظهر الإسلام كما يقول: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ ) : أي حيّاكم بتحية أهل الإسلام أو مَن استسلم إليكم، فليس عليكم أن تقابلوه بقولكم: (لَسْتَ مُؤْمِناً) : أي أظهرت الإسلام وأخفيت الكفر. ثمّ إنّ الغاية لاتّهامه بالكفر هو الاستيلاء على ماله، كما يقول: (تَبْتَغُونَ ) : أي تطلبون (عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا) : أي مغانمها التي لا يكون لها ثبات، وإن كنتم تطلبون الغنائم (فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) في جنته.

ص: 118


1- . صحيح مسلم: 171/7، برقم 1064؛ مسند أحمد: 10/4، برقم 11008؛ صحيح البخاري: 111/5، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجّة الوداع.

ثمّ أتمّ الآية بقوله: (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) : أي كنتم تبتغون عرض الحياة الدنيا من قبل أن تدخلوا خيمة الإسلام وتؤمنوا باللّه ولكن (فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ ) بالإيمان الذي يبتغى منه ما عند اللّه من المغانم وينصرف عن متاع الدنيا، فعلى هذا فالواجب عليكم أن تتبيّنوا وتتثبتوا في أفعالكم (فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .

هذا هو مفاد الآية، والحقيقة أنّها هي العلاج الكامل لما تعانيه الأُمّة الإسلامية من فتن وبلايا ومصائب في هذه الأيام، حيث نرى أنّ ظاهرة التكفير وما يترتّب عليها من مجازر تنمو في بلادنا، وينتشر شررها إلى أكناف الدنيا وأطرافها.

ولكن فرق بين ما قام به أُسامة بن زيد ومن معه، وما تقوم به العصابات التكفيرية في هذه الأيام. فإنّ عمل أُسامة كان عملاً جزئياً موضعياً، وقد هدّده النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقد ندم على عمله حتى قال: «وددت أنّي لم أُسلم إلّايومئذ»، وأمّا ظاهرة التكفير في أيامنا هذا فيحمل شعارها قوم وراءهم الاستكبار العالمي حيث يمدّونهم بالمال والسلاح، لضرب المسلمين ومنشآتهم حتى تصبح البلاد الإسلامية بلاداً جرداء وقوماً جوعى، ليس لهم من الحضارة إلّاالفقر والفاقة.

وممّا يؤسف له أنّ هؤلاء يدّعون أنّهم يحكمون باسم الإسلام وباسم نبي الرحمة الذي قال: «إنّ الرفق لا يكون في شيء إلّازانه، ولا يُنزع من شيء إلّا شانه».(1)، فهاهم يقتلون الأبرياء والعُزّل من الناس أطفالاً وشيوخاً ونساء ويقومون بجرائمهم وهم يكبّرون ويصلّون على النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي يصفه سبحانه بقوله: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ ب.

ص: 119


1- . صحيح مسلم: 22/8، كتاب البر والصلة والآداب.

حَوْلِكَ ) (1) ، ويدّعون رفع لواء الجهاد في سبيل نصرة الدين ومواجهة أعدائه، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويحرقون الحرث والزرع، ويدّمرون المنشآت الاقتصادية، بل يخرّبون كلّ شيء؟! مع أنّ البخاري يروي عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلّاارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».(2) وروى الترمذي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لاعن المؤمن كقاتله، ومَن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله».(3)

وفي نهاية المقام أقول: إنّ أقل ضرر أُصيب به الإسلام هو أنّ بدعة التكفير على النحو الذي تبثّه الفضائيات صار حائلاً بين الغربيين وبين اعتناقهم الدين الإسلامي الحنيف، وكفى بذلك خسارة عظيمة.

***

تمّ كتاب الجهاد

بفضل اللّه سبحانه4.

ص: 120


1- . آل عمران: 159.
2- . صحيح البخاري: برقم 6045.
3- . سنن الترمذي: 132/4.

الفصل الثامن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذكر الحكيم

اشارة

1. ما يدلّ على وجوب الفريضتين.

2. هل الفريضة واجب عيني أو كفائي ؟

3. الفريضتان في الشرائع السالفة.

4. في شروط النهي عن المنكر.

5. حكم التقية في الذكر الحكيم.

ص: 121

ص: 122

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اتّفق المسلمون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرعاً، والمسألة لها صبغة كلامية، وفي الوقت نفسه هي مسألة فقهية، ووجه كونها كلامية هو أنّ أهل السنّة بنوا وجوب نصب الإمام بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عليها.(1)

وقالوا: بما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب، وما يقوم به الواجب - وهو نصب الإمام - واجب. وبذلك صارت مسألة الإمامة عندهم من فروع هذه المسألة.

ولكنّ الشيعة ينظرون إليها بنظرة كونها أصلاً فرعياً كسائر الفروع، ومع ذلك ترى أنّ المحقّق الطوسي قد طرح القاعدة في آخر التجريد في مبحث المعاد.

وبما أنّ الفريضتين يُعدّان نوعاً من الجهاد، جعلنا البحث فيهما ذيلاً له، ووجه كونهما من أقسام الجهاد، أنّ في الأمر بالمعروف طريقاً لإصلاح المجتمع وفي النهي عن المنكر إنقاذاً من الوقوع في الفساد.

وقد وردت في الذكر الحكيم آيات تحثّ المسلمين على إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نذكرها تباعاً.

ص: 123


1- . لاحظ: المواقف لعضد الدين الإيجي: 396؛ وشرح المواقف للسيد الشريف: 346/8؛ وشرح المقاصد للتفتازاني: 236/5.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

1. ما يدلّ على وجوب الفريضتين

الآية الأُولى:

اشارة

قال سبحانه: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ) .(1)

المفردات

مكنّاهم: جعلنا لهم الملك والسلطة في البلاد.

المعروف: كلّ فعل حسن.

المنكر: كلّ فعل قبيح.

التفسير

قوله تعالى: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ) وصف للموصول الوارد في الآية المتقدّمة عليها، أعني قوله: (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ) فهؤلاء هم (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ) : أي إن جعلنا لهم الملك والسلطان في البلاد، قاموا بأُمور أربعة:

ص: 124


1- . الحج: 41.

1. (أَقامُوا اَلصَّلاةَ ) لعلّه أُريد دعوة الناس إلى الصلاة، إذ فرق بين القول:

يصلّون وبين قوله: (أَقامُوا اَلصَّلاةَ ) ، وربّما يفسر بإتيانها بتمام شرائطها وآدابها، وعلى كلّ تقدير فهي صلة الناس بينهم وبين اللّه تعالى.

2. (وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ ) التي هي صلة السلطة بينها وبين الناس، فهؤلاء لا تدفع بهم القدرةُ إلى اللّهو واللعب، بل إلى العبادة وسدّ خلّة الناس.

3. (وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ) : أي أشاعوا المعروف بين الناس بتبليغه.

4. (وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ) الذي يُفسد المجتمع.

والأخيران دعامتان قويّتان لبناء مجتمع إلهي، إذ بهما يتقوّم سلوك الناس وتشرق حياتهم بالاستقامة.

وفي نهاية الآية يقول سبحانه: (وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ) : أي مرجع الأُمور إلى حكمه تعالى وتقديره، وفيه تأكيد لوعده سبحانه بنصر المؤمنين وخذلان أعدائهم، وقال سبحانه في موضع آخر: (وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (1).

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ ) .(2)

ص: 125


1- . الأعراف: 128.
2- . آل عمران: 110.
المفردات

كنتم: ذكر المفسرون فيه وجوهاً، أظهرها أنّه مجرّد عن الزمان، فالمعنى:

وجدتم، وبتعبير آخر أنتم خير أُمّة.

أُخرجت: الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالى: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (1): أي بصوغه عجلاً جسداً. ومنه يُعلم معنى قول المحدّثين: (أخرج فلان عن ابن عباس) أي أظهر الحديث منه.

الفاسقون: الفسق: الخروج، يقال: فسقت التمرة أي خرجت عن غلافها، وأُريد الخارجون عن الطاعة، ويشمل الكافر والمسلم العاصي.

التفسير

قوله سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ) : أي أنتم خير أُمّة ظهرت للناس عبر قرون مضت، وذلك لأنّكم متحلّون بصفات ثلاث:

1. (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) : أي ما هو جميل عقيدة وعملاً.

2. (وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) : أي كلّ ما هو مرغوب عنه عقلاً وعرفاً.

3. (وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) إيماناً حقيقياً، منزّهاً عن التشبيه والتجسيم.

ثمّ هل المراد أهل العصر النبوي ؟ فيكون الصحابة أفضل أُمّة من الأُمم مع رسولها، أو أنّها خطاب لكلّ المسلمين عبر الزمان ؟ الظاهر هو الثاني لأنّ الخطابات القرآنية من قبيل القضايا الحقيقية، لا تختصّ بزمان دون زمان، نظير الخطابات الواردة في الكتب المؤلّفة. وعلى ذلك فالأُمّة الإسلامية عبر القرون بما

ص: 126


1- . طه: 88.

أنّ القائمين فيها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر من سائر الأُمم، فقد فُضلوا بذلك. ويدلّ على ذلك (أنّهم أكثر بالقيام بالفريضتين من سائر الأُمم وبالأخصّ من اليهود) قوله سبحانه: (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) (1): أي لم يكن ينهى بعضهم بعضاً، ولا ينتهون أي لا يكفّون عمّا نهوا عنه، وقال سبحانه: (لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ ) (2).

نعم ربما يوجد بينهم مَن يقوم بهاتين الوظيفتين كما هو الحال في أصحاب السبت حيث جاء فيها: (وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (3) فالآية تدلّ على وجود مَن كان يعظ القوم وينهاهم لكن كانوا أقلّية. وأمّا الأُمّة الإسلامية فالأمر بالمعروف كان أمراً شاخصاً حيث إنّ قسماً منه قائم بهذا الأمر بالسلطة والقوّة.

ثمّ إنّ الجمل الثلاث (تَأْمُرُونَ ) ، (تَنْهَوْنَ ) ، (تُؤْمِنُونَ ) إخبار لغرض الإنشاء، أي يجب على الأُمّة تلك الأُمور، ولذلك عدّت الآية من دلائل وجوب الأمرين.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ

ص: 127


1- . المائدة: 79.
2- . المائدة: 63.
3- . الأعراف: 164.

بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) .(1)

المفردات

منكم: يحتمل أن تكون «من» للتبيين كما يحتمل أن تكون للتبعيض، ولذلك سبّب الاختلاف في معنى لفظة «من» الاختلاف في أنّ الأمر بالمعروف واجب على الأعيان أو على جمع خاص.

أُمّة: مشتق من «الأَم» الذي هو القَصد، وفي اللغة تستعمل على وجوه، وأُريد هنا الجماعة التي يجمعها غرض واحد.

المعروف: اسم لكلّ فعل يُعرف بالعقل أو بالشرع حُسنه. والأولى تبديل «فعل» إلى «شيء» ليشمل العقيدة والمعارف.

المنكر: ما ينكر بالعقل أو بالشرع.

التفسير

هذه الآية على خلاف الآية السابقة، تخصّص الدعوة إلى الخير بجماعة، فتقول: مكان: (خَيْرَ أُمَّةٍ ) ، (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ) ، وستوافيك كيفية الجمع بين مفاد الآيتين. ثمّ إنّ التكليف المتوجّه إلى هذه الجماعة عبارة عن الأُمور التالية:

1. (يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ) ولعلّه أمر جامع بين الأمرين الأخيرين، أعني:

2. (وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) : أي يُرغّبون في فعل كلّ فعل ينبغي أن يفعل أو أمر يعتقد.

ص: 128


1- . آل عمران: 104.

3. (وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) : أي يُرغّبون في ترك ما لا ينبغي فعله.

ثمّ إنّ قوله: (وَ أُولئِكَ ) : أي القائمون بهاتين الفريضتين الكبيرتين (هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) في الدنيا والآخرة، أمّا الدنيا حيث إنّ صلاح الفرد لا ينفكّ عن صلاح المجتمع. وأمّا الآخرة فلأنّهم مأجورون ومثابون.

ص: 129

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

2. هل الفريضة واجب عيني أو كفائي ؟

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل: كيف يمكن الجمع بين الآيتين فالآية المتقدّمة (الحج: 40) جعلت الأمرين من وظائف المجتمع كلّه، والآية الثانية (آل عمران: 110) جعلتهما من وظائف مجموعة معيّنة ؟

وبعبارة أُخرى: الآية الأُولى تدلّ على كونهما من وظائف الأعيان، والآية الثانية تدلّ على أنّها وظيفة جمع خاص.

الجواب: الجمع بين الآيتين واضح لأنّ قسماً من الفريضتين من وظيفة الأعيان كالإنكار في القلب والإرشاد باللسان، وقسم منهما من وظائف الحكومة الإسلامية، كإجراء الحدود، ومنع المتجرّئ من التمادي في المعصية.

فالآية الأُولى ناظرة إلى القسم الأوّل وهي وظيفة الأعيان، والآية الأُخرى ناظرة إلى القسم الثاني، فإنّ إجراء الحدود من وظائف مجموعة خاصّة، أعني: مَن له السلطة أي الحكومة؛ ويؤيّد ذلك ما رواه مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول، وسُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأُمّة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولِمَ؟ قال: «إنّما هو على القوي المطاع، العالم

ص: 130

بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيّ من أيّ يقول من الحقّ إلى الباطل، والدليل على ذلك كتاب اللّه عزّ وجلّ : (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) فهذا خاصّ غير عام، وكما قال اللّه عزّ وجلّ : (وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ ) (1) ولم يقل: على أُمّة موسى ولا على كلّ قومه، وهم يومئذٍ أُمم مختلفة».(2)

فإن قلت: أي فرق بين القول بوجوبهما على الأعيان أو على جمع خاص، وبين القول بوجوبهما عيناً أو كفاية، فهل هنا مسألتان أو مسألة واحدة بتعبيرين ؟

قلت: هنا مسألتان لكلّ ملاكها، فإنّ محور البحث في المسألة الأُولى هو توجّه التكليف إلى عامّة المكلّفين، أو فريق خاص منهما كأصحاب السلطة والقدرة، وهذا ما يعبّر عنه بوجوبهما على الأعيان أو على فريق خاص.

ثم لو قلنا بوجوبها على الأعيان في غير ما يجب على أصحاب السلطة والقدرة، تطرح مسألة أُخرى، وهي هل وجوبهما عيني، بحيث يطلب من كلّ مكلّف وإن قام به الآخر كالصلاة والصوم ؟ أو على نحو لو قام به الآخر وحصل الغرض يسقط التكليف عن الآخرين، وهذا يعبّر عنه بالوجوب العيني أو الكفائي ؟ فالمسألة الثانية من شؤون القول بوجوبها على الأعيان.

ذهب الشيخ الطوسي في «الاقتصاد» إلى أنّهما من فروض الأعيان،(3) أي يجب على كلّ المكلّفين ولا يسقط وجوبهما بفعل الآخرين، واختاره ابن7.

ص: 131


1- . الأعراف: 159.
2- . الوسائل: 10، الباب 2 من كتاب الأمر والنهي، الحديث 1.
3- . لاحظ: الاقتصاد: 147.

حمزة(1)، وحُكي عن السيد المرتضى أنّهما من فروض الكفاية.(2)

واستدلّ القائلون بأنّهما من فروض الأعيان بالعمومات المتوجّهة إلى عامّة الناس، نظير قوله سبحانه: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ) .(3)

أقول: الحقّ التفصيل، فإنّ للأمر بالمعروف مراتب:

1. إنكار المنكر بالقلب وتحريم الرضا به ووجوب الرضا بالمعروف. روى الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «حسب المؤمن غيراً إذا رأى منكراً أن يعلم اللّه عزّ وجلّ من قلبه إنكاره».(4)

لا شكّ أنّه واجب عيني لا يسقط بفعل الآخرين.

2. الأمر والنهي باللسان، فقد تضافرت الروايات على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً) (5) كيف نقي أهلنا؟ قال:

«تأمرونهم وتنهونهم».(6)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «مَن ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت الأحياء».(7)4.

ص: 132


1- . لاحظ: الوسيلة: 107.
2- . لاحظ: مختلف الشيعة: 457/4.
3- . الحج: 41.
4- . الوسائل: 11، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
5- . التحريم: 6.
6- . الوسائل: 11، الباب 9 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.
7- . الوسائل: 11، الباب 9 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 4.

لا شكّ أنّه واجب كفائي إذا قام به شخص، سقط عن الآخرين، نعم لو قامت القرينة على أنّ مرتكب المنكر ربما لا ينتهي إلّاإذا تضافر الأمر أو النهي، فيكون واجباً عينيّاً على الآخرين.

السؤال الثاني: إنّ دلالة هذه الآيات على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمر واضح، إلّاأنّه ربما يتصوّر التعارض بينها وبين الآية التالية، أعني قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1).

الجواب: أنّ الآية ليس لها صلة بالموضوع فإنّها ناظرة إلى أنّ لكلّ شخص حساباً خاصّاً ولا يحاسب بعمل غيره كما في آية أُخرى: (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (2)، فيوم القيامة يحاسب كلّ إنسان حسب عمله، فأين ذلك من وجوب الأمر بالمعروف وكبح جماح الفاسق عن التظاهر بالمعصية ؟

وبعبارة أُخرى: إنّ الآية ناظرة إلى المجتمعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف، فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك، وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد، وإليه يُشير قوله سبحانه: (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ ) (3).

ويؤيّد ذلك قول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء» فقيل: يا رسول اللّه مَن الغرباء؟ فقال: «الذين يصلحون إذا5.

ص: 133


1- . المائدة: 105.
2- . الأنعام: 164.
3- . المائدة: 105.

أفسد الناس من بعدي سنّتي».(1)

السؤال الثالث: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينافي الحرية التي هي من أماني الشعوب المتحضّرة ؟

والجواب: أنّ الحرية على قسمين:

1. الحرية المنتهية إلى الفوضى في المجتمع من دون اعتراف بقانون بشري أو سماوي، فهذا النوع من الحرية مرفوض عقلاً وشرعاً لأنّه أشبه بالحرية السائدة في الغابة.

2. الحرية المحدّدة بالقوانين، وهذه هي أُمنية كلّ إنسان متحضّر، لكن الأمر بالمعروف لا ينافي تلك الحرية، بل هو دعوة للعمل بالقانون ودعوة عامّة الناس للالتزام به، ولا تجد على البسيطة مَن يكون حرّاً من جميع الجهات، وإلّا يكون وضع القوانين أمراً لغواً، ولذلك نرى أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم يشبّه المجتمع بسفينة ذات طبقتين وبين أهلها تخاصم فيريد سكان الطبقة السفلى ثقب تلك الطبقة من السفينة بحجة أنّهم يثقبون ما يتعلق بهم، فقال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ هؤلاء: «فإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً».(2)

وفي رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلّا عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة».(3)1.

ص: 134


1- . سنن الترمذي: 129/4؛ جامع الأُصول: 212/10.
2- . مسند أحمد: 268/4.
3- . الوسائل: 11، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي، ذيل الحديث 1.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

3. الفريضتان في الشرائع السالفة

يظهر من غير واحدة من الآيات وجود الفريضتين في الشرائع السابقة نذكر منها ما يلي:

1. يصف سبحانه النبي إسماعيل عليه السلام بقوله: (وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (1).

2. يحكي سبحانه عن لقمان الحكيم أنّه يوصي ابنه بالأمر بالمعروف ويقول: (يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ) (2).

3. يصف سبحانه قسماً من أهل الكتاب بقوله: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ ) .(3)

ص: 135


1- . مريم: 54-55.
2- . لقمان: 17.
3- . آل عمران: 113-114.

4. يصف سبحانه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بصفات مختلفة ويعرّفه بقوله:

(اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ) من له هذه الصفات:

أ. (اَلرَّسُولَ ) ب. (اَلنَّبِيَّ ) ، ج. (اَلْأُمِّيَّ ) .

د. (اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ ) .

ه. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) .

و. (وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ ) .

ز. (وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) .(1)

إلى هنا تمّت دراسة الآيات التي يستفاد منها الوجوب.

بقي هنا بحث آخر وهو دراسة شرائط وجوب الأمر والنهي، إلّاأنّها غير مذكورة في الذكر الحكيم، وإنّما ذكرها الفقهاء في كتبهم، والمتكلّمون في فصل المعاد، ولا بأس بالإشارة إليها.7.

ص: 136


1- . الأعراف: 157.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

4. في شروط النهي عن المنكر

قال المحقّق: ولا يجب النهي عن المنكر، ما لم تكمل شروط أربعة:

الأول: أن يعلمه منكراً، ليأمن الغلط في الإنكار.

الثاني: وأن يجوز تأثير إنكاره، فلو غلب على ظنّه، أو علم أنّه لا يؤثّر، لم يجب.

الثالث: وأن يكون الفاعل مُصِرّاً على الاستمرار، فلو لاحَت منه إمارة الامتناع أو أقلع عنه، سقط الإنكار.

الرابع: ولا يكون في الإنكار مفسَدَة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه [أو إلى ماله]، أو أحد من المسلمين، سقط الوجوب.(1)

ولا يخفى أنّ ما ذكره من الشروط الأربعة شرط لكلتا الفريضتين أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتخصيص المحقّق النهي بهذه الشروط لا يظهر وجهه.(2)

ص: 137


1- . شرائع الإسلام: 342/1.
2- . لاحظ: مسالك الأفهام: 129/1.

وقد بسطنا الكلام حول هذه الشروط في كتابنا: «الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية».(1)

ثمّ إنّ الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء رحمه الله ذكر هنا أربعة عشر شرطاً، وإليك ما ذكره، قال: ويجب الأمر بالواجب والنهي عن المحرّم وجوباً نهائياً بشروط أربعة عشر:

أحدها: التكليف، بجمع وصفي البلوغ والعقل حين الأمر والنهي.

ثانيها: العلم بجهة الفعل من وجوب وحرمة، ومع الاحتمال يدخل في السنّة للاحتياط.

ثالثها: إمكان التأثير، ومع عدمه يلحق بالسنّة.

رابعها: عدم التقيّة ولو بمجرّد الاطّلاع.

خامسها: عدم ترتّب الفساد الدنيوي على المأمور أو غيره بسببه.

سادسها: عدم مظنّة قيام الغير به.

سابعها: مظنّة الوقوع ممّن تعلّق به الخطاب.

ثامنها: ألّا يتقدّم منه أو من غيره خطاب يظنّ تأثيره.

تاسعها: عدم البعث على ارتكاب معصية أو ترك واجب للمأمور أو غيره بسببه.

عاشرها: عدم ترتّب نقصٍ مخلٍّ بالاعتبار على الآمر.

حادي عشرها: فهم المأمور مُراد الآمر.6.

ص: 138


1- . لاحظ: الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 425/3-446.

ثاني عشرها: ضيق الوقت في الوجوب الفوري.

ثالث عشرها: عدم معارضة واجب مضيّق من صلاة ونحوها.

رابع عشرها: كون المأمور ممّن يجوز له النظر إليه أو اللّمس له إذا توقّف عليهما.

ولا يجب على اللّه شيء منهما بطريق الإلجاء؛ لقبح الإلجاء منه، ولفوات ثمرة التكليف.(1)

ثمّ إنّ هذ الشروط تختص للأمر والنهي الفردي، وأمّا إذا قام بهما من لهم السلطة والقدرة، فكثير منها غير مطروح في حقّهم.4.

ص: 139


1- . كشف الغطاء: 429/4.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

5. حكم التقية في الذكر الحكيم

اشارة

جعل الفاضل المقداد البحث في التقية ذيلاً لكتاب الجهاد(1)، ولعلّ وجهه أنّ التقيّة سلاح الضعيف في مقابل العدو الغاشم الذي لا يرحم مخالفه، وهو مجهّز بكلّ وسائل القوّة والبطش والظلم ولا يملك الضعيف سلاحاً إلّاالتقيّة، وعلى كلّ تقدير فالتقيّة من الأُصول القرآنية التي جاءت في غير واحدة من الآيات.

الآية الأُولى

اشارة

قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .(2)

المفردات

أُكره: الإكراه هو الفعل أو القول الصادر بضغط من عامل خارجي، وأُريد به

ص: 140


1- . لاحظ: كنز العرفان: 393/1 وما بعدها.
2- . النحل: 106.

هنا التلفّظ بكلمة الكفر بضغط ممّن بيده القوّة.

مطمئنّ : من الاطمئنان، وهو سكون النفس بعد انزعاجها.

شرح بالكفر صدراً: اعتقده وطاب به نفساً.

التفسير

تفسير الآية رهن بيان إعراب مفرادتها وفقراتها:

قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) أنّ لفظة «من» مبتدأ، لم يُذكر خبره، وهو مقدّر يُعلم من قوله سبحانه: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ ) الذي هو خبر لقوله: (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) . ويصير تقدير الآية بالنحو التالي:

من كفر باللّه من بعد إيمانه فعليهم غضب من اللّه.

ولكن مَن شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من اللّه.

ثمّ إنّ قوله: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ ) مستثنىً من قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) .

إذا عرفت ذلك فلنفسّر الآية:

قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) : أي خرج من خيمة الإسلام ودخل في ظلمة الكفر (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ ) .

قوله سبحانه: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) استثناء لمن أُجبر على التلفّظ بالكفر، غير أنّ قلبه ممتلئ بالإيمان وهذا بعيد عن غضب اللّه، (وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) : أي امتلأ قلبه بالكفر فيجزى بجزائين:

1. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ ) .

2. (وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

ص: 141

فالآية بصدد تهديد فريقين:

1. مَن ارتد عن الإيمان بعد دخوله فيه.

2. مَن كفر وبقي على كفره.

وفي الوقت نفسه يسمح للمُكره إظهار الكفر مجاراة للكافرين خوفاً منهم بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان.

ذكر المفسّرون أنّ الآية نزلت في جماعة أُكرهوا على الكفر، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سميّة، وقُتل الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّار، فقال رسول اللّه: «كلّا إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وفي ذلك نزلت الآية، وكان عمّار يبكي، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».(1)

وقد روى العوفي عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في عمّار حين عذّبه المشركون حتى يكفر بمحمد، فوافقهم على ذلك مكرهاً وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأنزل اللّه هذه الآية.

وفي رواية قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «كيف تجد قلبك ؟» قال: مطمئن بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إن عادوا فعد». وقد ذكر المفسّرون بعض ما روي في هذا الصدد.(2)

ومورد الآية هو الاتّقاء من المشرك، وسوف يوافيك أنّ المورد غير4.

ص: 142


1- . مجمع البيان: 233/6.
2- . لاحظ: تفسير ابن كثير: 587/2؛ تفسير الدر المنثور: 132/4.

مخصّص، فلو كان حال الحاكم المسلم مثل الحاكم الكافر تجوز التقيّة أخذاً بالملاك وهو صيانة النفس والنفيس من الهلاك.

وفي نهاية المقام أنّ قوله: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) استثناء منقطع؛ لأنّ المستثنى منه قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ ) : أي قلباً، والمستثنى من آمن قلباً وتكلّم بكلمة الكفر، ولذلك لمّا جاء عمّار إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يبكي فسأله النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «ما وراءك ؟» قال: شرّ يا رسول اللّه، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»، ونزلت الآية.(1)

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ) .(2)

المفردات

يتّخذ: الأخذ حوز الشيء وتحصيله، وهو يصدق بالتحصيل مرّة، ولكن أُريد في المقام بقرينة حالية، الاستمرار.

أولياء: من الولاية، والأصل فيها تولّي الأمر كما في ولاية أمر الصغير والمجنون، أي مَن يملك تدبير أُمورهم وأُمور أموالهم، ثمّ يستعمل في مورد

ص: 143


1- . مجمع البيان: 233/6-234.
2- . آل عمران: 28.

الحب بمناسبة بينه وبين المعنى الأصلي؛ لأنّ كثيراً من المتحابّين يتصرّفون في أُمورهم.

دون المؤمنين: غير المؤمنين.

فليس من اللّه: أي ليس ممّن ينتسب إلى اللّه.

تقاة: مصدر اتّقى ، وأصلها وقاة إلّاأنّ الواو المضمومة أُبدلت تاء استثقالاً لها.

نفسه: أُريد ذاته العظيمة. وإطلاقه على اللّه من باب المشاكلة.

التفسير

قوله سبحانه: (لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ ) ظاهر في النهي عن تولّي الكافرين، مكان المؤمنين، وهذا يتصوّر بإحدى الصورتين التاليتين:

1. أخذهم أولياء يتولّون أُمور المؤمنين فيكونون سادة والمؤمنون عبيداً لهم، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الاتّخاذ كفر وإلحاد.

2. حبّهم وودّهم المؤثّر على أعمال الإنسان وأفعاله.

وبما أنّ اتّخاذ الكافر وليّاً - بإحدى الصورتين - مؤثّراً في مصير المؤمن أمر محظور، هدّد سبحانه الموالين بوجوه ثلاثة:

1. (وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ ) ولعلّه كناية عن بعد الإنسان عن اللّه تعالى وانقطاع صلته باللّه فكأنّه يكون كافراً كما يقول سبحانه:

(وَ مَنْ

ص: 144

يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (1) إمّا موضوعاً كما في الصورة الأُولى، أو منهم حكماً كما في الحب المفرط الذي يؤثّر على فكر الإنسان وعمله.

نعم ربّما تُلجئ الظروف بعض المؤمنين إلى التظاهر بالحب دفعاً لشرّهم وصوناً لأنفسهم عن أضرارهم، فهذا مستثنى عن المنهي عنه كما يقول: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) وبما أنّ هذه الموالاة صورية يكون الاستثناء منقطعاً، ومعنى الآية بأنّه ليس لكم تولّي الكافرين إلّاأن تتّقوا ضررهم وتصونوا أنفسكم وأموالكم بموالاتهم. والآية من أدلّة جواز التقية.

وقد تقدّم أنّ موالاة الكافرين ذات أضرار خطيرة تسلب من المسلمين سيادتهم واستقلالهم ويؤثّر في سلوكهم الديني، عاد البيان القرآني يهدّدهم مرة ثانية.

2. (وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ ) يطلق التحذير ويراد به الاحتراز من أمر مخيف، فتارة يكون الأمر المخيف هو العذاب كما يقول: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (2)، وأُخرى الأشخاص كقوله سبحانه: (هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (3)وهناك جعل سبحانه الأمر المخوف نفسه، وكأنّه ليس بينه وبين عذابه سبحانه أي حائل. ففي التحذير عن اللّه نفسه مكان التحذير عن عذابه، تهديد عظيم للموالي.

3. (وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ) وهذا هو التهديد الثالث فلا مهرب منه، وفيه أيضاً تهديد عظيم لأمر الموالاة فقد هدد سبحانه في هذه الآية الموالين بأُمور ثلاثة، كما مرّ.4.

ص: 145


1- . المائدة: 51.
2- . الإسراء: 57.
3- . المنافقون: 4.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ فَأْوُوا إِلَى اَلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) .(1)

المفردات

اعتزلتموهم: الاعتزال: التنحّي عن الأمر. وسمّي عمرو بن عبيد وأصحابه معتزلة، لمّا اعتزلوا حلقة الحسن البصري.

فأووا إلى الكهف: أي سيروا إليه واجعلوه مأواكم.

مرفقاً: من الرفق بمعنى اليُسر واللطف.

التفسير

إنّ قصة أصحاب الكهف معروفة لا تحتاج إلى بيان وتفسير، فقد كانوا يعيشون مع الوثنيّين مدّة، بعدما آمنوا بربّهم وشملتهم الهداية الإلهية تقيّة، ويدلّ على ذلك قوله سبحانه: (وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ ) فإنّ الاعتزال فرع أن يكون القوم معهم في حلّهم وترحالهم أي مخالطين لهم.

فعاشوا مدّة في تلك الظروف بالتقية إلى أن عزموا على مواجهة ضغط المجتمع بالخروج عليهم (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) .(2)

ص: 146


1- . الكهف: 16.
2- . الكهف: 14.

ثمّ الظاهر أنّ مفاد الآية كلام كبيرهم وأعقلهم.

هذا هو حال أولياء اللّه يختارون المكان المظلم الموحش ويفضّلونه على القصور الزاهرة المؤنسة لحفظ إيمانهم وعقيدتهم، وصيانة نفوسهم من الرذائل والآثام، ولذلك نرى أنّ يوسف عليه السلام آثر السجن على البقاء في القصر بثمن باهظ يدفعه من إيمانه واستقامته، وهو الاستجابة للقيام بالعمل المنكر، قال سبحانه حكاية عنه: (رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (1).

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ) .(2)

المفردات

رجل مؤمن: يحتمل قويّاً أنّه كان من قرابة فرعون وخاصّته، وقيل: إنّه ابن عمّ فرعون، وهو الذي أنجى بمشيئة اللّه تعالى موسى عليه السلام من القتل، كما في قوله تعالى: (وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّاصِحِينَ ) ،(3) وهذا قبل أن يُبعث موسى بالرسالة،

ص: 147


1- . يوسف: 33.
2- . غافر: 28.
3- . القصص: 20.

كلّ ذلك بناء على وحدة الرجلين مصداقاً في كلتا الآيتين.

التفسير

ثمّ شخصان من آل فرعون قد آمنا بدعوة موسى عليه السلام، وكان لهما دور مؤثّر فيما جرى من أحداث، وهما: آسية زوج فرعون، وأحد أقربائه المعروف بمؤمن آل فرعون، وكان يُبطن الإيمان ويظهر الكفر عملاً بالتقية، لأنّه لو أظهر الإيمان لقُتل، ومن المعلوم أنّه لو بقي حيّاً لانتفع بوجوده موسى عليه السلام والمؤمنون أكثر، وهذه هي التقية التي جاء بها القرآن الكريم وأفتى بها الفقهاء صيانة للنفس والنفيس.

وقد عمل بها مؤمن آل فرعون، وذكر القرآن قصّته ليكون إسوة للآخرين.

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآية.

لمّا عزم فرعون على قتل موسى عليه السلام حاول مؤمن آل فرعون دفع الشرّ عنه، وعرض مقاله بصورة النصح لفرعون وملأه: (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ) وهنا قد وصف القرآن الرجل بوصفين:

أ. أنّه من آل فرعون لا من بني إسرائيل.

ب. أنّه يكتم إيمانه، ليحقّق بذلك مآربه، قال: (أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّهُ ) والاستفهام إنكاري يريد أن يُفهم أنّه لا يجوز في منطق العقل قتل إنسان بحجّة إيمانه باللّه، خصوصاً إذا كان إيمانه مقروناً بالدلائل والبيّنات، كما قال: (وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ ) التي تدلّ على صدق دعواه (مِنْ رَبِّكُمْ ) .

وأضاف أنّه لو افترضنا أنّه كاذب في دعوته، فوَبال ذلك عليه وحده، كما

ص: 148

قال: (وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ) ، وقدّم هذا الاحتمال على الاحتمال الآخر للتلطُّف، لا أنّه كان شاكّاً في صدقه. ثم أضاف بأنّه في الوقت نفسه يحتمل أن يكون الرجل صادقاً في دعوته، كما يقول: (وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ ) وهذا القول مبالغة منه في التحذير، فإنّه إذا حذّرهم من بعض العذاب أفاد أنه مُهلكٌ مَخوف، فما بال كلّه ؟ ثمّ إنّ ترديد الأمر بين الأمرين إظهار للإنصاف وعدم التعصّب.(1)

ثمّ إنّه عقّب كلامه السابق بقوله: (إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ) والظاهر أنّه يرجع إلى الشقّ الأوّل من كلامه - أعني: (وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ) - فهو يُريد أن يُبيّن أنّ اللّه لا يترك في هذه الدنيا المسرف المتجاوز الحدّ في المعصية والكذب على ربّه.

بقي هنا كلام، وهو: ربما يقال إنّ الاستدلال بالآية الثالثة (حول أصحاب الكهف) والآية الرابعة، فرع كون عمل هؤلاء حجّة في حقّنا.

والجواب واضح وهو أنّ مَن نظر إلى مفاد الآيتين وما حولهما من الآيات يقف على أنّه سبحانه بصدد مدح أعمال هؤلاء وأقوالهم، ومعنى ذلك أنّه كذلك في الأُمّة الإسلامية أيضاً.

مكانة أبي طالب نفس مكانة أصحاب الكهف

إنّ مكانة أبي طالب رحمه الله الذي كان يعيش في مجتمع وثني جاهلي، هي منزلة أصحاب الكهف، فقد كان يتلطّف معهم ظاهراً، ولكنّه كان يعاديهم باطناً وحقيقة.

ص: 149


1- . انظر: تفسير المراغي: 65/24.

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ جبرئيل عليه السلام نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرؤك السلام، ويقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه اللّه أجره مرّتين، وما خرج من الدنيا حتّى آتته البشارة من اللّه بالجنة».(1)

فإن قلت: إنّ في ديوان أبي طالب وما نقله أصحاب السير منه رحمه الله ما يدلّ على أنّه كان يصدع بالحق ويظهر إيمانه لاخصائه نظير قوله:

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً *** نظير لموسى والمسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به *** فكلٌّ بأمر اللّه يهدي ويعصم(2)

قلت: الجواب بوجهين:

1. لعل قصائده هذه كانت في أواخر عمره، الذي تبيّن للقريب والبعيد أنّه يحمي ابن أخيه إيماناً بدينه، لا لقرابته منه.

2. يمكن أن تكون قصائده مودعة عند المؤمنين.

***

هذه هي الآيات التي استدلّ بها على جواز التقية بل على وجوبها، غير أنّ هنا سؤالاً مهماً نطرحه مع جوابه.

مورد الآيات اتّقاء المسلم من الكافر

ربما يقال: إنّ مورد تلك الآيات المذكور هو اتّقاء المسلم من الكافر لا اتّقاء

ص: 150


1- . الوسائل: 11، الباب 29 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 17.
2- . أعيان الشيعة: 121/4.

المسلم من المسلم، فلا تشمل اتّقاء الشيعي من السنّي، ولا العكس.

الجواب: أنّ المورد ليس مخصّصاً والغرض من تشريع التقية هو صيانة النفس والنفيس من الشر، فإذا ابتلي المسلم من أخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردّد الطرف القوي في إيذاء الطرف الآخر، ففي تلك الظروف الحرجة لا مناص للمسلم الضعيف من اللجوء إلى التقية لصيانة نفسه ونفيسه، وهذا ممّا صرّح به علماء الإسلام في تفسير الآية، ونقتصر بثلاث كلمات لأقطاب التفسير:

1. يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) :

ظاهر الآية على أنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي: أنّ الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين، حلّت التقيّة محاماة عن النفس.

وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد».(1)

2. ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصّه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ ، ولابرح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال فية.

ص: 151


1- . تفسير الرازي: 14/8 في تفسير الآية.

ذلك العصر الأوّل: «حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم».(1)

3. وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) :(2) ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسّم في وجوههم، وبذل المال لهم، لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يُعدّ هذا من المولاة المنهيّ عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما وقى المؤمن به عرضه فهو صدقة».(3)

***

تمّ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر3.

ص: 152


1- . محاسن التأويل: 82/4. ومعنى ذلك أنّ أبا هريرة اتّقى وترك الواجب - أي بثّ حديث الرسول - تقية وحفظاً لنفسه.
2- . النحل: 106.
3- . تفسير المراغي: 136/3.

الفصل التاسع: المكاسب المحرّمة في الذكر الحكيم

اشارة

1. التطفيف.

2. الرشوة.

3. أكل الميتة والدم و....

4. التكسّب بالأُمور الأربعة.

5. الربا.

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة.

7. الغناء.

ص: 153

ص: 154

المكاسب المحرمة

1. التطفيف

اشارة

إنّ الإسلام حثّ على التكسّب بالأُمور الحلال، وفي الوقت نفسه نهى عن التكسّب بأُمور حرام، وقد ذُكر قسم من الأُمور المحرّمة في القرآن الكريم وقسم كثير منها في السنّة، ونحن نقتصر على دراسة ما ورد من القسم الحرام في الذكر الحكيم طبقاً للحروف الهجائية.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى اَلنّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) .(1)

المفردات

ويل: أي هلاك عظيم.

للمطفّفين: المطفّفين: من التطفيف وهو البخس والنقص في الكيل والوزن، والطفيف بمعنى النزر اليسير، سُمّي البخس بمعنى النقص طفيفاً لأنّ ما يبخس شيء طفيف أي حقير بالنسبة إلى مجموع المكيال والميزان وقال الزجاج: وإنّما قيل له مطفّف، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلّاالشيء اليسير

ص: 155


1- . المطففين: 1-3.

الطفيف.(1)

اكتالوا: من الاكتيال وهو الأخذ بالكيل.

كالوهم: أي كالوا للناس.

وزنوهم: وهو الأخذ بالوزن، أي وزنوا للناس.

يُخسرون: يقال: أخسرت الميزان وخسرته إذا نقصته في الوزن.

التفسير

روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلاً فنزلت، فأحسنوا. وعن ابن عباس أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قدم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فنزلت الآية في حقّه.(2)

وقد اهتمّت الشرائع السماوية السابقة بهذا الأمر كما سيوافيك، وما ذلك إلّا لأنّ إقامة العدل في كافّة جوانب الحياة هي الغاية التي يستهدفها المنهج الإلهي، وهي قوام الحياة النظيفة الطاهرة المستقرة الآمنة، يقول سبحانه: (وَ اَلسَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ اَلْمِيزانَ * أَلاّ تَطْغَوْا فِي اَلْمِيزانِ * وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا اَلْمِيزانَ ) .(3)

إذا عرفت ذلك فلنفسّر فقرات الآية.

قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) : أي هلاك لهم؛ فهل هو دعاء عليهم، أو خبر

ص: 156


1- . مجمع البيان: 327/10.
2- . مجمع البيان: 327/10؛ تفسير الدر المنثور: 324/6.
3- . الرحمن: 7-9.

عن مصيرهم القاسي، وتحذير من التطفيف بالكيل والوزن، لأنّه نوع من أنواع الظلم الذي يلحق الفردَ والمجتمع وتجاوزٌ على ميزان العدل و الإنصاف الذي ينبغي أن يحكم حياة الناس ؟ فلا شكّ أنّ في شيوع الغش والتلاعب في أمر المكيال والميزان، الذي عليه مدار معاملات الناس بشكل عام، سوف يترك آثاراً سلبية على نظام حياتهم ويزعزع أواصر الثقة التي تربط فيما بينهم.

ثمّ إنّه سبحانه يفسّر المطفّفين بقوله: (اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى اَلنّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) : أي إذا أرادوا أخذ شيء لأنفسهم يستوفون لأنفسهم الكيل، ويحصلون على حقّهم كاملاً دون نقص، وإنّما لم يذكر الوزن لوجهين:

1. للاستغناء عنه بذكره في الشقّ الآخر الآتي.

2. أنّ المطفّفين هم التجّار الباعة الذين يشترون الكميات الكبيرة التي تقدّر بالكيل لأجل السهولة دون الوزن لوجود العسر فيه في ذلك الزمان، واللّه العالم.

(وَ إِذا كالُوهُمْ ) : أي كالوا للناس (أَوْ وَزَنُوهُمْ ) : أي وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ ) : أي ينقصون حقّهم.

وبعبارة أُخرى: إذا باعوا لهم يخسرون في الكيل والوزن، فالتطفيف كان قائماً بأمرين:

1. إذا اشترى أحدهم لنفسه، يستوفي حقّه تماماً وإذا باع للغير يخسر كيلاً ووزناً.

ثمّ إنّه سبحانه يحذّرهم بقوله: (أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ) : أي إنّ المطفّف لا يظن بأنّ هناك يوماً يبعث فيه الناس، وهو الذي يصفه قوله سبحانه بقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) . وأمّا ما هو الهدف من البعث في ذلك اليوم العظيم، فهذا ما

ص: 157

يبينه بقوله: (يَوْمَ يَقُومُ اَلنّاسُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ ) : أي لأجل الحساب، فلو كان هؤلاء ظانّين بيوم الحساب لتركوا هذا العمل الذي هو من أفعال اللئام.

التطفيف مورداً أعمّ ممّا يكال ويوزن

الظاهر عدم اختصاص التطفيف بما يكال أو يوزن، بل يشمل سائر الموارد التي يقع فيها الظلم والغُبن، والبُعد عن الإنصاف، سواء في الحقوق أم في الواجبات، فمدير الشركة مثلاً، مسؤول عن إعطاء حقّ العامل، وأن يتجنّب استغلاله وغبنه، والعامل مسؤول عن أداء واجبه، بأن يتقن عمله، ولا يتهرّب منه بإضاعة الوقت في ما لا يخصّ عمله، ومثل ذلك يقال في الموظف والمعلّم والمهندس والوزير وغيرهم، فكلّ مَن اشتغل بما لا علاقة له بما تعاقد عليه، فهو مطفِّف أيضاً.

روى الطبرسي عن ابن عباس أنّه قال: الصلاة مكيال فمَن وفى، وفى اللّه له، ومَن طفّف قد سمعتم ما قال اللّه في المطفّفين.(1)

التطفيف بنفسه حرام

الظاهر من الآية وما سيوافيك من الآيات أنّ التطفيف بنفسه حرام في الكيل والوزن وكذا الإخسار في العدّ والذرع كما في فقه الراوندي.(2)

لكنّ الظاهر من المحقّق الإيرواني غير ذلك، قال: إنّ الظاهر، بل المقطوع (فيه) أنّ التطفيف بنفسه ليس عنواناً من العناوين المحرّمة، أعني: الكيل بالمكيال

ص: 158


1- . مجمع البيان: 327/10.
2- . مفتاح الكرامة: 91/4.

الناقص، وكذا البخس في الميزان مع وفاء الحقّ كاملاً، كما إذا كان ذلك لنفسه، أو تمّم حقّ المشتري من الخارج، أو أراد المقاصّة منه أو نحو ذلك، كما أنّ إعطاء الناقص أيضاً ليس حراماً، بل قد يتّصف بالوجوب، وإنّما المحرّم عدم دفع بقية الحقّ إذا لم يكن الحقّ مؤجّلاً، وإلّا لم يكن ذلك أيضاً بمحرّم، بل يكون التعجيل فيما أعطاه تفضّلاً وإحساناً.

نعم إن أظهر - ولو بفعله - أنّ ما دفعه تمام الحقّ ، مع أنّه ليس بتمام الحقّ ، كان محرّماً من حيث الكذب، وإن لم يظهر، لم يحرم من هذا الحيث أيضاً.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ المتبادر من الدعاء على المطفِّف بالويل، أنّ التطفيف والبخس والإخسار أُمور محرّمة بنفسها، وأمّا عنوان الكذب أو عدم دفع بقية الحقّ . فهما عنوانان آخران خارجان عن عنوان البحث.

ثمّ إنّ منصرف الآية ما لو طفّف بعنوان كونه وفاءً للحقّ ، ولم يضمّ إليه شيء أو لم يكن هنا تقاص، وعلى هذا فالموارد المذكورة في كلامه خارجة عن مصبّ البحث؛ مثلاً:

1. إذا كان الاكتيال لنفسه مع الإعراض عن الباقي أو لإتمام الحقّ خارجاً.

2. إذا كان الاكتيال لغيره ولكن تمّم حقّه من الخارج.

3. إذا كان الاكتيال لغيره ولكن له عليه حقّ يمتنع من أدائه وأراد المقاصّة فيجوز التطفيف لأجل التزاحم بين الحقّين لأهميته.

وحصيلة الكلام: أنّ الموضوع للتحريم هو التطفيف بما أنّه تمام الحقّ ولم2.

ص: 159


1- . تعليقة المحقّق الإيرواني: 22.

يكن كذلك ولم ينضم إليه شيء.

***

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ * وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ * وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .(1)

المفردات

المخسرين: المنقصين.

القسطاس: الميزان ويعبّر به عن العدالة كما يعبّر عنها بالميزان قال: وزنوا بالقسطاس المستقيم.(2)

تبخسوا: البخس نقص الشيء على سبيل الظلم أي لا تنقصوا.

***

التفسير

إنّ النبي شعيباً عليه السلام أمر قومه بشيئين ونهاهم عن ثلاثة أُمور:

أمّا الأمر الأوّل فقال: (أَوْفُوا اَلْكَيْلَ ) .

ص: 160


1- . الشعراء: 181-183.
2- . المفردات للراغب: 595، مادة «قسط».

وأمّا الثاني فقال: (وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ) .

وأمّا ما نهى عنه فهو:

1. (وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ ) .

2. (وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ ) .

3. (وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

والظاهر - كما سيوافيك - أنّ كلّاً من النَّهيين متمّم لما سبقه من الأمر، وأمّا النهي الثالث أعني: (وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) فهو نهي عام يشمل كلّ جريمة وعمل محرّم من غير فرق بين الكيل والوزن وغيرهما.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآيات.

قوله تعالى: (أَوْفُوا اَلْكَيْلَ ) ذكر الكيل وهو كناية عمّا يقدّر به المبيع، فيعمّ الوزن. والمعنى: إذا بعتم فكيلوا لهم الكيل والوزن كاملاً (وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ ) : أي المنقصين.

هذا هو الأمر الأوّل، وأمّا الأمر الثاني فهو قوله: (وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ) أمر النبي شعيب أن يزِنوا للناس بالعدل في الأخذ والإعطاء، وأُريد بالقسطاس المستقيم، الميزان العدل.

هذا كلّه في الأمرين وأمّا النواهي الثلاثة فهي:

1. (وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ ) : أي المنقصين.

2. (وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ ) : البخس - كما مرّ - نقص الشيء على سبيل الظلم، فيحتمل أن تكون الفقرة مشيرة إلى النهي عن وصف سلعة الناس بالرداءة، بأن يقول: إنّ سلعتك رديئة ليصرف عنها الراغبين حتى يشتريها هو

ص: 161

برخص.

3. (وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) وهذه كلمة جامعة تشمل المورد وغيره كالغارة وقطع الطريق والسلب والنهب.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .(1)

هذه الآية ممّا أوصى به شعيب عليه السلام قومه، فكلامه هذا يشتمل على أمر ونهيين:

أمّا الأمر فقوله: (فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ ) .

وأمّا النهيان فقوله: (وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ ) .

وقوله: (وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فقد ظهر مفاد الآيات ممّا ذكرناه من تفسير ما ورد في سورة الشعراء.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .(2)

وقد ظهر تفسير الآية بما تقدّم ونُكمل البحث بذكر الفرع التالي:

ص: 162


1- . الأعراف: 85.
2- . هود: 85.
فرع: لو آجر نفسه للتوزين فأخسر

إذا آجر نفسه للتوزين على الكيل بالمكيال التام ثم طفّف فالإجارة صحيحة، لكنّه لا يستحقّ الأُجرة، لعدم إتيانه بالعمل المستأجر عليه.

نعم، لو آجر نفسه مقيّداً بذلك أي التطفيف تبطل الإجارة، لأنّ المبغوضية الذاتية لا تجتمع مع الإمضاء.

ص: 163

المكاسب المحرمة

2. الرشوة

اشارة

اتّفق فقهاء المسلمين على تحريم الرشوة، ففي «جامع المقاصد» و «مسالك الأفهام»: أنّ على تحريمها إجماع المسلمين.(1)

وإليك ما يدلّ عليه من الآيات:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ) .(2)

المفردات

أكّالون: صيغة مبالغة، أي أخّاذون له.

السحت: بمعنى الحرام، قال الراغب: السحت: القشر الذي يستأصل، ومنه السحت للمحذور الذي يلزم صاحبه العار، كأنّه يسحت دينه ومروءته، قال تعالى: (أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) : أي لما يسحت دينهم.(3)

ص: 164


1- . لاحظ: جامع المقاصد: 35/4، مسالك الأفهام: 136/3.
2- . المائدة: 42.
3- . المفردات للراغب: 225، مادة «سحت».

فعلى هذا فالآية تدلّ على حرمة كلّ محرّم يسحت دين الإنسان ومروءته، وأمّا ما هو المراد من السحت في آيتنا، فسيوافيك في التفسير.

التفسير

إنّ اللّه سبحانه يصف - حسب ما ورد في شأن النزول - يهود المدينة، أو يهود خيبر، أو كليهما بوصفين:

1. (سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) والفقرة تحتمل أحد معنيين:

أ. كثير السمع لكلام النبي لغاية تكذيبه.

ب. كثير السمع لما يعلمون أنّه كذب.

2. (أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) وأُريد بالسحت هنا الرشوة حسب شأن نزول الآية، حيث إنّ قسماً من أحبارهم كانوا يأخذون الرشوة لتحريف حكم اللّه تعالى، وقد مرّ أنّ السحت اسم جامع لقسم من المحرّمات والرشوة منها.

ثمّ إنّه سبحانه يخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ وفداً من اليهود يأتونك ويسألونك عن حكم المحصن، كما يقول: (فَإِنْ جاؤُكَ ) : أي للاستفتاء عن حكم المحصن، فأنت مخيّر بين أمرين:

1. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) بما أنزل اللّه في التوراة.

2. (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) .

وهذا يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مخيّر في الحكم على غير المسلمين بين الحكم والإعراض.

ولمّا كان المقام مظنّة الضرر، إذا أعرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم عنهم، أخبر سبحانه بأنّ

ص: 165

إعراضه عنهم لا يضرّه كما قال: (وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) ، واللّه سبحانه ناصرك وحافظك. وأمّا إذا لم يُعرض وأراد أن يحكم بينهم، فعليه أن يحكم بينهم بالعدل (وَ إِنْ حَكَمْتَ ) : أي اخترت الحكم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) : أي العدل المطلق.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ) .

الآيتان: الثانية والثالثة

اشارة

قال سبحانه: (وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .(1)

المفردات

السحت: تقدّم تفسيره في الآية السابقة.

الإثم: الجرم.

العدوان: الاعتداء على الغير.

يصنعون: أي يعملون، وفيه إشارة إلى زعم جودة العمل.

التفسير

ترشدنا الآيتان إلى أنّ اليهود مصدر أُمور ثلاثة من المفاسد، والجميع من الأُمور المشهودة، يشهد بذلك كلُّ مَن عاشرهم، ويقول سبحانه: (وَ تَرى كَثِيراً

ص: 166


1- . المائدة: 62-63.

مِنْهُمْ ) : أي من اليهود (يُسارِعُونَ ) : أي المسارعة في الأُمور الثلاثة:

1. (فِي اَلْإِثْمِ ) وهو الكذب بقرينة ما يأتي في الآية التالية التعبير عنه ب: (قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ ) .

2. (وَ اَلْعُدْوانِ ) : التجاوز على حقوق المسلمين والآخرين.

3. (وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ ) وأُريد به الرشا والربا.

ثمّ إنّه سبحانه يُقبِّح عملهم هذا ويقول: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فإنّ المرتكب لها غارق في الفساد، وبما أنّ من بين اليهود أُناس ربّانيون أو أحبار معلّمون كان عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنّهم سكتوا عن ذلك، فجاءت الآية توبّخهم على سكوتهم أمام هذه المعاصي الموبقة.

قوله تعالى: (لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ ) : أي هلّا ينهاهم المنتسبون إلى الرب (وَ اَلْأَحْبارُ) معلّموهم ومرشدوهم عن هذين الأمرين: (عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ ) : أي الكذب ويشمل تحريف الكتاب (وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ ) وقد ذكر في المقام من الأُمور الثلاثة الأمرين التاليين:

1. (عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ ) .

2. (وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ ) .

ولم يذكر «العدوان» الأمر الثالث الذي ورد في الآية السابقة، ولعلّه أدخل العدوان تحت السحت. فسكوتهم هذا عمل شنيع كما يقول: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

ثمّ إنّ في المقام طائفتين:

1. مَن يرتكب المعاصي، وقد وصفهم في الآية السابقة بقوله: (لَبِئْسَ ما

ص: 167

كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

2. علماء اليهود الذين فرض عليهم إصلاح المجتمع ولكنّهم تهاونوا في أداء وظائفهم فوصفهم بقوله: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) ولعلّ الاختلاف في التعبير - حيث عبّر عن الطائفة الأُولى ب: (يَعْلَمُونَ ) * وعن الثانية ب: (يَصْنَعُونَ ) - لأجل أنّ الطائفة الثانية أكبر إثماً من الأُولى. وذلك للفرق بين تنصّل العالم عن وظيفته، فهو أكبر ذنباً من عمل الجاهل في مجال ارتكاب الذنب.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنبٌ واحدٌ.(1)

إلى هنا تمّ تفسير ما ورد حول السحت من الآيات، وقد تقدّم أنّ السحت ليس بمعنى الرشوة، بل له معنى عام يشملها وغيرها، غير أنّ مورد الآيات هو الرشوة ولذلك جعلنا هذه الآيات دليلاً على حرمة الارتشاء، مضافاً إلى ما ورد حول الرشوة من الروايات، ومنها:

1. روى الكليني عن يزيد بن فرقد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن السحت ؟ فقال: «الرشا في الحكم».(2)

ويظهر من بعض الروايات أنّ للسحت معنى أعم، ومنها (الرشاء).

2. روى الصدوق باسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام قال: «يا علي: من السحت: ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر الزانية، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن».(3)9.

ص: 168


1- . الكافي: 47/1 برقم 1، باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه.
2- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
3- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

وفي بعض الروايات وصف الرشا بالكفر والشرك.(1) وكأنّهم يصوّرون بأخذ الرشاء، أنّه سبحانه غير قادر على رزقهم من الحلال فصاروا إلى أكل الحرام.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(2)

المفردات

تأكلوا: كناية عن مطلق التصرّف.

بالباطل: الباء للسببية، يقابله: الحقّ : الثابت الباقي.

تدلوا: عطف على قوله: (تَأْكُلُوا) ، أي لا تدلوا. والإدلاء، مأخوذ من إدلاء الدلو، وهو إرسالك إيّاها في البئر للاستقاء.

التفسير
اشارة

تضمّنت الآية بيان أمرين محرّمين:

1. أكل المال بالباطل

قال سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) وأُريد بالباطل كلّ تصرّف حرام، كالقمار والغصب والظلم والرشاء، وعبّر عن التصرّف بالأكل لأجل كون

ص: 169


1- . لاحظ: الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2 و 8.
2- . البقرة: 188.

الأكل أقرب الأفعال الطبيعية التي يحتاج الإنسان إليها وهي أقدمها، بخلاف سائر الحاجات كاللباس والمسكن والنكاح. وبعبارة أُخرى: أنّ الأكل أهمّ الحوائج.

2. أكل المال بالرشوة

خصّ سبحانه الرشوة بالذكر، وقال: (وَ تُدْلُوا) : أي لا تدلوا (بِها) : أي الأموال (إِلَى اَلْحُكّامِ ) : أي لا ترسلوها إليهم، فلا تتوسّلوا بها إليهم (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم (فَرِيقاً) قطعة (مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ ) : أي متلبّسين به (وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنّكم مبطلون، والعقوبة عندئذٍ أشدّ.

***

إنّ الرشوة من المحرّمات الكبيرة التي نُهي عنها في الشريعة الإسلامية نهيّاً مؤكّداً، وهي لاتختصّ بالأموال بل تعمّ غيرها، كالخياطة، أو قضاء حاجة القاضي في موضوع آخر، أو مدحه بالشعر و الخطابة ؟

ثمّ إنّ الآية تدلّ على حرمة إدلاء المال إلى الحاكم أي إرساله إليه أو تقريبه منه، ولكنّه وارد مورد الغالب، والمقصود أنّ كلّ ما يُوصل إلى الغاية المحرّمة فهو حرام، فحرمة الغاية توجب سراية الحرمة إلى كلّ سبب، مالاً كان أو منفعة، أو عملاً للقاضي.

حكم الرشا في إحقاق الحق

ما يتوصّل به الإنسان إلى مطلوبه تارة يكون في طريق الحكم بالباطل الذي فيه نفعه وصلاحه، وأُخرى لأجل الحكم لصالحه حقّاً كان أو باطلاً، فلا شكّ في حرمة الرشوة في هاتين الصورتين.

ص: 170

إنّما الكلام في الصورة الثالثة، أعني: يتوصل به ليحكم بالحقّ ، فيحلّ للمعطي ويحرم على الآخذ، إذا كان قاضياً رسمياً يرتزق من بيت المال.

قال الشيخ الطوسي: وإن كان لإجرائه على واجبه لم يحرم عليه، أن يرشوه كذلك لأنّه يستنقذ ماله فيحل ذلك له ويحرم على آخذه، لأنّه يأخذ الرزق من بيت المال. وإن لم يكن له رزق كما إذا قال لهما: لست أقضي بينكما حتّى تجعلا لي رزقاً، حلّ ذلك له حينئذٍ عند قوم، وعندنا لا يجوز بحال.(1)

وقال ابن إدريس: إن كان على إجرائه على واجبه، لم يحرم عليه أن يرشوه لأنّه يستنقذ ماله، فيحلّ ذلك له ويحرم على الحاكم أخذه.(2)

ولكن الحقّ جواز أخذ الجُعل في هذه الصورة إذا كان القاضي محتاجاً ودار أمره بين العمل في الخارج لقضاء حوائج أهله وعياله، وبين ممارسة القضاء بين المتخاصمين، فيدور أمره بين أحد الواجبين، فله أن يطلب منهما قضاء حوائج يومه أو غده، حتى يتفرّغ للقضاء بينهما. ثمّ نحن أوضحنا حال جواز ارتزاق القاضي من بيت المال في بحوثنا فلاحظ،(3) والتفصيل في محلّه.(4)8.

ص: 171


1- . المبسوط: 151/8.
2- . السرائر: 166/2.
3- . راجع المواهب في تحرير أحكام المكاسب: 866-867.
4- . لاحظ: نظام القضاء والشهادات في الشريعة الإسلامية الغراء: 306/1-308.

المكاسب المحرمة

3. أكل الميتة والدم و...

اشارة

المشهور بين الفقهاء أنّ الاكتساب ببيع الميتة وما عطف عليها من الأُمور الثمانية في الآية التالية، أمر محرّم، وقد استدلّوا على حرمة عامّة التصرّفات وراء السنة بآيتين.

والكلام في دلالتهما على المقصود سيظهر أنّ الآية لا تدلّ على أزيد من حرمة الأكل وأمّا سائر الانتفاعات فهي ساكتة عنه وإنّما يطلب حكمه عن سائر الأدلّة، ولذلك جعلنا العنوان «الأكل» لا البيع ولا سائر الانتفاعات.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ

ص: 172

غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(1)

المفردات

الميتة: ما مات حتف أنفه.(2) وهو أخصّ من غير المذكّى ، لأنّ الثاني يشمل ما ذكي بغير التسمية عمداً أو على غير وجه القبلة، أو كان الذابح كافراً، فإنّ الجميع غير مذكّى يحرم أكله ولكنّه ليس ميتة، فأحكام الميتة كالنجاسة لا تشمل غير المذكّى.

أُهلّ : الإهلال رفع الصوت، يقال: استهلّ الصبيّ إذا صرخ عند الولادة، وأُريد هنا ما ذبح على غير ذكر اللّه؛ بل بسم اللّات والعُزّى.

المنخنقة: وهي التي تموت اختناقاً بحبل أو بنفسها كما إذا أدخلت رأسها في مضيق فاختنقت.

الموقوذة: ما تُضرب حتى تموت.

المتردّية: وهي التي تتردّى من مكان عال.

النطيحة: وهي التي تنطحها أُخرى حتى تموت.

ما أكل السبع: أي الحيوان المفترس، أكل البعض وترك البعض الآخر.

النصب: جمعه أنصاب، وهي الأصنام. وهي الحجارة التي كانوا يعبدونها وتُسمّى الأوثان.

بالأزلام: الأزلام: جمع زُلم، قطعة من الخشب على هيئة السهم.

ص: 173


1- . المائدة: 3.
2- . الحتف بمعنى الموت: وكان الرأي السائد في الجاهلية أنّ الروح تخرج من الأنف.
التفسير

استُدلّ أنّ قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ) بإطلاقه، يدلّ على حرمة كافّة التصرّفات من الأكل والبيع والهبة وغير ذلك، غير أنّ الاستدلال لا يخلو عن ضعف.

وجه ذلك: أنّ قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ) ظاهر في حرمة الأكل بقرينة ما في ذيل الآية (فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) والمراد من المخمصة، المجاعة، وأُريد من المتجانف، المائل إلى الإثم كما إذا تعدّى عن سدّ الجوع، كما سيوافيك في تفسير الآية الثامنة. وأمّا غير الأكل من أحكام الميتة فيرجع إلى أدلّتها في محالّها.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(1)

المفردات

غير باغ: فُسّر بغير باغي اللّذة.

ص: 174


1- . البقرة: 172-173.

ولا عاد: غير متعدٍّ سدّ الجوع.

التفسير

استدلّ بالآية على حرمة التصرّفات عامّة ومنها الاكتساب، لما ورد فيها، غير أنّ الاستدلال مرفوض بوجهين:

1. ما في صدر الآية الأُولى، أعني قوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) فإنّه شاهد على أنّ متعلّق التحريم هو الأكل و الانتفاع به في سدّ الجوع.

2. قوله تعالى: (فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) فهو أيضاً شاهد على ضيق المتعلّق.

نعم لحرمة الاكتساب بالأُمور المذكورة في الآيتين دلائل في السنّة، فليرجع إليها.

ص: 175

المكاسب المحرمة

4. التكسّب بالأُمور الأربعة

اشارة

الخمر والميسر والأنصاب والأزلام

التكسّب بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام، حرام لدى فقهاء الإسلام، إنّما الكلام في دلالة الآيتين التاليتين على الحكم المزبور، وإليك البيان.

الآيتان: الأُولى والثانية

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) .(1)

المفردات

قد تقدّم تفسير مفردات الآيتين في كتاب أحكام الطهارة عند الكلام في نجاسة الخمر وطهارته، فلا حاجة لتفسيرها إلّاالازلام فإليك بيانها.

ص: 176


1- . المائدة: 90-91.

الأزلام: القداح، وهي سهام كانوا يجيلونها للقمار، وإليك تفسيرها.

روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام: أنّ الأزلام عشرة، سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء: الفذّ، والتوأم، والمسبل، والنافس، والحلس، والرقيب، والمعلّى، فالفذّ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا انصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزئونه أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على مَن تخرج له التي لا أنصباء لها، وهو القمار، فحرّمه اللّه تعالى.(1)

التفسير

أمّا الكلام في دلالة الآية على حرمة التكسّب بهذه الأُمور، فالظهور البدائي في جانب الخمر هو الانتفاع بالشرب، غير أنّ المتبادر من الأُمور الثلاثة: «الميسر والأنصاب والأزلام» وهو غير الشرب، وهذا يصلح لأن يكون قرينة على حرمة عامّة الانتفاعات، والآية حكمت على الجميع بالأُمور الثلاثة:

1. (رِجْسٌ ) 2. (مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ ) .

3. (فَاجْتَنِبُوهُ ) .

رجاء (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، هو حرمة الانتفاع بعامّته، خصوصاً ورود الميسر والأزلام في الآية، فإنّ الغاية منها هو حرمة عامّة الانتفاع.

ص: 177


1- . مجمع البيان: 318/3.

وإن شئت قلت: حتى أنّ المنهيّ عنه في خصوص الخمر أيضاً عامّة الانتفاع، إذ لا معنى من تحريم شرب الخمر وتحليل بيعه وشرائه وغيرهما، بل يُعدّان أمرين متناقضين.

ومنه يُعلم مفاد قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (1). فإنّ تعليل التحريم بأنّ الشيطان يُريد إيقاع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر كما يُريد أن يصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلاة، يُشكل قرينة على أنّ المراد حرمة الانتفاع على وجه الإطلاق خصوصاً التكسّب، إذ لا تنسجم هذه التعابير مع تحليل التكسّب في وسط المجتمع الإسلامي.

***1.

ص: 178


1- . المائدة: 91.

المكاسب المحرمة

5. الربا

تمهيد

كان الربا أمراً شائعاً في الجاهلية، فلم يكن محيص من تحريمه على وجه التدريج شأن كلّ داء اجتماعي تجذّرت جذوره في المجتمع فلا يعالج إلّاببيانات شافية حتى يتمّ الأمر على التحريم القاطع، ولذلك قد وردت في حرمته آيات أربع يختلف لحنها حسب الضعف والشدّة، ثمّ إنّ واحدة منها مكّية والبقية مدنيّات.

ينقسم الربا إلى قسمين:

1. الربا المعاوضي. 2. الربا القرضي.

فالأوّل عبارة عن بيع المتماثلين (أو مطلق معاوضة المتماثلين) بالفضل، كأن يبيع كيلو من الحنطة بكيلو من الحنطة بإضافة شيء، سواء أكانت الإضافة عينية كأن يبيع: بكيلو حنطة منضمّاً إلى درهم، أم كانت الإضافة حكميّة كما إذا باع مائة كيلو من حنطة، بمائة كيلو من حنطة وشرط معه أن يخيط له ثوباً، ومثّل لذلك - أيضاً - بما إذا كان أحد الجنسين نقداً والآخر نسيئة، وإنّما يكون كذلك إذا كان أحد الجنسين أجود من الآخر، فيدفع غير الأجود نقداً في مقابل الأجود نسيئة، فلو كانا متماثلين من جميع الجهات يصبح الأمر ديناً، ولا إشكال فيه.

ص: 179

ثمّ إنّ الربا المعاوضي عند المشهور مختصّ بالمكيل والموزون دون المعدود والمذروع خلافاً للمختار عندنا، والحقّ كون الحكم عاماً شاملاً لمطلق المعاوضة، وقد حقّقنا الموضوع في كتابنا «الربا موضوعاً وحكماً».

وأمّا الثاني - أي الربا القرضي - فهو عبارة عن إقراض مال لشخص بشرط أن يؤدّي المقترض أزيد ممّا اقترضه، سواء اشترطاه صريحاً أو أضمراه بحيث وقع القرض مبنياً عليه.

ثمّ إنّ حرمة الربا من ضروريات الفقه لو لم تكن من ضروريات الإسلام، غير أنّ لفظ الربا في الآيات القرآنية ينصرف إلى الربا القرضي، وأمّا الربا المعاوضي فهو مستفاد من السنّة.

إذا تبيّن ذلك فلنبدأ بدراسة الآيات الواردة في هذا الصدد.

الآية الأُولى

اشارة

قال تعالى: (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ ) .(1)

المفردات

الربا: لغة بمعنى الزيادة، ويشهد على ذلك قوله في نفس الآية: (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ ) : أي ليزيد بذلك أموال الناس.

ص: 180


1- . الروم: 39.
التفسير

استدلّ المفسّرون بالآية على حكم الربا القرضي، فحملوا الربا في الآية على الربا المصطلح، أي الفائدة التي يحصل عليها صاحب المال من المقترض، ولكن هذا الاستدلال بعيد من وجهين:

1. أنّ الآية مكيّة، والبيئة المكيّة لا تناسب التشريع، إلّاأن يقال: إنّ لحن الآية لحن النصح والإرشاد، فلا ينافي كون الآية مكيّة.

2. أنّ الآية مسبوقة بآية أُخرى تأمر بالإعطاء للأرحام وذوي الحاجة، طلباً لمرضاة اللّه، قال سبحانه: (فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) .(1)، وبعد ذلك يقول:

(وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ ) (2) ففي السياق قرينتان على أنّ المراد من الربا هو العطية من غير نيّة القربة، وهما:

القرينة الأُولى: ما تقدّم من الآية (فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ ) التي تحكي عن العطاء للّه سبحانه.

القرينة الثانية: المقابلة بين الجملتين، فقوله: (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) يقابله قوله: (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ ) ، فبما أنّ المراد من الزكاة هو الصدقة قربة إلى اللّه سبحانه، يكون هذا قرينة على أنّ المراد من الربا هو العطاء بلا قصد القربة.

فيكون معنى قوله: (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ ) : أي ليزيدوا أموالهم بذلك،

ص: 181


1- . الروم: 38.
2- . الروم: 39.

(فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ ) : أي لا يزيد ولا ينمو عنده (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ ) : أي من صدقة (تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ ) : أي وأُولئك الذين يضاعف لهم الثواب، فإسناد الإضعاف إليهم لأجل أنّهم قاموا بذلك الفعل القربي، فعلى هذا لا علاقة للآية بالربا المصطلح لأنّه فيها بمعنى العطية، والربا في اللغة بمعنى الفضل والزيادة.

الآية الثانية

قال تعالى: (وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) .(1)

الآية تذمّ اليهود بعملين:

1. أنّهم ممّن سنّوا الربا وشرّعوا تحليله، كما في قوله تعالى: (وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا) من المستقرض (وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ ) ، ففي سفر الخروج: إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضع عليه ربا.(2) فبما أنّ الآية تذمّ اليهود، فتدلّ على كون هذا العمل مذموماً في الشريعتين الموسوية والمحمدية.

2. أكل أموال الناس بالباطل. ولعلّ المراد الرشا في القضاء أو تحليل الحرام لذوي الرتب العالية.

ص: 182


1- . النساء: 161.
2- . التوراة، سفر الخروج، الفقرة 22-25.

الآية الثالثة

اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .(1)

المفردات

أضعافاً: الأضعاف جمع ضعف - بكسر الضاد - وهو معادل الشيء في المقدار، وهو يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف ب «ال»، وإذا أُريد الجمع جيء به بصيغة الجمع.

مضاعفة: صفة للأضعاف، وأُريد أنّ الضعف يصير ضعفاً ويزيد.

التفسير

قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) يُريد أنّه كلّما تأخّر المدين في أداء الدين عن أجل إلى غيره زيد زيادة على المال، فيُجعل الربا جزءاً من رأس المال، وهكذا إذا استمرّ التأخير يُجعل الربا جزءاً من رأس المال فربّما يزيد الربا على أصل المال، يقال: كلّما كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجداً لذلك المال، قال: زدني في المال حتى أزيد في الأجل، فربما جعله مائتين، ثمّ إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثمّ إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المئة أضعافها،

ص: 183


1- . آل عمران: 130.

فهذا هو المراد من قوله: (أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) .(1)

ثمّ إنّه سبحانه خصّ الأكل بالذكر لأنّه معظم الانتفاع وإن كان غيره أيضاً من التصرّقات، منهيّاً عنه.

الآية الرابعة

اشارة

قال تعالى: (اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .(2)

المفردات

لا يقومون: لا ينهضون.

يتخبَّطه: التخبّط: مطاوع خَبطهُ إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له، أي تحرّك تحرّكاً شديداً، ولمّا كان لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق.(3) وأراد بالاتّساق: التوازن.

المس: كلّ ما ينال الإنسان من أذى، نحو قوله تعالى: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) .(4)

ص: 184


1- . تفسير الرازي: 2/9.
2- . البقرة: 275.
3- . التحرير والتنوير: 549/2.
4- . القمر: 48.

والمعنى المعروف للمس هو مسّ الجن للإنسان، يقال فيه: مس وهو ممسوس، وربما يُستعمل كصفة مدح أيضاً كما في قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تسبّوا عليّاً فإنّه ممسوس في ذات اللّه»(1)، وهو تعبير مبتكر للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، معناه أنّ إيمانه بلغ حدّاً كأنّ اللّه تعالى مسّه، فهو يستحضره ولا يعصيه.

التفسير

الآية رغم وجازتها تعلّمنا الأُمور التالية:

الأوّل: يشير اللّه بقوله: (اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ) (2)، إلى أنّ آكل الربا لا يقوم إلّاكقيام مَن يتخبّطه الشيطان من المس، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا، فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا وقيام المتخبّط من مسّ الشيطان، فيطرح هنا سؤالان:

1. ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلّاكقيام المصروع ؟

2. ما هو المراد من كون التخبّط من مسّ الشيطان ؟

أمّا السؤال الأوّل، فقد ذكر المفسّرون وجوهاً أوردناها في كتابنا «الربا موضوعاً وحكماً».(3)

ويمكن أن يُقال: إنّ المراد من المسّ ليس هو الصرع والجنون، وإن كان يستعمل فيه؛ بل أُريد في المقام من مسّ الشيطان دعوته وإجابة المرابي له، بشهادة أنّ المسّ ربّما يستعمل في هذا المعنى كما في قوله سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ

ص: 185


1- . المعجم الأوسط للطبراني: 142/9.
2- . البقرة: 275.
3- . لاحظ: الربا موضوعاً وحكماً: 107-109.

اِتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) (1) ، أي إذا دعاهم الشيطان إلى الخلاف.

إذا تبيّن أنّ مسّ الشيطان يطلق ويراد به الدعوة إلى اللذّات والشهوات، فعلى هذا يمكن أن يقال: إنّ المراد من تخبّط المرابي إنهماكه في الاشتغال بغير اللّه، فهو أيضاً يتبعه فيعمل ليله ونهاره متهالكاً فيما دُعي إليه، فيكون عمله أشبه بعمل مَن اتّخذ الشيطان وليّاً، وعلى هذا فالمراد من قوله: (يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ) ، هو الذي اتّبع الشيطان واتّخذهُ ولياً فهو يسرع وراءه من غير تفكّر في غاية عمله، فهذا المرابي يعمل ليل نهار ولا يفكّر في غاية فعله.

وأمّا السؤال الثاني فهو مبنيّ على أنّ المراد من المسّ هو الصرع، وقد مرّ أنّ المراد من مسّه الشيطان واتّخذه وليّاً، حيث لا يفكّر في غاية عمله، وعلى هذا فالسؤال ساقط.

وعلى فرض كون المراد من المسّ هو الصرع فقد قلنا في محلّه أنّ العلم له حقّ الإثبات، وليس له حقّ السلب، فالعلم وإن كشف أنّ الصرع نتيجة وجود اختلالات في الجهاز العصبي، وأمّا أنّه ليس بعد ذلك من علّة أُخرى، فليس للعلم سلب ذلك، لأنّ أدواته قاصرة عن إفادة ذلك، فهو يعتمد على التجربة، والتجربة لا تنتج إلّافي الأُمور المحسوسة أو ما هو قريب منها، وأمّا عوالم المجرّدات كالأرواح والشياطين، فهي لم تنكشف أسرارها لنا حتى تؤكّد على عدم تأثيرها في الصرع وغيره.

الأمر الثاني: أنّ الفقرة (إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا) هو منطق المرابي، حيث يقول:1.

ص: 186


1- . الأعراف: 201.

لا فرق بين البيع والربا، فإذا كان الأوّل حلالاً فالثاني مثله. وجه الشبه أنّ البائع يبيع ما اشتراه بالأقل، بأكثر، وهكذا المرابي يقرض الأقل ويأخذ الأكثر. وبذلك يندفع ما ربما يقال من أنّ حقّ الكلام، يقال: «إنّما الربا مثل البيع». حيث إنّ القائل تصوّر أنّه من كلامه سبحانه، بل حكاية عن كلام المرابي.

الأمر الثالث: أنّه سبحانه عبّر عن تلك المغالطة بقوله: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) وذلك لوجود الفرق الواضح بين الأمرين، وهو أنّه ليس على المشتري بعد دفع الثمن شيء آخر، وينتفع من المبيع عبر الزمان، بخلاف المديون، فعليه - وراء دفع الأصل - دفع الفائض في كلّ شهر.

ثمّ إنّه سبحانه يقول: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) فالفقرة تسهّل الأمر على المرابي بالنسبة إلى ما سلف، أي يُغفر له ما اكتسب من الربا، فعن الإمام الباقر عليه السلام: «مَن أدرك الإسلام وتاب ممّا عمله في الجاهلية وضع اللّه عنه ما سلف».(1)

وظاهر الآية أنّ الجاهل بالحكم لا يردّ ما أخذ، فإنّ قوله: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) ناظر إلى الجاهل، وأمّا العالم، فلا يغفر له إلّاأن يرد الربا إلى أصحابه.

ثمّ إنّه سبحانه في المقام ذيّل الفقرة المذكورة بقوله: (وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ ) ، ولعلّ الوجه هو ما قال بعده: (وَ مَنْ عادَ) إلى مضاعفة الربا بعد ما نزل القرآن الكريم بتحريمه (فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

***2.

ص: 187


1- . التبيان في تفسير القرآن: 360/2.

الآيتان: الخامسة والسادسة

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

ذروا: أي اتركوا، مَن يذر: أي يترك، وهو من الأفعال التي لم تسمع لها صيغة الماضي، كيدعُ .

التفسير

يظهر من الآيتين أنّ جمعاً ممّن آمن بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم وكانوا من المرابين لم ينتهوا عن أعمالهم، فجاء البيان القرآني ينذرهم أشدّ الإنذار ويخاطبهم بقوله:

(يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) إن كنتم مؤمنين حقيقة وجناناً لا لفظاً ولساناً (اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا) : أي اتركوه ولا تتعرّضوا له (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ، فإنّ المؤمن يعمل بكل ما ورد في الكتاب العزيز بخلاف المنافق فهو يؤمن ببعض دون بعض. ولأجل إعلام الناس بأنّ هذا الحكم حكم سائد على عامّة الطوائف، قام النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بوضع ربا أقرب الناس إليه، وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب».(2)

ص: 188


1- . البقرة: 278 و 279.
2- . عوالي اللآلي: 137/2؛ تحف العقول: 29، خطبة حجّة الوداع.

ثمّ إنّه سبحانه لم يقتصر بالبيان السابق بل أخذ يهدّد مَن كانت له رغبة بأخذ الربا، بأشدّ التهديدات التي قلّما نجد مثلها في الذكر الحكيم وقال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) : أي لم تذروه بل أصررتم على أخذه (فَأْذَنُوا) : أي فاعلموا وأيقنوا (بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ) : أي بقتال من اللّه ورسوله، وأنّكم تستحقون القتل.

روى الحلبي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «كلّ الربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عُرفت منهم التوبة».(1)

وقد قيل للإمام الصادق عليه السلام: إنّ فلاناً يأكل الربا ويُسمّيه اللبا؟ قال عليه السلام: «لأن أمكنني اللّه منه لأضربنّ عنقه».(2)

نعم لمّا كان مال المرابي مخلوطاً بالحرام والحلال فقد منعه سبحانه من أخذ الحرام، ولكن سمح له أن يأخذ رأس ماله، وهذا من مجاري العدل الذي دعا إليه الإسلام في آيات كثيرة، وقال في المقام: (وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ) وهذه كلمة قيّمة في الذكر الحكيم تؤدّب المسلمين بالأمرين، فهم لا يظلمون وفي الوقت نفسه لا يتحمّلون الظلم في عامّة المجالات.

إلى هنا تمّت دراسة ما ورد من الآيات حول الربا، وأمّا البحث عن الفروع وما ورد حولها من الروايات أو البحث عن الآثار السيّئة للربا على الصعيد الأخلاقي والاقتصادي، والأُمور المخلّصة من الربا، فموكول إلى محلّه، وقد قمنا بدراسة هذه الأُمور في كتابنا «الربا، موضوعاً وحكماً»، فراجع.

غير أنّا نتبرك في ختام البحث بذكر روايتين تشرح كلّ واحدة منهما ما2.

ص: 189


1- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب أحكام الربا، الحديث 2.
2- . مجمع البيان: 263/2.

يترتّب على الربا من مفاسد أخلاقية، وهما:

1. روى الكليني في «الكافي» بإسناده عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي رأيت اللّه تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرّره، فقال: «أو تدري لِمَ ذلك ؟» قلت: لا، قال: «لئلّا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».(1)

2. وروى عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّما حرّم اللّه عزّ وجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».(2)

***8.

ص: 190


1- . الكافي: 146/5، برقم 7.
2- . الكافي: 146/5، برقم 8.

المكاسب المحرّمة

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة

اشارة

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة(1)

الرقص: مصدر رقص، يرقُص، رقصاً، ويرادفه الزفْن، وعُرّف بأنّه التمايل والرفع والخفض بحركات موزونة.

أقوال فقهاء السنّة

ذهبت الحنفية والمالكية والحنابلة والقفّال من الشافعية إلى كراهة الرقص، معلّلين ذلك بأنّ فعله دناءة وسفه، وأنّه من مسقطات المروءة، وأنّه من اللهو.

وذهبت الشافعية إلى أنّ الرقص لا يحرم ولا يُكره بل يباح، واستدلّوا بحديث عائشة الآتي.

وذهب ابن تيمية إلى أنّ اتّخاذ الرقص ذكراً أو عبادة، بدعة ومعصية لم يأمر اللّه به، ولا رسوله، ولا أحدٌ من الأئمّة أو السلف.(2)

إنّ قوله بالتحريم مختصّ برقص الصوفية لا مطلقاً فلا يعدّ مخالفاً للآخرين.

وكثير منهم عنونوا المسألة في باب الشهادة، ولذلك نُقل عنهم اتّفاق

ص: 191


1- . صلة هذا البحث بالكتاب لأجل استدلال القائلين بالحرمة باللهو.
2- . راجع مصادر الأقوال في الموسوعة الفقهية الكويتية: 10/23.

فقهائهم على ردّ شهادة الرقّاص لأنّه ساقط المروءة، وهي شرط من شروط صحّة الشهادة. ونصّ الشافعية والحنابلة على أنّ المعتبر في إسقاط المروءة هو المداومة والإكثار من الرقص، وهو مقيّد عند الشافعية بمن يليق به الرقص، أمّا من لا يليق به فتسقط مروءته ولو بمرّة واحدة.(1)

ولذلك نرى أنّ إمام الحرمين عنون المسألة في كتاب الشهادات، قال:

والرقص ليس محرم العين، وإنّما هو حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يَخْرِم المروءة، كسائر أصناف اللّعب إذا كان على اختيار.(2)

فتلخّص أنّ الرقص مكروه في فقه السنّة، ولكنّه مزيل للعدالة إذا تكرّر ممّن يليق به كالشباب، وأمّا غيره فتزيل ولو بمرة واحدة.

أقوال فقهاء الشيعة

أمّا فقهاء الشيعة، فلم يولوا هذه المسألة كثير اهتمام، بخلاف السنّة، فإنّهم يذكرونها مع دراسة الغناء تارة والسماع أُخرى، ونفس الرقص ثالثاً.

أمّا مَن تعرض لها منهم فقال بحرمته لكونه من مقولة اللهو.

قال ابن إدريس - في ذكر المكاسب المحظورة -: وآلات جميع الملاهي، على اختلاف ضروبها، من الطبول، والدفوف، والزمر، وما يجري مجراه، والقضيب، والسير، والرقص، وجميع ما يطرب من الأصوات و الأغاني، وما جرى مجرى ذلك، والخبال على اختلاف وجوهه، وضروبه، وآلاته.(3)

ص: 192


1- . الموسوعة الفقهية الكويتية: 10/23.
2- . نهاية المطلب للجويني: 26/19.
3- . السرائر: 215/2، باب ضروب المكاسب.

وقال في «مفتاح الكرامة»: وأمّا الرقص والهلولة والرويد في غير حال الحرب، وحضُّ الرجال على القتال، فالحزم اجتنابه بل لعلّه يحرم فعله، لأنّه من اللهو أو الباطل، والحازم يجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات.(1)

وقال صاحب الجواهر بعد أن نقل كلام «مفتاح الكرامة» من دون أن يذكر اسمه، قال: وفيه أنّه مع فرض عدم اندراجه في الغناء، يمكن فرضه فيما لا يدخل في اللعب واللهو، وأمّا مع فرض اندراجه فيه فيشكل جوازه فيه فضلاً عن غيره من الأحوال لإطلاق أدلّة النهي، بل اقترنت بمؤكّدات تقتضي إرادة جميع الأفراد على وجه أظهر دلالة من العموم اللغوي.(2)

وقال الشيخ الأنصاري: نعم، لو خُصّ اللهو بما يكون عن بطر - وفسّر بشدّة الفرح - كان الأقوى تحريمه، ويدخل في ذلك الرقص و التصفيق، والضرب بالطشت بدل الدفّ ، وكلّ ما يفيد فائدة آلات اللهو.(3)

وأمّا مَن عاصرناه، فالظاهر منهم هو الاحتياط، فقد جاء في بعض الرسائل:

أمّا حكم رقص المرأة للمرأة، والرجل للرجل ؟ الجواب - بشكل عام - فإنّ الرقص يُعدّ منشأ للفساد، والأحوط ترك الرقص.

نعم استثنى كثير منهم رقص المرأة لزوجها، وقد أفتوا بجوازه.

الروايات المتعلّقة بالمسألة

استدلّ علماء السنّة على الجواز بحديث عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 193


1- . مفتاح الكرامة: 173/12.
2- . جواهر الكلام: 51/22.
3- . كتاب المكاسب: 47/2.

جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا حبشية تزفن - أي ترقص - و الصبيان حولها، فقال: يا عائشة تعالي فانظري».(1)

ولما كان الحديث لا يناسب مقام الرسالة ويحط من عظمتها، حمل غير واحد من أهل السنة حديث رقص الحبشيه على الوثب، بسلاحهم ولعبهم بحرابهم ليوافق ما جاء في رواية: «يلعبون عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحرابهم».(2)

نعم ربما يستند من يقول بالحرمة إلى أنّ الرقص يخالف المروءة أو أنّه ربما يكون مبدأ للفساد.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الظاهر خروج موردين عن مقام البحث:

1. رقص المرأة للرجل وبالعكس من غير فرق بين المحرم وغيره، فهو حرام قطعاً، إذ فيه فساد الأخلاق والعفّة.

2. رقص الزوجة لزوجها أو بالعكس، وقد استثناه بعضهم عن الحرمة، ويأتي وجهه.

إنّما الكلام في رقص الرجل للرجل والمرأة للمرأة ويمكن تقريب الحرمة بوجهين تاليين:

الأوّل: ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفليّ ، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنهاكم عن الزفْن والمزمار و عن الكوبات والكبرات».(3)7.

ص: 194


1- . سنن الترمذي: 621/5، طبعة الحلبي.
2- . صحيح مسلم: 610/2، طبعة الحلبي.
3- . الكافي: 432/6، باب الغناء، الحديث 7.

قال في الصحاح: الزفن: الرقص.(1)

وقال في القاموس: الكُوبة - بالضم -: النرد و الشطرنج، والكبر - بالتحريك -: الطبل.(2)

والحديث لا بأس بسنده لأنّ الأصحاب يعتمدون على روايات النوفلي عن السكوني، وإن ضعّفه المجلسي في «مرآة العقول» وقال: ضعيف على المشهور.(3) وضعف السند غير مانع عن الاستدلال أوّلاً؛ لأنّ الأصحاب عملوا برواية السكوني، والميزان في صحّة الاستدلال كون الرواية موثوقة الصدور ثانياً.

ويؤيّد وثوق الصدور أنّ القاضي النعمان أيضاً نقله في «دعائم الإسلام» قال: وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «أنهى أُمّتي عن الزفن و المزمار وعن الكوبات والكنارات».(4)

الثاني: اتّفاق كلمة العلماء على حرمة الغناء المطرب، ومن المعلوم أنّ الطرب يلازم الرقص عادة، فهل يمكن القول بحرمة أحدهما (الطرب) وجواز الآخر (أي الرقص)؟

مضافاً إلى قوّة دخوله في اللهو بالمعنى المشهور أوّلاً، وكونه منافياً للمروءة المعتبرة في العدالة ثانياً.

وأمّا استثناء رقص الزوجة لزوجها فلا بأس به؛ لأنّ حياة الزوجين في أوائلد)

ص: 195


1- . صحاح الجواهري: 2131/5، مادة «زفن».
2- . انظر: مرآة العقول: 302/22؛ مجمع البحرين: 164/2، مادة «كوب».
3- . مرآة العقول: 432/22.
4- . دعائم الإسلام: 207/2، برقم 754. الكنارة واحدة الكنارات وهي العيدان أو الدفوف أو الطبول. (المنجد)

حياتهما لا تخلو من لهو ولعب.

وأمّا رقص النساء للنساء مجرّداً عن غيرهنّ في الأعراس فربما يظهر من بعضهم جوازه، لوجود السيرة، ولكن الأحوط تركه، والسيرة لم تثبت.

ص: 196

المكاسب المحرمة

7. الغناء

اشارة

اتّفق علماء الإمامية - إلّامن شذّ - على حرمة الغناء، ويعلم ذلك بمراجعة كتب التفسير والحديث والفقه.

قال الشيخ الأنصاري: لا خلاف في حرمته في الجملة، والأخبار بها مستفيضة، وادُّعي في الإيضاح تواترها.(1)

والذي يهمّنا في المقام هو دراسة الآيات التي استدلّ بها على حرمة الغناء، فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: دراسة ما استدلّ به من الآيات على حكم الغناء.

الثاني: بيان حقيقة الغناء.

المقام الأُول: دراسة ما استدلّ به من الآيات على حكم الغناء

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) .(2)

ص: 197


1- . المكاسب المحرّمة: 285/1.
2- . لقمان: 6.
المفردات

لهو الحديث: ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه، يقال: لهوتُ بكذا ولهيتُ عن كذا، إن اشتغلت عنه بلهو.

التفسير

جاءت في الآيات المتقدّمة على هذه الآية قصّة أنّ الناس على صنفين:

صنف يهتدون بهدي القرآن فيقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة، كما قال سبحانه: (اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) .(1)

وصنف يشتغل بلهو الحديث، فيعوقه ذلك عمّا يعنيه ويهمّه، ومن ثمّ يَضلّ ويُضلّ كما يقول: (وَ مِنَ اَلنّاسِ ) : أي صنف منهم (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ) المراد بلهو الحديث نحو السمْر(2) بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها والتحدّث بالخرافات وفضول الكلام.

ويؤيّد ذلك ما روي في سبب نزول الآية من أنّها نزلت في النضر بن الحارث، وكان يتّجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم ويحدّث بها قريشاً، ويقول: إن كان محمدٌ يحدّثكم بحديث عاد وثمود، فأنا أُحدّثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن.(3)

ص: 198


1- . لقمان: 4-5.
2- . يقال: سامر ليلاً: تحدّث ولم ينم.
3- . تفسير الكشاف: 229/3؛ مجمع البيان: 76/8.

فعلى هذا فدلالة الآية على حرمة الغناء، لا تخلو من تأمّل، لأنّ قوله تعالى:

(لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الحديث اللهو، فيدلّ على تحريم اللهو الذي يُعدّ من مقولة الكلام لا ما يُعدّ بالكيفية، فالآية بنفسها تدلّ على حرمة الاشتغال، بالقصص والأحاديث الباطلة التي تُلهي الإنسان عن ذكر اللّه تعالى وعن الايمان بالرسالة، لا على حرمة الغناء الذي هو من كيفية الكلام.

نعم يمكن أن يقال: إنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بعلّية الوصف، فالحديث اللهوي إن كان محرّماً فإنّما هو لأجل اللهوية لا لأجل كونه حديثاً، فالعلّة المحرّمة هي اللهوية فيشمل الغناء إذا عُدّ لهواً، والظاهر أنّ اللهو بأيّ معنى فسّر يشمله.

وبذلك يُفسّر ما تضافر من الروايات على الاستدلال بالآية على حرمة الغناء؛ فعن يحيى بن عبادة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت: قوله عزّ وجلّ : (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ) قال: «منه الغناء». ولعلّ التعبير بلفظة «منه» إشارة إلى أنّ الغناء من «اللهو» لا لهو الحديث.

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، سمعته يقول: «الغناء ممّا أوعد اللّه عزّ وجلّ عليه النار»، وتلا هذه الآية.(1)

وعلى هذا فدلالة الآية على حرمة الغناء ليست دلالة مطابقية بل دلالة بالملاك الذي عرفته.4.

ص: 199


1- . تفسير نور الثقلين: 193/4-194.
الآية الثانية

قال سبحانه: (أَ فَمِنْ هذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ * وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ ) .(1)

روى القرطبي عن ابن عباس: هو الغناء بالحميرية، اسمدي لنا: أي غنّي لنا.(2)

لكنّه تفسير شاذّ، والتفسير الرائج للآية ما نقل عن ابن عباس أنّه بمعنى غافلون، لاهون، معرضون، وقال الطريحي: سامدون يعني لاهون، وقيل:

«سامدون» مستكبرون.(3) والمعنى الأخير هو المناسب للآية التالية حيث أمر فيها بالسجود للّه والعبادة له(4)، وكون هذا اللفظ بمعنى الغناء في اللغة الحميرية لا يدلّ على كونه لغة قرآنية.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً) .(5)

ص: 200


1- . النجم: 59-61.
2- . تفسير القرطبي: 51/14.
3- . مجمع البحرين: 70/3، مادة «سمد».
4- . (فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَ اُعْبُدُوا) (النجم: 62).
5- . الإسراء: 64.
المفردات

استفزز: الاستفزاز: الاستنهاض على خفة وإسراع.

أجلب: الإجلاب جمع الجيش وسوقه، مشتق من الجلبة وهي الصياح.

بخيلك: الخيل اسم جمع للفرس، والمراد هنا الفرسان.

رجلك: الرجل جمع راجل.

غروراً: تزيين الباطل بما يظن أنّه حقّ .

التفسير

لمّا استمهل الشيطان ربّه لبقائه إلى يوم اللقاء، خوطب بقوله تعالى:

(اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (1) ، وعندئذٍ جاءت هذه الآية تشير إلى أنواع الحيل التي يمكن أن يستخدمها إبليس وهي أُمور أربعة:

1. (وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) : أي انهض من استطعت منهم بدعائك ووسوستك. وربما يفسّر بالغناء والمزامير والملاهي، والجميع من مصاديق مطلق الصوت.

قال الشريف الرضي: وجعل الملاهي والمعاني صوتاً له من حيث كان الشيطان هو الداعي إليه والحامل إليه.(2) وبذلك يعلم أنّ الشيطان لا يقوم به شخصاً بل يقوم به من طريق أعوانه من البشر، فنسبة هذه الأساليب الأربعة إلى الشيطان من جهة كونه الداعي إليها، مضافاً إلى ما يقوم به أعوانه من البشر

ص: 201


1- . الإسراء: 63.
2- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 101.

الخاطئين.

2. (وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ ) : أي اجمع عليهم بعامّة جيشك فرساناً ومشاة، أي اجعل كل أعوانك وذريّتك على إغوائهم. وكأنّه سبحانه يقول:

أي صِحْ (بِخَيْلِكَ ) بفرسانك (وَ رَجِلِكَ ) مشاتك، للاجتماع على إضلال الناس. نظير الراعي إذا أراد جمع أغنامه يصيح عليها بنحو خاصّ . ثم هل لإبليس خيلاً ورجلاً أو أنّه من باب المجاز؟ الثاني هو الأقرب، والمراد: اعمل ما شئت بكل ما تستطيع، ويحتمل أن يراد ذرّيته، واللّه العالم.

3. (وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ) ولعلّ المشاركة في الأموال كناية عن كلّ ما يؤخذ من غير حقّ ، كالسلب والنهب والربا والغش، وأمّا المشاركة في الأولاد فهي كناية عن الزنا.

4. (وَ عِدْهُمْ ) بالتغرير كأن يقول لهم: لا تخف من المعصية فإنّ اللّه كريم وغفّار.

ثمّ أتمّ سبحانه الآية بقوله: (وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً) : أي وعداً خاوياً ليس له حقيقة.

ثمّ إنّ الاستدلال بالآية على حرمة الغناء مبني على أنّ الصوت، يشمل:

الغناء والمزامير و المغاني، ولعلّها الأظهر لأنّها أقوى ما يلهي الإنسان ويضلّه.

الآية الرابعة

قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) .(1)

ص: 202


1- . المؤمنون: 3.

الآية بصدد بيان أوصاف المؤمنين، وكان منها الإعراض عن اللغو. وقد استدلّ بها في الروايات على حرمة الغناء.

وجه الاستدلال: كون الغناء أمراً لغواً لا يترتّب عليه أيّة مصلحة سوى التطريب والخروج عن الحالة العادية، والمتيقّن منه ما إذا كان المضمون كالكيفية أمراً لغواً؛ لأنّه إذا كان حقّاً كالغناء بالقرآن والمراثي.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) .(1)

المفردات

الزور: في اللغة هو الانحراف، يقول سبحانه: (وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ اَلْيَمِينِ ) (2) أي تنحرف الشمس عن كهفهم. وسمّي الكذب زوراً لأنّه انحراف عن الحقّ ، ومثله: الباطل.

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر الآية أنّ الزور صفة المضمون، حيث يقول: «قول الزور» والغناء صفة لكيفية الكلام، فتصبح الآية نظير قوله سبحانه: (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ) (3) إشكالاً وجواباً. وبه يوجّه ما ورد في الروايات من الاستدلال بالآية على حرمة الغناء، ويكون الاستدلال بالملاك.

ص: 203


1- . الحج: 30.
2- . الكهف: 17.
3- . لقمان: 6.
الآية السادسة

قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ) .(1)

فلو قلنا بأنّ المراد لا يشهدون شهادة الزور، فتكون الآية أجنبية عن الدلالة على حرمة الغناء. وأمّا لو قلنا بأنّ المراد لا يحضرون في مجلس المعصية لأنّ العصيان زور، حيث إنّه انحراف عن الحقّ ، فيشكل الاستدلال بها على حرمة الغناء، لأنّ الكبرى لا تدلّ على الصغرى، وإنّما يصحّ الاستدلال إذا ثبت في الخارج كون الغناء عصياناً.

فتلخّص: أنّ الذي يصلح لأن يستدلّ به على حرمة الغناء أحد العناوين التالية:

1. (لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ) : أخذاً بالملاك وهو اللهو.

2. (بِصَوْتِكَ ) : ومن المعلوم أنّه ليس للشيطان صوت مسموع فيحمل على المزامير والغناء.

3. (اَللَّغْوِ) : لأجل أنّه لا يترتّب عليه أيّة مصلحة.

4. (قَوْلَ اَلزُّورِ) : وتفسير الزور بالانحراف عن الحقّ ومنه الغناء. فيكون الاستدلال بالملاك.

ومع ذلك فالدليل المهم هو الإجماع والروايات.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل، وإليك الكلام في المقام الثاني.

ص: 204


1- . الفرقان: 72.

المقام الثاني: في حقيقة الغناء

اختلفت كلمات العلماء في بيان ماهية الغناء، إلى تعاريف يناهز عددها اثنا عشر تعريفاً(1)، حتى التجأ بعضهم إلى تفسيره بألحان أهل المعاصي والكبائر الذي لا يفيد شيئاً. وسنذكر هنا بعض هذه التعاريف:

1. عرّفه الشيخ الأنصاري بقوله: الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّه لا وجه لتخصيص الحرمة بالمرجّع، فإنّ الصوت اللهوي يشمله وغيره.

وثانياً: أنّ الغناء لم يخرج عن الإبهام بعده حيث إنّ تعليق الحرمة بالصوت اللهوي ليس بأوضح من تعليقه بنفس الغناء.

2. وعرّفه الشيخ محمد رضا النجفي الإصفهاني بقوله: الغناء: صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس.

والطرب هو الخفّة التي تعتري الإنسان فتكاد أن تذهب بالعقل وتفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضاً.

ويتحصّل من هذا التعريف، لزوم وجود أُمور في صدق الغناء مضافاً إلى اختصاصه بصوت الإنسان.

الأوّل: إيجاد الطرب.

الثاني: الطرب عبارة عن الخفّة التي تكاد أن تذهب بالعقل كالمسكر.

ص: 205


1- . للوقوف على هذه التعاريف، لاحظ كتابنا: المواهب في تحرير أحكام المكاسب: 537.
2- . المكاسب: 248، منشورات دار الحكمة.

الثالث: الميزان في إيجاد الطرب متعارف الناس عليه، فلا اعتبار بمَن هو كالجماد، كما لا اعتبار بمَن يطرب بأدنى سبب.

الرابع: أنّ سبب الطرب هو تناسب الصوت.(1)

يلاحظ عليه: مع أنّه من أحسن التعاريف ومع ذلك لا يخلو من بعض الملاحظات:

أمّا أوّلاً: فلأنّ تفسير الغناء بالصوت المتناسب للطرب المزيل للعقل، تعريف له بأتمّ مصاديقه وأكملها، فإنّ للغناء مراتب ودرجات، فما ذكره من إزالة العقل وأنّه يفعل كفعل المسكر، راجع إلى أكمل درجاته لا إلى كلِّها.

وثانياً: أنّه قدس سره جعل التناسب - أي تناسب الصوت في الأوصاف التي ذكرها من (بمه وزيره)(2) ونبراته وارتفاعه - العلّة الوحيدة للطرب مع أنّه ليس كذلك، فإنّ للصوت سهماً عظيماً في إيجاده، فلأجل ذلك لو كان الصوت غليظاً رديئاً وروعيت فيه الجهات لا يكون مطرباً، بل موجباً للإيذاء. ولعلّ الأولى تعريفه بما يلي:

3. الغناء: هو صوت الإنسان الذي له رقّة(3) وحُسن ذاتي ولو في الجملة وله شأنية الطرب لمتعارف الناس.

توضيحه: أنّ الغناء لا يتقوّم بالمدّ ولا بالترجيع، وإن وردا في تعريفظ.

ص: 206


1- . الروضة الغناء في معنى الغناء وتحديده وحكمه، وقد نشرت هذه الرسالة في مجلة «نور علم» السنة الثانية، العدد 4.
2- . ارتفاعه وانخفاضه.
3- . رقّ : ضد غلظ.

المشهور، بل مقوّم الغناء كونه مقتضياً للطرب والرقص، وهو يقوم بالأُمور التالية:

1. كون الصوت ذا رقة ورخامة وصفاء ولطف.

2. قوله: حسن ذاتي، حيث تلتذّ به الطبائع في مقابل ما يؤذي ويمجّ .

3. أنّ الصوت لأجل تناسب أجزائه(1) يكون مطرباً ومقتضياً له، خصوصاً إذا كان له إدامة واستمرار، وعندئذٍ فلو انتفى واحد من هذه القيود مثلاً كان الصوت ممجّاً للأسماع ومؤذياً للأرواح والأنفس، لا يتحقّق الغناء، أو لا يتمتع بالحسن أو لا يكون له شأنية الطرب، كما أنّه إذا فقد التناسب ولم تتألّف أجزاء الصوت تأليفاً ملائماً لا يتحقّق الطرب أيضاً.

وبالجملة: القدر المتيقّن من الغناء كونه مطرباً، والطرب معلول لأمرين:

1. حُسن الصوت.

2. حُسن التأليف، وحفظ التناسب بين أجزاء الصوت من نبراته ومدّه وارتفاعه وانخفاضه. وحسن الصوت أمر وجداني لا يحتاج إلى تعريف، وحسن التأليف يتحقّق بحفظ التناسب بين ارتعاشات الصوت يعرفه كلّ من له إلمام بالألحان الموسيقية.

هذا إجمال القول، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا «المواهب في تحرير أحكام المكاسب».

***

هذا تمام الكلام في المكاسب المحرمة، حسب ما ورد في الذكر الحكيم،ه.

ص: 207


1- . وهذا عُبر عنه في التعريف المتقدم برفع الصوت وخفضه.

ولعلّه فاتنا شيءٌ ممّا يُعدّ منها.

نعم ذكر الفاضل المقداد منها إكراه الإماء على البغاء، لقوله سبحانه: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)، غير أنّ الأنسب دراسة هذه الآية في باب الحدود، فانتظر.

كما ذكروا في المقام قوله سبحانه: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .(2) والأنسب دراسة الآية في باب أحكام الأحوال الشخصية.

***2.

ص: 208


1- . النور: 33.
2- . النور: 61-62.

الفصل العاشر: العقود الشرعية وشيء من الإيقاعات

اشارة

في الذكر الحكيم

العقود الشرعية

تمهيد

1. البيع.

2. الإجارة.

3. الدين أو القرض.

4. الضمان والكفالة.

5. الصلح.

6. الإيداع والوديعة.

7. العارية.

8. عقد المسابقة والرماية.

9. الشفعة.

10. الوصية.

11. في أحكام الحجر

الإيقاعات

1. النذر.

2. أحكام اليمين.

3. أحكام العتق.

ص: 209

ص: 210

العقود الشرعية

تمهيد

ندرس في هذا الفصل ما ذكره الفقهاء في أبواب الفقه من البيع والدين والرهن والصلح والهبة والجعالة، وما يحصل عليه الإنسان من إحياء الموات، إلى غير ذلك.

ونحن ندرس الآيات الواردة في هذه المجالات على وفق الكتب الفقهية خصوصاً كتب المحقّق والشهيدين، غير أنّا نقدّم البحث في أمرين ربما يُعدّ كلّ منهما الحجر الأساس في كثير من المباحث الآتية وهما: وجوب الوفاء بالعقود.

ولزوم كون التجارة عن تراض، فإنّ لتحليل كلّ منهما أثراً بارزاً في الاستنباط.

الأمر الأوّل: لزوم الوفاء بالعقود

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) .(1)

ص: 211


1- . المائدة: 1.
المفردات

أوفوا: من الوفاء والإتيان بالشيء تامّاً لا نقص فيه. قال سبحانه: (وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ) .(1)

بالعقود: من العقد: وهو نقيض الحل، وقد ذاع وشاع قولهم: أهل الحلّ والعقد، وفي اللسان: العقد نقيض الحل. وقالوا للرجل إذا لم يكن عنده غناء: فلان لا يعقد الحبل، أي يعجز عن هذا على هوانه وخفّته. وعلى هذا فمظهر العقد هو إيجاد الربط بين الحبلين، ووصلهما بالآخر الذي يعبر عنه في اللغة الفارسية ب «گره زدن» وبما ذكرنا يظهر أنّ تفسير العقد لغة بالعهد تارة، وبالعهد المشدّد أُخرى لا وجه له؛ لأنّ العهد غير الربط بين الشيئين. نعم إذا صيغ من باب التفعيل، فربما يراد به العهد المشدّد، قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ ) (2)، فتعقيد الأيمان مقابل للغوها، كما يقول: لا واللّه، و: بلى واللّه، بلا التزام، وهذا ما لا يجب حفظه بخلاف ما لو عقّد الأيمان. فلو صحّ تفسير العقد بالعهد المشدّد فإنّما يصحّ في المضاعف لا مطلقاً.

بهيمة: البهيمة واحدة البهائم، وهي كلّ ذات أربع من دواب البر والبحر، وكلّ ما كان من الحيوان لا يميّز فهو بهيمة، وبهيمة الأنعام هي: الإبل والبقر والشاة، والمعز سُمّيت بهيمة لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها.(3)

الأنعام: أُريد الأنعام الأربعة، أعمّ من الأهلية أو الوحشية، بقرينة ذيل الآية،

ص: 212


1- . الإسراء: 35.
2- . المائدة: 89.
3- . مجمع البحرين: 19/6، مادة «بهم».

أعني قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ) فإنّ الوحشية موضع الصيد لا الأهلية. ومعنى قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ) : أي لا تحلّوا الصيد وأنتم محرمون.

حُرم: جمع حرام، وأُريد به المُحرم بالحج أو العمرة.

التفسير

خاطب سبحانه المجتمع الإيماني بقوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فالعقد في الآية مصدر أُريد به المعقود، وبما أنّ اللام في قوله:

(بِالْعُقُودِ) قائمة مقام المضاف إليه، وتقدير الآية: أوفوا بعقودكم، يكون المراد بها الأمران التاليان:

1. العهود المعقودة بين المتخاصمين أو بين المتعاونين، بما أنّها عقود والشاهد على ذلك ما في القرآن من الاهتمام بهذا النوع من العهود. فتلك العهود بما أنّها عقود، يجب الوفاء بها.

وبعبارة أُخرى : المحتوى والمضمون عهد، ولكن الموجد والسبب عقد، فلا ينافي ما ذكرنا من أنّ العقد ليس بمعنى العهد، ولا العهد المشدّد، لأنّ العقد، تنشأ به كلّ المفاهيم القائمة بالطريق من غير فرق بين العهد والبيع والإجارة والرهن والدين، والنكاح... فتدبّر.

2. العقود الدارجة بين المتعاقدين بصور مختلفة كعقد البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك، ويشهد على ذلك - أي إطلاق العقد على العقد المعاملي - قوله سبحانه: (أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ ) (1).

ص: 213


1- . البقرة: 237.

وبما ذكرنا يُعلم عدم صحّة أمرين:

1. أنّ تفسير العقود بالأحكام الشرعية التي أخذ اللّه على عباده الاهتمام بها، غير تام، لما عرفت من أنّ المراد بالعقود العقود المنسوبة إلى العباد فيما بينهم، لا بين اللّه وعباده، ولذلك نرى أنّ الفقهاء يستدلّون بهذه الفقرة على لزوم المعاملات المشتملة على الإيجاب والقبول؛ بل وعلى وجه يصحّ الاستدلال بها على لزوم العمل بالعقود الجديدة الدارجة في الغرب المنتشرة أخيراً في الشرق من الشركات المختلفة، فكلّ ذلك يجب فيها العمل بالالتزام، والحاصل: أنّ الآية تركّز على العقود الدارجة بين الناس، وقد مرّ أنّ اللام في «العقود» بدل عن المضاف إليه أي عقودكم، لا عهود اللّه. 2. ما ذهب إليه بعض مشايخنا من السادة (رضوان اللّه عليهم) حيث كان يفسّر لفظ «العقود» بالعهود، ثمّ يعتمد على قول بعض اللغويّين بأنّ العقد عبارة عن العهد المشدّد، كان يستبعد الاستدلال بالآية على لزوم الوفاء في مورد المعاملات قائلاً: بأنّه ليس في موردها، العهد أوّلاً، وعدم وجود الشدّ ثانياً. وقد مرّ ضعفه فلا نعيد.

ثمّ إنّ وجوب الوفاء بالعقود على وجه الإطلاق، سواء أكان في مورد المعاملات أم في مورد المتخاصمين أو المتعاونين، أساس العدالة الاجتماعية، التي تعتمد عليه بنية المجتمع الإسلامي، فلو جاز للمتمكّن حلّ العقد فأوّل ما ينتقض به، هو العدل الذي هو أساس الحضارة الإنسانية.

نعم أصبح اليوم الوفاء بالعقود أداة طيّعة بيد القوى الكافرة والمستكبرة، فمادام العقد يدرّ عليهم بالأموال والثروات وينتفعون به، فهم يحترمونه، وأمّا إذا

ص: 214

رأوا أنّ مصلحتهم في نقضه، ينقضونه بأوهن الوجوه، وهذه هي سيرة الانتهازيّين، فالأخلاق عندهم هي ما ينفع تجارتهم وتدرّ عليهم بالأرباح، وإذا انعكست تركوها وراء ظهورهم ولم يراعوها.

***

ما هو مفاد وجوب الوفاء بالعقد؟

هل الوفاء بالعقود حكم تكليفي بحيث لو فسخ العقد ارتكب حراماً وكان الفسخ صحيحاً، وكلّ من العوضين يرجع إلى صاحبه ؟ أو أنّه حكم وضعي، بمعنى الإرشاد إلى وجوب العقد ولزومه وعدم انفساخه بالفسخ ؟

الظاهر هو الثاني والدليل على ذلك أنّ الحكم إذا تعلّق بالأداة - لا بالأعيان ولا بالأعمال - يكون ظاهراً في الإرشاد إلى وجوب الالتزام العملي بمفاد العقد.

فلو كان موضع العقد أداة من الأدوات كالبيع والإجارة يكون معنى ذلك هو وجوب الوفاء بمفاد العقد، ففي مورد البيع كون المثمن ملكاً للمشتري والثمن ملكاً للبائع ملكية قطعية لا تنفك عن الصحّة واللزوم.

نعم الاستدلال بالآية على صحّة المعاطاة ولزومها، ونظائرها فرع إحراز الصغرى وهو أنّ المعاطاة سبب فعلي نظير السبب القولي، والتبادل بين الجنسين بمنزلة الإيجاب والقبول، والمجموع بمنزلة العقد، فما لم تحرز الصغرى لا يمكن الاستدلال بالآية على لزوم صحّة المعاطاة ولزومها، والتفصيل في محلّه.

الأمر الثاني: كون التجارة عن تراض

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ

ص: 215

أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) .(1)

المفردات

تأكلوا: الأكل كناية عن أحد أمرين:

أ. التملّك. ب. مطلق التصرّفات المتوقّفة على الملكية.

بالباطل: الباء للسببية، أي بسبب باطل، كالقمار والسرقة والغصب والخيانة.

ولا تقتلوا أنفسكم: فيه وجهان:

1. نهي الإنسان عن قتل نفسه بنفسه المُسمّى بالانتحار.

2. المراد أعمّ منه كقتل بعضهم بعضاً بتصوير أنّ المجتمع شيء واحد، وأنّ هنا نفساً واحداً، وعلى كلّ تقدير فالجمع بين أكل المال بالباطل وقتل النفس، يعرب عن أنّ الأوّل في عداد الثاني من جهة عِظم المعصية.

التفسير

قوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) يعمّ الناس جميعاً، وتخصيص المؤمنين بالخطاب لأنّهم هم المنقادون لأمره ونهيه سبحانه. ثمّ إنّه سبحانه يخاطب المؤمنين بقوله: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) ففي هذه الفقرة جاء إسناد الأموال إلى المجتمع مكان أن يقول: لا تأكلوا أموال بعضكم، للتنبيه على تكافل الأُمّة في حقوقها ومصالحها، كأنّه يقول: إنّ مال كلّ واحد منكم هو مال أُمّتكم.

ص: 216


1- . النساء: 29.

ثمّ يستثني من النهي قوله: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) ، ولمّا كان المستثنى منه هو الأكل بالباطل والأكل عن تجارة مقرونة بالتراضي غير داخلة فيه صار الاستثناء استثناء منقطعاً.

ثمّ إنّه سبحانه أكمل الآية بخطاب آخر وقال: (وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) .

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيّتها.

التجارة عن تراض مفيدة للملكية أو إباحة التصرّف ؟!

بقي الكلام في أنّ الآية هل تدلّ على أنّ التجارة عن تراض مفيدة للملكية، أو مفيدة لحليّة التصرفات المتوقّفة على الملك، فلو قلنا بالأوّل يكون مفاد الآية في كلا الجانبين بالنحو التالي: لا تتملّكوا أموالكم بينكم بالباطل إلّاأن يكون التملّك ناشئاً عن تجارة عن تراض، فتكون التجارة بالتراضي مفيدة للملكية، ويصير مفاد الآية حكماً وضعياً، مدلولاً مطابقياً للآية.

وأمّا لو قلنا بالثاني يكون مفاد الآية في كلا الجانبين بهذا النحو لا تتصرّفوا في أموالكم بينكم بالباطل إلّاأن يكون التصرّف ناشئاً عن تجارة، ومن المعلوم أنّ تجويز عامّة التصرّفات بالتراضي لا ينفك عن الملك، فتكون الآية عندئذٍ بصدد بيان الحكم التكليفي (جواز عامّة التصرّفات) الملازم للحكم الوضعي (أعني:

الملكية).

وعلى ما ذكر فالآية تدلّ على أنّ التجارة عن تراضٍ تلازم الصحّة والملكية، وهذا هو المطلوب.

ص: 217

هل المعاطاة داخلة في الآية أو لا؟

وبما ذكرنا يُعلم أنّ المعاطاة داخلة في الآية لكونها تجارة عن تراض، فسواء أقلنا: إنّ الفقرة بصدد بيان الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي فهي محكومة بهذين الحكمين، ولا أظن أحداً يشكّ في أنّ المعاطاة خصوصاً في جلائل الأُمور، من مصاديق التجارة، وليست داخلة في الباطل كالقمار والسرقة والخيانة.

وربما يستشكل على الاستدلال بالآية على صحّة المعاطاة قائلاً بأنّ الاستدلال إنّما يتمّ إذا كان المراد بالباطل، هو الباطل العرفي كما في السرقة والخيانة والغش، وعندئذٍ تكون كلّ تجارة مقرونة بالتراضي خارجة عن المستثنى منه وداخلة في المستثنى ومنه المعاطاة، وأمّا إذا أُريد به الباطل الشرعي (كالربا) تكون الآية مجملة، إذ من المحتمل أن تكون التجارة بالمعاطاة من الباطل الشرعي، وإن لم تكن كذلك عند العرف، نظير الربا فهو باطل شرعاً وليس باطلاً عرفاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد تعليم الناس التجارة الحلال، وتمييزها عن المحرّمة، فلابدّ أن تكون الآية واضحة المراد مبيّنة المقصود، فلو أُريد به الباطل عند الشرع، تصبح الآية مجملة غير مفيدة.

فإن قلت: قد نقل في «مجمع البيان» عن أبي جعفر عليه السلام أنّ الربا من مقولة الأكل بالباطل(2) مع أنّه ليس باطلاً عرفياً بل باطل شرعي ؟

ص: 218


1- . زبدة البيان: 427.
2- . مجمع البيان: 59/3.

قلت: لعلّ المراد إنّه داخل في الباطل حكماً وتعبّداً كقوله: «التراب أحد الطهورين يجزيك عشر سنين». وإن شئت قلت: إرشاد إلى مصداق مجهول لدى العرف، وقد عبّر الشيخ الأنصاري عن مثل هذه الروايات بتخطئة العرف.(1) وعلى كلّ حال فالآية في كلا الجانبين قابلة للتمسّك في كلّ مورد يُعد من مصاديق أحدهما.

فإن قلت: إنّ المستثنى منه ليس في مقام البيان، بشهادة أنّه يحل التصرّف بالهبة والوقف والصدقة والوصية وأرش الجناية والإباحة الشرعية والمالكية، فإنّ الجميع غير مشتمل على التجارة بمعنى التبادل وإن اشتمل على التراضي.

قلت: إنّ كونه في مقام البيان لا يلازم كونه في مقام الحصر؛ فإنّ الأوّل ناظر إلى كون التجارة عن تراض تمام الموضوع للحلية أو للملكية، وأمّا كونه الموضوع المنحصر فلا يدلّ عليه، وكفى في الاستدلال كونها تمام الموضوع.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ الآية في كلا الجانبين تصلح للاستدلال، فلو كانت هناك تجارة عن تراض فهو حلال وهو صحيح، ولو كان المقام مشتملاً على السبب الباطل عرفاً فهو غير صحيح وغير مفيد للتملّك والتصرّف.

***

إلى هنا تمّ ما أردناه من التمهيد الذي له تأثير خاص في أكثر الأحكام، وحان الوقت للبحث عن الآيات الواردة في العقود الشرعية والمكاسب المحلّلة حسب الكتب الفقهية الرائجة.

***م.

ص: 219


1- . لاحظ: كتاب المكاسب: 20/16، كتاب البيع، حقيقة البيع، طبعة تراث الشيخ الأعظم.

العقود الشرعية

1. البيع
اشارة

قال تعالى: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) .(1)

قد تقدّم منّا أنّ الحكم الشرعي إذا نسب إلى الأدوات كالبيع يفيد التمليك أو حليّة عامّة التصرّفات الملازمة للملكية، وعلى هذا فقوله: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ ) فيه دلالة على إباحة سائر أقسامه من النقد والنسيئة والسلف وأنواعه من بيع المرابحة والمواضعة والتولية والمساومة وأنواع المبيعات من الثمار والحيوان والصرف وغير ذلك، ممّا ورد في الروايات.(2) وإليك التوضيح.

المرابحة: هي أن يبيع المبيع بنفس القيمة التي اشتراه بها، لكن بزيادة معينة.

المواضعة: هي أن يبيع المبيع بنقيصة معينة عمّا اشتراه.

التولية: هي أن يبيع المبيع بنفس القيمة التي اشتراه بها.

المساومة: هو البيع بما يتفقان عليه من غير تعرّض للإخبار بالثمن الذي اشترى به.

وربما يتصوّر أنّ الآية ليست في مقام بيان حلّية البيع بعامّة أشكاله، بل

ص: 220


1- . البقرة: 275.
2- . كنز العرفان: 37/2.

بصدد بيان نفي التسوية بين البيع والربا حيث إنّ المشركين ساووا بينهما وقالوا:

(إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا) (1) وأنّ الربح العائد إلى الإنسان من جانب الربا، كالربح العائد له من جانب البيع، فنزل الوحي بنفي هذه التسوية، وإنّهما ليسا بمتساويين، وقال: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) ، وربما يستظهر ذلك المعنى من الإمعان في الآية صدراً وذيلاً. ويؤيّد ذلك أنّ حلية البيع لم تكن محطّ كلامهم حتّى ينزل الوحي لحلّيته.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان سبحانه في مقام نفي التسوية فقط لصحّ أن يقول:

ليس البيع مثل الربا، أو: ليسا بمتساويين نظير قول امرأة عمران: (وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) (2) مع أنّا نرى أنّه في مقام نفي التسوية أتى بشيء زائد وهو حلّية البيع وحرمة الربا، فيعلم من ذلك أنّ الغاية ليست نفي التسوية فقط، بل هي أمر ضمني، والمقصود هو الحكم بتشريع أحدهما وعدم تشريع الآخر.

وبذلك يُعلم أنّ الآية هي أحد المصادر لاستنباط كثير من أحكام البيوع.

وبما أنّ البيع من الأُمور الرائجة عبر القرون قبل الإسلام، وفي عصر الرسالة وبعدها، اكتفى الذكر الحكيم بهذه الآية وبالآية الثانية.

الكتابة والإشهاد في البيع

لما تقدّم قبل هذه الفقرة استحباب كتابة الدين والإشهاد عليه، انتقل إلى البيع ويستحب فيه أيضاً كتابته والإشهاد عليه، إلّاأنّه استثنى مورداً واحداً (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ) : أي يداً بيد من غير غيبة لأحد العوضين

ص: 221


1- . البقرة: 275.
2- . آل عمران: 36.

(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها) : أي تلك المعاملة، لأنّه لا يتوقّع فيها شكّ استقبالي.

ومع ذلك أمر بالإشهاد حتى في مثل هذه المعاملة وقال: (وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) إرشاد إلى مصلحتها لأنّه لولاها لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع أو يقع نزاع في كمية أحد العوضين أو في شرط أو خيار أو غير ذلك، فالأمر هنا للإرشاد.

ولا يخفى أنّ مصبّ هذه الفقرات والأحكام في المعاملات الكبيرة ذات الأهمية، وأمّا المعاملات العادية البسيطة، فالآية منصرفة عنها.

***

ص: 222

العقود الشرعية

2. الإجارة
اشارة

الإجارة أحد الأُمور الرائجة بعد البيع، وقد عُرّفت بتعاريف نذكر منها ما يلي:

1. هي تمليك المنفعة المعيّنة مدّة معيّنة بعوض معلوم مع بقاء الملك على أصله.(1)

2. أنّها شرعت لنقل المنفعة بعوض آخر ولو حكماً.(2)

ولا يخفى ما في التعريفين من الضعف وإن عدّ صاحب الجواهر التعريف الثاني أحسن التعاريف، فإنّ مفاد التعريفين لا ينطبق على ما هو الموجود في الخارج، فالذي ينطبق على الخارج هو التعريف التالي:

«تسليط المستأجر على العين المستأجرة لينتفع بها مدّة معيّنة في مقابل أُجرة مشخصّة».

قلنا: إنّ هذا التعريف ينطبق على الخارج، وذلك لأنّ صاحب الدار أو السيارة يسلّط المستأجر على العين لأن ينتفع بها بالسكن أو السياقة في مقابل

ص: 223


1- . جامع المقاصد: 80/7.
2- . جواهر الكلام: 204/27.

أُجرة معيّنة محدّدة بزمان خاص.

وبما ذكرنا يظهر ضعف التعريفين السابقين.

أمّا الأوّل: فلأنّ تمليك المنفعة المعيّنة، أثر للإجارة ونتيجتها.

وأمّا التعريف الثاني فهو تعريف بالغاية، فإن نقل المنفعة بعوض هو الغاية القصوى من الإجارة. نعم ما ذكرناه من التعريف ناظر إلى إجارة الأعيان وأمّا تأجير الأشخاص والعمّال فلابدّ من تعريفه بشكل آخر، أو إدخاله في التعريف بنحو خاصّ .

وعلى أيّ حال فلندرس ما ورد في مورد الإجارة من الآيات في الذكر الحكيم:

الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ * قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ ) .(1)

المفردات

تأجرني: تعمل لي.

ص: 224


1- . القصص: 26-27.

حجج: سنين، واحدها حِجّة. وهي مشتقّة من اسم الحج، لأنّ الحجّ يقع كلّ سنّة، وموسم الحجّ يقع في آخر شهر من السنة العربية.

أشقّ عليك: أوقعك في المشقّة.

لا عدوان عليّ : لا ظلم عليّ بأن أُكلَّف أكثر منهما وأطالب بالزيادة عليها.

التفسير

أدرك موسى عليه السلام أنّ مقامه في مصر يحيطه الخطر، ولذلك خرج نحو «مدين»، ولمّا ورد ماء مدين وجد عليه جماعة يسقون مواشيهم، ووجد على مكان بعيد امرأتين تطردان أغنامهما بعيداً عن الماء أو عن أغنام بقية الرعاة، فلمّا رآهما موسى عليه السلام كذلك تأثّر لحالهما، فتقدّم نحوهما وقال: ما شأنكما لا تسقيان مع الناس، أجابتا: لا نسقي حتى ينصرف الرعاة مع مواشيهم رغبة عن مزاحمة الرجال.

ولمّا رأى موسى الوضع المُحْرِج للمرأتين أحسّ من أعماق ضميره بوجوب مساعدتهما فسقى لهما وانصرف إلى ظل شجرة واستراح إليها من شدّة الحرّ والجوع. ثمّ إنّ المرأتين رجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها وسألهما أبوهما، فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهنّ عليّ به، فرجعت إلى موسى وقالت له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ) ليكافئك على (ما سَقَيْتَ لَنا) فاستجاب موسى للدعوة وجاء إلى بيت أبيها.

ولما قصّ موسى القصص وأنّه فرّ من جلاوزة فرعون قال المضيّف: (لا

ص: 225

تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ ) .(1)

و (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ ) وطبع الحال يقتضي أنّ تلك المرأة تكلمت مع أبيها سرّاً لا بحضور موسى عليه السلام، ثم علّلت سبب اقتراحها بقولها: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ ) فأشارت إلى أنّ قوام الاستئجار أمران:

1. كون الأجير قوياً قادراً على أداء العمل.

2. كونه أميناً غير خائن.

وقد شعرتْ بهذين الأمرين، أمّا قوّته، فقد استقى بالدلو الكبير وحده، وأمّا أمانته فإنّه بعد ما سقى لهما ابتعد عنهما إلى ظل شجرة هناك ليستريح دون أن يجتمع بهما، وكأنّه لم يعمل لهما شيئاً، كما حكى سبحانه وقال: (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) .(2)

ولمّا تبيّن للأب أنّ موسى رجل مؤمن، (قال) مخاطباً موسى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ ) شريطة (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) : أي تخدمني وترعى أغنامي (ثَمانِيَ حِجَجٍ ) : أي سنوات (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) :

أي زدتها إلى عشر سنين (فَمِنْ عِنْدِكَ ) : أي هبة من عندك غير مُلزم بها.

ولمّا كان في قوله: (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) إبهام من حيث كيفية العمل، وربّما يكون أمراً باهظاً وتكليفاً لا يُطاق، رفع الشيخ هذا الإبهام بقوله:

(وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ ) وليس هذا من قبيل تزكية النفس المنهي عنها، لأنّ موردها ما إذا كان بصدد الفخر والاستعلاء، وأمّا إذا كان4.

ص: 226


1- . القصص: 25.
2- . القصص: 24.

الهدف توضيح الحال للمخاطب حتى يطمئن إليه، فليس فيه إشكال، نظيره ما في سورة يوسف عليه السلام حيث قال للملك: (اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) .(1)

قال الفاضل المقداد: الآيتان قوله تعالى: (يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ ) وقوله تعالى:

(عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) دلّتا على مشروعية الإجارة، وإن كانت في شرع غيرنا لأصالة عدم النسخ مع اشتمال عقدها على كونه من متمّمات (مهمات) نظام النوع، لأنّه ممّا يضطر إليه، لما تقرّر في العلوم الحقيقية أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش وحده، فيفتقر إلى التعاضد وذلك غير واجب على الغير القيام به، فيجوز أخذ العوض عليه، فتشرع المعاوضة على المنفعة وذلك هو المطلوب. وفي الآية الثانية إشارة إلى وجوب ضبط العمل بالمدّة إن قدِّر بها وإلّا فبغيرها من الضوابط.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الفقرة الأُولى دليل على مشروعية الإجارة في الشرائع السابقة دون الفقرة الثانية، وسيأتي بيانه فانتظر.

***

وفي الآية الثانية أُمور فقهية نلفت نظر القارئ إليها:

1. إنّ قوله: (أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ ) يدلّ على أنّ النكاح ينعقد بهذا اللفظ، نعم لا يدلّ على عدم انعقاده بغيره كالتزويج.

2. إنّ قوله هذا، عرض واقتراح حيث لا يُعلم أنّ المخاطب موافق أو لا،2.

ص: 227


1- . يوسف: 55.
2- . كنز العرفان: 73/2.

وعلى هذا فالظاهر أنّه صدر بعد هذا، عقد من الشيخ وقبول من موسى.

3. إنّ قوله: (إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ ) عرض، لا عقد وإلّا لعيّن المعقود عليها، إذ لا يجوز نكاح غير المعيّن، فلا دلالة في الآية على جواز نكاح غير المعيّن، كما لا دلالة في الآية على جواز نكاح غير المعيّن في الشرائع السابقة حتى يحتجّ به بالاستصحاب.

4. الظاهر أنّ العمل كان مهراً للزوجة ولا إشكال فيه. فإنّ العمل يقع مهراً.

روى الفريقان أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: زوِّجني، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: مَنْ لهذه ؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول اللّه زوِّجنيها، فقال: ما تعطيها؟ فقال: ما لي شيء، فقال: لا، قال: فأعادت فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكلام، فلم يقم أحد غير الرجل، ثم أعادت، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المرّة الثالثة: أتحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «قد زوّجتكها على ما تحسن من القرآن فعلِّمها إياه».(1)

5. تقدّم أنّ كلّ ما في هذه الآية كان اقتراحاً وحواراً تمهيدياً لما سيتّفقان عليه بعد، وبما ذكرنا ظهر أنّه ليس في الآية اجتماع إجارة ونكاح، بل كان هناك نكاح وكان العمل مهراً.

نعم يقع الكلام في أنّ المهر من حقّ الزوجة دون أبيها.

والجواب: إنّ صحّة ذلك رهن إذن البنت، والمفروض أنّ حياة الجميع كانت حياة واحدة في بيت واحد، وظاهر ذلك رضا الزوجة بذلك.ر.

ص: 228


1- . الكافي: 380/5، كتاب النكاح، باب نوادر المهور.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّه ليس قوله: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) (1) على جواز الإجارة وصحّتها، لما عرفت من أنّه لم يكن هنا عقدان، عقد إجارة وعقد نكاح، بل عقد واحد وهو النكاح والمهر هو العمل، وعلى هذا فمعنى (أَنْ تَأْجُرَنِي) : أي تعمل لي، مهراً للنكاح. نعم قد تقدّم أنّ قول البنت لأبيها: استأجره، دليل على وجود الإجارة في الشرائع السابقة.

ما ذكرناه من عدم صحّة الاحتجاج بالآية هو الإشكال، وأمّا ما أفاده الفاضل الجواد من أنّ الاستدلال بالآية على المشروعية، فرع حجّية ما في الشرائع السابقة لنا، وفيه تأمّل لعدم الحجّية، ولا تكفي فيها أصالة عدم النسخ.(2)

فيلاحظ عليه: بأنّ الغاية من سرد القصص في القرآن الكريم، ليس هو التسامر؛ بل الغاية: التدبّر والاعتبار؛ وعلى ذلك فكلّ ما يذكره أو ينقله من الآخرين إنّما هو لغاية الاعتبار، إلّاإذا كان مقروناً بالردّ والنقد أو كان ظاهر الغيّ ، فلا يتبع.

ولمّا كان ظاهر قول فرعون: (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ) (3) أنّ الإيمان في حالة الاضطرار يؤثّر في نجاة الإنسان الكافر، عاد الذكر الحكيم يردّ عليه: (آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ) (4).1.

ص: 229


1- . القصص: 27.
2- . مسالك الافهام إلى آيات الأحكام: 90/3.
3- . يونس: 90.
4- . يونس: 91.

وبذلك يعلم أنّ الاحتجاج بما ورد في الشرائع السابقة ليس رهن الاستصحاب، بل كتاب اللّه حجّة إلّاإذا ثبت كون ما ورد فيه منسوخاً أو حكماً خاصّاً لأهل زمان خاص.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) .(1)

الآية بصدد بيان أحكام المطلّقات فذكرت منها ما يلي:

1. إسكان المطلّقة في بيوت الأزواج ممّا يملكون أو يقدرون عليه:

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ) .

2. تحريم الاضرار بهن بالتضييق عليهن في النفقة والمسكن لغاية إلجائهنّ إلى ترك البيت والخروج منه كما يقول: (وَ لا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) .

3. أنّ المطلقات الحاملات ينفق عليهن حتى يخرجن من العدة ولا يخرجن منها إلّابوضع حملهن، كما يقول: (وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) .

4. إذا وضعت الحامل من المطلّقات تخرج عن العدة، غير أنّ للولد حقّاً

ص: 230


1- . الطّلاق: 6.

على الأب والأُمّ ، فعلى الأُمّ أن تقوم بإرضاعه وعلى الأب أن يقوم بدفع أُجرة الرضاع للأُمّ ، كما قال سبحانه: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) ولعلّ قوله: (لَكُمْ ) دليل على أنّ الانقاق على الأُمّ في حال الرضاع من واجبات الأب.

دلّت الآية على مشروعية الإجارة وثبوت الأُجرة بها.

ثمّ إنّ الفاضل الجواد ذكر في المقام إشكالاً وهو أنّ الإجارة تمليك منفعة، واللبن عين، ثم أجاب عنه قائلاً: بأنّ الإجارة على الحضانة واللبن تابع، فصح كونها على المنفعة، ثم أمر بالتأمّل.(1)

أقول: قد عرفت أنّ الإجارة ليست من مقولة تمليك المنفعة، حتى يرد عليه الإشكال، بل عبارة عن تسليط المستأجر على العين المستأجرة، وعلى هذا لا موضوع للإشكال حتى يجاب عنه.

ثمّ إنّ المحقّق صاحب العناوين ذكر نظائر أُخرى لما ذكره الفاضل الجواد:

1. الاستحمام في الحمام.

2. استئجار الأرض للرعي.

3. استئجار البئر للسقي.

وما ينتفع به في هذه الموارد، إنّما هو عين من الأعيان كاللبن والماء.

ثمّ أجاب قدس سره بأجوبة أربعة، والأفضل ما ذكره في الثالث، قال: إنّ المنفعة أمر لا يكال بمكيال منضبط حتى يختصّ بما يقابل العين بل يدور مدار العرف ومنفعة3.

ص: 231


1- . مسالك الأفهام: 90/3.

كلّ شيء بحسبه، ولا ريب أنّ اللبن منفعة للمرضعة والماء منفعة للبئر.(1)

وبعبارة أُخرى: إنّ المنفعة في مصطلح الفقهاء غير المنفعة في مصطلح الحكماء المتكلّمين فإنّها في مصطلح هؤلاء هو الأعراض القائمة بالموضوع، فلا تصدق على لبن المرضعة ولا على ماء الحمام، لكنّها في مصطلح الفقهاء أعمّ ، والميزان عندهم كون شيء أصلاً والآخر فرعاً، وكأنّ المرضعة عندهم هي الأصل واللبن تابع وهكذا الآخرين، فتدبّر.

وإن شئت قلت: المنفعة أمر عرفي ومنفعة كلّ شيء بحسبه، ومنفعة المرضعة لبنها، والأرض رعيها، وهكذا.ن.

ص: 232


1- . العناوين الفقهية: 230/2، العنوان الحادي والأربعون.

العقود الشرعية

3. الدين أو القرض
اشارة

الدّين: ما وجب في الذمّة بعقد أو استهلاك، أو باستقراض، فهو أعم من القرض.(1)

وأمّا القرض: ضرب من القطع، وسمّي به ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله.(2)

والبحث في المقام إنّما هو في الدَّين المتحقّق بالاستقراض، وندرس ما ورد فيه من الآيات.

الآية الأُولى

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ

ص: 233


1- . حاشية ردّ المحتار لابن عابدين: 282/5.
2- . لاحظ: المفردات للراغب: 400، مادة «قرض».

يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) .(1)

المفردات

تداينتم: التداين من باب التفاعل، وهو رهن وجود شخصين لكلّ فعل، مع أنّ الدين فعل واحد يصدر من الدائن، ويمكن أن يقال: إنّ باب المفاعلة ربما يستعمل في غيرها، بشهادة ما سيأتي في قوله سبحانه: (وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ) في آيتنا هذه، مع أنّه ليس فيه إضرار إلّامن جانب واحد، لا من الجانبين.

نعم ذكر ابن عاشور وجهاً آخر وقال: إنّ المخاطب هو مجموع الأُمّة، وفي المجموع دائن ومدين، فصار المجموع مشتملاً على جانبين.(2) ولا يخفى أنّه تفسير ذوقي.

ص: 234


1- . البقرة: 282.
2- . التحرير والتنوير: 264/2.

بدين: جيء بهذا القيد مع عدم الحاجة إليه، لكونه مفهوماً من الفعل، جيء به ليكون مرجعاً للضمير في الفعل الواقع بعده أي (فَاكْتُبُوهُ ) ، ولولا ذكره لزم أن يقول: فاكتبوا الدّين.

مسمّى : أُريد تعيين آجال الديون لقطع المخاصمة عند الاختلاف، والأجل اسم والمصدر: التأجيل.

بالعدل: بالحق.

فليملل: الإملال: الإملاء، يقال: أملّ عليه وأملى عليه: بمعنى واحد.

يبخس: البخس: النقص ظلماً، يقال: بخسه حقّه: يبخسه بخساً، وثمن بخس: ناقص عن حقّه.

سفيهاً: السفيه: من له الخفّة في العقل.

ضعيفاً: الضعيف: الصغير، قال سبحانه: (وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ ) .(1)

أقسط: أعدل، والقسط: العدل، فإذا قيل: أقسط: يكون بمعنى أعدل، وإذا قيل: قسط، يقسط يكون بمعنى (جار).

التفسير
اشارة

الآية تتضمّن أحكاماً كثيرة ربما يختلف عددها حسب اختلاف الأنظار وفي «كنز العرفان»: في الآية أحد وعشرون حكماً (وربما ينقص لأجل إدخال بعضها في القصص كما سيوافيك في التفسير)؛ بل ربّما يُذكر فيها فوائد تزيد على

ص: 235


1- . البقرة: 266.

ذلك.(1)

وهذه الآية أطول آية في القرآن الكريم وتشتمل على تعاليم كثيرة في باب الدين والتي تنظم الشؤون المالية، وقد جاء بهذا البيان رجل أُمّي لم يدرس ولم يدخل مدرسة ولا كلّية اقتصادية.

ولمّا دلّت الآيات المتقدّمة عليها في سورة البقرة على تحريم الربا ربما يتبادر إلى الذهن أنّ الشارع أبطل التداين فجاء البيان القرآني بالتفريق بين الربا والتداين الذي له موقع في التجارة والصناعة والزراعة على نحو لو سدّ هذا الباب لاختلّ النظام، ولأجل ذلك حثّ على التداين وبيّن حدوده وما يجب على الدائن والمدين رعايته من التوثقات المالية والإشهاد عليها وفي ظروف خاصّة الرهن.

أضف إلى ذلك: أنّ في القرض مواساة الفقير وإغاثة الملهوف. وقد مرّ أنّ الآية بنفسها تتضمّن أحكاماً كثيرة من أحكام اللّه سبحانه في موضوع التداين، وهي:

1. التوثّق للدين بالكتابة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) لأنّ القلب يتّكل على الكتابة. وظاهر الفقرة كتابة الدين، أعني: القرض، ولكن يمكن استفادة حكم البيع نسيئة حيث إنّ المشتري يكون مديناً بالنسبة إلى ثمن المبيع. وقد روي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في السَلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم، وعنه أيضاً، قال: قدم النبي صلى الله عليه و آله و سلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: «ومَن أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى

ص: 236


1- . كنز العرفان: 46/2.

أجل معلوم».(1) وعلى هذا فلا مانع من إسراء الحكم إلى غير القرض حتى أنّ الفاضل المقداد فسّر الآية بغير القرض وقال: أي تفاعلتم بالدين إما بالسلم أو بالنسيئة أو الإجارة(2) وهو بعيد حسب السياق.

ثمّ إنّ الأمر في قوله: (فَاكْتُبُوهُ ) أمر إرشادي وليس مولوياً، ويشهد على ذلك قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ) (3)، فإنّ معناه:

فإن أمن صاحب الحقّ الذي عليه الحقّ ولم يتوثّق منه بصك ولا رهن، فلينصف (فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ ) : أي الذي عليه الحقّ (أَمانَتَهُ ) : أي ما أخذه ديناً بأن لا يجحد حقّه، ولا يبخس منه شيئاً، فلو كانت الكتابة واجبة، لما أرشد اللّه سبحانه إلى هذا النوع من التداين الذي لا يكتب ولا يرهن عليه.

2. كتابة شخص ثالث

بما أنّ الأُمّيّة كانت سائدة في الجزيرة العربية وقلّما يتّفق أن يكون المتداينان عارفين بالكتابة، وإلّا فلو كانا عارفين بها، تكفي كتابتهما، وإلّا فيمارس الكتابة شخص ثالث، كما يقول: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ ) فيكتب الثالث ما تعاقدا عليه، وأمّا ما هي صيغة المكتوب ووصفه فيأتي بيانها في الحكم التالي.

3. رعاية العدل في الكتابة

يؤكّد سبحانه على أنّ الكاتب يجب عليه رعاية الحقّ ، أي أن

ص: 237


1- . الدر المنثور: 117/2-118.
2- . كنز العرفان: 44/2.
3- . البقرة: 283.

يكتب (بِالْعَدْلِ ) : أي ما هو الواقع من دون نقص وزيادة، هذا إذا كان الكاتب غيرهما، ولو كان الكاتب أحد المتداينين فعليه أيضاً أن يكتب ما هو الحقّ ، خصوصاً إذا كان الطرف المقابل، أُمّياً.

4. عدم امتناع الكاتب عن الكتابة

لمّا كانت الكتابة موهبة من اللّه سبحانه إلى مَن تعلّمها، فعليه أن لا يمتنع عن كتابة العقد عندما لا يستطيع المتداينان عليها، أو مطلقاً، فاللّه سبحانه نهى عن امتناع من تطلب منه الكتابة عنها كما يقول: (وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ فَلْيَكْتُبْ ) ولعلّ المراد من قوله: (كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ ) أن يكتب ما يعتقده حقّاً ولا يجحف ولا يبخس.

والآية تدلّ على أنّ كلّ نعمة وهبها اللّه سبحانه عباده، تلازم الشكر، ومن مظاهره إعانة المتعاقدين اللّذين لا يعرفان الكتابة وكأنّه سبحانه يقول: (وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ ) (1).

بقي الكلام في قوله: (فَلْيَكْتُبْ ) فقد تكرّر في الآية في موضعين:

أحدهما: قوله: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) أمر به لأجل التأكيد على قوله المتقدّم: (فَاكْتُبُوهُ ) .

ثانيهما: قوله: (فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ ) جيء به لأن يترتّب عليه قوله: (وَ لْيُمْلِلِ ) .

ص: 238


1- . القصص: 77.
5. إملاء مَن عليه الحقّ على الكاتب

يجب على مَن عليه الحقّ أن يملي ويعترف بتفاصيل ما عليه من الحقّ ، فإنّ الكاتب غير واقف على ما هو الواقع، وإنّما الاعتبار على اعتراف المدين وإمضائه ورقة السند، يقول سبحانه: (وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ ) .

6. رعاية التقوى لمَن عليه الحقّ

على مَن عليه الحقّ أن يجعل نفسه أمام اللّه سبحانه، فهو يراه، فيجب أن يملي ما عليه من قليل وكثير وحقير وجليل، كما يقول: (وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ ) : أي يجعل لنفسه وقاية عن عذاب ربّه (وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ ) : أي من الحقّ (شَيْئاً) .

7. قيام إملاء الولي مكان المولّى عليه

ربما يكون المدين غير متمكّن عقلاً أو شرعاً عن بيان ما عليه من الحقّ ، كما لو كان سفيهاً، قاصراً في فكره أو مجنوناً أو صغيراً، فيقوم الولي مقام المولى عليه، وعندئذٍ يجب على الولي نفس ما وجب على المدين العاقل أي الإملاء بالحقّ كما يقول سبحانه: (فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) كالصغير (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) كأن يكون أبكم أو أصم، فعندئذٍ يقوم الولي مقامه.

8. إملاء الولي بالعدل

إذا كان المولّى عليه معذوراً (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) : أي بالحقّ ، فعلى الولي أن يملي بالحقّ كما كان على المولّى عليه أن يملي كذلك، فيكون الولي قائماً مقام المولّى عليه ويكون مكلّفاً بنفس ما وجب على المولّى عليه.

ص: 239

إلى هنا تمّ توثيق الدين عن طريق الكتابة، ولكن تأكيداً على الحقّ وقطع دابر الخلاف تأتي مرحلة أُخرى، لاكتساب الثقة، وهي:

9. الاستشهاد بشهيدين

ربما يقع الاختلاف في مفاد الكتابة، أو يُفقد ويضيع الكتاب فلأجل اكتساب الثقة، يأمر سبحانه المتداينين بالاستشهاد بشهيدين، كما يقول: (وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ) .

10 و 11. اشتراط البلوغ والإسلام

ثمّ إنّه يشترط أن يكون الشاهدان بالغَين مسلمَين، ويدلّ على هذين الشرطين قوله تعالى: (مِنْ رِجالِكُمْ ) فالصغير لا يوصف بالرجولية، وغير المسلم ليس (مِنْ رِجالِكُمْ ) .

12. قيام امرأتين مكان رجل واحد

ربما تقتضي الحال الاستشهاد بالنساء كما إذا لم يكن الشاهدان رجلين، بحيث لم يحضر حين التداين رجلان، بل حضر رجل واحد، فعندئذٍ يستشهد برجل وامرأتين، كما يقول: (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ ) .

13. اعتبار الوثاقة في الشهداء

تعتبر الوثاقة في الشهداء من غير فرق بين الرجلين أو رجل وامرأتين، كما يقول: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ ) ، وعلى ما ذكرنا فهو قيد للشهداء على وجه الإطلاق، يقول الطبرسي: وهذا يدلّ على أنّ العدالة شرط في الشهود،

ص: 240

ويدلّ أيضاً على أنّا لم نُتعبد بإشهاد مرضيّين عند اللّه لقوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ) لأنّه لا طريق لنا إلى معرفة من هو مرضي عند اللّه تعالى، وإنّما تعبّدنا بإشهاد مَن هو مرضي عندنا في الظاهر وهو مَن ترضى دينه وأمانته وتعرفه بالستر والصلاح.(1)

ثمّ إنّ قيام المرأتين مقام الرجل ليس مشروطاً بفقدان الرجلين، فقوله:

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ) بيان للواقع، وإلّا فلو اقتضت المصلحة الاستشهاد برجل وامرأتين مع وجود الرجلين فلا مانع منه، وعلى كلّ تقدير فالشارع أدخل المرأة في شؤون الحياة بعدما كانت بعيدة عنها في الجاهلية.

وربما يطرح سؤال، وهو أنّه لماذا شرط التعدّد في المرأتين ؟ وهذا ما يجاب عنه بأنّ المرأة إنسان عاطفي أوّلاً ربما تحول العاطفة بينها وبين إظهار الواقع، وثانياً أنّ الأُمور الواقعة على عاتق المرأة من إدارة البيت وتربية الأطفال ربما تكون سبباً لتطرّق النسيان عليها وقلّة حفظها، ولذلك يقول سبحانه:

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) : أي تنسى إحدى المرأتين (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى ) :

أي حذّر أن تضلّ إحداهما وتخطأ فتذكر كلّ منهما الأُخرى بما كان، فتكون شهادتها متمّمة لشهادتها، أي أنّ كلّ منهما عرضة للخطأ والضلال فاحتيج إلى قيام الثنتين مكان الرجل الواحد، لأنّهما بتذكير كلّ منهما للأُخرى يقومان مقام الرجل.(2)

ثمّ إنّ المفسّرين المتأخّرين طرحوا هنا سؤالاً وهو: لماذا قال: (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى ) بتقديم الفاعل على المفعول ولم يقل: فتذكرها الأُخرى،3.

ص: 241


1- . مجمع البيان: 275/2.
2- . تفسير المنار: 123/3.

بتقديم المفعول على الفاعل وقد ذكروا للعدول عن الإضمار إلى الإظهار وجوهاً مختلفة أطالوا الكلام فيها حتى أنّ بعضهم صاغ السؤال في أبيات، كالخفاجي، وأجاب عنه الآخر كالغزنوي، وقد نقل كلا الأمرين صاحب المنار وابن عاشور في تفسيريهما.(1)

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي ذكر وجهاً للعدول، نأتي بنص ما قال: وفي قوله:

(إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى ) وضع الظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأوّل إحداهما لا على التعيين، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الأُخرى، فالمعنيان مختلفان.(2)

وعندي أنّ وجه العدول من الإضمار إلى الإظهار هو إناقة اللفظ، فإن لها سهماً في الفصاحة، وكم فرق بين أن يقول: فتذكّر إحداهما الأُخرى، وأن يقول:

فتذكّرها الأُخرى، فالتعبير الأوّل أسهل تلفّظاً من الثاني.

14. وجوب الحضور على الشهود عند الدعوة

يجب على الشهود إذا دعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا عذر كما يقول: (وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) . نعم يشترط في لزوم الحضور أن لا يكون الحضور عليهم حرجياً واقعاً في غير موقعه، كما سيوافيك.

15. كتابة الدين جليله وحقيره

ربما يتسامح الكاتب في كتابة الدين فيكتب ما هو الجليل ويسأم من كتابة

ص: 242


1- . لاحظ: تفسير المنار: 123/3-125؛ والتحرير والتنوير: 575/2-577.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 440/2.

غيره تصوّراً بعدم الاهتمام، ولكنّه سبحانه يأمر بكتابة كلّ ما على المدين من الحقّ من غير فرق بين الصغير والكبير، يقول سبحانه: (وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى جهة ضبط الحقوق بأجمعها بقوله: (ذلِكُمْ ) : أي كتابة الدين أو الشهادة (أَقْسَطُ) : أي أعدل (عِنْدَ اَللّهِ ) ، لأنّه سبحانه أمر به (وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ ) : أي أصوب للشهادة وأبعد من الزيادة والنقصان والسهو والغلط والنسيان (وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا) : أي أقرب إلى أن لا تشكّوا في مبلغ الحقّ وأجله وغير ذلك.

16. استثناء التجارة الحاضرة

استثنى سبحانه التجارة الحاضرة، من الكتابة، وقال: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها) ووجهه واضح، وأنّ الكتابة للوثيقة، ولا يحتاج للوثيقة إلّافي النسيئة دون النقد. والظاهر أنّ الاستثناء منقطع، لأنّ الكلام فيما إذا كان هناك دين بنحو من الأنحاء، فالإتّجار مع حضور الثمن والمثمن لم يكن داخلاً حتى يستثنى.

17. الاستشهاد في المعاملة النقدية

مع أنّ المعاملة النقدية غنية عن الكتابة، مع ذلك يستحب فيها الاستشهاد خصوصاً إذا كانت المعاملة جليلة، ربما تقع في معرض الشكّ والترديد بأنّه اختلسه أو سرقه أو اشتراه.

ويستفاد من بعض الروايات الاهتمام بأحد الأمرين: الكتابة والاستشهاد،

ص: 243

فقد روى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أصناف لا يستجاب لهم، منهم: من أدان رجلاً ديناً إلى أجل فلم يكتب عليه كتاباً ولم يشهد عليه شهوداً».(1)

18. عدم إيقاع الضرار على الكاتب والشهيد

لمّا دلّ قوله سبحانه: (وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ ) على لزوم ممارسة الكتابة للكاتب، ودلّ قوله سبحانه: (وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) على لزوم الحضور، جاء البيان القرآني على أنّ طلب الأمرين منهما محدّد بعدم إدخال الضرر عليهما بأن يُوقع المتعاقدان الكاتب والشاهدين في الحرج والخسارة، كأن طلب منهما الأمرين في غير موقعهما العرفي، أو كانت المسافة بينهما وبين المتعاقدين بعيدة، كما يقول: (وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ) .

وعلى كلّ تقدير فإن أوجب ذلك أي الإضرار فهو من الإثم كما يقول:

(وَ إِنْ تَفْعَلُوا) : أي الإضرار (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) : أي خروج عن أمر اللّه سبحانه، ولعلّ الباء في قوله: (بِكُمْ ) للسببية، أي فسق بسببكم، ثمّ إنّ الآية ختمت بفقرتين:

1. (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ ) .

2. (وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) .

أمّا الأُولى فقوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ ) بإنجاز جميع أوامره ونواهيه، (وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ ) ما فيه خير لكم ديناً ودنياً، وتعليمه سبحانه عن طريق الوحي إلى أنبيائه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما قيل: وفي عطف التعليم على الأمر بالتقوى إيماء إلى

ص: 244


1- . الوسائل: 5، الباب 50 من أبواب الدعاء، الحديث 7.

أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم، غير تام.

أمّا أوّلاً: فلو أُريد هذا كان الأنسب حذف العاطف بأن يقول: «واتّقوا اللّه يعلمكم اللّه».

وثانياً: أنّ ما ذُكر مبني على أنّ المراد من تعليم اللّه إفاضة العلوم على النفس من جانب الغيب، والظاهر أنّ المراد من التعليم هو التعليم عن طريق الأنبياء والأولياء.

وإلى ما ذكرنا يشير السيد الطباطبائي بقوله: وما قيل: إنّ قوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ ) يدلّ على أنّ التقوى سبب للتعليم الإلهي، فيه أنّه وإن كان حقّاً يدلّ عليه الكتاب والسنّة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف، على أنّ هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها.(1)

ومع ذلك كلّه فقد ورد في بعض الآيات أنّ للتقوى أثراً خاصّاً كما في الآيتين التاليتين:

1. قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (2)، فرعاية التقوى تؤثّر في تمييز الإنسان الحقّ عن الباطل.

2. قوله تعالى: (وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (3)، وقال: (وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (4).4.

ص: 245


1- . الميزان في تفسير القرآن: 440/2.
2- . الأنفال: 29.
3- . الطلاق: 2.
4- . الطلاق: 4.

فلا شكّ أنّ لطهارة النفس عن الذنوب والدنس يعطي الإنسان أرضية صالحة لأن تُفاض عليه قوة قدسية يميّز بها الحقّ عن الباطل، أو يسهل اللّه عليه أمره.

وأمّا الفقرة الثانية، فقوله: (وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) فيشرّع ما فيه صلاحكم.

ثمّ إنّه كُرر لفظ الجلالة في الفقرتين وقال: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) ، والظاهر أنّ التكرار لأجل التأكيد.

نقل الطبرسي عن تفسير علي بن إبراهيم القميّ أنّه قال: إنّ في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية خمسة عشر حكماً.(1) ولعلّ تقليل العدد لإدخال بعض الأحكام في البعض الآخر، كما أنّ تكثيره إلى أحد وعشرين على العكس.

الآية الثانية

قال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .

المفردات

فرهان: الرهان: جمع رهن ويجمع على رُهن، وهو مصدر أُريد به الشيء المرهون، تسمية للمفعول بالمصدر، كالخلق يُراد به المخلوق، ومعنى الرهن أن يُجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه، على نحو لو لم يؤدّ

ص: 246


1- . مجمع البيان: 277/2، نقلاً عن تفسير القمي.

الراهن دينه، فعلى المرتهن استنقاذ حقّه من العين المرهونة بإذن الحاكم.

مقبوضة: أي مأخوذة من الراهن لتقع في يد المرتهن. والقبض شرط صحّة الرهن، أو شرط لزومه، والتفصيل على عاتق الفقه.

وعلى كلّ تقدير فالعين المرهونة أمانة مالكية فلا ينتفع المرتهن من الرهن إلّا إذا امتنع الراهن عن قضاء الدين.

أمانته: أُريد به الدين في ذمّة المدين.

التفسير

تبيّن ممّا سبق أنّ طريق التوثّق بالدين هو الكتابة منضمّاً إلى الاستشهاد. ثم إنّه يقع الكلام فيما إذا لم يوجد كاتب فيقوم الرهن مقامهما، كما يقول سبحانه:

(وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) ، فالسفر قيد غالبي وليس مقوّماً للحكم، بل يجوز الرهان حتى إذا كان المتداينان في الحضر.

روى عبد اللّه بن جعفر (في قرب الإسناد) بسنده عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: «لقد قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإنّ درعه لمرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها نفقة لأهله».(1)

ثمّ إنّ صاحب الحقّ لو ائتمن الذي عليه الحقّ ولم يستوثق لا بصك ولا رهن فعلى من عليه الحقّ أداء الحقّ بتمامه، كما يقول: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أُريد من البعض الأوّل الدائن ومن الثاني المديون، فالفقرة كالتكملة لصورة الرهن في السفر، والمعنى إنّ أمن صاحب الحقّ الذي عليه الحقّ ، ووثق به وأتمنه على

ص: 247


1- . الوسائل: 12، الباب 2 من أبواب الدين والقرض، الحديث 9.

حقّه ولم يستوثق منه بصك ولا رهن، (فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ ) : أي المديون الذي عليه الحقّ ، يؤد (أَمانَتَهُ ) الدين ولا يبخس منها شيئاً (وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ ) ولا يتّخذ اعتماد الدائن ذريعة لبخس حقّه.

ثمّ إنّ المنساق من الآية هو أنّ الدائن إذا أمن المديون فعليه ترك أخذ الرهن في السفر، ولكن المقصود هو الأعم، من غير فرق بين السفر والحضر، فمن جانب يرخص للدائن أن يترك أخذ الوثيقة بنحو من الأنحاء، ومن جانب آخر يوصي المؤتمن بأداء الحقّ واتّقاء ربّه.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ ) في أي مورد من الموارد (وَ مَنْ يَكْتُمْها) : أي الشهادة مع علمه بالمشهود به (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) ، نسب الإثم إلى القلب لأنّ العزم على الكتمان يقع بالقلب، ولعلّ القلب كناية عن النفس الإنسانية، وهويته الواقعية (وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ ) : أي ما تسرّونه وتكتمونه (عَلِيمٌ ) .

الآية الثالثة

قال سبحانه: (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

فنظرة: النظرة: التأخير، وهو اسم قام مقام «الإنظار»، نظير «الآخرة» تقوم مقام «الآخر»، يقال: رأيت فلاناً في آخرة الناس، أي في آخرهم.

ميسرة: بمعنى السعة والغنى.

ص: 248


1- . البقرة: 280.
التفسير

لمّا تقدّم في الآية السابقة على آيتنا هذه قوله: (وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) وأنّ للمرابي أن يأخذ رأس ماله فقط ويترك الربا، فناسب بيان حكم الغريم المعسر الذي لا يستطيع ردّ رأس المال، فبيّن أنّ للدائن أحد خيارين:

الأوّل: إنظاره إلى ميسرة كما قال: (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ) ، (كانَ ) هنا تامّة لا تفتقر إلى خبر كقول الربيع بن ضبع الفزاري:

إذا كان الشتاء فأدفئوني *** فإنّ الشيخ يهدمه الشتاء

أي إن وجد ذو عسرة (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) الفاء جواب الشرط، بمعنى يمهل حتى يتمكّن من أداء الدين، والمراد بالمعسر مَن يعجز عن أداء ما عليه من الدين، فإذا تحقّق العجز وجب الإنظار وحرمت المطالبة والحبس.

ومع القدرة تحلّ المطالبة ويجوز الحبس لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ليّ الواجد يُحلّ عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره اللّه عزّ وجلّ ».(1)

واللي: المطل، والعقوبة: الحبس، والعرض: المطالبة.(2)

وأمّا ما هو حدّ الإعسار فقد روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد».(3)

ثمّ إنّ الإمهال لا يختص بمورد القرض بل يعمّ كلّ دين، وقد نسبه الطبرسي إلى أبي جعفر عليه السلام. ثمّ لو افترضنا أنّ المديون لم يستطع أداء دينه فقد روي عن

ص: 249


1- . الوسائل: 13، الباب 8 من أبواب الدين والقرض، الحديث 4.
2- . كنز العرفان: 57/2.
3- . مجمع البيان: 265/2.

الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: (إِلى مَيْسَرَةٍ ) معناه: إلى أن يبلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارم إذا أنفقه في المعروف.(1)

ثمّ إنّ ما ذكره الطبرسي فهو المروي في «الكافي» عن محمد بن سليمان عن رجل من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمد، قال: سأل الرضا عليه السلام رجلٌ وأنا أسمع، فقال له: جعلت فداك إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ في كتابه، لها حدّ يُعرف، إذا صار هذا المعسر إليه لابدّ له من أن ينتظر، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله، وليس له غلّة ينتظر إدراكها، ولا دين ينتظر محلّه، ولا مال غائب ينتظر قدومه ؟ قال: «نعم، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة اللّه عزّ وجل، فإن كان أنفقه في معصية اللّه عزّ وجلّ فلا شيء له على الإمام»، قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه ؟ في طاعة اللّه أم في معصيته ؟ قال: «يسعى له في ماله فيردّه عليه وهو صاغر».(2)

الثاني: على الدائن مسامحة المدين بإسقاط الدين عنه وإبرائه، وقد أُشير إليه بقوله: (وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) : أي إن تتصدّقوا فهو خير لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ما في هذا العمل من الفوائد، ويعلم أثر هذا العمل من رواية رواها معاوية بن عمّار الدهني، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

مَن أراد أن يظلّه اللّه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّاظلّه، فلينظر معسراً أو ليدع له من5.

ص: 250


1- . مجمع البيان: 265/2.
2- . الكافي: 94/5، برقم 5.

حقّه».(1)

فلو فُسّر التصدّق في الآية بالإبراء تكون النتيجة أنّه لا رجوع بعده، لأنّ إسقاط الدين بمعنى إخلاء ذمّته عنه، ومعه كيف يمكن الرجوع. نعم لا يشترط فيه القبول ولا حضور المديون، لأنّ الدين حقّ للدائن فله أن يطالبه وله أن يسقطه.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: (خَيْرٌ لَكُمْ ) لعلّه إشارة إلى أنّ الطريق الثاني أفضل من الأوّل لأنّ استيفاء الدين لا يترتّب عليه الثواب بخلاف التصدّق فإنّه يكون مقروناً بالثواب إذا قصد القربة، ولذلك أتمّ سبحانه الآية بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .8.

ص: 251


1- . تفسير العياشي: 279/1، برقم 618.

العقود الشرعية

4. الضمان والكفالة
تمهيد

عُرّف الضمان بأنّه عقد شرّع للتعهّد بمال أو نفس(1)، والتعهّد بالمال قد يكون ممّن عليه للمضمون عنه مال، وقد لا يكون، والضمان المطلق ينصرف إلى مَن ليس عليه للمضمون عنه مال.(2)

فهل الضمان عبارة عن نقل المال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، فليس للمضمون له إذا قبل الضمان إلّامطالبة الضامن لبراءة ذمّة المضمون عنه ؟ أو هو عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة ؟ فالإمامية على الأوّل، والفقهاء الأربعة على الثاني، واستدلّ للقول الأوّل بما رواه الشيخ في «الخلاف» عن أبي سعيد الخدري، قال:

كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جنازة، فلمّا وضعت قال: هل على صاحبكم من دين ؟ قالوا: نعم درهمان، فقال: صَلُّوا على صاحبكم، فقال علي عليه السلام: هما عليّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فصلى عليه، ثمّ أقبل على عليّ عليه السلام، فقال:

«جزاك اللّه عن الإسلام خيراً، وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك».(3)

ص: 252


1- . قوله: «أو نفس» لأجل إدخال الكفالة في التعريف فالضمان في مقابل المال، والكفالة في مقابل النفس.
2- . لاحظ: شرائع الإسلام: 107/2.
3- . الخلاف: 8/2؛ الوسائل: 13، الباب 3 من أبواب كتاب الضمان، الحديث 2.

غير أنّ السائد في أكثر المجتمعات هو ضمّ الذمّتين احتياطاً، حتى إذا لم يتمكّن الدائن من استيفاء دينه من الضامن، يرجع إلى المضمون عنه.

وعلى كلّ تقدير فهو عقد مشروع تدور عليه رحى التجارة في غالب الأوقات. ويظهر من الآيات التالية كونه مشروعاً في الأُمم السالفة.

الآية الأُولى

قال سبحانه: (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) .(1)

المفردات

صواع الملك: إناء يُشرب به ويُكال، وهو يذكّر ويؤنّث.

زعيم: الزعيم: المتكفّل، وربما يطلق على الرئيس، وهي من الزعامة بمعنى الكفالة.

لمّا أراد يوسف أن يحتفظ بأخيه إلى جنبه، فألهمه اللّه سبحانه من أجل تحقيق بغيته تدبيراً محكماً، ولأجل ذلك أمر يوسف عليه السلام بعض فتيانه بدسّ الوعاء الذي يُسقى به في الرحل الخاص بأخيه بنيامين عند تجهيزهم بالطعام، قال سبحانه: (فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) ، ولمّا أراد أبناء يعقوب الانصراف، نادى المنادي في القافلة: (أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) وعندئذٍ صعق أبناء يعقوب لهذا الخبر الذي يُسيء إلى سمعتهم ويغلق عليهم باب

ص: 253


1- . يوسف: 72.

الحصول على الطعام في هذه الظروف العصيبة، ولذا سارعوا إلى فتيان يوسف ليسألوهم عن حقيقة الأمر: (قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) فأجابهم الفتيان:

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ اَلْمَلِكِ ) وأضافوا (وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) : أي ما يحمله البعير من الطعام بالإضافة إلى ما يستحقّ (وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) : أي ضمين وكافل.

الاستدلال بالآية على مشروعية الضمان في الأُمم السابقة، مبني على أنّ عاقد الجعالة، غير الضامن، حتى يتعدّد المضمون عنه والمضمون له، وإلّا فلا يصحّ الاستدلال لدى الاتّحاد.

وقد دلّت هذه الفقرة على مشروعية الضمان في الأُمم السابقة حيث إنّ النبيّ يوسف عليه السلام كان له إشراف على عمل فتيانه. وقد مرّ منّا سابقاً أنّ القرآن الكريم إذا نقل شيئاً من الأحكام السائدة في الأُمم المتقدّمة، فهو حجّة علينا ما لم يثبت نسخه، وهذا ممّا لم يثبت نسخه، فإنّ القرآن كتاب هداية، فما يذكره إنّما هو لأجل العبرة والاعتبار.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيتها. وقد قال الفاضل المقداد: في صدر الآية حكمان:

1. مشروعية الجعالة، أعني قوله: (وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ، والجعالة تقع على كلّ عمل محلّل مقصود وإن كان مجهولاً.

2. مشروعية ضمان مالها لأنّه وإن لم يكن لازماً لكنّه آل إليه.(1)

أقول: قوله أخيراً «لكنّه آل إليه» بصدد تصحيح الضمان في المورد، حيث2.

ص: 254


1- . كنز العرفان: 66/2.

إنّه اشتهر بينهم بطلان ضمان ما لم يثبت أو بطلان ضمان ما لم يجب، والمورد من هذا القبيل حيث لم يثبت لمن جاء به شيء ما لم يؤت بالصواع حتى يضمنه المؤذن، فأجاب عنه قدس سره بأنّه آل إليه إلى لزوم العقد ووجدان الصواع.

ولكن الحقّ أنّ باب الضمان أوسع من ذلك فكما يصحّ الضمان على ما وجب وتحقّق، يصحّ على ما فيه اقتضاء الثبوت كالضمان فيما يحتمل أن يكون المبيع مستحقّاً للغير، نفترض أنّ زيداً يشتري لباساً من عمرو، ولكنّه يحتمل أن يكون مسروقاً أو مغصوباً، فيضمنه الثالث، فهو صحح بلا إشكال، لكفاية المقتضي، أعني: البيع الذي هو في مظنة ثبوت الضمان.

الآية الثانية

قال سبحانه: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (1).

لمّا تقدّم في الآيات السابقة الحديث عن عدم مساواة المسلمين مع المجرمين يوم القيامة كما في قوله تعالى: (أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) (2)، وكان الظاهر من المشركين هو التسوية، ولذلك ردّ عليهم بقوله: (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ، أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يسألهم بقوله: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) : أي سلهم يا محمد أيّهم بذلك زعيم، أي أيّهم كفيل بأنّ لهم في الآخرة ما للمسلمين.(3) فتدلّ الآية على مشروعية الكفالة حين نزول الآية، وأنّ الآية تحاكمهم بأنّه ليس فيكم أحدّ يضمن تلك التسوية ويتكفّلها.

ص: 255


1- . القلم: 40.
2- . القلم: 35.
3- . مجمع البيان: 105/10.

العقود الشرعية

5. الصلح
تمهيد

الصلح: عقد شُرّع لقطع التجاذب، وليس فرعاً على غيره، ولو أفاد فائدته.(1)

والحقيقة أنّ الصلح رابطة بين شخصين، كما أنّ البيع نوع رابطة بين المالين، ولذلك يقول سبحانه: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (2) بخلاف البيع فإنّه مبادلة مال بمال. ولذلك فلو أفاد الصلح معنى (فائدة) البيع، أي تمليك شيء بشيء، لا يكون دليلاً على كون الصلح فرع البيع؛ بل هو أمر مستقل تختلف نتائجه حسب اختلاف الموارد، ولذلك قال المحقّق: «وليس فرعاً على غيره».

وأمّا الآيات التي ذكرت الصلح، فهي على قسمين: 1. ما يدلّ على الصلح مع المعتدي أي التصالح بالعقد، 2. ما يدلّ على حسن التعامل نظير قوله في مورد الأنفال: (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (3)، وكان اللازم الاقتصار على القسم الأوّل، لكنّنا اقتفينا أثر المشايخ الذين درسوا باب الأحكام كالفاضل المقداد في كنزه، فلاحظ.

ص: 256


1- . شرائع الإسلام: 121/2.
2- . الحجرات: 10.
3- . الأنفال: 1.
الآية الأُولى

قال سبحانه: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ) .(1)

قد مرّ تفسير الآية في كتاب الجهاد عند دراسة أحكام البغاة فلاحظ.

الآية الثانية

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .(2)

هذه الآية تصف المجتمع الإيماني بأنّه مجتمع أخويّ أي أنّ الرابطة بين أفراده هي رابطة الإخوّة، ووجه التعبير بها هو أنّ العلاقة القوية التي ليس فوقها علاقة مثلها بين إنسانين يعيشان في مستوى واحد هي علاقة الإخوّة، وأمّا علاقة الأُبوّة والبنوّة أو الأُمومة والبنتية وإن كانت أشدّ من علاقة الإخوّة والأُختية، لكن الأب والابن لا يعيشان في مستوى واحد، وهكذا الأُم والبنت، ولذلك اختار سبحانه في الدعوة إلى الوحدة والانسجام علاقة الإخوّة وقال: (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ

ص: 257


1- . الحجرات: 9.
2- . الحجرات: 10.

إِخْوَةٌ ) .

ثم إنّ هنا سؤالاً وهو: لماذا خصّ المؤمنين بتلك العلاقة القوية، ولم يوسّع موضوعها حتى يصفَ المجتمع الإنساني كلّه بهذه الرابطة، كما نراها في المادّة الأُولى من بيان منظمة الأُمم المتحدة ؟

والجواب عن ذلك واضح وهو: أنّ هذه العلاقة التي يصوِّرها الإسلام بين المؤمنين ليست عنواناً تشريفياً وإنّما هي عنوان تترتّب عليه تكاليف ووظائف، ولذلك يقول في المقام بعد بيان الإخوّة (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) مشعراً بأنّ هذه الإخوّة ليست أمراً لفظياً مبنياً على المجاملة، وإنّما هي عنوان يفرض تكاليف على عاتق الأُمة الإسلامية، ولذلك وردت الإخوّة الإسلامية موضوعاً لتكاليف كثيرة في الكتاب والسنّة.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على لزوم وجود الوحدة الفكرية عقيدة وهدفاً بين الأَخوين، فهذا هو الذي يبعثهما على التعاون والتكاتف، وإلّا فلو اختلفا عقيدة وهدفاً، لَما وجد المؤمن في نفسه حافزاً للتعامل بهذا الأُسلوب.

وحصيلة الكلام: أن كلّ مجتمع يدور على محور واحد وهو الرؤية الكونية الواحدة (الإيمان باللّه واليوم الآخر)، يجد في نفسه ميلاً إلى التعاون مع الآخرين وبناء علاقات سليمة معهم، وعلى العكس من ذلك فلو تخلّى المجتمع عن هذا الأساس الفكري الموحّد لرأيته متّحداً ظاهراً، متفسّخاً من الداخل، وإن نادوا بالوحدة فإنّما يقولون ذلك بألسنتهم، وقلوبهم شتّى ، ولذلك خصّ اللّه سبحانه تلك الأُخوّة بالمؤمنين لا بكلّ الناس، ومع ذلك يرى لكل إنسان وإن كان كافراً حقوقاً خاصّة يتمتّع بها داخل المجتمع الإسلامي، ومن هنا قال الإمام علي عليه السلام في

ص: 258

عهده لمالك الأشتر: «فَإِنَّهُمْ - يعني الرعيّة أو الناس - صِنْفَانِ : إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ »(1).

إنّ تنزيل المؤمنين منزلة الإخوة لا يريد به القرابة الشرعية كما لا يريد به عنواناً حزبياً يجمع الأفراد في خط سياسي، بل هي تشريع مبني على أساس وجود الإيمان فيهم، تترتّب عليه آثار وأحكام كلّها تشير إلى أنّ الاخوّة ليست شعاراً أجوف أو رمزاً حزبياً، بل هي أُلفة بين المؤمنين وتحابٌّ في اللّه، وتواصل بينهم، ولذلك قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى»(2).

وورد عنه أيضاً صلى الله عليه و آله و سلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه»(3).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً: «مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأُخرى».(4)

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) .(5)

ص: 259


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 53.
2- . مسند أحمد: 4/270.
3- . المحجّة البيضاء: 3/332.
4- . الكافي: 2/133، باب إخوّة المؤمنين بعضهم لبعض.
5- . النساء: 35.
المفردات

شقاق: الشقّ : الخرم الواقع في الشيء، يقال: شققته نصفين. وأُريد هنا المخالفة، وكونه في شق، والزوجة في شقّ آخر.

التفسير

كان الموضوع في الآية المتقدّمة على هذه الآية هو نشوز المرأة، فأمر سبحانه بأن يكون العلاج بالهجر في المضاجع أو الضرب غير المبرح.

وستوافيك دراسة الآية في كتاب النكاح.

وأمّا آيتنا هذه فهي تعالج مرحلة خطيرة في حياة الأُسرة وهي مرحلة حصول الشقاق بين الزوج والزوجة، بحيث ينشق كلّ إلى جانب مباين، فلا يتمكّن الزوج ولا الزوجة من علاجها.

وإلى هذه المرحلة يشير سبحانه بقوله: (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) ففي هذه الحالة يقوم الحاكم - أو من يقوم مقامه الذي أُنيط به تنفيذ الأحكام - بتشكيل محكمة صالحة يحضر فيها من كلا الطرفين ممّن لهم فكر صالح لحفظ بناء الأُسرة، كما يقول: (فَابْعَثُوا) الخطاب للإمام أو لمَن يقوم مقامه (حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها) . ثم إنّ القيام بتشكيل هذه المحكمة تارة يكون بمباشرة الإمام وأُخرى بمَن يأمره الإمام أن يشكّلها، ففي «الدر المنثور» عن عبيدة السلماني أنّ أمير المؤمنين علي عليه السلام أمر الفئامين(1) الّذين جاءوا مع الرجل والمرأة «أن يبعثوا

ص: 260


1- . الجماعة الكثيرة.

حكماً من أهله وحكماً من أهلها».(1)

قلنا إنّ الخطاب في قوله: (فَابْعَثُوا حَكَماً) لمَن بيده نظام الأُمور، الّذي له كلمة نافذة، ولذلك يقول الشيخ الطوسي: إنّ المأمور ببعث الحكمين هو السلطان الّذي يترافعان إليه.(2)

ثم إنّه سبحانه قيّد المبعوث بالأهل لأنّهم أقرب إلى الاطّلاع على الخفايا ومناهج الإصلاح، والظاهر عدم الانحصار بهم خصوصاً مع عدمهم أو عدم صلاحيتهم.(3)

ثم إنّه يشترط في المبعوث الكفاءة لهذا الأمر وهي تختلف حسب موارد اختلاف الزوجين، فلابدّ أن يكونا بالغين عاقلين، بعيدين عن إعمال الغرض، متحرّين رفع الشقاق وإيجاد الوئام.

نعم ظاهر الآية الإطلاق من غير فرق بين الذكر والأُنثى .

قوله: (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما) الظاهر أنّ الضميرين يرجعان إلى الزوجين، أي إن أراد الزوجان نوعاً من الإصلاح من غير عناد ولجاج يوفق اللّه بينهما.

وربّما يقال: إنّ الضميرين يرجعان إلى الحكمين، فإن أرادا إصلاح شأن الزوجين دون تحيّز إلى جانب دون جانب فاللّه سبحانه يوفّق بينهما، ويجمع رأيهما على الصواب (إِنَّ اَللّهَ كانَ ) ولا يزال (عَلِيماً) بحقائق الأُمور (خَبِيراً)1.

ص: 261


1- . تفسير الدر المنثور: 2/525؛ تفسير العياشي: 1/241.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 3/192.
3- . آلاء الرحمن: 2/401.

بالسرائر والنيّات.

ثم إنّ صاحب الجواهر ممّن رجّح القول الثاني ورتّب عليه قوله: وينبغي للحكمين إخلاص النيّة في السعي وقصد الإصلاح فمَن حسنت نيّته فيما تحرّاه أصلح اللّه مسعاه، وكان ذلك سبباً لحصول مسعاه، كما ينبّه عليه قوله تعالى: (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما) ومفهوم الشرط يقتضي أنّ عدم التوفيق بين الزوجين يدلّ على فساد قصد الحكمين وأنّهما لم يجتمعا على قصد الإصلاح، بل في نية أحدهما أو هما فساد، فلذلك لم يبلغا المراد، والظاهر أنّه هو السبب في الفساد في تحكيم ابن العاص وأبي موسى الأشعري في أيّام صفين.(1) فإنّ نيّة كلّ منهما كانت فاسدة وإن كان الأوّل أشدّ من الثاني، ولذا ترتّب عليه ما ترتّب. واللّه العالم.(2)

لو اتّفقا على الفراق

ثم إن اتّفقا على بقاء علقة الزوجية فهو، وإلّا فلو رأوا أنّ الصلاح في التفريق بينهما بالطلاق، فهو يحتاج إلى إذن الزوج.

روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام؛ قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ :

(فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها) ؟ قال: «ليس للحكمين أن يفرّقا حتّى يستأمرا».(3)

ولكن يعارضه ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه عزّوجلّ :

ص: 262


1- . الكامل لابن الأثير: 2/318.
2- . جواهر الكلام: 31/217-218.
3- . الوسائل: الباب 12 من أبواب القسم والنشوز والشقاق، الحديث 1.

(فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها) قال: «الحكمان يشترطان، إن شاءا فرّقا وإن شاءا جمعا، فإن جمعا فجائز، وإن فرّقا فجائز».(1)

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(2)

المفردات

نشوزاً: النشز: المرتفع من الأرض، ونشوز البعل هو رفع نفسه عليها.

الشح: الإفراط في الحرص على الشيء، من غير فرق بين تعلّقه بالمال أو غيره، يقال: شحيح بمودّتك.

التفسير

إنّ الاختلاف بين الزوجين تارة يحصل من ترفّع الزوجة على الزوج، وتصير النتيجة عدم طاعتها له، وهذا ما ذكره سبحانه في الآية 34 من سورة النساء، وأمر بعلاج النشوز بوجوه ثلاثة. ويأتي الكلام فيها في كتاب النكاح؛ وأُخرى يكون من ترفّع البعل على الزوجة، وتظهر أماراته من معاشرته لها، فهذا ما تذكره آيتنا هذه؛ وثالثة يكون من ترفّع كلّ على الآخر، وقد مرّ الحديث عنه في الآية

ص: 263


1- . الوسائل: الباب 12 من أبواب القسم والنشوز والشقاق، الحديث 2.
2- . النساء: 128.

الثالثة.

وعلى هذا يقول سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ ) : أي علمت أو ظنّت (نُشُوزاً) : أي إظهار التفوّق والخشونة قولاً وفعلاً، أو أقل من النشوز وإليه يشير بقوله: (أَوْ إِعْراضاً) : أي السكوت عن الخير والشرّ على نحو يحكي عن تنفّره، فاللّه سبحانه لا يرضى بالتفرّق وانحلال الأُسرة، فيشير إلى نوع تصالح بينهما ويقول: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) : أي لا تثريب عليه ولا عليها (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) ويتّفقا على الصلح وتبقى العصمة، وذلك بتنازل المرأة عن بعض مالها من الحقوق.

نعم إنّما يحلّ للرجل ما يأخذه منها إذا كان برضاها، حيث تعتقد بأنّه خير لها من أن يطلّق. ثمّ إنّه سبحانه يظهر رضاه بالصلح ويقول: (وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق والفراق. واللام في قوله: (وَ اَلصُّلْحُ ) إشارة إلى الصلح بين الزوجين وهو خير من التفرقة، لا أنّ الصلح مطلقاً جائز.

نعم الصلح خير، هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ كلّ إنسان حريص على ماله وحقوقه، فالنساء حريصات على حقوقهن، كما أنّ الرجال حريصون على أموالهم كما في قوله تعالى: (وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ ) : أي جُعل الشحّ حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً، ولا تنفك عنه، إذ هي مطبوعة له، فيكون كناية عن أنّ الأنفس مطبوعة على الشح، مجبولة عليه. فتعديل الشح في المقام، أصلح لحالهما.

ثمّ إنّ الحرص والطمع بنفسهما من أسباب الحياة والبقاء، إذ لولا الحرص لما اكتسب الإنسان لغده شيئاً ولما ادّخر لأولاده مالاً، ولكن يجب أن تُعدّل هذه

ص: 264

الغريزة كما يقول: (وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) (1) وأمّا المقام فعلى الزوجة أن تتنازل عن بعض حقوقها وتعدّل حرصها على مالها، فالتنازل هنا لا يُعدُّ عيباً بل كمالٌ ؛ لأنّها تبذل مالها وحقوقها في سبيل تحقيق هدف أعلى وأنبل، ولذلك يقول سبحانه: (وَ إِنْ تُحْسِنُوا) المعاشرة (وَ تَتَّقُوا) النشوز والإعراض (فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .

والآية تدلّ على اهتمام التشريع الإسلامي بحفظ العلاقة الزوجية وعدم انقطاعها مهما أمكن من بذل بعض الحقوق، إلّاإذا تقطّعت الأسباب وبلغت كراهة كلّ من الرجل والمرأة إلى حدّ لا يرجى اتّفاقهما على استمرار الحياة المشتركة.

ودراسة هذه الآيات في المقام أغنانا عن دراستها في كتابي النكاح والطلاق.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) .(2)

المفردات

نجواهم: النجوى: هو اسم مصدر يقوم مقام المصدر وهو السرّ بين الاثنين.

ص: 265


1- . الحشر: 9.
2- . النساء: 115.

المعروف: كلّ ما استحسنه العقل أو الشرع، وذكره بعد الصدقة من قبيل ذكر العام بعد الخاص، وإنّما أفرد الصدقة بالذكر رغم أنّها من أقسام المعروف لأنّها الفرد الكامل في الحاجة إلى النجوى بالطبع.

التفسير

الآية ناظرة إلى المسارّة في أُمور الناس أو أُمور المسلمين لغاية التخطيط للإضرار بهم، ولذلك نهى عنها سبحانه وقال: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ) السرّ بين الاثنين، لأنّ الغالب عليه هو الإضرار بالآخرين، ثمّ استثنى موارد ثلاثة:

1. (إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ) فإنّ إظهارها قد يؤذي المتصدّق عليه ويضع من كرامته.

2. (أَوْ) أمر ب (مَعْرُوفٍ ) فالذي يأمر بالمعروف على مسمع من الناس، يورث الإيذاء، ولأجل ذلك كانت النجوى به أبعد عن الأذية، وأقرب إلى القبول والإمضاء.

3. (أَوْ) أمر ب (إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ ) ، فالإصلاح بينهم - أيضاً - من الخير الذي قد يترتّب على إظهاره والتحدّث به في الملأ شرّ كثير، فالإصلاح بين الناس يحتاج فيه إلى الكتمان.(1)

بقي هنا كلام وهو أنّ المستثنى منه هو النجوى الذي هو السرّ بين الاثنين، وأمّا المستثنى منه فهو الشخص، كما قال: (إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ) ، فتكون الآية نظير قوله تعالى: (وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) (2)، فإنّ البرّ مصدر أُخبر عنه

ص: 266


1- . تفسير المنار: 206/5-207 بتصرف.
2- . البقرة: 177.

بالشخص. وقد مرّت الإجابة عن ذلك في البحوث السابقة. وذكرت في المقام وجوه أوضحها تقدير كلمة «نجوى» بأن يقال: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ ) .

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .(1)

المفردات

الأنفال: جمع نفل وهو الزيادة على الشيء، وأُريد هنا الغنائم الحربية.

التفسير

الآية تدلّ على أمرين:

1. وجود السؤال عن حكم الأنفال.

2. وجود الشقاق والاختلاف بين المجاهدين. و الأمر بالتقوى وإصلاح الحال.

أمّا الأوّل فيدلّ عليه قوله سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ ) : أي لمَن هي، وبيد من تقع ؟ فأُجيبوا بقوله سبحانه: (قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ ) وبذلك قطع النزاع في أمر الأنفال. ثم جاء في آية الخمس ما يبيّن مصارف الخمس من الغنائم،

ص: 267


1- . الأنفال: 1.

فالأخماس الأربعة للمجاهدين والخمس الخامس للأصناف الستة.

وأمّا الثاني فقوله: (فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) وتدلّ هذه الفقرة على حصول النزاع والتخاصم بين القوم في أمر الأنفال، ولذلك يقول: (فَاتَّقُوا اَللّهَ ) : أي اتركوا المنازعة وارضوا بما حكم به الرسول (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) : أي الحال الذي بينكم، واجتنبوا الجدال، والشقاق وكونوا إخواناً متحابّين. وقد مرّت دراسة الآية على وجه التفصيل في مبحث الجهاد.

إلى هنا تمّ الكلام في دراسة الصلح بالمعنى الأعم، سواء أكان عقداً أو غيره.

وكان اللازم الاقتصار على الأمر الأوّل لأنّ موضوع البحث هو العقود، وقسم من هذه الآيات وإن ورد في الصلح ولكن أُريد به التصالح العملي والأخلاقي والاجتناب عن الجدال، غير أنّا اقتفينا في ذلك كتاب «كنز العرفان» وغيره.

***

تنبيه

قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ ) (1). له علاقة بموضوع الصلح، كما له علاقة بالطلاق، فلنترك البحث فيها إلى كتاب أحكام الطلاق، فانتظر.

ص: 268


1- . البقرة: 229.

العقود الشرعية

6. الإيداع والوديعة
تمهيد

وربما يعبّر عنه بالوديعة وتعرّف بأنّها عبارة عن استنابة في الحفظ، ويفتقر إلى إيجاب وقبول ويقع بكلّ عبارة دلّت على معناها، ويكفي الفعل الدالّ على القبول. ولو طرح الوديعة عنده لم يلزمه حفظها إذا لم يقبلها، وكذلك لو أكره على قبضها لم تصر وديعة ولا يضمنها لو أهمل.(1)

لما كانت الحياة في القرون السابقة حياة بسيطة، هذا من جانب ومن جانب آخر عدم توفّر الأمن في البيوت خصوصاً إذا كان صاحب البيت شخصاً مغموراً، فلم يكن بد لأصحاب الأمانات إلّاأن يودعوها عند الأُمناء من الناس الذين كان بإمكانهم حفظ الودائع. فصار ذلك سبباً لتشريع أحكام الوديعة. ولذلك فعلينا دراسة ما ورد من الآيات حول هذا العقد.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا

ص: 269


1- . شرائع الإسلام: 163/2.

حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) .(1)

المفردات

الأمانات: يتبادر من الأمانة الوديعة المالية عند الغير، غير أنّ مقتضى صلة الآية بما قبلها إرادة الأعم، ويشمل الأُمور المعنوية المودعة عند الإنسان، كما لو كان سرّاً أو نصيحة وغير ذلك.

التفسير

الأمانة مشتقّة من الأمن الحاصل من حسن الظن بالمستأمن فيجب عليه أن يكون كذلك فتحرم عليه الخيانة والتعدّي والتفريط بإهمال أسباب حفظها من المؤذيات، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأمانة في كيفية حفظها عرفاً.(2)

تتضمّن هذه الآية بيان أمرين:

1. وجوب أداء الأمانة إلى أهلها.

2. وجوب القضاء بالعدل والحكم به.

إنّ هذه الآية ومابعدها التي تأمر بإطاعة اللّه وإطاعة الرسول وأُولي الأمر

ص: 270


1- . النساء: 58.
2- . كنز العرفان: 76/2.

«منكم» من غرر الآيات في سورة النساء، وفي الحقيقة يُعدّ مضمونهما أساساً للحكومة الإسلامية، ويشكّلان اللحمة والسداة لها.

إنّ الحكومة التي تضمن نجاة الشعب ورُقيّه وتقدّمه، مبنية على أمرين:

1. قانون رصين.

2. حاكم عادل.

فالآية الأُولى تشير إلى الأمر الأوّل وهو ردّ الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، والآية الثانية تأمر بإطاعة اللّه والرسول وأُولي الأمر، وعلى هذا فعلى الباحث أن يتدبّر في مضمون الآيتين حتى يصل إلى ما أراده اللّه سبحانه من الخير للأُمّة.

فلنفسّر الآية الأُولى فقط لأنّها هي مورد الدراسة.

إنّ في هذه الآية احتمالين:

الأوّل: أنّ الآية بحكم صلتها بما قبلها تهدّد اليهود، حيث إنّهم لم يؤدّوا الأمانات الإلهية إلى أهلها، فيكون الغرض من الخطاب للمؤمنين، الردّ على علمائهم وأحبارهم حيث كتموا أحكام اللّه سبحانه فراج بينهم الربا مع أنّهم نهوا عنه وكتموا بشائر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فخانوا أمانات اللّه سبحانه، ولذلك يقول تعالى: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، وأمّا قوله سبحانه: (وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ففيه أيضاً ردّ على اليهود حيث إنّ كعب بن الأشرف وغيره جاروا في الحكم، فرجّحوا الوثنية على التوحيد.

وعلى هذا الاحتمال فيكون نطاق الآية ضيّقاً إذ أنّها تكون ناظرة إلى رد عمل اليهود وقضائهم وحكمهم. ودعوة المؤمنين على خلافهم في مورد

ص: 271

الأمانات. ويكون المقصود: الدعوة إلى العمل بما في الكتب السماوية من الأحكام لأنّها أمانات اللّه سبحانه وردّها عبارة عن تبليغها والعمل بها.

الثاني: أنّ الآية ضابطة كلّية في مجال الأمانات من غير فرق بين عقيدة وتشريع كما مرّ في الاحتمال الأوّل، أو سرّ من الأسرار، أو أمر مالي، حتى الأولاد فهم أمانات اللّه بيد الوالدين، كما أنّ الفقرة الثانية كذلك، دعوة إلى القضاء بالحقّ في أي مجال من المجالات، فيكون نطاق الآية وسيعاً ويشكّل أساساً للمجتمع الراقي المزدهر. وفي الوقت نفسه لا مانع من أن تكون ردّاً على اليهود لكن تلويحاً لا تصريحاً.

والذي يؤيّد المعنى الثاني عمل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وتطبيق الآية على عمله، قال السيوطي: لمّا فتحَ رسولُ اللّه مكّة دعا عثمان بن أبي طلحة، فلمّا أتاه قال: أرني المفتاح. فأتاه به، فلمّا بسط يده إليه قدم العباس فقال: يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي اجعله لي مع السقاية. فكفّ عثمان يده، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أرني المفتاح يا عثمان. فبسط يده يعطيه، فقال العباس كلمته الأُولى. فكفّ عثمان يده، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يا عثمان إن كنت تؤمن باللّه واليوم الآخر فهاتني المفتاح». فقال:

هاك بأمانة اللّه. فقام ففتح باب الكعبة...

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم: «يا أيّها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت»، ثم نزل عليه جبريل - فيما ذكر لنا - برد المفتاح، فدعا عثمان بن أبي طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ».(1)

والظاهر أنّ الآية نزلت قبل فتح مكّة، وإنّما استدلّ بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم على فعله،2.

ص: 272


1- . تفسير الدر المنثور: 570/2.

وأنّه دفع المفتاح إلى عثمان بن أبي طلحة ولم يدفعه إلى عمّه العباس، لأجل أنّه سبحانه أمر بدفع الأمانات إلى أهلها.

وممّا يدلّ على أنّ المراد من الأمانات أعمّ من الأمانة المالية، قوله سبحانه:

(وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ) (1) ، وعلى ذلك فقد خان علماء أهل الكتاب وذلك بكتمانهم صفات النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولم يؤدّوا الأمانة إلى الناس.

وأمّا ما رواه المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السلام في تفسير الآية من أنّ اللّه أمر الإمام الأوّل أن يدفع إلى الإمام الذي بعده كلّ شيء عنده.(2) فهو من باب تطبيق الكلّي على مورده، وليس معنى ثالثاً.

نفثة مصدور(3)

قد تقدّم أنّ المراد من الأمانات (في الآية) هو أعمّ من المالية وغيرها، فتعمّ الأحكام الشرعية فهي أمانات عند العلماء والوعّاظ، فعليهم أن يبلغوها إلى الناس ويجسّدوا بذلك ردّ الأمانات إلى أهلها.

ومن تلك الأحكام أنّه سبحانه نهى عن تولّي مَن أخرج المسلمين من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، وصرّح به في كتابه وقال: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ

ص: 273


1- . آل عمران: 187.
2- . البرهان في تفسير القرآن: 131/3.

تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ) .(1)

فعلى حملة الكتاب والسنّة من العلماء الواعين أن يبلّغوا الحكّام والقادة ما نهى عنه سبحانه في هذه الآية حتى يقوموا بوظائفهم التي على عاتقهم فإنّهم أُمناء اللّه في أرضه على كتابه وسنّة رسوله بعد العترة الطاهرة.

وقد شهد التاريخ على أنّ الطغمة الصهيونية المحتلّة حاربوا المسلمين وقتلوهم من كبيرهم إلى صغيرهم ودمّروا بلادهم وأخرجوهم من عقر دارهم، فعلى العلماء والوعّاظ بيان كلّ ذلك موضوعاً وحكماً، أمّا الموضوع فالتاريخ المعاصر شاهد عليه، ولم تزل أراضي المسلمين بيدهم، بل يتوسّعون في كلّ يوم.

ولكن يا حسرة على علماء المسلمين في الديار المقدّسة حيث إنّهم بصدد تبرير جواز إقامة العلاقات الرسمية مع الطغمة الغاصبة لفلسطين تزلّفاً إلى حكّامهم وطمعاً بهداياهم، وهذه خيانة واضحة لأمانات اللّه، وقد نهى اللّه سبحانه عنها، فهؤلاء وعّاظ السلاطين وعلماء الدنيا، لا وعّاظ الإسلام وعلماء الدين.

ونعم ما يقول سبحانه في ختام الآية، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) : أي نعم الشيء الذي يعظكم به لصلاح دنياكم وآخرتكم، ذلك (إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً) : أي عالماً بأقوالكم (بَصِيراً) بأفعالكم.

ثمّ إنّ موقع (كانَ ) في قوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) لبيان استمرار هذا الوصف، أي كان سميعاً وهو مستمر إلى الآن، وليس شيئاً زائداً.

وأمّا الأمر الثاني، أعني: القضاء بالعدل، فلعلّه يأتي الكلام فيه في كتاب9.

ص: 274


1- . الممتحنة: 9.

القضاء بإذن اللّه سبحانه.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

بقنطار: القنطار، جمعه قناطير، وزن اختلف في مقدار موزونه مع الأيام، والجميع يتّفق في أنّه المال الكثير، والذي يجمع جميع الأقوال تقسيم أهل الكتاب إلى صنفين: أمين وخائن.

بدينار: الدينار أصله دنّار بنونين فقلبت إحدى النونين ياء لكثرة الاستعمال طلباً للخفّة، وجمعه دنانير وأُريد هنا المال القليل.

الأُميّين: جمع الأُمّي منسوب إلى الأُمّ ، ويراد مَن لا يقرأ ولا يكتب، بقي على الحالة التي وضعته أُمّه.

التفسير

الآية تبيّن لنا حالة من أحوال قسم من أهل الكتاب، ولعلّ المراد هم اليهود،

ص: 275


1- . آل عمران: 75.

فإنّهم يخونون أموال مَن ليس إسرائيلياً ويستحلّونها غروراً بعقائد باطلة من أنّهم أبناء اللّه تعالى أوّلاً، والشعب المختار ثانياً، وليس عليهم سبيل في الأُميّين - أي العرب - ثالثاً. ثمّ إنّهم ينسبون عملهم القبيح إلى اللّه تعالى.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

أهل الكتاب بين أمين وخائن

قوله سبحانه: (وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) الخطاب في قوله: (تَأْمَنْهُ ) غير متوجّه إلى مخاطب معيّن؛ بل هو كناية عن أي مخاطب يمكن أن يكون مخاطباً له. وفي تقسيمه سبحانه أهل الكتاب إلى قسمين منهم مَن يحترم أموال الناس قليلة كانت أو كثيرة، دليل على النَّصفَة وإعطاء كلّ حقّه، وأمّا القسم الآخر الذي سيق له الكلام ما يشير إليه بقوله: (وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) والدينار كناية عن المال القليل فكيف إذا كان المال كثيراً؟!

جُعل الاسم الظاهر في الآية (أَهْلِ اَلْكِتابِ ) مكان الضمير «منهم» لأجل التنديد بهم، فإنّهم مع كونهم من أهل الكتاب الذين يأمرهم كتابهم بدفع الأمانات إلى أهلها يعملون على خلاف ذلك حتى يخونون بالمال القليل ولا يردّونه على صاحبه (إِلاّ) في حالة خاصّة أي قوله: (إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) : أي قائماً على رأسه تطلب منه مالك بالإلحاح وربّما برفع الأمر إلى القضاء.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى مبدأ هذا العمل مع الآخرين: (ذلِكَ ) : أي وجه الخيانة لأموال الناس (بِأَنَّهُمْ ) : أي (ب) سبب (أنهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) : أي ليس علينا أيّ تبعة وذنب، فغرورهم بأنّهم الشعب المختار صار سبباً لهذا الاعتقاد الفاسد، فهم بعملهم هذا يخونون الناس ويأكلون أموالهم بلا هوادة،

ص: 276

وفي الوقت نفسه يخونون اللّه ويكذبون عليه وينسبون عملهم إلى اللّه كما يقول:

(وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) .

إنّ الخيانة على وجه الإطلاق وبالنسبة إلى أموال الناس عمل قبيح يذمّه العقلاء والفطرة، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(1) وبما أنّ مورد الخيانة هو الأموال غالباً يقول سبحانه بعد هذه الآية: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2).

روى الطبرسي قال: روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه لمّا قرأ هذه الآية قال: «كذب أعداء اللّه ما من شيء كان في الجاهلية إلّاوهو تحت قدمي إلّاالأمانة، فإنّها مؤدّاة إلى البر والفاجر».(3)

وقد عقد صاحب الوسائل في كتابه باباً أسماه «وجوب أداء الأمانة إلى البر والفاجر» فقد روى فيه عن الحسين بن مصعب الهمداني قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «ثلاث لا عذر لأحد فيها: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين».(4)

وروى أيضاً عن الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يبعث نبياً إلّابصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر».(5)7.

ص: 277


1- . الأنفال: 27.
2- . الأنفال: 28.
3- . تفسير نور الثقلين: 422/1، برقم 191.
4- . الوسائل: 19، الباب 2 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 1.
5- . الوسائل: 19، الباب 2 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 7.

وروى الصدوق في أماليه عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول لشيعته: «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي عليهما السلام إئتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه».(1)

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .(2)

التفسير

قد سبق في البحث عن أحكام الدين تفسير هذه الآية وبيان معاني مفرداتها، وقلنا إنّ المراد بالأمانة في الآية هو الدين الذي على المدين، فإذا ائتمن الدائن المديون ولم يأخذ منه الرهن، فعلى المديون أن يؤدّي إلى الذي أؤتمن أمانته.

إلى هنا تمّ الكلام فيما يرجع إلى الأمانة، حيث إنّ الأمانة تنقسم إلى أمانة مالكية استأمنها المالك كالوديعة والعارية والرهن والإجارة وغيرها، وإلى شرعية

ص: 278


1- . الوسائل: 19، الباب 2 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 13.
2- . البقرة: 283.

(أي استأمنها الشارع) وهي المسمّاة بالأمانة الشرعية.

وقد ذكر الفاضل المقداد أقسامها وقال:

الأُولى : إطارة الريح الثوب إلى داره، فيجب الإعلام أو أخذه وردّه إلى مالكه.

الثانية: انتزاع الصيد من المحرم أو من مُحلّ أخذه من المحرم.

الثالثة: انتزاع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

الرابعة: أخذ الوديعة من صبيّ أو مجنون خوف إتلافها.

الخامسة: تخليص الصيد من جارح ليداويه أو من شبكة في الحرم.(1)2.

ص: 279


1- . كنز العرفان: 77/2.

العقود الشرعية

7. العارية

العارية: عقد ثمرته التبرّع بالمنفعة، ويقع بكلّ لفظ، يشتمل على الإذن في الانتفاع، وليس بلازم لأحد المتعاقدين.(1)

ويشترط في العين المعارة ما يصحّ الانتفاع به مع بقاء عينه كالثوب والدابّة.

وتصحّ إستعارة الأرض للزراعة والغرس والبناء، ويقتصر المستعير على القدر المأذون. لما مرّ من أنّ منفعة كلّ شيء بحسبه، كما تجوز استعارة الشاة للحلب وهي «المنحة».

ولم نجد في القرآن الكريم ما يدلّ على صحّة هذا العقد إلّاما أُشير إليه في «كنز العرفان» في قوله تعالى: (وَ يَمْنَعُونَ اَلْماعُونَ ) .(2) وفيه تأمّل، لاختلاف كلماتهم في تفسير «الماعون» على أقوال، فقد فُسّر بوجوه، هي:

1. الزكاة المفروضة.

2. ما يتعاوره الناس بينهم، من الدلو والفأس والقدر والماء والملح.

ص: 280


1- . شرائع الإسلام: 171/2.
2- . الماعون: 7.

3. هو القرض تقرضه والمعروف تصنعه ومتاع البيت تعيره، ومنه الزكاة، وهذا هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.(1)

وفسّره في «كنز العرفان» بأنّه عبارة عمّا يتعاون به عادة، فإذا كان المنع مذموماً، يكون عدم المنع في معرض المدح، وذلك هو المطلوب.(2)

ثمّ إنّ العارية أمانة مالكية لا تضمن إلّاعند التفريط، وأمّا لو شرط الضمان، فهل يصحّ أو لا؟ أو يختصّ إذا كانت العين المعارة ذهباً أو فضة ؟ فالتفصيل في محلّه.2.

ص: 281


1- . لاحظ: تفسير نور الثقلين: 679/5.
2- . كنز العرفان: 79/2.

العقود الشرعية

8. عقد المسابقة و الرماية
اشارة

عقد المسابقة يفتقر إلى إيجاب وقبول، فعلى هذا فهو عقد لازم كالإجارة ثم إنّ العقد يتوقّف على وجود المتسابقين أوّلاً، والسَبَق (بفتح الباء) أي المال المبذول للسابق، ثانياً، وبه فُسّر الحديث المعروف: «لا سبق إلّافي نصل أو خفٍ أو حافر».(1) والنصل حديدة السهم والمراد من ذي نصل وذي خف وذي حافر وأمّا السّبْق - بسكون الباء - فهو بمعنى المسابقة.

ثمّ إنّ المال المبذول تارة يبذله غير المتسابقين، وهو صحيح إجماعاً، ولو بذله أحدهما، يقول المحقّق: صحّ عندنا، ولو بذله الإمام من بيت المال، جاز.(2)

ويمكن الاستدلال عليها ببعض الآيات:

الآية الأُولى

قوله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: (قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ ) .(3)

ص: 282


1- . مستدرك الوسائل: 81/14، الحديث 8، الباب 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.
2- . شرائع الإسلام: 237/2، في عقد المسابقة والرماية.
3- . يوسف: 17.

ويمكن أن يقال: إنّ الاستدلال بإطلاق قولهم: (نَسْتَبِقُ ) فرع حجّية ما في الشرائع السابقة علينا، ولا تتم إلّابالاستصحاب.

قد تقدّم منّا أنّ هذه الشبهة غير صحيحة جدّاً؛ لأنّ الكتاب العزيز كتاب هداية لعامّة القرون، وما ورد فيها إنّما ورد لأجل العبرة والاعتبار، فلا معنى لنقل ما كان باطلاً في شريعتنا، ولذلك نأخذ لكلّ ما ورد فيها من الأحكام في الشرائع السابقة، إلّاإذا قام الدليل القطعي على النسخ أو على بطلانه.

إنّما الكلام في وجود الإطلاق في الآية، إذ لم يثبت أنّ استباقهم كان بالرمي وغيره، لعلّه كان بالعدو أو صعود الجبل والهبوط منه أو برفع الحجر الكبير وحمله.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ ) .(1)

المفردات

أعدّوا: من الإعداد: اتّخاذ الشيء لغيره، ممّا يحتاج إليه في أمره.

استطعتم: قدرتم.

رباط: ربط الفرس أي شدّه في مكان للحفظ، ومنه رباط الخيل، وسمّي المكان الذي يُخصّ بإقامة حفظة فيه: رباطاً.

ص: 283


1- . الأنفال: 60. قد مرّت دراسة الآية في كتاب الجهاد أيضاً بلا تكرار في منهج التفسير.

ترهبون: من الإرهاب: إزعاج النفس بالخوف.

التفسير

وجه الاستدلال: أنّ الآية تبعث الأُمّة الإسلامية إلى إعداد القوّة ما استطاعوا إلى ذلك، ومن المعلوم أنّ السبق والرماية هما من أساليب التربية العملية للمجاهدين لتهيئتهم لخوض الحرب والقتال.

يقول المحقّق: وفائدة السبق والرماية بعث العزم على الاستعداد للقتال، والهداية لممارسة النضال.(1)

ثمّ إنّه يقع الكلام فيما يُسابق به، فهل يقتصر على ما ورد في الروايات، ففي الحديث: «إنّ الملائكة لتنفر من الرهان وتلعن صاحبه إلّافي النصل والريش والخفّ والحافر».(2)

ويدخل في النصل: الرمح والسيف والسهم، وفي الخف: الإبل والفيلة، وفي الحافر: الفرس والبغل والحمار.(3)

أو يمكن التعدّي إلى غير ما ورد في الحديث ؟

يظهر من المحقّق الاقتصار في الجواز على النصل والخف والحافر، وقوفاً على مورد الشرع.(4)

ثمّ إنّ الشهيد الثاني بنى المسألة (الاقتصار وعدمه) على قراءة السبق في

ص: 284


1- . شرائع الإسلام: 235/2.
2- . من لا يحضره الفقيه: 216/2.
3- . لاحظ: كنز العرفان: 80/2، وشرائع الإسلام: 236/2.
4- . لاحظ: شرائع الإسلام: 236/2.

الحديث بالسكون أو بالفتح، فلو قرأ بالسكون يُراد به (عقد المسابقة وفعلها) فتكون النتيجة لا يقع إلّافي الثلاثة، فيكون ماعداها غير جائز؛ وأمّا لو قرأ بالفتح يُراد به المال لا العمل، فتدلّ على وجوب الاقتصار في المال على الثلاثة دون العمل.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني استقرب الجواز لكونه موافقاً للأصل خصوصاً مع ترتّب غرض صحيح على تلك الأعمال.(1)

أقول: لو قلنا بالاقتصار على النصل والخف والحافر تصبح الآية مختصّة بالعصور السالفة، حيث كانت الحرب معتمدة على هذه الوسائل، وهذا بعيد عن شأن الكتاب الخالد والشريعة الخاتمة، ولذلك نرى أنّ الأُمم المتحضرة يُقيمون مناورات عسكرية تشترك فيها الطائرات المقاتلة والسفن الحربية وأنواع الآليات والدبابات وقاذفات الصواريخ.

ويقسّمون جيوشهم إلى قسمين، بافتراض قسم منهم يمثّلون العدو، وقسم آخر يمثّلون المدافعين عن البلاد، وتجري المناورات والمسابقات بين القسمين ويحدّد الفائز، والمنتصر حسب تحقيقه للأهداف المرسومة له، وكلّ هذا يدخل في الإعداد والتهيّؤ للقتال والدفاع.

أقول: يقع الكلام في هذه المناورات أو المسابقات في موردين:

1. لو خلت عن أي رهان وسَبْق، فلا إشكال في جوازه بل هي تجسيد لقوله سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) مضافاً إلى أنّه فعل عقلاني له آثار بنّاءة لغاية الدفاع عن النظام والبلد الإسلامي.6.

ص: 285


1- . لاحظ: مسالك الأفهام: 70/6.

وما في كلام النبي «لا سبق إلّافي ثلاث»، نظرٌ إلى المسابقات الباطلة في زمانه كعقدها في رفع الحجر الثقيل. أو الصعود إلى الجبل الرفيع إلى غير ذلك ممّا لا يترتّب عليه أثر عقلاني وليس ناظراً إلى الرائج في زماننا مضافاً إلى أنّ الأصل العملي هو الجواز.

2. إذا كانت مع الرهان، فبما أنّ من المحتمل قراءه السبق بالفتح، فالأحوط ترك الرهان.

***

ص: 286

العقود الشرعية

9. الشُفعة
تمهيد

عُرفت الشُّفعة بأنّها: استحقاق أحد الشريكين حصّة شريكه بسبب انتقالها بالبيع.(1)

وموضوعها عند الإمامية: كلّ عقار مشترك بين اثنين فيبيع أحدهما حصّته لغيره فللآخر الانتزاع من المشتري مع بذل الثمن له، ولها شروط مذكورة في الكتب الفقهية، وفائدتها إزالة الضيق والضرر الحاصل من الشركة الجديدة.

هذه هي حقيقة الشفعة، ولم نجد في القرآن الكريم نصّ عليها، غاية ما يمكن الاستدلال على أصل الشفعة لا على خصوصياتها بالآيات النافية للحرج وأنّه سبحانه يُريد اليسر لا العسر، قال تعالى: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2)، وقال تعالى: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) (3).

***

خاتمة
اشارة

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى العقود، بقي في المقام أُمور لا صلة لها بالعقود لكن

ص: 287


1- . شرائع الإسلام: 253/3.
2- . الحج: 78.
3- . البقرة: 185.

لها صلة بأموال الناس وإليك دراستها:

1. اللقطة: الشيء الذي يجده الإنسان من غير قصد

قال الشيخ: أخذ اللقيط (المال الملقوط) واجب على الكفاية؛ لأنّه تعاون على البر، ولأنّه دفع لضرورة المضطر، ويقول المحقّق بعد نقل هذا الكلام:

والوجه الاستحباب.(1) ويشير الشيخ بقوله: «تعاون على البر» إلى قوله سبحانه:

(وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى ) (2) والأولى التركيز في الكتب المؤلّفة حول آيات الأحكام، الاقتصار على الموضوعات التي ورد فيها النص في الذكر الحكيم، والإشارة إلى الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ إلّاالعمومات والإطلاقات كما هو الحال في السبق والرماية والشفعة واللقطة.

2. حكم الغصب

عُرّف الغصب بأنّه الاستيلاء على مال الغير بغير حقّ .

وعرّفه المحقّق بقوله: هو الاستقلال بإثبات اليد على مال الغير عدواناً، ولا يكفي رفع يد المالك ما لم يُثبت الغاصب يده.(3) ويمكن استنباط حكمه من بعض العمومات، كما في قوله: سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (4)، وقوله تعالى: (إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ وَ اَلرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ ) (5).

***

ص: 288


1- . شرائع الإسلام: 285/3، في أحكام اللقيط.
2- . المائدة: 2.
3- . شرائع الإسلام: 235/2.
4- . البقرة: 188، والنساء: 28.
5- . التوبة: 35.
العقود الشرعية
10. الوصية
تمهيد

عُرّفت الوصية بأنّها تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة، وتفتقر إلى إيجاب وقبول، والإيجاب كلّ لفظ دلّ على ذلك القصد كقوله: اعطوا فلاناً كذا بعد وفاتي، أو لفلان، كذا بعد وفاتي، أو أوصيت له. وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي وقبول الموصى له ولا ينتقل بالموت منفرداً عن القبول على الأظهر.(1)

هذا ما ذكره المحقّق، وهو ناظر إلى قسم من أقسام الوصية لأنّها على أقسام ثلاثة: إمّا تمليكيّة، كأن يوصي بشيء من تركته لزيد، ويلحق بها الإيصاء بالتسليط على حقّ .

وإمّا عهدية، كأن يوصي بما يتعلّق بتجهيزه، أو باستئجار الحجّ أو الصلاة أو نحوهما له.

وإمّا فكّية تتعلّق بفكّ ملك كالإيصاء بالتحرير.(2)

ونحن ندرس ما جاء من الأقسام في الذكر الحكيم.

ص: 289


1- . شرائع الإسلام: 243/2.
2- . تحرير الوسيلة: 581/2، كتاب الوصية.
الآيات: الأُولى والثانية والثالثة
اشارة

قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(1)

المفردات

كتب: فيه دلالة على الاهتمام والتأكيد على المكتوب. كما مرّ في قوله سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ ) .(2)

حضر: أُريد من حضور الموت، ظهور علائمه وأماراته من مرض وهرم وغيرهما لوضوح أنّ الإيصاء عند حضور الموت أمر غير ممكن.

خيراً: الخير: ما يرغب فيه الناس، وضدّه الشر، وأُريد به هنا المال. نقل الراغب عن بعض العلماء أنّه سُمّي المال هاهنا خيراً تنبيهاً على معنى لطيف، وهو أنّ الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعاً من المال من وجه محمود، وعلى هذا قوله: (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ ) (3)، وقوله: (وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ ) (4).(5)

ص: 290


1- . البقرة: 180-182.
2- . البقرة: 178.
3- . البقرة: 215.
4- . البقرة: 197.
5- . المفردات للراغب: 160، مادة «خير».

بالمعروف: الشيء الذي لا جور فيه ولا حيف وقد عرفه الناس بهذا الوصف.

حقّاً: منصوب بفعل مقدّر أي حقّ حقّاً، وهو آية التأكيد على الوصية.

يبدلونه: من التبديل: تغيير الوصية.

جنفاً: جوراً، وانحرافاً عن الحقّ كالإيصاء بأزيد من الثلث.

إثماً: إيصاءً بالمعصية كصرف المال في المورد المحرّم.

التفسير

الإيصاء أمر حسن في كافّة فترات العمر، وليس الإيصاء علامة على دنوّ الأجل والاقتراب من الموت، بل هو وقاية عن ضياع المال والحقوق. نعم خُصّ بالذكر عند حضور أسباب الموت كالمرض الشديد والتقدّم في العمر.

روى الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه في وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم للإمام علي عليه السلام أنّه قال: «يا علي أُوصيك بوصية فأحفظها فما تزال بخير ما حفظت وصيتي... إلى أن قال: يا عليّ ! مَن لم يُحسن وصيته عند موته كان نقصاً في مروءته ولم يملك الشفاعة».(1)

سعة رقعة الوصية

إنّ متعلق الوصية أمر غير مقيّد بشيء، فالوصية تارة للوارث وأُخرى لغيره، وآيتنا هذه تذكر كلا الموردين.

ص: 291


1- . الوسائل: 13، الباب 6 من أبواب الوصايا، الحديث 2.

قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ ) : أي فُرض عليكم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ ) : أي علائمه وأسبابه من مرض وهرم (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) : أي مالاً، وأمّا المكتوب فهو قوله: (اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ ) فهما من مقولة الوصية للوارث (وَ اَلْأَقْرَبِينَ ) أعمّ من الوارث وغيره. ثمّ إنّه سبحانه يقيّد الوصية لهما بقوله:

(بِالْمَعْرُوفِ ) الظاهر أنّ القيد راجع إلى الموصى له فليس له أن يوصي للغني ويترك الفقير ويوصي للقريب، ويترك الأقرب، ويحتمل أن يرجع إلى مقدار الوصية، فالإيصاء بدرهم - مثلاً - لا يُعدّ معروفاً.

ثمّ إنّ قوله: (حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ ) بمعنى حقّ حقاً لازماً على مَن تمسّك بالتقوى. وهذا التعبير يعرب عن كونه حكماً لازماً غير منسوخ.

ثمّ إنّ الاهتمام بالوصية للوارث مع أنّه يرث التركة حسب سهمه، لأجل أنّه ربما يوجد بين الورثة مَن تعسّرت ظروفه المالية وأقعدته الحاجة، خلاف بقية الورثة. فالحكمة تقتضي أن يخصّ الموّرث شيئاً من ثلث ما يملك له، وبذلك يسدّ خلّته وتتحسّن ظروفه.

نعم هنا كلام وهو أنّه ربما توهم أنّ الآية منسوخة بآية المواريث أو منسوخة بالسنة على ما رواه أصحاب السنن من أنّه لا وصية للوارث، وسنناقش هذا الموضوع بعد الفراغ من تفسير الآية.

النهي عن تبديل الوصية

الآية تدلّ على أنّ الإيصاء إذا كان جامعاً للشرائط، غير خارج عن الحدود التي حدّدها الشارع، يجب العمل به ويحرم تغييره، كما يقول: (فَمَنْ بَدَّلَهُ ) ، الضمير يرجع إلى الإيصاء الذي يدلّ عليه ذكر الوصية، ولذلك جاءت الضمائر

ص: 292

كلّها مذكّرة (بَعْدَ ما سَمِعَهُ ) وعلم به ولو بعد البيّنة (فَإِنَّما إِثْمُهُ ) : أي إثم التبديل (عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) : أي على المبدلين، دون الميّت، فلو أوصى الميّت بحقوق الآخرين، لكن الوصي بدّل وغيّر وحرّف، فلم يصل الحقّ إلى أصحابه، فالميّت بريء والمغيّر مأثوم.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ ) لوصاياكم (عَلِيمٌ ) بأفعالكم... ويكفي في قبح هذا الفعل ما روي عن محمد بن مسلم أنّه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل اللّه ؟ قال: «أعطه لمن أوصى له، وإن كان يهودياً أو نصرانياً، إنّ اللّه يقول: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) .(1)

وروى الحسين بن سعيد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لو أنّ رجلاً أوصى إليَّ أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعت فيهم إنّ اللّه يقول: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) .(2)

ثمّ إنّ الحكم عام يشمل كلّ مبدل، سواء أكان الوصي أم غيره.

إذا أوصى بغير الحقّ

لمّا تقدّم في الآية السابقة من حرمة تبديل الوصية جاء البيان القرآني لاستثناء صورة خاصّة من هذا التبديل، وهو ما إذا عدل الموصي عن طريق الحقّ ، سهواً كما يقول: (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) انحرافاً عن الحقّ ، كما إذا أوصى

ص: 293


1- . الوسائل: 13، الباب 35 من أبواب الوصايا، الحديث 5.
2- . الوسائل: 13، الباب 35 من أبواب الوصايا، الحديث 6.

بأزيد من الثلث، ولا يكون ذلك إلّابالغفلة والسهو (أَوْ إِثْماً) وعمداً، كما إذا أوصى بصرف الثلث في أُمور محرّمة (فَأَصْلَحَ ) الوصي. والجملة الخبرية كناية عن إنشاء الإصلاح وإلزامه (بَيْنَهُمْ ) : أي بين الموصي والموصى لهم (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) ، والتعبير بعدم الإثم لأجل دفع توهّم الحظر، ولا ينافي كونه أمراً واجباً، فلو قام بذلك فاللّه سبحانه يقول: (إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ ) بالمذنبين.

قلنا: إنّ المراد من الجنف هو الإيصاء بما زاد عن الثلث، والإثم صرف الثلث في المحرّمات، وقد صدرنا في ذلك عمّا رواه القمّي عن الصادق عليه السلام قال: «مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كلّه لبعض ورثته ويَحرم بعضاً، فالوصي جائز له أن يردّه إلى الحقّ وهو قوله: (جَنَفاً أَوْ إِثْماً) فالجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، والإثم أن يأمر بعمارة بيت من بيوت النيران واتّخاذ المسكر، فيحلّ للوصيّ أن لا يعمل بشيء من ذلك».(1)

اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط، مع وجود الوارث، سواء أصدرت في المرض أم في الصحّة، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة. وإن كان الأفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية.(2)

وأمّا في مقدار الثلث فتنفذ وصيّته عند الإمامية في الأقرب والأجنبي، ومن غير فرق في الأقرب، بين الوارث وغيره. وأمّا المذاهب الأربعة فأجازت الوصية للأقرب بشرط أن لا يكون وارثاً، وأمّا الوارث فلا تجوز الوصية له، سواء أكان6.

ص: 294


1- . تفسير القمّي: 65/1.
2- . المغني لابن قدامة: 78/6.

بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر، إلّابإجازة الورثة.

الإيصاء للوارث غير منسوخ
اشارة

قال السيد المرتضى: وممّا ظنّ انفراد الإمامية به، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة، وليس للوارث (غير الموصى له) ردّها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء(1) وإن كان الجمهور والغالب، على خلافه.(2)

وقال الشيخ الطوسي: تصحّ الوصية للوارث مثل الابن والأبوين. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: لا وصية للوارث.(3)

وقال الخرقي في متن المغني: «ولا وصية لوارث إلّاأن يجيز الورثة ذلك».

وقال ابن قدامة في شرحه: إنّ الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يُجزها سائر الورثة، لم تصحّ ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ: أجمع أهل العلم على هذا، وجاءت الأخبار عن رسول اللّه بذلك، فروى أبو أُمامة قال:

سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث». رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي.(4)

ومع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الأربعة تنفي جواز الوصية للوارث، إلّاإذا أجاز الورثة، حتى أنّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلّاأن يعطوه عطية مبتدأة(5) - ومع هذا التصريح - ينقل الشيخ محمد جواد مغنية: كان

ص: 295


1- . سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.
2- . الانتصار: 308.
3- . الخلاف: 4/135، المسألة 1، كتاب الوصايا.
4- . المغني: 79/6-80.
5- . المصدر نفسه.

عمل المحاكم في مصر على المذاهب الأربعة، ثمّ عدلت عنها إلى مذهب الإمامية، وما زال عمل المحاكم الشرعية السنّيّة في لبنان على عدم صحّة الوصية للوارث، ومنذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنّيه.(1)

والأولى عرض المسألة على الكتاب والسنّة، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ ) .(2)

المراد من حضور الموت: ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره، ولم يرد إذا عاين ملك الموت، لأنّ تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصيّة، وأيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية والموصى له، فمَن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف، كما أنّ الإيصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف، فإنّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر، ولا حيف فيه ولا جور.

والآية صريحة في الوصية للوالدين، ولا وارث أقرب للإنسان من والديه، وقد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصيّة ثم عمّم الموضوع وقال: (وَ اَلْأَقْرَبِينَ ) ليعمّ كل قريب، وارثاً كان أم لا.

وهذا صريح الكتاب ولا يصحّ رفع اليد عنه إلّابدليل قاطع مثله. وقد أجاب القائلون بعدم الجواز، عن الاستدلال بالآية بوجهين:0.

ص: 296


1- . الفقه على المذاهب الخمسة: 465.
2- . البقرة: 180.
1. الآية منسوخة بآية المواريث

إنّها منسوخة بآية المواريث، فعن ابن عباس والحسن: نُسِختْ الوصيةُ للوالدين بالفرض في سورة النساء، وتثبت (الوصية) للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم.(1)

2. المراد الوالدان الكافران اللّذان لا يرثان

إنّ الآية محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللّذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الورثة.

والفرق بين القولين واضح إذ مرجع الأوّل إلى نسخ جواز الإيصاء للوالدين، وأنّه لا يوصى لهما مطلقاً وارثين كانا أو ممنوعين من الإرث لأجل الكفر والرقّ ، وتقييد جواز الإيصاء للأقربين بما إذا كانوا غير وارثين.

ومرجع الثاني إلى إنكار النسخ، لكن تقييد جواز الإيصاء للوالدين بما إذا كانا ممنوعين من الإرث.

ويشارك هذا القول الوجه الأوّل في تقييد الأقربين بغير الورثة.

يلاحظ على الأوّل: بوجوه ثلاثة:

1. لسان الآية آب عن النسخ حيث عبّر عن الحكم بأنّه حكم مُحكم مستحكم لا يزول، وأتمّ الآية بقوله: (حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ ) .

2. يشترط في النسخ تقدّم المنسوخ على الناسخ أوّلاً، وكون النسبة بينهما هو الإثبات والنفي، وكلا الشرطين غير محرزين، أو غير موجودين:

ص: 297


1- . تفسير القرطبي: 2/262-263.

أمّا الأوّل فإنّه لم يثبت تقدّم الإيصاء للوالدين على آية المواريث حتى يكون الثاني ناسخاً للأوّل. فآية الإيصاء وردت في سورة البقرة وهي مدنيّة وآية المواريث وردت في سورة النساء وهي أيضاً مدنيّة ولم يحرز تقدّم الأُولى على الثانية نزولاً.

وأمّا الثاني فإنّ النسبة بين الآيتين نسبة الإثبات دون أن تكون إحداهما مثبتة والأُخرى نافية.

وقد عرفت أنّه لا منافاة أن يكتب سبحانه على الإنسان وراء الإرث، الإيصاء للوالدين والأقربين، بما لا يتجاوز الثلث.

3. أنّ الإرث بعد الإيصاء، فالميراث في طول الوصية، ولا يصحّ للمتأخّر أن يعارض المتقدّم، وأنّ الورّاث يرثون بعد إخراج الدين والوصية، قوله سبحانه:

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1) ، وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ ) (2)، فلا موضوع للنسخ ولا للتخصيص.

وممّن اعترف بما ذكرنا الشيخ محمد عبده، كما حكى عنه تلميذه، قال: إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، وبأنّ السياق ينافي النسخ،2.

ص: 298


1- . النساء: 11.
2- . النساء: 12.

فإنّ اللّه تعالى إذا شرّع للناس حكماً، وعلم أنّه مؤقّت، وأنّه ينسخه بعد زمن قريب، فإنّه لا يؤكّده ويوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصيّة هنا من كونه حقّاً على المتقين، ومن وعيدٍ لمن بدّله.(1)

نقد القول بتخصيص الآية بالكافرين

هذا كلّه حول القول الأوّل من ادّعاء النسخ، وأمّا القول الثاني وهو تخصيص الوالدين بالممنوعين من الإرث من كفر أو رقّ ، فهو أيضاً كالقول بالنسخ؛ لأنّه إذا كان المراد الممنوعين من الوراثة فما معنى هذا التأكيد والاهتمام في الآية مع ندرة المصداق أو قلّته بالنسبة إلى غير الممنوعين، إذ عندئذٍ تكون الآية بمنزلة قولنا: «الوصية للوالدين، إلّاالمسلمين»، فيكون الباقي تحت العام قليلاً جداً، ويكون من قبل التخصّص المستهجن، فلا محيص عن القول بعموم الآية، لكلّ والد ووالدة، والأقربين ممنوعين كانوا أم غيرهم.

آية الوصيّة منسوخة بالسنّة

قد علمت أنّ آية الوصيّة محكمة لم تنسخ بالكتاب ولم يقيّد إطلاقها، بل هي آية محكمة مطلقة يجب الأخذ بها، إلّاأنّه ربما يقال: إنّ آية الوصيّة نسخت بالسّنّة التي رواها أصحاب السنن ولم يروها الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وإليك نقل الرواية سنداً ومتناً عن سنن الترمذي، حيث روى في باب: ما جاء «لا وصية لوارث» هذين الحديثين:

1. حدّثنا علي بن حجر وهنّاد قالا: حدّثنا إسماعيل بن عيّاش، حدّثنا

ص: 299


1- . تفسير المنار: 136/2.

شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أُمامة الباهلي، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول في خطبته عام حجّة الوداع: «إنّ اللّه قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر».(1)

2. حدّثنا قتيبة، حدّثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب على ناقته وأنا تحت جِرانها(2) وهي تقصع(3) بجرّتها(4)، وإن لعابها يسيل بين كتفي، فسمعته يقول:

«إنّ اللّه أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، ولا وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر».(5)

ملاحظات على القول بنسخ الآية بالسنّة

يلاحظ على هذا القول بوجوه:

1. الكتاب العزيز، قطعيّ السند، وصريح الدلالة في المقام، وظاهر الآية كون الحكم أمراً حتميّاً وأنّه مكتوب على المؤمنين، وهو حقّ على المتّقين، أفيصحّ نسخه أو تخصيصه برواية واحدة، لم تخلو أسانيدها من خلل ونقاش، فرواتها من مخلّط، إلى أروى الناس عن الكذّابين، إلى مَن لا يرى ما يخرج من رأسه، إلى ضعيف أُختتن في كبر سنّه، إلى بائع دينه بخريطة، إلى مسنِد ولم ير

ص: 300


1- . سنن الترمذي: 4/293، باب ما جاء «لا وصية لوارث»، رقم الحديث: 2203.
2- . الجران: مقدّم عنق البعير، جمعه «جُرن».
3- . تقصع: قصعت الناقة بجرتها أي ردّتها إلى جوفها، وقيل: أخرجتها وملأت بها فاهها.
4- . الجرّة: ما يجترّه البعير من بطنه.
5- . سنن الترمذي: 293/4، باب ما جاء «لا وصية لوارث» رقم الحديث 2204.

المسند إليه، إلى محدود أُجري عليه الحد في مكّة، إلى خارجي يضرب به المثل، إلى...، إلى...، إلى....(1)

ولو قلنا بجواز نسخ الكتاب فإنّما نقول به إذا كان الناسخ، دلالة قرآنية أو سنّة قاطعة.

2. كيف يمكن الاعتماد على رواية تدّعي أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلاً في حياة النبي إلّافي وقعة الغدير، وقال:

إنّه لا وصية لوارث، ولم يسمعه أحد من الصحابة إلّاأعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول اللّه سوى هذه(2)، أو شخص آخر كأبي أُمامة الباهلي، وهذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سنداً أو دلالة.

3. لو سلم أنّ الحديث قابل للاحتجاج، لكنّه لا يعادل ولا يقاوم ما تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام من جواز الوصية للوارث. فهذا هو محمد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني، من تلاميذ أبي جعفر الباقر عليه السلام يقول: سألت أبا جعفر عن الوصيّة للوارث ؟ فقال: «تجوز»، ثم تلا هذه الآية: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ) .

وهذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق عليه السلام يروي عنه أنّه سأله عن الوصية للوارث ؟ فقال: «تجوز».(3)ث.

ص: 301


1- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 166/2-177، ترى أنّ في عامة الأسانيد ضعفاً. وأنّ بعض رواتها موصوفون بما ذكرنا وفقاً لقول أهل الجرح والتعديل.
2- . الإصابة: 527/2؛ تهذيب الكمال: 599/21؛ الثقات: 271/3.
3- . الوسائل: 13، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 2 و 3، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح بجواز الوصية للوارث.

4. أنّ التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نصّ الكتاب والحديث، إذ من المحتمل جدّاً أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ذكر قيداً لكلامه، ولم يسمعه الراوي، أو سمعه وغفل عن نقله، أو نقله ولم يصل إلينا، وهو أنّه مثلاً قال: «ولا تجوز وصية للوارث» إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه. ومن حسن الحظ أنّ الدارقطني نقل الحديث بهذا القيد، قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمنى فقال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ قد قسّم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية إلّا من الثلث».(1)

وقد ورد من طرقنا عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال في خطبة الوداع: «أيّها الناس إنّ اللّه قد قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز وصية لوارث بأكثر من الثلث».(2)

وبعد هذه الملاحظات الأربع لا يبقى أيّ وثوق بالرواية المنقولة بالصورة الموجودة في كتب السنن.

أضف إلى ذلك: أنّ الإسلام دين الفطرة، ورسالته خاتمة الرسالات، فكيف يصحّ أن يسد باب الإيصاء للوارث، مع أنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى الإيصاء للوارث، بعيداً عن الجور والحيف، من دون أن يثير عداء الباقين وحسد الآخرين كما إذا كان طفلاً، أو مريضاً، أو معوّقاً، أو طالب علم، لا تتسنّى له الدراسة إلّا بمساعدة الآخرين.

كلّ ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الأمصار، إلى دراسة المسألة من الأصل،4.

ص: 302


1- . سنن الدارقطني: 4/154، الوصايا، الحديث 12 و 13.
2- . تحف العقول: 34.

عسى أن يتبدّل المختلَف إلى المؤتَلف، والخلاف إلى الوفاق، بفضله وكرمه سبحانه.

***

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) .(1)

التفسير
تقديم الوصية والدين على تحديد التركة

هذه الآية ناظرة إلى مَن مات عن أب وأُمٍّ ولم يكن له ولد كما يقول: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ ) والباقي (أي الثلثان) للأب.

نعم إنّ للأُمّ الثلث إذا لم يكن لها حاجب، بمعنى أنّه إذا كان للميّت إخوة من الأبوين أو من الأب فهؤلاء لا يرثون ولكنّهم يحجبون الأُمّ عن الثلث وينزل فرضها من الثلث إلى السدس كمايقول: (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ ) والأسداس الخمسة الباقية للأب. كلّ ذلك أي هذه التقسيمات والفرائض (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) فتقسيم التركة بعد إخراج الوصية والدين. فالآية تدلّ

ص: 303


1- . النساء: 11.

على تقديم الوصية والدين على التقسيم.

ربّما يطرح السؤال وهو: أنّ الميت إذا مات عن أب وأمّ فللأُمّ الثلث إذا لم يكن للميت أخ وإلّا فيحجب الأخ الأُمّ فيكون سهم الأُمّ هو السدس، والسؤال هو أنّ الأخ لا يرث الميّت بل يحجب الأُمّ فما هو السبب في ذلك ؟

والجواب: أنّ الأخ وإن كان لا يرث ولكن نفقته على الأب دون الأُمّ ، ولذلك ازداد سهم الأب ونقص سهم الأُمّ فللأُمّ السدس والأسداس الخمسة للأب.

ومعنى الآية: تقسّم التركة على الوجه الذي ذكر بعد قضاء الدين والوصية التي أوصى بها، ومعنى (أَوْ) الإباحة، وفيها إشارة إلى أنّه لو كان أحدهما أو كلاهما، قُدّم على قسمة الميراث.

ثمّ إنّ ظاهر الآية كون الدين والوصية في درجة واحدة، لكن الأخبار دلّت على أنّ الدين إن كان مستغرقاً للتركة قُدّم على الوصية، وعلى الإرث، وإن لم يكن مستغرقاً كانت الوصية نافذة في ثلث الباقي بعد إخراج الدين.

***

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ

ص: 304

يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) .(1)

التفسير
تقديم الوصية والدين على تحديد التركة

يؤكّد اللّه سبحانه على تقديم الوصية والدين على تقسيم الورثة في موارد ثلاثة: نقتصر على مواضع الحاجة:

1. إرث الزوج من الزوجة، يقول سبحانه: (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) .

2. إرث الزوجة من الزوج، قال سبحانه: (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) .

3. إرث الأخوين أو الأُختين من الأُمّ ، قال سبحانه: (وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ ) أي فلو مات رجل أو امرأة ولكلّ أخ أو أُخت من الأُمّ فلكلّ السدس، ذلك الفرض لكن لو كانوا أكثر من ذلك فللجميع الثلث كما يقول: (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ ) إلّاأنّه (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ ) وأمّا تفسير مجموع الآيات الواردة في الميراث فيأتي على وجه التفصيل في دراستنا لكتاب الميراث، فانتظر.

ص: 305


1- . النساء: 12.
الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ ) .(1)

المفردات

ضربتم في الأرض: سافرتم.

مصيبة الموت: علائم الموت.

تحبسونهما: تقفونهما، كما تقول: مرّ بي فلان على فرس، فحبس على دابته، أي وقف.

ارتبتم: شككتم في صدق الشهادة.

التفسير

إنّ الآية بوجازتها تؤكّد على الوصية كما تؤكّد على الشهادة عليها، وتتضمّن بيان أُمور أربعة:

1. إذا أحسّ الإنسان بعلائم الموت فعليه الإيصاء والإشهاد على الوصية،

ص: 306


1- . المائدة: 106.

فلو تمكّن من الإشهاد بالمؤمنين فهو، بشرط أن يكونا عدلين.

2. لو كان في سفر ولم يتمكّن من الإشهاد على الوصية بمؤمنين، فعليه أن يُشهد عليها باثنين من أهل الكتاب.

فإذا جاء الشاهدان إلى ورثة الميّت ودفعوا إليهم ما أوصى به ولم يكن هناك ريب فيقبل قولهم. وهذا هو المفهوم من الآية وإن لم يذكر منطوقاً، لعدم الحاجة إلى ذكره لكونه معلوماً.

3. فإن كان هناك ريب في صدق قولهما، وإن لم يقطعوا بالخيانة عليهم، فعلى الورثة إقسامهما بعد الصلاة على صدق الشهادة وأنّهما غير خائنين.

هذا هو مفهوم الآية فلندخل في تفسيرها.

أمّا الأمر الأوّل - أي الإيصاء عند الموت والإشهاد على الوصية بعدلين - فيستفاد من قوله سبحانه: (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) ، حيث تبحث الآية عن عدد الشهود عند الإيصاء والإشهاد، وهو يدلّ على التأكيد على أصل الإيصاء والإشهاد بعدلين.

وأمّا الأمر الثاني وهو إذا لم يتمكّنوا من ذلك، كما إذا كنتم في سفر ولم يكن معكم أحد من المسلمين، فليأخذ شاهدين من أهل الكتاب فيشير إليه بقوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) : أي من غير المسلمين لا من غير عشيرتكم (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ ) : أي كنتم في السفر (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ ) ونزلت بكم مقدّمات الموت وأردتم الإيصاء.

وأمّا الأمر الثالث، أعني: إذا كان هناك ريب في صدق الشاهدين وشككتم وخشيتم أن يكونا قد غيّرا أو بدّلا أو كتما أو خانا فيجب إيقافهما إلى ما بعد صلاة

ص: 307

العصر وحلفهما على صدق الشهادة، وعدم الخيانة كما يقول: (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ ) : أي تقفونهما بعد الصلاة أو مطلق الصلاة أو بعد صلاة العصر عند فراغ الناس عن العمل عند وجود الريب في صدق شهادتهما. وأمّا المقسم به فيشير إليه بقوله: (فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) : أي تحليف الشاهدين على الوصية إن شككتم في صدقهما.

وأمّا المقسم عليه فكما هو في قوله: (لا نَشْتَرِي بِهِ ) : أي باليمين (ثَمَناً) ولا نجعل يمين اللّه كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به في الدنيا، حتى (وَ لَوْ كانَ ) المقسم له (ذا قُرْبى ) : أي من أقربائنا، لأنّ اللّه سبحانه أمر بالعدل وإن لم يتم بصالح ذوي القربى ، أو تمّ على ضرره كما قال: (وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى ) .(1)

ثم يؤكّدان على صدقهما في الشهادة على الوصية بقولهما (وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ ) التي أوجبها اللّه تعالى علينا، وإلّا صرنا (إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ ) .

ثمّ إنه إذا ظهر كذب الشاهدين فالآية الثانية تتكفّل ببيان حكم هذا الحال، وسيأتي تفصيل ذلك في دراستنا لآيات كتاب الشهادات.

وفي الختام نذكر بعض ما ورد من الروايات حول الآية:

1. روى الكليني عن هشام بن الحكم بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه تبارك وتعالى: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال: «إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة مَن ليس بمسلم على الوصية».(2)4.

ص: 308


1- . الأنعام: 152.
2- . الكافي: 354/2، باب شهادة أهل الملل، الحديث 6؛ الوسائل: 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 4.

2. وروى أيضاً عن يحيى بن محمد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ، قال: «اللّذان منكم مسلمان، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية».(1)

وممّا ذكرنا يظهر أنّ تفسير قوله سبحانه: (اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) بالأقارب، وتفسير قوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) بالأجانب، غير صحيح لما عرفت من الروايات، خصوصاً بالنسبة إلى ما روى الفريقان في شأن نزول الآية.(2)

ثمّ إنّ الظاهر أنّ اشتراط السفر في جواز شهادة الذميّين من باب القيد الوارد في الغالب، فإنّ الإنسان إنّما يفقد المسلم لتحمّل الشهادة، في الأسفار غالباً لا في الأوطان، يقول الفاضل الجواد: والأكثر من الأصحاب على عدم اعتبار السفر، قالوا:

والتقييد في الآية والأخبار من حيث إنّه خرج مخرج الأغلب لا من حيث إنّه شرط.(3)

ويؤيّده ما رواه ضريس الكناسي عن الباقر عليه السلام قال: سألته عن شهادة أهل الملل، هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملّتهم ؟ فقال: «لا، إلّاأن لا يوجد3.

ص: 309


1- . الكافي: 235/2، باب الإشهاد على الوصية، الحديث 6؛ الوسائل: 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 6.
2- . لاحظ: الوسائل: 13، الباب 21 من أبواب كتاب الوصايا، ما أخرجه الكليني عن علي بن إبراهيم عن رجاله.
3- . مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: 124/3.

في تلك الحال غيرهم، وإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرئ مسلم ولا تبطل وصيته».(1)

والرواية لا تخلو من قوّة لأنّ الراوي عن ضريس الكناسي هو أبو أيوب الخزّاز وهو من أعاظم أصحابنا، فلو لم تثبت وثاقة ضريس الكناسي؛ لتعدّده بين الثقة والمهمل، فيكفي نقل الخزّاز عنه في الاعتماد على الرواية.

***1.

ص: 310


1- . الوسائل: 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 1.

العقود الشرعية

11. في أحكام الحجر
اشارة

الحجر هو المنع، والمحجور شرعاً هو الممنوع من التصرّف في ماله، ثمّ ذكر أنّ موجباته ستة: الصغر، والسفه، والرق، والمرض المتصل بالموت، والفلس، والجنون.(1)

والذي ورد في الذكر الحكيم هو: الصغر، والسفه، والرق، وأمّا الأسباب الأُخرى فإنّما ورد حكمها في السنّة. فلندرس ما ورد حولها من الآيات.

أوّلاً: الحجر بسبب الصغر
اشارة

إنّ من موجبات الحجر هو الصغر غير أنّ الآيات التي سندرسها تركّز على قسم من الصغار وهو اليتيم الذي مات أبوه.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) .(2)

ص: 311


1- . شرائع الإسلام: 99/2.
2- . النساء: 2.
المفردات

اليتامى: جمع اليتيم، واليتم: انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، أي موت أبيه قبل بلوغه، وربما يطلق على البالغ الذي انقضى عنه اليتم، ولعلّه هو المراد في الآية بقرينة دفع أمواله إليه فيكون إطلاقه عليه بعلاقة من مضى .

الخبيث: يطلق على الرديء.

الطيّب: الجيّد، حيث كان الأولياء يأخذون الجيّد من أموال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء.

حوباً: الحوب: الإثم.

التفسير

تدلّ الآية على محجورية اليتيم عن التصرّف في أمواله التي هي تحت يد أوليائه، بشهادة أنّه سبحانه يأمر بدفع أموال اليتامى إليهم، بعد البلوغ، ومعنى ذلك المحجورية قبله.

والآية تتحدّث عن أُمور ثلاثة:

1. دفع أموال اليتامى إليهم.

2. النهي عن تبديل الخبيث بالطيّب.

3. النهي عن ضمّ أموال اليتامى إلى أموال الأولياء تملّكاً وغصباً.

أمّا الأوّل فيقول سبحانه: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) لا مطلقاً؛ بل إذا بلغوا

ص: 312

النكاح والرشد، كما يأتي في الآية التالية.(1)

والفقرة تدلّ على أنّ الواجب على أولياء اليتامى صيانة أموالهم من الضياع والحفاظ عليها حتى يسلّموها إليهم، إذا كانوا مؤهّلين للأخذ والحفظ.

وأمّا الثاني فيقول سبحانه: (وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) : أي لا تجعلوا الخبيث بدلاً من الطيّب.

غير أنّ الكلام ما هو المراد من الخبيث والطيّب ؟ وأُريد من الخبيث مال الصبي، وقد وصف به لأجل حرمته، والطيّب هو مال الولي وصف به لأجل حلّيته.

ومعنى الجملة: لا تستبدلوا ما حرّم اللّه تعالى عليكم من أموال اليتامى بما أحلّه اللّه لكم من أموالكم. وما ذكرناه لا ينافي من أنّ الأولياء كانوا يأخذون الجيّد من أموال اليتيم ويجعلون الرديء بدلاً عنه، فالجيّد مع جودته خبيث لكونه حراماً، والرديء لرداءته طيّب لكونه حلالاً.

وأمّا الثالث: فقوله: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ ) منضمة (إِلى أَمْوالِكُمْ ) ، وأطلق الأكل وأُريد به الأخذ والغصب، وهذا النوع من الاستعمال كثير، لأنّ الأكل هو الغاية القصوى من أفعال الناس.

ثمّ إنّه سبحانه علّل حكمه هذا بقوله: (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ولعلّه علّة للأحكام الثلاثة.

أكل مال اليتيم من الكبائر

إنّ التصرّف في مال اليتيم تصرّف في مال مَن لا يستطيع أن يدافع عن ماله

ص: 313


1- . لاحظ: النساء، الآية 6.

وشؤونه، وهو موجود ضعيف يعيش في أحضان الولي، الذي يترقّب منه الاهتمام بماله، لكنّه يا للأسف لا يحترم ماله ويغصبه وكأنّه ماله.(1)

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه ينهى عن الاقتراب إلى مال اليتيم فضلاً عن التجاوز والتصرّف فيه، كما يقول: (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (2).

ومع ذلك فاللّه سبحانه لا يعزل الولي عن مال اليتيم على وجه الإطلاق؛ بل يسمح له بالتصرّف بالمال بما يصلحه وينميه، كما في قوله سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ) (3).

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً) .(4)

المفردات

ابتلوا: من الابتلاء بمعنى الاختبار.

ص: 314


1- . يلاحظ: الأنعام: 151-152.
2- . الأنعام: 151.
3- . البقرة: 220.
4- . النساء: 6.

النكاح: الزواج: أي الوصول إلى السن التي يكون بها الغلام مستعدّاً للزواج ومن علائمه الاحتلام ولذلك يقول سبحانه: (وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ ) (1)أي إنزال الماء الدافق المتحقّق في الاحتلام والجماع. نعم للبلوغ علامات أُخرى أفضلها هو الاحتلام، ومنها السن المخصوص في الإناث والذكور، ونبات الشعر الخشن على العانة.

آنستم: عرفتم أو أبصرتم أو أحسستم.

رُشداً: الرشد: أُريد الرشد الاقتصادي لا في مجالات أُخرى، كأن يميّز ما يُصلح ماله عمّا يفسده. ويكفي ذلك ولا يشترط الرشد الذي لا علاقة له بصلاح ماله. ويؤيّد ذلك تنكير الرشد أي رشداً خاصّاً ماليّاً، لا سياسياً ولا اجتماعياً.

إسرافاً: الإسراف: التجاوز عن قدر الحاجة.

بداراً: تسرّعاً.

فليستعفف: بترك الانتفاع بمال اليتيم ويقتنع بما رزقه اللّه من الغنى اشفاقاً على اليتيم.

بالمعروف: أي بقدر الحاجة.

إعراب فقرات الآية

بما أنّ لتبيين إعراب الآية تأثيراً في إيضاح مفادها نذكر شيئاً منه:

1. قوله: (إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ ) ، ف (إِذا) في الفقرة ظرفية لا شرطية ولا تحتاج إلى الجواب، والمعنى: واختبروا اليتامى إلى زمان بلوغهم النكاح (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ

ص: 315


1- . النور: 59.

رُشْداً) ، وبما أنّه يتضمّن معنى الشرط فهو بحاجة إلى الجزاء، وهو قوله:

(فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) .

2. الظاهر أنّ قوله: (إِسْرافاً وَ بِداراً) مصدران لبيان نوع الأكل.

3. قوله: (أَنْ يَكْبَرُوا) مفعول به لبداراً، بتقدير «خوفاً من أن» والمعنى لا تأكلوها إسرافاً وبداراً خوفاً من أن يكبروا فيأخذوه منكم.

4. قوله: (فَلْيَسْتَعْفِفْ ) ، قال الزمخشري: واستعفّ أبلغ من عفّ كأنّه طالب زيادة العفّة.(1)

بالسين زيادة العفّة.

أقول: وقد تنظّر فيه الفاضل المقداد قائلاً بأنّ السين يطلب بها الفاعل أصل الفعل لا زيادته نحو: استكتب.(2)

أقول: لكن الغالب هو الأوّل.

التفسير

أمر سبحانه في آيتنا بدفع أموال اليتامى إليهم، واقتضى ذلك أن يذكر الوقت الذي يدفع فيه أموالهم، لكونهم محجورين لصغرهم فيلزم ضرب أمد خاص لحجرهم، وليس اليتامى كالسفهاء الذين ربما يمتدّ حجرهم إلى آخر أعمارهم.

ثمّ إنّ الآية تحوم على محاور أربعة:

1. بيان الأوان الذي يصلح شرعاً لدفع أموالهم إليهم حتى يستقلّوا في البيع

ص: 316


1- . تفسير الكشّاف: 502/1.
2- . كنز العرفان: 101/2.

والشراء وسائر التصرّفات الاقتصادية.

2. النهي عن تصرّفات الولي غير الصالحة في أموال اليتيم مخافة أن يكبر وينتزع أمواله منه.

3. إذا كان الولي غنياً فاللائق بحاله أن يقتنع بما آتاه اللّه من الغنى والرزق، ولايأكل من مال اليتيم شيئاً. نعم لو كان فقيراً يتناول بقدر الحاجة.

4. الإشهاد حين دفع أموال اليتامى إليهم.1.

ص: 317

1. أن يكون المراد: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) من بدء الاختبار إلى زمان البلوغ (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) في ذلك الظرف.

2. أن يكون المراد: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) بعد البلوغ.

فلو صحّ المعنى الأوّل يكون الموضوع لدفع الأموال هو الرشد، ففي أي زمان أثبت الاختبارُ رشدهم تدفع إليهم أموالهم، سواء أكان قبل البلوغ أم بعده.

وأمّا على الثاني فبما أنّه تفريع على الابتلاء مع البلوغ يكون الموضوع لدفع المال أمران: رشدهم مع البلوغ.

ولكن الاحتمال الأوّل مردود بوجهين:

أمّا أوّلاً: لو كان الموضوع هو الرشد تماماً فلا وجه لذكر البلوغ، إذ لا مدخلية له.

وثانياً: إنّ قوله سبحانه: (وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) يُرشد إلى أنّ الموضوع لدفع المال هو بلوغهم وكبرهم، غاية الأمر دلّت الآية على انضمام الرشد فتعيّن المعنى الثاني وهو شرطية الرشد مع ضمّ البلوغ.

فإن قلت: إذا كان الموضوع للدفع هو اجتماع الوصفين بحيث لا يجوز الدفع قبلهما، فلماذا أوجب الابتلاء قبل البلوغ (من زمان يحتمل فيه الرشد) إلى أوّل زمان بعد البلوغ ؟

قلت: يحتمل أن يكون ذلك لأحد وجهين أو كليهما:

1. أهمية الموضوع واحتياج كشف الرشد وإيناسه من زمان معتدّ به يُجرَّب فيه الطفل ويعلم منه العقل والتدبير، وهو ممّا لا يمكن الاطلاع عليه بشهر أو

ص: 318

شهرين.

2. لعل الأمر بالابتلاء قبل البلوغ - حين احتمال الرشد - إلى أوّل زمان البلوغ، لأجل عدم التأخير في ردّ المال إلى صاحبه في أوّل زمان اجتمع فيه الشرطان.(1)

رأي أبي حنيفة في تفسير الفقرة

ذهب أبو حنيفة إلى شرطية البلوغ في صحّة المعاملة لكنّه يستثني ما يقصد الابتلاء قبل البلوغ ويقول: إذا كان الابتلاء في زمان احتمال الرشد وقبل البلوغ فالعقود الصادرة منه في هذه الفترة تكون محكومة بالصحّة (إذا كان مقروناً بالرشد)، وعندئذٍ لا يكون البلوغ شرطاً للصحّة ؟ وإليك كلام الرازي في تبيين نظر أبي حنيفة:

استدلّ أبو حنيفة بالآية على صحّة البيع في فترة الاختبار وقال: إنّ قوله:

(وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ ) يقتضي أنّ هذا الابتلاء إنّما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنّه هل له تصرّف صالح للبيع والشراء؟ وهذا الاختبار إنّما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار (لكونه أعمّ منه)، فهو داخل في الاختبار بدليل أنّه يصحّ الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلّافي البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أنّ قوله: (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى ) أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحّة تصرّفاتهم.(2)

ص: 319


1- . منية الطالب: 170/1؛ كتاب البيع: 17/2.
2- . تفسير الرازي: 188/9.

وأجاب عنه الشافعي، بأنّه ليس المراد من قوله: (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى ) الإذن لهم بالتصرّف (في أموالهم) حال الصغر، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) فإنّما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنّه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر وجب أن لا يدفع إليه المال ولو للاختبار ويجوز تصرفه حال الصغر، لأنّه لا قائل بالفرق (بين دفع المال إليه على وجه الإطلاق وبين دفعه للاختبار).

أقول: ما أجاب به الشافعي في ذيل كلامه غير تام، لأنّ دفع المال إلى الصبي على قسمين:

1. دفع شيء يسير من ماله ليتّجر به ويختبر حاله، فهذا غير مشروط بالبلوغ.

2. دفع مجموع أمواله إليه وإطلاق يده في التصرّف بها بما يشاء.

والّذي اتّفق الفقهاء على بطلانه هو الثاني لا الأوّل، فادّعاء عدم الفرق بين القسمين غير صحيح. نعم ما ذكره في صدر كلامه من أنّه ليس المراد من الاختبار هو التصرّف في الأموال هو المتعيّن بأن يقال:

أوّلاً: بأنّ الابتلاء الّذي هو مقدّمة لإيناس الرشد لا يتوقّف على دفع شيء من ماله إليه ليتّجر به، بل يتحقّق بالأُمور الكثيرة في داخل البيت وخارجه حتّى يعلم مدى رشده. ويمكن التوصّل إلى معرفة ذلك من خلال علم النفس.

ثانياً: يمكن أن يقوم الطفل بمقدّمات المعاملة مع حضور الولي، فإذا كان العمل الّذي اتّفق عليه مفيداً غير ضارّ، يقدم الولي على إنجاز هذا العقد.

وحصيلة الكلام: إنّ كلام أبي حنيفة مبني على أنّ المراد من الابتلاء هو

ص: 320

تجارة الصبي بنفسه بشيء من ماله مع أنّه غير صريح ولا ظاهر في الابتلاء بالتجارة، فإنّ لإيناس الرشد طرقاً أُخرى، وعلى فرض كون المراد التجارة، لا دليل على استقلاله في حال الابتلاء. بل يكون الولي وراءه فينفذ إذا كان العمل نافعاً ويردّ إذا كان ضاراً.

***

وأمّا المحور الثاني فيشير إلى العادة السائدة في الجاهلية وهي أنّ الأولياء كانوا يستعجلون ببعض التصرّفات في أموال اليتيم مخافة أن يكبر وينتزع أمواله من الولي، فإليه يشير بقوله تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) أكلاً تجاوزاً عن الحدّ المباح؛ لأنّ للولي - إذا كان فقيراً - أن يأكل على قدر الحاجة أو على قدر عمله.

روى الكليني عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : (وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) . قال: «مَن كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج ليس له ما يُقيمه فهو يتقاضى أموالهم، ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر الحاجة ولا يُسرف، فإذا كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يُعالج لنفسه فلا يرزأن(1) أموالهم شيئاً»(2)(وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) : أي أكلاً تسرّعاً خوفاً من أن يكبر اليتيم ويطلب ماله.

وأمّا المحور الثالث فيقسّم الأولياء إلى غني وفقير، أمّا الأوّل فالأولى لهم التنزّه عن مال اليتيم، وأن يقتنعوا بما أعطاهم اللّه من الغنى والرزق. قال سبحانه:

(وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) .

وأمّا الولي الفقير فيأكل بالمعروف، أي بقدر حاجته ولا يتجاوز ما يستحقّه،1.

ص: 321


1- . رزأ ماله: أصاب منه شيئاً.
2- . الكافي: 129/5، برقم 1.

قال سبحانه: (وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) .

وأمّا المحور الرابع فهو الإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم كما يقول: (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) دفعاً للتهمة، وهل الأمر وجوبي أو إرشادي ؟ الظاهر هو الثاني لما علمت من أنّ الغاية دفع التهمة.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) .(1)

المفردات

وليخش: الخطاب موجّه إلى ولي اليتيم.

خافوا: الفعل جزاء للشرط المتقدّم أعني: «لو تركوا».

التفسير

ذكر المفسّرون في تفسير الآية وجوهاً متعدّدة.(2) والمختار عندنا أنّه سبحانه يخوّف أولياء اليتامى ويحذّرهم من التجاوز على أموالهم بأنّهم لو تركوا ذرية ضعافاً يُصنع بهم مثل ما صنعوا بأيتام غيرهم، ويوضح ذلك الحديث المروي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «إنّ اللّه أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين:

أمّا إحداهما: فعقوبة الآخرة النار، وأمّا الأُخرى فعقوبة الدنيا، قوله: (وَ لْيَخْشَ

ص: 322


1- . النساء: 9.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 27/3-28.

اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) قال: يعني بذلك ليخش أن أُخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى».(1)

وقال الإمام علي عليه السلام: «أَحْسِنُوا فِي عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ ».(2)

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآية بحرفيتها.

قوله تعالى: (وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ ) بيدهم أموال اليتامى (لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) وصارت أموالهم بيد أوليائهم (خافُوا) : أي لخافوا (عَلَيْهِمْ ) : أي على الذرية بأن يتعامل الأولياء مع أموالهم معاملة جائرة مثل معاملاتهم مع الأيتام.

وعلى ما ذكرنا فالآية تدلّ على انعكاس عمل الإنسان ومعاملته مع أيتام الغير في أيتام نفسه لو ترك مالاً وأولاداً فيعامل معهم كمعاملته مع غيرهم.

فإن قلت: إنّه تشترط الصلة والملازمة بين الشرط والجزاء، فيقال: إن أكرمك أكرمه، فيكون إكرام الرجل للشخص سبباً لإكرامه له، وأمّا المقام فلا ملازمة بين ظلم أحد لأيتام شخص، وبين ظلم الآخرين لأيتام ذلك الجائر.

قلت: لا ملازمة بين ظلم أحد على يتيم وبين ظلم الآخرين على يتيم ذلك الظالم، ولكن إذا صار هذا العمل أمراً رائجاً شائعاً، يكون سنّة اجتماعية سائدة في جميع الأحوال، فيعامل مع أموال اليتامى معاملة جائرة لا فرق بين يتيم أحد وأيتام الآخرين. وبذلك تظهر الملازمة بين التجاوزين.

يقول السيد الطباطبائي: الناس يتسالمون في الجملة أنّ الإنسان إنّما يجني ثمرة عمله، وأنّ المحسن الخيّر من الناس يسعد حياته والظالم الشرير لا يلبث4.

ص: 323


1- . البرهان في تفسير القرآن: 36/3-37، عن تفسير العياشي: 223/1 برقم 38.
2- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 264.

دون أن يذوق وبال عمله. ثم استشهد بعدد من الآيات، فقال: إنّ عمل الإنسان خيراً أو شراً ربما عاد إليه في ذريته وأعقابه، قال تعالى: (وَ أَمَّا اَلْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (1)، فظاهر الآية أنّ لصلاح أبيهما دخلاً فيما أراده اللّه رحمة بهما.(2)

وفي نهاية الآية يأمر سبحانه الأولياء بأمرين:

1. (فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ ) : أي عن مخالفته أو عن عقابه في الأموال التي للأيتام وهي تحت أيديهم.

2. (وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) : أي قولاً صواباً عدلاً موافقاً للشرع والحقّ والسديد من القول هو القول السليم من خلل الفساد، وأصله من سدّ الخلل.(3)

ويحتمل أن يُراد به القول المعروف الخالي عن الخشونة المقرون بالعطف والحنان فإنّ الأيتام أشدّ حاجةً للتودّد والترحّم نظير استحقاقهم إلى الكسوة والطعام. نظير قوله سبحانه: (وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً) .(4)

الآية الرابعة
اشارة

قوله سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي

ص: 324


1- . الكهف: 82.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 202/4.
3- . مجمع البحرين: 65/3، مادة «سدد».
4- . البقرة: 83.

بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) .(1)

المفردات

سيصلون: الصلي: الإيقاد بالنار، يقال: صلي بالنار، وصليت الشاة: شويتها.

وربما يفسّر بالدخول في النار، يقال: صلى النار: دخل فيها، قال تعالى: (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) .(2)

سعيراً: السعير: الحميم. فالفعيل بمعنى المفعول.

التفسير

أكّد سبحانه على الأمانة في مورد أموال اليتامى في قوله تعالى: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) ولم يقتصر بذلك حتى أكّد في الآية المتقدّمة بأنّ عمل كلّ إنسان في ذرية شخص ينعكس على ذريته حتى جاء البيان القرآني، يهدّد الظالمين المتجاوزين على حقوق اليتامى أشدّ التهديد، ويقول: (إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً) : أي أكلاً على طريق الظلم، خرج ما إذا كان فقيراً يأكل بمقدار حاجته في طريق حفظ أموال اليتامى وتنميتها (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) فالمفسّرون في تفسير الفقرة على رأيين:

أحدهما: أنّ المراد بأكل النار أكل ما يوجب العذاب بالنار، فهو من باب إطلاق المسبّب - وهو النار - على السبب - وهو أكل الحرام -. وفي الحديث: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اشتكى عينه فعاده النبي صلى الله عليه و آله و سلم... إلى أن قال: «يا علي إنّ ملك

ص: 325


1- . النساء: 10.
2- . النساء: 30.

الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سفود من نار فينزع روحه به فتصيح جهنّم» فاستوى علي عليه السلام جالساً... ثم قال: هل يصيب أحداً من أُمّتك ؟ قال: «نعم، حاكم جائر، وآكل مال اليتيم ظلماً، وشاهد زور».(1) وهذا هو خيرة السيد الشريف الرضي، يقول: والمعنى لما أكلوا المال المؤدّي إلى عذاب النار شبّهوا من هذا الوجه بالآكلين من النار.(2)

الثاني: أنّ الآية من مقولة تجسّم الأعمال وأنّ قوله: (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) كلام على الحقيقة دون المجاز، فهو عمل واحد ولكن له تجلّيان:

تجلٍّ في الدنيا وهو أكل مال اليتيم ظلماً، وتجلٍّ في الآخرة وهو الظهور بصورة أكل النار.

وبعبارة أُخرى: إنّ لعمل واحد سواء أكان خيراً أم شرّاً وجودين، بالنسبة إلى الظروف التي يقع فيها، فأكل مال اليتيم له وجود دنيوي واضح، وله وجود أُخروي وهو أكل النار.

ثمّ إنّ لأصحاب السلوك والمعرفة بحوثاً قيّمة في تجسّم الأعمال، وأنّ شيئاً واحداً له ظهور دنيويّ وله ظهور أُخروي، غير أنّ الظهور الأُخروي لا يدرك في الدنيا لأنّه يحتاج إلى حسّ خاص يفقده الإنسان الدنيوي، يقول تعالى: (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3). فإنّ قوله: (هذا ما كَنَزْتُمْ ) إشارة إلى5.

ص: 326


1- . الكافي: 254/3، برقم 10، باب النوادر.
2- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 18.
3- . التوبة: 35.

الدراهم والدنانير التي اكتنزوها في الحياة الدنيا فهي في تلك الحياة دنانير صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين، وفي الحياة الأُخروية نار تكوى بها الجباه والجنوب.

قوله تعالى: (وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) : أي يدخلون النار.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يُبعث أناسٌ من قبورهم يوم القيامة تؤجّج أفواههم ناراً، فقيل له: يا رسول اللّه مَن هؤلاء؟ قال: (اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (1).

وروى الكليني عن الإمام الباقر عليه السلام [في حديث طويل]: «إنّ آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه، حتّى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كلّ أهل الجمع أنّه آكل مال اليتيم».(2)

***

ثانياً: الحجر بسبب السفه
اشارة

قد مرّ الحجر بسبب الصغر وإليك دراسة الحجر بسبب السفه.

قال سبحانه: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) .(3)

المفردات

ص: 327


1- . تفسير العياشي: 35/1، برقم 47.
2- . الكافي: 31/2.
3- . النساء: 5.

السفهاء: جمع السفيه، والسفه هو الخفة في العقل والطيش(1) ووضع الأُمور في غير موضعها، ومنه التبذير في صرف المال.

جعل اللّه لكم: فعل «جعل» يتعدّى إلى مفعولين: الأوّل: الضمير أي جعلها اللّه. الثاني قوله: (قِياماً) .

قياماً: مأخوذ من القِوام بكسر القاف، وقِوام الأمر: عِماده الذي يقوم به وينتظم، أو يعتمد عليه.

وارزقوهم: ممّا يحتاجون إليه من المأكول.

واكسوهم: ممّا يحتاجون إليه من اللبس، فالفعلان: (اُرْزُقُوهُمْ ) و (اُكْسُوهُمْ ) كناية عن كلّ ما يحتاجون إليه، غير أنّ ما هو مظهر الحاجة - غالباً - الأكل واللبس.

قولاً معروفاً: قولاً لطيفاً لا غلظة فيه ولا شدّة.

التفسير

الآية بصدد المنع عن إيتاء المال لمن فيه خفّة عقل وطيش لا يعرف ما يصلح له عمّا يفسد، فلذلك نهى عن دفع أموال السفهاء إليهم فقال: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) . نعم يضيف سبحانه أموال السفهاء إلى الأولياء ويقول: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) مكان أن يقول: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم. ولذلك خاطب

ص: 328


1- . طاش، يطيش طيشاً فهو طائش. الطيش: خفة العقل، وفي الصحاح: النزق والخفّة. وطاش السهم عن الهدف: جاز عنه ولم يصبه. وأنشد سيبويه: ولقد علمت لتأتين منيتي إنّ المنايا لا تطيش سهامها لاحظ: مجمع البيان: 72/9؛ لسان العرب: 312/6، مادة «طيش».

الأولياء بقوله: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ ) وكأنّ الأموال لهم لا للسفهاء ولكن المجوّز لهذا النوع من النسبة مع أنّ الأموال في الحقيقة لغيرهم، هو: أنّ الأموال لما كانت بأيدي الأولياء يتصرّفون فيها حسب مصالح المحجورين، فصحّت نسبة الأموال إليهم بأن يقال: «أموالكم» بنحو من التجوّز.

ومع ذلك فإنّ للسيد الطباطبائي رأياً آخر لبيان هذه النسبة يقول: وفي الآية دلالة على حكم عام موجّه إلى المجتمع، وهو: أنّ المجتمع ذو شخصية واحدة له كلّ المال الذي أقام اللّه به صلبه وجعله له معاشاً، فيلزم على المجتمع أن يدبّره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقاً معتدلاً مقتصداً ويحفظه عن الضياع والفساد، ومن فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه، بل عليهم أن يحبسونها عنهم ويصلحوا شأنها، وينمّوها بالكسب والاتّجار والاسترباح ويرزقوا أُولئك السفهاء من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويداً رويداً وينتهي إلى مسكنة صاحب المال وشقوته.(1)

فعلى هذا فالأموال لها نسبتان نسبة إلى السفهاء بما أنّهم ورثوها من آبائهم، ونسبة إلى المجتمع من غير فرق بين أموالهم وأموال غيرهم، فاللّه سبحانه خلق الأموال لحياة المجتمع، فتصحّ كلتا النسبتين، فهذه الفقرة تدلّ على أنّ للإسلام اهتماماً كبيراً بمعاش الناس وحياتهم الدنيوية، حتى أنّه سبحانه قد ساوى بين الأنفس والأموال في العديد من الآيات، فقال: (إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ ) (2)، كما أنّه سبحانه وصف المال بالخير وقال:

(إِنْ تَرَكَ 1.

ص: 329


1- . الميزان في تفسير القرآن: 170/4.
2- . التوبة: 111.

خَيْراً) .(1)

والروايات في هذا المجال كثيرة.

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما يأمر بحفظ أموال السفهاء يرخّص لهم في إعطاء ما يقوم به عيشهم من الرزق والكسوة، ويقول: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ ) وأشار إلى المهم من الحاجات.

وفي ختام الآية يأمر سبحانه الأولياء أن يتعاملوا معهم بالعطف والشفقة ويقول: (وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ردّاً على الخشونة التي يبديها بعض الأولياء في تعاملهم مع هؤلاء، وكأنّ من تحت ولايتهم عبيد لهم، فيتعاملون معهم على هذا النحو.

ثمّ إنّ هنا سؤالاً وهو أنّه سبحانه قال: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ ) وكان المفروض في اللغة أن يقول: وارزقوهم منها، أي من الأموال، فلماذا عدل إلى حرف (في)؟ وهذا ما يجيب عنه صديقنا الفقيد الشيخ مغنية رحمه الله بقوله: لو قال «منها» لكان المعنى أن يأكل السفيه من أصل ماله، فينقص المال بذلك، وربما استهلكه كلّه إن طال المدى، أمّا «في» فإنّها ظرف، ويكون المعنى: أنّ المال يكون محلاً للرزق، وذلك أن يتّجر به الولي، ويستثمره وينفق على السفيه من الناتج، لا من أصل المال.(2) وربما يشير إليه في «كنز العرفان» بقوله: في قوله: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ ) دون «منها» فائدة، وهي أن يرزقوهم من ربحها لا من أصلها لئلّا يأكلها الإنفاق.(3)2.

ص: 330


1- . البقرة: 180.
2- . التفسير الكاشف: 255/2.
3- . كنز العرفان: 111/2.

فإن قلت: إنّ قوله سبحانه: (وَ اُرْزُقُوهُمْ ) لا ينسجم في الظاهر مع قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلرَّزّاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ ) (1).

قلت: إنّ النسبة تختلف، فنسبة الرزق إلى اللّه نسبة استقلالية، فاللّه تعالى من دون أن يستعين بشخص يرزق الناس جميعاً، وأمّا الأولياء فهم يرزقون المحجورين برزق يرزقهم اللّه إيّاه، وكم لهاتين النسبتين من نظائر في القرآن الكريم، يقول سبحانه: (اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) .(2) وفي آية أُخرى يقول: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (3)، فالتوفّي بمعنى الأخذ منسوب إلى اللّه سبحانه في الآية الأُولى وإلى الرسل الذين أُريد بهم الملائكة في الآية الثانية، وهناك شيء واحد منسوب إلى اللّه وجنوده بنسبتين مختلفتين.

وأخيراً أنّ الآية في الظاهر تحرّم على الولي أن يدفع أموال السفيه إليه، ولكن بما أنّه سبحانه أضاف الأموال إلى الناس وقال: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) فيدلّ على أنّه يحرم على الوليّ أن يدفع إليهم أي شيء من الأموال، سواء أكانت مالاً للسفيه أم كانت لغيره، فيكون المعنى: لا تؤتوا أموال الناس - الذين أنتم منهم - للسفهاء.

وفي الختام نشير إلى أمرين:

1. إنّ الحجر هنا معلّق على السفيه، من غير فرق بين أن يكون صبياً أو بالغاً، طارئاً بعد البلوغ أو قبله، خلافاً لأبي حنيفة فإنّه لا يحجر على البالغ العاقل إذا طرأ عليه السفه، مع أنّه على خلاف إطلاق الآية.1.

ص: 331


1- . الذاريات: 58.
2- . الزمر: 42.
3- . الأنعام: 61.

2. إنّ الحجر في الآية مختص بالتصرّف المالي، وأمّا تصرّفه في غير المال كاستيفاء القصاص والطلاق وغيرهما فخارج عن مفاد الآية، ويقع منه، على خلاف الصبي فإنّه ممنوع التصرّف مطلقاً.

***

ثالثاً: الحجر بسبب الرّق

قال تعالى: (ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .(1)

قوله سبحانه: (عَبْداً) : أي للّه (مَمْلُوكاً) : أي للناس (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) : أي على أي شيء من التصرّفات، والجملة صفة للمملوك، صفة تخصيص ليخرج المكاتب والمأذون في التصرّفات، فإنّهما يقدران على التصرّف في المال.

ثمّ إنّه يقع الكلام: هل أنّه لا يملك شيئاً سواء ملّكه مولاه أو لا، أو يملك إذا ملّكه مولاه ؟ وبما أنّا نفقد الموضوع في حياتنا المعاصرة، فلنتقصر على هذا المقدار.

***

تمّ الكلام في العقود الشرعية ولواحقها وحان البحث عن بعض الإيقاعات الواردة في الذكر الحكيم.

ص: 332


1- . النحل: 75.

الإيقاعات

1. النذر

اشارة

النذر: - كما في المفردات -: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال: نذرت للّه أمراً.(1)

قال المحقّق: النذر إمّا برّ أو زجر أو تبرّع. فالبر: قد يكون شكراً للنعمة، كقوله: إن أُعطيت مالاً أو ولداً أو قدم المسافر فلله عليّ كذا... وقد يكون دفعاً لبلية، كقوله: إن برئ المريض أو تخطّأني المكروه فللّه عليّ كذا.

والزجر: أن يقول: إن فعلت كذا فللّه عليّ كذا، أو إن لم أفعل كذا فللّه عليّ كذا.

والتبرّع: أن يقول: للّه عليّ كذا.

و لاريب في انعقاد النذر بالأُوليَيَن، وفي الثالثة خلاف، والانعقاد أصح.(2)

وقد وردت أحكام النذر في عدد من الآيات سندرسها تالياً:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما

ص: 333


1- . المفردات للراغب: 487، مادة «نذر».
2- . شرائع الإسلام: 185/3-186.

لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) .(1)

المفردات

نفقة: ما ينفق، يشمل القليل والكثير.

نذرتم: مرّ تفسيره آنفاً، وفي المجمع: عقد المرء على النفس فعل شيء من البر بشرط، ولا ينعقد ذلك إلّابقوله: للّه عليّ كذا.(2)

التفسير

تشير الآية إلى وجود إنفاقين:

1. ما فرضه اللّه على الإنسان، وإليه يشير بقوله: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ) ف «ما» موصولة أُريد بها الإنفاق. وعلى هذا فالفقرة ناظرة إلى كلّ إنفاق صحيح، خلافاً ل «كنز العرفان»، فقد فسّره بقوله: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ) في الطاعات أو في المعاصي.(3)

2. ما فرضه الإنسان على نفسه عن طريق النذر، وإليه يُشير قوله: (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) كما لو نذر إنفاق شيء في سبيل اللّه على الإطلاق أو مشروطاً بأمر، فالجميع معلوم للّه سبحانه كما يقول: (فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ ) .

بقي الكلام في ذيل الآية، أعني قوله: (وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ففيه احتمالات ثلاثة:

ص: 334


1- . البقرة: 270.
2- . مجمع البيان: 244/2.
3- . لاحظ: كنز العرفان: 114/2.

1. ربما يجعل قرينة على الأعم، أي سواء كان الإنفاق في الطاعة أو في المعاصي.

2. يحتمل أن يكون الصدر - كما قلنا - خاصّاً بالإنفاق بطريق الطاعة بأمر من اللّه. وأمّا الذيل فيمكن أن يكون ناظراً إلى مَن لم ينفق، فإنّه لعدم إنفاقه ظلم الفقراء والمساكين.

3. يراد من الظالم من لم يف بنذره.

إنّما الكلام في دلالة الآية على وجوب الوفاء بالنذر، فربما يقال: في ذكر العلم بعد الإنفاق والنذر، وإردافه بالظلم بسبب المخالفة، دلالة على وجوب الوفاء بالنذر، وذلك هو المطلوب.(1)

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) .(2)

المفردات

مستطيراً: المستطير: اسم فاعل من استطار إذا فشا وانتشر في الأقطار غاية الانتشار، وهو في المقام كناية عن بلوغ شدائده وأهواله غايتها.

التفسير

يصف اللّه سبحانه طائفة معيّنة (وهم الأبرار) في هذه الآية بوصفين:

ص: 335


1- . كنز العرفان: 114/2.
2- . الدهر: 7.

1. (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) : أي يحترمون عهودهم مع اللّه سبحانه مهما ثقلت عليهم، ولا يسأمون تكاليفها.

2. (وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) : أي يطيعون اللّه خوفاً من يوم يعمّ شرّه العظيم كلّ مَن عصى اللّه وخالفه في حكم من الأحكام. والمراد بالشرّ، هنا، أهوال يوم القيامة وشدائده.

ووجه دلالة الآية على وجوب الوفاء، أمرين:

1. أنّها خرجت مخرج المدح لهم (أعني: أهل البيت عليهم السلام)، وذلك دليل رجحان الوفاء بالنذر.

2. إرداف الوفاء بخوف شرّ يوم القيامة، وفيه دلالة على وجوب الوفاء إذ المندوب لا يخاف من تركه العقاب و «المستطير» هو المنتشر.(1)

ويمكن أن يقال في وجه الوجوب هو أنّ المنذور في الأقسام الثلاثة لا يخلو من رجحان مساو للنذر والاستحباب، فعلى هذا يجب أن تكون الغاية من النذر شيئاً وراء الرجحان، وهو وجوب الوفاء.

ثمّ إنّ لزوم الكفّارة على عدم الوفاء دليل خارجي على وجوبه.

بقي الكلام في القسم الثالث الذي أشار إليه المحقّق وهو التبرّع، كأن يقول:

للّه عليّ كذا، بلا شرط، فهل يجب الوفاء به أو لا؟

نقل عن المرتضى رحمه الله بعدم انعقاده مدّعياً الإجماع، ولأنّ غلام ثعلب نقل أنّ النذر - لغة - وعدٌ بشرط، فيكون كذلك شرعاً لأنّه جاء بلغتهم، والأصل عدم2.

ص: 336


1- . كنز العرفان: 115/2.

النقل.(1)

وأُجيب عنه بمنع الإجماع لعدم تحقّقه، ومنع النقل، بل هو موضوع للالتزام الجامع بين الشرط وعدمه وقد استدلّ بقول الشاعر:

فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي *** وهمّوا بقتلي يا بُثين لقوني

قوله: «يا بُثين» منادى مرخم(2) أصله: «يا بُثينة».(3)

***ل.

ص: 337


1- . كنز العرفان: 115/2.
2- . الترخيم: حذف آخر المنادى: يقول ابن مالك: ترخيماً احذف آخر المنادى كيا سعا فيه مَن دعا سعادا
3- . وبثينة عشيقة الشاعر جميل.

الإيقاعات

2. أحكام اليمين

اشارة

اليمين أصله الجارحة، وإطلاقه على الحلف، مستعار من اليد اعتباراً بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره.(1)

لكن اليمين بمعنى الحلف أمر مطلق غير مقيّد بشيء، إلّاأنّه في الشرع مقيّد بالحلف باللّه أو بأسمائه التي لا يُشركه فيها غيره، أو مع إمكان المشاركة ينصرف إطلاقها إليه، فالأوّل كقولنا: ومقلب القلوب، والذي نفسي بيده، والذي خلق الحب وبرأ النسمة.

ثمّ إنّ اليمين لا ينعقد إلّابالنيّة، فلو حلف من غير نيّة لم تنعقد سواء كان بصريح أو بكناية.(2)

إذا عرفت ذلك فلنذكر ما ورد حول أحكام اليمين من الآيات:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا

ص: 338


1- . المفردات للراغب: 552-553، مادة «يمن».
2- . شرائع الإسلام: 169/3-170.

وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .(1)

المفردات

عُرضة: العُرضة - بالضم - كالغُرفة، يطلق على معنيين:

1. المانع المعترض دون الشيء، والحاجز بين الأمرين، وربما يطلق على المعترض في كلام الغير بهذا المعنى .

2. من العرض، كإراءة الشيء للشيء، حتى يظهر صلوحه وفساده، كعرض المال للبيع، وعرض المنزل للنزول، وعرض الفتاة الصالحة للزواج، والنكاح، يقول الشاعر:

دعوني أنح وجداً كنوح الحمائم *** ولا تجعليني عُرضةً للّوائم

أي دعوني أبك أحبابي، وانح نوح الحمائم حزناً عليهم، ولا تعرضوني للوم اللّوائم فإنّي لا أبالي بالملام.(2)

التفسير

اختلف المفسّرون في تفسير الآية وذكروا لها وجوهاً ثلاثة:

1. أنّ الآية بصدد بيان حكم مَن يحلف باللّه لترك الأُمور الراجحة، وقد ورد في شأن النزول أنّها نزلت في عبد اللّه بن رواحة حين حلف ألّا يدخل على ختنه ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته، فكان يقول: إنّي حلفت بهذا فلا يحلّ لي

ص: 339


1- . البقرة: 224.
2- . مجمع البيان: 123/2.

أن أفعله، فنزلت الآية.(1)

وعلى هذا فقوله: (أَنْ تَبَرُّوا) مفعول الأيمان، بتقدير «لا» فيكون المعنى:

لا تجعلوا اللّه عرضة وتحلفوا على أن لا تبرّوا ولا أن تتّقوا ولا أن تصلحوا. نظير قوله سبحانه: (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (2)، أي أن لا تضلّوا، فتكون الآية نهياً عن الحلف باللّه، على ترك الواجبات والمستحبّات، ولفظ الجلالة أعظم وأعلى من أن يقع معرضاً لهذا النوع من الحلف، ففي مثل ذلك على الحالف أن يرجع عن يمينه ويكفّر.

2. أنّها بصدد النهي عن الجرأة على اللّه بكثرة الحلف به؛ لأنّ مَن أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة له، وقد قيل: مَن أكثر الحلف قلّت مهابته وكثر حنثه، واتّهم بالكذب، ولأجل ذلك ينهى اللّه سبحانه عن جعل لفظ الجلالة معرضاً لليمين وقال: (وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ) فنهانا سبحانه عن الحلف به إلّا لضرورة، ثمّ ذكر وجه النهي وهو: (أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ ) : أي لأن تبرّوا ولتكونوا بررة، أتقياء، مصلحين في الأرض غير مفسدين. وعلى هذا فالأفعال الثلاثة مفعول لأجله للنهي عن جعل اللّه عرضة للأيمان، وكأنّ مَن كثر حلفه يجعل اللّه عرضة ليمينه يكون بعيداً عن البر والتقوى والإصلاح. وعلى هذا فلابدّ من تقدير اللام في قوله: (أَنْ تَبَرُّوا) : أي لأن تبرّوا، وهذا القول هو خيرة صديقنا المرحوم الشيخ مغنية رحمه الله، ويؤيّد ما ذكره من أنّ الغاية من المنع من الإكثار من اليمين، الآيةُ التالية حيث تقسّم اليمين إلى قسمين: بين كونه لغواً وكونه عقدياً،6.

ص: 340


1- . مجمع البيان: 122/2.
2- . النساء: 176.

فالأوّل لا يترتّب عليه الأثر دون الثاني.(1)

ولكن يُبعّده أنّه لو كان المراد ما ذكر لأصبحت عبارة (بَيْنَ اَلنّاسِ ) زائدة، إذ المراد من «تصلحوا» أن تكونوا صالحين، ومعه لا حاجة إلى قوله: (بَيْنَ اَلنّاسِ ) بخلاف المعنى الثالث الآتي ذكره فإنّ لقوله: (بَيْنَ اَلنّاسِ ) مدخلية في النهي عن الحلف.

3. إنّ (عُرْضَةً ) بمعنى مانعاً وحاجزاً. فيكون المعنى: لا تجعلوا اللّه تعالى مانعاً بينكم وبين عمل الخير، بأن تحلفوا به على تركه، تعظيماً لاسمه.

وإلى هذا الوجه يرجع ما يقال: المراد جعل الحلف باللّه مانعاً عن عمل الخير، وهذا الوجه يتّحد مع الأوّل نتيجة.

واللّه سبحانه يتمّ الآية بقوله: (وَ اَللّهُ سَمِيعٌ ) لما تحلفون به (عَلِيمٌ ) بما يترتّب على كثرة الحلف من الآثار.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) .(2)

المفردات

يؤاخذكم: المؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى العدّ والمحاسبة، يقال: أخذه

ص: 341


1- . لاحظ: التفسير الكاشف: 338/1-339.
2- . البقرة: 225.

بكذا، عدّه عليه ليعاتبه أو ليعاقبه. وأُريد بالمؤاخذة باليمين هو الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث.

باللغو: اللغو: الكلام الذي لا فائدة فيه، يقال: لغى يلغو، لغواً: إذا أتى بكلام لا فائدة فيه، وأُريد في المقام: اليمين الصادر من الإنسان بلا قصد، بل عن اعتياد في الكلام.

أيمانكم: جمع اليمين، بمعنى القسم والحلف.

كسبت قلوبكم: مقابل اليمين اللغو، التي لا قصد فيها إلى الحلف، فيكون المراد الحلف المقصود، ويفسّره قوله سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ ) (1)، وسيأتي تفسيرها تالياً.

التفسير

لمّا نهى اللّه سبحانه عن جعله عرضة للأيمان، ونهى عن التسرّع بالحلف، اقتضى المقام بيان حكم اليمين التي تجري على الألسن، فالآية تقسّم الحلف إلى قسمين:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) وأُريد باللغو ما يجري على الألسن بلا اختيار وقصد، وإنّما اعتاد أن يقول في كلامه: بلى واللّه، لا واللّه. وهذا النوع من الحلف بما أنّه يصدر عن الإنسان بلا قصد، ليس موضوعاً لحكم شرعي لأنّ المتكلم لم يقصد به الحلف، بل جرى على لسانه.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) يفسّره

ص: 342


1- . المائدة: 89.

قوله في آية أُخرى: (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ ) (1) وعقد اليمين عبارة عن عقد القلب به، في مقابل يمين اللغو، فهو صادر من دون عقد القلب بخلاف ما تكسب القلوب، فإنّه صادر عن قصد وعزم وإرادة، وأمّا وجه المؤاخذة فسيأتي في الآية التالية.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) فهو غفور يغفر الذنوب، وحليم يمهل نزول العقوبة على الذنب، ولا يعجّل بها، ولعلّه إشارة إلى غفران ذنب من حلف وحنث وكفّر.

ومع ذلك يحتمل أن يكون راجعاً إلى اللغو في الأيمان، إذ فيه اقتضاء المؤاخذة، لأنّه يلعب بيمينه، فيستحق العقاب ولكنّه سبحانه عفا عنه لأنّه غفور حليم.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .(2)

ص: 343


1- . المائدة: 89.
2- . المائدة: 89.
المفردات

يؤاخذكم: المؤاخذة بمعنى العدّ والمحاسبة.

باللغو: اللغو: ما لا يعتدّ به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر.

عقّدتم: العقد الجمع بين أطراف الشيء، وأُريد هنا ما صمّمتم عليه وقصدتم، وقد عبّر عنه في الآية السابقة بقوله: (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) .

التفسير

الآية تقسّم الأيمان إلى قسمين:

1. اليمين اللغو غير المقصود.

2. اليمين المعقّد المقصود.

ثمّ تذكر إنّ اللّه سبحانه لا يؤاخذ بالقسم الأوّل، وإنّما يؤاخذ بالقسم الثاني، فعلى الحالفين أن يحترموا أيمانهم ولا يحنثوا، فلو حنث فهو مخيّر في كفارته بين أُمور ثلاثة، وأمّا من لم يجد واحداً من هذه الثلاثة فيصوم ثلاثة أيام. والأيمان جمع اليمين، وأُريد به هنا اليمين باللّه تعالى، ولا ينعقد إلّابكمال العقل والاختيار والقصد، ثمّ إنّ اليمين على قسمين:

1. ما إذا حلف كاذباً على الأمر الماضي، فقد ارتكب الحرام، لا كفّارة له، فلو قال: واللّه قد قرأت القرآن وأدّيت ديوني، وكان كاذباً ارتكب حراماً دون أن تتعلّق به الكفّارة، وإنّما تتعلّق الكفّارة بفعل غير مكروه ولا حرام وأنّه سيفعله، فلو برّ بحلفه فهو، وإلّا يكفّر.

2. اليمين على المستقبل وهو على قسمين:

ص: 344

يمين يقصده الإنسان عن وعي وجدّ، ويمين يحلف به الإنسان دون أن يقصد، إنّما الكلام في تمييز أحد القسمين عن الآخر. روى الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول في قول اللّه عزّ وجلّ : (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) قال: قول الرجل: «واللّه، وبلى واللّه، ولا يعقد على شيء».(1)

وعلى ذلك فكلّ يمين كان الحالف قاصداً به عن عزم وجدٍّ، فهذا هو اليمين الذي يؤاخذ اللّه سبحانه على حنثه كما يقول: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) لكونها صادرة عن لا قصد ولا عزم، والشاهد على ذلك قوله: (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ ) وبما أنّ «ما» في قوله: (بِما عَقَّدْتُمُ ) موصولة، يكون معنى الآية: يؤاخذكم بالذي عقّدتم وقصدتم، فعلى المؤمن أن يحفظ إيمانه ويبرّ بحلفه، فلو حلف على الفعل يعمل به، ولو حلف على الترك وكان راجحاً يستمرّ عليه.

ثمّ إنّ في قوله: سبحانه: (عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ ) قراءتين تارة بالتخفيف وأُخرى بالتشديد. وربما يفسّر التشديد للتكرير مرّة بعد مرّة، والظاهر خلافه بل المراد الحلف عن عزم قطعيّ بقلبه ولسانه، لا مرّة بعد مرّة، بشهادة قوله سبحانه: (وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوابَ ) .(2)

فبما ذكرنا ظهر أنّ الأيمان على أقسام ثلاثة:

1. يمين صادق أو كاذب بالنسبة للماضي، فلو كان كاذباً فلا كفّارة فيه.

2. يمين للمستقبل لكن بلا قصد ولا عزم جدّي، وهذا ما لا كفّارة له.3.

ص: 345


1- . الكافي: 443/7.
2- . يوسف: 23.

3. يمين عن جدّ وعزم فيجب حفظه تكريماً للفظ الجلالة (اللّه سبحانه)، وهذا ما سمّاه القرآن بقوله: (بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ ) ، قرأ بالتشديد وقيل - كما مرّ - إشارة إلى أنّه متى أعاد اليمين على وجه التكرار بمحلوف عليه واحد، لم يلزمه إلّا كفّارة واحدة، والمراد من المؤاخذة هي المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفّارة.

ثمّ إنّه سبحانه يبيّن المؤاخذة في الدنيا بقوله: (فَكَفّارَتُهُ ) : أي إذا حنث بيمينه فكفّارته أحد الأُمور الثلاثة وهو مخيّر بالعمل بواحد منها:

1. (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ) فاللازم هو الإطعام. فلو دفع نقداً يشتري به الطعام وعمل به يكفي، دون ما لم يشتر وصرف النقد في حاجاته الأُخرى، ثم إنّه سبحانه قيّد الإطعام بقوله: (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) ، والظاهر أنّه أُريد الأوسط كمّاً وكيفاً، أي يعطيهم كما يعطي أهله في العسر واليسر من حيث الكميّة والكيفية.

روى الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في كفّارة اليمين: «عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، والوسط الخل والزيت، وأرفعه الخبز واللحم».(1)

ويظهر من الرواية أنّ الأوسط في الآية بمعنى الوسط بين الرفيع وضدّه نظير قولهم: خير الأُمور أوسطها، ويمثل بقولهم: السخاء وسط بين البخل والتبذير.

وفي رواية أُخرى عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام عن (أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) ، فقال: «ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك»، قلت: ومان.

ص: 346


1- . الكافي: 452/7، برقم 5، باب كفّارة اليمين.

أوسط ذلك ؟ فقال: «الخل والزيت والتمر والخبز تشبعهم به مرّة واحدة».(1)

والظاهر أنّ الرواية ناظرة إلى الظروف الخاصّة في المدينة وما حولها، وأمّا اليوم، فربما لا يكفي الخبز والخل، فيتبع ما هو الرائج والدارج في الوقت الحاضر.

والمورد من مصاديق تأثير الزمان والمكان في تعيين المصداق.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المجزي إطعام عشرة أشخاص خلافاً لأبي حنيفة الذي قال: إنّه لو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام جاز.(2)

2. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) وأُريد بالملابس التي تغطي الجسم حسب العادة، فلابدّ أن تكون ثوباً مع السروال. نعم روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه ثوب واحد(3)، فهو ناظر إلى القميص العربي الذي يستر الإنسان إلى القدمين، ومع ذلك فالرواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لكلّ إنسان ثوبان»(4)، مئزراً وقميصاً، وعلى كلّ تقدير فيتبع المرسوم في البيئة التي يكفّر فيها.

3. (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) .

وقد أخّر سبحانه العتق تنبيهاً على أنّ هذه الكفّارة وجبت على التخيير لا على الترتيب، إذ لو كان كذلك لوجبت البدأة بالأغلظ. ثم إنّه قدّم الإطعام على الأخيرين لأنّه أسهل لكون الطعام أعمّ وجوداً، والمقصود منه التنبيه على أنّه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف.0.

ص: 347


1- . الكافي: 454/7، برقم 14، باب كفّارة اليمين.
2- . تفسير الرازي: 76/12.
3- . لاحظ: الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب الكفّارات، الحديث 1 و 2 و 4.
4- . لاحظ: الوسائل: 15، الباب 14 من أبواب الكفّارات، الحديث 10.

نعم لا يجب التكفير إلّابعد الحنث ولو كفّر قبله لم يجزه، ضرورة أنّه امتثال للأمر المتوجّه إليه، والمفروض أنّه غير مكلّف بالتكفير.

حكم غير الواجد للأُمور الثلاثة

هذا كلّه للواجد أحد الأُمور الثلاثة، فأمّا من لم يجد فحكمه ما يقول عنه:

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) : أي مَنْ لم يتمكّن من التكفير بأحد الأُمور الثلاثة (ف) كفّارته عليه (صيام ثلاثة أيام) متوالية لقول الصادق عليه السلام: «كلّ صوم يفرّق إلّا ثلاثة أيام في كفّارة اليمين»،(1)(ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) وحنثتم، ضرورة أنّ الكفّارة لا تجب بنفس اليمين، وإنّما تجب بشرط حنثها، وقد تقدّم أنّ التكفير قبل الحنث لا يجزي، خلافاً للشافعي كما قيل.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى أهمية الموضوع ويقول: (وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) عن الحنث، وربما يقال: المراد قلّلوا الأيمان ولا تكثروا منها، والظاهر هو الأوّل (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

قوله: (كَذلِكَ ) كأنّه يتضمّن تشبيه أمر بأمر، وهذا ما يظهر من الطبرسي، يقول: معناه كما بيّن أمر الكفّارة، وجميع الأحكام، يبيّن لكم آياته وفروضه، لتشكروه على تبيينه لكم أُموركم، ونعمه عليكم.(2)

ص: 348


1- . الكافى: 140/4، برقم 1، باب صوم كفّارة اليمين.
2- . مجمع البيان: 478/3.

الإيقاعات

3. أحكام العتق

تمهيد

الإسلام يدعو إلى الحرّية وأنّ الأصل في الإنسان كونه حرّاً في أعماله، وإنّما تعرض الرقيّة لأسباب خاصّة لحفظ دماء العبيد، قال الإمام علي عليه السلام: «بعث اللّه محمداً ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته».(1)

وقال عليه السلام: «وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللّهُ حُرّاً».(2)

وقال عليه السلام: «أيّها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإنّ الناس كلّهم أحرار، ولكنّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً».(3)

إنّ الحاكم في الجزيرة العربية كان هو منطق القوّة، فالقويّ يسترقّ الضعيف ويتملّكه ويتعامل معه معاملة سائر مملوكاته كبعيره وفرسه، فمَن كان قويّاً فله الحرية ومَن كان ضعيفاً فهو محكوم بالرقّية.

ص: 349


1- . الكافي: 386/8، برقم 586؛ الوافي: 142/3، برقم 22.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 31.
3- . الكافي: 69/8، برقم 26؛ بحار الأنوار: 134/32، برقم 107.

ففي هذا الجو المظلم وضع الإسلام للرقّ نظاماً خاصّاً يتمّ لمصلحة الرقيق، وهو أنّه إذا وضعت الحرب أوزارها واستولى المسلمون على العدو الذي كان يقاتلهم، حكم عليهم بالرقيّة حفظاً لحياتهم، وكان هذا الأُسلوب هو الذي حفظ به دمهم وحياتهم؛ وذلك لأنّ أمام الحاكم الإسلامي خمسة خيارات، ليس الصالح منها إلّاخامسها:

1. أن يقتلهم جميعاً ويسفك دماءهم عن آخرهم، وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.

2. أن يسجنهم جميعاً، وذلك يكلّف الدولة تكاليف باهظة وميزانية ضخمة، مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.

3. أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة أُخرى.

4. أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين، انتقاماً منهم.

ولما لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائياً، يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو:

5. استرقاقهم، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلامية أن يتعرّفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأة إسلامية، وبهذا الطريق يكون الإسلام قد حافظ على حياتهم ومنع من سفك دمائهم، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم

ص: 350

أشدّ المحافظة بخلاف مَن لا يملكهم، ولا يرجو منهم نفعاً.

وقد ورد ذكر ظاهرة الرقيّة في الذكر الحكيم في آيات عديدة نشير إليها:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً) .(1)

المفردات

أنعم اللّه عليه: بالإسلام.

أنعمت عليه: بالعتق.

أمسك عليك زوجك: أن لا تطلقها.

التفسير
شأن النزول

كان زيد بن حارثة الكلبي قد اختطف في الجاهلية وهو غلام يافع، وعُرض

ص: 351


1- . الأحزاب: 37.

للبيع في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فأهدته خديجة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد زواجها منه. وقد دفعت سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحسنة وأخلاقه الفاضلة زيداً هذا إلى أن يتعلّق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تعلّقاً شديداً، حتّى أنّه عندما جاء أبوه إلى مكّة وأراد أن يفاديه لكي يعود إلى أهله ووطنه، أبى زيد أن يترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بالرغم من أنّه خيّره بين المكث عنده أو الرحيل مع أبيه. وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحب زيداً لنباهته وأدبه حتى أعتقه وتبنّاه، وقد وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم بين القرشيّين وقال: «يا مَن حضر اشهدوا أنّ زيداً هذا ابني».(1)

وبما أنّ الآية لها صلة بباب العتق كما أنّ لها صلة بالآيات الواردة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد اقتصرنا بما ذكر بالنسبة إلى الأمر الأوّل، أي قوله: (وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) فقد فسّر بالعتق وأمّا الأمر الثاني فسوف يأتي في الآيات الواردة في حقّ نسائه وأزواجه صلى الله عليه و آله و سلم.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(2)

ص: 352


1- . انظر: الطبقات الكبرى: 40/3-42؛ الاستيعاب (بهامش الإصابة): 545/1-547؛ أُسد الغابة: 225/2.
2- . النور: 33.
المفردات

الكتاب: المكاتبة، وسيأتي تفصيلها في التفسير.

فتياتكم: جمع فتاة، وأُريد هنا الإماء.

البغاء: الزنا مع الأُجرة.

تحصّناً: التحصّن: العفّة.

لتبتغوا: لتكسبوا.

التفسير

اعلم أنّ العتق يحصل بأُمور:

1. العتق منجّزاً بغير عوض بأن يخاطب عبده بقوله: أنت حرّ لوجه اللّه.

2. مكاتبة معلّقة على الموت بغير عوض، وهو المسمّى في اصطلاح الفقهاء (تدبيراً)، وليس في الكتاب العزيز ما فيه دلالة عليه، بل هو مستفاد من السنّة الشريفة.

3. مكاتبة بأمد منجّم، كما يقول السيد: كاتبتك على أن تؤدّي إليّ كذا إلى وقت كذا، فإذا أدّيته فأنت حرّ.

إذا علمت ذلك فلندخل في تفسير الآية، وهي ناظرة إلى القسم الثالث.

نقل السيوطي: أنّ حويطب بن عبد العزى كان له عبد يُسمّى «صبيحاً» سأله أن يكاتبه، فأبى، فنزلت الآية.(1)

ص: 353


1- . تفسير الدر المنثور: 45/5.

قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتابَ ) : أي المكاتبة (مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) بيان للضمير المرفوع في (يَبْتَغُونَ ) ، أي الأرقّاء من العبيد والإماء الذين يقترحون على مواليهم المكاتبة على النحو المذكور، فيجب على الموالي، أو يستحب، أن يلبّوا رغبتهم كما يقول: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) : أي كونهم قادرين على أداء حقّ المكاتبة.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد من العلم بالخير فيهم أنّهم بذلك العقد يريدون تحرير أنفسهم دون أن يتّخذوا ذلك وسيلة للإباق.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر الموالي بشيء آخر ويقول: (وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ ) : أي يأمركم بالإعانة، ويحتمل وجهين:

1. أي حطّوا عنهم من نجوم الكتابة شيئاً.

2. ردّوا عليهم يا معشر السادة شيئاً من المال الذي أخذتم منهم.

وهناك احتمال ثالث، وهو أنّه خطاب للمؤمنين الميسورين عامّة، بمعونة المكاتبين على تخليص أنفسهم من أسر الرق، كلّ ذلك قابل لأن يراد من الفقرة مفرداً أو جمعاً.

ثم إنّه سبحانه قال بعد ذلك: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ ) .

فلا شكّ أنّ الزنا أمر محرّم أوّلاً والإكراه عليه حرام مثله. والفقرة تشير إلى ظاهرة سيئة كانت سائدة في عصر الجاهلية، وهي أنّ الموالي الذين كانوا يملكون الإماء ربما يتاجرون بهن ويأمرونهنّ بالبغاء لكسب المال، مع أنّ الإماء كنّ مُكرهات على ذلك غير راضيات به، ولكن تحت سياط السادة وضغطهم يستجبن لذلك، واللّه سبحانه ينهى عن ذلك العمل الشنيع، ويقول: (وَ لا تُكْرِهُوا

ص: 354

فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ ) الذي يجرّ المال للموالي (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) : أي تعفّفاً، ومن المعلوم أنّ أمرهن بالبغاء حرام مطلقاً، سواء أردن تحصّناً أم لا، وإنّما ورد القيد هنا لبيان الواقع، أعني: وجود تلك الظاهرة الشنيعة في المجتمع يوم ذاك والاكتساب بالبغاء حرام مطلقاً، سواء أردن التحصّن أم لا، لكنّه مع إرادة التحصّن أشدّ حرمة وعقوبة، وبذلك يعلم أنّ الشرط (أَرَدْنَ تَحَصُّناً) سيق لتحقّق الموضوع، إذ لا يتصوّر الإكراه على تقدير عدم التحصّن، فاللّه سبحانه كشف عن الغاية من الإقدام على هذا الأمر الشنيع، وهي التجارة والاكتساب كما يقول:

(لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا) : أي لا تكرهوهنّ لهذه العلّة.

ثمّ إنّه سبحانه يعذر هؤلاء الإماء المكرهات ويقول: (وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ ) :

أي ومَن يجبرهنّ على البغاء من سادتهنّ (فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ) للمكرهات (رَحِيمٌ ) بهنّ .

وقد اعترض عبد الكريم الخطيب على هذا التفسير للفقرة الأخيرة بحجّة أنّ المغفرة والرحمة إنّما تُطلب لمن كان منه ذنب، والأمة في تلك الحال مكرهة، ولا ذنب عليها.(1)

وهذا الاعتراض مردود أمّا نقضاً بقوله تعالى: (فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(2)

وأمّا حلّاً فوجه المغفرة والرحمة هو أنّ هذا العمل القبيح له أثر يبقى في نفس الأمة (حتى إذا كانت مكرهة) وله نتائج سلبية على سلوكياتها، واللّه بمغفرته3.

ص: 355


1- . التفسير القرآني للقرآن: 1276/9.
2- . البقرة: 173.

ورحمته يمحو هذه الآثار. ومع ذلك فيحتمل أن يكون المرجع الولي بقرينة قوله:

(وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ ) فهو قرينة على أنّ المغفرة متعلّقة بمن يكره، فتدبّر.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .(1)

قد سبق منّا أنّ الأصل الأوّلي في الإسلام هو الحرية، ولذلك نرى أنّه سبحانه شرّع أحكاماً وسنناً ينعتق بها الرقيق، ونشير إلى موارد منها:

1. ملك الرجل أحد العمودين، أي الأب والأُمّ ، فينعتق قهراً بلا عوض.

2. إذا كان العبد مشتركاً بين شخصين، فأعتق أحد الشريكين نصيبه، فعمله هذا يوجب عتق الباقي عليه وتلزمه القيمة، وقد روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «مَن أعتق شقصاً له من مملوك وله مال قوّم عليه الباقي».(2)

3. لو نكّل بعبده، عتق عليه.

4. إذا عمي العبد أو أُقعد، عتق عليه.

5. إذا أسلم العبد وخرج إلى دار الإسلام، عتق من سيده.

ص: 356


1- . التوبة: 60.
2- . مستدرك الوسائل: 40/3، الباب 16 من أبواب كتاب العتق، الحديث 5. والشقص: النصيب والجزء والقسم والسهم من العين المشتركة من كلّ شيء. لاحظ تاج العروس: 298/9، مادة «شقص».

إلى غير ذلك من أسباب العتق التي ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية.

والذي يشهد على أنّ الأصل في الإسلام هو الحرية، أنّه سبحانه جعل أحد مصارف الزكاة، تحرير العبيد.

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ ) : أي الواجبة وهي الزكاة (لِلْفُقَراءِ ) تمليكاً (وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) كلّ ذلك بالتمليك، ويشهد على ذلك وجود اللام في (لِلْفُقَراءِ ) وما عطف عليه تقديراً.

وأمّا الموارد الأُخرى فقد قرنت بلفظ (وَ فِي) فتدل على أنّهم مصارف لها لا أنّهم مالكون، كما يقول: (وَ فِي اَلرِّقابِ ) حيث إنّ مَن بيده الزكاة ولاية أو إجازة من الوصي، يشتري العبد تحريراً، (وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) كالجهاد وبناء المساجد والقناطر.

ثمّ إنّه سبحانه يُشير إلى أنّ ما جاء في هذه الآية أمر مفروض كما يقول: (فَرِيضَةً ) : أي فرض اللّه الصدقات فريضة (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) إشعاراً بأنّ تشريع هذه الضريبة صدر عن علم وحكمة ومحاسبة دقيقة، وأنّ أصحاب الأموال لو قاموا بواجبهم، لسدّوا خلّة الفقر بين كافّة أبناء الأُمّة.

ثمّ إنّ حول الآية بحوث ذكرناها في كتابنا «منية الطالبين في تفسير القرآن الكريم» في تفسير الآية 60 من سورة التوبة، فلاحظ.

***

ص: 357

ص: 358

الفصل الحادي عشر: أحكام النكاح في الذكر الحكيم

اشارة

1. آداب النكاح والحثّ عليه والترغيب فيه.

2. أحكام معاشرة النساء.

3. النساء اللاتي يحرم نكاحهن.

مَن يحرم نكاحهنّ نسباً ورضاعاً وصهراً.

حكم المطلّقة ثلاثاً.

حكم المتزوّجات من النساء.

حكم الزواج المؤقّت.

في نكاح الأمة.

النهي عن نكاح المشركات ونكاح المشركين.

نكاح العفائف من أهل الكتاب.

في حرمة نكاح الزانية.

4. أحكام المهور في الذكر الحكيم.

5. أحكام النشوز في الذكر الحكيم.

6. حقوق الزوجة على الزوج في الذكر الحكيم.

7. الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 359

ص: 360

أحكام النكاح

1. آداب النكاح والحثّ عليه والترغيب فيه

تمهيد

من الغرائز الطبيعية في ولد آدم هو ميل الرجل إلى المرأة وبالعكس، حتى يتمّ بذلك بقاء النسل على وجه الأرض، فلا تجد إنساناً سالماً إلّاوهو يحسّ بتلك الحاجة من صميم ذاته، وبما أنّ التعاليم الإسلامية شرّعت منسجمة مع الفطرة، فقد ندب الكتاب والسنّة إلى النكاح والتزويج، أمّا الكتاب فسيأتي الكلام فيه، وأمّا السنّة الشريفة فنذكر منها شيئاً موجزاً:

1. روى الصدوق في «الفقيه» عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من التزويج».(1)

2. روى الكليني في «الكافي» عن كُليب بن معاوية الأسديّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: مَن تزوّج أحرز نصف دينه، فليتّق اللّه في النصف الآخر (أو: الباقي)».(2)

3. روى الكليني عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال أمير

ص: 361


1- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 11 و 12 و 13.

المؤمنين عليه السلام: تزوّجوا فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: مَن أحب أن يتّبع سنّتي، فإنّ من سنتي التزويج».(1)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة التي بثّها الحرّ العاملي في أبواب مختلفة من كتاب الوسائل.

وممّا يؤسف له أنّ النظام الدراسي في المدارس والجامعات، صار سبباً لتأخّر النكاح في الناشئة حيث إنّه يتخرّج من الدراسة الثانوية وله من العمر 18 سنة أو أكثر فلو تمكّن من دخول الجامعة في السنة التالية إلى أن يتخطّى المراحل الدراسية التخصيصية هناك، يكون قد بلغ من العمر 30 سنة قضى زهرة شبابه وهو أعزب، ومن المعلوم أنّ صيانة النفس في تلك المدّة التي تبلغ قوّة الباه (الغريزة الجنسية) أقصى مراحلها، أمر شاقّ لا يقوم به إلّاالقليل من الشباب.

فعلى الدول الإسلامية أن يرتّبوا الأُمور على نحو يتمكّن الشباب من الجمع بين الدراسة والزواج في فترة الدراسة.

إذا علمت ذلك فلندخل في دراسة ما ورد من الآيات في مورد النكاح.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .(2)

ص: 362


1- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 14.
2- . النور: 32.
المفردات

أنكحوا: زوّجوا.

الأيامى: جمع أيِّم، وهي المرأة التي لا زوج لها، سواء أكانت بكراً أم ثيّباً، وربّما يطلق على الزوج الذي لا زوجة له، ولكنّ المراد هنا أعمّ من الذكر والأُنثى، في مقابل الصالحين الشامل للعبيد والإماء، بشهادة قوله: (مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ ) تفسيراً للصالحين.

الصالحين: من العبيد والإماء، وأتى بجمع المذكّر تغليباً.

واسع: أُريد هنا الواسع إحسانه وفضله.

التفسير

لمّا نهى اللّه سبحانه الرجال والنساء عن الزنا والفحشاء، ومن المعلوم أنّ النهي لا يكفي في تطهير المجتمع من الفساد؛ بل يجب وراء ذلك فتح باب آخر حتى يصون به عفّته وكرامته، وليس هو إلّاالزواج، فلذلك أمر بتزويج مَن لا زوج له من الأحرار والحرائر، وكذلك العبيد والجواري حتّى يصونوا به نفوسهم ويتقوّوا به على غضّ الأبصار عمّا حرّم اللّه عليهم.

قال تعالى: (وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ ) : أي زوّجوا غير المتزوّجين من أحرار رجالكم ونسائكم (وَ) أيضاً زوّجوا (اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ ) : أي ما تملكون من العبيد والإماء.

إنّما الكلام في تقييد الفقرة الثانية بالصالحين، فهنا وجهان:

1. المراد الصالحون للتزويج، لا الصالحون في الأعمال.

ص: 363

2. يحتمل أن يُراد مَن يتحمّل المسؤولية في أمر الزواج.

قوله سبحانه: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) لعلّه لدفع أحد توهّمين:

1. إنّ ولي الزوجة قد يطلب أن يكون الزوج ذا ثروة ونعمة، فاللّه سبحانه يَعد هؤلاء الذين يرغبون عن نكاح الفقير لأجل فقره بأنّ اللّه يغنيه من فضله.

2. ربما يتصوّر الزوج أنّه لا يقدر على توفير معيشة كريمة للزوجة، وذلك بسبب فقره، ولكنّ اللّه يذكّره بأنّه سيغنيه من فضله.

ثمّ إنّه سبحانه يعلّله بقوله: (وَ اَللّهُ واسِعٌ ) النعمة (عَلِيمٌ ) بحال عباده.

أقول: إنّه سبحانه وعد وعداً قطعياً بإغناء الزوج الفقير، وذلك لأنّه يختلف حال الشاب قبل الزواج عمّا بعده، فإنّ الزواج يبعث الزوج على العمل والكدح، بخلاف ما لو بقي مجرّداً لا يفكّر إلّافي حياته الخاصّة به، فوعد اللّه سبحانه يتحقّق عن ذلك الطريق، فإغناء اللّه إيّاهم عبارة عن تمكينهم بالتمسّك بأسباب الرزق ويفتح أمامهم أبواباً للرزق غير التي كانوا قد اعتادوها.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: أنّ الفاضل المقداد تلقّى قوله سبحانه: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) قضية مهملة في قوّة القضيّة الجزئية، أي: إذا كانوا فقراء قد يغنهم اللّه من فضله، لا كلّ ما كانوا فقراء يغنهم اللّه.

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد تعليل ما حثّ عليه من تزويج الأيامى والصالحين، والغاية من التعليل إعطاء الاطمئنان للزوجين وأنّ اللّه سيغنيهما، وهذا

ص: 364

النوع من التعليل يقتضي أن يكون قضية كليّة لا مهملة، والآية ناظرة لمن يملك النفقة والمهر بالقوّة ولكن الولي يمتنع من تزويج بنته لفقره.

ثمّ إنّ المراد من الإغناء هو تمكّنهما من توفير الحاجات الضرورية للعيشة المعتدلة، وهذا لا يختلف في كلّ زواج وقع على موازين العقل والعرف.

الثاني: إنّ الأمر في قوله: (وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ ) خطاب للأولياء، فالظاهر أنّه يجب عليهم القيام بتزويج غير المتزوّجين من أحرار الرجال والنساء أو العبيد والإماء، غير أنّ الظاهر من الفقهاء أنّ الأمر للاستحباب المؤكّد.

وربما يحتمل عدم الاستحباب لقوله تعالى في وصف النبي يحيى عليه السلام:

(وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً) (1) ، حيث مدحه على الترك فيكون راجحاً، وتنظّر فيه في «كنز العرفان» بقوله: وفيه نظر، لاحتمال اختصاصه بشرع غيرنا.(2)

يلاحظ عليه: بما نبهنا عليه - غير مرّة - بأنّ القرآن الكريم كتاب القرون والأجيال، وما جاء فيه، دروس وعبر وهداية إلى الحقّ ، ولا معنى لاختصاص ما ينقله عمّن عاش في عصر الشرائع السابقة بهم فقط، وقد قلنا بأنّه كلّما حكى اللّه سبحانه عن الشرائع السابقة فهو حجّة بلا حاجة إلى استصحابها إلّاما دلّ الدليل على نسخه.

وأمّا قوله سبحانه في حقّ النبي يحيى عليه السلام من وصفه بالحصور، فالمراد منه بأنّه كان مالكاً لنفسه عن الشهوات أو ما يقرب من ذلك.

نعم لم يكن ذلك عن عجز عن إتيان النساء، فإنّه عيب منفّر يجب تنزيه2.

ص: 365


1- . آل عمران: 39.
2- . كنز العرفان: 136/2.

الأنبياء عنه، وربما رأى أنّه يكون مانعاً عن تفرّغه للعبادة.

الثالث: هل لفظ النكاح بمعنى العقد، أو بمعنى الوطء، أو مشترك لفظي بينهما؟ يظهر من ابن فارس في «المقاييس» أنّه بمعنى الأوّل دون الثاني، ويظهر من ابن منظور في لسانه، العكس، ونقل أنّه خيرة الأزهري، وقبله الجوهري في صحاحه، واستشهد بأمثلة ادّعى أنّها ظاهرة في الوطء، وهو مختار الجواهر. ولا شكّ أنّه استعمل في العقد، كما يبدو من الآيات التالية:

1. قال سبحانه: (وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ ) (1)أي لا تعقدوا عقدة النكاح حتى تنقضي العدّة.

2. قال سبحانه: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ ) (2).

فإنّ إضافة العقدة إلى النكاح تعرب عن كونه موضوعاً لمسبب العقد، أعني:

المنشأ به، فعندئذٍ يأتي ما ذكره الراغب الذي يُنكر كونه موضوعاً للوطء قائلاً: إنّه محال أن يكون في الأصل للجماع ثمّ استعير للعقد، وذلك لأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه.(3)

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .(4)

ص: 366


1- . البقرة: 235.
2- . البقرة: 237.
3- . المفردات للراغب: 526، مادة «نكح».
4- . النور: 33.
المفردات

ليستعفف: أي يطلب العفّة، وأُريد هنا أن يجتهد في العفّة وصون النفس ويصبر حتى يغنيه اللّه من فضله.

التفسير

الفقرة تدلّ على لزوم العفّة لمَن لا يقدر على المهر والنفقة، وأمّا بقية فقرات الآية فتدلّ على حكم العبد المكاتب، أو حرمة إكراه الإماء على البغاء إن أردن تحصّناً، وقد درسنا هذين الأمرين في أحكام العتق.

وإليك الكلام في مفهوم هذه الفقرة:

ربما يتصوّر وجود المنافاة بين مضمونها وما تقدّم من وعده سبحانه أنّه يغني الفقير، فكيف الجمع بينهما؟

الجواب: أنّ الآية المتقدّمة ناظرة إلى الفقير الذي يقدر على النفقة والمهر ولكن ضيق الرزق صار سبباً لوليّ البنت أن لا ينكحه، فهذا هو الّذي أمر اللّه بتزويجه وأنّه تعالى سيغنيه من فضله.

وأمّا الأمر بالصبر - في المقام - فموجّه إلى الذي لا يملك شيئاً حتّى المهر ولا يتمكّن من الإنفاق، فهو مأمور بالصبر حتّى يشمله سبحانه بفضله.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ

ص: 367

لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا) .(1)

المفردات

تقسطوا: القسط هو النصيب بالعدل، فلو قيل: أقْسَطَ يُراد إذا عَدَلَ ، ولو قيل:

قسط يُراد إذا جار.

مثنى وثلاث ورباع: هذه الأعداد معدولة عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع، ولذلك منعت من الصرف، ولم يسمع من العرب خماس مخمس، وهكذا.

تعولوا: في تفسير هذه اللفظة وجوه:

1. المراد أن تجوروا، والشاهد عليه قول أبي طالب عليه السلام في لاميّته مادحاً النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم:

بميزان قسط(2)*** لا يغلّ (3) شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل(4)

2. المراد: أن لا تحتاجوا، والشاهد عليه قول الشاعر:

فما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل

يلاحظ عليه: أنّ تفسير الآية بما في البيت، خطأ واضح، لأنّ الفعل في الآية

ص: 368


1- . النساء: 3.
2- . النصيب بالعدل، كما مرّ في المتن.
3- . أي: لا يخون مقدار شعيرة.
4- . أي غير جائر.

ماضي (عال، يعول) وفي البيت يائي (عال، يعيل) فأين هذا من ذاك ؟!

3. المراد أن تخرجوا عن الحدّ، كما يقال: عالت الفريضة، وذلك عند قصور التركة عن سهام ذوي الفروض والمراد: لئلّا تخرجوا عن الحدّ، والقدر اللازم.

4. نقل عن الشافعي أنّه قال: معناه: ألا يكثر من تعولون، فمعنى الآية اقتصروا بالواحد ليقل عدد من تعولون من البنين والبنات.

قال الشريف الرضي: وهذا خطأ بيّن لأنّ الأمر لو كان على ما ظنّ لكان وجه الكلام ألّا تُعيلوا، أي: تكثروا عيالكم، يقال: أعال الرجل إعالة إذا كثر عياله.(1)

والظاهر من هذه الوجوه هو المعنى الأوّل ويشهد عليه مضمون الآية حيث أمر من يخاف ألّا يعدل بين النساء المتعدّدات بالاكتفاء بالواحدة، ثم يعلّله بأنّه أقرب من ألا تجوروا في أمر النفقة لقلّة العوائد وتعدّد الموارد، فالمعنى الأوّل أقرب إلى مضمون الآية.

التفسير

توضيح مفاد الآية رهن بيان ما كان عليه العرب في الجاهلية في أمر النساء اليتامى، فقد كانوا يرغبون في نكاحهن طمعاً في أموالهن، فجاء الوحي الإلهي ينهى عن نكاحهن لغاية التعرّض لأموالهن عن طريق نكاحهن، فمعنى قوله:

(وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى ) هذه جملة شرطية بحاجة إلى جزاء، وهو مقدّر، نظير: فلا تنكحوهن، قام مقامه قوله: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ) غير اليتامى.

ص: 369


1- . حقائق التأويل: 294.

وحصيلة الفقرة: أنّه إذا صعب عليكم صيانة حقوق النساء اليتامى، وأموالهن فلا حرج عليكم، إذ في وسعكم أن تتزوّجوا غيرهن.

وممّا ذكرنا يظهر أمران:

1. أنّ المراد من اليتامى هو النساء اليتامى اللاتي بلغن وصرن مستعدات للنكاح، وليس المراد هو اليتيم الصغير الذي لم يبلغ بعد.

2. أنّ الجزاء محذوف قامت مقامه الفقرة المتأخّرة.

ثمّ إنّ الأمر في (فَانْكِحُوا) ليس للإيجاب لما ثبت في الأُصول من أنّ الأمر بعد الحظر، أو بعد توهّمه، للترخيص لا للإيجاب، كما في قوله سبحانه: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (1).

قوله تعالى: (مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) بمعنى اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً، حسب ما تريدون وتتمكّنون، والفقرات بدل تفسيري من قوله: (ما طابَ ) . ثمّ إنّ الواو فيها لبيان التنويع لا للجمع بمعنى أنّ الرجل حسب إمكانه يتخيّر بين اثنتين اثنتين، وبين ثلاث ثلاث، وبين أربع أربع.

ويشهد على ما ذكرنا من أنّ الواو للتنويع لا للجمع، قوله سبحانه في وصف الملائكة: (جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) (2).

هل القرآن يبيح نكاح تسع نساء؟

ومن هنا يُعلم فساد ما يتوهّم بأنّ القرآن يبيح نكاح تسع نساء، وهو حاصل

ص: 370


1- . المائدة: 1.
2- . فاطر: 1.

جمع المثنى والثلاث والرباع، لما عرفت من أنّ الواو ليست للجمع بل للتنويع، كما يقال: جاء الضيوف مثنى مثنى، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. يُريد أنّهم لم يأتوا مرّة واحدة بل أتوا بصور مختلفة.

وما ذكرناه من الجواب من أنّ الواو للتنويع لا للجمع أظهر ممّا أجاب به الفاضل المقداد، حيث قال: فإنّ الجمع في الحكم لا يستلزم الجمع في الزمان، لأنّك تقول: رأيت زيداً اليوم، وعمراً أمس.

ولو قال بلفظ «أو» لتوهّم أنّه لا يجوز لمن يقدر على عدد منها، أن ينتقل إلى عدد آخر، وليس كذلك لأنّ مَن زاد تمكّنه، فله أن يزيد ما لم يتجاوز الأربع، ومن نقص تمكّنه فله أن ينقص بلا حرج، لكون الواو للجمع بخلاف «أو» فافهم ذلك، فيجوز للرجل أن ينكح الأعداد المذكورة في أزمنة متعاقبة.(1)

ثمّ إنّ تجويز النكاح بأكثر من واحدة مشروط بعدم الخوف من رعاية العدالة بينهن كما يقول: (فَإِنْ خِفْتُمْ ) من عدم القيام برعاية العدالة (ف) اللازم نكاح (واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) وذلك أنّ الاقتصار على نكاح الواحدة أو ملك اليمين لأجل أنّه أبعد عن الوقوع في خلاف العدل في ذوات الحقوق، إذ ليس في هاتين الصورتين ذوات حقوق، أمّا الحرّة فلأنّها واحدة، وأمّا الإماء فليس لها حقوق لازمة.

ثمّ إنّ الفاضل المقداد قال: أجمع أصحابنا على جواز نكاح المتعة وأنّه لا حصر لها.(2)2.

ص: 371


1- . كنز العرفان: 141/2.
2- . كنز العرفان: 142/2.

يلاحظ عليه: بأنّ الحكم ليس إجماعياً، وسيوافيك ما هو الحقّ في مبحث الزواج الموقّت، فانتظر.

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل الاكتفاء بنكاح الواحدة بقوله: (ذلِكَ ) الاقتصار على واحدة (أَدْنى ) : أي أقرب إلى (أَلاّ تَعُولُوا) : أي تجوروا أو لا تميلوا إلى مخالفة العدل.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بمفرداتها وجملها. ولكن بقيت هنا أُمور:

الأوّل: وجه الصلة بين الشرط (فَإِنْ خِفْتُمْ ) والجزاء (فَانْكِحُوا)

قد ظهر بما ذكرنا وجود الصلة بين قوله: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى ) وقوله: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ) لما عرفت من سيرة العرب حيث كانوا ينكحون اليتامى المستعدات للنكاح لغاية الاستيلاء على أموالهن، فمن لم يتمكّن من العدالة فلينصرف عنهن وينكح غيرهن من النساء، ما طاب له مثنى وثلاث ورباع مشروطاً برعاية العدالة وإلّا فليقتصر على الواحدة.

والذي يشهد على ما ذكرنا قوله سبحانه: (وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (1) و الشاهد في قوله: (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ...) أي لاتؤتونهن حقوقهن ومع ذلك ترغبون في نكاحهن.

ص: 372


1- . النساء: 127.

ثمّ إنّ بعض مَن لم يدرك وجود الصلة تصوّر سقوط شيء أو آية بين الفقرتين، وقد عرفت الصلة بينهما.

الثاني: القرطبي يتّهم الشيعة بإباحة العقد على التسع!!

إنّ القرطبي حكى في تفسيره عمّن بَعُدَ فهمه عن الكتاب والسنّة وأعرض عمّا كان عليه سلف هذه الأُمّة فزعم أنّ الآية تدلّ على إباحة التسع، وعضد ذلك بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نكح تسعاً، وجمع بينهن في عصمته. ثم إنّه نسب هذه المقالة إلى الرافضة.(1)

أقول: اللّه يتعامل مع القرطبي بما يقتضيه عدله، فإنّ الشيعة برآءُ عن هذه التهمة، وقد اتّفقت كلمة أئمتهم وفقهائهم على أنّه إذا استكمل الحر أربعاً بالعقد الدائم حرم عليه ما زاد، ولا يحلّ له من الإماء بالعقد أكثر من اثنتين... إلخ.(2)

نعم حكي عن القاسمية (إحدى فرق الزيدية) جواز التسع لمكان الواو، قال العلّامة: وحكي عن القاسم بن إبراهيم أنّه أجاز العقد على التسع، وإليه ذهب القاسمية من الزيدية، ثمّ إنّه بعد ما نقل عن الشيخ هذه الحكاية قال: لم أجد أحداً من الزيدية يعترف بذلك.(3)

الثالث: المراد التسوية في الحقوق لا العلائق القلبية

أنّه سبحانه يشترط في الزواج بأكثر من واحدة بشرط التسوية بينهن في

ص: 373


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 7/5.
2- . شرائع الإسلام: 292/2.
3- . لاحظ: حقائق التأويل: 309 (الهامش). تحقيق محمد رضا آل كاشف الغطاء، نشر دار المهاجر، بيروت.

الحقوق من دون أن يقوم في بيت واحدة منهن أكثر من ليلة واحدة، أو يوسّع في حياتها أكثر من الباقيات، ولذلك يقول: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) فمَن يريد الزواج بأكثر من واحدة فعليه القيام بهذا الشرط.

ثمّ إنّ بعض الزنادقة في عصر الإمام الصادق عليه السلام تخيّل أنّ بين هذه الآية والآية الأُخرى، تعارض، وهو قوله سبحانه في نفس السورة: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) (1).

روى الكليني عن نوح بن شعيب وعمر بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم فقال: أليس اللّه حكيماً؟ قال: بلى، هو أحكمُ الحاكمين.

قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أليس هذا فرض ؟ قال: بلى . قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ ) (2) أي حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب...

ثم إنّ هشام بن الحكم ذهب إلى المدينة ودخل على الإمام الصادق عليه السلام وسأله المسألة، فأجابه الإمام عليه السلام: «أمّا قوله عزّ وجلّ : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) في النفقة، وأمّا قوله:

(وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) يعني في المودّة» قال: فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال:9.

ص: 374


1- . النساء: 129.
2- . النساء: 129.

واللّه، ما هذا من عندك.(1)

كلمات غير صحيحة حول الآية

نقل شيخنا البلاغي عن كتاب «تحرير المرأة» لبعض المصريين أنّه قال حول الآية: والذي يطيل البحث في النصوص القرآنية يجد أنّها تحتوي إباحة وحظراً في آن واحد، وذكر الآيتين، ثم خرج بالنتيجة التالية: أنّ تعدّد الزوجات كان جائزاً للصدر الأوّل إذ كانوا يستطيعون العدل ولم تكن آية: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) جارية في شأنهم، وأمّا أهل العصور المتأخّرة فالعدل غير مستطاع لهم.(2) ومعنى ذلك تحريم نكاح أكثر من واحدة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التوهّم رهن كون العدل في كلتا الآيتين، متعلّقاً بشأن واحد، ولو وقف على ما فسّر به الإمام الصادق عليه السلام العدل في الآيتين لما قال ما قال.

ثمّ إنّ صاحب المنار نقل ذلك التوهّم عن أُستاذه، فقال: قال الأُستاذ في الدرس الثاني: تقدّم أنّ إباحة تعدّد الزوجات مضيّق، قد اشترط فيها ما يصعب تحقّقه من كثرة الأزواج.(3) وأساس التوهّم أنّه زعم أنّ متعلّق العدل في الآيتين أمر واحد.

أقول: ما يصعب تحقّقه هو العدل في المحبّة وليس بشرط، وأمّا الشرط - أعني: العدل في الإنفاق - فهو أمر سهل لمَن أراد أن يعمل بالشريعة.

ص: 375


1- . الكافي: 392/5، برقم 1؛ البرهان في تفسير القرآن: 18/3.
2- . لاحظ تحرير المرأة: 138، طبع مصر - 1316 ه.
3- . تفسير المنار: 350/4.

الآيات الرابعة والخامسة والسادسة

اشارة

قال سبحانه:

(وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ ) .(1)

المفردات

فروجهم: الفرج: سوأة الرجل والمرأة.

حافظون: الحفظ: التعفّف عن الحرام.

ابتغى : طلب.

العادون: المتجاوزون للحدود بالعدوان.

التفسير

نزلت الآية لبيان أوصاف المؤمنين الذين يرثون الجنة بلا تعب، ومن أوصافهم التعفّف عن الحرام.

أمر سبحانه في هذه الآيات بحفظ الفروج - أعمّ من الذكر والأُنثى - عن الحرام، وهذا يشمل الزنا واللواط والسحاق والعادة السرية أو الاستمناء.

والتعبير بالحفظ في قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) كناية عن

ص: 376


1- . المؤمنون: 5-7.

أنّ الشهوة تثور وتدفع الإنسان إلى ما لا تحمد عقباه، فعليه إمساكها وحفظها.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من قوله: (لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) صنفين:

1. (إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) من غير فرق بين الدائم والمؤقّت، كما سيأتي.

2. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) يعني الإماء وملك اليمين، كناية عن الإماء التي يتملّكها الإنسان بوجه شرعي.

ثمّ إنّ الذين يصونون الفروج إلّاعن الموردين يصفهم سبحانه بقوله:

(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) : أي لا يلامون شرعاً باللوم الموجود في حقّ غيرهما.

قوله: (فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ ) ، وأُشير بلفظ الإشارة إلى الموردين، أعني:

الزواج وملك اليمين، ولعلّ التذكير باعتبار الزواج (فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ ) : أي متجاوزون الحدود الإلهية.

فإن قلت: إنّه سبحانه استثنى نكاح الأزواج وملك اليمين، فأين المتعة من هذا الاستثناء؟

قلت: المزوّجة متعة داخلة في قوله سبحانه: (إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) فهي زوجة حقيقية لها من الأحكام ما للزوجة الدائمة إلّاما استثني بالدليل، وانتفاء بعض الأحكام في مورد المؤقّتة لا يسلب عنها عنوان الزوجية، وسيوافيك شرح ذلك في تفسير مَن يجوز نكاحهن ومَن لا يجوز الواردة في الآيات.

بقي الكلام في الأُمور الثلاثة: الزنا واللواط والعادة السرية.

أمّا الأوّل ففيه انحلال النظام الأُسري، مضافاً إلى انتشار الأمراض الجنسية الخطرة، وصيرورة المجتمع الإنساني مجتمع الغابة لا يعرف الابن أباه ولا العكس.

ص: 377

وأمّا اللواط فيكفي في قبحه أنّه ينتهي إلى انقطاع النسل، فإنّ الإنسان لو اقتصر في إطفاء الشهوة بالجنس المماثل فلا يبقى على وجه الأرض أي بشر.

وأمّا العادة السرية فهي محرّمة عند الفقهاء، وقد استدلّ الإمام مالك على حرمتها بهذه الآية وقال: إنّ المستمني بيده قد ابتغى لشهوته شيئاً وراء ذلك.

والتفصيل في كتب الفقه.

ص: 378

أحكام النكاح

2. أحكام معاشرة النساء

اشارة

قد تقدّم حثّ القرآن الكريم على نكاح الأيامى من البنين والنساء وهكذا العبيد والإماء، كلّ ذلك استجابة للغريزة الجنسية التي تدفع الإنسان إلى المعاشرة والمخالطة مع الجنس الآخر، غير أنّ الإسلام حدّد المعاشرة بحدود تكفّلت ببيانها الآيات التالية:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .(1)

المفردات

يغضُّوا: الغضّ : ربّما يقال: إطباق الجفن على الجفن، ويكون مرادفاً للغمض، ولكن الصحيح أنّه عبارة عن نقصان النظر مقابل التحديق إلى الشيء، أي تحديق النظر إلى ما يحرم النظر إليه.

ص: 379


1- . النور: 30.

وعلى هذا يكون كناية عن توجيه النظر إلى غير المرأة كالجوانب والأطراف أو إلى أسفل كالأرض.

ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ الغض هو نقصان النظر لا الغمض والستر أمران:

1. كلمة (مِنْ ) في قوله تعالى: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) فلو كان الغضّ بمعنى الغمض لقال: يغضوا أبصارهم.

2. قوله سبحانه حاكياً عن لقمان: (وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ) (1): أي انقص من صوتك.

التفسير
ضوابط النظر بين الرجل والمرأة الأجنبيين

تتضمّن الآية الأمر بشيئين:

1. (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) .

2. (يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) .

ثم يعلّل ذلك بقوله: (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ ) .

ثم يصف نفسه بقوله: (إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .

أمّا الأمر الأوّل: فاللّه سبحانه يأمر نبيّه بقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) : أي يخفضوا أبصارهم غير محدّقين النظر إلى ما يحرُم النظر إليه.

والمتعلّق وإن لم يُذكر في الآية لكنّه معلوم وهو غير المحارم، فإنّ التساهل في

ص: 380


1- . لقمان: 19.

النظر ربّما يؤدِّي إلى ما لا تُحمد عاقبتُه، ففي غضّ البصر سدّ لباب الشرّ ومنع للعواقب غير المحمودة.

وما قلناه من أنّ النظر إلى غير المحارم ربّما يجرّ إلى الشرّ، قد أوضحه الشاعر بقوله:

نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاءُ

فلأجل أن لا يقع الرجال في حبائل الشيطان، أمرهم سبحانه بأن (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) والفعل المضارع بمعنى الأمر. وقد ورد في الروايات ما يشرح لنا سبب نزول الآية. روى سعد الإسكاف عن أبي جعفر [الباقر] عليه السلام قال: «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعنَ خلف آذانهنّ ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: واللّه لآتينّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولأخبرنّه، فأتاه فلّما رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .(1)

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، مَن ترَكها للّه عزّ وجلّ لا لغيره أعقبه اللّه أمناً وإيماناً يجد طعمه»(2).

وفي حديث آخر: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها5.

ص: 381


1- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 5.

لصاحبها فتنة»(1).

وعن الإمام علي الرضا عليه السلام فيما كتبه في جواب مسائل محمد بن سنان:

«وحُرّم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهنّ من النساء لما فيه من تهييج الرجال، وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يجمل، وكذلك ما أشبه الشعور إلّاالذي قال اللّه تعالى: (وَ اَلْقَواعِدُ مِنَ اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ) (2): أي غير الجلباب فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهنّ »(3).

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني: فهو قوله سبحانه: (وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) فإطلاق الآية يدلّ على حفظ الفروج بالستر عن الأنظار أو بحفظها عن الزنا نظير قوله سبحانه:

(وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) (4) .

لكنّ الروايات تخصّ هذه الفقرة بالستر، فعن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «كلّ آية في القرآن في ذكر الفروج فهي من الزنا، إلّاهذه الآية فإنّها من النظر...»(5).

وفي حديث آخر عن أبي عبداللّه عليه السلام في تفسير الآية: «فنهاهم أن ينظروا إلى7.

ص: 382


1- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 6.
2- . النور: 60.
3- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 12.
4- . المؤمنون: 5.
5- . تفسير القمي: 77/2؛ تفسير نور الثقلين: 3/587.

عوراتهم، وأن ينظر إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه»(1).

وأمّا الفقرة الثالثة فهي تختصّ بتعليل غضّ الأبصار وحفظ الفروج، أعني قوله تعالى: (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ ) : أي أطهر من دنس الريبة وأنفع ديناً ودنياً فقد قالوا: النظر بريد الزنا ورائد الفجور.(2)

يقول صديقنا المغفور له الشيخ محمد الكرمي: فإذا ملكت النظرة ذاك الشاب الأنصاري في خبرنا السابق ففاضت دماؤه على صدره وثيابه من حيث لا يشعر بما أصابه لانشغاله التام عن نفسه بمنظوره، على أن مطمح نظره كان في جمال سائر طبيعي لم تنفض عليه الأصابيغ بهجتها ولا الثياب الحريرية المزركشة بتقطيعها الفني جلوتها، فأحرى به أن يذوب من حينه ومكانه إزاء هذه النظرات الخلّابة والجمال الفتّان.(3)

وأمّا الفقرة الرابعة من الآية، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) ، فهي بصدد التنبيه إلى استشعار رقابة اللّه تعالى فيما يأتي به الرجال من أعمال سيئة مثل إجالة النظر والتحديق إلى المحرّمات وكشف السَّوأة، فاللّه سبحانه مطّلع عليها ولا يخفى عليه شيء منها.

فعلى هذا فليكن كلّ إنسان على حذر لأنّ اللّه ناظر مطّلع.

إلى هنا تمّ ما أمر به تعالى الرجال، وأمّا ما هو تكليف النساء فهذا ما تحدّثت عنه الآية التالية.8.

ص: 383


1- . تفسير نور الثقلين: 3/587.
2- . تفسير الرازي: 205/23.
3- . أُصول الدين الإسلامي: 88.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ اَلتّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .(1)

المفردات

يغضضنّ : من الغضّ أي ينقصن من أبصارهن وهو غير الغمض الذي هو بمعنى: إطباق الجفن، وربما يفسّر الأوّل بالثاني وهو غير صحيح.

بخُمُرهن: الخُمُر واحده «الخمار» وهو ما تغطي به المرأة رأسها.

جيوبهن: الجيوب جمع جيب وهو - كما قيل - فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد.

بعولتهن: البعولة جمع «بَعْل»: الزَّوج.

ص: 384


1- . النور: 31.

التابعين: فسّره قوله: (غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ ) : أي من لا شهوة له في النساء.

الإربة: الحاجة. يقول الراغب: الأرَب: فرطْ الحاجة المقتضي للاحتيال في دفعه.(1) وأُريد بها الحاجة إلى النكاح.

يظهروا: مَن ظهر على الشيء: إذا اطّلع، أي لا يعرفون ما العورة ولا يميّزون بينها وبين غيرها، والظاهر أنّهم لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء.

التفسير
الأحكام الستة في مورد النساء
اشارة

لمّا فرغ سبحانه من بيان تكاليف المؤمنين في أمر المعاشرة، أمر المؤمنات أيضاً بنفس الأحكام أو أكثر، والحكمة في الجميع واحدة. وقد فرض اللّه على النساء الأُمور التالية:

1. غضّ الأبصار.

2. حفظ الفروج.

3. عدم إبداء الزينة إلّاما ظهر منها.

4. إلقاء الخُمُر على الجيوب.

5. عدم إبداء الزينة إلّالأشخاص خاصّة.

6. عدم الضرب بالأرجل لإثارة الرجال برنين خلاخيلهنّ .

ص: 385


1- . المفردات للراغب: 15، مادة «أرب».

7. وفي نهاية الآية أمر الرجال والنساء بالتوبة إلى اللّه لغاية الفلاح.

هذا هو إجمال الآية، وإليك التفصيل.

الحُكم الأوّل: غضّ الأبصار

جاء غضّ الأبصار في قوله سبحانه: (وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ) وهو كناية عن عدم تحديق النظر إليهنّ وبالتالي صرف النظر عنهن إلى غيرهن، وملاك الحكم واضح لما عرفت من المفاسد المترتّبة على تحديق النظر، من غير فرق بين نظر الرجل إلى المرأة أو المرأة إلى الرجل، إلّاما جرت السيرة عليه، من نظر النساء إلى الواعظ أو المعلّم نظرة عابرة لا نظرة فاحصة.

وما ربّما يُتصوّر من جواز نظر النساء إلى الرجال، وتحديق النظر إليهم فهو على خلاف الآية، لما عرفت من أنّ الحكمة في الجميع واحدة إلّاما استثني.

الحكم الثاني: حفظ الفروج

جاء حفظ الفروج في قوله تعالى: (وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) فيفسّر حسب ما مرّ في الآية المتقدّمة من سترها.

الحكم الثالث: عدم إبداء الزينة إلّاما ظهر منها

أُشير إلى عدم إبداء الزينة في قوله تعالى: (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها) .

والزينة كما قال الراغب بالقول المجمل ثلاثة: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوّة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال

ص: 386

والجاه.(1)

والظاهر أنّ الراغب خلط بين الجمال والزينة، فما يرجع إلى الخلقة فهو جمال، وأمّا ما يعرض على الخلقة فهو زينة، فبعض ما ذكره جمال لا زينة. نعم ربّما يقال: الزينة قسمان: خَلقية ومكتسبة؛ فالخَلقية: الوجه والكفّان أو نصف الذراعين، والمكتسبة، وهي سبب التزيّن: اللباس الفاخر والحُليّ والكحل والخضاب وغير ذلك.

وأمّا القرآن الكريم فالظاهر منه أنّه يستعمل الزينة في الأمر الطارئ على الشيء، نظير:

1. زينة السماء بالكواكب، نظير قوله تعالى: (إِنّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ ) .(2)

2. زينة السماء بالمصابيح، نظير قوله تعالى: (وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ ) .(3)

3. زينة القلوب بالإيمان، قال تعالى: (وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) .(4)

وقد استعمل لفظ الزينة في المال والجاه نظير قوله: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) ،(5) وفي الزينة الخارجية كما في قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ 9.

ص: 387


1- . مفردات الراغب: 218، مادة «زين».
2- . الصافات: 6.
3- . فصلت: 12.
4- . الحجرات: 7.
5- . القصص: 79.

لِعِبادِهِ ) (1) .

وعلى ذلك فنحن نشكّ في إطلاق الزينة على أعضاء الإنسان، وإنّما توصف الأعضاء بالجمال. ويؤيّد ذلك ما جاء عن أبي عبد اللّه الصادق في تفسير (إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها) قال عليه السلام: «الزينة الظاهرة: الكحل والخاتم».(2) والسند معتبر، وإن كان فيه القاسم بن عروة، الذي لم يوثّق صريحاً في الكتب الرجالية، لكنّه من مشايخ المحدّث الجليل ابن أبي عمير. وروى أبو بصير قال: سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها) قال: «الخاتم والمَسَكة وهي القُلب»(3). وعلى هذا فتفسير ما ظهر من الزينة بالوجه والكفين غير تامّ ، لما عرفت من أنّهما من الجمال لا الزينة، ثمّ إنّ عدم وجوب ستر الكحل والخاتم على المرأة لا يلازم جواز نظر الرجال إليهما ومحالّهما.

وبما ذكر يظهر: أنّ تفسير الاستثناء بالوجه والكفين، غير تام لما عرفت من أنّ الزينة عبارة عن الأمر الطارئ على الجمال، وهما من الأُمور الخلقية للإنسان.

وإنّما يرجع في حكمهما إلى الروايات والفتاوى المأثورة، ودراسة حكم الأمرين خارجة عن موضوع بحثنا.).

ص: 388


1- . الأعراف: 32.
2- . الوسائل: 14، الباب 109 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 3.
3- . الوسائل: 14، الباب 109 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 4. قال الطريحي: والمسَك: أسورة من ذبل أو عاج، والذبل: شيء كالعاج. (مجمع البحرين: 288/5، مادة «مسك»).
الحكم الرابع: إلقاء الخُمُر على الجيوب
اشارة

فقد جاء في قوله تعالى: (وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ) والخُمُر جمع خِمار، ويظهر من الآية أنّ النساء كنّ يغطّين رؤوسهنّ بالخُمُر ويسدلنها من وراء الظهر فتبدو نحورهنّ وبعض صدورهنّ كعادة الجاهلية، ونُهين عن ذلك وأُمرن بضرب الخُمُر على الجيوب حتى تكون الرؤوس والجيوب مستورة بالخُمُر.

ثمّ إنّه يظهر من الآية التالية أنّه يجب على النساء، وراء ضرب الخمر على الجيوب إدناء الجلباب عليهن، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (1).

وكان سيد مشايخنا آية اللّه السيّد حسين البروجردي قدس سره يستدلّ بها على لزوم ستر الوجه في درسه الشريف عند البحث عن مقدار ما يجب ستره للمرأة في الصلاة، ويقول بأنّ إدناء الجلباب وإرخاءه يلازم ستر الوجه، والمراد: يُدنين جلابيبهنّ إلى جانب وجوههنّ ، فتكون النتيجة إسدالها عليها.

فإن قلت: إنّ لسان الآية، لسان الإرشاد بشهادة أنّ الغاية من إدناء الجلباب هي التميّز عن الإماء حتى لا يؤذين في الطرق و الشوارع حيث كان الفساق يزاحمون الإماء فيها، لتجرّدهن من الستر اللازم، فأمر اللّه الحرائر بإدناء الجلباب مرشداً إلى أنّ ذلك أدنى أو أقرب إلى أن يعرفن بزيّهن أنّهن حرائر ولسن بإماء.

قلت: ما ذكر في الآية من قبيل الحكم، لا العلل، والحكم فيها لا يدور

ص: 389


1- . الأحزاب: 59.

مدارها وإن كان من فوائد تميّزهن عن الإماء، بل يجب مطلقاً، سواء كانت هناك إماء أو لا، وإلّا يلزم اختصاص مفاد الآية بفرض خاص، وهو كماترى.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. أنّ قوله سبحانه: (إلا ما خرج منها) ناظر إلى الطوارئ من الزينة ولا يعمّ الوجه والكفين، وإنّما يطلب حكمها من السنّة وكلمات الفقهاء. 2. أنّ ما تعرض له الكتاب العزيز في أمر الحجاب للمرأة هو ضرب الخمار على الصدر، وإدناء الجلباب إلى جانب الوجه وأمّا الباقي فيطلب من السنّة.

3. أنّ النساء في عصر الرسالة كنّ يلبسن القميص الواسع الأطراف فيستر جميع البدن من الأكتاف إلى الأبدان، وهذا وراء ما كان لهن خمار وجلباب، ويظهر من بعض اللغويين أنّ الجلباب كان يستر جميع البدن وكان كالشادر في زماننا، قال ابن الأعرابي: الجلباب: الإزار فيجلّل جميع الجسد.(1)

وفي كتاب التحقيق: الملحفة والرداء هو الذي يستر تمام البدن ويلبس فوق الثيات والجلباب: أنّه ما يغطّي الثياب ويستر جميع البدن والثيات معاً».(2)

4. أنّ القضاء البات في مقدار ما يجب ستره، رهن دراسة الروايات الواردة في المقام و كلمات الفقهاء، والغرض في المقام هو دراسة ما ورد في الآيات.

وفي ختام تفسير هذه الآية نذكر ما قاله الشريف الرضي رحمه الله حول قوله تعالى: (وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ) : وهذه استعارة، والمراد بها: إسبال الخُمُر التي هي المقانع على فرجات الجيوب لأنّها خصاصات(3) إلى الترائبع.

ص: 390


1- . لسان العرب: 273/1، مادة «جلب».
2- . التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 95/2.
3- . جمع خصاصة وهو الخرق في الباب أو البرقع.

والصدور والثّديّ والشعور، وأصل الضرب من قولهم: ضربت الفسطاط إذا أقمته، بإقامة أعماده وضرب أوتاده، فاستعير هاهنا كناية عن التناهي في إسبال الخُمُر وإضفاء(1) الأُزر.(2)

وجه فرض الحجاب على النساء

هناك سؤال يطرحه النشء الجديد متأثّراً بما ينشره أعداء الإسلام حول الأحوال الشخصية: لماذا فرض اللّه سبحانه الحجاب على النساء دون الرجال، فإنّ المفسدة ترتفع بأحد الأمرين، فلماذا خُصّت النساء به ؟

والجواب: إنّ وجه التخصيص واضح وهو أنّ جسم المرأة، من حيث التركيب، أكثر إغراء وإثارة للغريزة. ثمّ إنّ المرأة بطبيعتها تحافظ على عفّتها ولا تُظهر ما في نفسها للرجل، وإن كانت تميل إليه، ولكن قلّما تنبس ببنت شفة؛ بخلاف الرجل فإنّه بطبيعته يميل إلى المرأة ويعرض نفسه عليها ويدعوها إلى نفسه، وربّما يهجم عليها استجابة للشَّبَق المسيطر عليه، فلأجل ذلك فرض الإسلام الحجاب على المرأة لتصون نفسها عن هجوم الرجال وتعرضهم لها، وإنّما أجاز عدم وجوب ستر الوجه والكفّين فلضرورة اقتضت الجواز، لأنّ المرأة ليست في معزل عن المجتمع، فهي تعمل كالرجل ولو في مجالات خاصّة، فلأجل رفع الحرج سوّغ لها عدم الستر بشروط مذكورة في الفقه، أهمها عدم التزيّن، وبذلك ظهر وجه تخصيص الستر بالمرأة.

إلى هنا تمّ الحكم الرابع وإليك الكلام في الحكم الخامس.

ص: 391


1- . كذا في المطبوعة، وفي هامشها: لعلّ الأصل: وإعفاء الأُزر، ويُراد به إطالتها.
2- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 157.
الحكم الخامس: حرمة إبداء الزينة إلّافي موارد خاصّة
اشارة

ثم إنّه سبحانه بعد أن حرّم على النساء إبداء الزينة، استثنى المحارم وأخرجهم من تحت هذا الحكم، وهم الطوائف التالية:

1. (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ ) ، فلكلٍّ من الزوجين أن يرى من صاحبه ما يشاء.

2. (أَوْ آبائِهِنَّ ) ويدخل فيهم الأجداد من الأب والأُم.

3. (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ ) ويدخل في آباء الأزواج، الأجداد من الأب والأُم.

4. (أَوْ أَبْنائِهِنَّ ) وولد الولد، ذكراً كان أو أُنثى .

5. (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ) وإنْ نزلوا.

6. (أَوْ إِخْوانِهِنَّ ) من الأُمّ والأب أو من أحدهما.

7. (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ ) وإن نزلوا.

8. (أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ ) كذلك.

9. (أَوْ نِسائِهِنَّ ) ، إضافة النساء إلى ضمير المؤمنات تدلّ على نساء خاصّة، لهنّ صلة بالمرأة، فأقرب المعاني هو النساء المؤمنات لا الكافرات، نظير قوله تعالى: (وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (1): أي من رجال دينكم.

روى الصدوق عن حفص بن البختري عن أبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام قال:

«لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنهنّ يصفن ذلك

ص: 392


1- . البقرة: 282.

لأزواجهن»(1).

10. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ) من الإماء والجواري. أمّا العبد فلا يجوز أن ينظر إلى سيّدته إلّاالوجه والكفّين.

روى عبداللّه بن جعفر الحِمْيري في «قرب الإسناد» بسنده عن علي عليه السلام أنّه كان يقول: «لا ينظر العبد إلى شعر سيّدته»(2).

وقال الشيخ الطوسي: روى أصحابنا في قوله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ) : أنّ المراد به الإماء دون العبيد الذُّكران(3). وفي مقابل هذا توجد روايات ترخّص، والتصديق الفقهي يتوقّف على دراسة الروايات سنداً ومتناً.

11. (أَوِ اَلتّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ ) أُريد بهم أُولئك الذين يخالطون الأُسرة ويتبعونها في أكثر الأحيان، ولا شهوة لهم في النساء، بسبب بدني كالهرم والعَنَن، أو عقلي كالعَتَه. قال ابن عباس: التابع، هو الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء.(4) وقال علي بن إبراهيم القمّي: هو الشيخ الكبير الفاني الذي لا حاجة له في النساء.(5)

12. (أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ ) : أي الذين لا يفرّقون بين العورة وغيرها من أعضاء البدن، والمراد بالطفل هو الجنس، ولذلك صارت النسبة إليه بالجمع وقال (اَلَّذِينَ ) .2.

ص: 393


1- . من لا يحضره الفقيه: 561/3، برقم 4928؛ تفسير نور الثقلين: 3/593.
2- . الوسائل: 14، الباب 124 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 8.
3- . الخلاف: 2/204، المسألة 5.
4- . التبيان في تفسير القرآن: 430/7.
5- . تفسير القمي: 77/2.

ولعلّ المراد أوسع من ذلك، فربّما يراد به الطفل الذي لم يبلغ الحلم وليس له شهوة.

علّة عدم ذكر العمّ والخال

اتّفق الفقهاء على أن العمَّ والخال من المحارم لكن الآية ساكتة عنهما، مع أنّهما وردا في عداد من يجوز الأكل من بيوتهم، حيث قال: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ ) (1).

والجواب بوجهين: أوّلاً: أنّ الآية بصدد بيان من يكثر تردّده إلى البيت ويدخل على النساء كثيراً، والعمّ والخال في درجة ثانية بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين.

ثانياً: أنّه سبحانه استثنى ابن الأخ وابن الأُخت في قوله: (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ ) وهذا يدلّ على أنّ الانتساب إلى المرء من جانب واحد كافٍ في المحرّمية، فيدخل فيه العمّ والخال، لأنّهما ينتسبان إلى المرأة من جانب واحد.

أمّا العمّ فمن جانب الأب، وأمّا الخال فمن جانب الأُمّ ، فاكتفى بذكرهما عنهما اختصاراً في البيان.

الحكم السادس: حرمة الضرب بالأرجل

وبعد أن تمّ ما استثناه اللّه سبحانه من حرمة إبداء الزينة، عاد البيان القرآني

ص: 394


1- . النور: 61.

إلى ذكر حكم سادس على النساء وهو قوله تعالى: (وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) ويظهر من الآية أنّ النساء كنّ يلبسن الخلاخيل في عصر النزول، وكان بعضهنّ يضربن الأرض بأرجلهن لتهييج الرجال، فنهاهنّ اللّه عن ذلك. ولعلّ في هذه الفقرة إشارة إلى النهي عن كلّ حركة تثير الشهوة وتوقظ مشاعر الرجال.

وفي ختام الآية يأمر سبحانه المجتمع الإسلامي بالإنابة إلى اللّه ويقول:

(وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) : أي تفوزون. ولعلّ المراد هو الإنابة عمّا سبق من المعاصي، أو المراد الانقطاع إلى اللّه، ففي الحديث أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يا أيّها الناس توبوا إلى بارئكم فإنّي أتوب إلى اللّه في كلّ يوم مئة مرّة»(1).

ومن لطائف هذه الآية أنّها اشتملت على خمسة وعشرين ضميراً ترجع إلى المؤمنات، كما أنّ سورة الشمس تشتمل على ضمائر كثيرة تعود إلى مراجع مختلفة.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْقَواعِدُ مِنَ اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .(2)

ص: 395


1- . مجمع البيان: 7/250.
2- . النور: 60.
المفردات

القواعد: جمع قاعد، والمراد العجائز لأنّهن قعدن عن النكاح.

لا يرجون نكاحاً: لا يطمع أحد بنكاحهن.

متبرّجات: التبرّج: إظهار المرأة محاسنها وما يجب عليها ستره، مشتق من البرج وهو البناء العالي لظهوره.

التفسير
حكم القواعد من النساء في أمر الحجاب

إنّ الآية السابقة لمّا فرضت على النساء ضرب الخُمُر على الجيوب، وإدناء الجلباب عليهن ومن ثمّ أمرتهنّ بالستر، استثنت منهنّ القواعد من النساء (وهي جمع قاعد كالحامل والحائض اللّتين لا يستعملان إلّافي النساء)، وعرّف القواعد بقوله: (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) . وهل المراد القعود عن المحيض، أو هو أكثر من ذلك ؟ وهو أن تبلغ النساء مبلغاً من العمر لا يطمعنَ في الرجال ولا الرجال فيهن، وإلّا فمجرد القعود عن المحيض لا يكفي ما لم يصل إلى تلك الدرجة الّتي يشير إليها قوله: (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) فبروزهنّ وعدم سترهنّ لا يثير الشهوة ولا الريبة في الرجال، وعلى ذلك (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ ) : أي إثم (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ) التي تلبس في الشوارع والأسواق، وقد فُسّر في الروايات بالخِمار والجلباب، فقد روى الحلبي عن أبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام أنّه قرأ: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ) قال:

«الخمار والجلباب».(1)

ص: 396


1- . تفسير نور الثقلين: 3/623.

كلّ ذلك مشروط بما يذكر (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ) : أي لا يقصدن بذلك إظهار زينتهنّ للرجال لينظروا إليهنّ ، وإن لم تكن لذلك أهلاً. يقول الطبرسي: أي غير قاصدات من وضع ثيابهنّ إظهار زينتهنّ ، ولكن يقصدنَ به التخفيف عن أنفسهن، فإظهار الزينة لهنّ ولغيرهنّ محظور.(1)

ويحتمل أن يراد أنّه يجوز لهنّ أن يخرجنَ إلى الشارع دون التزيُّن بزينة من تحمير وتبييض في الوجوه، وغير ذلك ممّا تتزيَّن به المرأة.

فبما أنّ الآية تحتمل كلا المعنيين، فالواجب هو الجمع بين السترين: ألّا يبدين زينتهنّ من السوار والقلادة والساعة، وألّا يخرجنَ وهن متزيّنات بالكحل ونحوه.

ومع ذلك فهذا الحكم حكم إرفاقي، والأفضل لهنّ أيضاً هوما في قوله تعالى: (وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) فالأَولى بالعجوز ألّا تخلع ثيابها أمام الأجانب وإن جاز لها ذلك، لأنّ الترك أبعد عن التّهمة (وَ اَللّهُ سَمِيعٌ ) يسمع أقوالكم (عَلِيمٌ ) بما في صدوركم.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ ثَلاثُ

ص: 397


1- . مجمع البيان: 7/289.

عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .(1)

المفردات

ملكت أيمانكم: ملك اليمين، وهو عبارة عن العبيد والإماء.

الحُلُم: زمان البلوغ ووقته.

تَضَعون: تخلعون.

الظهيرة: وقت اشتداد الحرّ حين ينتصف النهار

عورات: جمع عورة والمراد الأوقات التي يسوء الإنسان مشاهدة الغير له.

جناح: إثم وذنب.

طوّافون عليكم: يدخلون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية.

التفسير
أحكام العشرة والمخالطة

كلّف سبحانه العبيد والإماء كما كلّف الأطفال غير البالغين عن طريق إلزام الوالدين إيّاهم بأن لا يدخلوا على البيت المختصّ بالوالدين في أوقات خاصّة، وقال: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) عبيداً كانوا أم إماء،

ص: 398


1- . النور: 58.

وإن كان الأمر في العبيد أشدّ (وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ) : أي الصبيان الّذين لم يبلغوا شرعاً ولكنّهم يميّزون بين العورة وغيرها، يجب عليهم الاستئذان (ثَلاثَ مَرّاتٍ ) : أي في ثلاثة أوقات:

1. (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ) وخصّ هذا الوقت بالاستئذان، إذ ربّما يكون الإنسان عرياناً أو في حال لا يحبّ أن يراه أحد عليها، والآية تدلّ بالدلالة الالتزامية على أنّه لا نوم بعد صلاة الفجر وإلّا للغى التقييد بما قبل صلاة الفجر.

2. (وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ ) وخصّ هذا الوقت بالاستئذان أيضاً؛ لأنّ الإنسان يضع فيه ثيابه فيكون في حال لا يحبّ أن يراه الناس عليها.

3. (وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ ) : أي حين يأوي الرجل إلى امرأته ويخلو بها.

فأمر اللّه سبحانه المؤمنين أن يأمروا الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم لكن يميزون ما لا يُحسن كشفه عن غيره والمملوكين بأن يستأذنوا في هذه الساعات الثلاث.

نعم يجوز لهم الدخول بلا استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، وما ذلك إلّا لأنّ العبيد والإماء أو الأطفال إمّا يخدمون المؤمنين والمؤمنات أو يدخلون عليهم لبعض الحاجات فيشقّ عليهم الاستئذان في كلّ وقت، وما هذا إلّالوجود الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها، فإنّ الأوقات الثلاثة مظنّة انكشاف ما لا يحبّ كشفه، وأمّا غير هذه الأوقات فيقول: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ ) : أي إثم (بَعْدَهُنَّ ) : أي بعد هذه الأوقات، لماذا؟ لأنّهم (طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ) : أي تتردّدون عليهم ويتردّدون عليكم ولا غنى لأحدكم عن الآخر، فيتعذّر عليهم الاستئذان في كلّ وقت.

ص: 399

وحاصل الكلام: أنّ هؤلاء يتقلّبون فيكم ليلاً ونهاراً بعضكم على بعض، فالتكليف بالاستئذان أمر شاقّ (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ ) الدالّة على الأحكام (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ ) بما يصلحكم (حَكِيمٌ ) في تشريعه.

إلى هنا تمّ بيان أحكام العبيد والإماء والأطفال غير البالغين في مورد الاستئذان، حيث أُمروا به في أوقات ثلاثة ورُخّص لهم الدخول بلا استئذان في غير هذه الأوقات لكثرة المخالطة والمعاشرة والدخول والخروج.

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .(1)

التفسير
حكم الأطفال البالغين

أكّدت الآية المتقدّمة على استئذان الأطفال غير البالغين في أوقات ثلاثة، وأمّا الأطفال الذين بلغوا الحلم فهؤلاء حكمهم غير حكم مَن لم يبلغ الحلم فعليهم الاستئذان في كلّ الأوقات عند الدخول على غرفة الوالدين كما يقول:

(وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ ) : أي الذين عرفوا الشعور الجنسي فهم مكلّفون في جميع الأوقات (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) إذا كان الوالدان في غرفة مخصّصة دونما إذا كانوا في غرفة عامّة، فالآية منصرفة عنه.

ص: 400


1- . النور: 59.

(كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إشارة إلى الكبار الذين يجب عليهم الاستئذان من الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما أو كانوا يستأذنون قبل الأمر به.

فيكون الإخبار بمنزلة إمضاء السيرة السائدة.

فتحصّل أنّ الطفل والعبد والأمة يستأذنون في الأوقات الثلاثة، والبالغ من الأطفال يستأذن في كلّ الأوقات نظير الكبار تماماً (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ ) الدالّة على أحكام المعاشرة (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ ) بما تفعلون (حَكِيمٌ ) في تشريعه.

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .(1)

ص: 401


1- . النور: 61.
المفردات

حرَج: ضيق وأُريد به هنا الإثم.

ما ملكتم مفاتحَه: ما يقع تحت تصرّفكم بطريق الوكالة أو الحفظ.

جميعاً: مجتمعين.

أشتاتاً: جمع شتيت، أي متفرّقين.

على أنفسكم: أي أهل البيوت والسكنة فيها.

طيِّبة: تطيب بها نفس الساكنين فيها.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أدبين من آداب المعاشرة:

1. يجوز للطوائف الأربع الأكل من بيوت خاصّة بلا استئذان من أصحابها وتبتدئ لبيانه من قوله: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) .

2. يستحب التسليم على أهل البيوت عند الدخول وتشير إليه بقوله: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

وقد تحدّثت الآيات السابقة في هذه السورة عن لزوم الاستئذان حين

ص: 402

الدخول إلى منازل الآخرين وقالت: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1)ولم يقتصر سبحانه بهذا، بل أمر بعدم الدخول إذا لم يجدوا فيها أحد، قال سبحانه:

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (2) والموضوع في هاتين الآيتين منازل غير الأقرباء، وهنا عاد البيان القرآني، إلى القول بجواز الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم بلا استئذان وحتّى يجوز لهم الأكل فيها دون استئذان، فذكر الطوائف الأربع بقوله:

1. الأعمى ، قال: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ ) .

2. الأعرج، قال: (وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ ) .

3. المريض، قال: (وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ ) .

4. (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) : أي ليس عليكم حرَج في أنفسكم.

وأمّا ما هو متعلّق رفع الحرج عن الجميع فهو الأكل بلا استئذان، فرخّص سبحانه للطوائف الأربع الأكل من بيوت خاصّة بلا استئذان، وأمّا ما هو الوجه لتخصيص الطوائف الثلاث بالذكر فسيأتي الكلام فيه في نهاية البحث، وأمّا البيوت الّتي يجوز الأكل منها بلا استئذان فهي البيوت التالية:

1. (بُيُوتِكُمْ ) والمراد بيوت الأولاد الّتي تُعدّ بيوتاً للإنسان أيضاً للصلة القوية بين الإنسان وأصحاب هذا البيت وما يليه من البيوت، ولذلك وصفها8.

ص: 403


1- . النور: 27.
2- . النور: 28.

ببيوت الأنفس، وقد ورد في الحديث: «أنت ومالك لأبيك».(1)

2. (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) . 3. (أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ ) .

4. (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ) . 5. (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ ) .

6. (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ ) . 7. (أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ ) .

8. (أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ ) . 9. (أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ ) .

10. (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) .

11. (أَوْ) بيوت (صَدِيقِكُمْ ) ، قال الزمخشري: وعن جعفر بن محمد الصادق (رضي اللّه عنهما): «من عظم حرمة الصديق أن جعله اللّه من الأُنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن»(2).

فصار هنا أحد عشر بيتاً يجوز للإنسان الأكل منها بلا استئذان.

إلى هنا تمّ تفسير ما يتعلّق بالأكل من هذه البيوت.

بقي هنا كلام، وهو أنّ قوله: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ ...) يدلّ على أنّه كان في البيئة العربية عرفٌ خاصٌّ يخالف ما في هذه الآية، فجاءت الآية ترخيصاً في ترك العُرف، وهذا هو الرائج في القرآن الكريم إذا تحدّث بعدم الحرج فهو ناظر إلى ردّ العادات السائدة.

ما هو الوجه لتخصيص الطوائف الثلاث بالذكر؟

وثمّة سؤال يُطرح في المقام، وهو: لماذا خصّ سبحانه الطوائف الثلاث

ص: 404


1- . الوسائل: 12، الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 8.
2- . تفسير الكشّاف: 3/85.

بالذكر، ثمّ ذكر الباقي بقوله: (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) ؟ فلكلّ وجه.

أمّا ذكر الطوائف الثلاث فقد تعدّدت الأقوال في الجواب عن هذا السؤال أنهاها في «مجمع البيان» إلى خمسة، نذكر منها وجهين:

1. إنّ العرب كانوا يتحرّجون من الأكل مع الأعمى ويقولون إنّه لا يبصر فنأكل جيّد الطعام دونه، كما يتحرّجون من الأكل مع الأعرج لأنّه لا يتمكّن من الجلوس والموائد كانت يومذاك ممتدّة على الأرض، كما كانوا يتحرّجون من الأكل مع المريض حيث إنّ المصحّ ينتهي من الأكل قبله والمريض يبقى وحده فيخجل من الانفراد، فجاءت الآية لنسخ هذا.(1)

2. وربما يقال: كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعثة تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار لمكان جولان يد الأعمى، وانبساط جلسة الأعرج، وعدم خلوّ المريض من رائحة تؤذي، فنزلت الآية.(2)

ولا يخفى أنّ الوجهين مع تقاربهما على خلاف سياق الآية؛ لأنّ الحرج في كلا القولين على الأصحّاء، فكان اللازم أن يقول: ليس عليكم حرج، لا أن يقول:

(لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ ) .

نعم هنا وجه ثالث يناسب ظاهر الآية، وهو أنّ هذه الطوائف نفسها كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحّاء حذار استقذارهم إيّاهم وخوفاً من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم، فنزلت الآية أنّه ليس على هذه الطوائف ضيق في المؤاكلة مع غيرهم.

حيث قال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) : أي لا حرج عليكم أن8.

ص: 405


1- . مجمع البيان: 7/291.
2- . روح المعاني: 18/218.

تأكلوا جماعات وفرادى .

أقول: إنّ الوجه الثالث وإن كان خالياً عن الإشكال المذكور، لكن يرد عليه أوّلاً: أنّ لازمه التفكيك بين فقرات الآية ووقوع جمل معترضة، أعني: (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ ) بين الموضوع - أعني: الطوائف الثلاث - وبين ما يرجع إليهم من قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) .

وثانياً: أنّ لازم هذا الوجه وجود الاختلاف في متعلّق الحرج بين الطوائف الثلاث وغيرهم، أعني: (عَلى أَنْفُسِكُمْ ) ، فمتعلّقه في الأُولى تحرجهم من مواكلة الأصحّاء وفي الثاني عدم الحرج من بيوت خاصة بلا استئذان.

فالأولى جعل الطوائف الثلاثة مع الرابعة - أعني: (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) - في صف واحد موضوعاً لأمر فارد وهو جواز الأكل من البيوت الخاصّة.

وأمّا وجه تخصيص هؤلاء الثلاثة بالذكر فهذا ما يذكره السيد الطباطبائي ويقول: يمكن أن تكون وجهاً لذكر الطوائف استقلالاً، قال: إنّ عدّ المذكورين ليس لاختصاص الحقّ بهم، بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحياناً، وإلّا فلا فرق بين الأعمى والأعرج والمريض وغيرهم في ذلك(1). ولعلّه يريد أنّ هؤلاء لشدّة حاجتهم إلى الأكل من بيوت هؤلاء المذكورين في الآية، ذُكروا مستقلّين لمزيد الاهتمام بهم.

ما هي الوظيفة عند الدخول للبيوت ؟

ثم إنّه سبحانه يذكر أدباً آخر لمن يريد الدخول في هذه البيوت لئلّا يظن

ص: 406


1- . الميزان في تفسير القرآن: 15/164.

السامع بأنّ القرابة والصداقة تُسقط الآداب، فقال: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) يريد يسلّم بعضكم على بعض، نظير قوله سبحانه: (وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (1).

روى الصَّدوق بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر [الباقر] عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) ، فقال: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردّون عليه، فهو سلام على أنفسكم».(2)

ومع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية أعمّ من ذلك، وهو أنّ الداخل إذا لم يجد أحداً فيسلّم على نفسه، ولعلّ هذا أقرب لأنّ المفروض هو الأكل من هذه البيوت بلا استئذان.

ويدلّ عليه ما عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته فإذا كان فيه أحد يسلّم عليه، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول اللّه عزّ وجلّ : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) »(3).

فقوله: (تَحِيَّةً ) مفعول مطلق لفعل محذوف أي: فسلّموا تحية، نظير قوله: قعدت جلوساً، وفرحت جذلاً.

قوله: (مُبارَكَةً ) : أي يرجى بها زيادة الخير.

قوله: (طَيِّبَةً ) : أي تطيب بها نفس المُسلِّم أو المستمع.

قوله: (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ ) : أي الآيات القرآنية (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) : أي تتفكّرون في أنّ هذه الأحكام والسُّنن كلّها لصلاح المجتمع وطهارته.).

ص: 407


1- . النساء: 29.
2- . معاني الأخبار: 162-163.
3- . تفسير القمّي: 85/2 (وهي من رواية أبي الجارود عن الباقر عليه السلام).

أحكام النكاح

3. النساء اللاتي يحرم نكاحهن

اشارة

بعث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكن للنكاح ضوابط ونظام محدّد، فجاء البيان القرآني ليبيّن من يحرم نكاحهن ومن يحل، بياناً رائقاً قلّما يتّفق في هذا المورد.

الآية الأُولى:

اشارة

قال سبحانه:

(وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً) .(1)

المفردات

فاحشة: كلّ أمر قبيح فظيع غايته.

مقتاً: هو البغض عن أمر قبيح.

ص: 408


1- . النساء: 22.
التفسير
حكم منكوحة الأب

ذكر اللّه سبحانه محرّمات النكاح في الآية التالية على وجه التفصيل لكن خصّ ذكر حرمة نكاح نساء الآباء بآية مستقلّة، لفظاعته وقبحه، وأُريد من قوله:

(وَ لا تَنْكِحُوا) هو عقد الزواج، ثمّ إنّه سبحانه عدل عن أن يقول لا تنكحوا نساء آبائكم إلى قوله: (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) ليكون دليلاً على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة التزويج. لما مرّ من أنّ النكاح حقيقة في العقد لا في الوطء.

روى السيوطي، وقال: أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال:

«كان الرجل إذا توفّي عن امرأته كان ابنه أحقّ بها، أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أُمّه، أو يُنكحها مَن شاء. فلمّا مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته، ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئاً.

فأتت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فذكرت ذلك له فقال: «ارجعي لعل اللّه ينزل فيك شيئاً» فنزلت:

(وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ) ونزلت: (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً) (1).(2)

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من النهي عن نكاح ما نكح الآباء مورداً خاصّاً وقال:

(إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ ) وقد أطال المفسّرون في تفسير الاستثناء، وحملوه على الاستثناء المنقطع، والأولى أن يقال: الغاية من الاستثناء دفع توهّم وجود الإثم لمَن

ص: 409


1- . النساء: 19.
2- . تفسير الدر المنثور: 469/2.

نكح سابقاً، فأُريد لا إثم عليكم ممّا قد سلف، فإنّ الإسلام يجبّ ما قبله. وقد رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون.

***

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(1)

المفردات

ربائبكم: جمع ربيبة وهي بنت زوجة الرجل من غيره، سمّيت بذلك لتربيته إيّاها، فهي بمعنى مربوبة، نحو قتيلة بمعنى مقتولة.

حلائل: جمع حليلة مشتقة من الحلال، والذكر حليل، سمّيا بذلك لأنّ كلّ واحد منهما يحل له مباشرة صاحبه.

أصلابكم: أي الذين من أصلابكم، خرجت زوجة المتبنّى به، فهي لا تحرم

ص: 410


1- . النساء: 23.

على المتبنّي.

وقد مرّ وسيأتي(1) أنّ النبي أُمر بنكاح مطلّقة متبنّاه: زيد بن حارثة إبطالاً للسنّة الجاهليّة حيث كانت تنزّل المتبنّى منزلة الابن الصلبي في حرمة تزويج زوجته بعد الطلاق.

التفسير
مَن يحرم نكاحهن نسباً:

1. (أُمَّهاتُكُمْ )

قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) فإذا نسب التحريم إلى الذوات يُراد ما هو المتوقّع منها، فإذا قيل: حُرّمت عليكم الخمر، أُريد به شربها، وفي المقام أُريد نكاح الأُمّ ، وهي مَن اتّصل إليها نسب الإنسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة كأُمّ الأب وأُمّ الأُمّ .

2. (وَ بَناتُكُمْ )

البنت مَن اتّصل نسبها بالإنسان بسبب ولادتها منه كالمولودة من صلبه بلا واسطة، أو معها كبنت الابن وبنت البنت فنازلاً.

3. (أَخَواتُكُمْ )

الأُخت مَن اتّصل نسبها بالإنسان من جهة ولادتهما معاً من الأب أو الاٌُمّ ، أو منهما جميعاً بلا واسطة، وتُسمّى الأُولى الشقيقتان.

ص: 411


1- . لاحظ: ص 351 و 523 من هذا الكتاب.

4. (عَمّاتُكُمْ )

العمّة أُخت الأب، وكذا أُخت الجدّ، من غير فرق بين كونها أُختاً من جهة الأب أو الأُمّ أو كليهما.

5. (خالاتُكُمْ )

الخالة هي أُخت الأُمّ وكذا أُخت الجدّة، من جهة الأب أو الأُمّ أو كليهما.

6. (بَناتُ اَلْأَخِ )

بنات الأخ وهي كلّ امرأة تنتمي بالولادة إلى أخ الإنسان بلا واسطة أو معها، فتحرم عليه بنت أخيه وبنت ابنه وبنت ابن ابنه كما تحرم بنت ابنته وبنت بنت ابنته وبنت ابن ابنته.

7. (بَناتُ اَلْأُخْتِ )

كلّ أُنثى تنتمي إلى أُخت الإنسان بالولادة على النحو الذي ذكر في بنات الأخ.

إلى هنا تمّ ذكر المحرّمات النسبيات السبعة، وقد روي عن ابن عباس أنّه قال: «حرّم اللّه من النساء سبعاً بالنسب، وتلا الآية».(1)

مَنْ يحرم نكاحهن بالرضاع

وهن ما يلي:

8. الأُم الرضاعية

9. الأُخت الرضاعية

ص: 412


1- . مجمع البيان: 61/4، طبعة مصر.
مَنْ يحرم نكاحهن بالمصاهرة

وهن ما يلي:

10. أُمّهات النساء

11. الربائب

12. حلائل الأبناء

13. الجمع بين الأُختين

موارد أُخرى ممّن يحرم نكاحهنّ
اشارة

ذكر سبحانه في هذه الآية ثلاثة عشر مورداً ممّن يحرم نكاحهن، نسباً ورضاعاً وصهراً وهناك موارد أُخرى يحرم نكاحهن نظير:

1. منكوحة الأب وقد سبق بيانها في الآية الأُولى.

2. المطلقة ثلاثاً، سيأتي حكمها في الآية الثالثة.

3. المحصنات من النساء أي المتزوّجات، وسيأتي حكمهنّ في الآية الخامسة.

4. نكاح المشركة، وسيأتي حكمها في الآية السابعة.

5. نكاح العفائف من أهل الكتاب دائماً على القول المشهور، وسيأتي حكمها في الآية السابعة.

6. نكاح الزانية ما لم تتب، وسيأتي حكمهافي الآية الثامنة.

7. الملاعنة بين الزوج والزوجة توجب انفساخ عقد النكاح بينهما وتحرم الزوجة على الزوج دائماً، وهذا هو المنصوص في الروايات.

فيبلغ عدد المحرمات إلى عشرين مورداً.

ص: 413

فلندخل في تفسير الآية على سبيل الإيجاز، وبعد الانتهاء من تفسير الآية، نعود لبيان ما لهذه الأسباب من الأحكام:

الأُولى: مَنْ يحرم نكاحهن رضاعاً

1. (وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ )

الآية ظاهرة في قيام العلاقة الرضاعية مقام العلاقة النسبية، فكما أنّ الأُمّ الحقيقية تحرم، فهكذا المرأة التي أرضعت الإنسان «بشروط الرضاع المحدّدة شرعاً».

2. (وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ )

لو ارتضع صبي من أُمّ غير حقيقية ولها بنت تُعد الثانية أُختاً للمرتضع لاشتراكهما في اللبن والفحل، ثمّ إنّ المحرّم بالرضاع لا يختصّ بهذين العنوانين، أعني: الأُمّ والأُخت الرضاعيتين. بشهادة أنّه إذا حرمت الأُخت الرضاعية، كما في قوله: (وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ ) فالبنت الرضاعية أولى بالتحريم ولذلك عُمّم التحريم لكلّ عنوان من النسب.

بل كلّ عنوان محرّم من جهة النسب هو بنفسه محرّم من جهة الرضاع. فلو حصل بالرضاع أحد العناوين النسبية كالعمّة والخالة وبنات الأخ وبنات الأُخت، تحرم.

نعم المذكور في الآية اثنتان من هذه العناوين غير أنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «يحرم بالرضاع ما يحرم من النسب» وسّع التحريم. وإليك بيان هذه العناوين إذا حصل الرضاع:

ص: 414

1. الأُمّ من الرضاعة وهي مَن أرضعت الرجل أو ولدت مَن أرضعته، أو أرضعت من وَلَدَها، أو أرضعتها، أو أرضعت من ولدها بواسطة أو بوسائط، فكلهن بمنزلة أُمّ الرجل، وكما يحرمن من جانب النسب، يحرمن من جانب الرضاع، فالرضاع قائم مقام النسب.

2. البنت من الرضاعة، وهي كلّ بنت رضعت بلبن الرجل، أو لبن من ولدته، أو أرضعتها امرأة ولدتها، وكذلك بناتها من النسب والرضاع، فكلّهن بمنزلة بنات الرجل.

3. الأُخت من الرضاعة، وهي كلّ امرأة أرضعتها أُمّ الرجل، أو رضعت بلبن أبيه، وكذا كلّ بنت ولدتها مرضعته أو فحلها.

4 و 5. العمّات والخالات من الرضاعة، وهن أخوات الفحل والمرضعة، وأخوات من ولدهما، من النسب أو الرضاع، وكذا كلّ امرأة أرضعتها واحدة من جدّات الرجل، أو رضعت من لبن أجداده، من النسب والرضاع.

6 و 7. بنات الأخ وبنات الأُخت من الرضاعة، وهن بنات أولاد المرضعة والفحل من الرضاع والنسب، وكذا كلّ أُنثى أرضعتها أُخت الرجل أو بناتها أو بنات أولادها من الرضاع والنسب. وبنات كلّ ذكر أرضعته أُمّ الرجل أو رضع بلبن أخيه، وبنات أولاده من الرضاع والنسب، فكلّهن بنات أخيه وأُخته.

فهذه جملة المحرّمات من الرضاع والنسب، فكلّ مَن يصدق عليه أحد هذه المذكورات في الآية الكريمة، يحرم التزويج بينهما، لقيام الرضاع مقام النسب.

ص: 415

الثانية: مَنْ يحرم نكاحهنّ بالمصاهرة

تحرم بالمصاهرة نساء أربع:

1. (وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ )

وهي تعمّ جميع الأُمّهات دانيتها وعاليتها، والمشهور عند علمائنا حرمة أُمّ المعقودة على العاقد مطلقاً وإن لم يدخل بها، إلّاما روي عن ابن أبي عقيل من الذهاب إلى عدم الحرمة إلّابالدخول، ولكن الآية في جانب الأُمّ مطلقة، حيث قال: (وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) دون جانب البنت كما سيأتي. 2. (وَ رَبائِبُكُمُ )

لو عقد على امرأة مجرداً عن الوطء حرمت بنتها على العاقد جمعاً لا عيناً، فلو فارق الأُمّ ولم يدخل بها جاز تزويج البنت، دون ما لو دخل بها فإنّها تحرم عليه مطلقاً فارق أُمّها أو لا، كما يقول سبحانه: (وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) .

ثمّ إنّ قوله: (فِي حُجُورِكُمْ ) قيد غالبي؛ لأنّ المرأة المطلقة أو المتوفّى عنها زوجها لو تزوّجت وكانت لها بنت لا تفارقها وتأتي معها إلى بيت الزوج الثاني. فعلى هذا فقوله: (فِي حُجُورِكُمْ ) قيد غالبي وليس قيداً احترازياً.

3. (وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ )

لو عقد الابن على امرأة، حرمت المعقودة على أب العاقد، لكونه من مصاديق قوله سبحانه: (وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ) من غير فرق بين المدخول بها وغيرها،

ص: 416

وقوله: (مِنْ أَصْلابِكُمْ ) يُخرج ولد التبنّي.

4. (وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ )

من توابع المصاهرة تحريم أُخت الزوجة لأب وأُمّ أو أحدهما جمعاً لا عيناً، من غير فرق بين كونهما سببيّين أو رضاعيّين.

وعلى هذا فلو فارق الرجل زوجته بموت أو طلاق جاز الزواج بأُختها بعد انقضاء العدّة، إذا كان الطلاق رجعياً، نعم لو طلقها بائناً يجوز أن يتزوّج الأُخت أثناء العدّة، لأنّ الطلاق البائن يقطع العصمة، هذا عند الإمامية، وأمّا عند غيرهم فلا يفرقون بين الطلاقين، فلا يجوزون النكاح إلّابعد انقضاء العدّة، والتفصيل في محلّه.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى بقوله: (إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ ) ومن المعلوم أنّ استثناء النهي عن الماضي من النهي عن المستقبل غير صحيح، فلذلك قالوا إنّ الاستثناء منقطع لدفع توهّم كون من جَمَعَ بين الأُختين في الماضي آثماً مستحقّاً للعقوبة، فجاء الوحي الإلهي لدفع هذا التوهّم.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ولعلّه إشارة إلى أنّه سبحانه لا يؤاخذكم بحكم ما قد سلف من هذه الأنكحة قبل نزول التحريم، فيكون تأكيداً للاستثناء.

***

الآية الثالثة:

اشارة

قال سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ

ص: 417

وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ) .(1)

المفردات

مرّتان: تثنية المرّة بمعنى الدفعة.

فإمساك: خلاف الإطلاق.

تسريح: الإطلاق.

افتدت: بذلت.

التفسير
حكم نكاح المطلّقة مرّتين

هذه الآية تحدّد جواز الطلاق، مع الرجوع، بمرّتين، يقول سبحانه:

(اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ) وأمّا بعدهما فأمام الرجل أحد الطريقين التاليين: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ) : أي الرجوع عن الطلاق (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) : أي إطلاقها وعدم الرجوع إليها.

وبما أنّ التسريح يجب أن يكون بمعروف فليس للزوج طلب ما أعطاه لها باسم المهر، كما يقول: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ، ثمّ

ص: 418


1- . البقرة: 229.

استثنت صورة واحدة وهي فيما لو كانت الزوجة كارهة ومبغضة للزوج ولا تريد العيش معه، فعندئذٍ لا جناح عليهما عطاء وأخذاً كما يقول: (إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ ) لوجود البغضاء في البين فعندئذٍ (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ ) لأنّها الطالبة لقطع العصمة، ثمّ إنّه سبحانه يتمّ الآية بقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ ) : أي أوامره ونواهيه (فَلا تَعْتَدُوها) : أي حدود اللّه (وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ) .

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .(1)

التفسير
حكم المطلقة ثلاثاً

لمّا بين سبحانه حكم الطلاق مرّتين وأنّ الزوج بعد الطلاق الثاني مخيّر بين الإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، جاء البيان القرآني يبيّن حكم الطلاق الثالث وهو أنّه لو طلّق مرّة ثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره ؟ فالآية تبيّن حكم المطلّقة ثلاثاً، فقوله: (فَإِنْ طَلَّقَها) : أي طلّقها ثالثة، فيعاقب، لئلّا يجعل

ص: 419


1- . البقرة: 230.

الطلاق وسيلة للإضرار (فَلا تَحِلُّ لَهُ ) للزوج المطلّق (حَتّى تَنْكِحَ ) الزوجة (زَوْجاً غَيْرَهُ ) . وفي قوله: (فَلا تَحِلُّ لَهُ ) : أي لا تحلّ الزوجة للزوج (حَتّى تَنْكِحَ (1) زَوْجاً غَيْرَهُ ) ، وبما أنّ نكاح المحلّل ليس صرف العقد بل العقد المعروف بالوطء، أشار سبحانه إليه بقوله: (حَتّى تَنْكِحَ ) تحرّزاً عن التصريح بالوطء، وعندئذٍ فإن وقعت الزوجة في حبالة الزوج الثاني فلا طريق للزوج الأوّل إليها، إن لم يطلّقها كما يقول: (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) :

أي الزوج الأوّل والزوجة (أَنْ يَتَراجَعا) استخدم التراجع لا الرجوع، وقال: (أَنْ يَتَراجَعا) إشعاراً بأنّه حقّ لكليهما لا للزوج السابق فقط، فعلى كلّ حال فيجب أن يفكّرا في مستقبلهما فلهما التراجع والزواج بعقد جديد (إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ ) بأن يكونا مطمئنّين على إجرائها، فلا يبخس الزوج حقوق زوجته، وبالعكس، ثمّ إنّه سبحانه يؤكّد على حفظ الحدود قائلاً (وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) : أي يعقلون. وغير خفي على اللبيب أنّ تعليق تجديد العقد بعد التطليقة الثالثة على أن تنكح زوجاً غيره الذي يُعبّر عنه بالفقه بالمحلّل إنّما هو لغاية الحماية للزوجة وإغلاق الطريق أمام الزوج عن الطلاق الثالث.

وبما أنّ بعض الجهلة لم يقفوا على فلسفة المحلّل ربما اعترضوا عليه اعتراضاً غير لائق للإجابة.

***ء.

ص: 420


1- . لو أُريد من الفعل الدخول يكون دليلاً على أنّ مادة النكاح استعملت في القرآن الكريم في الوطء.

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) .(1)

المفردات

المحصنات: المتزوّجات، بشهادة أنّه عطف على ما سبق من النساء المحرّمات، والمعنى أي حُرّم عليكم المحصنات من النساء. وبما أنّ التزويج يوجب الحصانة والعفاف، فيطلق لفظ المحصنات على المتزوّجات.

واعلم أنّ للإحصان، إطلاقات مختلفة، فتارة يراد به التزويج كما في الآية، وأُخرى يراد به الحرائر كما في قوله: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ ) (2)، وثالثة العفائف كما في قوله: (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ) .(3) فلها معنى واحداً ومصاديق متعدّدة.

محصنين: الإحصان: العفّة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام.

ص: 421


1- . النساء: 24.
2- . النساء: 25.
3- . النساء: 25.
التفسير
حكم المتزوّجات من النساء

نحن نفسّر هذه الآية في مقاطع أربعة:

الأوّل: قوله سبحانه: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ ) .

قوله: (وَ اَلْمُحْصَناتُ ) عطف على قوله: (أُمَّهاتُكُمْ ) في الآية السابقة، أعني: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) وأُريد منها المتزوّجات، ثمّ إنّه سبحانه استثنى من تزويج النساء المتزوجات الإماء التي يملكها الإنسان وقال: (إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) والمراد ما إذا زوج السيد أمته من غيره ثم باعها من آخر فإنّ بيعها إبطال لنكاحها، وبما أنّ هذا الحكم حكم قطعي وصفه سبحانه بأنّه (كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ ) .

الثاني: قوله سبحانه: (وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) .

أعطى البيان القرآني ضابطة كلّية وهي أنّ وراء ما ورد في الآية المتقدّمة (أعني الآية 23 من سورة النساء) من المحرّمات النسبية أو السببية، حلائل إمّا بالشراء بثمن كما في مورد الإماء، أو نكاح بصداق، كما في مورد الزواج، فيقول:

(وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) : أي ما سوى المذكورات في الآية السابقة، وفي هذه الآية، حلال لكم الزواج منهن، إنّما الكلام في إعراب الفقرة.

المراد من الموصول «ما» هو النساء، وهو نائب فاعل لقوله: (أُحِلَّ ) .

قوله: (ذلِكُمْ ) مركب من «ذا» و «كم» فالأوّل إشارة إلى النساء المذكورات، وتذكير اسم

ص: 422

الإشارة باعتبار الموصول، أعني: ما وراء، والثاني أعني: «كم» خطاب للمؤمنين، والمعنى: أُحل لكم أيّها المؤمنون وراء ما مرّ ذكره من النساء.

بما أنّ النكاح رهن بذل المال، قال: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) وهو عطف بيان لقوله: (ما وَراءَ ذلِكُمْ ) أو بدل اشتمال منه. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) :

أي تطلبوا بأموالكم نكاح النساء في حال أنّكم تُريدون العفّة لا السفاح والزنا، ومعنى الجملة: متعفّفين لا زانين.

الثالث: قوله سبحانه: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) فلو كان لفظة «ما» موصولة، يكون معنى الفقرة: فاللّاتي استمتعتم به منهن فآتوهنّ أُجورهنّ . ولو كانت شرطية فقوله: استمتعتم شرط وجزاؤه (فَآتُوهُنَّ ) ، أي: إن استمتعتم به منهن فآتوهنّ أُجورهنّ . (فَرِيضَةً ) حال من أُجورهن.

ثمّ إنّ المهم في تفسير هذا المقطع بيان ما هو المراد من قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ) فهل يُريد الزواج الدائم، أو المؤقّت من الحرائر، أو زواج الأمة ؟

والاحتمال الثالث مندفع لأنّه يأتي بيان حكم الأمة في الآية التالية، فالأمر يدور بين الزواج الدائم والمؤقّت.

أقول: هناك قرائن في نفس الآية وما بعدها على أنّ المراد هو الزواج المؤقّت، خلافاً للعديد من مفسّري السنّة، وسنعود إلى بيان ذلك بعد إتمام تفسير الفقرة الرابعة.

الرابع: قوله سبحانه: (وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ ) يشير إلى أنّ الزوجين بعدما فُرض الأجر في متن العقد، ربّما يتراضيان بعد العقد على إسقاط جزء ممّا فرضا عند العقد، فلا جناح عليهما بعد التراضي.

ص: 423

ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً) بحاجات الإنسان (حَكِيماً) في تشريعه.

***

حكم الزواج المؤقّت
اشارة

بعد أن تمّ تفسير فقرات الآية، بقي الكلام في تعيين المراد من قوله سبحانه: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) هل أُريد به الزواج الدائم أو المؤقّت ؟

أقول: إنّ القرائن تدلّ على أنّ المراد هو الثاني. ولا يعدل عن تلك القرائن إلّا المتعصّب على مذهبه الفقهي. وإليك بيانها:

القرينة الأُولى: المراد من قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ) هو عقد الاستمتاع لا التلذّذ

أقول: الاستمتاع يطلق ويُراد به أحد المعنيين:

أ. (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ) : أي تلذّذتم بالنساء بالنكاح (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) .

ب. المراد به عقد الاستمتاع.

والمعنى الثاني هو المتعيّن لأنّ اللّه علّق وجوب إعطاء المهر بالاستمتاع، وذلك يقتضي أن يكون معنى هذا هو العقد المخصوص دون الجماع والالتذاذ، لأنّ الأجر يجب بالعقد، لا بالالتذاذ والجماع.

وإن شئت قلت: إنّ ترتّب دفع الأُجرة على الاستمتاع أشبه بترتّب الجزاء على الشرط، فلو أُريد بالاستمتاع العقد لصحّ الترتّب لأنّ المهر كلّه يجب بمجرّد العقد، غاية الأمر يُردّ النصفُ بالطلاق قبل الدخول إلى الزوج في العقد الدائم،

ص: 424

ص: 425

يجب علينا إمعان النظر فيما تهدف إليه جملة: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) ، فهنا احتمالات:

أ. تحليل النكاح الدائم.

ب. التأكيد على دفع المهر بعد الاستمتاع.

ج. نكاح المتعة.

أمّا الأول فالحمل عليه يستلزم التكرار بلا وجه؛ لأنّه سبحانه بيّن حكمه في الآية الثالثة من تلك السورة، أعني قوله سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) .(1)

وأمّا الثاني فهو كالأوّل بيّنه عزّ وجل في الآية الرابعة من هذه السورة، أعني قوله تعالى: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (2)، بل بيّنه في آيتين أُخريين أيضاً، أعني قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) (3)، وقوله سبحانه:

(وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً) (4) ، فلم يبق من الوجوه المحتملة التي تهدف إليها هذه الفقرة من الآية، إلّانكاح المتعة.0.

ص: 426


1- . النساء: 3.
2- . النساء: 4.
3- . النساء: 19.
4- . النساء: 20.
القرينة الثالثة: الجملتان المتقدّمتان على قوله:

(فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ )

إنّ في الجملتين المتقدّمتين على قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ ) أعني:

1. (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) 2. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) ، دليلاً على أنّ المراد هو الزواج المؤقّت، وأنّ المراد من الاستمتاع هو نكاح المتعة والعقد على المتمتّع بها.

أمّا الجملة الأُولى فتدلّ على أنّها بصدد بيان النكاح الذي للمال فيه دور، بحيث لولاه لبطل، وليس هو إلّانكاح المتعة الذي عُرّف بقوله: أجل مسمّى وأُجرة مسمّاة، فالأُجرة في نكاح المتعة ركن وإلّا لبطل، بخلاف النكاح الدائم إذ لا يجب ذكرها في العقد، يقول سبحانه: (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) (1)، فقوله: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) :

فلفظة «أو» بمعنى «الواو» أي قبل أن تفرضوا لهنّ فريضة، وهذا يدلّ على جواز النكاح مع عدم فرض المهر.

وأمّا الجملة الثانية أي: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) فاللّه سبحانه يؤكّد قبل الأمر بعقد الاستمتاع على كون الزوجين محصنين غير مسافحين، بأن يكون اللقاء بنيّة التعفّف لا الزنا، وبما أنّ عقد المتعة ربّما ينحرف عن مجراه فيتّخذ لنفسه لون السفاح لا الزواج، أمر سبحانه بأن يكون الهدف هو الزواج لا السفاح.

وبعبارة أُخرى: أنّ النكاح الدائم لا يتصوّر فيه السفاح، والذي يحتمل فيه قصد السفاح هو النكاح المؤقّت، فنهى اللّه سبحانه أن يكون العقد بتلك النيّة، بل

ص: 427


1- . البقرة: 236.

بنيّة التعفّف والزوجية.

ومن حسن الحظ أنّ هذا القيد جاء في نكاح الإماء أيضاً، في قوله تعالى:

(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) ، فتقدّم هاتين الجملتين على قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ) دليل على أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى النكاح المؤقّت لا الدائم.

فإن قلت: إنّ «الفاء» في قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) فاء التفريع، ولا تستعمل إلّاإذا سيق الكلام في الموضوع قبله ولو إجمالاً، ولازم ذلك وجود الإشارة إلى العقد المؤقّت قبل تلك الفقرة.

قلت: الإشارة موجودة وهي قوله سبحانه: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) وقد مرّ أنّ عقد المتعة ربما ينحرف عن مجراه الشرعي فيتّخذ لنفسه لون السفاح، فلذلك أمر سبحانه بأن يكون العمل على أساس الإحصان والعفاف لا السفاح والزنا، فرتّب على ذلك الأساس قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) .

إلى هنا ثبت أنّ الآية ليست مجملة، وإنّما هي صريحة في العقد المؤقّت.

نعم ادّعى مَن قال بتحريم المتعة بأنّ الآية منسوخة وهو بحث آخر، لا نحوم حوله.

حقيقة الزواج المؤقّت في القرآن الكريم

وبما أنّ قسماً من الباحثين من أهل السنّة، غير عارفين بحدود الزواج المؤقّت، فربما يتصوّرون أنّه عبارة عن مباشرة النساء المبتذلات في دور الفحشاء، نأتي بتعريفه حتى يتبيّن أنّ واقع الزواج المؤقّت لا يختلف عن الدائم إلّا في بعض الأحكام، فنقول:

ص: 428

الزواج المؤقّت: عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة، نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع - من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية - بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق، ويجب عليها بعد الدخول بها - إذا لم تكن يائسة - أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض، وإلّا فبخمسة وأربعين يوماً.

إنّ الزواج المؤقّت كالزواج الدائم لا يتمّ إلّابعقد صحيح دالّ على قصد الزواج، وكلّ مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون عقد فلا تكون متعة حتى مع التراضي والرغبة، ومتى تمّ العقد كان لازماً يجب الوفاء به.

هذا هو تعريف الزواج المؤقّت، وقد اتّفقت المذاهب الفقهية على أنّه كان حلالاً أحلّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بوحي من اللّه في برهة من الزمن، وإنّما اختلفوا في استمرار حليّته، فالشيعة الإمامية ولفيف من الصحابة والتابعين على بقاء الحليّة، خلافاً للمذاهب الأربعة فهي على التحريم.

الزواج المؤقت في صدر الإسلام

بزغت شمس الإسلام وكانت المتعة أمراً رائجاً بين الناس غير أنّ الإسلام حدّ لها حدوداً وجعل لها شروطاً كما مرّ، ويكفيك في ذلك دراسة تاريخها وذلك بملاحظة ما يلي:

1. ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت متعة النساء في أوّل الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته ولا يحفظ متاعه، فيتزوّج المرأة إلى قدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته، فتنظر له متاعه وتصلح له

ص: 429

ضيعته.(1)

2. أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانت المتعة في أوّل الإسلام... فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج بقدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه وتصلح له شأنه.(2)

3. أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن مسعود قال:

كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وليس معنا نساؤنا فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثمّ قرأ عبد اللّه (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ ) (3).(4)

4. أخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال: أذن لنا عام فتح مكة في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة....(5) 5. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد اللّه وسلمة بن الأكوع، قال: كنّا في جيش فأتانا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إنّه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا.(6)ح.

ص: 430


1- . تفسير الدر المنثور: 139/2-140.
2- . تفسير الدر المنثور: 139/2-140.
3- . المائدة: 87.
4- . صحيح مسلم: 130/4، باب نكاح المتعة؛ صحيح البخاري: 119/6، باب ما يكره من التبتل والخصاء من كتاب النكاح.
5- . تفسير الدر المنثور: 140/2؛ صحيح مسلم: 132/4، باب نكاح المتعة.
6- . صحيح البخاري: 129/6، كتاب النكاح.

6. أخرج مسلم في صحيحه بسنده: خرج علينا منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء.(1)

7. أخرج مسلم في صحيحه أيضاً بسنده عن سلمة بن الأكوع، وجابر بن عبد اللّه انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتانا فأذن لنا في المتعة.(2)

والأحاديث الأخيرة - بشهادة ما تقدّمها - تكشف عن كون الاستمتاع بالمرأة في ظروف خاصّة لغايات عقلائية، كان أمراً معروفاً، والنبي صلى الله عليه و آله و سلم أرشد بإذنه إليه، لا أنّه صلى الله عليه و آله و سلم ابتكره.

فإذا كان مثل هذا الزواج أمراً رائجاً بين الناس في عصر الرسالة فلا منتدحَ للشارع عن التعرّض له من خلال الإمضاء أو الرد، ولا يصحّ غض النظر عنه، بعد عدم كونها من قبيل السفاح، وإلّا فمن المستحيل أن يحلّله النبيّ ولو في فترة خاصّة: (قُلْ إِنَّ اَللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .(3)

صدور المنع في عصر الخليفة لثاني

قد عرفت دلالة الذكر الحكيم على حلية الزواج المؤقّت، كما وقفت على قسم قليل من السنّة النبوية التي صرّحت بشرعية المتعة في عصر النبوّة، إلى أن دال الأمر وقبض زمام الخلافة عمر بن الخطاب فنهى عن متعتين، متعة الحج (الإتيان بالعمرة والحج في زمن واحد)، ومتعة النساء، وبما أنّ بحثنا مركّز على الثانية نذكر ما يدلّ على صدور النهي في عصر خلافة الثاني:

ص: 431


1- . صحيح مسلم: 130/4، باب نكاح المتعة.
2- . صحيح مسلم: 130/4-131، باب نكاح المتعة.
3- . الأعراف: 28.

1. أخرج مسلم عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حُريث.(1)

2. وأخرج عن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد اللّه، فأتاه آت فقال:

ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.(2)

3. أخرج الترمذي أنّ رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن المتعة ؟ فقال:

هي حلال، فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها؟ فقال ابن عمر: أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد صنعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أأمر أبي نتّبع، أم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(3)

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: أنّه ربما يتصوّر بعض الكتاب أنّ العقد المؤقّت لا يختلف عن الفحشاء والزنا حتى قال قائلهم:

قول الروافض نحن أطيب مولد *** قول أتى بخلاف قول محمد

نكحوا النساء تمتعاً فولدن من *** ذاك النكاح فأين طيب المولد

وهذا المعترض إنّما اعترض بشعره لا بشعوره، حيث نسب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا استشعار أن نكاح المتعة يضاد طيب المولد، مع أنّ المفسّرين والفقهاء اتّفقوا على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أحلّ نكاح المتعة ولو في فترة قصيرة - كغزوة خيبر - فلو فرضنا أنّ 4.

ص: 432


1- . صحيح مسلم: 131/4، باب نكاح المتعة.
2- . صحيح مسلم: 131/4، باب نكاح المتعة.
3- . سنن الترمذي: 186/3، برقم 824.

التمتع يضاد طيب المولد فمعنى ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحل الفحشاء.

فنذكر في هذا الصدد رواية واحدة نموذجاً، حتى يظهر أنّ نكاح المتعة ليس مضاداً لطيب المولد.

أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه وسلمة بن الأكوع، قال: خرج علينا منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أذن لكم أن تستمتعوا (يعني متعة النساء). وفي لفظ: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتانا فأذن لنا في المتعة.(1)

فلو أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنكاح المتعة فإنّما أمر بأمر من اللّه سبحانه، فلو كان نكاح المتعة يعادل الزنا والفحشاء فمعنى ذلك أنّه سبحانه أمر بذلك!! (قُلْ إِنَّ اَللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .(2)

الثاني: أنّ بعض المفسّرين والفقهاء قالوا بدلالة الآية على جواز نكاح المتعة لكن الآية منسوخة بالسنّة.

أقول: القرآن قطعي ولا ينسخ إلّابدليل قطعيّ ، فهل الناسخ آية قرآنية أو سنّة قطعية ؟ وكلاهما منفيان، وأفضل شاهد على أنّ التحريم لم يصدر من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل عن بعض الخلفاء، ما رواه مسلم عن عمران بن حصين: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وأمرنا بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء.(3)ن.

ص: 433


1- . صحيح مسلم: 130/4، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح؛ صحيح البخاري: 13/7، باب نهي الرسول عن نكاح المتعة من كتاب النكاح. فمن أراد الوقوف على هذه الروايات فليرجع إلى صحيح مسلم، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- . الأعراف: 28.
3- . صحيح مسلم: 49/4، باب جواز التمتع، وفي الحديث إشارة إلى كلتا المتعتين.

الثالث: أنّ فقهاء السنّة يجوّزون النكاح الدائم لكن بنيّة الطلاق بعد سنة أو سنتين مثلاً.

فنقول: أي فرق بين نكاح المتعة بأجل معيّن مذكور في نفس العقد وبين ذلك النكاح المحدّد بأجل واقعاً غير مذكور في العقد؟! ومن المعلوم أنّ الثاني أشبه بالنفاق حيث إنّ العبارة ظاهرة في الدوام مع أنّ المنوي والمقصود هو المؤقّت.

الرابع: أنّ الشريعة الإسلامية شريعة خاتمة وكتاب اللّه خاتم الكتب، ومن المعلوم أنّ شريعة بهذا الوصف تُعالج كلّ المشاكل التي تواجه الأُمّة المرحومة إلى يوم القيامة، وها نحن نطرح على فقهاء أهل السنّة السؤال التالي وننتظر جوابهم:

إنّ النكاح المؤقّت دواء وليس بطعام، علاج لضرورات مقطعية، يحول دون انتشار الفساد في المجتمع الإسلامي، إذ ربما تطرأ على الإنسان ظروف لا يتيسّر من خلالها الزواج الدائم فلا يبقى أمامه سوى الأُمور الأربعة التالية:

1. كبت جماح الشهوة.

2. التردّد على بيوت الدعارة والفساد.

3. النكاح الدائم.

4. النكاح المؤقّت بالشروط التي وضعها الإسلام.

أمّا الأوّل: فمن المستحيل عادة أن يصون به أحد نفسه - إلّامن عصمه اللّه - ولا يطرق ذلك الباب إلّاالأمثل فالأمثل من الناس، وأين هو من عامّة الناس ؟!

وأمّا الثاني: ففيه - مضافاً إلى هدم الكرامة الإنسانية - شيوع الفساد والأمراض وتداخل الأنساب.

ص: 434

وأمّا الثالث: فلأنّه رهن نفقات كثيرة، لا يقدر على توفيرها؛ بل ربما يكون الرجل في مرحلة الدراسة لا يُريد الإقامة في ذاك البلد بل ينوي الرجوع إلى بلده حتى يعيش عند عشيرته وعائلته فيتزوّج هناك.

وأمّا الطريق الرابع: فهذا هو الدواء الذي قلنا إنّه ليس بطعام، بل هو علاج لضرورات مقطعية، فهو أروع السنن الإسلامية التي سنّها الإسلام وأراد بها صون كرامة الإنسان، ونعم ما قال الإمام علي عليه السلام: «لولا أنّ عمر نهى الناس عن المتعة ما زنا إلّاشقي».(1)

وبما أنّ دراستنا قرآنية فقد اقتصرنا على هذا المقدار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا: «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»(2)، وقد أجبنا عن عامّة الشبهات التي طرحت بوجه هذا الحكم الشرعي.

***1.

ص: 435


1- . تفسير الطبري (جامع البيان): 19/5؛ المصنّف لعبد الرزّاق الصنعاني: 500/7 برقم 14029؛ كنز العمال: 522/16، برقم 45728.
2- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 475/1-551.
في نكاح الأمة

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(1)

المفردات

طولاً: الطُول - بضم الطاء - خلاف العرض، وجمعه أطوال، وأمّا الطَول - بفتح الطاء - فهو القدرة والتمكّن، والظاهر أنّ المعنيين من باب واحد. يقول الشيخ الطوسي: الطَول الغِنى، وهو مأخوذ من الطُول خلاف القصر، فشُبّه الغِنى به لأنّه

ص: 436


1- . النساء: 25.

يُنال به معالي الأُمور.(1)

فتياتكم: يقال للأمة فتاة وإن كانت مسنّة.

المحصنات: بمعنى الحرائر، محصنات: العفيفات بقرينة ما بعده، أعني قوله: (غَيْرَ مُسافِحاتٍ ) .

أخدان: جمع خدن، وهم الأخلّاء السرِّيّون.

أُحصنّ : تزوّجن.

على المحصنات: وأُريد به أيضاً الحرائر.

العنت: الجهد والمشقّة.

التفسير
نكاح الأمة بشروط خمسة

لمّا بيّن سبحانه في الآية السابقة مَن يحلّ ومَن لا يحلّ من النساء الحرائر - الّتي هي الأكثرية الساحقة في المجتمع - جاء البيان القرآني لبيان تزويج الإماء بغير المالك، وإلّا فإنّ المالك يستمتع بها من غير عقد، وذكر أنّ في تزويج الإماء شروطاً خمسة:

اثنان منها في الناكح، والثلاثة في المنكوحة.

أمّا الناكح فيجوز له تزويج إماء الغير بإذن مالكهنّ بشرطين:

1. عدم التمكّن من التزويج بالحرّة، لأجل النفقة وغيرها، ممّا يستلزم

ص: 437


1- . التبيان في تفسير القرآن: 3/168.

إنفاقها قبل العقد وبعده، وإليه يشير سبحانه بقوله: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ ) .

2. إذا خشي العنت، والشبق الشديد الّذي ربّما يحمل الإنسان إلى الزنا أو يؤدّي بالإنسان إلى الأمراض الصعبة، أو المشقّة الشديدة التي لا تتحمّل عادة.

والوجه الأخير هو الأقوى، وإليه يشير سبحانه بقوله: (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ ) .

وأمّا الشروط المعتبرة في المنكوحة فهي أُمور ثلاثة:

1. مؤمنات لا كافرات، لقوله: (مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ) .

2. عفائف غير زانيات، لقوله: (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ) .

3. غير زانيات سرّاً، لقوله: (وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) .

ثم انتقلت الآية إلى الأمة المتزوّجة إذا أتت بفاحشة فحدّها نصف ما على الحرائر من العذاب، فقال: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ) .

وفي نهاية الآية يأمر اللّه سبحانه مَن يريد نكاح الأمة بالصبر ويصفه بأنّه خير؛ لأنّ في نكاح الإماء عواقب يُرغب عنها لأنهنّ مملوكات لمالكهنّ ، فربّما يريد إبطال نكاحهنّ ببيعهنّ لغيره. هذه هي خلاصة مضمون الآية إجمالاً. ولنرجع إلى تفسيرها حرفياً.

قوله تعالى: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) ربّما يتصوّر أنّ قوله:

(طَوْلاً) مفعول به لقوله: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ) وهو غير صحيح إذ يكون معنى الآية: فمَن لم يقدر منكم على القدرة، بل هو مفعول لأجله للفعل، يُبيّن جهة الاستطاعة

ص: 438

المذكورة في الآية. أي لا يستطيع من الناحية المالية (أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ ) : أي نكاح الحرائر العفائف، فعندئذٍ يحلّ له نكاح الإماء كما يقول (فَمِنْ ما) : أي فلينكح ممّا (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ) والخطاب للمسلمين المخاطبين لا للناكح، وقد أُضيف نسبة ملك اليمين إلى المؤمنين لاتّحادهم في الدين واتحاد مصالحهم كأنّهم شخص واحد، كما يقول: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) .

وبما أنّ نكاح الإماء يُعدّ أمراً غير محمود بين الناس جاء البيان القرآني يرفع شأن الإماء المؤمنات ويساوي بينهن وبين الأحرار في الخلقة والدين ويقول: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) كما قال سبحانه: (وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (1)، فلا ينبغي للمؤمن إذا تزوّج بالإماء أن يتصوّر أنّه عمل عملاً خارجاً عن شأنه، فإنّ المؤمنين والمؤمنات بعضهم من بعض، وقد مرّ أن المراد تزويج الإنسان بملك يمين غيره لا نفسه.

ثم إنّ تقييد المحصنات بالمؤمنات يدلّ على عدم جواز غير المؤمنات من أمة كتابية أو مشركة.

ثم إنّ التعبير عن الإماء بالفتيات نوع تكريم لهنّ مع أنّ قسماً منهنّ مسنّات.

ولمّا كان المستفاد من قوله: (اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ ) هو المؤمنة واقعاً، ومن المعلوم أنّ إحراز الشرط ربّما يكون مشكلاً، جاء البيان القرآني بأنّه لا سبيل لكم إلى العلم بإيمانهن (وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ ) فإنّكم مكلّفون بالجري على الأسباب الظاهرية الدالّة على الإيمان كالشهادتين والدخول في جماعة المسلمين والقيام1.

ص: 439


1- . التوبة: 71.

بالوظائف الدينية، فهذا هو الملاك في تزويجهنّ ، وهو أمر سهل.

قوله سبحانه: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) المراد من الأهل: المالك، فإنّ تزويج الأمة بغير إذن مالكها تزويج فضولي كتزويج الحرة بغير إذن وليها، وفي هذه الفقرة دليل على أنّ الإسلام نظر إلى المسألة نظرة واقعية، فبما أنّ الناكح ليس له بدّ إلّاالزواج من الإماء رخّص له زواجهن، غير أنّ التزويج من الإماء لمّا كان أمراً مذموماً غير محمود رفع منزلتهن. ولكن الأمة لمّا كانت ملكاً للغير شرط التزويج بإذن المالك (وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) حسب شأنها، فعلى الناكح دفع مهورهن: إمّا إليهنّ كما هو ظاهر الآية أو إلى المالك، كما عليه الفقهاء من أنّ الرق لا يملك شيئاً.(1)

ثم إنّه سبحانه بعد أن رخّص في التزويج من الأمة أشار إلى لزوم وجود أوصاف أربعة في الأمة:

1. من فتياتكم المؤمنات.

2. محصنات: أي العفائف.

3. غير مسافحات: أي غير مستأجرات للبغاء جهراً.

4. غير متخذات أخدان: أي غير زانيات سرّاً.

ولك إرجاع الوصفين الأخيرين إلى الوصف الثاني، فإذا كنّ محصنات أي عفائف، فلازم ذلك أن يكنّ غير مسافحات ولا متخذات أخدان. وأُريد من الأوّل البغاء جهراً، ومن الثاني البغاء سرّاً، واللّه سبحانه نهى عن كلا القسمين، وقال:

(وَ لاء.

ص: 440


1- . لاحظ: الوسائل: 14، الباب 87 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) .(1)

ولمّا كانت الغاية من تزويج الإماء تشكيل الأُسرة والإنجاب وحفظ النسل، ألزم سبحانه وجود العفّة في الإماء الّتي تلازم الاجتناب عن البغاء جهراً وسرّاً، وهذا يدلّ على عدم جواز نكاح الغانيات الأحرار إذا لم يتبن، والتفصيل في محلّه.

ثم إنّه سبحانه يذكر حدّ الأمة المحصنة المتزوّجة ويقول: (فَإِذا أُحْصِنَّ ) بالتزويج (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ) فالحدّ المقرّر لهن ما في قوله: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ) فالفقرة ناظرة إلى قوله سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (2) وعلى ذلك فعليهنّ خمسون جلدة، والشاهد على أنّ الآية ناظرة إلى الجلد دون الرجم، أمران:

1. أنّ الجلد هو الّذي يقبل التنصيف لا الرجم.

2. قوله: (مِنَ اَلْعَذابِ ) : أي نصف ما هو عذاب مع بقاء الحياة، وهو يختصّ بالجلد، لكن بما أنّه سبحانه فرض أنّ الأمة متزوّجة وخصّ حدّها بما يقبل النصف فهو دليل على أنّ الرجم مرفوع عنها، وأنّه مختص بالحرائر، وعليه الفتوى.

قال المحقّق «في الشرائع»: والمملوك يجلد خمسين محصناً كان أو غير محصن ذكراً أو أُنثى.(3)

ويؤيّده ما رواه الشيخ بإسناده عن بريد العجلي، عن أبي عبداللّه عليه السلام، في5.

ص: 441


1- . الأنعام: 151.
2- . النور: 2.
3- . شرائع الإسلام: 4/155.

الأمة تزني، قال: «تجلد نصف الحدّ كان لها زوج أو لم يكن لها زوج».(1)

وعنه عن البرقي عن زرارة عن الحسن بن السري، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

«إذا زنى العبد والأمة وهما محصنان فليس عليهما الرجم، وإنّما عليهما الضرب خمسين، نصف الحد».(2)

قوله: (ذلِكَ ) : أي نكاح المؤمنات من إماء المسلمين لمن لم يجد طولاً أن ينكح الحرائر المؤمنات إنّما هو (لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ ) والمفسّرون على أنّ المراد من العنت هو الزنا، مع أنّه في اللغة بمعنى الشدّة والمشقّة، والأَولى تفسيره بمَن خشي الشدّة والمشقّة بسبب العزوبة أو خشي عرضاً من العوارض الجسمية والروحية. وقد مرّ ما هو الأقوى في تفسير المفردات.

وفي ختام الآية يأمر بالصبر عن نكاحهن ويقول: (وَ أَنْ تَصْبِرُوا) : أي أن تكفّوا عن نكاح الإماء فهو خير لكم لا لنقص في المنكوحة أو حزازة فيها لما مرّ قوله سبحانه: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) بل لأجل ما يترتّب عليها من جانب الموالي، حيث مرّ أنّ بيعهن طلاق لهنّ ، فبما أنّ نكاحهنّ في معرض الفسخ، فالاجتناب عنه مهما أمكن أفضل. ثم قال تعالى: (وَ اَللّهُ غَفُورٌ) لمن خالف التشريع الإلهي فيما سبق (رَحِيمٌ ) بعباده.

ثمّ إنّ في نكاح الإماء أبحاثاً تعرّض لها الفقهاء في كتبهم الفقهية، وبما أنّ الموضوع خارج عن الابتلاء في حياتنا المعاصرة، اقتصرنا بذلك.ب.

ص: 442


1- . الوسائل: 18، الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.
2- . الوسائل: 18، الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 3، ولاحظ: أحاديث الباب.
في حرمة نكاح المشركات والمشركين

الآية السابعة

اشارة

قال سبحانه: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ) .(1)

المفردات

ولا تَنكحوا (بفتح التاء): يطلق النكاح على العقد، وقد بيّنا وجه ذلك في تفسير قوله سبحانه: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ) (2).

ولا تُنكحوا (بضمّ التاء): خطاب للأولياء إذا أرادوا تزويج بناتهم.

المشركات والمشركين: هو في المصطلح القرآني من يشرك باللّه شركاً ظاهرياً كعبادة الأصنام والأوثان والكواكب، وهذا ما يُسمّى بالشرك العظيم، وأمّا الشرك الصغير فهو مراعاة غير اللّه معه في بعض الأُمور كالرياء والنفاق، وبهذا فُسّر قوله سبحانه: (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) (3).

وعلى هذا فالمشركون غير أهل الكتاب، ولذلك نرى أنّه سبحانه يفرّق بينهما ويقول: (لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى

ص: 443


1- . البقرة: 221.
2- . النساء: 3.
3- . يوسف: 106.

تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ ) (1) ، وفي آية أُخرى، قال: (إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ اَلْبَرِيَّةِ ) .(2)

يدعون: الدعوة إلى النار يمكن أن تكون قولية ويمكن أن تكون سلوكية، كما سيأتي توضيحه في تفسير الآية.

التفسير
النهي عن نكاح المشركات ونكاح المشركين

إنّ قسماً كبيراً من آيات سورة البقرة يرجع إلى بيان الأحكام الشرعية، حيث إنّ المسلمين لمّا استقرّوا في المدينة اقتضى ذلك بيان كثير من الأحكام التي يجب عليهم الالتزام بها، وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم أخذ لبيان نظام الأُسرة من آيتنا هذه(3) إلى الآية 242، والجميع يرجع إلى نظام الأُسرة ويعتمد على معين الفطرة، وبذلك يُعلم أنّ مَنْ جاء به قد عاش في بيئة أُمّية، فمن أين جاء بهذا النظام الفائق الذي يذكر حاجات الإنسان وعلاجها؟!

إنّه سبحانه نهى في الآية عن نكاح المشركات ونكاح المشركين، وقد ورد النهي في موردين:

1. قوله: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) وذلك لأنّ النكاح ليس مجرّد ضمّ إنسان إلى إنسان وإن كان بينهما - في العقيدة والسلوك - بعد المشرقين ؟

ص: 444


1- . البيّنة: 1.
2- . البيّنة: 6.
3- . البقرة: 221.

بل هو بناء بيت وأُسرة يكون بين الزوجين كمال الأُلفة، ومن المعلوم أنّ الرجل المسلم على عقيدة والمرأة المشركة على عقيدة أُخرى، وإذا لم تكن صلة بين قلبين فلا تتحقّق بينهما الأُلفة، ولذلك رجّح سبحانه نكاح الأمة المؤمنة على نكاح المشركة الحرّة، وإن أعجبت المشركة بجمالها ومالها وأُسرتها لما عرفت من أنّ في زواج المشركة ضم إنسان إلى إنسان فقط بخلاف المؤمنة وإن كانت دونها في الجمال والمال فهو اجتماع إنسانين بينهما كمال الأُلفة في الفكر والعقيدة، وحاصل هذه الفقرة هو النهي عن نكاح المشركة والأمر بنكاح الأمة المؤمنة وتفضيلها على المشركة.

2. ثم يأتي دور النهي الثاني واللّه سبحانه ينهى عن إنكاح البنت المسلمة للرجل المشرك ويقول: (وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا) الخطاب للأولياء ووجهه واضح، لأنّ للرجل نوع تفوّق على المرأة باعتبار أنّه المنفق والمدير فتؤثّر عقيدته على المرأة المؤمنة، ولذلك نرى أنّه سبحانه يفضل إنكاحها للعبد المؤمن على المشرك الحر ويقول: (وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ ) ماله ومكانته الاجتماعية.

نعم هذا النهي محدّد إلى بقائهم على الشرك، وأمّا إذا آمنوا فيرتفع النهي.

وبما أنّ في نكاح الرجل المشركة، وتزويج المؤمنة بالمشرك، الأنس بالشرك والبعد عن اللّه سبحانه بخلاف نكاح المؤمنة والمؤمن، ففي هذا النكاح أُنس بالإيمان والتقرّب من اللّه سبحانه - لأجل ذلك يقول سبحانه -: (أُولئِكَ ) يعني: المشركون، (يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ) : أي إلى الشرك الذي هو سبب دخول النار، خصوصاً إذا كان الزوج مشركاً والزوجة مؤمنة، فيؤثر في دين الزوجة (وَ اَللّهُ يَدْعُوا

ص: 445

إِلَى اَلْجَنَّةِ ) : أي إلى عمل يوجب الجنة والمغفرة وهو عقد النكاح بين المؤمن والمؤمنة، ولأجل أن يبيّن أنّ ما ذكر من التحريم أبدي قطعي لا ينسخ فيقول:

(وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ ) : أي حججه (لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) : أي يتّعظون، ولعلّ في قوله: (يَتَذَكَّرُونَ ) إشارة إلى أنّ النهي عن نكاح المشرك والابتعاد عنه والأمر بنكاح المؤمن والقرب منه أمر فطري تدعو إليه الفطرة أيضاً لما أنّ في الأوّل اجتماع إنسانين لغاية إثارة الشهوة لا التعارف بين الروحين، بخلاف الثاني.

ثمّ إنّ الآية تنهى عن زواج المشرك زوجاً وزوجة، وأمّا الكتابي فهو موضوع آخر سيأتي الكلام فيه في تفسير الآية التالية.

عثرة لا تستقال لمؤلف «الفقه على المذاهب الأربعة»

وفي ختام البحث نشير إلى هفوة بيّنة لمؤلّف كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»، حيث فتح باباً بعنوان: (مبحث المحرّمات لاختلاف الدين) فقال:

المخالفون للمسلمين في العقيدة ثلاثة أنواع:

الأوّل: لا كتاب لهم سماوي ولا شبهة كتاب، وهؤلاء هم عُبّاد الأوثان... - إلى أن قال -: ويلحق بهؤلاء المرتدّون الذين ينكرون المعلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، كالرافضة الذين يعتقدون أنّ جبريل غلط في الوحي، فأوحى إلى محمد مع أنّ اللّه أمره بالإيحاء إلى عليّ . أو يعتقدون أنّ عليّاً إلهاً، أو يكذب(1)بعض آيات القرآن فيقذف عائشة.(2)

ص: 446


1- . هكذا في المصدر ومقتضى سياق العبارة: أو يكذبون.
2- . الفقه على المذاهب الأربعة: 75/4.

أقول: إنّ الشيخ الجزيري افترى في كلامه هذا على الشيعة ثلاثة افتراءات:

1. أنّ الشيعة يعتقدون بأنّ الأمين خان.

2. أنّ الشيعة يؤلّهون عليّاً.

3. يكذّبون بعض آيات القرآن فيقذفون عائشة.

وإليك دراسة هذه الافتراءات:

أمّا الأوّل فنحن نسأله:

أوّلاً: ما هو دليلكم على أنّ الرافضة يعتقدون بأنّ جبرئيل خان في الوحي.... إلخ.

ونحن نطلب منه دليلاً واحداً حتى ولو في كتاب مهمل وغير معروف من كتب الشيعة، فإنّ الشيعة بُراء من هذه التهمة، كبراءة يوسف عليه السلام ممّا اُتّهم به.

وثانياً: أنّ هذه النسبة قد وردت في غير محلّها، فإنّ اليهود هم الذين يعتقدون بأنّ جبرئيل غلط في إبلاغ الوحي، وهذا ما ينقله الرازي في تفسيره في تفسير قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ...) (1)، حيث قال: قال مقاتل: زعمت اليهود أنّ جبرئيل عليه السلام عدوّنا، أُمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا، فأنزل اللّه هذه الآيات.(2)

ولعل مَن قرّظ كتاب «الصراع بين الإسلام والوثنية»، قد اعتمد على هذا الكتاب في التقوّل بهذه التهمة، حيث مدح الكتاب بشعره لا بشعوره وقال:3.

ص: 447


1- . البقرة: 97.
2- . تفسير الرازي: 195/3.

ويحمل قلبهم بغضاً شنيعاً *** لخير الخلق ليس له دفاعُ

يقولون الأمينُ حبا بوحيٍ *** وخانَ وما لَهم عن ذا ارتداعُ

هذا حول التهمة الأُولى، وأمّا الثانية من أنّهم يؤلّهون عليّاً، فنمرّ على هذا الافتراء مرار الكرام، جزاه اللّه جزاء المفترين.

وأمّا التهمة الثالثة - أعني: تكذيب بعض آيات القرآن النازلة في حقّ عائشة - فيكفي في بطلان هذه التهمة ما ذكره مفسر الشيعة الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» حول قصة الإفك، فإنّ الشيعة عامّة ينزّهون أزواج الأنبياء عن الفحشاء.

قال: ما بغت امرأة نبيّ قط، وإنّما كانت خيانة زوجتي نوح ولوط في الدين، لأنّهما كانتا كافرتين فقط.(1)

ولنا رسالة خاصّة حول الموضوع في كتابنا «رسائل ومقالات» تحت عنوان «موقف الشيعة الإمامية من حديث الإفك».(2)4.

ص: 448


1- . مجمع البيان: 69/10، تفسير سورة التحريم.
2- . راجع: رسائل ومقالات: 231/1-234.
نكاح العفائف من أهل الكتاب

الآية الثامنة

اشارة

قال سبحانه: (اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ) .(1)

المفردات

المحصنات: العفائف.

محصنين: أعفّاء غير زانين.

أخدان: جمع الخدن بمعنى الصديق يطلق على الذكر والأُنثى ، وربما يكنّى عن الزنا في السرّ.

حبط: الإحباط ضياع العمل وعدم استحقاق الثواب.

ص: 449


1- . المائدة: 5.
التفسير

تتضمّن الآية أحكاماً أربعة:

1. حليّة الطيبات في اليوم المعيّن.

2. حليّة طعام المسلمين لأهل الكتاب.

3. حليّة المحصنات المؤمنات، وقد كانت المحصنات المؤمنات حلالاً قبل نزول السورة فكيف صرن حلالاً في نفس اليوم، وسيوافيك وجهه.

4. حليّة نكاح المحصنات من الذين أُوتوا الكتاب.

والذي له صلة بمقامنا هنا هو الحكم الرابع، والحكم الثالث بحثنا عنه سابقاً وما بقي نبحث عنه في كتاب الأطعمة والأشربة، إن شاء اللّه تعالى.

نكاح العفائف من أهل الكتاب

لمّا تقدّمت حرمة نكاح المشركات(1) جاء البيان القرآني يحلّل نكاح نساء أهل الكتاب إذا كُنّ محصنات أي عفائف مجتنبات عن السفاح، وأُريد بالمحصنات (الذي تكرّر ذكرها في هذه الآية ثلاث مرّات) العفائف.

أحلّ سبحانه في هذه الآية نكاح موردين:

1. (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ ) .

2. (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ ) .

ثمّ ذكر شروطاً ثلاثة وقال:

ص: 450


1- . لاحظ: البقرة: 221، والمشهور أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

أ. (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) .

ب. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) .

ج. (وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ) .

والظاهر أنّ القيود الثلاثة ترجع إلى نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب. ثمّ إنّ المراد من قوله: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) : أي أعفّاء غير زانين، ولعلّ المراد أن يكونوا قاصدين النكاح والتزويج ويكون دفع الأجر بعنوان المهر، لا أُجرة السفاح.

قوله: (وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ) : أي اتّخاذهم صديقات يفجرون بهنّ .

ثمّ إنّه سبحانه يختم الآية بقوله: (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ ) أُريد بالإيمان:

الأحكام التي سبق ذكرها في هذه الآية وما قبلها. فالإيمان مصدر أُريد به معنى المفعول، أي ما يؤمن به كالخلق يطلق على المخلوق، والأكل بمعنى المأكول، ومَن كفر (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) فلا يستحقّ أجراً على أعماله الصالحة (وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ) : أي الهالكين.

حكم نكاح المسلم الكتابية

إنّ ظاهر الآية هو جواز نكاحها بالشروط الموجودة في الآية، وقد تقدّم أنّ المراد من الأجر في الآية هو المهر... غير أنّ لأصحابنا في نكاحهن أقوالاً: قال الشيخ الطوسي: المحصلون من أصحابنا يقولون: لا يحلّ نكاح من خالف الإسلام، لا اليهود ولا النصارى ولا غيرهم. وقال قوم من أصحاب الحديث من

ص: 451

أصحابنا: يجوز ذلك.(1)

وقال المحقّق: لا يجوز للمسلم نكاح غير الكتابية إجماعاً، وفي تحريم الكتابية من اليهود والنصارى روايتان أشهرهما المنع في النكاح الدائم والجواز في المؤجّل، وكذا حكم المجوس على أشبه الروايتين.(2) وعلى هذا ففي المسألة أقوال ثلاثة:

1. التحريم مطلقاً.

2. الجواز مطلقاً.

3. التفصيل بين الدائم والمؤقّت، فلا يجوز دواماً ويجوز مؤقّتاً.

وهناك قول رابع وهو خيرة صاحب الجواهر، قال: التحقيق: هو الجواز مطلقاً على كراهية متفاوتة في الشدّة والضعف بالنسبة إلى الدائم والمنقطع، وبالنسبة إلى مَنْ يستطيع نكاح المسلمة وغيره، وبالنسبة إلى مَنْ يكون عنده المسلمة وغيره، وبالنسبة إلى البُله منهن إلى غيرهنّ ، مستدلّاً على الجواز بقوله سبحانه: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وهي آية محكمة لا نسخ فيها، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ سورة المائدة آخر القرآن نزولاً، فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» ثم استدلّ بالروايات التي تدلّ على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم ينسخ منها شيء.(3)

إنّ ما اختاره المحقّق من التفصيل هو ما يمكن استنباطه من الآية، والقرائن0.

ص: 452


1- . الخلاف: 314/4، المسألة 84.
2- . شرائع الإسلام: 254/2.
3- . جواهر الكلام: 31/30.

الدالّة عليه عبارة عن الأُمور التالية:

1. التعبير عن المهر بالأجر، فإنّ الأجر وإن كان يطلق على المهر أيضاً، لكن انتخاب لفظ الأجر على المهر في الآية يصلح أن يكون قرينة على أنّ المراد هو النكاح المؤقّت.

2. أن يكون النكاح لغاية الإحصان أي العفّة لا السفاح كما يقول:

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) ، فإنّ الانحراف قد يتطرّق إلى العقد المؤقّت لا إلى الدائم، ولذلك جوّز نكاحهن بما ذكر.

3. (وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ) فإنّ اتّخاذ الخدن أكثر احتمالاً في المؤقّت دون الدائم. فتكون خدنا لكن بصورة النكاح المؤقت، ولأجل ما ذُكر فالقول بالتفصيل أفضل. بقي الكلام فيما استدلّ به على حرمة نكاح نساء أهل الكتاب.

ما استدلّ به على حرمة نكاح الكتابيّة
اشارة

استدلّ على ذلك بما يلي:

1. النهي عن نكاح المشركات

إنّ الآيات الناهية عن نكاح المشركات ناسخة لآيتنا كقوله سبحانه: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) .(1)

يلاحظ عليه: أنّ الكتابية ليست مشركة حسب تعبير القرآن الكريم؛ لأنّه سبحانه يعدّهم في مقابل المشركين، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ

ص: 453


1- . البقرة: 221.

هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ) (1) ، وعلى غرار هذه الآية ومفهومها آيات عديدة كقوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ ) (2).

2. النهي عن نكاح الكوافر

دلّ قوله سبحانه: (وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ) (3) على عدم إبقاء العلاقة بين المسلم والكافرة، فإنّ إطلاقها يشمل المشركة والذمّية.

يلاحظ عليه: الظاهر أنّ المراد من الكوافر هنّ المشركات؛ وذلك لأنّه لمّا نهى سبحانه عن إبقاء العلاقة بين المسلمة والكافر كان ثمّة رجال من قريش قد أسلموا فهاجروا إلى المدينة، بينما بقيت نساؤهم على الكفر في مكّة، فجاءت الآية لبيان تكليف هؤلاء الأزواج، فقال سبحانه: (وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ) :

أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات المشركات.

ويشهد على ذلك أنّ الآية نزلت في كفّار قريش ونسائهم، ولم يكن يوم ذاك أي كافرة كتابية أسلم زوجها وبقيت هي على الكفر. ومَن قرأ سورة الممتحنة يذعن بذلك.

3. عموم التعليل في مورد نكاح المشركة

ذكر سبحانه وجه المنع عن نكاح المشركة وهو: (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى

ص: 454


1- . الحج: 17.
2- . البيّنة: 1.
3- . الممتحنة: 11.

اَلنّارِ) (1) ، وهذا الوجه موجود في نكاح الكتابية أيضاً.

أقول: وهذا الوجه وجيه لولا أنّ قوله: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أظهر في الجواز، فيكشف عن ضيق التعليل واختصاصه بالمشركة. هذا وبما أنّ المسألة فقهية لا يصحّ القضاء البات فيها، إلّابدراسة الروايات كلّها، فنحيل إتمام البحث إلى الكتب الفقهية.

***1.

ص: 455


1- . البقرة: 221.
في حرمة نكاح الزانية

الآية التاسعة

اشارة

قال سبحانه: (اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ ) .(1)

التفسير

الآية تشتمل على فقرات ثلاث:

الفقرة الأُولى: تحكي عن حال الزاني وأنّه لا ينكح إلّازانية أو مشركة.

الفقرة الثانية: تحكي عن حال الزانية وأنّه لا ينكحها إلّازانٍ أو مشرك.

الفقرة الثالثة: تحكم بحرمة ذلك على المؤمنين، أي حرمة نكاح الزانيات والمشركات على المؤمنين.

أمّا الفقرتان الأُوليان فربما يقال: إنّهما ليستا بصدد التشريع، بل مسوقتان للإخبار عن مرتكبي هذه الفاحشة، وأنّ من خبثت فطرته لا يميل إلّالمن يشابهه في الخباثة والتجانس في الفساد، والزاني لا يميل إلّاإلى الزانية ومَنْ هي أفسد منها وهي المشركة، وكذلك الزانية لا تميل إلّاإلى مثلها كالزاني أو مَن هو أفسد منه

ص: 456


1- . النور: 3.

كالمشرك.

وحصيلة هذا الوجه: أنّ الفقرة خرجت مخرج الذم، لا التحريم نظير ما جاء في قوله سبحانه: (اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ) (1).

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّه لو لم تكن الفقرة بصدد التشريع، يلزم القول بكراهة تزويج المسلم الزاني، المشركة، مع أنّ نكاح المشركة حرام قطعاً لما مرّ من قوله سبحانه: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) (2).

وثانياً: أنّ الفقرتين ليستا بصدد الإخبار لوضوح عدم صحّته؛ لأنّ الزاني ربما يعقد على المؤمنة العفيفة الطاهرة، كما أنّ الزانية ربما تتزوّج عفيفاً طاهراً، فيلزم التخلّف في الخطاب، إلّاأن يُحمل على الغالب.

وعلى هذا فالفقرتان بصدد التشريع والتحريم، وهو أنّه يحرم على الزاني، نكاحُ الزانية والمشركة، كما يحرم على الزانية تزويج نفسها بالزاني والمشرك، ولا يعدل عنه إلّابدليل.

وثالثاً: لو قلنا بأنّ الفقرة بصدد الذم، لا التحريم تكون النتيجة عدم الدلالة على التحريم، لا الدلالة على الخلاف.

الوجه الآخر: أنّ الفقرتين بصدد التحريم، أي لا يجوز للزاني نكاح الزانية والمشركة، كما لا يجوز على الزانية تزويج نفسها بالزاني أو المشرك.

فإن قلت: فإذا كانت الفقرتان بصدد التحريم والتشريع، فما معنى قوله1.

ص: 457


1- . النور: 26.
2- . البقرة: 221.

سبحانه: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ ) (1) لأنّ المفروض أنّ النكاحين حرام مطلقاً على المؤمنين وغيرهم، فما هو الوجه بتخصيص الحرمة على المؤمنين ؟

قلت: إنّ وجه التخصيص هو وجود روح الامتثال في المؤمنين دون غيرهم، فالمسلم الزاني يحرم عليه نكاح الصنفين، كما أنّ المسلمة الزانية يحرم عليها تزويج نفسها بالصنفين، ولكن روح العصيان في الموردين سبّب تخصيص الحكم بالمؤمنين.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ نكاح الزانية والمشركة حرام يدلّ عليه صدر الآية وذيلها.

دليل المخالفين على الجواز

ثمّ إنّ المخالفين استدلّوا على القول بالجواز بتأويل الآية بأحد الوجهين التاليين:

1. أنّ النكاح في الآية ليس بمعنى العقد بل بمعنى الوطء، وأنّ اسم الإشارة في قوله: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ ) يشير إلى النكاح لكن المقصود منه الوطء المساوق في المقام مع الزنا، لا التزويج. ومعنى الآية: الزاني والمشرك يطأ الزانية والمشركة، ولكن وطؤهما حرام على المؤمن لكونه زناً.

وبعبارة أُخرى: المراد أنّ الزّاني لا يزني إلّابزانية أو بمثلها وهي المشركة، وإنّ الزانية لا تزني إلّابزانٍ أو بمثله وهو المشرك، وأمّا المؤمن فهو ممتنع عن ذلك؛ لأنّ الزنا محرّم وهو لا يرتكب ما حرّم عليه.(2)

ص: 458


1- . النور: 3.
2- . البيان في تفسير القرآن: 384.

يلاحظ عليه: أنّ النكاح لم يستعمل في القرآن إلّافي التزويج، فقد ورد اللفظ فيه حوالي 23 مرتبة بمشتقّاتها المختلفة. والمتبادر في الجميع هو العقد حتّى في قوله سبحانه: (وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (1) فحمل اللفظ (النكاح) الذي أُشير إليه بلفظ: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ ) في المورد على الوطء، بعيد جدّاً.

2. حمل «التحريم» في قوله تعالى: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ ) على الكراهة، وهو أبعد، مع عدم استعماله في الذكر الحكيم إلّافي الحرمة القطعية، وليس التصرّف في دلالة الذكر الحكيم مع كونه نصّاً في مفاده، أمراً سهلاً، فالقول بالحرمة أقوى وأحوط، إلّاإذا قدر على منعها عن العهر فيجوز، لانصراف الآية عن هذه الصورة، ولعلّ ما دلّ على الجواز محمول على هذه الصورة.

فعلى ما ذكرنا فمقتضى الآية أنّه لا يجوز للمؤمن العقد على الزانية ونكاحها، أمّا المشركة فقد مرّ تحريم نكاحها فيما سبق.

نعم القدر المتيقّن من التحريم في كلٍّ من جانب الزاني والزانية هو مَنْ لم يتب، فلأجل أنّ التائب من ذنبه كمن لا ذنب له، فلا مانع من الإفتاء بهذا وإن خالف فيه بعض الفقهاء.

هذا هو مفهوم الآية، غير أنّ الروايات في المقام مختلفة.

يقول صاحب الحدائق: والأخبار في هذا المقام كثيرة، إلّاأنّها مختلفة جدّاً على وجه يعسر انطباقها لا سيّما على القول المشهور، وأصحابنا (رضوان اللّه عليهم)، لم يستوفوها كملاً في الكتب الاستدلالية، ولم يجمعوا بينها على وجه0.

ص: 459


1- . الممتحنة: 10.

يحسم مادّة الإشكال في هذا المجال.

ثمّ قال: ولا يخفى على مَن راجعها أنّها قد خرجت على أقسام ثلاثة.(1)

أقول: إنّ وجه الجمع بين الروايات هو حمل الروايات المجوّزة على ما إذا قدر على منعها عن العهر، فيجوز لانصراف الآية عن هذه الصورة، وسواء أصحّ الجمعُ بين الروايات المختلفة بما ذكرناه أم لا، فصريح الآية، هو الحجّة الكبرى لا يعدل عنه إلّابدليل قطعي كاشف عن كونها منسوخة، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر التالية:

1. الحدائق الناضرة.(2)

2. جواهر الكلام.(3)

3. نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء.(4)

***

إلى هنا تمّت دراسة مَن يحرم نكاحهن ومن يحلّ .

فإن قلت: إنّ نكاح الخامسة يحرم على مَن عنده زوجات أربعة.

قلت: المقصود من الموصول - أعني «من يحرم» - هو العنوان الخاص، كالبنت والأُخت، ونكاح الخامسة ليس من تلك العناوين وإنّما هو عنوان عام.

وبما ذكرنا يظهر حال بعض ما لم نذكره.

***2.

ص: 460


1- . الحدائق الناضرة: 491/23.
2- . الحدائق الناضرة: 491/23-501.
3- . جواهر الكلام: 439/29-444.
4- . نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 60/2-62.

أحكام النكاح

4. أحكام المهور في الذكر الحكيم

اشارة

إنّ المرأة الكريمة تنتقل من بيت والديها إلى بيت زوجها وليس معها إلّا جمالها وأخلاقها وروحها الشفّافة، مع ما يهبها أهلها من وسائل المنزل ونحو ذلك. ومقتضى الحال وجود مبادلة من جانب الزوج وهو تكريمها بتقديم المهر لها.

وعلى هذا فليس المهر ثمناً للمرأة، حتى يشتريها الزوج بذلك الثمن، ورغم أنّ بعض الروايات اشتملت على عبارة «يشتريها بأغلى الثمن» لكنّها تُعدّ نوعاً من أنواع المطايبة، ولذلك نرى البيان القرآني يصف المهر بالنحلة التي هي بمعنى العطية، فأمر اللّه سبحانه الأزواج أن يتبرّعوا بإعطاء المهور عطية منهم لزوجاتهم. وإليك دراسة الآيات في هذا الصدد:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) .(1)

ص: 461


1- . النساء: 4.
المفردات

صدُقاتهنّ : قال ابن فارس: أصل يدلّ على قوّة في الشيء قولاً وغيره، ومن ذلك الصدق: خلاف الكذب، سُمّي لقوّته في نفسه؛ ولأنّ الكذب لا قوّة له، وهو باطل.(1) وسُمّي مهر المرأة صداقاً لقوّته وأنّه حقّ يلزم.

نحلة: أي عطية، وقد أمر اللّه سبحانه الأزواج أن يتبرّعوا بإعطاء المهور عطية منهم لزوجاتهم.

نفساً: تمييز لقوله: (طِبْنَ ) أي طابت أنفسهن بهبة شيءٍ من الصداق لكم.

هنيئاً: نعمة بلا كدّ ولا تبعة.

مريئاً: سائغاً، كالطعام السائغ ينزل في المريء بسهولة ولا غُصّة.(2)

التفسير
وجوب إيتاء الصداق (المهور) إلى النساء

إنّ سورة النساء تتكفّل ببيان ما للنساء وما عليهن من الحقوق والواجبات، ومن آيات هذه السورة، الآية الرابعة، وهي تتضمّن الالتزام بأمرين:

1. ما جُعل في العقد مهراً للنساء يجب دفعه إليهنّ بتمامه، بلا نقص.

2. جواز أخذ شيء منه إذا طابت أنفسهنّ به.

واختتم سبحانه الآية بخطاب للأزواج، بقوله: (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) : أي إذا

ص: 462


1- . معجم مقاييس اللغة: 339/3، مادة «صدق».
2- . المفردات مادة «مري».

وهبن مهورهن لكم بطيب النفس.

أمّا الأمر الأوّل فالظاهر أنّ قوله سبحانه: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ ) عطف على قوله في الآية قبلها: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) والصلة بين الفقرتين واضحة لوجود صفة الاستضعاف فيهما. فالأقوياء في الجاهلية كانوا يأكلون أموال اليتامى كأنّها أموالهم، وكانوا أيضاً يبخسون حقوق الزوجات، وكأنّهم لم يتعهّدوا لهنّ بشيء، فجاء البيان القرآني برفع الاستضعاف عنهما بدفع أموالهم إليهم كاملة.

ثمّ إنّه سبحانه يصف مهورهن بوصفين:

أ. صَدُقة. ب. نحلة.

ولعلّ وجه الأوّل ما نقلناه من المقاييس من أنّ الصدقة من الصدق بمعنى الحقّ ، فكأنّها حقّ لهنّ بلا منازع.

وأمّا وجه الثاني فيحتمل أن تكون نحلة بمعنى أنّه عطية من اللّه عزّ وجلّ أو من الأزواج لهنّ ، وليس لهم منعهنّ عنها.

ثمّ إنّ الخطاب في قوله: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ ) يحتمل وجهين:

أ. أن يكون الخطاب لأولياء النساء، ويؤيّده ما روي عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوّج أيمته أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه عن ذلك ونزلت: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) .(1)

وعلى هذا فأولياء المرأة كانوا يأخذون مهور النساء ولا يدفعونه إليهنّ أبداً، والأزواج كانوا يدفعون المهور إليهم كثمن الشاة، الذي يدفع إلى مالكها، وكان2.

ص: 463


1- . تفسير الدر المنثور: 431/2.

الزوج يقوم بذلك لكي يستخلصها من يد وليها.

ب. أن يكون الخطاب للأزواج لا للأولياء بقرينة قوله سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ) فهو خطاب للأزواج، وتصلح لأن تكون قرينة على أنّ الخطاب في آيتنا أيضاً لهم، وتشهد على ذلك أيضاً الفقرة التالية للآية، أعني قوله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ ) فإنّ الخطاب في قوله:

(لَكُمْ ) موجّه للأزواج.

وأمّا الأمر الثاني: فيشير إليه بقوله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً) وهو أنّه ربما تحسّ الزوجة محبّة شديدة من زوجها لها، فترغب في أن تهب شيئاً من مهرها له بطيب من نفسها، فهذا هو المستثنى من الفقرة الأُولى، يقول سبحانه:

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً) فقوله: (مِنْهُ ) يمكن أن يكون للتبيين، كما يمكن أن يكون للتبعيض. والثاني هو الظاهر؛ لأنّ «من» لغاية التبيين لا تدخل على الضمير، فلو قامت بذلك فيقول سبحانه خطاباً للموهوب له: (فَكُلُوهُ ) أكلاً (هَنِيئاً) : أي سائغاً (مَرِيئاً) لا غصص فيه.

وعلى كلّ حال فلا يحلّ للزوج أن يأكل من مال الزوجة إلّاإذا أحرز أنّها راضية بذلك، ولا يكفي إذا أظهرت الرضا خوفاً أو مجاملة.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً

ص: 464

وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) .(1)

المفردات

تعضلوهن: تضيّقون عليهن، حتى ينتهي الأمر إلى رضاهنّ ببذل ما أعطيتم لهنّ .

بفاحشة: فسّرت تارة بالزنا، وأُخرى بالنشوز، وثالثة بكلّ معصية. والوجه الأخير غير واضح فإنّ الكذب من الفواحش لكنّه لا يبرر للزوج أن يضيّق على الزوجة ليأخذ بعض مهرها، بل المراد الذنوب التي تجلب الهون على الأُسرة وتبرّر للزوج لأن يُضيّق عليها.

مبيّنة: أي قطعية، في مقابل الظنّة والشبهة.

التفسير
المحاور الخمسة في الآية

الآية تتضمّن بيان أحكام تُشكِّل أركان النظام الأُسري في المجتمع الإسلامي، ويمكن تلخيص هذه الأحكام بما يلي:

1. الآية تخاطب المؤمنين بأنّه لا يحل لهم إرث النساء كَرْهاً، وسيأتي تفسيره.

2. الآية تخاطب المؤمنين بالنهي عن التضييق لغاية الاستيلاء على بعض ما آتوهنّ من المهر والنفقة.

ص: 465


1- . النساء: 19.

3. تستثني صورة خاصّة من النهي إذا أتت المرأة بفاحشة مبيّنة. فيجوز للزوج العضل و التضييق حتى تتنازل عن صداقها أو بعضه.

4. الآية تأمر الزوج بمعاشرة زوجته بالمعروف حسب قدرته ومكنته، وحسب ما لها من الشأن والمكانة.

5. الآية في نهايتها تخاطب المؤمنين ألّا يعجّلوا بمفارقتهنّ (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) .

هذه هي المحاور الخمسة التي تشتمل عليها الآية، فلنفسّرها تباعاً:

أمّا المحور الأوّل فيشير إليه بقوله عزّ وجلّ : (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) باللّه ورسوله ودانوا باتّباع شريعة اللّه. والأحكام الواردة في الآية وإن كانت لا تخصّ المؤمنين لكن لمّا كان العاملون بها هم المؤمنون خصّهم بالخطاب وقال: (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً) تنهى الآية عن وراثة النساء وفيه احتمالات:

1. ليس للوارث إذا مات الزوج أن يتملّك زوجة المتوفّى، وتصير مالاً موروثاً كما يورث الإماء والعبيد.

2. إرث نكاح الزوجة بأن يكون زمام أمرها بعد موت المورِّث بيد الوارث فتكون الآية ردّاً على سنّة جاهلية من أنّ الرجل إذا مات وترك امرأته قال قريب الرجل - لا ابنه -: ورثتُ امرأته كما ورثتُ ماله، فإن شاء تزوّجها بالصداق الأوّل ولا يعطيها شيئاً، وإن شاء زوّجها وأخذ صداقها إذا كان الوارث ابنها.

ويؤيّده ما رواه القمّي إنّه كان في الجاهلية في أوّل ما أسلموا من قبائل

ص: 466

العرب إذا مات حميم(1) الرجل وله امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها، فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها، أو يرث نكاحها (صداقها) كما يرث ماله.(2)

3. أنّ الرجل يحبس المرأة عنده ولا حاجة له بها، وينتظر موتها حتى يرثها، حكاه الطبرسي في «مجمع البيان» عن أبي جعفر عليه السلام.(3) وهذا هو الظاهر من السيد الطباطبائي يقول: الظاهر أنّ الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره.(4)

أمّا الوجه الأوّل فبعيد جدّاً، إذ لم يُعهد في الجاهلية إرث ذات المرأة نظير إرث الأموال.

وأمّا الوجه الثاني فهو الأقرب، والفعل «ترثوا» وإن نسب إلى إرث النساء أنفسهنّ ، لكن يُراد به الأثر المناسب من تعلّق النهي بها، وليس هو إلّانكاحهنّ ، نظير قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) ، وسيأتي كلام السيد الطباطبائي في نقد هذا الوجه.

وأمّا الوجه الثالث فلا دليل عليه مضافاً إلى أنّ الزوج من أين علم أنّ الزوجة تموت قبله. والرواية في «مجمع البيان» مرسلة لا يحتجّ بها.

وعلى كلّ تقدير فلو أُريد جميع الاحتمالات فالمجموع حرام تكليفاً كما هو حرام وضعاً، حيث إنّ الوارث لا يملك ما يصل إليه من المال عن هذا الطريق.

بقي الكلام في قوله: (كَرْهاً) والكره - بالفتح أو بالضم -: الكراهية، والظاهر4.

ص: 467


1- . الحميم: القريب الذي يهتمّ بأمره.
2- . البرهان في تفسير القرآن: 59/3.
3- . مجمع البيان: 52/3.
4- . الميزان في تفسير القرآن: 254/4.

أنّه ليس قيداً للتحريم حتى يكون ذا مفهوم، بل هو بيان للواقع الذي كانوا عليه فإنّهم كانوا يرثونهنّ بغير رضاهنّ ، وكأنّ القيد توضيحي.

ثمّ إنّ السيد الطباطبائي أورد على الوجه المختار (الثاني) بقوله: إنّ قوله سبحانه في ذيل الجملة (كَرْهاً) لا يلائم ذلك (الوجه) سواء أخذ قيداً توضيحياً أو احترازياً. فإنّه لو كان قيداً توضيحياً أفاد أنّ هذه الوراثة تقع دائماً على كره من النساء وليس كذلك، وهو ظاهر، ولو كان قيداً احترازياً أفاد أنّ النهي إنّما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كانت على رضا منهنّ ، وليس كذلك.(1)

يلاحظ عليه: بما ذكرنا من أنّ القيد لبيان الواقع وأنّ إرث نكاح الزوجة وكون نكاحها بيد الوارث إن شاء تزوّجها بلا صداق أو زوّجها لغيره مع الاستيلاء على صداقها، يكون حسب الطبع أمراً مكروهاً للمرأة، ولا ينافي خروج الموارد الشاذّة من رضاها بهذا.

إلى هنا تمّ الكلام في المحور الأوّل.

وأمّا المحور الثاني: فيشير إليه بقوله: (وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) فالفقرة ناظرة إلى سنّة بين بعض الرجال من أنّه إذا لم يكن للرجل رغبة في المرأة، ويريد فك عقدة النكاح الملازم لدفع المهر فيضيّق عليها في المعيشة حتى تصبح المرأة مستعدة لأن تتنازل عن مهرها لكي تتخلّص من ضيق العيشة، فالتضييق بهذا القصد حرام على الزوج، تكليفاً ووضعاً، بمعنى أنّه إذا رضيتْ ببذل شيء من الصداق فالزوج لا يحقّ له أن يتملّكه.4.

ص: 468


1- . الميزان في تفسير القرآن: 254/4.

وأمّا المحور الثالث: فالآية تستثني صورة خاصّة من حرمة العضل والتضييق، وهي أن تأتي المرأة بفاحشة يُعد المقام عليها إهانة للأُسرة، فيجوز للزوج العضل والمنع ليفارقها بالبذل. غير أنّه لا يحلّ له العضل إلّاإذا كانت الفاحشة مبيّنة ثابتة، ولا يعتد بالظنّة والشبهة.

فإن قيل: كيف يجوز للزوج العضل والتضييق عند ارتكاب المرأة فاحشة مبيّنة حتى يخلّيها بأخذ بعض صداقها، أو ليس هذا تعدّياً على حقوقها؟

قلنا: إنّ هذا الحكم يُعد وقاية للمرأة حتى تجتنب عن ارتكاب الفاحشة لعلمها بأنّ للزوج الحقّ في أن يضيّق عليها ويخلّيها ببذل صداقها، فالحكم الشرعي يُعد مانعاً عن توغّل المرأة في مستنقع المعاصي والآثام. نعم ليس للرجل التضييق بمطلق الفاحشة كالغيبة والكذب بل بارتكاب الأُمور التي تبرر عند العقلاء أن يطلّقها ويخليها بالنحو المذكور.

وربما يتصوّر وجود المنافاة بين آيتنا هذه وما في سورة البقرة حيث جاء فيها قوله: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها) (1).

فإنّ الآية الثانية تجيز للرجل التضييق وإن لم تأت الزوجة بفاحشة مبيّنة.

والجواب أنّ النسبة بينهما نسبة المطلق والمقيّد فتقيّد الآية الثانية بالآية الأُولى ويختص التقييد بصورة الإتيان بالفاحشة المبيّنة، ولعلّ في قوله فيها (إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ ) إشارة إلى هذا القيد، فتكون الآيتان متوافقتي المضمون،9.

ص: 469


1- . البقرة: 229.

واللّه العالم.

وأمّا المحور الرابع: فيشير إليه بقوله تعالى: (وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) :

أي يجب على المؤمنين أن يحسنوا معاشرتهم مع النساء كما هو المعروف عند العقلاء.

وأمّا المحور الخامس: فأشير إليه بقوله: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) والآية تثير عطف الزوج وحنانه على الزوجة التي لا رغبة له فيها، لسوء في الخُلق أو في الخَلق، فيريد طلاقها، وعندئذٍ تذكّره الآية وترشده إلى الإمساك عن الطلاق عسى أن يكون في الإمساك خيرٌ كثير غافلاً عنه الزوج. إذ قد يكره الرجل من زوجته بعض صفاتها، ولا يصبر عليها، فيطلقها ويتزوّج بأُخرى، فإذا هي أسوأ حالاً، وأقبح أعمالاً، فيندم حيث لا ينفع الندم...

قال صاحب الأغاني: طلّق الفرزدق النوال، ثم ندم، وتزوّج بعدها امرأة مطلقة، وكان يَسْمعها تئنّ وتحنّ إلى زوجها الأوّل، وتعدّد، وتردّد، فأنشأ يقول:

على زوجها الماضي تنوح وإنّني *** على زوجتي الأُخرى كذاك أنوح(1)

أقول: وأطلق القرآن الكريم ولم يخصّ الخير الكثير بمورد دون مورد ليذهب ذهن السامع إلى كلّ خير متصوّر. وربما تنجب المرأة التي لا رغبة للزوج فيها أولاداً صالحين يكونوا له عاقبة حسنة من الباقيات الصالحات.2.

ص: 470


1- . التفسير الكاشف: 281/2.

الآيتان: الثالثة والرابعة

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً * وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) .(1)

المفردات

استبدال: إقامة امرأة مقام امرأة أُخرى.

قنطاراً: هو المال الكثير. يقال: قنطر في الأمر يقنطر إذا عظّمه بتكثير الكلام فيه من غير حاجة إليه، ويطلق على الجسر الكبير القنطرة لعُظْمِها.

بهتاناً: من البهت بمعنى التحيّر، فلو أطلق على الكذب فلأنّه يحيّر المكذوب عليه.

أفضى : الإفضاء إلى الشيء هو الوصول إليه، وهو كناية عن العمل الجنسي القائم بالطرفين، وهذا التعبير العاطفي يثير عطف الزوج إلى رعاية العدل.

ميثاقاً غليظاً: قيل: كان ذلك يؤخذ عند عقدة النكاح، فيقال: اللّه عليك لتمسكنّ بمعروف أو تسرحنّ بإحسان، ويحتمل أن يكون مشيراً إلى قوله سبحانه: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (2).

ص: 471


1- . النساء: 20 و 21.
2- . البقرة: 229.
التفسير

الآية الأُولى تحكي عن وجود سُنّة جاهلية وهي: أنّ الزوج عندما يرغب عن زوجته مريداً الزواج بامرأة أُخرى، كان يضيّق الأمر على الأُولى ليأخذ منها شيئاً ممّا آتاها من المهر حتى يجعله مهراً للزوجة الثانية، فالآية تنهى عن تلك السنّة الجاهلية. بقوله: (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ ) .

ثمّ إنّ الأخذ محرّم مطلقاً، سواء استبدل زوجاً مكان زوج أم لم يستبدل، وأمّا وجه ذكر الاستبدال بالخصوص إنّما هو لوجود تلك السنّة بينهم، ويمكن أن يكون الوجه هو توهّم أنّ له أخذ المهر من الأُولى ليدفعه إلى الثانية لأنّها تقوم مقامها، فيكون لها كلّ ما كان لتلك لأنّ الدفع إلى الاثنين يُثقل كاهله، فأزال اللّه سبحانه هذا الوهم بالنصّ على الاستبدال بالذات.(1)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل حرمة هذا العمل بأمرين تاليين:

1. (أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) .

2. (وَ إِثْماً مُبِيناً) . الظاهر أنّ كلّ واحد من قوله سبحانه: (بُهْتاناً) و (إِثْماً) حال من الضمير المتّصل في قوله: (أَ تَأْخُذُونَهُ ) : أي أتأخذونه باهتين وآثمين إثماً مبيناً، وقد مرّ أنّ البهتان من البهت بمعنى التحيّر، وإطلاقه على الكذب لأنّه يُسبّب حيرة المكذوب عليه وبهته، وأمّا المقام فإن أخذ ما آتاه الزوج إلى زوجته التي عاشت معه فترة بعطف وحنان يسبّب بهت الزوجة وحيرتها، إذ كيف يُقدم الزوج على هذا العمل

ص: 472


1- . التفسير الكاشف: 282/2.

مع أنّها ملكته بالعقد الشرعي. فالقائم بهذا العمل البعيد عن العاطفة باهت وآثم إثماً مبيناً، وكيف لا يكون كذلك فهي خدمتْ الرجلَ بما لها من القوّة والقدرة فعندما يخرجها من بيته ويُخلّيها كان المتوقع أن يقدّر عملها وحياتها ويكافأها، ولكن يا للأسف فإنّه يُحْرِمُها من حقّها المقرّر لها.

وهنا احتمال آخر وهو أن يراد من قوله: (بُهْتاناً) هو المعنى المعروف له أي الكذب، وذلك إنّه كان من دأبهم أنّهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فيكون المراد أنّكم تأخذون ما آتيتموهنّ مباهتين وكاذبين.(1)

قداسة عقد الزواج وأنّه ليس من مقولة البيع

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما شدّد الأمر على هذا النوع من العمل الذي وصفه بالبهتان والإثم عاد إلى إثارة عطف الزوج على زوجته حتى يصدّه بذلك عن هذا العمل القبيح، وذلك بوجهين:

1. (وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ) : أي وصل بعضكم إلى بعض، يقال: أفضى فلان إلى فلان أي وصل إليه، وهذا التعبير أي وصول كلّ إلى الآخر إشارة إلى أنّ كلّاً من الزوجين بعد العقد، صار جزءاً متمماً لوجود الآخر، بعد ما كانا منفصلين فصارا متّصلين كشيء واحد، وهذا الأمر أي وجود الوحدة بينهما يقتضي الفضل والعطف والمفارقة عن رأفة ورحمة، وعلى الزوج إذا أراد المفارقة بعد المعاشرة فترة أن لا ينسى الفضل وحكم الأخلاق، كما إذا أراد الزوج الطلاق قبل المس، فإنّ الواجب نصف المهر ولكن عليه أن لا ينسى الفضل

ص: 473


1- . تفسير الرازي: 14/10.

والعطف، قال: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) (1)، فإذا كانت هذه هي الضابطة فعلى الزوج عدم نسيان الفضل مطلقاً سواء أطلّق قبل الدخول أم بعده.

2. (وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) وهذه الفقرة تدلّ على أنّ الزوجة تأخذ ميثاقاً غليظاً عند العقد، فالتعبير عن عقد النكاح بالميثاق يدلّ على قداسة عقد الزواج وأنّه ليس نظير البيع الذي هو مبادلة مال بمال، أو نظير الإجارة من تسليط المستأجر على العين، بل هو نوع ميثاق بين الطرفين بأن يعيش الزوج مع الزوجة معيشة رحمة ومودّة.

ومن المعلوم أنّ عضل المرأة على بذل ما أخذت يُعد نقضاً للميثاق والعهد (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (2) كما أنّه سبحانه وصف الميثاق بقوله:

(غَلِيظاً) ليدلّ على سموّ ومكانة هذا الميثاق. والغليظ صفة مشبهة من - غلظ - بضم اللام إذا صلب، والغلظة في الحقيقة صلابة الذوات ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها.(3)

نقل عن الشيخ محمود شلتوت في تفسيره: إذا تنبّهنا إلى أنّ كلمة ميثاق لم ترد في القرآن الكريم إلّاتعبيراً عمّا بين اللّه وعباده من موجبات التوحيد(4)،).

ص: 474


1- . البقرة: 237.
2- . الإسراء: 34.
3- . التحرير والتنوير: 74/4.
4- . يشير إلى قوله سبحانه: (أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (يس: 60).

والتزام الأحكام،(1) وأمّا بين الدولة والدولة من الشؤون العامة الخطيرة،(2) علمنا مقدار المكانة التي سما القرآن بعقد الزواج إليها، وإذا تنبّهنا مرّة أُخرى إلى أنّ وصف الميثاق بالغليظ لم يرد في موضع من مواضعه إلّافي عقد الزواج(3)تضاعف لدينا سمو هذه المكانة التي رفع القرآن إليها هذه الرابطة السامية عن كلّ ما أُطلق عليه كلمة ميثاق.(4)

لا حدّ للمهر في الإسلام

يستحب أن لا يتجاوز المهر مهر السنّة، وهو خمسمائة [أربعمائة] درهم، وعلى ذلك زوّج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتزوّج نساءه، وهذه هي السنّة، ومع ذلك فالمشهور أنّه ليس للمهر حدّ أخذاً بقوله سبحانه: (وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (5)، وستوافيك دلالة الآية على جواز جعل المهر أكثر فأكثر.

روى السيوطي قال: وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى بسند جيّد عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب المنبر ثم قال: أيّها الناس ما إكثاركم في صداق

ص: 475


1- . إشارة إلى قوله: (اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ اَلْمِيثاقَ ) (الرعد: 20).
2- . نظير قوله سبحانه: (وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).
3- . يلاحظ عليه: أنّه ورد وصف الميثاق بالغليظ في موضعين آخرين، قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا» (الأحزاب: 7)، وقوله سبحانه في أُمّة من بني إسرائيل الذين كانوا يصطادون الأسماك يوم السبت، قال تعالى: «وَقُلْنَا لَهُمْ لَاتَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا» (النساء: 154). نعم كان الشيخ شلتوت من رجال التقريب، صادق النية والعمل. حباه ربّه من أهنأ النزل.
4- . لاحظ: التفسير الكاشف: 283/2. نقلاً عن تفسير الشيخ شلتوت.
5- . النساء: 20.

النساء، وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللّه أو مكرمة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفنّ مازاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت له: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم ؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل اللّه يقول:

(وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال:... اللّهم غفراً...! كلّ الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: يا أيّها الناس إنّي كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم، فمَن شاء أن يعطي من ماله ما أحب.(1)

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ ) .(2)

المفردات

جناح: الجناح من جنحت السفينة: إذا مالت إلى أحد جانبيها، وسمّي الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ ، جُناحاً، ثمّ سُمّي كلّ إثم جُناحاً.

تمسّوهن: المسّ كناية عن الدخول.

ص: 476


1- . تفسير الدر المنثور: 466/2.
2- . البقرة: 236.

الموسع: الوسع: الجِدة والطاقة، يقال: ينفق على قدر وسعه.

المقتر: القتر: تقليل النفقة.

التفسير

تختلف أحكام المهور مع اختلاف المطلّقات، ونشير إلى أقسامها:

1. مطلّقة قد فرض لها المهر وهي مدخول بها، فلها صداقها المقرر في العقد، وإليه يُشير قوله سبحانه: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (1)، فلا يجب على الزوج غير ما فرض عليه عند العقد.

2. مطلّقة غير مدخول بها ولا مفروض لها المهر، وهذا هو الموضوع في آيتنا هذه، والتي سنشرحها عن قريب.

3. مطلّقة مفروض لها المهر غير مدخول بها، فسيأتي حكمها في قوله سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) (2).

4. مطلّقة مدخول بها، غير مفروض لها المهر عكس الصورة الثالثة، لجواز العقد بلا فرض المهر بشرط العزم على الاتّفاق عليه فيما بعد، ففيه مهر المثل.

روى الشيخ الطوسي بإسناده عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام في رجل يتزوّج امرأة ولم يفرض لها صداقاً. قال: «لا شيء لها من الصداق

ص: 477


1- . البقرة: 229.
2- . البقرة: 237.

فإن كان دخل بها فلها مهر نسائها».(1) وفي رواية الحلبي: «لها مثل مهور نسائها ويمتعها».(2)

إذا تبيّن ذلك فقد أشرنا إلى أنّ آيتنا هذه ناظرة لمَن لم يدخل بها ولم يفرض لها فرض، فسيأتي أنّ الواجب على الزوج تمتيع الزوجة متاعاً لائقاً بشأنها، إلّاأنّ الكلام في تفسير الآية خصوصاً قوله: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) ففي تفسير الفقرة وجهان: الأوّل: أنّ لفظة (أَوْ) بمعنى الواو، وتقدير الآية: إن طلقتم النساء، ما لم تمسّوهن ولم تفرضوا لهنّ فريضة، وهذا هو الذي أشرنا إليه، ففي هذه الصورة يجب على الزوج تمتيع الزوجة حسب وسعه، كما سيأتي. واستعمال (أَوْ) بمعنى الواو غير بعيد كما في قوله سبحانه: (وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (3).

وهذا الوجه غير مرضي عند الرازي ووصفه بكونه تكلّفاً بل خطأ قطعاً.(4)

الوجه الثاني: أنّ لفظة (أَوْ) بمعنى: إلّا، والمعنى: لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء، ما لم تمسّوهنّ فلا مهر لها وإنّما تستحقّ عليه المتعة (أَوْ) : أي إلّا أن (تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) وعندئذٍ يجب عليه نصف ما هو المفروض، وسيأتي حكم الموضوع في الآية السادسة، وعلى هذا الفرض تكون الفقرة متعرّضة لحكم موضوع آخر، بخلاف ما إذا قلنا بالوجه الأوّل. وعلى هذا فالفقرة بمنزلة قول6.

ص: 478


1- . الوسائل: 14، الباب 12 من أبواب المهور، الحديث 2.
2- . الوسائل: 14، الباب 12 من أبواب المهور، الحديث 1. قوله: «لا شيء لها من الصداق» في الرواية السابقة لا ينافي ما يأتي من التمتع في هذه الرواية فلاحظ.
3- . الصافات: 147.
4- . تفسير الرازي: 138/6.

القائل: لألزمنّك أو تقضيني، أي إلّاأن تقضيني حقّي.

والنتيجة على كلا التفسيرين واحدة، فالواجب على الزوج فيما إذا لم يفرض لها فريضة ولم يدخل بها، هو ما يذكره قوله سبحانه: (وَ مَتِّعُوهُنَّ ) : أي اعطوهن من مالكم مايتمتعنّ به (عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ ) : أي على الغني الذي هو في سعة لغناه، على قدر حاله (وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ) : أي الفقير الذي هو في ضيق (قَدَرُهُ ) أي بقدر إمكانه.

روى الصدوق أنّ الغني يمتع بدار أو خادم، والوسط بثوب، والفقير بدرهم أو خاتم.(1)

وما ذكر في هذه الرواية وغيرها على سبيل المثال، ولذلك يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف.

قوله سبحانه: (مَتاعاً) منصوب بفعل محذوف، أي متّعوهنّ متاعاً (بِالْمَعْرُوفِ ) صفة للمتاع (حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ ) أي: حقّ الحكم حقّاً على المحسنين.

وأمّا إذا فرض لهنّ فريضة فالواجب ما هو المفروض.

بقي هنا أمر:

هل التمتيع واجب أو مندوب ؟

هل التمتيع واجب أو مندوب مؤكّد؟ فيه خلاف، والظاهر هو الوجوب، فإنّ لسان الآية كونه (حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ ) للمطلّقات، هو الطلب المؤكّد، واستظهر

ص: 479


1- . من لا يحضره الفقيه: 327/3، برقم 1582.

السيد الطباطبائي الوجوب عن طريق آخر، قال: ولعلّ الوجه فيه ما مرّ من قوله تعالى: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) الآية، فأوجب الإحسان على المسرِّحين وهم المطلِّقون فهم المحسنون، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلِّقون، واللّه أعلم.(1)

وأمّا القائل بالندب فيستدلّ بأنّ قوله سبحانه: (حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ ) دليل الندب ولو كانت واجبة لجعلها حقّاً على جميع الناس، ومفهوم جعلها حقّاً على المحسنين، أنّها ليست حقّاً على جميع الناس.(2)

ويمكن تقريب الوجوب بوجوه:

1. أن يكون المراد من المحسن مَن يُحسن لنفسه بالإطاعة والامتثال، وتعليق الحكم على المحسن بهذا المعنى خالٍ عن المفهوم. ولذلك يفسّره الطبرسي في «المجمع» بقوله: أي واجباً على الذين يحسنون الطاعة ويجتنبون المعصية.

2. أنّه إنّما خصّ المحسنين بذلك تشريفاً لهم، لا أنّه لا يجب على غيرهم، ودلّ ذلك على وجوب الإحسان على جميعهم، فإنّ على كلّ إنسان أن يكون محسناً.(3)

واستقرب صاحب المنار الوجوب بوجهين:

3. أنّ آية الأحزاب - التي سيأتي ذكرها - آمرة بالتمتيع أمراً لم يذكر معه لفظ2.

ص: 480


1- . الميزان في تفسير القرآن: 249/2.
2- . التحرير والتنوير: 440/2، نقلاً عن القائلين بالندب.
3- . مجمع البيان: 159/2.

المحسنين.

4. إنّ اللّه تعالى ذكر الإحسان والمحسنين في مقام الأعمال الواجبة، كقوله:

(لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (1) .

وفي آية أُخرى، قال تعالى: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ) (2)، وأوضح من الآيتين - في أنّ المحسن هو المطيع - قوله سبحانه: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ) (3).

5. أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي وجوب التمتيع، وذلك أنّ الزوج إذا عقد على المرأة فطبيعة الأمر تقتضي أنّه يعاشرها ويتمتع بها من غير دخول، فتجويز طلاق مثل هذه بغير التمتيع، نوع تحقير وإهانة لها.

***

إنّ الموضوع للتمتيع - في آيتنا هذه - غير المفروضة والممسوسة، وعليها يُحمل بعض المطلّقات كالآيتين التاليتين:2.

ص: 481


1- . التوبة: 91.
2- . التوبة: 120.
3- . الزمر: 58. لاحظ: تفسير المنار: 431/2.

الأُولى: (وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ ) فمقتضى الجمع بين الآيتين حمل المطلّقات على ما ورد في آيتنا، أي إذا لم يفرض لها فرض ولم يدخل بها.

الثانية: قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) .(1) فالآية ناظرة إلى حكم الاعتداد دون المهر، لكن مقتضى الذيل، أعني: (فَمَتِّعُوهُنَّ ) و (وَ سَرِّحُوهُنَّ ) ، قرينة على أنّ المراد هو من لم يفرض لها المهر أيضاً، وإلّا فالواجب هو المهر.

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(2)

المفردات

تمسّوهنّ : المسّ : كناية عن الدخول.

ص: 482


1- . الأحزاب: 49.
2- . البقرة: 237.
التفسير
المطلّقة غير المدخول بها المفروض لها المهر

موضوع الحكم في الآية السابقة هي المطلّقة غير المفروض لها المهر ولا المدخول بها، وقد مرّ أنّ الحكم هو التمتيع، وأمّا الموضوع في آيتنا هذه هي المفروض لها المهر لكن غير المدخول بها، فقد صار هذا موضوعاً لحكمين:

1. أنّ اللازم على الزوج دفع نصف المهر، دون الجميع، ولذلك قال الفقهاء: الزوجة تملك المهر كلّه، لكن النصف الآخر مشروط بالدخول، وإلّا فالنصف الأوّل تملكه بلا شرط، كما يقول سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ) : أي قدّرتم لهنّ مهراً (ف) عليكم (نصف ما فَرَضْتُمْ ) : أي نصف المهر المسمّى.

2. أنّ تقدير الواجب على الزوج بالنصف مشروط بأن لا يكون هناك عفوٌ، وإلّا يتغيّر ما هو الواجب على الزوج في الصورتين التاليتين:

الأُولى: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ ) .

توضيحه: أنّه وجب على الزوج دفع نصف المهر إلى الزوجة المطلّقة إذا طلّقها قبل المسّ ، ولكن ربّما تقتضي المصلحة أن تتنازل المرأة عن ذلك النصف، وتترك بيت الزوجية بدون أن تأخذ شيئاً، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كرامة الزوجة وعلوّ همّتها حيث تترك أخذ ما هو الواجب.

الثانية: (أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ ) وقد اختلف فيه، أي من هو المراد به ؟ وهنا قولان:

ص: 483

الأوّل: ولي الزوجة من الأب والجدّ، إذا اقتضت المصلحة العفو، فيترك النصف المفروض في الآية.

وعلى هذا فالفقرتان ناظرتان إلى عفو الزوجة إمّا بنفسها أو بوليّها، وكون الأب والجدّ من مصاديق مَن بيده عقدة النكاح، لأنّه لا نكاح إلّابولي. فتخرج المرأة من بيت زوجها صفر اليدين إشعاراً بعلوّ همّتها.

الثاني: أنّ المراد به الزوج، وعندئذٍ يرجع عفو الزوج إلى عدم أخذ النصف إذا أقبضها تمام المهر قبل الطلاق، وبهذا تخرج المرأة من البيت بأخذ تمام مهرها.

وعندئذٍ يقع الكلام في رفع إجمال الآية، فهل المراد ممّن بيده عقدة النكاح هو وليّ الزوجة، أو هو الزوج ؟

أقول: إنّ سياق الآية يدلّ على صحّة القول الأوّل دون الثاني، وذلك بوجوه:

الأوّل: أنّ اللّه سبحانه كلّما وجّه الكلام إلى الزوج استعمل صيغة الخطاب، وإليك الخطابات الموجودة في الآية الموجّهة إلى الزوج، وهي:

1. (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ) . 2. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) .

3. (وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ) . 4. (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) .

5. (وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) .

ولكن حين أراد الكلام عن العفو عدل عن الخطاب إلى الغيبة وقال: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ ) ، فلو أُريد من الثاني هو الزوج فما هو الوجه للعدول من الخطاب الوارد في صدر الآية - أعني قوله سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ) - إلى الغيبة، إذ السياق يقتضي أن يقول: «أو تعفون»؟... وهذا دليل على أنّ المراد به غير الزوج.

ص: 484

الثاني: أنّه سبحانه يخاطب الزوج في ذيل الآية بالعفو حينما دفع كلّ المهر قبل الطلاق، ويقول: (وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) فلو أُريد من قوله: (أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ ) نفس الزوج، يلزم التكرار.

هذا هو مقتضى تحليل الآية، ويؤيّده ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

1. ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «(اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ ) هو ولي أمرها».(1)

2. وعنه بإسناده عن فضالة، عن رفاعة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الذي بيده عقدة النكاح ؟ قال: «الوليّ الذي يأخذ بعضاً ويترك بعضاً، وليس له أن يدع كلّه».(2) ولو صحّ الحديث يدلّ على أنّ الوليّ ، لا يعفو عن كلّ النصف بل يترك بعضه.

3. وعنه باسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن البرقي، أو غيره، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح ؟ قال: «هو: الأب و الأخ والرجل يوصى إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة فيبتاع لها ويشتري، فأي هؤلاء عفا فقد جاز».(3)9.

ص: 485


1- . الوسائل: 14، الباب 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث 2؛ تفسير البرهان: 229/1، برقم 7.
2- . الوسائل: 14، الباب 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث 3؛ تفسير البرهان: 1/229، برقم 8.
3- . الوسائل: 14، الباب 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث 4؛ تفسير البرهان: 229/1، برقم 9.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ الفقرة بصدد بيان عفو الزوجة عن أخذ النصف إما مباشرة أو بواسطة وليّها.

وأمّا عفو الزوج عن النصف لو أعطاها الكل فقد أُشير إليه بقوله: (وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) . واللّه العالم

ص: 486

أحكام النكاح

5. أحكام النشوز في الذكر الحكيم

تمهيد

قد تقدّم منّا أنّ الإسلام يؤكّد على حفظ عقد الزوجية، وأنّه ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى اللّه من النكاح، ومع ذلك ربما تطرأ على حياة الأُسرة أُمور تُسبِّب البرودة بين الزوجين، أو إظهار الترفع من أحدهما على الآخر، وهذا ما يعبّر عنه بالنشوز، فجاءت الآيات القرآنية لمعالجة هذه الظاهرة التي ربما تؤدّي - لو لم تُعالج - إلى الفرقة والطلاق، ولذلك فتح الفقهاء باباً في المصنّفات الفقهية باسم باب النشوز، من غير فرق بين نشوز المرأة أو نشوز الرجل، فكلّ داء ولكلّ دواء.

فلندرس الآيات الواردة في هذا المجال.

الآية الأُولى: في نشوز المرأة

اشارة

قال سبحانه: (اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ

ص: 487

عَلِيًّا كَبِيراً) .(1)

المفردات

قوّامون: جمع قوّام على وزن فعّال مبالغة قيام، وأُريد هنا الزوج الّذي يقوم بشؤون المرأة في كافّة المجالات.

صالحات: صلاحهنّ هو الاستقامة فيما يراد منهنّ .

قانتات: جمع قانتة وهي المطيعة.

حافظات: جمع حافظة، وهي المرأة الّتي تحفظ شؤون الزوج في النفس والنفيس.

نشوزهنّ : النشوز: الارتفاع، وأُريد هنا الترفع على الزوج بمخالفته.

اهجروهنّ : الهجر: الترك.

المضاجع: جمع المضجع وأُريد هنا الفراش.

والهجر مع حفظ المضجع يتحقّق بالاستدبار وترك الملاعبة ونحوها، ويحتمل أن يكون كناية عن ترك المضاجعة.

شقاق: البينونة والعداوة.

التفسير

الآية تتضمّن أحكاماً:

الأوّل: إنّ (اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ) ، فلهم عليهنّ قيام الولاية وإدارة

ص: 488


1- . النساء: 34.

البيت، وعلّل ذلك بأمرين:

1. أمر طبيعيّ وهو ما يشير إليه بقوله: (بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) من كمال العقل وحُسن التدبير، وصلابة الرجل وقدرته البدنية على القيام بالأعمال الشاقّة.

2. أمر كسبي، وهو ما يشير إليه بقوله: (وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) : أي ينفقون عليهنّ ويعطوهنّ المهور.

وبذلك تبيّن أنّ الباء في كلا الموردين: (بِما فَضَّلَ اَللّهُ ) و (وَ بِما أَنْفَقُوا) هي باء السببية.

وهناك نكتة نقلها الفاضل المقداد(1) عن بعض الفضلاء، وهي أنّه سبحانه لم يقل: بما فضّلهم عليهن، لأنّه لم يفضل كلّ واحد من الرجال على كلّ واحدة من النساء، إذ كم من امرأة أفضل بكثير من الرجال، وإنّما جاء بالضمير المذكّر (بَعْضَهُمْ ) تغليباً.

الثاني: لما فضّل اللّه الرجال، أراد جبر قلوب النساء، فقال:

(فَالصّالِحاتُ ) : أي المستقيمات فيما يراد بهنّ ، وهي مبتدأ خبره، قوله:

(قانِتاتٌ ) : أي مطيعات للّه ولأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ) : أي لما يكون بينهنّ وبين أزواجهن في الخلوات من الأسرار، أو لفروجهن أو أموال أزواجهن في حال غيبتهم، ثم أتمّ ذلك بقوله: (بِما حَفِظَ اَللّهُ ) «ما» مصدريّة أي بما حفظهنّ اللّه حين أوصى بهنّ الأزواج، وأوجب لهنّ المهر والنفقة. وبذلك صارت الحقوق متبادلة، فلو جعل السيادة والإدارة للرجل، فقد جعل على عاتقه حفظ الزوجة برفع وتأمين حاجاتها.2.

ص: 489


1- . لاحظ: كنز العرفان: 212/2.

الثالث: ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى طروء نفرة النشوز في بناء البيت، ويذكر أُسلوب ترميم هذه الثغرة، فيقول سبحانه: (وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) : أي مخالفتهن، فيعالجه بأساليب ثلاثة:

الأوّل: (فَعِظُوهُنَّ ) بما في الكتاب والسنّة على نحو يؤثّر في نفس الزوجة، وتعلم ما للنشوز من عواقب سيئة ترجع عليها وعلى أُسرتها.

فإن لم ينفع هذا الأُسلوب يلجأ الزوج إلى الأُسلوب الثاني.

الثاني: (وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ ) إمّا بالنوم في نفس المضجع مع الرغبة عنها، أو بترك المضجع معها، والظاهر هو الأوّل.

فإن ينفع هذا الأُسلوب فيؤخذ به، وإلّا يأتي دور الأُسلوب الثالث. الثالث: (وَ اِضْرِبُوهُنَّ ) ضرباً غير مبرّح (أي غير مؤذٍ أذيّة شديدة) كالضرب بقصبة صغيرة.

فإن أثرت هذه الأساليب وحصلت الطاعة كما يقول: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) : أي لا تتّخذوا نشوزهنّ سبباً لإيذائهنّ بعد ما صرن مطيعات.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) : أي متعالياً عن أن يكلّف فوق الطاقة، فهو مع علوّه وكبريائه لم يكلّفكم إلّاما تطيقونه، فعليكم أن تتعاملوا معهنّ بهذا الأُسلوب الحكيم.

قيمومة الرجال على النساء وحدودها

هذه الآية جعلت القيمومة للرجال على النساء، وذكرت لذلك سببين:

1. صلابة الرجل وقدرته البدنية على القيام بالأعماله الشاقّة.

ص: 490

2. كونه منفقاً على العائلة وعليه أن يسعى سعياً حثيثاً في رفع حاجات البيت كافّة.

إنّما الكلام في حدود قيمومة الزوج على الزوجة، فربما يتصور أنّ قيمومة الزوج على الزوجة محدّدة بوجوب طاعته في التمتع الجنسي، ولكن الظاهر أنّ دائرتها أوسع من ذلك فإنّ حياة الزوجين لا تتلخّص في التمتّع والتلذّذ؛ بل تكون أوسع من ذلك، ففي الأُمور المشتركة للزوج القيمومة عليها كما يجب عليها إطاعته.

نعم الأُمور الفردية والشخصية بما يختصّ بالمرأة - إذا لم يكن أمراً منكراً - فالزوجة وما اختارت، وبذلك افترقت قيمومة الرجل على الزوجة، عن قيمومته على صغار الأولاد، فالقيمومة في الثاني على عامّة الأُمور، بخلاف قيمومته عليها في الأُمور المشتركة.

النشوز وحدوده

النشوز عبارة عن الخروج عن الطاعة الواجبة ومن أماراته أن تتقطّب في وجهه أو تتبرّم وتتضجّر من حوائجه المتعلّقة بالاستمتاع، أو تغيّر عاداتها في أدبها معه.

وفي الجواهر: النشوز يتحقّق بالعبوس والإعراض والتثاقل وإظهار الكراهة له بالقول والفعل ونحوهما ممّا ينقص استمتاعه وتلذّذه بها.(1)

وفي هذه الحالات يجب على الزوج أن يقوم بعلاج النشوز بالأُمور الثلاثة

ص: 491


1- . جواهر الكلام: 205/31.

المذكورة.

ثمّ إنّ ظاهر الآية أنّ القيام بالأُمور الثلاثة عند ظهور أمارات النشوز لا نفس النشوز، ولكن مقتضى التدبّر عدم اختصاص مضمون الآية بظهور الأمارات، وإنّما خصّ ظهور الأمارات بالذكر لأجل أن يعالج المشكلة قبل حصولها حتى يطفئ الفتنة قبل اشتعالها.

الآية الثانية: في نشوز الزوج

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(1)

المفردات

نشوزاً: نشوز البعل: رفع نفسه عليها.

أُحضرت: أي طبعت.

الشُحّ : الإفراط في الحرص على الشيء، من غير فرق بين تعلّقه بالمال أو غيره، يقال: فلان شحيح بمودتك.

ص: 492


1- . النساء: 128.
التفسير
نشوز الزوج على زوجته

إنّ سورة النساء - كما يحكي اسمها - نزلت لأجل تحكيم العلاقات الأُسرية وحفظها من التفكّك والتلاشي، كلّ ذلك ببيان ما للزوجين من حقوق وما عليهما من الواجبات، ولمّا كان النشوز أحد الظواهر التي تُبدّد نظام الأُسرة، سواء أكان من جانب الزوجة أم من جانب الزوج، جاء الوحي لعلاجه. أمّا الأوّل فقد مرّ حكمه في قوله سبحانه: (وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ ...) (1) ولم يرض التشريع الإلهي بتفرّق الأُسرة وفي أحلك الأحوال وأظلمها، لذلك أمر بإنشاء محكمة عائلية تقضي بينهما بالحقّ ، وأنّهما لو أرادا إصلاحاً يوفّق اللّه بينهما.

وأمّا آيتنا هذه فتبيّن حكم نشوز الرجل وتعاليه على المرأة بنحو يظهر كراهته لزوجته، فيقول سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ ) علمت أو ظنّت (نُشُوزاً) : أي إظهار التفوّق والتعالي قولاً وفعلاً، أو إظهار ما هو أقل من النشوز وإليه يشير بقوله: (أَوْ إِعْراضاً) : أي السكوت عن الخير والشرّ على نحو يحكي عن تنفّره، فاللّه سبحانه لا يرضى بالتفرّق وانحلال الأُسرة، فيشير إلى نوع تصالح بينهما ويقول: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) : أي لا تثريب عليه ولا عليها (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) ويتّفقا على الصلح وتبقى العصمة وذلك بتنازل المرأة عن بعض ما لها من الحقوق.

نعم إنّما يحلّ للرجل ما يأخذه منها إذا كان برضاها، حيث تعتقد بأنّه خير

ص: 493


1- . النساء: 34.

لها من أن يطلّق. ثمّ إنّه سبحانه يظهر رضاه بالصلح ويقول: (وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق والفراق. واللام في قوله: (وَ اَلصُّلْحُ ) إشارة إلى الصلح بين الزوجين وهو خير من التفرقة، لا أنّ الصلح مطلقاً جائز.

وعلى هذا فلا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها وتعدّل حرصها على مالها، فالتنازل هنا لا يُعدّ عيباً بل كمال؛ لأنّها تبذل مالها وحقوقها في سبيل تحقيق هدف أعلى وأنبل، وهو بقاء علقة الزوجية وصيانة البيت من السقوط والانهدام، ومع ذلك (وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ ) : أي أُحضرت أنفس كلّ واحد من الرجل و المرأة الشحّ بحقّه قبل صاحبه، قال الطريحي: معنى إحضارها إيّاه كونها مطبوعة عليه، فلا تكاد تسمح المرأة بالإعراض عنها، والتقصير في حقّها، ولا الرجل بالإمساك لها والإنفاق عليها مع كراهيته لها،(1) ولذلك يقول سبحانه: (وَ إِنْ تُحْسِنُوا) المعاشرة (وَ تَتَّقُوا) النشوز والإعراض ولو ببذل بعض الأموال والحقوق (فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .

والآية تدّل على اهتمام التشريع الإسلامي بحفظ العلاقة الزوجية وعدم انقطاعها مهما أمكن من بذل بعض الحقوق، إلّاإذا تقطّعت الأسباب وبلغت كراهة كلّ من الرجل والمرأة إلى حدّ لا يرجى اتّفاقهما على استمرار الحياة المشتركة.

وعندئذٍ فآخر الدواء الكيّ وهو الفراق والطلاق.

ثمّ إنّ الأحاديث الشريفة تشرح لنا مفاد الآية بنحو أوضح:

روى الصدوق بإسناده عن زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «النشوز يكون من الرجل والمرأة جميعاً، فأمّا الذي من الرجل فهو ما قال اللّه عزّ وجلّ في».

ص: 494


1- . مجمع البحرين: 272/3، مادة «حصر».

كتابه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ) وهو أن تكون المرأة عند الرجل لا تعجبه فيريد طلاقها فتقول: إمسكني ولا تطلّقني وأدع لك ما على ظهرك، وأُحلّ لك يومي وليلتي، فقد طاب له ذلك».(1)

الآية الثالثة: إعمال العدالة بين النساء في النفقة

اشارة

قال سبحانه: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(2)

المفردات

تستطيعوا: الاستطاعة: القدرة.

كالمعلّقة: المرأة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً، فلا هي مطلّقة ولا هي مزوّجة.

التفسير
النهي عن ترك الزوجة كالمعلّقة

قد تقدّم في صدر سورة النساء قوله سبحانه: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) (3)، وتقدّم آنفاً قوله

ص: 495


1- . الوسائل: 14، الباب 11 من أبواب القسم والنشوز والشقاق، الحديث 4.
2- . النساء: 129.
3- . النساء: 3.

سبحانه: (وَ إِنْ تُحْسِنُوا) المعاشرة (وَ تَتَّقُوا) عن النشوز والإعراض، فصار ذلك سبباً لبيان حقيقة العدل والإحسان الذي أُشير إليهما في الآيتين السابقتين، فبيّن سبحانه أنّه يجب على الزوج أن يقوم بما يمكنه من التساوي بين الزوجتين، فعليه أن يسوي بينهما في بذل الحقوق والمعاشرة الحسنة كالبشاشة والأُنس وما يشبههما، دون أن يقوم بشيء يظهر منه كراهة الزوج بالنسبة إليها و تفضيل إحداهما على الأُخرى.

نعم هناك ما لا يتمكّن الزوج من إجراء العدالة فيه، كالمحبّة وميل القلب، فإنّ المساواة فيهما بين الزوجتين أمر غير مستطاع، فالمرأة الجميلة تجذب ميل الزوج إليها أكثر ممّا ليست كذلك، ولذلك يقول سبحانه: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ ) في الحب والمودّة وميل القلب (وَ لَوْ حَرَصْتُمْ ) ولكن (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ ) إلى الزوجة المحبوبة وتحرم الأُخرى من حقوقها الواجبة التي في إمكانكم (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) لا مزوّجة لها ما للزوجات من الحقوق، ولا مطلّقة تستطيع الزواج بمَن تريد. وقد جاء مضمون الآية في موضع آخر، قال تعالى: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ) (1)، ومضمون الآية هو العدل الوسط حيث يأمر الزوج ببذل ما يمكنه من الإنفاق وحسن المعاشرة، ولا يأمر بالمساواة بما ليس في إمكانه كالحب والميل.

لا اختلاف بين الآيتين

ربما يتوهّم وجود الاختلاف بين قوله سبحانه في صدر السورة: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) التي تدلّ على إمكان رعاية العدالة بين الزوجين، وبين آيتنا

ص: 496


1- . البقرة: 229.

هذه التي يستظهر منها عدم إمكان رعايتها بينهنّ .

غير أنّ الاستظهار في غير محلّه نابع عن عدم الدقّة في مفاد الآيتين، أمّا الأُولى فيأمر بالعدالة فيما يمكن للمرء من القيام به كالنفقة وحسن المعاشرة.

وأمّا الآية الثانية فتخبر عن عدم إمكانها فيما لا يملكه المرء، كالميل القلبي والحب والنشاط، ويشترط في التناقض وحدة الموضوع، ويظهر من الروايات أنّ ابن أبي العوجاء سأل هشام بن الحكم عن الآية وقال: أخبرني عن قوله عزّ وجلّ : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) .(1) أليس هذا فرض ؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ :

(وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ ) ، أيُّ حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه عليه السلام فقال: «يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة ؟» قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمّني، إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: وما هي ؟ قال:

فأخبره بالقصة، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: «أمّا قوله عزّ وجلّ : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) يعني في النفقة، وأمّا قوله: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) يعني في المودّة» فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال: واللّه ما هذا من عندك.(2) وقد مرّ الكلام في ذلك فلاحظ.

***3.

ص: 497


1- . النساء: 3.
2- . الكافي: 362/5، الحديث 1؛ تفسير نور الثقلين: 156/2، برقم 603.

أحكام النكاح

6. حقوق الزوجة على الزوج في الذكر الحكيم

تمهيد

نظرة الإسلام إلى الزواج هو أنّه عبارة عن بناء بيت مقدّس يُرجى بقاؤه مادام الزوجان على قيد الحياة، ولأجل ذلك جعل لهما حقوقاً متبادلة، فللزوج على زوجته حقّ ، كما أنّ لها على الزوج حقّ كلّ ذلك ضمن فقرتين:

1. قوله سبحانه: (وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (1)، وهذه الفقرة أروع جملة سمعت بها آذان البشر، حيث تضمّنت ما هو الدعامة لحفظ كيان النظام الأُسري. فليس الزوج سيداً على الزوجة على الإطلاق، ولا الزوجة خادمة له كذلك، بل كلّ منهما يخدم الآخر، ولكلّ منهما حقّ على الآخر.

2. قوله سبحانه: (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ ) (2).

ولهذه النظرة يرى الإسلام حرية الزوجين في التصرّف بأموالهما.

كما أنّ للأولاد أيضاً حقوقاً على الزوجين، وقد أشار إليها سبحانه في الآية التالية.

ص: 498


1- . البقرة: 228.
2- . النساء: 32.

الآية الوحيدة في أحكام الرضاع

اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(1)

المفردات

الوالدات: جمع الوالدة، عبّر بها دون الأُمّهات، لأنّ الثانية تشمل الجدّة أيضاً، وهي ليست بمرادة في المقام فعبّر بالوالدات مشعراً بأنّ ما سيذكر من الأحكام لأجل كون المرأة قد ولدت الطفل مباشرة.

يرضعن: من الرضع وهو عبارة عن مصّ الثدي لشرب اللبن.

حولين: عبّر به دون السنة والعام، لأنّ العام والحول يطلقان على صيفة وشتوة كاملتين، وأمّا السنة فهي تبدأ من أي يوم عددته من العام إلى مثله، فلا يجب أن تشتمل على صيفة وشتوة كاملتين.(2) لأنّه ربما يتولّد الطفل في وسط

ص: 499


1- . البقرة: 233.
2- . تفسير المنار: 410/2، نقلاً عن مصباح اللغة.

الصيف أو الشتاء.

كسوتهنّ : مصدر كسوته ثوباً وكسوةً ، ألبسته، والمراد اللباس.

وسعها: الوسع: مقدار القدرة.

لا تضارّ: فعل مجهول: أي لا تضارر، واللام، ناهية جازمة.

فصالاً: من الفصال: العظام، لانفصال المولود عن الارتضاع بثدي أُمّه إلى غيره من الأقوات.

تشاور: التشاور مأخوذ من الشور، وأُريد: استخراج الرأي من المستشار.

تسترضعوا: تطلبوا لهم مراضع غير أُمّهاتهم، لإباء أُمّهاتهم الرضاع أو لقلّة لبنهنّ .

التفسير
اشارة

هذه الآية هي الآية الوحيدة التي تتضمّن أحكام الرضاع من الجوانب الثلاثة: الوالد والوالدة والولد، وهي في إيجازها تتكفّل بيان سبعة أحكام من أحكام الرضاع. إنّما الكلام ما هو المراد من قوله: (وَ اَلْوالِداتُ ) فربما يقال: إنّ المراد هو المطلّقات؛ لأنّ الآية وردت في عداد أحكامهنّ ، وربما يؤيّد بما ورد في ثنايا الآية من قوله سبحانه: (وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) ، فلو أُريد الوالدات المزوّجات، يلزم الاستغناء عن ذلك لوجوب الإنفاق على الزوجات مطلقاً سواء ولدن أم لا.

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من أن يراد نفقة زائدة على الزوجة بلا ولد، فإنّ الزوجة إذا صارت ذات ولد تزيد نفقتها، على أنّه سيأتي في تفسير الآية من أنّ

ص: 500

للوالدين الاسترضاع عن تشاور بمعنى طلب المرضعة، وهذا النوع من الكلام يناسب ظرف بقاء عصمة الزوجية بينهما حتى يسترضعوا بالتشاور.

وعلى كلّ تقدير فالآية تشتمل على أحكام بديعة:

1. إرضاع الأولاد حولين كاملين

يقول سبحانه: (وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ ) : أي أربعة وعشرين شهراً (كامِلَيْنِ ) تماماً حذراً من التسامح حيث إذا نقصت أيام عديدة يُقال: ارتضع حولين. وهل الإرضاع على وجه الإيجاب أو الندب ؟

والذي يؤيّد الأوّل استخدام صيغة الخبر، حيث قال: (يُرْضِعْنَ ) ولم يقل: أرضعوا، والجملة الخبرية في مقام الإنشاء آكد في بيان المطلوبية، غير أنّ المعروف بين الفقهاء هو الاستحباب، إلّافي بعض الصور كما إذا لم توجد ظئر أو إذا لم يقبل الطفل غير صدر أُمّه، كما يعهد من بعض الأطفال، أو كان الوالد عاجزاً عن استئجار مرضعة ترضعه.

ثمّ خصّ الأمر بإرضاع الولد حولين كاملين (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ ) وذلك ربما تقتضي المصلحة إرضاعه أقل من حولين، كالطفل الذي كان نموّه سريعاً، أو يستغني عن اللبن، قبل تمام الحولين ببضع أشهر.

وربما يُقال: إنّ الأقل واحد وعشرون شهراً، وذلك اعتماداً على قوله سبحانه: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (1) فإذا طرحت تسعة أشهر التي هي أكثر الحمل، يبقى واحد وعشرون شهراً.

ص: 501


1- . الأحقاف: 15.
2. ما تستحقه الوالدة خلال فترة الرضاع

يقول سبحانه: (وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ ) وهو الأب، فالتعبير به دون قوله الأب، للتنبيه على علّة وجوب النفقة، كأنّه يقول: إنّ هؤلاء الوالدات قد حملن وولدن لك أيّها الرجل، وهذا الولد الذي يرضعنه ينسب إليك، فعليك أن تنفق عليهنّ ما يكفيهنّ حاجات المعاش من الطعام واللباس، ليقمن بذلك حقّ القيام.(1)

وما ذكرناه هو المتعيّن دون ما ذكره صاحب الكشّاف، حيث قال: فإن قلت:

لم قيل المولود له، دون الوالد؟ قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنّما ولدن لهم لأنّ الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأُمّهات، وأنشد للمأمون بن الرشيد:

فإنّما أُمّهات الناس أوعية *** مستودعات وللآباء أبناء(2)

والعجب أنّ صاحب الكشّاف قد استدلّ بشعر جاهلي مبني على أمر باطل، وهو تخصيص الانتساب بالآباء، دون الأُمّهات، مع أنّ القرآن الكريم يصف المسيح من ذرية إبراهيم عليه السلام مع أنّه يصل إليه عن طريق الأُمّ ، يقول سبحانه: (وَ وَهَبْنا لَهُ ) : أي إبراهيم (إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) ثم يقول في الآية التالية: (وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى ) (3).

وقد مرّ أنّ إيجاب الرزق والكسوة على الوالد للوالدة، لا يدلّ على كونها مطلّقة، لأنّ الإيجاب ربما يستدعي نفقة أكثر فلاحظ.

ص: 502


1- . تفسير المنار: 411/2.
2- . تفسير الكشّاف: 281/1، ط مصر.
3- . الأنعام: 84 و 85.
3. التكليف على حدّ القدرة

قال تعالى: (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها) : أي لا تكلّف نفس إلّاما تتّسع له القدرة، ولذلك يختلف حدّ الإنفاق كمّاً وكيفاً حسب التفاوت في قدرة الزوج ضيقاً وسعة، ويوضح معنى هذه الفقرة قوله سبحانه: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اَللّهُ لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اَللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (1).

4. منع الزوجين عن اتّخاذ الولد ذريعة للإضرار

قال سبحانه: (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) . والقراءة المعروفة هي ضم التاء، تبعاً لقوله: (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ ) فيكون بمعنى لا تُضار والدة بولدها ولا يُضار مولود له بولده، وبما أنّ «الباء» في الموردين للسببية فيكون المعنى هو أنّه يحرم على كلّ من الطرفين استخدام الولد ذريعة للإضرار بالآخر.

أمّا الفقرة الأُولى - أي عدم الإضرار بالوالدة، بولدها - كمنع الرجل المرأة من إرضاع ولدها وهي له أعطف من غيرها، وهذا هو الإضرار بها بسبب ولدها حتى يكون سبباً للتضييق عليها في النفقة مع الإضرار، كأن يقول: أنا أدفع هذا المقدار فإن شئت أرضعيه وإن شئت أعطيني ولدي لأُسلّمه إلى ظئر ترضعه بهذا المقدار.

وأمّا الفقرة الثانية - أي عدم الإضرار بالمولود له، بولده - فهو كامتناع الأُمّ من إرضاع الولد لغاية طلب نفقة فوق وسعه وقدرته، فهذا إضرار به بسبب ولده،

ص: 503


1- . الطلاق: 7.

ونتيجة هذين الحكمين أنّ الولد ثمرة كلا الطرفين، فعليهما إنفاق ما بيديهما من القدرة لتربيته بعيداً عن المشاكل والاختلافات.

5. استمرار وجوب النفقة على وارث الوالد

قال تعالى: (وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) ، والفقرة عطف على قوله:

(وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ) ، فلو كان المولود له حيّاً ينفق من سعته، ولو توفّي فعلى وارثه الإنفاق على الزوجة ممّا ترك، حتى تُتمّ مدّة الرضاعة. وهذا الإنفاق وجب لكون المرأة قائمة بحضانة الولد، وهي لا تفترق عن الإنفاق بالمال.

نعم الزوجة المتوفّى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشراً، من دون نفقة، وما اخترناه في معنى الفقرة هو المتبادر.

6. فطام الولد يتمّ عن طريق التشاور بين الزوجين

قوله تعالى: (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) .

ربما يُريد الوالدان فطام الولد قبل الحولين، فاللّه سبحانه يأمر بأنّه يجب أن يتمّ ذلك بعد توفر شرطين:

1. (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) : أي من الأب والأُمّ ، واتّفاق بينهما على الفطام.

2. (وَ تَشاوُرٍ) : أي مشاورة، مع الآخرين الذين لهم خبرة في الموضوع، فعندئذٍ (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) : أي لا حرج عليهما. نعم فإن تنازعا رجعا إلى الحولين.

7. استئجار المرضعة

قال تعالى: (وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ

ص: 504

ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) ربما تدفع الحاجة أحد الأبوين أو كليهما إلى استئجار ظئر لإرضاع الطفل، فلو أرادا ذلك عن رغبة وتشاور (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) .

نعم هذا مشروط بما يلي:

1. (إِذا سَلَّمْتُمْ ) للزوجة (ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) : أي قمتم بما هو الواجب للأُمّ الذي مرّ في قوله سبحانه: (وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ) ، فلا يكون استئجار الظئر سبباً لنكران ما قامت به الأُمّ من الخدمة للولد.

وفسّره الطبرسي بنحو آخر وقال: إذا سلّمتم إلى الأُمّ أُجرة المثل مقدار ما أرضعت(1).

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ ) : أي التزموا بالعمل بالأحكام بأنّه وقاية لكم عن العذاب (وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .

بقي هنان بحثان:

1. أهمية لبن الأُمّ للمولود

اتّفق الأطباء على أنّ حليب الأُمّ هو أفضل ما يحتاجه المولود في أوّل سنوات عمره، حيث إنّ الولد حينما كان في رحم أُمّه، يتغذّى على دمها، وبعد ولادته ينقلب دمها لبناً فيتغذّى عليه المولود، وعندئذٍ يكون الولد مادام يعيش من لبنها كجزء من الأُمّ ولا يختلف عنها في العواطف والروحيات، بخلاف ما إذا تركته الأُمّ ودفعته إلى دور الحضانة، فعندئذٍ يرتضع على الحليب المجفّف، وبينه وبين لبن الأُمّ فرق شاسع، فلا بُعد أن يختلف الولد مع الأُمّ في العواطف

ص: 505


1- . مجمع البيان: 150/2.

والروحيات. ولذلك يوصي القرآن الكريم الوالدات بإرضاع الأولاد حولين كاملين.

2. شروط المرضعة

إذا اضطر الوالدان إلى استئجار ظئر فيجب عليهما الاحتياط في انتخاب المرضعة؛ لأنّ لبن الظئر يؤثّر في خَلْق الولد وأدبه، وبما أنّ حياة الإنسان رهن كون لبنه طاهراً، فقد أكّد الشرع على الاجتناب عن لبن الظئر التي صارت ذات لبن عن زنا، وإليك بعض ما رُوي في ذلك:

1. روى الكليني عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن امرأة ولدت من الزنى ، هل يصلح أن يُسترضع بلبنها؟ قال: «لا يصلح ولا لبن ابنتها التي ولدت من الزنى ».(1)

2. وروى أيضاً عن سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «لا تسترضع الصبيّ المجوسية، وتسترضع له اليهودية والنصرانية ولا يشربن الخمر، يمنعن من ذلك».(2)

3. وروى أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا مَن يرضع أولادكم فإنّ الولد يشبّ عليه».(3)

4. وفي رواية أُخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يغلب الطباع». قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يُشب عليه».(4)

ص: 506


1- . الوسائل: 14، الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.
2- . الوسائل: 14، الباب 76 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.
3- . الوسائل: 14، الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.
4- . الوسائل: 14، الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 3.

أحكام النكاح

7. الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

إنّ الغاية من دراسة آيات الأحكام هي العثور على الأحكام المشتركة بين عامّة المكلّفين من الرجال والنساء، وأمّا الآيات المتعلّقة بصنف خاص من النساء فدراستها وإن كانت أهم لما فيها من النكات الأخلاقية والاجتماعية لكنّها تفقد ما هي الغاية من الدراسة (أعني: الوقوف على الأحكام المشتركة)، ومع ذلك نحن نشير إلى نفس الآيات مع تفسير إجمالي، ومن أراد الوقوف على تفسيرها فليرجع إلى كتب التفسير.

لمّا رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من غزاة خيبر وأصاب كنز آل أبي الحقيق، قلن أزواجه: أعطنا ما أصبت، فقال لهنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قسمته بين المسلمين على ما أمر اللّه عزّ وجلّ »، فغضبن من ذلك وقلن: لعلّك ترى أنّك إن طلّقتنا أن لا نجد الأكفّاء من قومنا يتزوّجوننا؟ فأنف اللّه عزّ وجلّ لرسوله، فأمره اللّه أن يعتزلهنّ ، فاعتزلهنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مشربة أُمّ إبراهيم تسعة وعشرين يوماً حتى حضن وطهرن، ثم أنزل اللّه عزّ وجلّ هاتين الآيتين وهما آيتي التخيير.(1)

ص: 507


1- . لاحظ: تفسير القمي: 192/2. وفي المصدر: هذه الآية وهي آية التخيير.

الآية الأُولى

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) .(1)

الآية الثانية

قال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) .(2)

إنّ كثيراً من الناس ينظر لمن له صلة بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم بنفس النظرة إليه ويتصوّر أنّ أفراد أُسرته يجب أن يكونوا إسوة مثله، فلو صدرت من أحدهم معصية فسرعان ما تنتقل إلى الآخرين، ومن هنا هدّد سبحانه أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالآية التالية.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا اَلْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً) .(3)

الآية الرابعة

قال سبحانه: (وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها

ص: 508


1- . الأحزاب: 28.
2- . الأحزاب: 29.
3- . الأحزاب: 30.

مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) .(1)

الآية الخامسة

ثمّ إنّه سبحانه أخبر أنّ مَن تخضع للّه ورسوله منهنّ وتواظب على طاعتهما وتعمل عملاً صالحاً يعطها سبحانه مثلي ثواب غيرها، ويهيّئ لها رزقاً كريماً وهو الجنة.

ثمّ إنّ مفاد الآية لا يختصّ بنساء النبي بل يعمّ كلّ مَن له صلة بالأولياء والعلماء والقادة الدينيّين ومَن حولهم، فإنّ الناس ينظرون إليهم نفس النظرة إلى أُولئك، ولعلّه إلى ذلك يشير بعض الأحاديث، كقوله عليه السلام: «إنّما يُداقّ اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا».(2) وفي بعض الروايات: «يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد».(3)

قال سبحانه: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) .(4)

الآية السادسة

اشارة

ثمّ إنّه سبحانه كلّفهنّ بتكليف ثالث حيث يأمرهن اللّه سبحانه بالاستقرار في البيوت وعدم الخروج منها إلّالضرورة حفظاً لعفافهنّ .

ص: 509


1- . الأحزاب: 31.
2- . الكافي: 11/1، برقم 7.
3- . الكافي: 47/1، برقم 1، باب لزوم الحجّة على العالم.
4- . الأحزاب: 32.

قال سبحانه: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ

إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1) .

قوله: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ ...) هل هو ناظر إلى نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أوهو آية مستقلة وضعت بأمر النبي في ثنايا الآيات التي وردت في نسائه ؟

الحقّ هو الثاني وتدلّ على ذلك الأُمور التالية:

1. إفراد البيت في مقابل البيوت

عندما يخاطب اللّه سبحانه نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم يأتي بصيغة الجمع ويقول:

(وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) (2) ، وقال: (وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ ) (3)، وعندما يصل إلى آل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يفرد اللفظ ويقول: (أَهْلَ اَلْبَيْتِ ) . وهذا دليل على أنّ المقصود من أهل البيت، غير أهل البيوت.

2. اللام في أهل البيت للعهد

إنّ اللام إشارة إلى بيت معهود بين المتكلّم والمخاطب، فلا يمكن أن تكون مشيرة إلى بيوت الأزواج لما عرفت من إفراد البيت، ولا إلى بيت خاص مستقل للنبي من بيوت أزواجه، إذ لم يكن له ذلك البيت، ولم يبق إلّاأن تكون مشيرة إلى بيت فاطمة التي هي من أهله وأولاده.

ص: 510


1- . الأحزاب: 33.
2- . الأحزاب: 33.
3- . الأحزاب: 34.

وأمّا مشكلة السياق حيث وقعت الآية في ثنايا الآيات المتعرضة لشأن نسائه صلى الله عليه و آله و سلم، فهو أنّ الروايات المتضافرة بل المتواترة تدلّ على أنّ قوله سبحانه:

(إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ ) آية مستقلّة ولم تكن عندما نزلت جزءاً من الآية.

ويدلّ على ذلك قول الطبري وأمثاله يقول: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ ) فهم أهل بيت طهّرهم اللّه من السوء وخصهم برحمة منه.

وروى عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ ، وفي علي، وحسن، وحسين، وفاطمة.

كما روى عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذات غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم قال: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ ) .

كما روى أيضاً عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول: الصلاة، السلام عليكم أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .(1)

أضف إلى ذلك: أنّ عكرمة كان يمشي في الأسواق ويقول إنّه مستعد للمباهلة في مورد نزول الآية أي قوله سبحانه: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ ...) فكان موضوع المباهلة عنده نفس الآية، مستقلة.

والقارئ الكريم إذا قرأ تفسير الطبري لهذه الآية يجد بوضوح أنّ قوله:

(إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ ...) الآية مستقلّة، من غير فرق بين نزولها في الخمسة الطاهرة أو في غيرهم، فعلى هذا يسقط الاستدلال بالسياق، لأنّها لم تكن جزءاً من8.

ص: 511


1- . لاحظ: تفسير الطبري: 10/12-14؛ الكشف والبيان (تفسير الثعلبي): 35/8.

الآية الواردة فيها عند نزولها وإنّما نزلت مستقلة، ووضعت بأمر النبي في محلّها، وقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا.(1)

وأمّا ما هو وجه المناسبة في جعل آية مستقلّة في ثنايا آية أُخرى وجعل الجميع آية واحدة، فليس هذا أمراً بديعاً.

يقول الطبرسي: من عادة الفصحاء في كلامهم أنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه، والقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب وأشعارهم.(2)

وقال الشيخ محمد عبده: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن، ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرّة بعد المرّة.(3)

ولأجل أن يقف القارئ على صحّة ما قاله هؤلاء الأكابر نأتي بشاهد، فنقول:

قال سبحانه ناقلاً عن «العزيز» مخاطباً زوجته: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخاطِئِينَ ) .(4) نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها، يخاطب يوسف بقوله: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ... ثم يرجع إلى الموضوع الأوّل ويخاطب زوجته بقوله: (وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ) ... فقوله:

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) جملة معترضة وقعت بين الخطابين، والمسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين، وكانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.9.

ص: 512


1- . الإتقان في علوم القرآن: 194/1، الفصل الثامن عشر.
2- . مجمع البيان: 357/4.
3- . تفسير المنار: 45/2.
4- . يوسف: 28-29.

والضابطة الكلّيّة لهذا النوع من الكلام هي وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني، ثم منه إلى الأوّل، وهي أيضاً موجودة في المقام، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالخطابات التالية:

1. (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا اَلْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) .

2. (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ ) .

3. (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى ) .

فعند ذلك صحّ أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وذلك لوجهين:

1. تعريف نسائه بصفوةٍ بلغوا في الورع والتقوى ، الذروة العليا، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ، القمّة. وبذلك استحقّوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهنّ أن يقتدينّ بهم ويستضيئنّ بضوئهم.

2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة صفوةٍ طاهرة من الرجس ومطهّرة من الدنس، ولهنّ معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب، واللازم عليهنّ الحفاظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوئ، والتحلّي بما يرضيه سبحانه، ولأجل ذلك يقول سبحانه: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ ) ، وما هذا إلّا لقرابتهنّ منه صلى الله عليه و آله و سلم وصلتهنّ بأهل بيته. وهي لا تنفكّ عن المسؤولية الخاصّة، فالانتساب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ولبيته الرفيع، سبب المسؤولية ومنشؤها، وفي ضوء هذين الوجهين صحّ أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبيّ

ص: 513

والكلام حول شؤونهنّ .

ونعزّز هذا المعنى بما كتبه العلّامة محمد حسن المظفر، قال: وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج وخطابهنّ ، للتنبيه على أنّه سبحانه أمرهنّ ونهاهنّ وأدّبهنّ إكراماً لأهل البيت وتنزيهاً لهم عن أن تنالهم بسببهنّ وصمة، وصوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهنّ عيب، ورفعاً لهم عن أن يتّصل بهم أهل المعاصي، ولذا استهلّ سبحانه الآيات بقوله: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ ) ضرورة أنّ هذا التميّز إنّما هو للاتصال بالنبيّ وآله، لا لذواتهنّ فهنّ في محلّ ، وأهل البيت في محلّ آخر، فليست الآية الكريمة إلّاكقول القائل: يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعفّفي، وتستّري، وأطيعي اللّه تعالى، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الأدناس وصونهم عن النقائص.(1)

الآية السابعة

قال سبحانه: (وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اَللّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) .(2)

الآية الثامنة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اَللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اَللّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اَللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ

ص: 514


1- . دلائل الصدق: 72/2.
2- . الأحزاب: 34.

اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) .(1)

الآية ترشدنا إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: تذكر الآية النساء اللّاتي يجوز للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن ينكحهنّ بالمهر وتبتدئ ببيان ذلك بقوله: (إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ ) إلى قوله: (اَللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ) .

الثاني: ما يشير إلى أنّه يجوز للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يتزوج بامرأة بغير صداق ومهر إذا وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و آله و سلم وإليه يشير بقوله: (وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً ) إلى قوله:

(خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ ) وهذا يدلّ على أنّ هذا الحكم مختصّ بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا يعمّ المؤمنين.

الثالث: قوله: (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) .

أقول: الفقرة الأُولى والثانية ترجعان إلى الشروط التي فرضها الوحي على تزويج المؤمنين ويقول:

1. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ ) : أي قد علمنا ما قد أخذنا على المؤمنين من شروط في أزواجهم كلزوم المهر والحصر في عدد كلّ ذلك لمصلحة العائلة.ا؟

ص: 515


1- . الأحزاب: 50. الآية تدلّ على أنّه يجوز للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يتزوّج بامرأة مؤمنة إذا وهبت نفسها للنبي بغير صداق ومهر، إن أراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم نكاحها، ولكنّ هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقط، إنّما الكلام هل تزوّج النبي صلى الله عليه و آله و سلم امرأة ممن وهبت نفسها له، أو لا؟

2. (وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) : أي علمنا ما أخذنا عليهم من الشروط في ملك اليمين بأن يكون التملك بأسباب شرعية من الشراء والهبة والإرث.

3. (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ) تعليل من تجويز التزويج بالهبة وعدم لزوم المهر وعدم الحصر بأربعة نساء.

4. (وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً) : أي غفوراً لذنوب عباده (رَحِيماً) بك لرفع الحرج.

الآية التاسعة

قال سبحانه: (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَلِيماً).(1)

هذه الآية تتضمّن حكماً خاصّاً بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو أنّ الرجل إذا كان له أكثر من زوجة يجب عليه تقسيم المضاجعة بينهن ففي كلّ ليلة عند واحدة منهنّ ، وأمّا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقد استثني من هذا الحكم لحكمة وهي: أنّ تقسيم المضاجعة بين هؤلاء المناهز عددهن تسعاً يوجب اختلالاً في حياته الاجتماعية والسياسية إذ ما من شهر إلّاوتفرض عليه حرب ولا من شهر إلّاويخرج في غزوة أو مواجهة مؤامرة تحاك ضده، ففي هذه الأجواء كان حفظ حق القسمة بين الأزواج يوجد مشاكل في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولأجل ذلك حكم سبحانه بأنّه مختار في أمر المضاجعة وقال: (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ) : أي تؤخّر مضاجعة مَن تشاء، من نسائك (وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ) : أي تضاجع من تشاء ولا يجب عليك أن تقسّم

ص: 516


1- . الأحزاب: 51.

بينهنّ ، بل الأمر في ذلك إليك، حتى أنّه سبحانه خيّره بدعوة وإيواء من عزلها وقال: (وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ) : أي لا ضيق عليك، فصار النبي صلى الله عليه و آله و سلم مخيّراً بين تأخير مضاجعة من شاء، وتقديم مضاجعة من شاء ودعوة من عزلها عن المضاجعة.

قوله تعالى: (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ) الظاهر أنّ لفظ الإشارة في قوله:

(ذلِكَ ) مشير إلى القسم الثالث أي طلب من عزل فلو كان للنبي ذلك الحق يوجب قرّة عين من عزلها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

وأمّا الفعلان الآخران - أعني: (وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ ) - فراجعان إلى الاختيار بين الإرجاع والإيواء لأنّهن إذا علمن أنّه حكم من اللّه سبحانه في حق الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بين الإرجاع والإيواء ربما لا يحزنّ ويرضين، لأنّه ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة.

الآية العاشرة

قال سبحانه: (لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً) .(1)

قوله سبحانه: (لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ ) الآية ناظرة إلى أنّ كثيراً من المهاجرين والأنصار أو من حول المدينة كانوا يرغبون في تزويج بناتهم من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومن المعلوم أنّ ذلك يورث مشاكل للنبي، ولذلك لم يجوَّز له تبديل إحداهن بامرأة أُخرى وإن كانت أجمل، ويظهر من الأخبار أنّ قسماً من المؤمنين يصفون

ص: 517


1- . الأحزاب: 52.

بناتهم بالجمال حتى يوجدوا رغبة عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن جاء الوحي الإلهي لسد هذا الباب والاقتصار على ما اختار.

الآية الحادية عشرة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ (1) وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيماً) .(2)

الآية تتضمّن أحكاماً:

1. عدم دخول بيوت النبي إلّابعد الاستئذان.

2. عدم الحضور في بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يدرك الطعام وينضج.

3. الدخول عند الدعوة (الإذن).

4. التفرّق بعد إتمام الطعام.

5. عدم إطالة الجلوس أُنساً بالحديث وسروراً به بعد تناول الطعام.

6. عدم تكليم نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلّامن وراء حجاب.

ص: 518


1- . الضمير يرجع إلى الطعام بمعنى نضجه، يقال: أُنيَ الطعام أدرك وحان نضجه، والمعنى: أي لاتدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل نضج الطعام.
2- . الأحزاب: 53.

7. حرمة التزوّج بزوجاته بعد رحيله صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّ الظاهر من النهي أنّ النبي كان له مكانة سامية في قلوب المؤمنين وبالطبع أولاده وزوجاته، فلو جاز للناس بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تزويج زوجة من زوجاته، ربما يتخذ الزوج من تلك القرابة وسيلة سياسية واجتماعية على خلاف مصالح المؤمنين، ولأجل ذلك منع الوحي الإلهي من التزويج بهن حتى لا يكنّ طيّعات في أيدي السياسيّين.

الآية الثانية عشرة

قال سبحانه: (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اِتَّقِينَ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً) .(1)

لمّا أمر سبحانه الرجال أن يخاطبوا نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم من وراء حجاب حين يسألوهنّ متاعاً، استثنى من ذلك الطوائف التالية:

1. الآباء، 2. الأبناء، 3. الأُخوة، 4. أبناء الأخوة، 5. أبناء الأخوات، 6.

نسائهنّ (المؤمنات)، 7. الجواري.

الآية الثالثة عشرة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اَللّهُ

ص: 519


1- . الأحزاب: 55.

غَفُوراً رَحِيماً) .(1)

هذه الآيات تتضمن إمّا أحكاماً عامّة أو أحكاماً خاصّة بأزواجه، نعم بين هذه الآيات ما يمكن أن يكون دليلاً على الجميع وذلك في فقرتين:

1. قوله سبحانه: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ) ، وقد مرّ الاستدلال بها في لزوم الستر على المرأة.

2. قوله سبحانه: (وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) (2).

بقيت هنا ثلاث آيات، وإن كانت تتعلق بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لكن نتيجتها تعمّ كافة المكلفين، وهي آية حليّة أزواج الأدعياء بعد الطلاق، وهذا ما ندرسه تالياً.

الآيات: الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة

اشارة

قال سبحانه: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً * وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ

ص: 520


1- . الأحزاب: 59.
2- . الأحزاب: 53.

لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً * ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اَللّهُ لَهُ سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً).(1)

المفردات

ما كان لمؤمن: أي ليس من شأن المؤمن والمؤمنة، نظير قوله سبحانه:

(وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ ) (2) أي: لا ينبغي للّه أن يعذّبهم.

أنعم اللّه عليه: بالإسلام.

أنعمت عليه: بالعتق والحرية.

واتّق اللّه: في حقّ زوجتك ولا تطلّقها.

وتخشى الناس: تخاف من أن يعترض عليك الناس بزواجك من مطلّقة ابنك بالتبنّي.

وطراً: الوطَر: الحاجة.

زوجناكها: جعلناها لك زوجة.

حرج: الحرَج: المشقّة.

فرض اللّه: أوجب اللّه أو قدّر.

ص: 521


1- . الأحزاب: 36-38.
2- . الأنفال: 33.

سنّة اللّه: أي ما سنّ من الأحكام.

خلَوا: مضَوا.

التفسير

كان زيد بن حارثة الكلبي قد اختُطف في الجاهلية وهو غلام يافع، وعُرض للبيع في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فأهدته خديجة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد زواجها منه. وقد دفعت سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحسنة وأخلاقه الفاضلة زيداً هذا إلى أن يحب رسول اللّه حبّاً شديداً، حتّى أنّه عندما جاء أبوه إلى مكّة وأراد أن يفاديه لكي يعود إلى أهله ووطنه، أبى زيد أن يفارق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بالرغم من أنّه خيّره بين المكث عنده أو الرحيل مع أبيه.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحب زيداً لنباهته وأدبه حتّى أعتقه وتبنّاه، وقد وقف رسول اللّه ذات يوم وقال لقريش: يا من حضر اشهدوا أنّ زيداً هذا ابني(1).

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يزوّج زيداً بنت عمّته

من أهداف رسالة الإسلام إزالة الفواصل بين طبقات المجتمع ليعيش جميع أبنائه تحت لواء الإنسانيّة والتقوى، إخوة متحابّين، ولذلك قام صلى الله عليه و آله و سلم بتزويج عتيقه زيد بن حارثة من امرأة شريفة النسب وهي بنت عمّته زينب بنت جحش الأسدية (من بني أسد بن خزيمة)، وأُمّها أُميمة بنت عبدالمطلب، ليعلّم الناس أنّه يجب عليهم الإقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية، لكن زينب وأخاها (كما

ص: 522


1- . انظر: الطبقات الكبرى : 3/40-42؛ الاستيعاب (بهامش الإصابة): 1/545-547؛ أُسد الغابة: 2/225.

ورد في بعض الروايات) لم يبديا رغبة في هذا الأمر للوهلة الأُولى، وكان الردّ على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمراً صعباً وقد اعتذرا بعبودية زيد السابقة، حتّى نزل قوله سبحانه يندّد برفض زينب وأخيها طلب النبيّ ، وهو ما في قوله سبحانه: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .

فلمّا تلاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهما نزلا عند رغبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطاعة لأمره، ورضيا بهذا الزواج، فتزوّجت ذات الحسب والنسب الرفيع بعتيق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

تطليق زيد زوجته

ثم إنّ هذا الزواج لم يدم طويلاً، وأمّا ما هو السبب لتطليقه زينب، فليس معلوماً لدينا، وليس هذا الطلاق وحيداً في حياته فقد اتّخذ أزواجاً متعدّدة وطلّقهنّ ، ولمّا وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على نيّة زيد خاطبه بقوله: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) : أي لا تطلّقها (وَ اِتَّقِ اَللّهَ ) في أمرها.

وهذا يشير إلى إصرار زيد على مفارقتها. وعلى كلّ تقدير فقد طلّق زيد زينبَ وافترقا.

زواج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمطلقة متبنّاه لإبطال سنّة جاهلية

يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء، أو لهم آباء معروفون، لكن الرجل الأجنبي يعجبه أحد هؤلاء فيتبنّاه ويلحقه بنسبه، وتصير له حقوق البنوّة وملحقاتها، ولمّا كان هذا شذوذاً في الأساس أبطله الإسلام؛ لأنّ الولد

ص: 523

الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية فيكون وجود الولد امتداداً طبيعياً لوالده، وأين هذا من الولد المتبنّى الذي ينتمي إلى أبيه لا إلى مَن تبنّاه ؟ ولأجل إبطال هذه العادة الجاهلية قال سبحانه: (وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ * اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) .(1) لقد كان هذا التقليد أمراً سائداً في المجتمع العربي بحيث لم يكن أحد يجرؤ على نقضه، إلى أن أمر اللّه سبحانه رسوله أن يتزوّج مطلّقة دعيّه حتّى يثبت بهذا العمل أنّ متبنّاه ليس ولداً حقيقياً كما سيوافيك تفصيله عند تفسير الآيات.

وقد أثار عمل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذا بين المنافقين ومَن في قلوبهم مرض، ضجّةً وصخباً فاتّهموا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه تزوّج مطلّقة ابنه المتبنّى جهلاً وغفلةً ، ولم يعلموا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم استهدف تهديم سنّة جاهلية مقيتة، وإعادة العلاقات العائلية إلى مسارها الصحيح.

إذا وقفت على ذلك فلنرجع إلى تفسير الآيات:

قوله تعالى: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ ).

صيغة (وَ ما كانَ ) تارة تستعمل في نفي الإمكان، كما في قوله سبحانه:

(وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) (2) .

ص: 524


1- . الأحزاب: 4 و 5.
2- . المؤمنون: 92.

وأُخرى تستعمل في نفي الصلاحية، كما في قوله سبحانه: (وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

فقوله هنا: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ ) * بالمعنى الثاني أي ليس من شأن مؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، فحكمه وقضاؤه سبحانه نافذ على الجميع. وما ذلك إلّالأنّ الإسلام هو التسليم، فردّ قضاء اللّه سبحانه ينافيه، كما قال: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ) (2)، فإنّ التقدّم عليهما معصية كبيرة (وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) واشترى سخط اللّه باتّباع الهوى، وقد مرّ أنّ الآية نزلت في ردّ زينب وأخيها طلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، على ما مرّ.

وفي نهاية تفسيرنا لهذه الآية أحبُّ الإشارة إلى ما وقع في مؤتمر أُقيم في المدينة المنوّرة حول خطب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع، وقد أُلقيت فيه خطب ومحاضرات وقرئت مقالات، ولكن لم ينبس أحد حول خطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في غدير خمّ ببنت شفة، وقد بعثنا برسالتنا حول خطب النبيّ إلى المؤتمر وقام بعض الصلحاء باستنساخها وتوزيعها بين الحضور، إلّاأنّ رئاسة المؤتمر حالت بينهم وبين إلقائها.

ولمّا اتّصل بعض المشاركين من الشيعة برئيس المؤتمر وسأله عن سبب امتناعه عن ذكر خطبة الغدير قال: إنّ الخطبة صدرت عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّ الأُمّة لم1.

ص: 525


1- . التوبة: 122.
2- . الحجرات: 1.

تقبلها.

وعند ذلك قلت لصديقي: لماذا لم تقرأ عليه هذه الآية: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ ) ؟

ولاشك أنّ العمل بالمصالح المزعومة كانت حاكمة على النصوص، والحديث بعد ذو شجون.

ثمّ إنّ الآية الثانية تشير إلى ما مرّ من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا وقف على أنّ زيداً بصدد تطليق زوجته وعظه ونصحه كما يقول: (وَ إِذْ) : أي اذكر (تَقُولُ لِلَّذِي) : أي زيد (أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ ) بالإيمان والخلاص من أيدي المشركين (وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) بالعتق والتبنّي والمحبّة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) : أي لازم عشرتها.

قوله تعالى: (وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ ) : أي تخفي الوحي الإلهي الذي أنزله اللّه عليك في «زيد»، حيث إنّ اللّه قد فرض على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يتزوّج مطلّقة زيد الذي تبنّاه ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوّج بمطلّقات أبنائهم بالتبنّي، وكان صلى الله عليه و آله و سلم يخفي ذلك الأمر في نفسه إلى حينٍ ، مخافة سوء أثره في الناس، فأمّنه اللّه من ذلك وقال: (وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) .

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعلم أنّ ثمّة في المجتمع مَن يتصيّد في الماء العكر، ويسارع - في مثل هذه الأحوال - إلى بثّ الإشاعات المغرضة والأقاويل الباطلة، الأمر الّذي يؤثّر على منزلته صلى الله عليه و آله و سلم السامية في النفوس، ومن ثمّ على دوره كنبيّ داعٍ إلى الحقّ ، وإلى الاستقامة عليه في القول والفعل والسلوك. ومن هنا كان صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 526

يتريّث في إظهار ما ألهمه اللّه من الحكم في أمر زيد وامرأته، حذراً من أن تخوض فيه بالباطل تلك الألسنة الآثمة، فجاءت هذه الفقرة من الآية (وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) حاثّة له على عدم الالتفات إلى ما سيقولونه، وأنْ يمضي قُدُماً في تنفيذ ما فُرض عليه.

ثم إنّه يدلّ على ما ذكرنا من أنّ المراد من قوله: (وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ ) الوحي الذي نزل عليك في تزوّج امرأة زيد بعد فراقه إيّاها، قوله سبحانه:

(فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) فهذا يدلّ على أنّه سبحانه قضى بأن يتزوّج النبيّ بزوجة زيد بعد طلاقها، ليكون القدوة على مستوى الممارسة العملية في كسر التقاليد الجاهلية، ولم يكن تزوّجه إيّاها من تلقاء نفسه أو من جهة أُخرى وإنّما كان امتثالاً لأمر اللّه، كما يقول: (وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً) :

أي نافذاً وواقعاً.

ثم إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا كان في حرج نفسي من هذا الأمر، أوحى إليه سبحانه بالآية التالية أعني قوله تعالى: (ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اَللّهُ لَهُ ) :

أي ليس على النبيّ حرج ومنع فيما أحلّ اللّه له من نكاح امرأة مَن تبنّاه بعد فراقه إيّاها، وليس هذا أمراً خاصّاً بالنبي بل هو (سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) :

أي سنّة الأنبياء الذين مضَوا من قبل، وهل المراد حلّيّة زوجة المتبنّى بعد التطليق، أو المراد كثرة الزوجات والسراري ؟ والأوّل أرجح.

قوله تعالى: (وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) هذه الفقرة كالتي سبقتها - أعني قوله تعالى: (وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً) - والمراد أنّ تشريع اللّه هو الذي قُدّر، ولا محال

ص: 527

هو كائن.

ولمّا تقدّم قوله: (اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) فلابد من توضيح صفات وبيان مَن هم ؟ وهذا ما تكفّلت به الآية اللاحقة.(1)

***

تمّ الكلام في الجزء الثاني من كتاب «ألطاف الرحمن في فقه القرآن»

ويليه الجزء الثالث مبتدأ بآيات الطلاق إلى آخر آيات

الحدود والقصاص بإذن اللّه سبحانه.

والحمد للّه ربّ العالمين).

ص: 528


1- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 154/22، تفسير الآية 39 (سورة الأحزاب).

فهرس المحتويات

مقدّمة المؤلف... 7

الفصل السابع

أحكام الجهاد في الذكر الحكيم

الجهاد في الذكر الحكيم... 11

تمهيد... 11

الغاية من الجهاد الابتدائي... 13

1. في وجوب الجهاد... 16

الآية الأُولى... 16

المفردات... 16

التفسير... 17

الآية الثانية... 19

المفردات... 19

التفسير... 20

كون الجهاد خالصاً للّه تعالى... 20

الآية الثالثة... 25

المفردات... 25

ص: 529

التفسير... 26

الآية الرابعة... 28

الآية الخامسة... 29

المفردات... 29

التفسير... 29

ما هو المراد من التهلكة ؟... 30

2. الطوائف الأربع الذين لا يجب عليهم الجهاد... 32

المفردات... 32

التفسير... 33

نفي السبيل عن الطوائف الأربع... 33

قاعدة الإحسان... 34

مَن لا يجد الراحلة... 36

3. الجهاد الدفاعي... 39

الآية الأُولى... 39

المفردات... 39

التفسير... 39

قتال مَن يقاتل المسلمين... 39

الآية الثانية... 41

المفردات... 42

التفسير... 42

قتال المعتدين بمثل ما اعتدوا... 42

الآية الثالثة... 43

ص: 530

التفسير... 44

قتال أولياء الشيطان... 44

الآية الرابعة... 46

التفسير... 46

ردّ بأس الكافرين... 46

الآيتان: الخامسة والسادسة... 47

المفردات... 47

التفسير... 48

القتال لحفظ مراكز العبادة... 48

الآية السابعة... 50

المفردات... 50

التفسير... 51

النفير العام بسبب قوّة العدو... 51

الآية الثامنة... 53

المفردات... 53

التفسير... 53

الجزاء على الأعمال صغيرها وكبيرها... 53

حصيلة الآيات... 54

4. الجهاد الابتدائي... 56

الآية الأُولى... 59

المفردات... 59

التفسير... 60

ص: 531

الجهاد الابتدائي لتحرير المستضعفين من ظلم المستكبرين... 60

الآية الثانية... 62

المفردات... 62

التفسير... 63

أخذ الجزية ومصارفها... 68

في شرائط الذمّة... 71

الآية الثالثة... 72

المفردات... 72

التفسير... 72

ما هو المراد من جهاد المنافقين ؟... 73

الآية الرابعة... 74

المفردات... 75

التفسير... 75

الجهاد الابتدائي لقتال الناقضين لأيمانهم... 75

الحرية وحدودها... 78

الجهاد الابتدائي وشروطه... 80

5. كيفية القتال وشروطه... 83

الآيتان: الأُولى والثانية... 84

المفردات... 84

التفسير... 85

حرمة التولّي عن العدو... 85

الآيتان: الثالثة والرابعة... 87

ص: 532

المفردات... 87

التفسير... 88

منع أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب... 88

الفداء أو بيع الإنسان... 90

العفو عن أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب... 91

الخطاب متوجّه إلى مَن ؟!... 91

الآية الخامسة... 93

المفردات... 93

التفسير... 94

ضوابط أخذ الأسرى... 94

إذا طالت الحرب شهوراً... 96

الآيات: السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة... 98

المفردات... 98

التفسير... 99

وصف الطوائف الثلاث الناقضين للعهد... 99

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن نقض عهده وطائفة وراءه... 102

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن يترقّب منه نقض العهد... 102

6. التعبئة والاستعداد التام للدفاع عن المجتمع المسلم... 104

المفردات... 104

التفسير... 104

7. الصلح في ظروف خاصّة... 108

الآية الأُولى... 108

ص: 533

المفردات... 108

التفسير... 108

8. الصلح بين طائفتين مسلمتين... 111

المفردات... 111

التفسير... 111

قتال البغاة... 113

9. حرمة المبادرة إلى التكفير بلا دليل... 116

المفردات... 116

شأن نزول الآية... 116

التفسير... 118

وجوب الاحتياط في الدماء... 118

الفصل الثامن:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذكر الحكيم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 123

1. ما يدلّ على وجوب الفريضتين... 124

الآية الأُولى... 124

المفردات... 124

التفسير... 124

الآية الثانية... 125

المفردات... 126

التفسير... 126

الآية الثالثة... 127

ص: 534

المفردات... 128

التفسير... 128

2. هل الفريضة واجب عيني أو كفائي ؟... 130

أسئلة وأجوبة... 130

3. الفريضتان في الشرائع السالفة... 135

4. في شروط النهي عن المنكر... 137

5. حكم التقية في الذكر الحكيم... 140

الآية الأُولى... 140

المفردات... 140

التفسير... 141

الآية الثانية... 143

المفردات... 143

التفسير... 144

الآية الثالثة... 146

المفردات... 146

التفسير... 146

الآية الرابعة... 147

المفردات... 147

التفسير... 148

مكانة أبي طالب نفس مكانة أصحاب الكهف... 149

مورد الآيات اتّقاء المسلم من الكافر... 150

ص: 535

الفصل التاسع:

المكاسب المحرّمة في الذكر الحكيم

1. التطفيف... 155

الآية الأُولى... 155

المفردات... 155

التفسير... 156

التطفيف مورداً أعمّ ممّا يكال ويوزن... 158

التطفيف بنفسه حرام... 158

الآية الثانية... 160

المفردات... 160

التفسير... 160

الآية الثالثة... 162

الآية الرابعة... 162

فرع: لو آجر نفسه للتوزين فأخسر... 163

2. الرشوة... 164

الآية الأُولى... 164

المفردات... 164

التفسير... 165

الآيتان: الثانية والثالثة... 166

المفردات... 166

التفسير... 166

الآية الرابعة... 169

ص: 536

المفردات... 169

التفسير... 169

1. أكل المال بالباطل... 169

2. أكل المال بالرشوة... 170

حكم الرشا في إحقاق الحق... 170

3. أكل الميتة والدم و...... 172

الآية الأُولى... 172

المفردات... 173

التفسير... 174

الآية الثانية... 174

المفردات... 174

التفسير... 175

4. التكسّب بالأُمور الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام... 176

الآيتان: الأُولى والثانية... 176

المفردات... 176

التفسير... 177

5. الربا... 179

تمهيد... 179

الآية الأُولى... 180

المفردات... 180

التفسير... 181

الآية الثانية... 182

ص: 537

الآية الثالثة... 183

المفردات... 183

التفسير... 183

الآية الرابعة... 184

المفردات... 184

التفسير... 185

الآيتان: الخامسة والسادسة... 188

المفردات... 188

التفسير... 188

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة... 191

أقوال فقهاء السنّة... 191

أقوال فقهاء الشيعة... 192

الروايات المتعلّقة بالمسألة... 193

7. الغناء... 197

المقام الأُول: دراسة ما استدلّ به من الآيات على حكم الغناء... 197

الآية الأُولى... 197

المفردات... 198

التفسير... 198

الآية الثانية... 200

الآية الثالثة... 200

المفردات... 201

التفسير... 201

ص: 538

الآية الرابعة... 202

الآية الخامسة... 203

المفردات... 203

الآية السادسة... 204

المقام الثاني: في حقيقة الغناء... 205

الفصل العاشر:

العقود الشرعية وشيء من الإيقاعات في الذكر الحكيم

العقود الشرعية... 211

تمهيد... 211

الأمر الأوّل: لزوم الوفاء بالعقود... 211

المفردات... 212

التفسير... 213

ما هو مفاد وجوب الوفاء بالعقد؟... 215

الأمر الثاني: كون التجارة عن تراض... 215

المفردات... 216

التفسير... 216

التجارة عن تراض مفيدة للملكية أو إباحة التصرّف ؟!... 217

هل المعاطاة داخلة في الآية أو لا؟... 218

1. البيع... 220

الكتابة والإشهاد في البيع... 221

2. الإجارة... 223

الآيتان: الأُولى والثانية... 224

ص: 539

المفردات... 224

التفسير... 225

الآية الثالثة... 230

3. الدين أو القرض... 233

الآية الأُولى... 233

المفردات... 234

التفسير... 235

1. التوثّق للدين بالكتابة... 236

2. كتابة شخص ثالث... 237

3. رعاية العدل في الكتابة... 237

4. عدم امتناع الكاتب عن الكتابة... 238

5. إملاء مَن عليه الحقّ على الكاتب... 239

6. رعاية التقوى لمَن عليه الحقّ ... 239

7. قيام إملاء الولي مكان المولّى عليه... 239

8. إملاء الولي بالعدل... 239

9. الاستشهاد بشهيدين... 240

10 و 11. اشتراط البلوغ والإسلام... 240

12. قيام امرأتين مكان رجل واحد... 240

13. اعتبار الوثاقة في الشهداء... 240

14. وجوب الحضور على الشهود عند الدعوة... 242

15. كتابة الدين جليله وحقيره... 242

16. استثناء التجارة الحاضرة... 243

ص: 540

17. الاستشهاد في المعاملة النقدية... 243

18. عدم إيقاع الضرار على الكاتب والشهيد... 244

الآية الثانية... 246

المفردات... 246

التفسير... 247

الآية الثالثة... 248

المفردات... 248

التفسير... 249

4. الضمان والكفالة... 252

تمهيد... 252

الآية الأُولى... 253

المفردات... 253

الآية الثانية... 255

5. الصلح... 256

تمهيد... 256

الآية الأُولى... 257

الآية الثانية... 257

الآية الثالثة... 259

المفردات... 260

التفسير... 260

لو اتّفقا على الفراق... 262

الآية الرابعة... 263

ص: 541

المفردات... 263

التفسير... 263

الآية الخامسة... 265

المفردات... 265

التفسير... 266

الآية السادسة... 267

المفردات... 267

التفسير... 267

تنبيه... 268

6. الإيداع والوديعة... 269

تمهيد... 269

الآية الأُولى... 269

المفردات... 270

التفسير... 270

نفثة مصدور... 273

الآية الثانية... 275

المفردات... 275

التفسير... 275

أهل الكتاب بين أمين وخائن... 276

الآية الثالثة... 278

التفسير... 278

7. العارية... 280

ص: 542

8. عقد المسابقة و الرماية... 282

الآية الأُولى... 282

الآية الثانية... 283

المفردات... 283

التفسير... 284

9. الشُّفعة... 287

تمهيد... 287

خاتمة... 287

1. اللقطة: الشيء الذي يجده الإنسان من غير قصد... 288

2. حكم الغصب... 288

10. الوصية... 289

تمهيد... 289

الآيات: الأُولى والثانية والثالثة... 290

المفردات... 290

التفسير... 291

سعة رقعة الوصية... 291

النهي عن تبديل الوصية... 292

إذا أوصى بغير الحقّ ... 293

الإيصاء للوارث غير منسوخ... 295

ملاحظات على القول بنسخ الآية بالسنّة... 300

الآية الرابعة... 303

التفسير... 303

ص: 543

تقديم الوصية والدين على تحديد التركة... 303

الآية الخامسة... 304

التفسير... 305

تقديم الوصية والدين على تحديد التركة... 305

الآية السادسة... 306

المفردات... 306

التفسير... 306

11. في أحكام الحجر... 311

أوّلاً: الحجر بسبب الصغر... 311

الآية الأُولى... 311

المفردات... 312

التفسير... 312

أكل مال اليتيم من الكبائر... 313

الآية الثانية... 314

المفردات... 314

إعراب فقرات الآية... 315

التفسير... 316

رأي أبي حنيفة في تفسير الفقرة... 319

الآية الثالثة... 322

المفردات... 322

التفسير... 322

الآية الرابعة... 324

ص: 544

المفردات... 325

التفسير... 325

ثانياً: الحجر بسبب السفه... 327

المفردات... 327

التفسير... 328

ثالثاً: الحجر بسبب الرّق... 332

الايقاعات... 333

1. النذر... 333

الآية الأُولى... 333

المفردات... 334

التفسير... 334

الآية الثانية... 335

المفردات... 335

التفسير... 335

2. أحكام اليمين... 338

الآية الأُولى... 338

المفردات... 339

التفسير... 339

الآية الثانية... 341

المفردات... 341

التفسير... 342

الآية الثالثة... 343

ص: 545

المفردات... 344

التفسير... 344

حكم غير الواجد للأُمور الثلاثة... 348

3. أحكام العتق... 349

تمهيد... 349

الآية الأُولى... 351

المفردات... 351

التفسير... 351

شأن النزول... 351

الآية الثانية... 352

المفردات... 353

التفسير... 353

الآية الثالثة... 356

الفصل الحادي عشر:

أحكام النكاح في الذكر الحكيم

1. آداب النكاح والحثّ عليه والترغيب فيه... 361

تمهيد... 361

الآية الأُولى... 362

المفردات... 363

التفسير... 363

الآية الثانية... 366

المفردات... 367

ص: 546

التفسير... 367

الآية الثالثة... 367

المفردات... 368

التفسير... 369

هل القرآن يبيح نكاح تسع نساء؟... 370

الأوّل: وجه الصلة بين الشرط (فإن خفتم) والجزاء (فانكحوا)... 372

الثاني: القرطبي يتّهم الشيعة بإباة العقد على التسع!!... 373

الثالث: المراد التسوية في الحقوق لا العلائق القلبية... 373

كلمات غير صحيحة حول الآية... 375

الآيات الرابعة والخامسة والسادسة... 376

المفردات... 376

التفسير... 376

2. أحكام معاشرة النساء... 379

الآية الأُولى... 379

المفردات... 379

التفسير... 380

ضوابط النظر بين الرجل والمرأة الأجنبيين... 380

الآية الثانية... 384

المفردات... 384

التفسير... 385

الأحكام الستة في مورد النساء... 385

الحُكم الأوّل: غضّ الأبصار... 386

ص: 547

الحكم الثاني: حفظ الفروج... 386

الحكم الثالث: عدم إبداء الزينة إلّاما ظهر منها... 386

الحكم الرابع: إلقاء الخُمُر على الجيوب... 389

وجه فرض الحجاب على النساء... 391

الحكم الخامس: حرمة إبداء الزينة إلّافي موارد خاصّة... 392

علّة عدم ذكر العمّ والخال... 394

الحكم السادس: حرمة الضرب بالأرجل... 394

الآية الثالثة... 395

المفردات... 396

التفسير... 396

حكم القواعد من النساء في أمر الحجاب... 396

الآية الرابعة... 397

المفردات... 398

التفسير... 398

أحكام العشرة والمخالطة... 398

الآية الخامسة... 400

التفسير... 400

حكم الأطفال البالغين... 400

الآية السادسة... 401

المفردات... 402

التفسير... 402

ما هو الوجه لتخصيص الطوائف الثلاث بالذكر؟... 404

ص: 548

ما هي الوظيفة عند الدخول للبيوت ؟... 406

3. النساء اللاتي يحرم نكاحهن... 408

الآية الأُولى... 408

المفردات... 408

التفسير... 409

حكم منكوحة الأب... 409

الآية الثانية... 410

المفردات... 410

التفسير... 411

مَن يحرم نكاحهن نسباً... 411

موارد أُخرى ممّن اللّواتي يحرم نكاحهنّ ... 413

الأُولى: مَنْ يحرم نكاحهن رضاعاً... 414

الثانية: مَنْ يحرم نكاحهنّ بالمصاهرة... 416

الآية الثالثة... 417

المفردات... 418

التفسير... 418

حكم نكاح المطلّقة مرّتين... 418

الآية الرابعة... 419

التفسير... 419

حكم المطلقة ثلاثاً... 419

الآية الخامسة... 421

المفردات... 421

ص: 549

التفسير... 422

حكم المتزوّجات من النساء... 422

حكم الزواج المؤقّت... 424

القرينة الأُولى: المراد من قوله: (فما استمتعتم) هو عقد الاستمتاع لا التلذّذ... 424

عقد الاستمتاع حقيقة في العقد المؤقّت... 425

القرينة الثانية: الحمل على النكاح الدائم أو الصداق يستلزم التكرار... 425

القرينة الثالثة: الجملتان المتقدّمتان على قوله: (فما استمتعتم)... 426

حقيقة الزواج المؤقّت في القرآن الكريم... 428

الزواج المؤقت في صدر الإسلام... 429

صدور المنع في عصر الخليفة لثاني... 431

في نكاح الأمة... 436

الآية السادسة... 436

المفردات... 436

التفسير... 437

نكاح الأمة بشروط خمسة... 437

في حرمة نكاح المشركات والمشركين... 443

الآية السابعة... 443

المفردات... 443

التفسير... 444

النهي عن نكاح المشركات ونكاح المشركين... 444

عثرة لا تستقال لمؤلّف «الفقه على المذاهب الأربعة»... 446

نكاح العفائف من أهل الكتاب... 449

ص: 550

الآية الثامنة... 449

المفردات... 449

التفسير... 450

حكم نكاح المسلم الكتابية... 451

ما استدلّ به على حرمة نكاح الكتابيّة... 453

1. النهي عن نكاح المشركات... 453

2. النهي عن نكاح الكوافر... 454

3. عموم التعليل في مورد نكاح المشركة... 454

في حرمة نكاح الزانية... 456

الآية التاسعة... 456

التفسير... 456

دليل المخالفين على الجواز... 458

4. أحكام المهور في الذكر الحكيم... 461

الآية الأُولى... 461

المفردات... 462

التفسير... 462

وجوب إيتاء الصداق (المهور) إلى النساء... 462

الآية الثانية... 464

المفردات... 465

التفسير... 465

المحاور الخمسة في الآية... 465

الآيتان: الثالثة والرابعة... 471

ص: 551

المفردات... 471

التفسير... 472

قداسة عقد الزواج وأنّه ليس من مقولة البيع... 473

لا حدّ للمهر في الإسلام... 475

الآية الخامسة... 476

المفردات... 476

التفسير... 477

هل التمتيع واجب أو مندوب ؟... 479

الآية السادسة... 482

المفردات... 482

التفسير... 483

المطلّقة غير المدخول بها المفروض لها المهر... 483

5. أحكام النشوز في الذكر الحكيم... 487

تمهيد... 487

الآية الأُولى: في نشوز المرأة... 487

المفردات... 488

التفسير... 488

قيمومة الرجال على النساء وحدودها... 490

النشوز وحدوده... 491

الآية الثانية: في نشوز الزوج... 492

المفردات... 492

التفسير... 493

ص: 552

نشوز الزوج على زوجته... 493

الآية الثالثة: إعمال العدالة بين النساء في النفقة... 495

المفردات... 495

التفسير... 495

النهي عن ترك الزوجة كالمعلّقة... 495

لا اختلاف بين الآيتين... 496

6. حقوق الزوجة على الزوج في الذكر الحكيم... 498

تمهيد... 498

الآية الوحيدة في أحكام الرضاع... 499

المفردات... 499

التفسير... 500

1. إرضاع الأولاد حولين كاملين... 501

2. ما تستحقه الوالدة خلال فترة الرضاع... 502

3. التكليف على حدّ القدرة... 503

4. منع الزوجين عن اتّخاذ الولد ذريعة للإضرار... 503

5. استمرار وجوب النفقة على وارث الوالد... 504

6. فطام الولد يتمّ عن طريق التشاور بين الزوجين... 504

7. استئجار المرضعة... 504

بقي هنان بحثان:... 505

1. أهمية لبن الأُمّ للمولود... 505

2. شروط المرضعة... 506

7. الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 507

ص: 553

الآية الأُولى... 508

الآية الثانية... 508

الآية الثالثة... 508

الآية الرابعة... 508

الآية الخامسة... 509

الآية السادسة... 509

1. إفراد البيت في مقابل البيوت... 510

2. اللام في أهل البيت للعهد... 510

الآية السابعة... 514

الآية الثامنة... 514

الآية التاسعة... 516

الآية العاشرة... 517

الآية الحادية عشرة... 518

الآية الثانية عشرة... 519

الآية الثالثة عشرة... 519

الآيات: الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة... 520

المفردات... 521

التفسير... 522

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يزوّج زيداً بنت عمّته... 522

تطليق زيد زوجته... 523

زواج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمطلقة متبنّاه لإبطال سنّة جاهلية... 523

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ )... 524

فهرس المحتويات... 529

ص: 554

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.