الطاف الرحمن فی فقه القرآن المجلد 1

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی ، جعفر، ‫ 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور : الطاف الرحمن فی فقه القرآن/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام صادق (ع) ‫، 1441ق. ‫ = 1398 -

مشخصات ظاهری : ج.

فروست : موسسه امام صادق (ع) ‫؛ 487.

شابک : ‫دوره ‫: 978-964-357-628-8 ؛ ‫ج.1 ‫: 978-964-357-627-1 ؛ ‫ج.2 ‫: ‫ 978-964-357-634-9 ؛ ‫ج.3 ‫: ‫ 978-964-357-645-5

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.3(چاپ اول: 1399) (فیپا).

مندرجات : ج.1. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام الطهاره والصلاه والصیام والزکاه والانفال والفیء والخمس والحج.-ج.2. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام : الجهاد والأمربالمعروف والنهی عن المنکر٬ والمکاسب المحرمة٬ و العقود الشرعیة والایقاعات والأحکام النکاح

موضوع : قرآن -- احکام و قوانین

Qur'an -- Law and legislation

موضوع : تفاسیر فقهی -- شیعه

Qur'an -- *Legislative hermeneutics -- Shiite

قرآن -- علوم قرآنی

Qur'an -- Qur'anic sciences

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : ‫ BP99/6

رده بندی دیویی : ‫ 297/174 ‮

شماره کتابشناسی ملی : 5781015

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ألطاف الرحمن

في

فقه القرآن/ 1

ص: 3

ص: 4

ألطاف الرحمن

في فقه القرآن

الجزء الأوّل

في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة

والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ

تأليف

الفقيه المحقّق

جعفر السبحاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

ألطاف الرحمن في فقه القرآن / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1397.

2 ج (VOL.1) 1-627-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 8 - 628-357-964-978 ISBN

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

ج. 1. في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ .

1. قرآن -- احكام و قوانين. 2. تفاسير فقهى -- شيعه. الف. موسسۀ امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

7 الف 2 س 6/99 BP 174/297

1397

اسم الكتاب:... ألطاف الرحمن في فقه القرآن / ج 1

المؤلف:... الفقيه المحقّق جعفر السبحاني التبريزي

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1397 ه ش / 1440 ه. ق / 2019 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عدد النسخ:... 1000 نسخة

القطع:... وزيري

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1031 تسلسل الطبعة الأُولى: 487

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة

مركز التوزيع

قم المقدسة: ساحة الشهداء: مكتبة التوحيد

? 37745457؛ 09121519271

http://www.Tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص: 6

تقديم

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الّذي أنزل القرآن فيه تبيان لكلّ شيء؛ والصلاة والسلام على مَن بعثه ليبيّن للناس ما أُنزل إليهم، قال تعالى: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1)؛ وعلى آله الّذين «هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ ، وَجِبَالُ دِينِهِ »(2)، صلاة دائمة متواترة مترادفة.

أمّا بعد؛

فالقرآن الكريم الحجر الأساس للتشريع الإسلامي، ويُعدّ الدعامة الأُولى واللبنة الأساسية في بناء الحضارة الإسلامية لا سيّما الجانب الاعتقادي والفقهي والأخلاقي.

بيد أنّ الذي يهمّنا هنا هو الجانب الفقهي، والذي زوّد المسلمين بالتشريع حقبة زمنية طويلة.

إنّ للتشريع القرآني ملامح نشير إلى بعضها:

1. التشريع تدريجياً

نزلت الآيات القرآنية نجوماً، على خلاف الكتب السماوية الأُخرى فإنّها نزلت جملة واحدة.

ص: 7


1- . النحل: 44.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 2.

إنّ السبب لكون التشريع تدريجياً هو مسايرة القرآن للحوادث المستجدة التي كانت تحصل في حياة المسلمين الفردية والاجتماعية، وكانت الأحداث تأتي تباعاً واحداً بعد الآخر.

2. الاقتصار على الأحكام الكلّيّة

يتميّز التشريع القرآني في مجال العبادات والمعاملات وغيرها بعرض أُصول كلّيّة تترك تفاصيلها إلى السنّة الشريفة؛ لأنّ القرآن هو الدستور العام للمسلمين، فطبيعة الحال تقتضي ترك التفاصيل إلى السُّنّة، ومع اقتصاره على الأُصول، قلّما يتّفق في مورد لم يستمد من آية قرآنية، فكانت آيات الأحكام مع قلّتها لها مادة حيوية تعين الفقيه على التطرق إلى كافة الأبواب الفقهية.

3. مرونة التشريع

إنّ من ملامح التشريع القرآني مرونته وقابليته للانطباق على جميع الحضارات الإنسانية؛ وما ذلك إلّالأنّه جاء بتشريعات خاصّة لها دور التحديد والرقابة على سائر تشريعاته، ولهذا أعطى للدين مرونة ومنعطفاً جديداً يتمشّى مع عامّة الحضارات.

ولنقتصر بذلك في بيان الملامح فنقول: إنّ دراستنا في هذا الكتاب حول الآيات التي تتضمّن تشريعاً كلّيّاً حول العبادات والمعاملات والسياسات وغيرها، عسى أن يكون مفيداً للقارئين ومصباحاً ينير الدرب للطالبين، واللّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 8

تمهيد

قسّم المفسّرون الآيات القرآنية إلى أقسام ثلاثة:

الأوّل: المعارف والأُصول العقدية.

الثاني: الأحكام والأُصول الأخلاقية.

الثالث: القصص وأخبار الأُمم السالفة.

فالأوّل منها ما يرجع إلى العقل النظري، والمدرك به ما يرجع إلى واقع الأُمور من حيث الوجود والعدم.

وأمّا الثاني فهو يرجع إلى العقل العملي، والمدرك به عبارة عمّا يجب أن يفعل أو لا يفعل.

وأمّا الثالث فهو الذي يبحث عن أحوال الأُمم السالفة وقصصهم وما جرى عليهم من قضاء اللّه سبحانه.

والذي يهمنا في المقام هو القسم الثاني، أعني: الآيات المتكفّلة لبيان شأن الأفعال من حيث لزوم الإتيان بها أو تركها، إيجاباً أو تفضيلاً، وهي ما يعبّر عنه بالأحكام الشرعية، وقد قام العديد من علماء الفريقين بإفراد التأليف في هذا الصدد، فأقدم تأليف للشيعة فيه، كتاب «أحكام القرآن» لأبي النضر محمد بن

ص: 9

السائب بن بشر الكلبي من أصحاب أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه الصادق عليهما السلام، والّذي توفّي عام 146 ه.

وقد توالى التأليف من عصره إلى يومنا هذا، فذكر الباحث الكبير الشيخ آقا بزرگ الطهراني في موسوعته «الذريعة» ما يناهز 30 كتاباً في هذا المضمار.(1)

وما ذكره من العناوين يرجع إلى عصر المؤلّف، وقد قام بعده غير واحد من العلماء بالتأليف حول آيات الأحكام. شكر اللّه مساعي الجميع.

كم هو عدد آيات الأحكام ؟

اختلف المؤلّفون في هذا الفن في عدد الآيات الواردة فيه، والمشهور أنّها تبلغ 500 آية، حتّى أنّ الشيخ فخر الدين أحمد بن متوّج البحراني تلميذ فخر المحقّقين الّذي توفّي عام 772 ه، ألّف كتاباً أسماه «النهاية في تفسير خمسمائة آية»، وشرحه نجله بما أسماه «منهاج الهداية في تفسير خمسمائة آية».(2)

هذا هو المشهور غير أنّ بعض الباحثين من المتأخّرين قلّلوا عدد هذه الآيات، قائلين بأنّها لا تتجاوز 330 آية.

قال عبدالوهاب خلّاف - من فقهاء السنّة المعاصرين -: إنّ في العبادات بأنواعها نحو 140 آية.

وفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ووصية وحجر وغيرها نحو سبعين آية.

ص: 10


1- . لاحظ: الذريعة: 2/40-44.
2- . الذريعة: 2/42.

وفي المجموعة المدنية من بيع وإجارة ورهن وشركة وتجارة ومداينة وغيرها نحو سبعين آية.

وفي المجموعة الجنائية من عقوبات وتحقيق جنايات نحو ثلاثين آية.

وفي القضاء والشهادة وما يتعلّق بها نحو عشرين آية.(1)

ولعلّ نظره إلى الآيات الصريحة في الأحكام الّتي لا تحتاج إلى الدقّة والتفكير.

تحديد عدد الآيات غير مفيد

اشارة

والّذي أظن أنّ تحديد عدد آيات الأحكام أمر غير مفيد، لا يصل الباحث فيه إلى نتيجة قطعية؛ وذلك لأنّ عدد آياتها يختلف حسب ذوق الفقيه ودرايته، فربّ فقيه يلتقط من آية حكماً شرعياً ربّما غفل عنه فقيه آخر، وما ذلك إلّالأنّ سعة آفاق دلالته على مقاصده تسبّب ذلك، كيف وقد قال سبحانه: (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .(2) والذي يدلّ على ما نقول به، الأمران التاليان:

1. الذمّي الّذي نقض حكم الذمّة

قُدّم إلى المتوكلّ رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: «يضرب ثلاثة حدود»، فكتب المتوكلّ إلى الإمام الهادي عليه السلام يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب:

ص: 11


1- . خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي: 28-29.
2- . النحل: 89.

«يضرب حتّى يموت»، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة ؟ فكتب:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم: (فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ اَلْكافِرُونَ ) »(1) فأمر به المتوكلّ فضرب حتّى مات.(2)

تجد أنّ الإمام الهادي عليه السلام استنبط حكم الموضوع من آية مباركة لا يذكرها الفقهاء في عداد آيات الأحكام، لعدم صراحتها في الموضوع، غير أنّ الإمام لوقوفه على سعة دلالة القرآن، استنبط حكم الموضوع من تلك الآية، وكم لها من نظير. ولو أنّ القارئ الكريم جمع الروايات الّتي استشهد بها أئمة أهل البيت على مقاصدهم استشهاداً تعليمياً لا تعبّدياً، لوقف على سعة آفاق القرآن.

وقد سمعنا عن بعض مشايخنا أنَّ من العلماء مَن استنبط من سورة المسد أكثر من عشرة أحكام فرعية، كما استنبطوا من قوله سبحانه: (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (3) عدداً من الأحكام، الّتي منها جعل منفعة الحر مهراً، حيث جعل شعيب عليه السلام رعي الغنم مهراً لبنته، يقول صاحب الجواهر في شرح قول المحقّق في الشرائع: (يصحّ العقد على منفعة الحر، كتعليم الصنعة والسورة من القرآن، وكلّ عمل محلّل)، بل يصحّ العقد على إجارة الزوج نفسه وفاقاً للمشهور.(4)

فإن قلت: إنّ الاستدلال بمثل هذه الآية يتوقّف على كون الشرائع السابقةر.

ص: 12


1- . غافر: 84-85.
2- . مناقب آل أبي طالب: 4/403-405.
3- . القصص: 27.
4- . جواهر الكلام: 31/4؛ شرائع الإسلام: 2/323-324، في المهور.

حجّة علينا، إمّا مستقلّة أو بمعونة الاستصحاب.

قلت: إنّ القرآن الكريم كتاب هداية، فعامّة ما ورد فيه حجّة علينا، سواء أكان الوارد في الشرائع السابقة أم في شريعتنا، وليس القرآن كتاب قصّة يسرد شيئاً دون أن يفيدنا نكتة.

نعم ربّما تستنبط من الآية أحكام أُخرى غير خالية من النظر، نظير عدم لزوم تعيين المعقودة حين العقد، أو جواز جعل المهر مجملاً بين الأقل والأكثر، أو جواز تصرّف الولي في مهر البنت، غير أنّ استنباط هذه الأحكام الثلاثة من الآية مورد تأمّل، كما هو واضح للمتدبّر.

نعم قد ينقل عن بعض الناس شيئاً غير صحيح لكن يستدركه بالإنكار حتّى لا يُتلقّى شيئاً صحيحاً، كما ينقل عن إيمان فرعون في أُخريات حياته وقال:

(قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ) (1) .

فربّما يتوهّم القارئ أنّ الإيمان في هذه اللحظات يكون مؤثّراً في سعادة الإنسان، فلرد هذا التوهّم جاء البيان القرآني قائلاً: (آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ) (2).

2. موضوعات خفيّت عن المؤلّفين

اشارة

والّذي يدلّ على أنّ تحديد عدد آيات الأحكام أمر غير مفيد، أنّه قد وردت في الذكر الحكيم موضوعات عديدة لها أحكام واضحة، لكن المؤلّفين فيها غفلوا

ص: 13


1- . يونس: 90.
2- . يونس: 91.

عن عنوانها، وبالتالي تركوا دراسة آياتها، وها نحن نشير إلى بعض هذه العناوين:

1. البدعة

إنّ البدعة من الموضوعات الّتي وردت فيها آيات متعدّدة ولكن لا نجد لها عنواناً فيما أُلّف حول آيات الأحكام، يقول سبحانه: (وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) (1)، ويقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ) .(2)

2. الإسراف والتبذير

إنّ الإسراف والتبذير من الموضوعات الّتي ورد حكمها في القرآن الكريم ولم نقف على من عنونهما فيه، قال سبحانه: (إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ ) (3)، وقال تعالى: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (4)، وقال تعالى: (كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا) .(5)

3. التكفير

إنّ التكفير الّذي صار في زماننا هذا مشكلة عظيمة هو من الموضوعات

ص: 14


1- . النحل: 116.
2- . المائدة: 2.
3- . الإسراء: 27.
4- . الإسراء: 26.
5- . الأعراف: 31.

الّتي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا) .(1)

4. التعزير

إنّ التعزير أحد الأساليب الّتي يحكم بها القاضي، وهو من الموضوعات الّتي ورد فيها بعض الآيات، قال سبحانه: (وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ ) (2)، وقال تعالى: (وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً) .(3)

فقوله: (وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها) إشارة إلى الزاني والزانية، فعلى الحاكم إيذاؤهما تعزيراً، لا حدّاً، لأنّ حدّ الزاني والزانية مائة جلدة. ولذلك ربما توصف الآية بالنسخ.

ثم إنّ الّذي يدلّ على أنّ عدد آيات الأحكام أكثر ممّا ذكروا هو أنّ الآيات الواردة حول الجهاد كثيرة من حيث العدد، غير أنّ المؤلّفين في آيات الأحكام يبحثون عن أُمّهات الآيات الّتي تكون مبدأً لاستنباط الحكم.

اختلاف المناهج في تفسير آيات الأحكام

إنّ الدارج عند أهل السنّة هو دراسة آيات الأحكام حسب ترتيب السور القرآنية، فما ورد في سورة البقرة يبحث فيها حتّى تتم دراسة آيات السورة، ثم

ص: 15


1- . النساء: 94.
2- . النساء: 34.
3- . النساء: 16.

يبدأون بدراسة ما ورد في سورة آل عمران، وعليه درج الجصّاص في كتابه، ومَن جاء بعده.

ولكن المنهج عند الشيعة غير ذلك، فهم يدرسون جميع الآيات الواردة في موضوع واحد من السور المختلفة في باب، ثم ينتقلون إلى موضوع آخر مثل ما تقدّم، مثلاً يُدرس جميع ما يرجع إلى الوضوء والغسل والتيمم الّتي يجمعها عنوان واحد، مرّة واحدة، وهذا أنسب بالوقوف على مقاصد الآيات. قال عبد الوهاب خلّاف: وأوّل واجب على مَن يتأهّل للاجتهاد أن يحصي آيات الأحكام في القرآن، و يجمع آيات كلّنوع منها بحيث يكون بين يديه كلّ آيات القرآن في الطلاق، وكلّ آياته في الإرث، وكلّ آياته في البيع، وكلّ آياته في العقوبات، وهكذا، ثمّ يدرس هذه الآيات دراسة عميقة ويقف على أسباب نزولها، وعلى ما ورد في تفسيرها من السنّة، ومن آثار للصحابة أو التابعين، وعلى ما فسّرها به المفسّرون، ويقف على ما تدلّ عليه نصوصها، وما تدلّ عليه ظواهرها، وعلى المحكم منها، والمنسوخ وما نسخه.(1)

أقول: إنّ ما أوجبه الأُستاذ وهو جعل آيات كلّ باب على حدة ودراستها، قد قام بتحقيقه علماء الشيعة قبل قرون.

الكتب المشهورة المؤلّفة في آيات الأحكام عند الفريقين

قد تقدّم من الباحث الكبير الشيخ آقا بزرگ الطهراني أنّه قد أُلّف في آيات الأحكام ما يناهز 30 كتاباً، غير أنّا نشير هنا إلى أشهر هذه الكتب:

ص: 16


1- . مصادر التشريع الإسلامي: 14.

1. «فقه القرآن» للشيخ الإمام قطب الدين الراوندي (المتوفّى 573 ه) وقد طبع عام 1405 ه.

2. «كنز العرفان» للشيخ جمال الدين أبي عبد اللّه المقداد السيوري (المتوفّى 826 ه) من تلامذة الشهيد الأوّل، طبع في جزأين، عام 1384 ه.

3. «زبدة البيان في أحكام القرآن» للمولى أحمد بن محمد المعروف بالمحقّق الأردبيلي (المتوفّى 993 ه)، صاحب «مجمع الفائدة والبرهان»، وقد طبع غير مرّة.

4. «مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام» للشيخ الجواد الكاظمي، المتوفّى أواسط القرن الحادي عشر، وقد فرغ من تأليفه عام 1043 ه، طبع في أربعة أجزاء عام 1387 ه.

5. «قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر» تأليف الشيخ أحمد بن الشيخ إسماعيل بن الشيخ عبد النبي الجزائري النجفي (المتوفّى 1151 ه)، طبع عام 1327 ه.

وأمّا ما ألّفه أهل السنّة، فهو كالتالي:

1. «أحكام القرآن» لأبي عبد اللّه محمد بن إدريس الشافعي المتوفّى عام (204 ه) بمصر.

2. «أحكام القرآن» تأليف أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصّاص (المتوفّى 370 ه). طبع سنة 1325 ه، وأُعيد طبعه بالأُوفست عام 1406 ه، وهو كتاب قيّم استفاد منه أكثر من تأخّر عنه.

3. «أحكام القرآن» لعماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكياهراسي

ص: 17

(المتوفّى 504 ه) طبع في جزأين، نشرته دار الكتب العلمية، ببيروت عام 1405 ه.

4. «أحكام القرآن» لأبي بكر محمد بن عبد اللّه المعروف بابن العربي (468-543 ه) طبع في دار المعرفة، بيروت عام 1392 ه، وقدّم له علي محمد البجاوي.

5. «تفسير آيات الأحكام» للشيخ محمد علي السايس، وقد جمع مادته من أُمّهات كتب التفسير والحديث والفقه، وقد أُعيد طبعه في دار ابن كثير و دار القادر.

هذه نماذج ممّا ألّفه علماء الفريقين حول آيات الأحكام؛ ونحن نقتصر هنا بتفسير الآيات التي تضمّنت بيان حكم شرعي فقهي، وأمّا الآيات التي جاءت فيها أسماء العبادات(1) والمعاملات والحثّ عليهما وبيان آثارهما فلا نستعرضها روماً للاختصار، وقد ذكرنا ذلك ليكون عذراً عن قلّة عدد الآيات التي سندرسها في هذا الكتاب.

ونبدأ بما ورد حول الطهارة بإذن اللّه تبارك وتعالى.).

ص: 18


1- . نظير ما ورد في سورة «المؤمنون» من قوله سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ...).

الفصل الأوّل: أحكام الطهارة في الذكر الحكيم

اشارة

1. آية الوضوء والغسل والتيمّم في الذكر الحكيم.

2. آية التيمّم.

3. أحكام الحائض في الذكر الحكيم.

4. حكم المشرك في الذكر الحكيم.

5. حكم الخمر تكليفاً ووضعاً في الذكر الحكيم.

ص: 19

ص: 20

أحكام الطهارة

1. آية الوضوء والغسل والتيمّم

اشارة

في الذكر الحكيم

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .(1)

المفردات

قمتم: أردتم القيام إلى الصلاة.

المرافق: جمع مرفق، وهو من الرفق بمعنى اليُسر في الأُمور، والسهولة في

ص: 21


1- . المائدة: 6.

التوصّل إليها، وخلافه العنف، وإنّما أُطلق على مفصل الذراع بالعضد «المرفق» لأنّ الإنسان يستريح في الاتّكاء عليه، فيقال: ارتفق الرجل إذا اتّكأ على مرفقه في جلوسه.(1)

وهنا وجه آخر وهو أنّ المرفق يُريح الأمر بين الذراع والعضد، حيث يسهل الحركة في القبض والانبساط، ولولاه لما أمكنت الحركة بسهولة.

الكعبين: وفيه احتمالات ثلاثة:

1. قبّة القدم.

2. المفصل بين الساق والقدم.

3. العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، وسيأتي تحقيقه، كما سيأتي احتمال رابع غير معتد به.

الغائط: المكان المنخفض، وأُريد به هنا قضاء الحاجة من المخرجين.

الصعيد: المكان المرتفع من وجه الأرض. وسُمّي وجه الأرض صعيداً لأنّه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض(2)، وسيأتي ما هو المراد عند التفسير. تتضمّن الآية حكم الطهارات الثلاث: الوضوء، وغسل الجنابة، والتيمّم، كما أنّ آية سورة النساء تتضمّن بيان سبب الغسل والتيمّم دون الوضوء، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً1.

ص: 22


1- . التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 196/4.
2- . مجمع البيان: 2/51.

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) ،(1) والسورتان مدنيّتان، والفرق بينهما بالإيجاز والتفصيل، فما في سورة المائدة أوضح بياناً وأوسع مفاداً حيث تعرّض لحكم الوضوء أيضاً.

ويرد هنا سؤال وهو أنّ الصلاة فرضت ليلة المعراج والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بَعدُ لم يهاجر، وهو والمؤمنون يصلّون مع الوضوء في الفترة المكّيّة وقسماً في الفترة المدنية قبل نزول هاتين الآيتين، فمن أين علم المسلمون لزوم تحصيل الطهارة للصلاة ؟

والجواب: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علّمهم كيفية الصلاة وما تتوقّف عليه، فتعليم الوضوء كان بالسنّة قبل نزول الآيتين.

ثم إنّ الآية تدلّ على وجود الملازمة بين الصلاة والطهارة، بأحد الوجوه الثلاثة، إمّا الوضوء كما في قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) ، وإمّا الغسل، ويدل عليه قوله: (فَاطَّهَّرُوا) المفسّر بالغسل، أو التيمّم عند عدم وجدان الماء كما في قوله: (فَتَيَمَّمُوا) .

وعلى ذلك فيجب تبيين دلالة الآية على كلّ واحد من الوجوه الثلاثة.

كيفية الوضوء في الكتاب العزيز

بدأ سبحانه الآية بقوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ ) : أي إذا أردتم الصلاة، نظير قوله سبحانه: (وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ ) (2): أي أردت أنّ تقيم لهم

ص: 23


1- . النساء: 43.
2- . النساء: 102.

الصلاة، فعبّر بالقيام إلى الفعل عن إرادة نفس الفعل، وربّما يُعكس فتوضع إرادة الفعل مكانه كما في قوله: (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (1): أي إذا طلّقتم زوجاً وتزوّجتم بأُخرى. وبذلك ظهر أنّه ربّما يطلق القيام إلى الفعل ويراد به إرادته، وبالعكس.

ثمّ إنّ مقتضى السياق أن يقول: «وكنتم محدثين» لكن تُرك ذكره لافتراض أنّ الناس قبل تشريع الوضوء والغسل محدثون، ولا يرتفع الحدث إلّابالطهارة التي بدأت الآية ببيانها.

وأمّا حقيقة الوضوء، فتتكون من أُمور أربعة:

1. غسل الوجوه، كما يقول: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) .

2. غسل الأيدي، كما يقول: (وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ) .

3. مسح الرأس، كما يقول: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) .

4. مسح الأرجل إلى الكعبين، كما يقول: (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ) .

فالأعمال الأربعة تشكّل حقيقة الوضوء، ونعم ما قال بحر العلوم في منظومته:

إنّ الوضوء غسلتان عندنا ***ومسحتان والكتاب معنا

فلنرجع إلى تفسير الفقرات الأربع التي تتضمّن أحكاماً كذلك.

أمّا الأوّل: وهو غسل الوجوه، في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فقد فسّر الراغب الوجه بأوّل ما يستقبلك، وفسّره أبو جعفر الباقر عليه السلام عندما سأله زرارة عن0.

ص: 24


1- . النساء: 20.

حدّ الوجه فقال: «ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وما جرت عليه الإصبعان مستديراً فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه».(1) إلّاأنّ حدّه عند غير المالكية من الأُذن إلى الأُذن عرضاً، إلّامالكاً فالواجب عنده هو من شحمة الأُذن إلى شحمة الأُذن.(2)

ثمّ إنّ حدّ الواجب للغسل عند فقهاء الإمامية وغيرهم - إلّامالكاً - متقاربان، حيث إنّ الإمامية يغسلون شيئاً زائداً ممّا بين الإبهام والوسطى من باب المقدمة العلمية، بخلاف الآخرين فإنّهم يغسلون بما هو واجب نفسي لا مقدّمي.

ثمّ إنّ قول الإمام الصادق عليه السلام: «وما جرت عليه الاصبعان مستديراً فهو من الوجه» يفسّر بالنحو التالي:

بما أنّ شكل الوجه هو أقرب إلى الاستدارة فإمرار اليد - مفتوحة الأصابع - على الوجه من قصاص الشعر إلى آخر الذقن، يشكل دائرة على الوجه.

هذا ما فهمه المشهور من الرواية، غير أنّ شيخنا البهائي فسّر الرواية بوجه آخر، وقال: إنّ كلّاً من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل عليه الإبهام والوسطى ، بمعنى أنّ الخط الواصل من القصاص إلى طرف الذقن، وهو مقدار ما بين الاصبعين غالباً إذا فرض إثبات وسطه وأُدير على نفسه ليحصل شبه دائرة فذلك القدر هو الوجه الذي يجب غسله، والمعنى أنّ الدوران يبدأ من القصاص منتهياً إلى الذقن أو المعنى أنّ الوجه هو القدر الذي دارت عليه الإصبعان حال كونه منً.

ص: 25


1- . الوسائل: 1، الباب 17 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
2- . الخلاف: 1/76، كتاب الطهارة، المسألة 23. قال: وقال جميع الفقهاء: إنّ حدّه من منابت الشعر من رأسه إلى مجمع اللحية والذقن طولاً، ومن الأُذن إلى الأُذن عرضاً إلّامالكاً.

القصاص إلى الذقن، فإذا وضع طرف الوسطى مثلاً على قصاص الناحية وطرف الإبهام إلى آخر الذقن ثم أثبت وسطه انفراجهما ودار طرف الوسطى مثلاً على الجانب الأيسر إلى أسفل ودار طرف الإبهام على الجانب الأيسر إلى فوق تمّت الدائرة.(1)

يلاحظ عليه: أنّه ما ساقه إلى هذا التفسير إلّاتوغّله في العلوم العقلية عامّة والرياضيات خاصّة، وإلّا فالمعنى المذكور بعيد في نفسه بالنسبة إلى حال المخاطب.

ويجب الغسل من الأعلى إلى الأسفل؛ لأنّه المتعارف والمنصرف إليه الأمر بالغسل، والغسل على غير هذا الوجه خلاف منصرف الآية، فلا يجزي، وإطلاق الآية يقتضي كفاية الغسلة الواحدة. وأمّا حكم الأزيد فيعلم من السنّة.

وأمّا الثاني: أعني: غسل اليدين إلى المرافق كما في قوله تعالى: (وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ) ، فذهبت الإمامية إلى وجوب البدء بالمرفقين وأبطلوا النكس، وذلك لأنّ قوله سبحانه: (إِلَى اَلْمَرافِقِ ) لتحديد المغسول لا لبيان كيفية الغسل؛ وذلك لأنّ (اليد) تارة تطلق على مجموع العضو من الزند إلى رؤوس الأصابع، وأُخرى تطلق على الساعد مع الكف، وثالثة على الكف، ورابعة على الأصابع فقط، ولأجل هذه الإطلاقات جاءت الآية لتحديد المغسول لا لبيان كيفية الغسل، لأنّه أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.

وذلك أنّ ما يحتاج إلى البيان هو بيان حدّ المغسول، وأمّا كيفية الغسل فكلّ إنسان يعرفها، فإنّه في كلّ يوم في غير حال الصلاة يغتسل ويغسل من الأعلى إلى4.

ص: 26


1- . الحبل المتين: 14.

الأسفل.

ثمّ إنّ القول بوجوب الشروع من أطراف الأصابع والانتهاء إلى المرافق مبني على أنّ قوله: (إِلَى اَلْمَرافِقِ ) قيد للفعل، أي: فاغسلوا إلى المرافق، ولكن المتبادر من هذه الصيغ أنّه قيد للمتعلّق، أي قوله: (أَيْدِيَكُمْ ) ، وإليك بعض الأمثلة، يقال: بعتك الأرض من هنا إلى هنا، أو: قطفت ورد الحديقة من هنا إلى هنا، ويراد تحديد الكمّ والمقدار، لا بيان الكيفية والهيئة.

ربّما يؤيّد ما ذكرنا بأنّ (إِلَى) بمعنى «مع» ما جاء في الآيتين التاليتين:

أ. قوله تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) (1)، أي مع أموالكم.

ب. خطاب المسيح لحواريه، كما ذكره اللّه تعالى: (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ ) (2).

نعم في الاستشهاد بالآيتين تأمّل:

أمّا الأُولى فالظاهر أنّ (إِلَى) بمعناها اللغوي غير أنّ الفعل (وَ لا تَأْكُلُوا) تضمّن معنى الضمّ ، أي لا تأكلوا أموالهم منضمّة إلى أموالكم.

وأمّا الآية الثانية فالظاهر أنّه أُريد من (أَنْصارِي) الذين يتقرّب بهم (إِلَى اَللّهِ ) ، إلى نصر دين اللّه، فاللفظة مستعملة في نفس معناها، ونحو ذلك.

ثمّ إنّه يقع الكلام في دخول المرفق في الحكم أي وجوب الغسل، أو لا؟ والظاهر الأوّل وهو الدخول، إذ من المعروف - كما هو المنقول عن بعض علماء الأدب كسيبويه وغيره - أنّ ما بعد «إلى» إن كان من نوع ما قبلها دخل في الحدّ، وإلّا4.

ص: 27


1- . النساء: 2.
2- . الصف: 14.

فلا يدخل، وعلى هذا تدخل المرافق فيما يجب غسله لأنّها من اليد، بخلاف قوله:

(ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ ) (1) ؛ لأنّ الليل ليس من جنس اليوم (النهار) حتى يجب صومه.

وربما يتصوّر أنّ المرفق هو حاصل تركيب أحد العظمين بالآخر ولهذا يقع موضع السؤال، هل يجب غسل المرفق أو لا؟ وقلنا: بأنّه داخل في المحدود.

ولكن الظاهر من اللغة أنّ المرفق هو مكان الاتّصال بين الذراع والعضد، قال الجوهري: المرفق موصل الذراع بالعضد، ونحوه في لسان العرب وتاج العروس، وعلى هذا يكون نقطة صغيرة يُغسل قهراً.

وأمّا الثالث: وهو مسح الرؤوس كما في قوله تعالى: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) ، والمسح هو إمرار اليد على الشيء، وسُمّي المسيح مسيحاً لأنّه كان يمسح على الناس ويشفيهم بإذن اللّه، ويقابله الغسل، إذ يكفي في المسح إمرار اليد بما فيها من النداوة، وأمّا الغَسْل فلا يطلق إلّابعد إسالة الماء على الشيء، وبالمقارنة يُعلم أنّ الواجب في الوجه واليدين هو الغَسْل، أي إسالة الماء عليهما وأمّا المسح فيكفي إمرار اليد، ومن المعلوم بأنّ المتوضّئ بعدما فرغ من غسل اليدين، يوجد في يده نداوة الماء فيمسح بها الرأس، فيكفي مسح جزء من الرأس، والمراد من الجزء هو مقدّم الرأس. وعليه الشافعية أيضاً. وسيأتي أنّه المنصوص في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ويدلّ على ما ذكرنا أنّ الفعل متعدّ بنفسه، ويستعمل على وجهين تارة يقال: مسحت الشيء، وأُخرى يقول: مسحت به؛ فالأوّل ظاهر في الاستيعاب دون7.

ص: 28


1- . البقرة: 187.

الثاني. فإقرانه بالباء لابدّ أن يكون لنكتة، فأكثر المفسّرين على أنّ الباء للإلصاق، بمعنى أنّ حركة العضو الماسح ملصقاً بالممسوح مع أنّ الإلصاق مفهوم من تعلّق المسح بالرأس فلا ملزم لذكر «الباء» بمعنى الإلصاق؛ غير أنّ المرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الباء لبيان كفاية بعض الرأس والرجلين، فحينما سأل زرارة أبا جعفر الباقر عليه السلام وقال: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فقال عليه السلام: «لمكان الباء» وبما أنّ الرواية لا تخلو من فائدة في تفسير الآية نأت بها على وجه التفصيل.

روى الشيخ عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك فقال: «يا زرارة، قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ونزل به الكتاب من اللّه عزّ وجلّ ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال:

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال:

(وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ) فوصّل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يُغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصّل بين الكلام فقال: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فعرفنا حين قال: (بِرُؤُسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للناس فضيّعوه».(1)

وعلى ذلك فكفاية المسح ببعض الرأس مقتضى الإطلاق أوّلاً، ومقتضى وجود الباء ثانياً، وما ربما يُنقل عن سيبويه إنكار كون البعض من معاني الباء، لا يضرّ بالمقصود وذلك لوجهين:1.

ص: 29


1- . الوسائل: 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

1. أنّ الإمام عربي قرشي صميم، وهو أعرف بلسانه من غيره.

2. أنّ البعض مفهوم من الهيئة، حيث إنّ المادة مجرّدة عن الباء يفيد الإلصاق، فما هو وجه إدخال الباء عليها، فلا وجه إلّاإفادة البعض.

وأمّا كيفية المسح على الرأس، فالآية ساكتة عنها. فالمتّبع ما هو المألوف بين الناس، وما في «العروة الوثقى» من قوله: في مسح الرأس: لا فرق بين أن يكون طولاً، أو عرضاً أو منحرفاً،(1) لا يخلو عن بُعد.

وأمّا ما هو البعض الذي يجزي مسحه، فقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ المراد به مقدّم الرأس. فقد جاء في كتاب الوسائل، وجوب المسح على مقدّم الرأس، كما في قولهم عليهم السلام: «يمسح على مقدّم رأسه».(2)

قال الشيخ: المسح بعض الرأس هو الواجب والأفضل ما يكون مقداره ثلاث أصابع مضمومة ويجزى مقدار اصبع واحد وقال مالك: يجب مسح الرأس كلّه، وقال الشافعي: ما يقع عليه اسم المسح يجري، وقال أبو حنيفة: يمسح قدر ثلث الرأس بثلاث أصابع.

وقال العلّامة: ويجزي أقل ما يصدق عليه الاسم للامتثال فيخرج عن العهدة، ولأنّه عليه السلام مسح ناصيته، ويستحب مقدار ثلاث أصابع. وقال بعض علمائنا:

يجب وما اخترناه قول الشافعي وابن عمر وداود.(3)1.

ص: 30


1- . العروة الوثقى: 1/384، فصل في أفعال الوضوء، المسألة 24. تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم - 1417 ه.
2- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 22 من أبواب الوضوء.
3- . الخلاف: 81/1-82، المسألة 29. تذكرة الفقهاء: 161/1.

ولا يخفى أنّ المساعدة مع ما اختاره الشيخ والعلّامة والشافعي مشكل، وما رواه عن النبي أنّه مسح ناصيته دليل على خلاف قوله؛ لأنّ الناصية مقدّم الرأس الذي هو مساحة خاصّة من الرأس.

والاكتفاء بإصبع واحد، يوجب كون الوضوء رمزاً من الرموز مع الغاية منه، هو الطهارة وما فضّله الشيخ هو الأحوط لو لم يكن الأقوى.

ثمّ إنّ الواجب هو مسح بشرة الرأس أو الشعر غير الخارج عن محاذاة الرأس، وأمّا الخارج عن محاذاتها كالظفيرة، فلا يجزي.

وأمّا الرابع: أعني: الرجلين، فقال سبحانه: (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ) فيقع الكلام في موضعين:

الأوّل: حكم الأرجل من حيث الإعراب، ويتبعه حكمها من حيث المسح، أو الغسل.

الثاني: ما هو المراد من الكعبين ؟

وهذا الموضع من أهم البحوث في آية الوضوء قديماً وحديثاً، فلنبدأ بدراستهما تباعاً:

بيان إعراب «الأرجل» على رأي الإمامية

إنّ هنا قراءتين:

أ. قراءة بالنصب، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص، والكسائي، ويعقوب.

ب. قراءة بالجر، وهي قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم في

ص: 31

رواية أبي بكر عنه.

أمّا على القراءة الثانية فلا يشكّ أيّ عربي صميم في أنّ أرجلكم عطف على الأقرب إليه، أعني: (بِرُؤُسِكُمْ ) . وأمّا القراءة الأُولى - بالنصب - فالمتبادر أنّها عطف على موضع (بِرُؤُسِكُمْ ) لأنّه منصوب محلاً لكونه مفعولاً لقوله:

(وَ اِمْسَحُوا) .

وعلى ما ذكرنا تكون الأرجل محكومة بحكم الرؤوس، على كلتا القراءتين، فهي مطلقاً عطف على الرؤوس إمّا على ظاهرها إذا كانت مجرورة، أو على محلّها إذا كانت منصوبة، والعطف على المحلّ أمر شائع في اللغة العربية، وقد ورد أيضاً في القرآن الكريم، قال سبحانه: (أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ ) (1)فقراءة «ورسوله» بالضمّ هي القراءة الرائجة، ولا وجه لرفعه إلّاكونه معطوفاً على اسم أنّ - أعني: لفظ الجلالة - في قوله: (أَنَّ اَللّهَ ) لكونه مبتدأ، وقد عقد ابن هشام فصلاً خاصّاً للعطف على المحلّ وذكر شروطه.(2)

فعلى ما ذكرنا من القراءتين يُعلم حُكمُ الأرجل من حيث المسح أو الغسل، إذ يتعيّن المسح، كما ذكرنا. ثمّ إنّ القائلين بغسل الأرجل قد وقعوا في حرج شديد في تطبيق الآية - على كلتا القراءتين - على الغسل. وهذا ما ندرسه تالياً:

قراءة النصب ورأي أهل السنّة

أمّا على النصب فقالوا: إنّ (وَ أَرْجُلَكُمْ ) معطوف على قوله:

(وُجُوهَكُمْ )

ص: 32


1- . التوبة: 3.
2- . انظر: مغني اللبيب: 2/473، في أقسام العطف، الثاني: العطف على المحل.

في أوّل الآية، وهذا كماترى، لانقطاع الحكم في قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ) بحكم آخر وهو قوله: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) ، فطبع العربي الصميم يأبى ذلك في نظائر الآية، فإذا قال قائل: قبّلت وجه زيد ورأسه ومسحت على كتفه ويَدَه. فهل يرضى أن يكون قوله: «ويده» منصوباً عطفاً على (وجه زيد) مع انقطاع الكلام الأوّل وصلاحية قوله: «ويده»، معطوفاً على محل «كتفه» لأنّه منصوب على المفعولية.

مثال آخر: إذا قال: ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً، فهل يرضى بعطف «عمراً» على «زيداً» مع صلاحية كونه معطوفاً على محل «بكر»؟!

وقد اعترف بما ذكرنا جمع من علماء السنّة فلنذكر بعض كلماتهم:

1. قال ابن حزم: لا يجوز عطف أرجلكم على وجوهكم، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدئة.(1)

2. وقال أبو حيّان: ومن ذهب إلى أنّ قراءة النصب في (وَ أَرْجُلَكُمْ ) عطف على قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ ) وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فهو بعيد، لأنّ فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية.(2)

3. وقال الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي (الحنفي) في تفسير الآية: نصب (وَ أَرْجُلَكُمْ ) على المحل (أي محل الرؤوس) وجرّها على اللفظ، ولا يجوز أن يكون النصب للعطف على وجوهكم، لامتناع العطف على وجوهكم1.

ص: 33


1- . المحلّى: 56/2.
2- . تفسير النهر المارد: 558/1.

للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) ، والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلاً عن الجملة، ولم يسمع في الفصيح نحو: ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً بعطف عمراً على زيد.(1)

4. وقال الشيخ السندي: وحمل قراءة النصب بالعطف على المحل أقرب لاطراد العطف على المحل، وأيضاً فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه، فصار ظاهر القرآن هو المسح.(2)

وبهذا ظهر أنّه لا محيص على القول بقراءة النصب، هو العطف على المحل لا على الأبعد.

ونقل عن الأخفش في توجيه غسل الأرجل: أنّه قال: هو معطوف على الرؤوس في اللفظ، مقطوع عنه في المعنى، كقول الشاعر:

علفتها تبناً وماء بارداً ***حتى شتت همالة عيناها

أي علفتها تبناً وسقيتها ماء بارداً.(3)

يلاحظ عليه: أنّ في هذا البيت قرينة واضحة على أنّ الماء يُسقى به ولا يعلف، بخلاف المورد. وذكر الزمخشري وجهاً آخر في توجيه الغسل وقال: إنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبّه على9.

ص: 34


1- . غنية المتملي في شرح منية المصلي المعروف بالشرح الحلبي الكبير: 16.
2- . شرح سنن ابن ماجة: 88/1.
3- . لاحظ مجمع البيان: 3/285. الهمالة: فيضان دموع العين. كما في الصحاح للجوهري: 1/319.

وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.(1)

ولا تعليق لنا على كلامه بشيء غير أنّه تفلسف لا يدور بخلد أحد من العرب حتى تفسّر الآية به.

قراءة الجر ورأي أهل السنّة

وأمّا على قراءة الجرّ، فالأرجل معطوفة على الرؤوس فتكون محكومة بالمسح عندنا على كلتا القراءتين، وأمّا أهل السنّة فلم يجدوا وجهاً إلّاالقول بأنّه مجرور على الجوار، أي لوقوعه في جوار (بِرُؤُسِكُمْ ) المجرور، نظير قول القائل: جُحرُ ضبٍّ خربٍ ... فإنّ «خرب» خبر ل «جُحر» فيجب أن يكون مرفوعاً، لكنّه صار مجروراً لأجل الجوار.

وردّه الزجاج بقوله: وهو غير صحيح، لاتّفاق أهل العربية على أنّ الإعراب بالمجاورة شاذّ نادر، وما هذا سبيله لا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجأ إليها.(2)

أضف إلى ذلك ما ذكره علاء الدين البغدادي في تفسيره المسمّى ب «الخازن» فقد ردّ قراءة الجرّ لأجل المجاورة بوجهين:

الأوّل: أنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر، أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في المثال المذكور، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب، بل للجحر.

ص: 35


1- . تفسير الكشاف: 336/1.
2- . معاني القرآن واعرابه: 153/2.

الثاني: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون واو العطف، وأمّا معها فلم تتكلّم به العرب.(1)

إلى هنا ظهر أنّه لا مجال في تفسير القراءتين (أعني: النصب والجر) من القول بكون الأرجل معطوفاً على الرؤوس، أمّا على المحلّ أو على ظاهر اللفظ وتكون النتيجة هي المسح.

وأمّا كونه معطوفاً على الوجوه على قراءة النصب أو كونه مجروراً بالجوار على قراءة الجر فكلاهما من الأُمور التي لا يرضى بها الطبع العربي السليم، مع شذوذهما حسب القواعد. فليس للفقيه المتابع للقرآن المجيد إلّاالإفتاء بالمسح.

ثمّ إن القوم استدلّوا على صحة الجرّ بالجوار بوجهين:

الأوّل: قوله سبحانه: (فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ * وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ * عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ * وَ فاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ * وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ * وَ حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اَللُّؤْلُؤِ اَلْمَكْنُونِ ) .(2)

وجه الاستدلال في قوله: (وَ حُورٌ عِينٌ ) فالقراءة المشهورة هي الرفع معطوفاً على قوله: (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) : أي يطوف عليهم ولدان مخلدون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون.

ويحتمل أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي ولهم حور عين كأمثال اللؤلؤ3.

ص: 36


1- . تفسير الخازن: 16/2.
2- . الواقعة: 12-23.

المكنون؛ لأنّه لما تقدّم قوله: (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) اقتضى ذلك ذكر الحور العين.

هذا على قراءة المشهور وأمّا على قراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي بجرّ:

(وحور عين)، فقيل: إنّه مجرور بالجوار، أي: ولحم طير ممّا يشتهون وحورٍ عين.

يلاحظ عليه: أنّه لا يحتجّ بغير القراءة المشهورة إذ لم يثبت تواترها عن النبيّ ، فعلى فرض الصحّة فيمكن أن يكون معطوفاً على قوله (فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ ) والتقدير: أُولئك المقرّبون في جنات النعيم وفي حور عين، أي في مقاربة الحور العين، أو معاشرة الحور العين.

الثاني: قوله سبحانه: (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (1)، فإنّ قوله: (أَلِيمٍ ) وصف لقوله: (عَذابَ ) ولكنّه صار مجروراً للجوار.

أقول: ورد هذا السياق في غير واحد من الآيات كقوله سبحانه: (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (2)، وقوله سبحانه: (وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) .(3)

والجواب عن الجميع: أنّ الألم وصف للعذاب حقيقة، وبما أنّ اليوم ظرف للعذاب صار هذا مسوغاً لوصف اليوم به، فالأيام في هذه الآيات موصوفة بأنّها مؤلمة باعتبار كونها ظرفاً للألم، وهذا هو المعروف في باب الإسناد المجازي في علم البلاغة.

ومن عجيب القول ما ذكره الآلوسي، قال: لو فرض أنّ حكم2.

ص: 37


1- . هود: 26.
2- . يونس: 15.
3- . هود: 2.

اللّه تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية فالغسل يكفي عنه، ولو كان هو الغسل لا يكفي المسح عنه، فبالغسل يلزم الخروج من العهدة بيقين دون المسح؛ وذلك لأنّ الغسل محصِّل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المسح في الآية عبارة عن إمرار الماسح الممسوح بالنداوة الموجودة في اليد، كما هو ظاهر الآية، وهو غير الغَسْل - بمعني: إسالة الماء - فالقول بكفاية الثاني عن الأوّل، تشريع وابتداع في الأحكام. فلو أمر المولى عبده بالمسح وقام هو بالغسل لا يُعدّ ممتثلاً. فلو أراد الآلوسي العمل بالاحتياط فعليه التوضّؤ بوضوءين: تارة بالمسح وأُخرى بالغسل.

ومنه يظهر ضعف كلام آخر له، حيث قال: وأيضاً كان يلزم الشيعة الغسل؛ لأنّه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى، لأنّه الأحوط أيضاً.(2)يلاحظ عليه: بأنّ لازمه كفاية الغسل عن المسح في الرؤوس أيضاً، مع أنّه لم يقل به أحد، فإذا رأينا أنّ الشارع يأمر بالمسح تارة وبالغسل أُخرى، نقف على أنّ للشارع غرضين: الغسل في مورد، والمسح في مورد آخر، وتجويز الغسل في مورد المسح تحريف للآية.

دراسة كلام صاحب المنار

ثمّ إنّ لصاحب المنار كلاماً زعم أنّه أقوى الحجج اللفظية لأهل السنّة على

ص: 38


1- . روح المعاني: 78/6.
2- . روح المعاني: 78/6.

الإمامية، وهو أنّ الإمامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم، ويقولون: إنّه هو الكعب، ففي الرجل كعب واحد، على رأيهم، ولو صحّ هذا لقال: إلى الكعاب، كما في اليدين (إِلَى اَلْمَرافِقِ ) لأنّ في كلّ يد مرفقاً واحداً.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لو قلنا بأنّ الكعب عبارة عن العظمين الناتئين في جانبي قدم الإنسان، يكون وجه التعبير بالتثنية كون كلّ رِجل ذات كعبين.

وأمّا لو كان الكعب هو معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم فيكون وجه التعبير بالتثنية كون كلّ إنسان ذا كعبين. فلكلّ وجه. والظاهر أنّ الوجه هو الثاني بشهادة أنّه قال: (أَرْجُلَكُمْ ) : أي أرجل كلّ متوضِّئ أو مكلّف، وأمّا وجه اختلاف التعبير هنا عمّا في غسل الأيد حيث عبّر هناك بالمرافق وفي المقام بالكعبين، فلأجل أنّ لجمال التعبير بهما تأثّراً كبيراً في فصاحة الكلام، فصار هذا سبباً للاختلاف في التعبير، واللّه العالم.

هذه هي الحجّة القوّية التي يدّعيها صاحب المنار غفر اللّه له، فكيف حال الحجج الضعيفة ؟!

مسح الأرجل في أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

قد عرفت أنّ القراءتين سواء النصب أو الجر تدلّان بوضوح على وجوب المسح على الأرجل، وهناك روايات متضافرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تبلغ 15 رواية كلّها تدلّ على أنّ النبيّ كان يمسح الأرجل، كما أنّ هناك روايات عن الصحابة

ص: 39


1- . تفسير المنار: 233/6. وفي الصدر مرفق واحد وهو تصحيف.

والتابعين تناهز أيضاً خمسة عشر أثراً تدلّ على أنّهم كانوا يمسحون على الأرجل، وقد ذكرنا تلك النصوص في كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»، ولأجل أن لا تخلو دراستنا عن هذه الروايات نأتي ببعض النصوص:

1. عن بسر بن سعيد قال: أتى عثمان المقاعد فدعا بوضوء وتمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هكذا يتوضّأ، يا هؤلاء أكذاك ؟ قالوا: نعم، لنفر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنده.(1)

2. عن حمران قال: دعا عثمان بماء فتوضّأ ثمّ ضحك، ثمّ قال: ألا تسألوني ممّ أضحك ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ما أضحكك ؟ قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ كما توضّأت، فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه.(2)

3. وفي مسند عبداللّه بن زيد المازني أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرّتين ومسح رأسه ورجليه مرّتين.(3)

4. عن أبي مطر قال: بينما نحن جلوس مع علي في المسجد، جاء رجل إلى علي وقال: أرني وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدعا قنبر، فقال: ائتني بكوز من ماء، فغسل يديه ووجهه ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً ومسح رأسه واحدة ورجليه إلى الكعبين، ولحيته تهطل على صدره،2.

ص: 40


1- . مسند أحمد: 1/109، الحديث 489.
2- . كنز العمال: 436/9، الحديث 26863.
3- . كنز العمال: 451/9، الحديث 26922.

ثمّ حسا حسوة بعد الوضوء ثمّ قال: أين السائل عن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كذا كان وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

5. عن عبّاد بن تميم، عن أبيه، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ ومسح بالماء على لحيته ورجليه.(2)

6. عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كنت أرى أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمسح ظاهرهما.(3)

7. عن رفاعة بن رافع أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «إنّها لا تتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه تعالى، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين».(4)

8. ما روي عن عبد اللّه بن عمرو، قال: تخلّف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضّأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرّتين أو ثلاثاً.(5)

ثم إنّه ربّما يستدل القائل بالغسل بهذه الرواية بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حذّر الماسحين على الأرجل بقوله: ويل للأعقاب من النار.

يلاحظ عليه: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حذر هؤلاء لأنّ أعقابهم كانت نجسة غير صالحة للمسح، فأمرهم بأن يطهّروا الأعقاب أوّلاً ثم يمسحوا على الأرجل، فلم1.

ص: 41


1- . كنز العمال: 9/448، الحديث 26908. قوله: حساحسوة: شرب شيئاً بعد شيء.
2- . كنز العمال: 9/429، الحديث 26822.
3- . مسند أحمد: 1/95 و 114 و 124.
4- . سنن ابن ماجة: 156/1، الحديث 460.
5- . صحيح البخاري: 23/1، باب من رفع صوته بالعلم من كتاب العلم، الحديث 1.

يكن التحذير لأجل المسح على الأرجل، بل لأجل كون الممسوح غير صالح له.

وكان المسح على ظاهر الأرجل ملازماً لمسح شيء من الأعقاب.

ثم إنّ الرواية على خلاف قول الخصم أدلّ ، فإنّها تدلّ على أنّ عبداللّه بن عمرو وأمثاله كانوا يمسحون إلى ذلك اليوم.

9. عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه: اجتمعوا أُصلّي بكم صلاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا اجتمعوا قال: هل فيكم أحد غيركم ؟ قالوا: لا، إلّاابن أُخت لنا، قال:

ابن أُخت القوم منهم، فدعا بجفنة فيها ماء، فتوضّأ ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثمّ صلّى بهم فكبّر بهم ثنتين وعشرين تكبيرة.(1)

10. عن عبّاد بن تميم المازني، عن أبيه أنّه قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتوضّأ ويمسح الماء على رجليه.(2)

تلك عشرة كاملة نكتفي بها، ومن أراد الوقوف على الجميع فعليه الرجوع إلى كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف».(3) إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل وهو تبيين وجه القراءتين وما يتبعه من وجوب المسح أو الغسل، إنّما الكلام في الموضع الثاني وهو: ما هو المراد من الكعب ؟5.

ص: 42


1- . مسند أحمد: 342/5. الجَفنة: القصعة الكبيرة.
2- . صحيح ابن خزيمة: 1/101.
3- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 1/45.

ما هو المراد من الكعب ؟

أقول: إنّ الكعب يطلق على معانٍ أربعة:

1. العظمان الناتئان في جانبي الرجل.

2. العظم المرتفع في ظهر القدم الواقع فيما بين المفصل والمِشط.

3. المفصل بين الساق والقدم. وهو خيرة صاحب القاموس، قال: الكعب كلّ مفصل للعظام.(1)

4. عظم مستدير مثل كعب البقر والغنم موضوع تحت عظم الساق، حيث يكون مفصل الساق والقدم. وهو قول محمد بن الحسن. وكان الأصمعي يختار هذا القول ويقول: الطرفان الناتئان يسمّيان المنجمين. هكذا رواه القفّال في تفسيره.(2)

أمّا الوجه الرابع فبعيد عن الاعتبار؛ لأنّ الكعب عبارة عن الارتفاع كما سيأتي.

ونظيره القول الثالث إذ ليس فيه أيّ ارتفاع، وبما أنّ الآية تتضمّن تكليفاً لكلّ مسلم، أعني: التوضّؤ لكلّ صلاة، فيجب أن يكون التعبير واضح الدلالة مبيّن المراد، بحيث لا يحتاج فهم المراد منه إلى دقّة علمية لا يقف عليها إلّاالأوحدي.

فتعيّن أن يكون المراد من الكعب أحد الوجهين:

الأوّل: قبة القدم؛ لأنّ الكعب - كما مرّ - عبارة عن الارتفاع، ومنه: جارية

ص: 43


1- . القاموس المحيط: 1/124، مادة «الكعب».
2- . تفسير الرازي: 162/6؛ ولاحظ: جامع المقاصد: 220/1؛ جواهر الكلام: 220/2.

كاعب إذا نتأ ثدياها. ومنه الكعب لكلّ ما له ارتفاع. قال سبحانه: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً * حَدائِقَ وَ أَعْناباً * وَ كَواعِبَ أَتْراباً) (1) أي جواري تكعب ثديهن، مستويات في السنّ . وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام بأنّه قبّة القدم.(2) وقد نقل في الجواهر عن عميد الرؤساء أنّه ألّف كتاباً في الكعب وفسّره بظهر القدم الواقع بين المفصل والمِشط، وهو لغوي بارز.(3) وهذا القول هو المشهور بين أصحابنا. وهو المتعيّن لكونه مروياً عن أحد الثقلين.

الثاني: ما عليه فقهاء السنّة وهو: أنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الساق، ولكن يبعده ما مرّ أنّهما يقال لهما: المنجمان.

ومن أراد الاحتياط فليجمع بين الوجهين.

ثمّ إنّ الناس على صنفين: أحدهما مَن يتمكّن من الوضوء، والثاني لا يتمكّن فقد تمّ الكلام في الأوّل، وبقي الكلام في الصنف الثاني، وهذا ما يشير إليه بقوله سبحانه: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) .

حكم غير المتمكّن من الماء

اشارة

ذكر سبحانه من هذا الصنف أشخاصاً أربعة:

1. المرضى ، كما قال: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) .

ص: 44


1- . النبأ: 31-33.
2- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحديث 9، والباب 24 منها، الحديث 4، والباب 31 منها، الحديث 1.
3- . جواهر الكلام: 220/2؛ جامع المقاصد: 220/1. والمِشط: العظام الرقاق المفترشة فوق ظهرالقدم، وربّما يطلق على القدم أجمع.

2. المسافر، كما قال: (أَوْ عَلى سَفَرٍ) .

3. المحدث بالحدث الأصغر، كما قال: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ) .

وقد مرّ أنّ الغائط هو الأرض المنخفضة، والمجيء منه كناية عن قضاء الحاجة الملازم للحدث، وقد عبّر به سبحانه حفظاً للأدب.

4. المحدث بالحدث الأكبر، وقد عبّر عنه سبحانه: (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ) كنّى به عن الجماع صوناً للّسان من التصريح بما لا يناسب الأدب في الكلام.

فهذه الطوائف الأربع يجب عليهم التيمّم بشرط خاص وهو ما يذكره سبحانه بقوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) . فعلى هؤلاء التيمّم، كما يقول: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) : أي اقصدوا تراباً أو مكاناً من وجه الأرض طاهراً (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ) : أي فاضربوا بأيديكم عليه فامسحوا بها وجوهكم (وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) . وسيوافيك ما هو المراد من الضمير في (مِنْهُ ) الراجع إلى الصعيد الطيّب.

بقيت هنا أُمور ترتبط بتفسير الآية:

الأوّل: ما هو المراد من الصعيد؟

أمّا الصعيد فقد تقدّم تفسيره في المفردات إجمالاً وقد اختلف اللغويون في معناه:

1. فعن جمهرة لغة العرب: التراب الخالص الّذي لا يخالطه سبخ(1) ولا رمل.

2. وعن الزجّاج: هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره حتّى قال: لا أعلم

ص: 45


1- . السبخ بفتح الباء وسكونها: الأرض المالحة.

اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك فيشمل الحجر والمدر (الطين الخالص الّذي لا يخالطه الرمل) ونحوهما.

3. قال الأزهري: مذهب أكثر العلماء في قوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) التراب الطاهر الّذي على وجه الأرض أو خرج من باطنها.(1)

والوجه الثالث يرجع إلى الوجه الأوّل إلّاأن يقال بأنّ السبخ مضرّ على الأوّل دون الثاني. ولكن الظاهر هو القول الثاني للروايات التالية الّتي تفسّر الصعيد بالأرض الشاملة للتراب والرمل والطين اليابس:

أ. ما روي: يُحشر الناس يوم القيامة عُراة حفاة على صعيد واحد - أي أرض واحدة -.(2)

ب. ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً».(3)

وقوله عليه السلام: «ربّ الماء هو ربّ الأرض».(4)

وقوله عليه السلام: «وإن فاتك الماء لم تفتك الأرض».(5)

إلى غير ذلك من الأحاديث الّتي تدلّ على جواز التيمّم على الأرض الشامل للتراب والرمل والطين اليابس وغيرها، فيكون تفسيراً للصعيد بشرط أن لا يخرج1.

ص: 46


1- . لاحظ: مجمع البحرين: 3/85، مادة «صعد».
2- . لم نعثر في المصادر على هذا النص. نعم وجدنا ما يشتمل على موضع الاستشهاد. راجع: مجمع البيان: 9/342، تفسير سورة الرحمن الآية 33.
3- . الوسائل: 2، الباب 7 من أبواب التيمم، الحديث 2 و 3.
4- . الوسائل: 2، الباب 3 من أبواب التيمم، الحديث 1.
5- . الوسائل: 2، الباب 22 من أبواب التيمم، الحديث 1.

عن كونه أرضاً كالمعادن، والتفصيل في محلّه.

الثاني: حدّ الملامسة

الظاهر أنّ الملامسة كناية عن غشيان النساء والإفضاء إليهن، وعليه المفسّرون، وحَمْلُها على إصابة البشرة للبشرة، بعيد عن سياق الآية، وقد حُكي عن الشافعي نقض الوضوء بلمس بشرة المحارم من النساء، وبه قال الزهري والأوزاعي.

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه ذكر حكم الجنب إذا كان واجداً للماء، وقال:

(وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ومقتضى التقابل أن يذكر حكم الجنب عند فقدان الماء، بأن يقول: وإن كنتم جنباً ولم تجدوا ماءً فلو فسّر قوله: (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ) بمسّ البشرة، يلزم ترك بيان حكم الجنب عند فقدان الماء، وهذا خلاف مقتضى التقابل.

وبعبارة أُخرى: إنّه سبحانه ذكر حكم المحدث بالحدث الأصغر والأكبر عند وجدان الماء، فلازم السياق ذكر حكمهما عند فقدان الماء، فذكر حكم الأوّل بقوله: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ) ، فلا محيص من حمل قوله: (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ) على بيان حكم الحدث الأكبر. أي الجنب إذا لم يجد ماءً .

أضف إلى ذلك: أنّ كون مسّ بشرة النساء من المحارم ناقضاً للوضوء، تحقير للنساء التي نزل كثير من الآيات في رفع شأنهن.

ص: 47

الثالث: حكم المريض والمسافر
اشارة

المتبادر من الآية أنّ قوله سبحانه: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) قيد للأصناف الأربعة: المريض، المسافر، المحدث بالحدث الأصغر، والمحدث بالحدث الأكبر، فعليهم جميعاً التيمّم إذا لم يجدوا ماءً ، دونما إذا كانوا متمكّنين منه، وهذا هو المفتى به عند الفقهاء. فإذا نسب عدم وجدان الماء إلى الأصناف الثلاثة يُراد به عدم وجدان ماء حقيقة، وإذا نسب إلى المريض يُراد به كون استعمال الماء حرجياً وضررياً، وكُنيّ عن هذا القسم أيضاً بعدم وجدان الماء تغليباً للأكثر على الأقل، فإنّ كون الاستعمال ضررياً يشبّه بعدم وجود الماء؛ لأنّ وجوده وعدمه في حقّ المريض سيّان.

فإن قلت: إذا كان تيمّم المريض والمسافر مقيّداً بعدم وجدان الماء، كان ذكر كلّ من عنواني المرض والسفر أمراً مستدركاً، إذ لا دخل لهما في لزوم التيمّم وإنّما الموضوع هو عدم وجدان الماء، سواء أكان مريضاً أم مصحّاً، أكان حاضراً أم مسافراً. أو ليس هذا دليلاً على أنّ المسافر والمريض يتيمّمان مطلقاً، سواء كان الماء موجوداً أم لا؟

قلت: إنّ الموضوع كما ذكر هو فقدان الماء بالمعنى الأعم - أعني: فقدانه أو كون استعماله مضرّاً - وأمّا تخصيص المسافر والمريض بالذكر؛ لأنّه يغلب عليهما فقدان الماء خصوصاً في الأسفار السابقة التي كان السفر على آباط الإبل في المفاوز والصحارى. فالمرض والمضر أخذا طريقين لفقدان الماء أو لإضراره دون أن يكون لكلّ موضوعية.

ص: 48

أضف إلى ذلك: أنّه لو كان القيد (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) راجعاً إلى الصنفين الأخيرين - أعني: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ) والمفروض بقرينة المقابلة حضورهما في بلدانهم وأوطانهم - يلزم حمل القيد على الفرد النادر؛ لأنّ الصنفين الأخيرين يتمكّنان من الماء في أغلب الموارد، وأمّا غير المتمكّن من الماء بالمعنى الأعم فهو في الدرجة الأُولى المسافر وبالتالي المريض.

وبذلك ظهر أنّ حكم المريض والمسافر مثل الصنفين الأخيرين فيتيمّمان عند فقد الماء دون وجوده في المسافر وعدم حرجه في المريض.

فتوى شاذّة لصاحب المنار وأُستاذه

إنّ صاحب المنار تبعاً لأُستاذه الشيخ عبده ذهبا إلى أنّ للسفر والمرض تأثيراً مستقلّاً في العدول إلى التيمّم حتى ولو وجدا الماء ولم يكن استعماله حرجياً. وإليك نصّ كلامهما:

إنّ حكم المريض والمسافر إذا أرادا الصلاة كحكم المحدث حدثاً أصغر أو ملامس النساء ولم يجدا الماء، فعلى كلّ هؤلاء التيمّم، وأنّ الآية واضحة المعنى تقتضي أنّ التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء. ثم استظهرا بأنّه سبحانه رخّص السفر الذي منه قصر الصلاة وجمعها وإباحة الفطر في رمضان، فهل يستنكر مع هذا أن يرخّص للمسافر في ترك الغسل والوضوء وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين.

أو ليس من المجرّب أنّ الوضوء والغسل يشقّان على المسافر الواجد للماء في زماننا هذا، فكيف في الزمان السابق الذي كان السفر على ظهور الإبل في

ص: 49

مفاوز الحجاز وجبالها... إلى أن قال: إنّ من عجب العجاب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، واحتمال ربط قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) بقوله: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) بعيد، بل ممنوع كما تقدّم على أنّهم لا يقولون به في المرضى لأنّ اشتراط فقد الماء في حقّهم لا فائدة له، لأنّ الأصحّاء والحاضرين مثلهم فيكون ذكرها لغواً، يتنزّه عنه القرآن.(1)

يلاحظ عليه بوجهين: الأوّل: أنّ القيد راجع إلى الجميع، وما ذكره من أنّ لازمه كون ذكر كلّ من عنواني السفر والمرض أمراً لغواً، مدفوع، لما عرفت من أنّ تخصيصهما بالذكر لأجل أنّ الغالب على حالتي السفر والمرض فقدان الماء في المسافر والحرج أو الضرر في المريض، بخلاف الحاضر والمصح إذ يتوفر الماء عند الحاضر، و لا يتحرّج المصحّ من استعمال الماء.

الثاني: أنّ تخصيص قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) بالأخيرين، يلازم - كما مرّ - حمله على الفرد النادر، لأنّ فقدان الماء عند المجيء من الغائط أو الملامس في الوطن(2)، قليل جدّاً، بخلاف إرجاعه إلى الجميع، فقد عرفت أنّ فقدان الماء في الأوّلين أمر غالبي خصوصاً في الأسفار في الأزمان السابقة حيث يسافرون بالإبل ويقطعون الصحارى والمفاوز....

وحاصل الكلام: أنّ الأُستاذ والتلميذ مع ذكائهما خلطا بين أمرين وقالا: إنّ السفر سبب للرخصة كالمرض، والحال أنّهما أمارة لفقد الماء أو كون استعمالهة.

ص: 50


1- . تفسير المنار: 120/5-121.
2- . قلنا: في الوطن، لأجل المقابلة مع السفر الذي مرّ ذكره في الآية.

حرجياً.

ثمّ إنّ صاحب المنار نقل عن أُستاذه أنّه قد راجع خمسة وعشرين تفسيراً رجاء أن يجد فيها قولاً لا تكلّف فيه، لكن صاحب المنار قال: أنا لم أراجع عند كتابة تفسيرها إلّاروح المعاني وهو آخر التفاسير المتداولة تأليفاً وصاحبه واسع الاطّلاع، فإذا به يقول: الآية من معضلات القرآن.(1)

أقول: نحن نوافق صاحب المنار في أنّ الآية ليست من معضلات القرآن، لكن فهم الآية واستنباط الأحكام رهن التدبّر في الآية. وأنّ ذكر العنوانين:

المريض والمسافر الأوّلين لغلبة فقد الماء عليهما دون المصحّ والحاضر.

الرابع: كيفية التيمّم

هو أن يضرب يديه على الصعيد ثم يمسح الجبهة بهما من قصاص الشعر إلى طرف أنفه، ثم يمسح ظاهر الكفين. وقيل باستيعاب مسح الوجه والذراعين، والأوّل أظهر.(2)

وجه كونه أظهر أنّه تعالى عبّر بالمسح المتعدّي بالباء، فقال: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ ) فدلّ ذلك على أنّ المعتمد في التيمّم هو مسح بعض عضوي الغسل في الوضوء، أعني: بعض الوجه وبعض اليد إلى المرفق، فينطبق على ما ورد من طرق أئمّة أهل البيت عليهم السلام من تحديد الممسوح بالوجه ما بين الجبينين(3) والممسوح باليد بما دون الزند منها. وأمّا أنّه هل تكفي ضربة واحدة

ص: 51


1- . تفسير المنار: 120/5.
2- . شرائع الإسلام: 48/1.
3- . الجبين: ناحية الجبهة وفي مجمع البحرين: الجبين فوق الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها يتصاعدان من طرفي الحاجبين إلى قصاص الشعر فتكون الجبهة بين الجبينين.

على الصعيد، أو لا؟ فهذا على عاتق السنّة في الفقه الشريف، وظاهر الكتاب كفاية الواحدة.

ثم الظاهر من قوله سبحانه: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) لزوم وجود شيء من الصعيد الطيّب في اليد، الذي يعبّر عنه بالعلوق حتى يمسح به وجهه ويديه.

قال في «الكشّاف» لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلّامعنى التبعيض.(1)

وعلى هذا ف «من» في قوله: (مِنْهُ ) تبعيضية لا ابتدائية، فلابدّ للمتيمّم من السعي في بقاء شيء من الصعيد على اليد، حتى يمسح به الوجه واليدين، فما ربّما يقال: ويستحب نفض اليدين بعد ضربهما على الأرض،(2) فهو محمول على نفض اليدين من الحجارة الصغيرة لا من الغبار، فما ربما يقال من جواز التيمّم على الحجر الأملس الذي ليس عليه شيء من التراب أو الغبار، فلا يساعد عليه الذكر الحكيم. ويؤيد ما ذكرنا ما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام وقد جاء فيها:

(وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) : أي من ذلك التيمّم؛ لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها».(3)1.

ص: 52


1- . تفسير الكشّاف: 1/529. أضف إلى ذلك: أنّ التبيينية لا تدخل على الضمير مطلقاً.
2- . شرائع الإسلام: 49/1.
3- . الوسائل: 2، الباب 13 من أبواب التيمّم، الحديث 1.
الخامس: الغاية من الوضوء

ثمّ إنّ الغاية من الوضوء هي ما يذكره سبحانه: (ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) : أي لا يريد أن يشقّ عليكم، كيف وقد رخّص ترخيصاً إلزامياً بالتيمّم عندما كان الوضوء والغسل حرجيّين، ولكن يريد أمرين:

1. (لِيُطَهِّرَكُمْ ) لأنّ الغسل والوضوء يزيل ما في الجسد من أدران، ويحتمل أن يراد به الطهارة المعنوية؛ لأنّ الوضوء واجب عبادي يجب أن يأتي به متقرّباً إلى اللّه سبحانه، ولا مانع من أن يكون الوضوء تطهيراً من الرذائل والأقذار كما في الطهارة بالماء ومزكّياً للنفوس والأرواح، كما في التيمّم بالتراب إذ هو مظهر للخضوع، ولعلّ قوله سبحانه: (وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) إشارة إلى الجمع بين النعمتين: الطهارة الجسمية والروحية.

ويحتمل أن يُراد من النعمة: الدين، حيث إنّ الصلاة والوضوء والغسل جزء من الأحكام الشرعية.

قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) في مقابل إكمال النعمة حيث أتمّ نعمته ظاهرة وباطنة عملاً واعتقاداً.

السادس: سبب الاختلاف في حكم الأرجل
اشارة

إذا كانت الآية صريحة في مسح الأرجل، فلماذا نرى أنّ قسماً كبيراً من المسلمين يغسلون الأرجل ولا يمسحون عليها، فما هو الوجه في طروء هذا الاختلاف ؟

أقول: إنّ قسماً كثيراً من الفقهاء قالوا بأنّ القرآن نزل بالمسح والسنّة

ص: 53

بالغسل، ومعنى ذلك أنّ السنّة نسخت القرآن، وهو كماترى، لأنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن، ولم ينسخ منها شيء.

يقول ابن عاشور: نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل وهذا تأويل حسن لهذه الآية، فيكون مسح الرجلين منسوخاً بالسنّة.(1)يلاحظ عليه: أنّ نسخ القرآن بالسنّة أمر مختلف فيه خصوصاً إذا كانت السنّة متعارضة، وقد تقدّم ما يدلّ على المسح من السنّة، كيف وقد روي عن ابن عباس: أبى الناس إلّاالغسل ولا أجد في كتاب اللّه إلّاالمسح.(2)

والذي يمكن أن يقال في التوفيق بين الغسل والمسح: إنّه لا شكّ أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ في المدينة المنوّرة على مرأى من أصحابه وأنصاره وأنّهم رأوا كيفية وضوئه من المسح أو الغسل، فلماذا حصل الاختلاف بعد رحلته ؟

والجواب: أنّ الاختلاف رهن أحد أُمور ثلاثة على نحو مانعة الخلوّ:

الأوّل: الاختلاف في القراءة

قد تفرّق الصحابة بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى بلدان قريبة أو بعيدة ولم يكونوا مجمعين على قراءة واحدة لا في هذه الآية ولا في سائر الآيات، وإن كانوا متّفقين على أنّ مابين الدفّتين هو القرآن المنزل لم ينقص منه شيء، ولم يزد عليه، فمَن قرأ بالجر رجّح المسح، ومن قرأ بالنصب رجّح الغسل.

ص: 54


1- . التحرير والتنوير: 52/5؛ تفسير الدر المنثور: 10/3.
2- . تفسير الدر المنثور: 262/2.
الثاني: النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يغسل رجليه قبل نزول الآية

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان في فترة من عمره الشريف قبل نزول آية الوضوء يغسل رجليه ولمّا نزل القرآن الكريم بالمسح نُسخت السنّةُ بالقرآن، كما نسخت به في مورد القبلة، حيث إنّ الصلاة باستقبال البيت المقدّس ثبتت بالسنّة ولكنّها نسخت بآية القبلة، ولعلّ الناس أخذوا بالسنّة التي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليها، غافلين عن أنّ القرآن هو الحاكم عليها، ويدلّ عليه ما روي عن ابن عباس أنّه قال: أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب اللّه إلّاالمسح.(1)

الثالث: إشاعة الغسل من قبل السلطة

إنّ القرآن نزل بالمسح ولكن المصلحة المزعومة لدى الحكّام اقتضت إلزام الناس بغسل الأرجل بدل المسح لخبث باطن القدمين، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص.

روى ابن جرير عن حميد، قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة أنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه وذكر الطهور، فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس: صدق اللّه وكذب الحجّاج، قال اللّه تعالى: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ ) قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها.(2)

ص: 55


1- . تفسير الدر المنثور: 262/2.
2- . تفسير ابن كثير: 27/2؛ تفسير الطبري: 82/6.

وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيّد الغسل، وتؤاخذ من يقول بالمسح، حتّى إنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلّا خفية، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه:

اجتمعوا أُصلّي بكم صلاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا اجتمعوا، قال: هل فيكم أحد غيركم ؟ قالوا: لا، إلّاابن أُخت لنا، قال: ابن أُخت القوم منهم، فدعا بجفنه فيها ماء فتوضّأ ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم صلّى بهم.(1)

هذه هي الوجوه التي يمكن أن يُبرر بها اختلاف المسلمين في الوضوء بعد رحيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولو أنصفنا لوجب علينا أن نقول: إنّ السبب المهمّ هو إعراضهم عن التمسّك بكلا الثقلين اللّذين أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالتمسّك بهما للنجاة من الضلال.2.

ص: 56


1- . مسند أحمد بن حنبل: 342/5؛ المعجم الكبير: 280/3، برقم 3412.

أحكام الطهارة

2. آية التيمّم

اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) .(1)

المفردات

الصلاة: تطلق ويراد بها تارة العبادة المعروفة، وأُخرى المعبد كما في قوله تعالى: (وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً) .(2)

جُنُباً: بضمتين: مُن أصابته جنابة إمّا من خروج مني أو جماع، سُمّي جنباً

ص: 57


1- . النساء: 43.
2- . الحج: 40.

لاجتنابه مواضع الصلاة، وهو يستعمل في المفرد والجمع. ونصب عطفاً على قوله: (وَ أَنْتُمْ سُكارى ) حيث إنّ المعطوف عليه جملة حالية محلّها النصب.

سكارى : جمع سكران، الذي فيه الحالة التي تحول بينه وبين عقله.

عابري سبيل: يفسّر تارة بالمجتاز وأُخرى بالمسافر.

الغائط: المكان المنخفض المُعدّ لقضاء الحاجّة من المخرجين، وهذا من أدب القرآن الرفيع، حيث يعبر عمّا لا يستحسن ذكره بالكنايات. نعم صارت الكلمة - في زماننا - حقيقة في نفس الشيء.

لامستم: كناية - أيضاً - عن المباشرة الجنسية، وهو من أدب القرآن حيث يعبّر عن هذا العمل بالكناية. وما رُوي عن الشافعي: أنّ الآية تدلّ على نقض الوضوء بلمس بشرة النساء إلّاالمحارم منهن، غير تام لاستعمال المسّ الذي هو يرادف اللمس في غير واحدة من الآيات(1) في المباشرة.

صعيداً: المكان المرتفع من وجه الأرض أو وجه الأرض.

طيّباً: الطيّب: ما كان طاهراً نظيفاً خالياً عن الأذى في النفس والبدن.(2)

وبعد أن اتّضحت معاني المفردات ندخل إلى المقصود، فنقول:

وفي الآية محاور:

1. النهي عن الصلاة في حالة السكر.

2. النهي عن دخول الجنب في الصلاة حتى يغتسل، إلّاعابر السبيل.».

ص: 58


1- . لاحظ: سورة البقرة، الآية 236، 237.
2- . مجمع البحرين: 2/111، مادة «طيب».

3. حكم المريض والمسافر ومَن جاء من قضاء الحاجة أو لامس النساء إذا فقد الماء.

4. وجوب التيمّم للطوائف الأربع. وإليك دراسة كلّ محور على حدة.

أمّا الأوّل: فاللّه سبحانه يخاطب المؤمنين ألّا يدخلوا في الصلاة وهم سُكارى حتى يدركوا ما يقولون في الصلاة، يقول تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ ) : أي لا تدخلوها (وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) :

فإنّ السكران لا يتكلّم عن عقل وشعور، فالمؤمن يواجه مقام العظمة والكبرياء ويخاطب رب العالمين فلا يصلح أن يكون سكراناً يتكلّم بلا شعور ولا عقل.

ثمّ إنّ هنا شبهة أثارها بعض المفسّرين وشرحها الرازي قائلاً: بأنّ ظاهر قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) نهي المؤمنين عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون، وتوجيه التكليف على مثل هذا الإنسان ممتنع بالعقل والنقل.

أمّا العقل فإنّ تكليف مثل هذا الإنسان يقتضي التكليف بما لا يطاق.

وأمّا النقل فهو قوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»، ولأنّ مثل السكران مثل المجنون، فوجب ارتفاع التكليف عنه.(1)

أقول: عزب عن الرازي أنّ الخطاب للمؤمنين قبل أن يسكروا، فيأمرهم بالاجتناب عن شرب الخمر للحذر عن الابتلاء بهذا الأمر المحرّم.0.

ص: 59


1- . تفسير الرازي: 109/10-110.

ثمّ إنّ قوله: (حَتّى تَعْلَمُوا) ليس غاية للحكم حتى يكون معنى الآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، إلى أن تعلموا ما تقولون، فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس بالصلاة، حتى يستشمّ منه جواز القرب إلى الصلاة لدى وقت العلم بما يقولون، بل هو تعليل للحكم - أي منع الصلاة حال السكر - أي لكي تعلموا ما تقولون فإنّ شرب الخمر لا ينفك عن وقوع الصلاة في حال السكر.

تفسير قوله: (إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ )

وأمّا المحور الثاني وهو قوله: (وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) : أي لا تقربوا الصلاة جنباً إلّاعابري سبيل، فلو أُريد من الصلاة العبادة المعروفة فلابدّ من تفسير عابري سبيل بالمسافر، أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلّا إذا كنتم مسافرين فاقدين للماء فيجوز اقترابها حتى تغتسلوا.

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن علي عليه السلام في قوله: (وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) قال: «نزلت هذه الآية في المسافر، تصيبه الجنابة فيتيمّم ويصلّي»، وفي لفظ قال: «لا يقرب الصلاة إلّاأن يكون مسافراً، تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيتيمم ويصلّي حتى يجد الماء».(1)

فإن قلت: تفسير الفقرة بهذا النحو وإن كان يوجب انسجام الآية ولكنّه يوجب التكرار؛ لأنّ حكم المسافر يأتي - في قوله سبحانه - في آخر الآية: (أَوْ عَلى سَفَرٍ) .

والجواب: أنّ الوارد في صدر الآية هو خصوص الجنب المسافر الّذي لا

ص: 60


1- . تفسير الدر المنثور: 546/2.

يجد ماءً فيتيمّم، وأمّا الوارد في ذيل الآية فالمراد مطلق المسافر، سواء كان محدثاً بالأصغر أو الأكبر.

فإن قلت: قد مرّ الحديث عن الجنب في قوله: (وَ لا جُنُباً) ، فلماذا ذكره ثانياً في قوله: (أَوْ لامَسْتُمُ ) ؟

قلت: الجُنب في صدر الآية أعمّ حيث إنّ سبب الجنابة لا يختصّ بلمس النساء، بل يحصل بالاحتلام، فصدر الآية أعمّ من ذيلها.

وربما يقال: إنّ المراد من الصلاة المعبد، وعندئذٍ يكون المعنى: أي لا تقربوا المعبد الذي بُني للصلاة حال كونكم سُكارى إلّاإذا كنتم متجاوزين دخولاً من باب وخروجاً من باب آخر، فللجنب أن يجتاز المسجد ويحرم عليه المكث فيه إلّاالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذ يحرم فيهما المكث والاجتياز. وعلى هذا تدور الفقرة في بيان حكم الجنب، عند دخوله المسجد.

حكم الطوائف الأربع

وأمّا المحور الثالث: حكم الطوائف الأربع إذا فقدوا الماء، فقال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ ) :

1. (مَرْضى ) .

2. (عَلى سَفَرٍ)

3. (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ) .

4. (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) .

فظاهر الآية أنّ كلّاً من العناوين الأربعة، إذا كانوا فاقدين للماء يجب عليهم

ص: 61

التيمّم. وبعبارة أُخرى: قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) قيد للأربعة جميعاً لا لخصوص الأخيرين.

إنّ كلّاً من العناوين الأربعة عنوان طريقي إمّا لفقدان الماء كما في العناوين الثلاثة، أو لكون استعماله حرجياً كما في المرضى، وليس للمرض والسفر موضوعية، بمعنى أنّ كلّاً من المريض والمسافر يجوز لهما التيمّم وإن وجدا الماء أو لم يكن استعماله حرجيّاً، وهذا هو الذي فهمه عامّة المفسّرين إلّامن شذّ كالشيخ عبده وقد مرّ كلامه في تفسير آية المائدة فلا نعيد. وبما ذكرنا تبيّن أنّ القيد راجع إلى العناوين الأربعة، وأنّ المسافر إذا كان واجداً للماء أو المريض إذا كان الماء غير مضر له، يجب عليهما الاغتسال.

المحور الرابع: كيفية التيمّم

ثمّ إنّه سبحانه يذكر كيفية التيمّم ويقول: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) : أي تحرّوا واقصدوا أرضاً طيّبة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ ) والمسح بالوجوه والأيدي لا يتحقّق إلّابضرب الكفّين على الأرض، وأمّا أنّه هل تكفي ضربة واحدة أو لكلّ من الوجه والكفين ضربة خاصّة، ظاهر إطلاق الآية كفاية الواحدة للجميع إلّاأن تدلّ السنّة على التعدّد.

ثم إنّ الباء في قوله: (بِوُجُوهِكُمْ ) للتبعيض فيدلّ على عدم وجوب الاستيعاب في مسح الوجوه والأيدي، وأمّا ما هو الحدّ فالآية ساكتة عنه، فيرجع فيه إلى السنّة. وقد مرّ ما هو الحدّ في غسل الوجه.

روى الكليني بسند صحيح عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن التيمّم ؟

ص: 62

فضرب بيده إلى الأرض ثم رفعها فنفضها، ثم مسح بها جبينه وكفيّه مرّة واحدة.(1)

نعم الآية تدلّ على أنّ صلاة المصلّي بالطهارة الترابية صحيحة لا تحتاج إلى الإعادة ولا القضاء. ثم إنّ الفاضل المقداد قال: وفي الآية أحكام كثيرة... أنهاها إلى 27 حكماً.(2) وفي دلالة الآية على قسم منها تأمّل واضح، فراجع.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) فإنّه سبحانه قد رخّص لفاقد الماء عدم الاغتسال حتى يرتفع العذر. لكونه (عَفُوًّا) كثير الصفح والتجاوز، (غَفُوراً) : أي كثير الستر على عباده.

***

عليٌّ إمام المتّقين

مَن درس حياة الإمام علي عليه السلام عن وعي وبلا رأي مُسْبق، يقف على أنّه عليه السلام ترعرع في أحضان النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ صباه إلى أن قبض اللّه سبحانه نبيّه إليه. ونلفت نظر القارئ إلى أمرين:

عليّ ربيب بيت النبوة

إنّ فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين عليه السلام تقول: فولدتُ عليّاً ورسول اللّه ثلاثون سنة فأحبّه رسول اللّه حبّاً شديداً وقال لي: اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان صلى الله عليه و آله و سلم يلي أكثر تربيته وكان يطهر عليّاً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند

ص: 63


1- . الوسائل: 1 الباب 11 من أبواب التيمّم، الحديث 3.
2- . لاحظ: كنز العرفان: 1/30-31.

شربه ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه(1) في يقظته، ويحمله على صدره ورقبته، ويقول: هذا أخي ووصيّي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها، صلّى اللّه على الحامل والمحمول.(2)

عدم مفارقة عليّ رسول اللّه منذ صباه إلى رحيله

يقول ابن هشام: وممّا أنعم اللّه به على علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنّه كان في حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام. قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد اللّه بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجّاج، قال: كان من نعمة اللّه على علي بن أبي طالب، وما صنع اللّه له، وأراده من الخير، أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للعبّاس عمّه، وكان من أيسر بني هاشم، يا عبّاس: إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ماترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه، فنخفّف عنه من عياله، آخذُ من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكفلهما عنه. فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب:

إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما. قال ابن هشام: ويقال: عقيلاً وطالباً. فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه، فلم يزل عليّ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبيّاً، فاتبعه عليّ رضى الله عنه وآمن به وصدّقه،

ص: 64


1- . المناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأُمّ صبيّها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة. النهاية لابن الأثير: 5/88، مادة «نغا».
2- . كشف الغمة: 61/1-62.

ولم يزل جعفر عند العبّاس حتى أسلم واستغنى عنه.(1)

نعم كان أخذ عليّ ذريعة في الواقع لتربيته على يد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهذا هو الذي يذكره الإمام عليه السلام في خطبته ويقول: «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ . وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ (حرّاء) فَأَرَاهُ ، وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي. وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا. أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ . وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ (رَنَة) الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه و آله و سلم فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ : «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ . إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ ، وَتَرَى مَا أَرَى ، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ، وَلكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ».(2)

يقول ابن أبي الحديد: فجاور رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حراء في شهر رمضان ومعه أهله خديجة، وعلي بن أبي طالب وخادم لهم، فجاءه جبرئيل بالرسالة... إلى آخر ما ذكره.(3)

والروايات في هذا الموضوع كثيرة.

ومعنى هذا أنّ عليّاً لم يكن يفارق النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ صباه إلى أن رحل إلى ربه.

وأمّا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فاللّه سبحانه أدّبه فأحسن أدبه لم يعبد وثناً ولم يشرب خمراً، عن أبي النعيم في «الدلائل» عن علي عليه السلام: قيل للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: هل عبدت وثناً3.

ص: 65


1- . السيرة النبويّة: 245/1-246.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 192، «القاصعة».
3- . شرح نهج البلاغة: 208/13.

قط؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: لا، قالوا: هل شربت خمراً قط؟ قال: لا.(1)

تحريم الخمر في عامة الشرائع

وروى الكليني بسند صحيح عن الإمام الرضا عليه السلام: «ما بعث اللّه نبيّاً قط إلّا بتحريم الخمر».(2)

وروى الكليني أيضاً عن زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام: «ما بعث اللّه نبيّاً قط إلّا وفي علم اللّه أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً، وإنّما يُنقلون من خصلة إلى خصلة، ولو حُمل ذلك عليهم جُملة لقطع بهم دون الدين».(3)

قال الشيخ البلاغي: معنى هذه الروايات لم تزل حراماً عنداللّه وفي كلّ دين ولكن قد يستفحل الضلال وحكم الجاهلية في الأُمم إلى أن يروها حلالاً، فإذا بعث اللّه نبيّاً آخر قد لا يفاجئهم في أوّل نبوّته وتبليغه بتحريمها، لأنّ الحكمة تقتضي أن يتدرّج معهم في بيان المحرّمات ببيان خصلة خصلة، ولو حملهم دفعة على ترك جميع المحرّمات لما انقادوا إلى الدين ولقطع بهم دونه، ويشهد تدرّج القرآن الكريم ببيان أنّ فيها إثماً كبيراً وإثمها أكبر ممّا يزعمه الناس من النفع، كما مضى في سورة البقرة (الآية: 219) وأنّها رجس من عمل الشيطان ليوقع بها العداوة والبغضاء بينهم، كما في سورة المائدة [الآية 91]، وما كان كما ذكرناه لابدّ من أن يكون النبي صلى الله عليه و آله و سلم عالماً بتحريمه من أوّل الأمر، ولابدّ في كماله وعصمته وأهليته

ص: 66


1- . كنز العمال: 12/406، برقم 35439.
2- . الكافي: 115/1، برقم 15.
3- . الكافي: 395/6، برقم 3.

للنبوّة ودعوتها من أن لا يكون مدّة عمره الشريف قد لوّث قُدسه بشربها قبل النبوّة وبعدها.(1)

هذا هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومَن ربّاه في حجره، وهما كالفرقدين في سماء الفضيلة والكرامة، أفيمكن لمثل عليّ أن يفارق معلّمه ومربّيه، فيجتمع مع جماعة عبدوا الصنم في عصر الجاهلية وشربوا الخمر واستمروا عليه طالبين البيان الشافي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فيشرب معهم الخمر، ويكون إماماً لهم فيقرأ قوله تعالى في سورة الكافرون، فيغلط كما رواه القوم.

إنّ لشخينا البلاغي بياناً شافياً في ذلك، حيث يقول: إذن فمن تربّى بتربية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونهج من صغر سنّه نهجه، وتأدّب من طفولته بآدابه، وآمن برسالته من أوّلها، وكان أطوع له صلى الله عليه و آله و سلم من ظلّه، كيف يقال في شأنه إنّه كان يشرب الخمر أُمّ الخبائث، والمُوقعة في الفواحش، والسالبة للعقل وشرف الإنسانية، والملحقة للإنسان بمجنون الوحوش.(2)

رواية مجعولة للحطّ من مقام الوصيّ

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ السيوطي نقل الرواية عن جماعة منهم الحاكم، بالنحو التالي: عن عليّ بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدّموني فقرأت:

(قُلْ يا أَيُّهَا اَلْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) ، ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل اللّه:

(يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما

ص: 67


1- . آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 417/2-418.
2- . آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 2/417-418.

تَقُولُونَ ) (1) ،(2) ولكن يا للأسف أنّ السيوطي أخطأ في روايته عن الحاكم ولم ينقلها صحيحاً، وإليك نصّ ما رواه الحاكم:

عن علي رضى الله عنه قال: دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدّم رجل فقرأ: (قُلْ يا أَيُّهَا اَلْكافِرُونَ ) فالتبس عليه فنزلت:

(لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) .

[وقال بعد الرواية]: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. وفي هذا الحديث فائدة كثيرة وهي أنّ الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دون غيره، وقد برأه اللّه منها فإنّه راوي هذا الحديث، وقال الذهبي: صحيح.(3)

أضف إلى ذلك: أنّ الحاكم يرويها عن عبد الرحمن السُّلمي وهو إنسان منحرف عن علي عليه السلام، ففي «تهذيب التهذيب» عن الواقدي من أنّ أبا عبد الرحمن السُّلَمي عبد اللّه بن حبيب شهد مع عليّ صفين ثم صار عثمانياً! أي معادياً لعلي وموالياً لمعاوية.(4)

فما قيمة رواية يرويها العدو في حقّ مَن يعاديه. هذا كلّه يرجع إلى الرواية الأُولى التي نقلها السيوطي في «الدر المنثور»، وأمّا بقية الروايات فحدّث عنها ولا حرج، ففيها تناقضاً في المتن، ففي الرواية الأُوّلى أنّ المضيّف هو عبد الرحمن5.

ص: 68


1- . النساء: 43.
2- . تفسير الدر المنثور: 2/165.
3- . المستدرك على الصحيحين: 307/2 (الطبعة القديمة)، ج 1198/3، برقم 3199، طبعة المكتبة العصرية.
4- . تهذيب التهذيب: 184/5.

ابن عوف، وعليّ هو الإمام، وفي الرواية الثانية أنّ الإمام هو عبد الرحمن، فلا يمكن الاعتماد على هذه الروايات، واللّه الحاكم.

إنّ من نسب هذا الأمر الشنيع إلى عليّ ، ممّن لم يعرف عليّاً حقّ معرفته، أو عرفه ولكن عاداه، فأراد أن يقرنه إلى من كانت عادته شرب الخمر، حتى يهوّن الأمر عليه، ونعم ما قال علي عليه السلام في بعض خطبه، حيث قرنه عمر بن الخطاب مع رجال خمسة هم دون مكانته ومنزلته، قال عليه السلام: «فَيَالَلّهِ وَلِلشُّورَى ! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إلَى هذِهِ النَّظَائِرِ!».(1)

ثمّ إنّ مَن حقّق الموضوع من علمائنا شيخنا البلاغي في تفسيره القيّم (آلاء الرحمن) وقد صدرنا عن بيانه وإفاضاته.3.

ص: 69


1- . نهج البلاغة: الخطبة 3.

أحكام الطهارة

3. أحكام الحائض في الذكر الحكيم

الآية الأُولى:

اشارة

قال سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ ) (1).

المفردات

المحيض: من الحيض، وهو في الأصل بمعنى الفيض والسيلان الخفيف من داخل الشيء، كفيضان الصمغ من الشجرة، وفيضان الدم من رحم المرأة، ثم غلب استعماله في المعنى الثاني، وعلى هذا فأُريد من المحيض دم الحيض، بشهادة رجوع الضمير إليه في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ أَذىً ) .

وعلى هذا فالمحيض مصدر كالمجيء والمبيت، بمعنى الحيض. وفي

ص: 70


1- . البقرة: 222.

الوقت نفسه فهو اسم مكان وزمان، ففي قوله: (عَنِ اَلْمَحِيضِ ) أريد المعنى المصدري، وفي (فِي اَلْمَحِيضِ ) المعنى الثاني أي: مكانه وزمانه.

أذى : فسّر في المفردات بالضرر، فقال: الأذى : ما يصل إلى الحيوان من الضرر.(1) ولكنّه لا ينسجم مع سائر الآيات، قال سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ ) (2).

وقال تعالى: (وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا) (3).

وقال تعالى: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى ) (4).

إلى غير ذلك من الآيات التي أُريد منها معنى الإيلام والمنّة لا الضرر، وأمّا المقام فقد أُريد به القذر بشهادة قوله سبحانه في المحرم للحجّ : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ) (5) وقد فُسّر بالقَمْل في رأس المحرم، والأذى هنا بمعنى القذارة.

وعلى هذا فقد استعمل في الإيلام والمنّة والقذارة، وأمّا الضرر الذي يدّعيه الراغب فلم نعثر عليه في موارد الآيات.

في المحيض: قد مرّ أنّه هنا اسم زمان ومكان، وأُريد مكان الحيض وزمانه، بخلاف قوله: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ ) فقد أُريد به دم الحيض، كما مرّ.6.

ص: 71


1- . المفردات للراغب: 15، مادة «أذى».
2- . الأحزاب: 57.
3- . الأحزاب: 58.
4- . البقرة: 263.
5- . البقرة: 196.

يطهرن: بالنقاء، عن خروج الدم، وهذا أمر طبيعي وليس فعلاً اختيارياً، بل ينتهي إليه أمر المرأة طبعاً.

تطهّرن: فعل اختياري يجب تحصيله لمن حصل لها النقاء، وأُريد به إمّا غَسْل الموضع أو الغُسْل أو الوضوء. وهذا يدلّ على أنّه لابدّ من صدور فعل اختياري منها، مضافاً إلى الطهر الخارج عنه.

التفسير

إنّ الداعي إلى السؤال عن هذا الحكم هو، اختلاف الأُمم في معاملة الرجال لزوجاتهم في أيام الحيض، فقد روي أنّ اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، نعم كان النصارى لا يبالون بالحيض وكانوا يجامعون نساءهم، وأنّ أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش، ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس.(1)

وأمّا الشريعة الإسلامية فقد اتّخذت موقفاً معتدلاً (وسطاً) وهو أنّها أجازت معاشرتهن وكأنّهن في غير تلك الحالة، إلّاأنّها نهت عن اقترابهن.

قال سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ ) : أي دم الحيض. ثمّ إنّ جهة السؤال مجهولة، ولعلّ السائل سأل عن كيفية المعاشرة أو المجامعة، حسب ما ذكر في الجاهلية، فوافاه الجواب بقوله: (قُلْ هُوَ أَذىً ) : أي أنّ دم الحيض قذر يلزم أن

ص: 72


1- . تفسير الرازي: 63/6.

يُجتنب عنه؛ لذلك رتّب عليه قوله: (فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ ) : أي زمان الحيض ومكانه، وبما أنّه ربما يتوهّم منه الاعتزال التام - كما في الجاهلية - عطف عليه قوله: (وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ ) : أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج، فعلم من ذلك كيفية المعاشرة مع النساء في المحيض، وأنّه لا فرق بين الحالتين إلّافي أمر الدخول فيحرم ولا يحرم سائر الالتذاذات.

ثمّ إنّه سبحانه حدّد منع المقاربة بأمرين:

1. (حَتّى يَطْهُرْنَ ) وهذا عمل طبيعي وحالة طارئة على المرأة بعد انقضاء أيام العادة بالنقاء.

2. (فَإِذا تَطَهَّرْنَ ) وهذا فعل اختياريّ قائم بالمرأة، فيدل على أنّ المنع ينتفي بأمرين: النقاء من جانب المرأة، والثاني قيام المرأة بالتطهّر، وهو مردّد بين غسل موضع الحيض أو الوضوء أو الغُسْل، كما سيأتي.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا تعارض بين الفعلين لأنّ الأوّل أمر طبيعي خارج عن الاختيار، والأمر الثاني فعل اختياري للمرأة. فعلى ظاهر الآية أنّ النقاء الذي هو فعل خارج عن الاختيار لا يكفي إلّاأن يُضم إليه فعل من جانب المرأة.

قوله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ ) إنّ لفظ (حَيْثُ ) يدلّ على المكان، فيحتمل أن يكون المراد بالأمر بالاعتزال هو الوارد في قوله سبحانه:

(فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ ) . وعلى هذا فمعنى الفقرة: يجوز لكم إتيان النساء من المكان الذي أُمرتم بالاعتزال عنه، وهو الفرج. يقول الطبرسي: معناه:

من حيث أمركم اللّه بتجنّبه في الحيض وهو الفرج.(1)2.

ص: 73


1- . مجمع البيان: 117/2.

نعم الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، كقوله سبحانه: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ) (1). الوارد بعد النهي عن اقتراب النساء في ليالي شهر رمضان مطلقاً، حيث أحلّه في لياليه كما قال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) .

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ ) من الذنوب (وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ ) إمّا طهارة ظاهرية بالماء، أو طهارة واقعية من الذنوب.

ولعلّ وصفه بأنّه (يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ ) إشارة إلى قبول توبة مَن لم يمتلك نفسه في تلك الحالة وجامع زوجته، ثم تاب عن ذلك فاللّه يقبل توبته.

كما أنّ وصفه بأنّه (يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ ) إشارة إلى أنّ النهي عن اقتراب النساء في المحيض، لأجل تطهير المؤمن، واللّه يحب المتطهّرين.

الآية الثانية:

اشارة

قال سبحانه: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ) .(2)

قبل الدخول في حكم الآية نفسّر لفظ «حرث»: وهو إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويُسمّى المحروث - أي الأرض المعدّة للحرث - أيضاً حرثاً، قال اللّه تعالى: (أَنِ اُغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ ) .(3)

ص: 74


1- . البقرة: 187.
2- . البقرة: 223.
3- . القلم: 22.

وصلة الآية بما قبلها واضحة، لأنّ الآية السابقة منعت الأزواج عن مقاربة النساء وقت المحيض، فناسب أن يمنّ اللّه سبحانه على عباده برفع المنع بالتطهّر كما قال: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) لأنّ الغرض النهائي من النكاح ليس هو إشباع الغريزة الجنسية فقط، بل المراد منه التناسل، فإنّ لكلّ إنسان رغبة في بقاء نسله فقوله: (حَرْثٌ ) يحتمل وجهين:

1. المعنى المصدري أي نثر البذور.

2. أُريد به المحروث، فيطلق على الأرض المعدّة للزرع والغرس، قال سبحانه: (وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ) (1): أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها.

والمعنى الثاني هو الأفضل، فإذا كانت النساء محروثة للرجال، فخاطبهم سبحانه بقوله: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ) : أي جيئوا إلى محروثكم، وقال الطبرسي: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ) أي: موضع حرثكم(2)، (أَنّى) : أي أيّ زمان (شِئْتُمْ ) والقرينة على أنّ (أَنّى) هنا زمانية هو أنّهم منعوا من نثر البذور في أيام الحيض، فجاء البيان القرآني يرشد إلى أنّ المنع يختصّ بهذا الزمان، وأمّا غيره فلكم إتيانهن في أي زمان شئتم. وعلى هذا تكون (أَنّى) زمانية لا مكانية، وهذا هو المتبادر من الآية بقرينة السياق. وقد صرّح في لسان العرب ومجمع البحرين بأنّ اللفظة تطلق ويراد بها الزمان.(3)6.

ص: 75


1- . الأنعام: 138.
2- . مجمع البيان: 118/2.
3- . لسان العرب: 135/2؛ مجمع البحرين: 210/6.

وحاصل الآية: أنّكم مُنعتم من إتيان النساء في زمان خاصّ ، فإذا انقضى ذلك الزمان فأتوهن في أي زمان من الأزمنة، وهذا هو مفاد الآية.

بقي هنا احتمالان بعيدان وهما:

1. أنّ (أَنّى) بمعنى من أين، كما في قوله سبحانه في خطاب زكريا لمريم: (أَنّى لَكِ هذا) (1) أي: من أين ؟ وهذا القول منسوب إلى سيبويه حسب ما نقله القرطبي. وما ذكره صحيح في مورد الآية لكنّه بعيد عن سياق آيتنا، إذ ليس لسان الآية، لسان استفهام، بل مفاده الأمر.

2. أنّ (أَنّى) مكانية، ولو فسّرت بهذا يحمل على ما ورد في شأن النزول، حيث قالت اليهود: إنّ الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول، فكذّبهم اللّه، عن ابن عباس وجابر. وقيل: أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة، فأنزل اللّه إباحته، عن الحسن.(2)

وكون الآية بصدد بيان هذا بعيد عن أدب القرآن الكريم.

ربما ينسب إلى مالك أنّه استدلّ بقوله سبحانه: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) بجواز إتيان النساء من الدبر، قال الطبرسي: استدلّ مالك بقوله: (أَنّى شِئْتُمْ ) على جواز إتيان المرأة في دبرها، ورواه نافع عن ابن عمر، وحكاه زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر.(3)

والمسألة يستدلّ عليها تارة بالآية، وأُخرى بالروايات.2.

ص: 76


1- . آل عمران: 37.
2- . مجمع البيان: 118/2.
3- . مجمع البيان: 120/2.

أمّا الثانية فهي خارجة عن موضوع بحثنا، إنّما الكلام هو الاستدلال بالآية، فنقول: ما نسب إليه غير تام، وذلك لما تقدّم أنّ لفظة (أَنّى) في الآية زمانية لا مكانية، والاستدلال مبني على كونها مكانية. وسياق الآية يدلّ على خلاف ما اختاره، حيث يقول: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) : أي فأتوا موضع حرثكم، ومن المعلوم أنّ محلّ الحرث هو القبل لا الدبر، فالاستدلال بالآية ساقط.

قوله تعالى: (وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ) فلو قلنا بأنّ المراد: الولد والنسل؛ لأنّ الولد الصالح خير الدنيا والآخرة، فيكون دليلاً آخر على أنّ المراد من قوله:

(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) هو الإتيان في القبل في أي زمان، فإنّ تقديم ما ينفع غداً من الأولاد لا يتحقّق إلّاإذا كان المراد ما ذكرنا. نعم ربما يفسّر بالمعنى الأعمّ فيشمل العمل الصالح.

قوله تعالى: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ ) لعلّه تحذير لمن يقع في معصية اللّه في أيام الحيض، ولذلك يقول بعده: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ ) : أي تلاقونه يوم القيامة، فيجازيكم على البر والإثم، وفي مقابل ذلك يأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: (وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ) الذين يأتمرون أوامر اللّه تعالى ويجتنبون عن نواهيه.

جواز إتيان النساء بالنقاء عن الدم وعدمه
اشارة

هل يجوز إتيان النساء بالنقاء عن الدم ؟ يمكن استظهار حكمه من الآية بالبيان التالي:

إنّ قوله سبحانه: (حَتّى يَطْهُرْنَ ) قرئ بتخفيف «الطاء». نعم قرأ أهل الكوفة - غير حفص - بتشديد «الطاء» والموجود في المصحف هو التخفيف، فيكون «يطهرن» من طهرت المرأة في مقابل «طمثت» فالتقابل (بين يطهرن، و تطهّرن)

ص: 77

يؤيّد قراءة التخفيف في اللفظة الأُولى، فعلى هذا فالمنع في إتيان النساء يكون محدّداً بطهرهن في مقابل طمثهن، فإذا حصل النقاء ارتفع الطمث، وتحقّق الطهر.

والذي يصدّ المفسّر عن الإفتاء بجواز الإتيان بمجرد النقاء، الفقرة التالية بعدها حيث يقول: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ ) فإنّ التشديد في الفعل يدلّ على لزوم شيء زائد وراء الطُهر، فتكون الآية دالّة على لزوم تحصيل أمر وراء النقاء، وعندئذٍ يقع الكلام ما هو هذا الشيء، فهل هو غسل الموضع أو اغتسال المرأة ؟ وعلى كلّ تقدير فمجرّد النقاء لا يكفي حسب سياق الآيات، لما مرّ من الاختلاف بين (يَطْهُرْنَ ) الذي هو فعل خارج عن الاختيار و (تَطَهَّرْنَ ) الذي هو فعل اختياري.

هذا على ضوء الكتاب، وأمّا دراستنا على ضوء سائر الأدلّة فنطرح أقوال الفقهاء ثم نسرد الروايات.

قال الشيخ في «الخلاف»: إذا انقطع دم الحيض جاز لزوجها وطؤها إذا غسلت فرجها، سواء كان ذلك في أقلّ الحيض أو في أكثره، وإن لم تغتسل.

وقال أبو حنيفة: إن انقطع دمها لأكثر مدّة الحيض وهو عشرة أيام حلّ وطؤها، ولم يراع غسل الفرج، وإن انقطع دون العشرة أيام لم يحل ذلك إلّابعد أن توجد ما ينافي الحيض، وهو أن تغتسل أو تتيمم وتصلّي، فإن تيمّمت ولم تصل لم يجز وطؤها، فإن خرج عنها الوقت ولم تصل، جاز وطؤها.

وقال الشافعي: لا يحل وطؤها إلّابعد أن تستبيح فعل الصلاة إمّا بالغسل مع وجود الماء أو التيمّم عند عدمه، فأمّا قبل استباحة الصلاة فلا يجوز وطؤها على

ص: 78

حال.(1)

أمّا ما أفتى به أبو حنيفة فقد أورد عليه المحقّق الأردبيلي في «زبدة البيان»، فقال: أمّا مذهب أبي حنيفة على ما ذكره في الكشّاف،(2) فبعيد عن الآية كثيراً ولا وجه له، وهو أنّه إن كان لأكثر الدّم فيحرم إلى انقطاع الدّم، وفي أقلّه إلى بعد الغسل أو بعد مضيّ وقت صلاة كاملة، مع أنّه بقي حكم الوسط إلّاأن يُريد بالأقل غير الأكثر أو العكس.(3)

وأمّا فتوى الشافعي فلعلّ ما ذكره تفسير لقوله تعالى: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ ) ، ولكنّه لم يذكر مصدراً لتفسيره من حديث أو أثر، هذا كلّه حول الآية والأقوال، وأمّا المرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فهو على أصناف ثلاثة:

الأوّل: ما يدلّ على الجواز مطلقاً،

نظير:

1. ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا انقطع الدم ولم تغتسل، فليأتها زوجها إن شاء».

ورواه أيضاً علي بن يقطين عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله.(4)

2. ما رواه عبد اللّه بن المغيرة، عمّن سمعه، عن العبد الصالح عليه السلام في المرأة إذا طهرت من الحيض ولم تمسّ الماء فلا يقع عليها زوجها حتّى تغتسل، وإن

ص: 79


1- . الخلاف: 228/1، المسألة 196.
2- . تفسير الكشّاف: 266/1.
3- . زبدة البيان: 65/1.
4- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 3 وذيله.

فعل فلا بأس به، وقال: «تمسّ الماء أحبّ إلي».(1)

3. ما رواه عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال:

سألته عن الحائض ترى الطهر، أيقع بها زوجها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا بأس، وبعد الغسل أحبّ إليّ ».(2)

الصنف الثاني: ما يدلّ على المنع،

نظير:

1. ما رواه الشيخ عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: سألته عن امرأة كانت طامثاً فرأت الطهر، أيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا حتّى تغتسل»، قال: وسألته عن امرأة حاضت في السفر ثم طهرت فلم تجد ماء يوماً واثنين، أيحلّ لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا يصلح حتّى تغتسل».(3)

2. وما رواه الشيخ - أيضاً - عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

قلت له: المرأة تحرم عليها الصلاة ثم تطهر فتتوضّأ من غير أن تغتسل، أفلزوجها أن يأتيها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا، حتّى تغتسل».(4)

وصناعة الفقه تقتضي حمل الصنف الثاني على الكراهة، بشهادة ما في الصنف الأوّل من قوله عليه السلام: «وبعد الغسل أحبّ إليّ ».

ومحور كلا الصنفين هو لزوم الاغتسال وعدمه، والجمع الذي ذكره لا إشكال فيه، إنّما الكلام في تفسير قوله سبحانه: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ ) لأنّه يقتضي أنّ

ص: 80


1- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 4.
2- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 5.
3- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 6.
4- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 7.

عليها أمراً آخر وراء النقاء وهذا ما نجد جوابه في روايات الصنف الثالث.

الصنف الثالث: ما يدلّ على تقييد الجواز بغسل الموضع،

نظير:

1. ما رواه الكليني بسنده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في المرأة ينقطع عنها الدم دم الحيض في آخر أيّامها؟ قال: «إذا أصاب زوجها شبق، فليأمرها فلتغسل فرجها، ثم يمسّها إن شاء قبل أن تغتسل».(1)

2. وروى الشيخ بإسناده عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل يكون معه أهله في السفر فلا يجد الماء، يأتي أهله ؟ فقال: «ما أحبّ أن يفعل ذلك إلّاأن يكون شبقاً أو يخاف على نفسه».(2)

وهاتان الروايتان صالحتان لتقييد الصنفين السابقين، فيقيّد ما دلّ على الجواز بهما، كما يقيد المنع بهما كذلك. وهذا القول لا يخلو من قوّة، وهو خيرة الشيخ الصدوق.(3) نعم أورد عليه في «الجواهر» بقوله: «لا يخفى عليك قصوره عن مقاومة ما ذكرنا من وجوه متعدّدة، لا سيما بعد كون الغالب عدم الشبق، فيبعد حمل تلك المطلقات على تقييد هذا الخبر».(4)

أمّا الشبق فليس أمراً غير غالب خصوصاً في الشباب بعد الامتناع عن الوطء أيام الحيض.

وعلى كلّ تقدير فالذي يصدّنا عن القول بالجواز مطلقاً هو قوله

ص: 81


1- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 1.
2- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 2.
3- . من لا يحضره الفقيه: 53/1.
4- . جواهر الكلام: 269/3.

سبحانه: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ ) ، ومن العجب أنّ الشيخ الطوسي فسّر (تَطَهَّرْنَ ) وقال بمعنى طهرن؛ لأنّ تفعل يجيء بمعنى فعل.(1) وتبعه صاحب الجواهر فقال:

أن (تفعّل) بمعنى «فعل» قيل ومنه المتكبّر في أسماء اللّه تعالى، بمعنى الكبير.(2)

يلاحظ عليه: أنّ المتكبّر من أوصافه سبحانه بمعناه الحقيقي، وهو حقّ له؛ لأنّه هو الذي تلبّس بالكبرياء وظهر به، فإذا كان الكبر هو الحالة التي توجب إعجاب المرء بنفسه ورؤية ذاته أكبر من غيره، لاترى لذلك الوصف حقيقة إلّافي ذاته سبحانه، حيث له الكبرياء والعظمة دون غيره.

فخرجنا بالنتيجة التالية: إنّ الأحوط لو لم يكن الأقوى، لزوم غسل المحلّ وتطهيره قبل اللقاء، وهو القدر المتيقّن من الروايات.3.

ص: 82


1- . الخلاف: 229/1، المسألة 196.
2- . جواهر الكلام: 207/3.

أحكام الطهارة

4. حكم المشرك في الذكر الحكيم

اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .(1)

المفردات

نجس: قال الفيومي: نجس - بالكسر - اسم فاعل، و - بالفتح - وصف بالمصدر. يقال: نجس الشيء نجساً فهو نجس من باب تعب، إذا كان قذراً غير نظيف.(2)

وقال الراغب: النجاسة: القذارة وذلك ضربان:

ضرب يُدرك بالحاسّة.

وضرب يُدرك بالبصيرة.

ص: 83


1- . التوبة: 28.
2- . المصباح المنير: 594/2، مادة «نجس».

والثاني وصف اللّه تعالى به المشركين، فقال: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ويقال: نجّسه أي جعله نجساً.(1)

العيلة: الفقر، يقال: عال يعيل إذا افتقر. قال الشاعر:

وما يدري الفقير متى غناه ***وما يدري الغنيُّ متى يعيل

روى المفسّرون في شأن نزول الآية أنّ عليّاً عليه السلام نادى في سنة تسع من الهجرة وقال: لا يَحجّن بعد هذا العام مشرك. ثم صار ذلك ثقيلاً على المسلمين فإن منعَ المشركين عن الحجّ يوجب ضرراً اقتصادياً في تجارة أهل مكّة، فجاء الوحي الإلهي يؤمنهم بقوله: (وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ) أي فقراً وحاجة، وكانوا قد خافوا انقطاع المتاجر، بمنع المشركين من دخول الحرم (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ ) : أي فسوف يغنيكم اللّه من جهة أُخرى، إن شاء أن يغنيكم، بأن يرغّب الناس من أهل الآفاق في حمل الميرة(2) إليكم، رحمة منه ونعمة عليكم.(3)

التفسير

اشارة

وقبل تفسير الآية نقدّم أُموراً:

الأوّل: في أصناف الكافرين

يُقسّم الكافر إلى مشرك وغير مشرك، والمشركون هم عُبّاد الأصنام

ص: 84


1- . المفردات للراغب: 483، مادة «نجس».
2- . الميرة: الطعام الذي يدخره الإنسان.
3- . مجمع البيان: 41/5.

والأوثان، من غير فرق بين كون الوثن سماوياً أو أرضياً؛ فعبّاد النجوم مشركون، كما أنّ مشركي قريش الذين كانوا يعبدون الأصنام المنصوبة على البيت، مثلهم.

ثمّ إنّ أهل الكتاب ومن في حكمهم كاليهود والنصارى والمجوس فهم - في مصطلح القرآن - ليسوا بمشركين - وإن كان شرك النصارى أشدّ من شرك عُبّاد الوثن - ومع ذلك فالقرآن يفرّق بينهما يقول سبحانه: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا) (1)، وقال تعالى: (لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ ) (2).

والذي يهمّنا بالبحث عنه هنا هو حكم المشرك من حيث الطهارة والنجاسة لاختصاص الآية به، فخرج اليهود والنصارى والمسلم المرتدّ والنواصب والخوارج عن مصبّ بحثنا. فيطلب حكم هؤلاء بالرجوع إلى المصادر الفقهية.

الأمر الثاني: في نجاسة المشرك وطهارته

إنّ فقهاء الإسلام، في نجاسة المشرك وطهارته، على أقوال:

الأوّل: ذهب فقهاء أهل السنّة - إلّاالقليل - إلى طهارتهم، ونقل الشيخ في «الخلاف» عن الشافعي قوله: لا بأس باستعمالها (الأواني) ما لم يعلم فيها نجاسة، وبه قال أبو حنيفة ومالك.(3)

قال الرازي: أمّا جمهور الفقهاء فإنّهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه. ثم إنّ الرازي أورد على الحنفية ما هذا حاصله، يقول: قال أبو حنيفة

ص: 85


1- . المائدة: 82.
2- . البينة: 1.
3- . لاحظ: الخلاف: 70/1، المسألة 167، كتاب الطهارة.

وأصحابه: أعضاء المحدث نجسة، نجاسة حكمية، وبنوا عليه أنّ الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس.

ثمّ إنّهم قالوا: المشرك طاهر وزعموا أنّ المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة، والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، وهذا من العجائب.(1)

الثاني: أنّ نجاسة المشركين نجاسة عرضية؛ لأنّهم يتناولون الميتة والخمر ولا يجتنبون النجاسات الشرعية، وإلّا فالمشركون طاهرون بالذات نجسون بالعرض.

وقد نقل القول بها عن جماعة من أصحابنا، منهم:

1. ابن أبي عقيل العمّاني، حيث حكي عنه عدم نجاسة سؤر اليهود والنصارى.(2) وقال في «الجواهر»: لعلّه لعدم نجاسة القليل عنده بالملاقاة إذ السؤر عند الفقهاء - على ما قيل -: الماء القليل الذي لاقاه فم حيوان أو جسمه.(3)

أضف إلى ذلك: أنّ كلامه هنا إنّما في أهل الكتاب فلا يستنبط منه حكم المشرك، فإنّ نجاسة أهل الكتاب أخفّ من نجاسة المشرك.

2. ابن الجنيد، فقد حكي عن مختصر ابن الجنيد قوله: أنّه لو تجنّب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم، وكذلك ما وضع في أواني مستحلّ 6.

ص: 86


1- . تفسير الرازي: 25/6.
2- . لاحظ: مدارك الأحكام: 295/2.
3- . جواهر الكلام: 42/6.

الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقّن طهارة أوانيهم وأيديهم، كان أحوط.(1)

ولا يخفى أنّ كلامه غير صريح في النجاسة العرضية. فإنّما يدلّ على أنّ الأحوط الاجتناب عن ذبائح أهل الكتاب وأوانيهم ما لم يتيقّن طهارتها، وهو أعمّ من القول بالنجاسة الذاتية أو العرضية.

3. المفيد في المسائل الغرية، وقد حكاه المحقّق في «المعتبر» عنه، حيث قال بالكراهة.(2) وفي «الجواهر»: لعلّه أراد من الكراهة، الحرمة.(3)

4. الشيخ الطوسي في نهايته، فإنّه قال: ويُكْره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثم يأكل معه إن شاء.

وقد حمل كلامه على الطعام الجاف، كالتمر والخبز؛ وذلك لأنّه قال قبل ذلك ما هو صريح في الحكم بنجاستهم، قال: ولا تجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم ولا استعمال أوانيهم إلّابعد غسلها بالماء، وكلّ طعام تولّاه بعض الكفّار بأيديهم وباشروه بنفوسهم، لم يجز أكله، لأنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه.(4)

5. صاحب المدارك (المتوفّى 1009 ه): حيث إنّه ناقش في دلالة قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ، كما أنّه بعد ما نقل كلتا الطائفتين من الروايات قال: ويمكن الجمع بين الأخبار بأحد أمرين: إمّا حمل هذه (الأخبار الدالّة على0.

ص: 87


1- . جواهر الكلام: 42/6.
2- . لاحظ: المعتبر: 96/1.
3- . جواهر الكلام: 41/6.
4- . النهاية: 580 و 590.

الطهارة) على التقيّة، أو حمل النهي في الأخبار المتقدّمة على الكراهة.

ثمّ رجّح الثاني ببعض الأُمور، وفي نهاية كلامه استظهر أنّ في صحيحة إسماعيل بن جابر إشعاراً بأنّ النهي عن مباشرتهم للنجاسة العرضية.(1)

مورد الروايات التي يشير إليها صاحب المدارك، هو أهل الكتاب، فتردّده فيهم لا يكون دليلاً على تردّده في المشرك، فتدبر.

6. الفيض الكاشاني (المتوفّى 1097 ه)، فإنّه بعد ذكر الأخبار قال: وقد مضى في باب طهارة الماء خبر في جواز الشرب من كوز شرب منه اليهودي، والتطهير من مسّهم ممّا لا ينبغي تركه.(2) وفيه دلالة على رجحان التطهير منه لا لزومه.

وربما يكون بين المتأخّرين قائل بالنجاسة العرضية، ولم نقف عليه.

***

الثالث: القول بالنجاسة الجعلية الاعتبارية

القول بالنجاسة الذاتية بالجعل الشرعي هو القول المشهور بين الإمامية، وكفى في ذلك ما ننقله عن المرتضى وغيره.

قال المرتضى: وممّا انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكلّ كافر، وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وحكى الطحاوي عن مالك في سؤر النصراني والمشرك: «أنّه لا يتوضّأ به» ووجدت المحصّلين من أصحاب مالك يقولون: «إنّ ذلك على سبيل الكراهة لا التحريم» لأجل استحلالهم الخمر

ص: 88


1- . مدارك الأحكام: 298/2-299.
2- . الوافي: 211/6، ذيل الحديث 31.

والخنزير، وليس بمقطوع على نجاسته، فالإمامية منفردة بهذا المذهب».(1)

فإن قلت: إنّ كلامه في مورد أهل الكتاب لا المشركين.

قلت: يدل بالأولوية على نجاسة المشرك.

وقال المحقّق البهبهاني: إنّ القول بالنجاسة الذاتية شعار الشيعة، يعرفه منهم علماء العامّة وعوامهم ونساؤهم وصبيانهم، بل وأهل الكتاب فضلاً عن الخاصّة.(2)

ثمّ إنّ صاحب الجواهر تلقّى كون المسألة على مرتبة من الظهور حيث قال: وكيف كان فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعدّها له الملك العلّام.(3)

ولعلّ هذا المقدار من نقل الكلمات كافٍ في إثبات الشهرة.

إنّما المهم لنا في هذا المقام استظهار الحكم من الآية، والاستدلال بها على المقصود، وإليك البيان.

فنقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: تفسير الآية وإيضاحها.

الثاني: عرض الأقوال على مفاد الآية.

أمّا الأوّل: فلأنّ قوله سبحانه: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) من قبيل حصر الموصوف على الصفة، وكأنّه لا ماهية ولا واقعية للمشرك سوى كونه نجساً، وأمّا6.

ص: 89


1- . الانتصار: 10.
2- . جواهر الكلام: 42/6.
3- . جواهر الكلام: 44/6.

ما ربما يظهر من الرازي أنّه من قبيل حصر الوصف على الموصوف فهو غير تام، حيث قال: إنّ قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) يدلّ على فساد هذا القول، لأنّ كلمة (إِنَّمَا) للحصر، وهذا يقتضي أن لا نجس إلّاالمشرك، فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النصّ ، والعجب أنّ هذا النص صريح في أنّ المشرك نجس وفي أنّ المؤمن ليس بنجس.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ قول القائل: «إنّما الطائي سخيّ » بصدد بيان حصر واقع الطائي على السخاء، لا حصر السخاء على الطائي.

وعلى هذا فالمشرك بوجوده يجسد النجاسة والقذارة، وليس له واقعية غيرها، فعندئذٍ نعرض الأقوال على هذا المعنى المستفاد من الآية.

عرض الآراء على مفاد الآية

1. جعل القذارة المعنوية كجعلها على الميسر.(2)

أقول: لو أُريد هذا فمعنى ذلك أنّ المشرك مع أنّه قذر ونجس يجوز مؤاكلته ومشاربته، ومن المعلوم أنّ هذين الأمرين لا ينسجمان، إذ لا يترتّب على جعل القذارة المعنوية أي أثر، ويُعدّ الكلام الثاني نقضاً للكلام الأوّل. فأين حصر واقع المشرك بالقذارة والنجاسة ومع ذلك يجوز أن يتعامل معه كالتعامل مع المسلم الطاهر المطهَّر.

2. القذارة العرفية التي يعرفها كلّ الناس، وهذا أيضاً غير صحيح، ومخالف

ص: 90


1- . تفسير الرازي: 25/16.
2- . في قوله سبحانه: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (المائدة: 90).

للواقع، فإنّ المشركين لا يختلفون عن سائر الطوائف نظافة.

3. النجاسة العرضية، بأن يقال: بأنّ حصر حقيقتهم بالنجاسة، لكونهم يمارسون النجاسات الشرعية.

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر الآية أنّ النجاسة لا تفارق المشركين ولو كانت عرضية لفارقت في ظرف دون ظرف.

4. النجاسة الشرعية الجعلية، فإنّ الآية وإن كانت جملة خبرية، ولكنّها بصدد إنشاء الحكم، إذ ليس الإخبار من وظائف الشرع، بل من وظائفه جعل الحكم.

فيكون معنى الفقرة: أنّ المشركين عين القذارة ظاهراً وباطناً، فلذلك منعوا من الدخول إلى المسجد الحرام؛ لأنّ المسجد مركز الطاهرين المطهّرين، لا لمثل هؤلاء.

ربما يطرح سؤالان تجب الإجابة عنهما:

الأوّل: إنّ حمل المصدر على الذات غير صحيح، فلابدّ من تقدير كلمة بأن يقال: إنّما المشركون ذوو نجس، وعلى هذا يسقط الاستدلال المبني على كون الكافر مجسِّداً للقذارة.

يلاحظ عليه: أنّ حمل المصدر على الذات لا يصحّ حقيقة، ولكن يصحّ ادعاءً ومبالغة، كقول الخنساء في صفة الناقة الفاقدة لولدها:

ص: 91

ترتاع ما نسيت حتى إذا ذكرت *** فإنّما هي إقبال وإدبار(1)

الثاني: ما ذكره صاحب المدارك - ويظهر من غيره - قال: إنّ النجس لغة المستقذر، قال الهروي في تفسير الآية: يقال لكلّ مستقذر نجس، والمستقذر أعمّ من النجس بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، والواجب حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية عند انتفاء المعنى الشرعي، وهو غير ثابت هنا.(2)

يلاحظ عليه: أنّه ليس للنجس إلّامعنى واحد عرفاً وشرعاً، يقول ابن فارس: أصل صحيح يدلّ على خلاف الطهارة، وشيء نَجِسٌ ونَجَسٌ : قذر، والنَّجَس: القَذَر وليس ببعيد أن يكون منه قولهم: الناجس: الداء لا دواء له. قال ساعدة الهذلي:

والشيب داءٌ نجيسٌ لا دواء له ***للمرءِ كان صحيحاً صائب القُحَمِ (3)

وعلى هذا فالإشكال مبني على أنّ لها معنيين عرفي وشرعي. فالآية تدل على الأوّل دون الثاني، ولكنّه غير تام؛ لأنّ النجس والنجاسة كسائر الألفاظ مثل البيع والإجارة والرهن والنكاح والطلاق له معنى واحد، والشارع عندما أمضى هذه الحقائق العرفية أمضاها بما عند العرف من المعنى، غير أنّه أخرج مصاديقه.

ص: 92


1- . هذا البيت للخنساء ترثي بقصيدتها أخاها صخراً، ولكنّها تُشير في هذا البيت إلى ناقة فقدت ولدها بموت أو نحر، فضنّت بلبنها، فلأجل أن تدر اللبن يحشون جلد ولدها بالتبن ويقربوه منها حتى تشمه، وتظنه ولدها فيدر لبنها، ولذلك قالت: ترتاع (الضمير المستتر) يعود إلى الناقة التي عرفت وصفها (ما نسيت) ولدها (حتى إذا ذكرت) ولدها، فتتوجه إليه. فتارة تقبل به تظن انّه ولدها وتدبر إذا نسيت كونه ولدها.
2- . مدارك الأحكام: 294/2-295.
3- . المقاييس: 393/5-394، مادة «نجس». القُحَم جمع القحمة: الأمر الشاقّ والأمر المكروه.

عن تحت بعض العناوين وأدخل بعضاً آخر، فأخرج بيع الكلب والخنزير عن قوله سبحانه: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ ) ، وعلى هذا فالنجس في الآية بالمعنى العرفي، ولكن الشارع تصرّف في المصاديق وجعل المشرك من مصاديق هذا المعنى، لكن العرف كان غافلاً عنه.

كما أخرج عن النجس القيح والقيء، فإنّهما قذران عرفاً دون الشرع.

وما ذكرناه هو الطريقة الواضحة في أسماء العبادات والمعاملات، فالقول بالحقيقة الشرعية مقابل الحقيقة العرفية يحتاج إلى دليل.

ويدلّ على ذلك أنّ الشرع يتكلّم بلغة العرف، قال سبحانه: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1).

الاحتجاج بالروايات(2)

احتجّ القائلون بالنجاسة بالروايات الصحيحة الدالّة على النجاسة، وفي مقابلها ما يستفاد منه الطهارة، لكن مصبّ هذه الروايات - نجاسة وطهارة - هو المجوس واليهود والنصارى، وعند ذلك لا وجه للبحث عن هاتين الطائفتين، ووجه الجمع بينهما لاختلاف موضوعهما، إنّما اللازم تفسير بقية الآية. وقد مرّ الإيعاز إليه عند نقل كلام صاحب المدارك.

قال تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (2).

ص: 93


1- . إبراهيم: 4.
2- . التوبة: 28.

ثمّ إنّ النهي عن الاقتراب كناية عن دخولهم نفس المسجد أو الحرم، والوجه عن النهي هو حفظ عقائد المسلمين من التأثّر بآراء المشركين وعقائدهم، ثمّ إنّ الآية تكفّلت ببيان حكم المسجد الحرام.

المنع في الآية مختصّ بالمسجد الحرام

وأمّا حكم سائر المساجد فربما يقال بأنّه يُعلم بإلغاء الخصوصية، فإنّ علّة المنع من الدخول في المسجد - مضافاً إلى ما قلناه - هو احترام المسجد الحرام عند اللّه، وليس من شكّ أنّ كلّ مسجد هو محترم عند اللّه؛ لأنّه منسوب إليه جلّت عظمته والحكم يدور مع علّته إثباتاً ونفياً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الغاء الخصوصية إنّما يصحّ إذا ثبت الحكم في الأضعف أو في المساوي، وأمّا إذا ثبت الحكم في الأقوى فلا يمكن القول بإلغاء الخصوصية وإسراء الحكم إلى الأضعف ولعلّ للأقوى - أعني: المسجد الحرام - خصوصية ليست في غيره من المساجد.

وعلى هذا فالآية مختصّة بالمسجد الحرام.

نعم يمكن الحكم بالمنع عن مطلق المساجد بأنّ المشرك جنب بلا إشكال ودخوله المسجد حرام - بناءً على أنّهم محكومون بالفروع - وإدخالهم وتسهيل الأمر لهم للدخول، إعانة على الإثم، ولو تمّ هذا الدليل لعمّ الحكم مطلق الكافر حتى أهل الكتاب فإنّهم كفّار وليسوا بمشركين حسب مصطلح القرآن، كما مرّ، لكن الوجه الجامع بين المشرك وغيره هو كونهم جنباً.

ص: 94


1- . التفسير الكاشف: 28/4.

ثمّ إنّه سبحانه يقول: (وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ) : أي فقراً (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ ) .

خوف المسلمين الجُدَد من أمرين:

1. لمّا مُنع المشركون من المشاركة في الحجّ ، بل حتى الدخول في المسجد، ضجّ جمع من المسلمين، بأنّ هذا المنع سوف يؤثّر على مصالحهم الاقتصادية، فجاء البيان القرآني بأنّكم إن خفتم عيلة، أي فقراً بمنع مشاركة قبائل كثيرة من الحجّ فإنّ اللّه سيغنيكم عن ذلك، وقد حقّق سبحانه وعده إذ أسلم أغلب المشركين في الجزيرة العربية، فحملوا الطعام والميرة إلى مكّة المكرّمة، خصوصاً اليمنيّين فقد جاءوا بالقوت الكثير.

2. كانوا يخافون من الاختطاف أيضاً فيقولون لو آمنا، يتخطّفنا العرب والعشائر المقيمون خارج الحرم، واللّه سبحانه يرد عليه بقوله: (وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

والآية ترد عليهم بأنّ اللّه سبحانه يرد عنهم كيد الاختطاف، كما يضمن إجباء الثمرات عليهم.

توضيحه: أنّ جماعة من المكيّين يخاطبون النبي بأنّ قولك حقّ ، ولكن يمنعنا أن نتّبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطّفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بالعرب، فقال سبحانه رادّاً عليهم هذا القول: أو لم نجعل لهم مكّة أمناً

ص: 95


1- . القصص: 57.

وأماناً ودفعنا عنهم ؟ أفلا نقدر على دفع ضرر الناس عنهم لو آمنوا؟ فحالة الإيمان والطاعة أولى بالأمن والسلامة.

أو لا يرون أنّه تجبى إليهم ثمرات كلّ أرض وبلد، إعطاءً من لدنّا، ولكن أكثرهم لا يعلمون ما أنعمنا به عليهم.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) : أي عليم بأحوال عباده وحكيم في أحكامه.

وفي نهاية المقام نذكر كلمة: إنّ جعل النجاسة عليهم والحكم بكونهم نجساً إنّما هو لغاية الحيلولة بينهم وبين المشركين ومنعاً عن الاختلاط، فإنّ التعايش والاحتكاك يؤثّر، خصوصاً إذا كان أحد الطرفين متمتّعاً بالنعم والشهوات التي تميل إليها النفوس، فينجذب الشباب إليها، فتجويز الاختلاط يجرّ المسلمين - خصوصاً شبابهم - إلى اقتراف المحرّمات شيئاً فشيئاً، ومن المعلوم أنّه لو دام هذا النوع من المعاشرة سلب المسلمين اهتمامَهم بصيانة دينهم وشريعتهم ويكونوا معتادين لما عليه العدو، فمَن قرأ تاريخ سقوط الأندلس المسلمة بيد الصليبيّين يقف على أنّهم دخلوا في حياة المسلمين عن طريق فتح باب المعاشرة والمجالسة في محافل تسود فيها الشهوات واللذائذ المادّية وتُنسى فيها الحواجز الشرعية. فالإلحاد عملاً، يؤثّر في الإلحاد عقيدة، قال سبحانه: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (1).

***

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ) .(2)7.

ص: 96


1- . الروم: 10.
2- . ق: 37.

أحكام الطهارة

5. حكم الخمر تكليفاً ووضعاً في الذكر الحكيم

اشارة

قال تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .(1)

المفردات

الخمر: اختلفت كلمة المفسّرين في معنى الخمر، هل هو المتّخذ من العنب، أو يعمّ كلّ مسكر؟ والأكثر على الثاني.

1. قال الطبري: الخمر كلّ شراب خمّر العقل فستره، وغطّى عليه، وهو من قول القائل: خمرتُ الإناء إذا غطّيته، ومن ذلك: خمار المرأة، وذلك لأنّها تستر به رأسها وتغطّيه.(2)

2. قال الزجّاج: وتأويل الخمر في اللغة أنّه كلّ ما ستر العقل، يقال لكلّ ما ستر الإنسان من شجر وغيره، وخمار المرأة قناعها.(3)

3. قال ابن دريد: الخمر معروفة، وإنّما سمّيت خمراً لأنّها تخامر العقل، أي

ص: 97


1- . المائدة: 90.
2- . تفسير الطبري: 276/1.
3- . معاني القرآن: 291/1.

تخالطه وتداخله.(1)

4. قال الفيّومي: ويقال: هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل أي غطّاه.(2)

5. قال الراغب: هو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر، وعند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب والتمر.(3)

6. قال الفيروز آبادي: الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو عام كالخمرة، والعموم أصحّ ؛ لأنّها حُرّمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلّاالبسر والتمر.(4)

7. وقال الطريحي: والخمر فيما اشتهر بينهم كلّ شراب مسكر، ولا يختصّ بعصير العنب.(5)

8. وفي «مجمع اللغة»: الخمر الشراب المسكر، وقد سمّي العنب خمراً لأنّه يؤول إليها.(6)

والظاهر من الأكثر هو أنّه اسم للأعم، ويؤيّده قسم من الروايات:

1. صحيح ابن الحجّاج عن الصادق عليه السلام: «الخمر من خمسة أشياء: العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب، والبِتع من العسل، والمزر من الشعير، والنبيذ من».

ص: 98


1- . الجمهرة: 213/2.
2- . المصباح المنير: 182/1، مادة «خمر».
3- . المفردات للراغب: 159، مادة «خمر».
4- . القاموس المحيط: 23/2، مادة «خمر».
5- . مجمع البحرين: 292/3، مادة «خمر».
6- . مجمع اللغة، مادة «خمر».

التمر».(1)

2. روى الشيخ في «التهذيب» عن الحسين الحضرمي، عمّن أخبره، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: «الخمر من خمسة أشياء: من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل».(2)

3. روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «أيّها الناس إنّ من العنب، خمراً، وإنّ من الزبيب خمراً، وإنّ من التمر خمراً، وإنّ من الشعير خمراً، ألا أيّها الناس! أنهاكم عن كلّ مسكر».(3)

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ (الخمر اسم لكلّ ما يُسكر)؛ نظير ما رواه عطاء بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كلّ مسكر حرام، وكلّ مسكر خمر».(4)

الميسر: يطلق على القمار، وأُطلق عليه ذلك لكونها عبارة عن الاستيلاء على مال الغير بيُسر.

الأنصاب: الأوثان، وهو جمع النصب؛ لأنّها كانت منصوبة للعبادة.

الأزلام: قمار خاص تكفّل ببيانه علماء التفسير، وقد ورد في القرآن الكريم مرّتين: أوّلاً في أوّل سورة المائدة، وثانياً في المقام.5.

ص: 99


1- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.
2- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 2.
3- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4.
4- . الوسائل: 16، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

رجس: قال الخليل: كلّ شيء يستقذر فهو رجس.(1)

قال الفيومي: الرجس: النتن، والرجس: القذر.

قال الفارابي: وكلّ شيء يستقذر فهو رجس. وقال النقّاش: الرجس:

النجس، قال في البارع: وربما قالوا الرجاسة والنجاسة، أي جعلوهما بمعنى واحد، وقال الأزهري: النجس القذر الخارج من بدن الإنسان، وعلى هذا فقد يكون الرجس والقذر والنجاسة بمعنى، وقد يكون القذر والرجس بمعنى غير النجاسة.(2)

وقال المديني: في الدعاء: أعوذ بك من الرجس النجس.

إنّهم إذا بدأوا بالنجس ولم يذكروا الرجس فتحوا النون والجيم، وإذا بدأوا بالرجس ثم أتبعوه بالنجس، كسروا النون، ومعنى الرجس: القذر. وقد يعبّر به عن الحرام.(3)

التفسير

اتّفق المسلمون على حرمة الخمر تكليفاً، ولم يصدّهم تعاطي ذوي الشوكة من بني أُميّة وبني العباس عن الإفتاء بالحقّ .

وبما أنّ كثيراً منهم كانوا متهالكين في شرب الخمر، ربما يجعلون عدم

ص: 100


1- . كتاب العين: 52/6، مادة «رجس».
2- . المصباح المنير: 266/1، مادة «رجس».
3- . المجمع المغيث: 739/1، ط. دارالمديني جدّة. وقد صدرنا في نقل قسم من الكلمات عن المعجم في فقه لغة القرآن وسرّ بلاغته: المجلد 23، الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية في العتبة الرضوية، مشهد - إيران.

التنصيص بالحرمة على شرب الخمر دليلاً على عدم حرمتها. هذا علي بن يقطين قال: سأل المهديّ أبا الحسن عليه السلام عن الخمر، هل هي محرمة في كتاب اللّه ؟ فإنّ الناس يعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: «بل هي محرّمة في كتاب اللّه يا أمير المؤمنين»، فقال: في أيّ موضع محرّمة هي في كتاب اللّه جلّ اسمه يا أبا الحسن ؟ فقال: «قول اللّه عزّ وجلّ : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ) (1) فأمّا قوله: (ما ظَهَرَ) يعني الزنا المعلن - إلى أن قال: - وأمّا الإثم: فإنّها الخمر بعينها، وقد قال اللّه عزّ وجلّ في موضع آخر: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ ) (2)».(3)

نجاسة الخمر

إنّما الكلام في الحكم الوضعي أي النجاسة، فالمشهور بين الإمامية هي النجاسة، فذهب الشيخ المفيد والطوسي والمرتضى وأكثر الأصحاب إلى أنّها نجسة العين.(4)

وقال الشيخ بهاء الدين: أطبق علماء الخاصّة والعامّة على نجاسة الخمر إلّا شرذمة منّا ومنهم، ولم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم.(5)

ص: 101


1- . الأعراف: 33.
2- . البقرة: 219.
3- . الوسائل: 16، الباب 9 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 13.
4- . مدارك الأحكام: 290/2.
5- . الحبل المتين: 442/1.

وأراد من الشرذمة جماعة منهم:

1. ابن أبي عقيل، قال: مَن أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما، لأنّ اللّه تعالى إنّما حرّمها تعبّداً لا لأنّهما نجسان، وكذلك سبيل العصير والخل إذا أصاب الثوب والجسد.(1)

2. الشيخ الصدوق رحمه الله قال: ولا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر، لأنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم شربها ولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته.(2)

3. المحقّق الأردبيلي، وصاحب المدارك، والخوانساري(3) من المتأخّرين، غير أنّ ظاهر الأوّلين هو التردّد والتشكيك.

وعلى كلّ تقدير فالمعتمد هو الدليل.

أمّا الآية فقد ثبت في قسم المفردات أنّ الرجس والنجس بمعنى واحد، وهو ما يستقذر منه.

وقد تقدّم في دراسة نجاسة المشركين أنّه ليس هناك للفظ معنيان، معنى لغوي ومعنى شرعي، بل الموضوع له واحد غير أنّ للشارع التصرّف في المصاديق بإدخال ما لا يعرفه العرف رجساً وإخراج ما يعرفه العرف نجساً.

وبما ذكرنا يتمّ الاستدلال بالآية على نجاسة الخمر؛ لأنّ الرجس يعادلة.

ص: 102


1- . مدارك الأحكام: 290/2، نقلاً عن مختلف الشيعة: 469/1.
2- . من لا يحضره الفقيه: 74/1، الباب 16.
3- . وهو الحسين بن جمال الدين (المتوفّى 1099 ه)، مؤلّف: مشارق الشموس في شرح الدروس، والتعليقة على الروضة البهية.

النجس شرعاً.

بقي الكلام في أمر واحد، وهو ما ذكره صاحب المدارك وقال: يشكل إرادة المعنى الشرعي من الآية لأنّه يقتضي نجاسة الميسر والأنصاب والأزلام لوقوعه خبراً عن الجميع، ولا قائل به.(1)

وأجاب عنه صاحب الجواهر بوجهين:

1. ولعلّه لا ينافيه وقوعه مع ذلك خبراً عن الأنصاب والأزلام، لإمكان أن يراد به بالنسبة إليهما المستقذر عقلاً من باب عموم المجاز.

2. على أنّه يمكن بل هو الظاهر دعوى كونه خبراً عن الخمر خاصّة، فيقدّر حينئذٍ لهما خبراً، ولا يجب مطابقة المحذوف والموجود وإن كان دالّاً عليه، كما في عطف المندوب على الواجب بصيغة واحدة، فيتعيّن حينئذٍ كون الرجس بمعنى النجس.(2)

وحاصل الوجه الأوّل أنّ لفظ رجس استعمل في معنيين: النجاسة الشرعية بالنسبة إلى الخمر، والاستقذار العقلي بالنسبة إلى غيرها.

وعلى كلّ تقدير فلو لم نستظهر دلالة الآية على وجه القطع على نجاسة الخمر، ففي الروايات المتضافرة بل المتواترة غنى وكفاية. وربما بلغ عددها قريباً من عشرين خبراً، وفيها الصحيح والموثّق.(3)

وها نحن نستعرض ما هو المهم من كلتا الطائفتين، ثم نشير إلى وجه6.

ص: 103


1- . مدارك الأحكام: 291/2.
2- . جواهر الكلام: 4/6.
3- . لاحظ: جواهر الكلام: 7/6.

الجمع أو الطرح بإذن اللّه سبحانه.

ما يدلّ على النجاسة

1. ما رواه الكليني باسناده عن عبد اللّه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السلام عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجريّ أو يشرب الخمر فيرده، أيصلي فيه قبل أن يغسله ؟ قال: «لا يصلّي فيه حتى يغسله».(1) وكأنّ نجاسة الخمر كانت أمراً مسلّماً بين السائل والمجيب.

2. ما رواه الكليني باسناده عن يونس، عن بعض من رواه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، وإن صليت فيه فأعد صلاتك».(2)

3. ما رواه الكليني باسناده عن خيران الخادم قال: كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير، أيصلّى فيه أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه فإنّ اللّه إنّما حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصلّ فيه، فكتب عليه السلام: «لا تصلّ فيه، فإنّه رجس».(3)

4. ما رواه الكليني عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفقّاع ؟

ص: 104


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 1. الجريّ والجرّيث نوع من السمك النهري يقال له «ثعبان الماء».
2- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 3.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 4. خيران الخادم ثقة من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام، وأُريد بالرجل، الإمام علي الهادي عليه السلام.

فقال: «لا تشربه فإنّه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله».(1)

5. ما رواه الشيخ باسناده عن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا تصلّ في بيت فيه خمر ولا مسكر، لأنّ الملائكة لا تدخله، ولا تصلّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل».(2)

6. وفي «قرب الإسناد» عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال: سألته عن النضوح يجعل في النبيذ، أيصلح أن تصلّي المرأة وهو في رأسها؟ قال: «لا، حتى تغتسل منه».(3)

7. ما رواه بإسناده عن عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الدنّ ، يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون ؟ قال: «إذا غسل فلا بأس وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر، أيصلح أن يكون فيه ماء، قال: «إذا غسل فلا بأس».

وقال: في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر، قال: تغسله ثلاث مرّات، وسئل أيجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال: «لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات».(4)

8. ما رواه عبد اللّه بن جعفر في «قرب الإسناد» عن عبد اللّه بن الحسن،».

ص: 105


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 5.
2- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 7.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 15. النضوح ضرب من الطيب. (مجمع البحرين)
4- . الوسائل: 2، الباب 51 من أبواب النجاسات، الحديث 1. كامخ: جمعه كوامخ، إدام يؤتدم به وخصّه بعضهم بالمخلِّلات التي تستعمل لتشهي الطعام. تاج العروس: 306/4، مادة «كمخ».

عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال: سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدح عيدان(1) أو باطية(2)، قال: «إذا غسله فلا بأس».(3)

9. وبالاسناد نفسه قال: وسألته عن دنّ الخمر، يجعل فيه الخل، أو الزيتون أو شبهه ؟ قال: «إذا غسل فلا بأس».(4)

10. تضافرت الروايات على نزح ثلاثين دلواً إذا وقعت في البئر قطرة دم أو نبيذ مسكر.(5)

هذه عشرة كاملة اقتصرنا بها، وفيها كفاية.

وقد ذكر البحراني من الأحاديث ما يناهز 16 حديثاً.(6)

ما يدلّ على الطهارة

وفي المقام روايات تدلّ على الطهارة، نذكر منها ما يلي:

1. ما رواه الشيخ في «التهذيب» بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أصاب ثوبي نبيذ، أُصلّي فيه ؟ قال: «نعم»، قلت: قطرة من نبيذ قطّر في حبّ ، أشرب منه ؟ قال: «نعم، إنّ أصل النبيذ حلال، وإنّ أصل الخمر

ص: 106


1- . قدح عيدان: قدح من الخشب. (الصحاح: 514/2، مادة «عود»).
2- . الباطية من الزجاج عظيمة تُملأ من الشراب وتوضع بين الشَّرْب يغرفون منها ويشربون. (لسان العرب: 74/14، مادة «بطا»).
3- . الوسائل: 17، الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 5.
4- . الوسائل: 17، الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 6.
5- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 15 من أبواب الماء المطلق.
6- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 99/5-103.

حرام».(1)

والسؤال والجواب ناظران إلى النبيذ وهو عند العامّة حلال وطاهر.

قال المجلسي: لعلّ المعنى أنّ عصير التمر والزبيب لا يحرمان بالغليان ما لم يُسكرا، بخلاف عصير العنب، فإنّه يحرم بمحض الغليان، وإن لم يكن مُسكراً، فهذا مؤيّد لحمل الشيخ، والحمل على التقيّة في هذا الحديث أظهر، لاشتهار حلّيّة النبيذ وطهارته بين العامّة، فالمراد بأصل النبيذ والخمر هما قبل خلطهما بماء القدر.(2)

2. ما رواه الشيخ عن الحسين بن أبي سارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إن أصاب ثوبي شيء من الخمر، أُصلّي فيه قبل أن أغسله ؟ قال: «لا بأس، إنّ الثوب لا يسكر».(3) والتعليل حاكٍ عن التقيّة، فإنّه ظاهر أنّ الإمام عليه السلام بصدد إقناع السائل، وإن كان تعليلاً غير حقيقي.

3. ما رواه الشيخ عن عبد اللّه بن بكير قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام - وأنا عنده - عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب ؟ قال: «لا بأس».(4)

4. ما رواه الشيخ عن الحسين بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمرّ ساقيهم فيصبّ على ثيابي الخمر؟ فقال: «لا بأس به، إلّاأن تشتهي أن تغسله1.

ص: 107


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 9.
2- . ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: 428/2-429.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 10.
4- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 11.

لأثره».(1)

5. روى الصدوق في الفقيه، قال: سُئل أبو جعفر وأبو عبد اللّه عليهما السلام فقيل لهما: إنّا نشتري ثياباً يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها، أنصلّي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: «نعم، لا بأس، إنّما حرّم اللّه أكله وشربه، ولم يحرّم لبسه ومسه والصلاة فيه».(2)

6. وروى عبد اللّه بن جعفر في «قرب الإسناد»... عن عليّ بن رئاب قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي، أغسله أو أُصلّي فيه ؟ قال: «صلّ فيه إلّاأن تقذّره فتغسل منه موضع الأثر، إن اللّه تعالى إنّما حرّم شربها».(3)

7. ما رواه الشيخ بإسناده عن علي الواسطي قال: دخلت الجويرية - وكانت تحت عيسى بن موسى - على أبي عبد اللّه عليه السلام، وكانت صالحة، فقالت: إنّي أتطيّب لزوجي، فيجعل في المشطة التي امتشط بها، الخمر، وأجعله في رأسي ؟ قال: «لا بأس».(4)

إذا عرفت ذلك فنقول: الحقّ الذي يجب أن يتّبع هو الأخذ بالطائفة الأُولى لجهات:ً.

ص: 108


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 12.
2- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 13. الودك: الدسم من اللحم والشحم. و «حاكتها» أي عند من يقوم بحياكتها.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 14.
4- . الوسائل: 17، الباب 37 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 2. المِشطة: لُمّة من الصوف، يدخلها الزوج في الخمر وتجعلها الزوجة في رأسها ليبدو شعر رأسها كثيراً.

الأُولى: موافقتها للكتاب العزيز، فقد مرّت دلالته على نجاسة الخمر.

الثانية: كونها أكثر عدداً وأقوى سنداً، حتى أنّ الشيخ حسن صاحب المعالم اقتصر على ما يدلّ على النجاسة، قال صاحب الجواهر: ولقد أجاد الشيخ حسن في المنتقى على ما نقل عنه حيث اقتصر عليها في أدلّة النجاسة، وفيها تصديق لما رواه الشيخان في الصحيح عن يونس بن عبد الرحمن(1)، الذي هو ممّن أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنه، وأقرّوا له بالفقه والعلم.(2)

الثالثة: عمل المشهور بالطائفة الأُولى وإعراضهم عن الثانية، وقد مرّ أنّ العامل بها قليل جدّاً، كما مرّ كلام شيخنا البهائي في «الحبل المتين»، أنّه أطبق علماء الخاصّة والعامّة على نجاسة الخمر إلّاشرذمة منّا ومنهم، ولم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم.

الرابعة: أنّ بين الروايات أقوى شاهد على أنّ الطائفة الثانية وردت تقيّة.

1. روى الكليني عن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك، روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل، أنّهما قالا: «لا بأس بأن يصلّي فيه، إنّما حرم شربها».

وروي عن (غير) زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: إذا أصاب ثوبك خمر6.

ص: 109


1- . لاحظ: الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 3. وقد مرّ برقم 2 في أدلّة الطهارة.
2- . جواهر الكلام: 9/6.

أو نبيذ - يعني المسكر - فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك، فاعلمني ما آخذ به ؟ فوقع عليه السلام بخطّه، وقرأته:

«خذ بقول أبي عبد اللّه عليه السلام».(1)

ومن المعلوم إرادة قوله المنفرد عن قول أبيه، وإلّا فكلا القولين قوله، والأخذ بهما جميعاً ممتنع، والتخيير غير مقصود، على أنّه لو كان المراد قوله مع أبيه لكان ينبغي إسناده إليهما معاً أو إلى أبي جعفر عليه السلام كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.(2)

وفي الرواية إيماء إلى أنّ القول الآخر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تقيّة؛ وذلك لأنّ الرمي بالنجاسة من أشدّ ما يكره على الطبع وأعظم ما يرد على النفس، ولا كذلك التحريم، خصوصاً بالقياس إلى السلاطين الذين لا يتحاشون عن المحرّمات.

فإن قلت: إنّ القول بالنجاسة قول مشهور بين فقهاء العامّة، فلو كان الإفتاء بالنجاسة صدر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تقيّة لأجل كون الحكام في تلك الأيام مولعين بشرب الخمر والمتهالكين عليها، فلماذا لم يتق علماؤهم حيث أفتوا بالنجاسة ؟

قلت: قد أجاب عنه صاحب الجواهر بقوله: واشتهار الفتوى بالنجاسة بين علمائهم لا ينافي ذلك، إذ لم يكن عليهم فيه تقية، بل كانوا يتظاهرون بخلاف ما هم عليه، ويجاهدونهم بالردّ والكفاح ولا يراقبونهم في ذلك، بل كان ذو الشوكة9.

ص: 110


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 2.
2- . جواهر الكلام: 8/6-9.

منهم يتحمّله ولا يبالى به، لعلّه بأنّ ذلك لا يحدث فتقاً في سلطانه، ولا يهدم ركناً في بنيانه، إذ لم يكن فيهم من يرشح نفسه للإمامة و الخلافة الكبرى والرئاسة العظمى إنّما كانت التقية على أئمّة الحقّ عليهم السلام المحسودين للخلق، وهم الذين لا يدانيهم في الفضل أحد، والذين ورد عليهم من حسد أئمّة الجور ما قد ورد.(1)

حكم الكحول الرائجة في الطبابة

الكحول جمع الكحل ويعبّر عنه باللغة الانجليزية ب alcohol ، فهل هو كالخمر حرام ونجس، أو حرام وليس بنجس ؟

أمّا أنّه حرام فلأنّه سمّ من السموم القاتلة، فهو يقتل من شربه بلا شك.

إنّما الكلام في كونه نجساً، هنا احتمالان:

1. مقتضى القاعدة طهارته، لأنّ الحرمة علقت بالمسكر وهو في هذه الحالة ليس بمسكر، بل هو في الحقيقة سم لا يمكن شربه.

نعم لو مُزج بالماء وصار رقيقاً يوصف بالإسكار ومن المعلوم أنّ الحكم على المسكر بالفعل، لا المسكر بالقوّة، وعند الشك يحكم عليه بالطهارة، أخذاً بقوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر».

2. قول بالتفصيل وهو أنّه لو أخذ وصنع من مايع مسكر يحكم عليه بالنجاسة؛ وإن أخذ وصنع من جامد، فهو محكوم بالطهارة. ولعلّ هذا القول أفضل من الأوّل، إنّما الكلام في تخصيص الموجود فهل الكحل الرائج في الأدوية من

ص: 111


1- . جواهر الكلام: 10/6.

القسم الأوّل أو الثانى ؟ ولابدّ من الرجوع إلى المتخصّصين في صنعها والتوقّف في إصدار الحكم بأحد الطرفين قبل الوقوف على كيفية الصنع، واللّه العالم بحقائق الأُمور.

***

تمّت آيات أحكام الطهارة

وتليها آيات أحكام الصلاة

ص: 112

الفصل الثاني: أحكام الصلاة في الذكر الحكيم

اشارة

1. أوقات الصلاة في الذكر الحكيم.

2. استقبال الكعبة في الذكر الحكيم.

3. صلاة المسافر في الذكر الحكيم.

4. صلاة الخوف في الذكر الحكيم.

5. صلاة المطاردة في الذكر الحكيم.

6. صلاة الجمعة في الذكر الحكيم.

7. الجهر والمخافتة في الصلاة.

8. التسليم على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد.

9. الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن.

10. سجود التلاوة.

ص: 113

ص: 114

أحكام الصلاة

1. أوقات الصلاة في الذكر الحكيم

لزوم الاهتمام بالصلاة في أوقاتها

الصلاة فريضة موقوتة، جاءت مواقيتها في الكتاب العزيز وتفاصيلها في السنّة المطهّرة. قال سبحانه: (إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (1).

وهي عليهم فرض في وقت وجوبها(2)، ومعنى ذلك لزوم الاهتمام بإتيانها في أوقاتها.

وأمّا السنّة:

1. فقد روى الصدوق بسنده عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا ينال شفاعتي غداً لمَن أخّر الصلاة المفروضة بعد وقتها».(3)

2. روى الصدوق عن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على مواقيت الصلوات الخمس، فإذا

ص: 115


1- . النساء: 103.
2- . التبيان: 312/3-313.
3- . أمالي الصدوق: 326، برقم 15.

ضيّعهن اجترأ عليه فأدخله في العظائم».(1)

3. روى أبان بن تغلب، قال: صلّيت خلف أبي عبداللّه عليه السلام بالمزدلفة، فلمّا انصرف التفتَ إليّ ، فقال: «يا أبان، الصلوات الخمس المفروضات، مَن أقام حدودهنّ ، وحافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنّة؛ ومَن لم يقم حدودهن، ولم يحافظ على مواقيتهنّ ، لقي اللّه ولا عهد له، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له».(2)

4. روى الصدوق عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث:

عند مواقيت الصلاة، كيف محافظتهم عليها؟ وعند أسرارهم، كيف حفظهم لها عن عدونا؟ وإلى أموالهم: كيف مواساتهم لإخوانهم فيها».(3)

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على المحافظة على الصلاة في أوقاتها، وأنّ مَن صلّى صلاة الفريضة لوقتها فليس هو من الغافلين، وأمّا مَن استهان بأوقاتها، فهو من الذين ذمّهم سبحانه بقوله: (اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) .(4)

فيجب على المسلم التعرّف على أوقات الصلاة: أوقات الفضيلة، وأوقات الإجزاء حتّى يكون من الذاكرين. وهذا ما نتناوله تالياً:9.

ص: 116


1- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 13.
2- . الوسائل: 2، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 1.
3- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 16.
4- . لاحظ: الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 19.

مواقيت الصلوات في الذكر الحكيم

اشارة

قد تضمّن الذكر الحكيم مواقيت الصلاة في غير واحدة من الآيات، وفسّرتها السنّة النبوية وأحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام، فلندرس الآيات، ثم نأتي بما في السنّة بإذن اللّه سبحانه.

الآية الأُولى:
اشارة

قال تعالى: (أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (1).

المفردات

اللام في «دلوك الشمس» إمّا:

«لام تعليل» أي بسبب «زوال الشمس» أو بمعنى «عند» نظير قول القائل: كتبتهُ لخمس خلون من شهر كذا، أي عند الخمس، والثاني هو الأظهر.

الدلوك: بمعنى زوال الشمس عن كبد السماء، وهو قول الأكثر، وشذّ مَن فسّره بغروب الشمس. حكى القرطبي عن ابن عطية: الدلوك هو الميل - في اللغة - فأوّل الدلوك هو الزوال، وآخره هو الغروب، ومن وقت الزوال إلى الغروب يُسمّى دلوكاً لأنّها في حالة ميل.(2)

ص: 117


1- . الإسراء: 78.
2- . الجامع لأحكام القرآن: 10/304، دار الفكر.

وقال الشيخ ابن عاشور: الدلوك بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فرضي في طريق مسيرها اليومي.(1)

وعلى ما ذكره العلمان يصدق الدلوك ما دامت الشمس مائلةً عن وسط السماء إلى جانب الغرب، فالجميع دلوك، ولا يختص الميل بأوّل الزوال. وعلى هذا يكون وقت الظهرين ممتداً مادام الدلوك متحقّقاً.

غسق: اختلفت كلمة اللغويين والمفسّرين في تفسير الغَسَق على أقوال:

أ. ظلمة أوّل الليل، قاله في القاموس، وهو أحد القولين في اللسان، ونقل الشيخ الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس وقتادة أنّهما قالا: هو بدءُ الليل.(2)

ب. الظلمة، ذكره قولاً واحداً في مقاييس اللغة (مادة غسق)، وفي اللسان جعله أحد القولين، وحكى الشيخ الطوسي في «التبيان» عن الجُبّائي أنّ غسق الليل ظلمته، وهو خيرة صاحب التفسير الكاشف.(3)

والفرق بين المعنيين واضح، فإنّ بدء الليل لايلازم الظلمة الكاملة الّتي يشير إليها المعنى الثاني.

ج. الظلمة الشديدة الّتي تمتد إلى نصف الليل وهو خيرة الأزهري، قال:

غسق الليل تراكم الظلمة واشتدادها(4). وفي المفردات غسق الليل: شدة ظلمته.(5) وهو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهو خيرة بعض المفسّرين.».

ص: 118


1- . التحرير والتنوير: 14/144، نشر مؤسسة التاريخ.
2- . التبيان: 6/509.
3- . التفسير الكاشف: 5/73.
4- . مفاتيح الغيب: 21/27.
5- . مفردات الراغب: 360، مادة «غسق».

روى ابن إدريس عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن المفضّل، عن محمد الحلبي، عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام في قوله: (أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال:

دلوك الشمس زوالها، وغسق الليل: انتصافه، وقرآن الفجر: ركعتا الفجر».(1)

روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

سألته عمّا فرض اللّه من الصلاة ؟ فقال: «خمس صلوات في الليل والنهار»، فقلت:

هل سمّاهنّ اللّه وبيّنهنّ في كتابه ؟ فقال: «نعم، قال اللّه عزوجل لنبيه: (أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ ) ودلوكها زوالها، ففي ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربعة صلوات سمّاهن وبيّنهنّ ووقّتهنّ ، وغسق الليل انتصافه، وقال:

(وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ) »(2).

قُرْآنَ الْفَجْرِ: منصوب بفعل مقدّر: أي أقم قرآن الفجر، أُريد به صلاة الفجر تسمية للشيء ببعض أجزائه، أعني: قراءة القرآن فيها، ولا منافاة مع لزوم القرآن في غيرها (إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فإنّها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. هذا ما يرجع إلى بيان مفردات الآية وتوضيحها.

التفسير

إنّ في الآية دلالة على امتداد وقت الصلوات الأربع من الزوال إلى الغسق، فتكون أوقاتها موسّعة؛ لأنّ اللام في قوله: (لِدُلُوكِ ) بمعنى «عند» و (إِلى ) في قوله: (إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ ) «للانتهاء»، فيكون معنى الآية: إنّ وقت الصلوات ممتدٌ من

ص: 119


1- . الوسائل: 4، الباب 10 من أبواب المواقيت، الحديث 10.
2- . تهذيب الأحكام: 2/24، الباب 12، الحديث 23.

الزوال إلى ذهاب الشفق أو إلى نصف الليل على الخلاف في معنى الغسق، وقد عرفت ما عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام في معناه، فتكون النتيجة: أنّ إتيان الصلوات الأربع أداءٌ بين الحدّين، وأنّ كلّ جزء منه صالح له.

وبعبارة أُخرى: إنّ الزمان المحدّد بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت للصلوات الأربع، فله أن يصلي الظهر في أية ساعة من ساعات الحد المذكور، كما له أن يأتي بالعصر كذلك.

هذا هو ظاهر الآية، وهو حجّة للفقيه ما لم يدلّ دليل على التضييق، فعندئذٍ تُرفع اليد بمقدار الدليل، وفي غيره يكون الظاهر حجّة ومرجعاً.

نعم إنّ السنّة الشريفة قيّدت إطلاق الآية من جهتين:

1. خصّت ما بين الدلوك وغروب الشمس من اليوم بالظهرين، كما خصّت ما بين غروبها إلى غسق الليل بالعشائين.

2. جعلت مقدار أربع ركعات من أوّل الظهر وقتاً مختصاً بصلاة الظهر، فلا تصحّ صلاة العصر فيه، كما خصّت مقدار أربع ركعات من آخر الوقت لصلاة العصر فلا تصحّ فيه غيرها.

ونظير الظهرين العشاءان، فمقدار ثلاث ركعات من أوّل المغرب وقت مختصّ لصلاتها، كما أنّ مقدار أربع ركعات من آخر الوقت وقت مختصّ بصلاة العشاء.

الآية الثانية:
اشارة

قال تعالى: (وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ

ص: 120

اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ ) (1) .

المفردات

طرفي النهار: عبارة عن الغدوة والعشية، والمراد من الطرف الأوّل الفجر إلى الدلوك وفيه إشارة إلى صلاة الفجر، ومن الطرف الثاني دلوك الشمس إلى آخر النهار، وهو إشارة إلى وقتي الظهر والعصر.

الزلف: جمع زُلفى كالظُلَم جمع ظلمة. (والزلفة) من أزلفه: إذا قرّبه.

والزلف القريب من الليل الساعات الأُولى منه، سمِّيت بذلك لقربها من النهار، والمراد بها هنا المغرب والعشاء.

التفسير

هذه الآية - كالآية السابقة - تتضمّن بيان أوقات الصلوات الخمس: أمّا الفجر والظهر والعصر، فلقوله: (طَرَفَيِ اَلنَّهارِ) ، وأمّا المغرب والعشاء فلقوله (زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ ) .

فعلى ما ذكرنا يكون قوله: (وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ ) عطفاً على قوله: (طَرَفَيِ اَلنَّهارِ) : أي أقم الصلاة طرفي النهار، وأقم الصلاة زلفاً من الليل.

والآية - كسابقتها - تدلّ على سعة الوقت، وأنّ طرفي النهار وقت للصلوات الثلاث، فالطرف الأوّل لصلاة الصبح، والطرف الثاني لصلاتي الظهر والعصر، وأمّا

ص: 121


1- . هود: 114.

الساعات الأُولى من الليل، فهي وقت العشاءين. وهذا الظهور حجّة ما لم يدلّ دليل على التحديد.

***

الآية الثالثة:

قال سبحانه: (فَسُبْحانَ اَللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ * وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ) (1).

والمعنى: تنزيهاً للّه تعالى عمّا لا يليق به ولا يجوز عليه من صفات نقص أو ما ينافي عظمته، في الإصباح والإمساء والإظهار وفي العشيّ ، وأنّ ما في السماوات والأرض من خلق وأمر، يستدعي حمده سبحانه والثناء للّه سبحانه.

وقد ذهب جملة من المفسّرين إلى أنّه سبحانه أشار في هاتين الآيتين إلى الصلوات الخمس، وفي الوقت نفسه ذهب آخرون إلى أنّها راجعة إلى مطلق التحميد والتسبيح.

قال أُستاذنا السيد محمد حسين الطباطبائي: يظهر أن المراد بالتسبيح والتحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة، كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدّراً، والمعنى: (قولوا: سبحان اللّه، وقولوا: الحمد للّه)، فالتسبيح والتحميد في الآيتين إنشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره، حتّى يكون

ص: 122


1- . الروم: 17-18.

المعنى : (قولوا: سبحان اللّه، وقولوا: الحمد للّه)، فقد تكرّر في كلامه تعالى تسبيحه وتحميده لنفسه، كقوله: (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ ) (1)، وقوله:

(تَبارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) (2) .(3)

وعلى فرض صحّة ما ذهب إليه جملة من المفسّرين من أنّ الآيتين تشيران إلى الصلوات الخمس، فنقول: إنّ لهم في تفسير مفرداتها أقوالاً، نذكر منها أوضحها:

1. (حِينَ تُمْسُونَ ) : أي حين تدخلون في وقت المساء، وهو ما بعد الظهر إلى قبل المغرب،(4) فيكون إشارة إلى صلاة العصر.

2. (حِينَ تُصْبِحُونَ ) : أي تدخلون في الصبح فيكون إشارة إلى صلاة الفجر.

3. (حِينَ تُظْهِرُونَ ) : في حين تدخلون في وقت الظهيرة، وقد يكون إشارة إلى صلاة الظهر.

4. (عَشِيًّا) : أي وفي العشيّ ، وإنّما عدل من الفعل إلى الاسم؛ لأنّه لم يُبنَ منه فعل من باب الإفعال، بخلاف المساء والصباح والظهيرة حيث بني منها الإمساء والإصباح والإظهار بمعنى الدخول في المساء والصباح والظهيرة.

والعشيّ : آخر النهار.».

ص: 123


1- . الصافات: 180.
2- . الفرقان: 1.
3- . انظر: الميزان في تفسير القرآن: 16/160-161.
4- . لسان العرب: 15/281، مادة «مسى».

وعلى هذا فقوله: (عَشِيًّا) تشير إلى صلاتي المغرب والعشاء، لا إلى صلاة العصر، كما ذهب بعضهم، لأنّها لا تناسب وقت العشيّ الّذي مرّ بيانه.

فالآية تشير إلى تفريق الصلوات في الأوقات الأربعة بخلاف آية دلوك الشمس وآية طرفي النهار؛ لأنّ آيتنا هذه، أفردت الوقت لقوله تعالى: (حِينَ تُظْهِرُونَ ) عن وقت العصر لقوله: (حِينَ تُمْسُونَ ) أفضل دليل على جواز جمع العشائين لقوله: (عَشِيًّا) ولا ترفع اليد منها إلّابدليل.

***

الآية الرابعة:

قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ اَلنَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) (1).

ومعنى الآية: فاصبر على ما يقولون من أنّك ساحر أو شاعر فإنّه لا يضرّك، وأقبِلْ على ما ينفعك فعله وهو ذكر اللّه، و «الباء» في: (بِحَمْدِ رَبِّكَ ) للملابسة، أي سبِّح حامداً ربّك، في فترات من الليل والنهار.

وما ذُكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أنّ المراد به الصلوات الخمس،(2) ولكن بعض المفسّرين ذهب إليه، وعلى فرض

ص: 124


1- . طه: 130.
2- . انظر: الميزان في تفسير القرآن: 14/235.

صحّة ذلك، نقول: إنّ هذه الآية على خلاف الآيتين السابقتين تتضمّن آخر أوقات بعض الصلوات الخمس، وإليك البيان:

1. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ : إشارة إلى نهاية وقت صلاة الفجر.

2. وَقَبْلَ غُرُوبِهَا: إشارة إلى نهاية وقت صلاتي الظهر والعصر، لكونهما في النصف الأخير من النهار، كما أنّ الفجر في النصف الأوّل.(1)

3. وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ : إشارة إلى العشاءين، وآناء الليل: ساعاته، و «من» في قوله: (مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ ) للابتداء، وفيه تنبيه على أنّ ابتداء وقت العشاءين من أوّل الليل، وقدّم الظرف (آناء الليل) على الفعل «فسبح» للاهتمام بفعلها ليلاً، لعدم شغل النفس حينئذٍ، بخلاف ما سبق حيث قدّم الفعل فيه على الزمان.

4. وَأَطْرَافَ النَّهَارِ: وبما أنّه تمّ الكلام في بيان أوقات الصلوات الخمس لم يبق وجه لذكره ولذلك اختلف المفسّرون في بيانه، والظاهر أنّه تكليف مستقل لتسبيحه سبحانه في أطراف النهار - أعني: الغدو من جانب والعشاء من جانب آخر - وبذلك تستغني عن الاحتمالات المذكورة في التفاسير.

وفي الآية نص صريح على سعة وقت الصبح إلى طلوع الشمس، والظهرين إلى غروبها؛ لأنّه سبحانه ذكر أواخر أوقاتها، وعلى هذا فوقت صلاة الصبح يمتد إلى طلوع الشمس، ووقت الظهرين يمتد إلى غروبها، كما أنّ وقت العشاءين باقٍ مادام يصدق آناء الليل وساعاته.4.

ص: 125


1- . قال ابن عاشور التونسيّ : إنّ الأوقات المذكورة في هذه الآية، هي أوقات الصلوات، ثم قال وهو يعدّدها: ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر، وقيل: المراد صلاة العصر. التحرير والتنوير: 16/204.

فظاهر الآية يدلّ على سعة الوقت في هذه الصلوات وهو حجّة للفقيه ما لم يدلّ دليل على التضييق والتحديد في السنّة المطهرة وأحاديث العترة عليهم السلام.

***

الآية الخامسة:
اشارة

قال سبحانه: (وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ * وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ اَلسُّجُودِ) (1).

ومعنى الآية: سبّح حامداً ربّك قبل الطلوع وقبل الغروب، ولو حُمل التسبيح على ظاهره تُحمل الآية على استحبابه في هذه الفترات، ولو حُمل على الصلاة فالصلاة قبل طلوع الشمس: الفجر، وقبل الغروب: الظهر والعصر، والمراد بقوله: (وَ مِنَ اَللَّيْلِ ) العشاءان. وفي الآية دلالة واضحة على سعة أوقات الصلوات.

أمّا قوله تعالى : (وَ أَدْبارَ اَلسُّجُودِ) فيُراد به الركعتان بعد المغرب؛ وقد روي ذلك عن: عليّ عليه السلام، والحسن بن علي عليه السلام، وابن عباس، ومجاهد، وإبراهيم النخعيّ ، وغيرهم.(2) أو الركعتان بعد صلاة العشاء، أعني: المسمّى بالعتمة. والثاني أوفق بقوله: (وَ إِدْبارَ اَلنُّجُومِ ) .

حصيلة الآيات: هو امتداد وقت صلاة الظهرين من الزوال إلى المغرب، وامتداد وقت صلاة العشائين من المغرب إلى غسق الليل، غير أنّ الأخذ بالإطلاق إنّما يصحّ إذا لم يرد في السنّة الشريفة ما يحدّد أوقات الصلاة على نحو تكون

ص: 126


1- . ق: 39-40.
2- . انظر: تفسير الطبري: 13/219-222؛ والتبيان في تفسير القرآن: 9/374-375.

السنّة مقيّدة لإطلاقات الكتاب، فعلى الفقيه دراسة الروايات، حتى يتبيّن مقدار التقييد.

مواقيت الصلوات في الروايات
اشارة

الروايات الواردة حول مواقيت الصلوات على أصناف بينها اختلاف في المبدأ والمنتهى:

الأوّل: زوال الشمس وقت الظهرين وغيبوبتها وقت العشائين

1. روى الصدوق باسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان: الظهر والعصر، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة».(1)

2. روى الشيخ باسناده عن عُبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّا أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس».(2)

3. روى الشيخ باسناده عن داود بن فرقد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف

ص: 127


1- . الوسائل: 3، الباب 4 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 1.
2- . الوسائل: 3، الباب 4 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 5.

الليل».(1)

الصنف الثاني: القامة والقامتان آخر وقتي الظهر والعصر

أ. روى الشيخ في «التهذيب» عن محمد بن حكيم قال: سمعت العبد الصالح (موسى بن جعفر عليهما السلام): «إنّ أوّل وقت الظهر زوال الشمس وآخر وقتها قامة من الزوال، وأوّل وقت العصر قامة، وآخر وقتها قامتان». قلت: في الشتاء والصيف سواء؟ قال: «نعم».(2)

القامة من الإنسان قدّه والجمع قامات.(3) وسيوافيك بأنّ المراد ظل القامة بعد الزوال الذي يبقى على الأرض عند الزوال الذي يعبّر عنه بظل القامة وليس المراد قامة الشخص.

2. روى الشيخ الطوسي عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألت عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: «وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظل قامة، ووقت العصر قامة ونصف إلى قامتين».(4)

الصنف الثالث: الذراع والذراعان أوّل وقتي الظهر والعصر

1. روى الكليني بسنده عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام - في حديث - قال: «كان حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يظلل قامة، وكان إذا كان الفيء ذراعاً وهو

ص: 128


1- . الوسائل: 3، الباب 17 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 4.
2- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 29. وسيوافيك معنى القامة عن قريب.
3- . صحاح الجوهري: 2018/5، مادة «قوم».
4- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 9.

قدر مربض(1) عنز صلّى الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلى العصر».(2)

2. روى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان فيء الجدار ذراعاً صلى الظهر، وإذا كان ذراعين صلى العصر».(3)

الصنف الرابع: القدمان وأربع أقدام أوّل وقتي الظهر والعصر

روى ذريح المحاربي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام قال: سأل أبا عبداللّه أُناس وأنا حاضر - إلى أن قال: - فقال بعض القوم: إنّا نصلّي الأُولى إذا كانت على قدمين، والعصر على أربع أقدام فقال: أبو عبداللّه عليه السلام: «النصف من ذلك أَحبّ إليّ ».(4)

الصنف الخامس: القدمان وأربع أقدام آخر وقتي الظهر والعصر

روى الشيخ الطوسي عن محمد بن الفرج قال: كتبت أسأل عن أوقات الصلاة ؟ فأجاب: «إذا زالت الشمس فصلّ سُبحتك، وأُحبّ أن يكون فراغك من الفريضة والشمس على قدمين، ثم صلّ سُبحتك، وأُحبّ أن يكون فراغك من العصر والشمس على أربعة أقدام، فإنْ عجّل بك أمر فابدأ بالفريضتين، واقضِ بعدهما النوافل، فإذا طلع الفجر فصلّ الفريضة، ثم اقضِ بعد ما شئت».(5)

ص: 129


1- . المربض - بفتح الميم وكسر الباء - مربط العنز الأُنثى من المعز، و المراد موضع جلوسه كجلوس الإنسان.
2- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 7.
3- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 10.
4- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 22.
5- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 31.

إذا وقفت على هذه الأصناف الخمسة من أوقات صلاتي الظهر والعصر، فاعلم أنّ فهم هذه الروايات يتوقّف على بيان أمرين:

الأوّل: أنّ العناوين الثلاثة: الذراع والذراعين، والقدمين والأقدام الأربعة، والقامة والقامتين، أمر واحد، وإن اختلفا لفظاً وتعبيراً. أمّا الذراع والذراعان فواضح، وأمّا القدمان والأقدام الأربعة، فيرجع إليها؛ لأنّ ذراع كلّ إنسان يساوي طول قدميه، كما أنّ ذراعيه تساوي أربعة أقدام.

إنّما الكلام في القامة، فقد جاء في الحديث عن علي بن حنظلة قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: «القامة والقامتان، الذراع والذراعان: في كتاب علي عليه السلام». وروي أيضاً عن علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «القامة هي الذراع».

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال له أبو بصير: كم القامة ؟ فقال: «ذراع، إنّ قامة رحل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذراع».(1)

أُريد بالرحل ما يوضع على ظهر البعير كالسرج بالنسبة للفرس، ومن المعلوم أنّ المراد من قامة ليست مقدار قامة الإنسان، بل المراد ظلّ قامة الإنسان الذي يبقى على الأرض عند الزوال وهو يختلف حسب الأزمنة والبلاد مرّة يكثر ومرّة يقلّ . روى زرارة: قال لي أبو جعفر عليه السلام حين سألته عن ذلك: «إن حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قامة (أي مقدار قدّ الإنسان)، فكان إذا مضى من فيئه ذراع صلّى الظهر، وإذا مضى من فيئه ذراعان صلّى العصر»، ثم قال: «أتدري لم يجعل الذراع والذراعان ؟» قلت: لم جعل ذلك ؟ قال: «لمكان النافلة، فإنّ لك أن تنتفل من زوال الشمس إلى أن يمضي الفيء ذراعاً، فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت7.

ص: 130


1- . تهذيب الأحكام: 23/2، الحديث 15، 16 و 17.

الفريضة وتركت النافلة».(1)

إلى هنا تبيّن وحدة المعابير الثلاثة، بشرط أن يفسّر القامة بظلها عند الزوال لا بقامة الشخص وقدّه.

رفع التعارض بين الأصناف الخمسة

الصنف الأوّل: يحدّد وقت الصلاتين بزوال الشمس وغروبها.

الصنف الثاني: يحدّد آخر وقت الظهر بالقامة، والعصر بقامتين.

الصنف الثالث: يحدّد أوّل وقتي الظهر والعصر بالذراع والذراعين.

الصنف الرابع: يحدّد أوّل وقتي الظهر والعصر بالقدمين والأربعة أقدام.

الصنف الخامس: يحدّد آخر وقتي الظهر والعصر بالقدمين والأربعة أقدام.

فالصنف الثاني يتّحد مع الخامس، كما أنّ الصنف الثالث يتّحد مع الرابع.

فكيف الجمع ؟

أقول: الجمع بينها واضح بالرجوع إلى بعض الروايات، فإنّ الأصل هو الصنف الأوّل أي تحديد وقتي الظهر والعصر بزوال الشمس وغروبها، وأمّا الأصناف الأربعة الباقية فإنّ التأخير إنّما هو للتنفّل كما مرّ في رواية زرارة، قال:

«أتدري لم جعل الذراع والذراعان ؟» قلت: لم جعل ذلك ؟ قال: «لمكانة النافلة، فإنّ لك أن تنتفل من زوال الشمس إلى أن يمضي الفيء ذراعاً، فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت الفريضة وتركت النافلة». وهذا الجمع هو الذي ركّز عليه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في درسه الشريف، فقال مشيراً إلى الإشكال

ص: 131


1- . تهذيب الأحكام: 20/2، الحديث 55.

والجواب: أمّا الإشكال فقال: نعم هنا أخبار دالّة على أنّ أوّل وقته صيرورة الفيء قدماً، وأوّل وقت العصر صيرورته قدمين، وأخبار أُخر دالّة على أنّ أوّل وقت الظهر صيرورة الفيء قدمين أو ذراعاً، وأوّل وقت العصر صيرورته أربعة أقدام أو ذراعين، والمراد بالقدم سبع الشاخص وبالذراع قدمان.

وأمّا الجواب فقد قال قدس سره: الاختلاف بين الأخبار يرتفع بنفس الأخبار حيث دلّت على أنّ اعتبار القدم والقدمين ونحوهما إنّما هو للتنفّل واختلافها في القدر الموضوع للنافلة إنّما هو من جهة اختلاف المتنفّلين في التطويل والتقصير، وهذا الجمع في الجملة ممّا لا إشكال فيه، وتشهد عليه نفس الأخبار.(1)

وهنا وجه آخر للجمع وهو: أنّ الأصل المتّبع هو النصف الأوّل، وسعة الوقت للصلاتين من الزوال إلى الغروب، وأمّا الأصناف الباقية، فلكلّ معنى خاص:

1. أمّا ما يحدّد الأقدام - كما هو مفاد الصنف الثاني والخامس - فخروج وقتهما كناية عن خروج وقت نافلتهما، فلا نافلة بعد هذين الأمرين.

2. وأمّا ما يحدّد أوّل وقت الظهرين بالذراع والذراعين أو بالقدمين وأربعة أقدام، كما هو مفاد الصنفين الثالث والرابع، فيهدف إلى بيان وقت الفضيلة للصلاتين بناء على أنّ لكلّ صلاة وقت إجزاء ووقت فضيلة.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. أنّ بين زوال الشمس وغروبها وقت الظهرين.ى.

ص: 132


1- . كتاب الصلاة: 47، الطبعة الأُولى.

2. أنّ مقدار أربع ركعات من أوّله وأربع ركعات من آخره وقت اختصاصي للظهر والعصر، والوقت الباقي مشترك.

3. وقت فضيلة الظهر إذا كان الفيء ذراعاً، وإذا كان ضعف ذلك فقد دخل وقت فضيلة العصر، وقد مرّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان فيء الجدار ذراعاً صلى الظهر، وإذا كان ذراعين صلّى العصر.

4. أنّ تأخير الإتيان بالفريضة إلى الذراع والذراعين لغاية التنفّل، فلو لم يتنفّل، فله أن يصلّي عند الزوال.

5. ثمّ إنّ المراد من كون الفيء ذراعاً أو ذراعين هو الفيء الموجود في جانب الشرق، ويطلق عليه الفيء الذي هو بمعنى الرجوع لأجل أنّ الظل بعد انتقاصه يكون قد رجع، وأمّا الفيء المتخلّف أو المعدوم في جانب المغرب فليس موضوعاً لشيء.

بقي الكلام في ما هو الوجه في تأخير أهل السنّة صلاة العصر بكثير من الذراعين ؟

فالظاهر أنّهم فهموا من كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم ظلّاً حسب قامة الإنسان، وذلك عندما قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا صار الفيء مثل ظل القامة فصلوا الظهر، وإذا كان مثليه فصلوا العصر» فحملوا ظلّ القامة ظلّاً بقدر القامة، مع أنّ المراد ظل القامة لا ظلاً مثل القامة.(1)3.

ص: 133


1- . لاحظ: ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار للمجلسي: 884/3.
الجمع بين الصلاتين
اشارة

قد تبيّن ممّا سبق أنّ ما وراء الوقت المختص لكلّ من الظهرين أو العشائين، وقت مشترك، يجوز الجمع بين الصلاتين فيه، جمعاً حقيقياً كلّاً في وقته.

إنّ الجمع بين الصلاتين في الفقه الإسلامي على أقسام:

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة

اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاة في المزدلفة وعرفة من غير خلاف، قال القرطبي: أجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضاً في وقت العشاء سنّة أيضاً، وإنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين.(1)

2. الجمع بين الصلاتين في السفر

ذهب معظم الفقهاء، غير الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، فيجوز عند الجمهور - غير هؤلاء - الجمع بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الأُولى وتأخيراً في وقت الثانية، وبين المغرب والعشاء، تقديماً وتأخيراً أيضاً.

أخرج مسلم عن نافع عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء.(2)

ص: 134


1- . بداية المجتهد: 170/1، الفصل الثاني في الجمع.
2- . صحيح مسلم: 150/2، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر

المشهور عند فقهاء السنّة جواز الجمع بين المغرب والعشاء لعذر، خلافاً للحنفية حيث لم يجوّزوا الجمع مطلقاً إلّافي الحج بعرفة والمزدلفة.

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً

اتّفقت الإمامية على أنّه يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً، وإن كان التفريق أفضل.

روى الشيخ الطوسي باسناده عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر، إلّاأنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتى تغيب الشمس».(1)

وبما مرّ يظهر أنّ الجمع بين الصلاتين ليس بمعنى كون صلاة في وقت صلاة أُخرى، بل كلّ في الوقت المشترك، غاية الأمر يفوت وقت الفضيلة لواحدة من الصلاتين، فمن جمع في وقت الظهر يفوته وقت فضيلة العصر، والروايات من أئمّة أهل البيت متوفّرة، خصوصاً ما عرفت من دلالة الآيات على الوقت المشترك... وأمّا الروايات من جانب أهل السنّة، فهناك ثلاثون رواية تدلّ على الجمع نذكر واحدة منها:

روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال: «صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر».(2)

ص: 135


1- . تهذيب الأحكام: 26/2.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي: 213/5.

ومن أراد الإحاطة بتلك الروايات فعليه الرجوع إلى كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»(1)، فسيجد فيه ما يكفيه.1.

ص: 136


1- . الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 294/1.

أحكام الصلاة

2. استقبال الكعبة في الذكر الحكيم

اشارة

استقبال القبلة من أركان الصلاة حيث تبطل بتركه عمداً أو سهواً، قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: «لا تُعاد الصلاة إلّامن خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود».(1)

وقد جاء ذكر الاستقبال ضمن آيات في سورة البقرة، ابتداء من الآية 142 إلى الآية 151، غير أنّا نفسّر من الآيات ما لها صلة بالحكم الشرعي، ونترك ما لا صلة له به.

الآية الأُولى:

اشارة

قال سبحانه: (سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .(2)

ص: 137


1- . الوسائل: 1، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث 8.
2- . البقرة: 142.
المفردات

السفهاء: من السفه، وهو نقصان العقل.

قبلتهم: قال الراغب: القبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل، نحو:

الجلسة والقعدة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجّه للصلاة.(1)

ولّاهم: ولّى: فعل ماضٍ من باب التفعيل، فلو استعمل مع لفظة «عن» يفيد معنى الإعراض والإدبار - كما في الآية - ولو استعمل مع لفظة «إلى» يفيد معنى الإقبال.

التفسير

هذه الآية ومابعدها تتعلّق بمسألة جعل الكعبة قبلة للمسلمين بعد ما كانت القبلة - بأمر اللّه سبحانه - بيت المقدس، وقد تحدّث عنها القرآن الكريم في هذه السورة ولم يأت لها ذكر في السور الأُخرى، وهي حادثة عظيمة أوجدت ضوضاء، بين المشركين واليهود الذين يعبّر سبحانه عنهم هنا بالسفهاء.

توضيح ذلك: أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم منذ أوجب اللّه الصلاة عليه وعلى أُمّته كان يصلّي بأمر اللّه سبحانه إلى بيت المقدس، وما هذا إلّاليتميّز المسلمون عن المشركين الذين كانوا يقدّسون الكعبة ويحترمونها، فلأجل التمييز صار المسلمون يصلّون إلى بيت المقدس. ولمّا هاجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مهجره، ابتلي بعدو لدود يصلّي إلى بيت المقدس، وكان النبي أيضاً مأموراً بالصلاة إليه، فصار ذلك سبباً لإيذاء النبي وتعييره بأنّك كيف تدّعي أنّ شريعتك ناسخة لشريعة النبي

ص: 138


1- . المفردات للراغب: 582، مادة «قبل».

موسى وأنت تصلي إلى قبلتنا؟! فصار هذا هو السبب لنزول الوحي بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وبما أنّ هذه الحادثة كانت ضربة لليهود استثقلوها ونشروا الأكاذيب حولها، فنزلت الآية الأُولى تخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحادثة مؤلمة سوف تقع حتى يكون النبي والمسلمون على أهبة الاستعداد للدفاع عن دينهم وكيانهم.

كلّ ذلك قبل تغيير القبلة.0.

ص: 139

المسلمون عن المشركين، لكن المصلحة بعد الهجرة إلى المدينة بشهور اقتضت التوجّه إلى الكعبة حتى يتميّز المسلمون عن اليهود والنصارى، واللّه (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فالأمكنة كلّها للّه، والصلاة في أي مكان إذا صدرت عن تقرّب وإخلاص، فهي عبادة للّه، وأمّا التولّي عن المسجد الأقصى إلى الكعبة لأجل أنّ الحكم الشرعي يتغيّر بتغيّر المصالح.

ولعلّ قوله: (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) تعريض بأنّ الذي أمر اللّه به المسلمين هو الهدى دون قبلة اليهود، ولكنّه لم يصرح بذلك وإنّما اكتفى بالتعريض، نظير قوله سبحانه: (وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (1).

ثمّ إنّ الصراط جاء بصورة النكرة وقال: (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) مشيراً به إلى الصراط الحقّ في المقام، وهو كون القبلة هي الكعبة المعظمة، وبما أنّه أمر شخصي استغنى عن الإشارة إليه بلام الجنس، بخلاف قوله: (اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ ) ، فقد أُشير به إلى الشريعة الحقّة اعتقاداً وعملاً بما أنّه مؤلّف من أُمور مختلفة يقع الجميع تحت عنوان واحد، وهو الصراط المستقيم أشار بلام الجنس إليه حتى يشير إلى الجميع. واللّه العالم.

الآية الثانية:

اشارة

قال سبحانه: (وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ

ص: 140


1- . سبأ: 24.

عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .(1)

المفردات

لنعلم: أي ليتحقّق ويظهر.

ينقلب على عقبيه: كناية عن الإعراض عن الدين.

إيمانكم: أُريد الصلوات التي صلّوها إلى بيت المقدس، فقد أطلق الإيمان وأُريد به العمل.

التفسير
ما هو السرّ لجعل بيت المقدس قبلة ؟

هذا ما يشير إليه سبحانه في هذه الفقرة من هذه الآية، قال: (وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) ، ويشير بذلك إلى ما هي المصلحة التي سبّبت كون بيت المقدس قبلة للمسلمين في فترة معيّنة، وليس هو إلّاقوله: (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) .

توضيحه: لمّا كان من المترقّب أن يختلج في صدور بعض المؤمنين سؤال، وهو: أنّه إذا كانت الكعبة هي القبلة النهائية، فلماذا جعل في فترة خاصّة بيت المقدس قبلة، ثم نُسِخَ؟ فأُجيب بوجود مصلحتين في ذلك:

1. إنّ الكعبة كانت مورد اهتمام وتكريم كافّة القبائل العربية من غير فرق

ص: 141


1- . البقرة: 143.

بين المؤمن والمشرك، فقلوب الكلّ كانت معلّقة بها، وعندئذٍ فإذا أُمروا بالتوجّه إلى بيت المقدس فالمؤمن يتبع بلا تردّد، وأمّا ضعيف الإيمان ربما لا يتحمّل ذلك فيرتدّ على عقبه، وبذلك يتميّز المؤمن الواقعي عن غيره، وإليه يشير بقوله:

(لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) .

2. أنّ بالتوجّه إلى بيت المقدس يتميّز صف الموحّدين عن صف المشركين...

كلّ ذلك في الفترة المكّية.

بقي هنا سؤالان:

الأوّل: إنّ ظاهر قوله: (كُنْتَ عَلَيْها) أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن متوجّهاً إلى بيت المقدس عند نزول هذه الآية، مع أنّ ظاهر سياق المجموعة من الآيات أنّ القبلة بعدُ لم تُنْسَخ، وأنّ النبي كان يصلّي إلى بيت المقدس كما هو ظاهر قوله في الآية التالية: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ ) ؟

والجواب: أنّ في الفقرة تقدير، أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها إلّالنعلم، وحذف لدلالة الكلام عليه.(1)

والأولى أن يجاب: أنّ الفعل أي (كُنْتَ ) ملغى من الزمان، أي أنت عليها الآن.

السؤال الثاني: ما هو المراد من قوله: (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ ) ؟ فاللّه سبحانه هو العالم بكلّ شيء، يعلم غيب السماوات والأرض و ما تخفي الصدور؟1.

ص: 142


1- . مجمع البيان: 447/1.

والجواب: أنّ المراد من العلم هنا علمه الفعلي القائم بالأشياء، لا العلم الذاتي. ولهذه الفقرة نظير في القرآن الكريم، قال تعالى: (ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (1).

فالمراد هو التميّز في مقام الفعل وظهوره في الوجود، نظير قوله سبحانه:

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً) (2) .

ثمّ إنّه سبحانه يستثني طائفة ويقول: (وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً ) : أي كون بيت المقدس قبلة ثقيلة (إِلاّ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ ) ، فهم يتّخذونه قبلة برحابة صدر لعلمهم بأنّ اللّه سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل. وأن كلّ تشريع منه لا يخلو عن مصلحة.

نعم ربما يتبادر إلى أذهان المسلمين أنّهم صلّوا إلى بيت المقدس قبل نسخها فما هو حالها؟ وأُجيب بأنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ، فالصلاة إليها صلاة صحيحة واللّه سبحانه لا يضيع أعمالكم، وإليه أشار بقوله: (وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) وأُريد من الإيمان العمل، ثم علّله بقوله: (إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) وأنّ إيفاء أجر المؤمن من آثار رأفته ورحمته.8.

ص: 143


1- . آل عمران: 179.
2- . الجن: 28.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه:

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ ) .(1)

المفردات

نرى: الرؤية - لغة - إدراك الشيء بالبصر، وإذا نسبت إلى اللّه تعالى تكون بمعنى حضور المبصَر لدى الباري.

تقلّب: التحوّل والتصرّف.

السماء: كلّ ما علاك وأظلّك فهو سماء، كما عن ابن عباس، والقرينة الحاليّة تدلّ عليه.

ترضاها: أي تحبُّها.

شطره: شطر المسجد الحرام أي: نحوه وجانبه (اتّجاهه).

بغافل: الغفلة: السهو عن بعض الأشياء.

ص: 144


1- . البقرة: 144. وقد ورد الأمر بالتوجّه شطر المسجد الحرام في هذه الآية وفي الآية 149 و 150، وسيوافيك وجه التكرار.
التفسير

الآية على وجازتها تتضمّن أُموراً:

1. انتظار النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى تحويل القبلة.

2. إجابة تمنّي النبي وترقّبه.

3. أمر النبي بالتوجّه شطر المسجد الحرام.

4. وجوب التوجّه إليه على جميع المسلمين.

5. إنّ علماء أهل الكتاب يعلمون أنّ الكعبة قبلة من اللّه.

وفي نهاية الآية ما يدلّ على أنّه سبحانه ليس بغافل عن مؤامرة المعاندين.

ما ذكرناه رؤوس ما ورد في الآية:

أمّا الأمر الأوّل: فيشير إليه بقوله: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ ) فإنّ لفظة (قَدْ) تدلّ على التحقيق، وقد ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان في مبعثه يصلّي إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكّة وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر فعيّرته اليهود وقالوا: إنّك تابع لقبلتنا، فأحزنه ذلك، وهذا صار سبباً لترقّب النبي وتقليب وجهه في السماء وكان ينتظر الوحي(1).

ثمّ إنّ تقلب وجهه في السماء لم يكن إلّاتوقعاً لنزول الوحي في أمر القبلة حتى يكرمه اللّه بقبلة تختص به، لا أنّه كان غير راض بكون بيت المقدس قبلة، حاشا رسول اللّه عن ذلك.

وأمّا الأمر الثاني: فأُشير إليه بقوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) وهذا يدلّ

ص: 145


1- . لاحظ: الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 11.

على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن ساخطاً لكون بيت المقدس قبلة، بل كان يترقّب تحوّل القبلة إلى غيرها حتى ينقطع بذلك تعيير اليهود، واللّه سبحانه وعده بإنجاز ما يرضاه.

وأمّا الأمر الثالث: فأُشير إليه بقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) ، وإنّما خصّ الوجه بالذكر؛ لأنّ به يظهر التوجّه، والظاهر أنّه أُريد من الشطر الجانب والناحية لا النصف، أي حوّل نفسك نحو المسجد الحرام.

وأمّا الأمر الرابع: فقد أُشير بقوله: (وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) خصّ رسول اللّه بالحكم أوّلاً، ثم عمّم الحكم لغيره من المؤمنين حتى لا يتوهّم أنّ الحكم مختصّ به كسائر خصائصه.

روى الصدوق: لمّا صلّى النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الظهر ركعتين جاء جبرئيل عليه السلام فقال له: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) الآية، ثمّ أخذ بيد النبي صلى الله عليه و آله و سلم فحوّل وجهه إلى الكعبة، وحوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء، والنساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، وبلغ الخبر مسجداً بالمدينة، وقد صلّى أهله من العصر ركعتين، فحوّلوا نحو القبلة وكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فسُمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.(1)

وأمّا الأمر الخامس: فأشار إليه بقوله: (وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ ) أراد به علماء اليهود. وقيل: علماء اليهود والنصارى، (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) :

أي يعلمون أنّ تحويل القبلة إلى الكعبة حقّ مأمور به من ربّهم. وإنّما علموا ذلك لأنّه2.

ص: 146


1- . الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 12.

كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا، وكان من صفاته أنّه يصلّي إلى القبلتين.(1)

وفي ختام الآية يقول: (وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ ) من كتمان بشارات النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأوصافه، وتواطؤهم على الكذب.

ثمّ إنّ النسخ في المقام ليس من قبيل نسخ القرآن بالقرآن، لأنّ جعل بيت المقدس قبلة، وإن كان بأمر اللّه سبحانه، لكن لم يكن بالقرآن الكريم، بل بإيحاء من اللّه إلى النبي أن يصلّي نحوه، فلو قيل بالنسخ يجب أن يقال: نسخ السنّة بالقرآن.

الآية الرابعة

قال سبحانه:

(وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) .(2)

الآية تأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتولّي وجهه شطر المسجد الحرام، وعندئذٍ يقع الكلام: ما هو الوجه في هذا التكرار مع أنّه سبق هذا الأمر في الآية 144، حيث ورد فيها: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ؟ وقد ذكر المفسّرون منهم النيسابوري وجوهاً سبعة لبيان

ص: 147


1- . مجمع البيان: 452/1.
2- . البقرة: 149. وقد مرّ ورود التوجه إلى شطر المسجد الحرام في الآية 144.

الفرق بين الآيتين.(1)

والذي يمكن أن يقال: إنّ الغاية من التكرار هو الإعلان عن أنّ استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة أمر لازم في الحضر والسفر، فالمراد من قوله:

(وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ) : أي من أي مكان خرجت أو في أي بلاد كنت(2) سواء أكنت حاضراً أم مسافراً، لأنّ السفر مظنّة المشقّة في الاهتداء لجهة الكعبة، فربما يتوهم متوهّم سقوط الاستقبال عنه.(3) وهذا هو وجه التكرار.

ويؤيّد هذا الوجه أنّه سبحانه يؤكّد بعده ويقول: (وَ إِنَّهُ ) : أي استقبال الكعبة (لَلْحَقُّ ) الذي يجب أن يقبل ويعمل به، حال كونه (مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) فهو وعد للطائعين ووعيد للعاصين.

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه:

(وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .(4)

ص: 148


1- . لاحظ: غرائب القرآن ورغائب الفرقان: 152/2-153.
2- . التبيان: 26/2.
3- . التحرير والتنوير: 440/2.
4- . البقرة: 150. وقد مرّ أنّ التوجّه إلى شطر المسجد الحرام ورد في آيتين سابقتين هما: 144 و 149، وقد تقدّم وجه التكرار في الآية 149، ويأتي وجهه في آيتنا هذه فلاحظ.
التفسير

قوله: (وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ) : أيّ من أي مكان خرجت وفي أي مكان حللت (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) لا أنت خاصّة بل المؤمنون جمعاء حيث قال: (وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) وعندئذٍ يقع الكلام ما هو الوجه في إعادة الجملة السابقة، فإنّها تكرار لما ورد في الآية 144 و 149 حيث عمّم الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم وللمؤمنين ؟

والظاهر أنّ وجه التكرار بيان ما يترتّب عليه من العلل حيث علّل سبحانه لزوم استقبال الكعبة للنبي والمؤمنين في السفر والحضر بأُمور ثلاثة:

1. (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ ) : أي أحبار اليهود (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) وذلك لأنّهم قرأوا في كتبهم أنّ النبي العربي يستقبل قبلتين، فلولا الاستقبال الثاني لصارت الحجّة عليكم حيث يقولون: إنّ علامة النبي الخاتم كونه مصلّياً إلى القبلتين، وبذلك تمّت الحجّة عليهم، وربما يؤثّر في بعضهم. نعم يستثني طائفة (إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) استثناء منقطع، إذ ليس لهم أي حجّة، فهم يشاغبون عليكم ويجادلون (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي) : أي فلتكن خشيتكم لي حيث إنّ شبهاتهم وصولتهم سوف تتضاءل شيئاً فشيئاً.

2. (وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) ومن تمام النعمة أن يكون المسلمون ذوي قبلة خاصّة مستقلّة دون أن يكونوا تبعاً لقوم آخرين.

3. (وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) هذه هي الحكمة الثالثة لتحويل القبلة، وهي أنّه (وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) إلى معرفة لطف اللّه بإتمام النعمة.

ص: 149

ما هو الواجب في الاستقبال ؟

إلى هنا تمّ ذكر الآيات المتعلّقة بالموضوع، وذكر تفسيرها، إنّما الكلام في ما هو المستفاد من قوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) ؟ قال الفاضل المقداد: في التعبير بالشَّطر بمعنى الجهة، إيماء إلى أنّ أمر القبلة مبنيّ على المساهلة والمقاربة دون التحقيق، فإنّ العراقيّ والخراساني [علامة] قبلتهم واحدة مع أنّه إذا حقّق، كان توجّه العراقي إلى غير موضع الخراساني لاختلاف البلدان في العروض.(1)

كلام المحقّق الأردبيلي في كفاية الجهة

وممّن يؤيّد جواز الاكتفاء بالجهة أي السمت الذي تقع فيه الكعبة من دون لزوم تحرٍّ أكثر من ذلك، المحقّق الأردبيلي حيث رجّح الاكتفاء باستقبال السمت قال: وبالجملة الذي يظهر لي - من الأخبار الصحيحة، والآيات الكريمة، والشريعة السمحة السهلة، وقول عظماء الأُمّة من العامّة والخاصّة - هو الوسعة، واغتفار التفاوت بين العلامات لاسيّما إذا كان يسيراً، حيث اعتبروا علامات مختلفة لأهل العراق مثلاً وأطلقوا، وكذا لغيره؛ مثل جعل بنات النعش علامة، مع كونها متعدّدة مختلفة المواضع، واعتبار مهبّ الرياح؛ واعتبروا القبور والمحاريب في كلّ بلد من بلاد المسلمين، مع أنّا نجد في أكثر بلاد المسلمين الاختلاف الكثير، بل في بلدة واحدة، خصوصاً في بلد العامّة حيث يكفي عندهم ما بين المشرق والمغرب على ما تسمع وترى. ويؤيّده ورود الأخبار مختلفة مجملة. وبُعد الإهمال من

ص: 150


1- . كنز العرفان في فقه القرآن: 86/1، كتاب الصلاة.

الشارع في مثل هذه الدقيقة التي يضرّ بالعمدة من العبادات أدنى الالتفات عنها كما يفهم من كلام الشارح والذكرى وغيره مع اعتبارهم استحباب التياسر على نحو الإجمال قدراً ومحلّاً.

وعدم طريق - إلى التحقيق لمحاذاة البيت ولا بالقرب منه لبلد ما، فكيف بكل البلاد؟! وعدم تحقّق كون غيره من المواضع قبلة، بحيث يكون الخروج عنه مضرّاً بأدنى خروج، مع عدم الأثر - ما نجده مناسباً للشريعة: اللّه يعلم والاحتياط معلوم.(1)

كفاية استقبال الجهة عند صاحب المدارك

وقال صاحب المدارك: واعلم أنّ للأصحاب اختلافاً كثيراً في تعريف الجهة، ولا يكاد يسلم تعريف منها من الخلل، وهذا الاختلاف قليل الجدوى، لاتّفاقهم على أنّ فرض البعيد استعمال العلامات المقرّرة والتوجّه إلى السمت الذي يكون المصلّي متوجّهاً إليه حال استعمالها، فكان الأولى تعريفها بذلك.

ثمّ إنّ المستفاد من الأدلّة الشرعية سهولة الخَطْب في أمر القبلة والاكتفاء بالتوجّه إلى ما يصدق عليه عرفاً أنّه جهة المسجد وناحيته، كما يدلّ عليه قوله تعالى: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (2)، وقولهم عليهم السلام: «ما بين المشرق والمغرب قبلة».(3) و: «ضع الجدي في قفاك وصلّ ».(4) وخلو الأخبار ممّا زاد على ذلك مع

ص: 151


1- . مجمع الفائدة والبرهان: 74/2-75.
2- . البقرة: 150.
3- . الوسائل: 2، الباب 35 من أبواب صلاة الجنازة، الحديث 1.
4- . الوسائل: 3، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 1.

شدّة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة، وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدّاً؛ لأنّه علم دقيق كثير المقدّمات، والتكليف به لعامّة الناس بعيد من قوانين الشرع، وتقليد أهله غير جائز، لأنّه لا يعلم إسلامهم فضلاً عن عدالتهم.

وبالجملة: فالتكليف بذلك ممّا علم انتفاؤه ضرورة. واللّه تعالى أعلم بحقائق أحكامه.(1)

تأييد صاحب الحدائق كفاية الجهة

وممّن يؤيّد هذا القول صاحب الحدائق قال: ويؤيّد ذلك أوضح تأييد ما عليه قبور الأئمّة عليهم السلام في العراق من الاختلاف مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بعدم انحراف القبلة فيه مع استمرار الأعصار والأدوار من العلماء الأبرار على الصلاة عندها ودفن الأموات ونحو ذلك، وهو أظهر ظاهر في التوسعة.(2)

ويشهد على ما ذكره، جعل الجَدْي علامة لمعرفة القبلة في العراق كلّه، روى الصدوق، قال: قال رجل للصادق عليه السلام: إنّي أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل، فقال: «أتعرف الكوكب الذي يقال له الجدي ؟»، قلت: نعم، قال: «اجعله على يمينك، وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك».(3)

ومن المعلوم أنّه تختلف مناطق العراق بالنسبة إلى تلك العلامة.

وإلى هذا الاختلاف يشير العلّامة الطباطبائي بحر العلوم في منظومته

ص: 152


1- . مدارك الأحكام: 121/3.
2- . الحدائق الناضرة: 387/6.
3- . الوسائل: 3، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 1.

الفقهية:

فاجعله خلف المنكب الأيمن في *** أواسط العراق مثل النجف

وكربلاء وسائر المشاهد *** وما يدانيها ولم يباعد

واجعله في شرقيه(1)*** كالبصرة في الأذن اليمنى ففيه النصرة

وبين كتفيك برأي أعدل *** في الجانب الغربي نحو الموصل(2)

أقول: الشريعة الإسلامية شريعة عالمية حجّة لمن يعيش في الأقاليم السبعة، ومن المعلوم أنّ كثيراً من الناس - خصوصاً في القرون السابقة - كانوا غير مستعدين لتعيين القبلة على وجه الدقّة، مع ابتلائهم بها في صلواتهم وذبائحهم ودفن أمواتهم إلى غير ذلك، فإلزام مَن يعيش في الأقاليم البعداء من الأجهزة العلمية لتعيين القبلة، لا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية (بأي وجه ؟).

وما ذكرنا من كلمات الأصحاب بدءاً من الفاضل المقداد إلى المحقّق الأردبيلي إلى تلميذه صاحب المدارك وغيرهم، كلام متين.

ثمّ إنّه يؤيد ما ذكره هؤلاء الأعلام الأُمور التالية:

1. ما ورد من أنّ الجاهل بالقبلة يصلّي إلى أربع جهات. روى الصدوق، قال: في مَن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنّه يصلي إلى أربعة جوانب.(3)

والحديث يدلّ بالملازمة على أنّ الواجب في حال العلم الصلاة إلى إحداها، وفي حال الجهل يكفي إتيانها إلى الأربع تحصيلاً للعلم بالفراغ، فالصلاة5.

ص: 153


1- . أي شرقيّ العراق.
2- . جواهر الكلام: 366/7.
3- . الوسائل: 3، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 1 و 5.

إليها محصّل للشرط الواجب في حال العلم.

2. ما رواه عليّ عليه السلام قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولكن شرّقوا وغرّبوا»(1)، فإنّ المستفاد منه أنّ خلاف المشرق والمغرب: إمّا قبلة أو دبرها.

3. ما رواه الفريقان أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة، روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لا صلاة إلّاإلى القبلة» قال: قلت: أين حدّ القبلة ؟ قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه».(2)

ومن المعلوم أنّ الأخذ بظاهره غير ممكن؛ لأنّ معنى ذلك سعة القبلة بمقدار نصف الدائرة، وذلك في آخر الربيع الذي تكون الأيام فيه أطولها والليالي أقصر، فلابدّ من حمله على المشرق والمغرب الاعتداليين، كآخر يوم من فصل الخريف الذي تكون الأيام أقصرها والليالي أطولها، فإنّ القوس بين المشرق والمغرب يقرب من تسعين درجة، بخلاف القوس الموجود بين المشرق والمغرب في آخر فصل الربيع.

4. ما روي من جعل الجدي على اليمين، وقد مرّت الرواية، ومن المعلوم أنّ استعلام القبلة بهذا الكوكب يختلف حسب اختلاف البلاد كما مرّ في منظومة بحر العلوم.

إلى غير ذلك من العلائم التي يستفاد منها سعة القبلة للمصلّي، فما ذكره الأعلام الأربعة هو الحقّ المتّبع، وربما يوافقهم قول المحقّق في «المعتبر»، قال:ه.

ص: 154


1- . الوسائل: 1، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 5.
2- . الوسائل: 3، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1 و 4. ولاحظ سائر الأحاديث الواردة فيه.

القبلة السمت الذي فيه الكعبة لا نفس البنية، وذلك متّسع يمكن أن يوازي جهة كلّ مصلٍّ .(1)

إلى هنا تمّ ما يمكن تأييد القول بكفاية اتّجاه الجهة، وهناك نظرية أُخرى وهي أنّ القبلة هي عين الكعبة وبنيتها، وقد اتّخذها صاحب الجواهر مذهباً. وأخذ بتعداد قول القائلين بأنّ القبلة الجهة، ويقول بعد ذكر الوجوه التي عرفتها من الأعلام: إلى غير ذلك ممّا لفّقه أتباع المقدّس المزبور ممّا هو معلوم المخالفة لما أجمع عليه الأصحاب قديماً وحديثاً قولاً وعملاً منهم ومن مقلّدتهم في سائر الأعصار والأمصار، ولما هو المستفاد من الكتاب والسنّة، بل الضرورة من الدين من استقبال الكعبة للقريب والبعيد الذي لا يتحقّق عرفاً إلّاباستقبالها حقيقة الذي منه استقبال الجهة بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً، لا الجهة العرفية المبنية على التسامح وعدم الاستقبال حقيقة.(2)

وقال في موضع آخر: وقد خفي في هذا العصر المراد بالجهة حتى أنّه التجأ متفقّهته للجهل بها إلى ما أحدثه الأردبيلي، وتبعه عليه بعض الناس ممّا هو مخالف لإجماع الأصحاب بقسميه.(3)

نظرية صاحب الجواهر

ثمّ إنّ صاحب الجواهر أصرّ على نظريته من استقبال الكعبة وحاصل كلامه يأتي في ما يلي:

ص: 155


1- . المعتبر: 66/2.
2- . جواهر الكلام: 343/7-344.
3- . جواهر الكلام: 342/7.

لمّا كان استعداد الناس وفطانتهم مختلفة أشدّ الاختلاف حتى أنّ منهم من يصل إلى كثير من نتائج العلوم المدوّنة من غير حاجة الى أهلها ومقدّماتها، ومنهم من ليس له إلّاقابلية التقليد، ناط الشارع هنا التكليف بالعلم مع التمكّن منه بلا عسر وحرج، كما يتيسّر لكثير من أفراد الناس الممارسين المتنبهين من أهل البادية والقرى، بل لعلّ اتفاق ذلك في الأوّلين أكثر، ومع عدم التمكّن فالتحرّي (العمل بالعلائم المفيدة للظن)، ومع عدمهما فالأربع جهات، فلا عسر ولا حرج في ذلك على عامّة المكلّفين، إذ لم يكلّفهم بمعرفة قواعد علم الهيئة الذي هو دقيق المقدّمات، ولا يعرفه إلّاأوحدي الناس، بل إنّما أمر بالعلم بحصول الاستقبال للمتمكّن كما هو القاعدة في كلّ موضوع، وبالظن لغيره، وبالعلم الإجمالي لفاقدهما، فمَن كان حسن الفطنة يتمكّن من حصول العلم بسبب معرفته في علم الهيئة أو بغير ذلك، وجب عليه، وإلّا أخذ بالأحرى فالأحرى على حسب استعداده أيضاً، وما يتيسّر له من أسباب الظن إلى أن يصل إلى التقليد وأدون.(1)

وحاصل كلامه: أنّ مَن تيسّر له محاذاة عين الكعبة فهو، وإلّا فيجب عليه التحرّي بالأمارات التي ذكرت في الأحاديث إذا أفادت الظن، وفي غير تلك الصورتين يصلّي إلى أربع جهات.

ولا يخفى أنّ التكليف بالصلاة إلى أربع جهات يوماً أو يومين، ليست حرجية، وأمّا إذا دامت فلا شكّ أنّها أمر حرجي.5.

ص: 156


1- . جواهر الكلام: 344/7-345.
الصف الطويل وكون القبلة عين الكعبة

ثمّ إنّه ربما يعترض على مَن جعل القبلة عين الكعبة بالصف الطويل، إذ لو قلنا بوجوب محاذاة عين الكعبة، لزم بطلان صلاة بعضهم، لافتراض أنّ الصف أوسع من مقدار عرض جدار الكعبة.

قال الشيخ: لو كُلّف التوجّه إلى عين الكعبة لوجب - إذا كان في صف طويل خلف الإمام - أن تكون صلاتهم أو صلاة أكثرهم إلى غير القبلة... إلى أن قال: ولا يلزمنا مثل ذلك؛ لأنّ الغرض التوجّه إلى الحرم والحرم طويل، يمكن أن يكون كلّ واحد من الجماعة متوجّهاً إلى جزء منه.(1)

ثمّ إنّ القائلين بأنّ اللازم هو التوجّه إلى عين الكعبة أجابوا عن الإشكال قائلين بأنّ الشيء كلّما إزداد بُعداً إزداد محاذاة.

يقول الفقيه المحقّق الهمداني في توضيح ذلك: إنّ صدق الاستقبال ممّا يختلف بالنسبة إلى القريب والبعيد، فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلاً بوجهك وكنت قريباً منهم جدّاً، لا تكون قبلتك من أهل الصف إلّاواحداً منها بحيال وجهك، ولكنّك إذا رجعت القهقرى بخط مستقيم إلى أنّ بعدت عنهم بمقدار فرسخ مثلاً، لرأيت أن مجموع الصفّ بجملته بين يديك بحيث لا تُميّز من يحاذيك حقيقةً عن الآخر مع أنّ المحاذاة الحقيقية لاتكون إلّابينك وبين ما كنت أوّلاً.

وإن أردت مثالاً أوضح فانظر إلى عين الشمس والكواكب التي تراها قبال

ص: 157


1- . الخلاف: 295/1 المسألة 41.

وجهك، فإنّ جرم الشمس وكذا الكواكب وما بينها من الفاصل أعظم من مساحة الأرض أضعافاً مضاعفة، ومع ذلك ترى مجموعها بين يديك حيال وجهك.(1)

ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي أنكر القاعدة - أعني: أنّ الشيء كلما إزداد بعداً إزداد محاذاة - وحاصل كلامه في وجه تصحيح صلاة الصف الطويل هو: أنّ الصف ليس مستقيماً في الحقيقة بل له تحدّب غير محسوس، يقول في تعليقته على العروة الوثقى : إنّ الصف المذكور إذا لاحظ كلّ منهم العلامات المجعولة له بنحو الدقّة يكون في الواقع قطعة من دائرة عظيمة مركزها الكعبة، فهو في الواقع متحدّب في الجملة، إلّاأنّ عظم الدائرة يمنع عن إحساس انحداب قوسها، وهذا بخلاف الصفّ المنعقد في قرب الكعبة فإنّ انحدابه محسوس لصغر الدائرة.(2)

وأوضحه السيد المحقّق الخوئي بالبيان التالي:

إنّ استطالة الصف في البعيد لا تستلزم خروج بعضهم عن استقبال نفس الكعبة، وتوضيح ذلك إنّما يكون بتقريبين: الأوّل: أن يفرض جماعة واحدة حول الكعبة مستديرة وتكبر تلك الدائرة شيئاً فشيئاً إلى أن تصلّ إلى دائرة كبيرة منصفة لكرة الأرض، على أن يكون أحد قطبيها نفس الكعبة وقطبها الآخر النقطة المقابلة لها من الجهة الأُخرى، فكلّ قوس من هذه الدائرة وإن كان مستقيماً في نفسه إلّاأنّ كلّ جزء منه مواجه لنفس الكعبة، فلو فرض جماعة واحدة تكون استطالة صفوفهم بمقدار سعة الأرض كان كلّ واحد من أهل تلك الصفوف مستقبلاً5.

ص: 158


1- . مصباح الفقيه: 21/1-22.
2- . العروة الوثقى: 294/2-295.

حقيقة، وهكذا الكلام في الجماعة الواقعة على الدوائر المتوسطة بين تلك الدائرة وقطبيها، فإن كبر الدائرة يوجب قلّة تقوّس كلّ قوس مفروض فيها بحيث لا ينافي كونه خطاً مستقيماً في حسّ البصر، فالجماعة الذين يكونون بعيدين عن الكعبة بألف فرسخ مثلاً إذا توجّهوا إلى الكعبة في خط مستقيم في الحس لا يعلم عدم مواجهة أحد منهم لعين الكعبة؛ لاحتمال انصراف الخط ولو بمقدار شعرة، فيكون الخط حينئذٍ قوساً لا خطاً مستقيماً هندسياً.(1)

مختارنا

والذي يمكن أن يقال: إنّ القبلة للمشاهد كالمصلّي في المسجد الحرام وما حوله ممّا يمكن استقبال عين الكعبة فاللازم عليه استقبالها، وتبطل الصلاة بالانحراف عنها. وأمّا النائي فإن أمكن التوصّل إلى الجهة التي فيها عين الكعبة على وجه الدقّة، كما إذا كان عارفاً بالآلات التي تحدّد القبلة كالبوصلة وأمثالها فعليه العمل بها، وإلّا فيتحرّى ويعمل بالظن. وإلّا فالاكتفاء بالجهة التي فيها الكعبة على وجه السعة هو الأقوى. وطريق الاحتياط واضح.

ص: 159


1- . وقد اقتصرنا بذكر الوجه الأوّل فمن أراد الوقوف على الوجه الثاني فليرجع إلى فقه الصادق: 90/4.

أحكام الصلاة

3. صلاة المسافر في الذكر الحكيم

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) .(1)

اتّفق المسلمون تبعاً للكتاب العزيز والسنّة النبوية على مشروعية القصر في السفر وإن لم يكن معه خوف.

إنّما الكلام في أنّ القصر في السفر عزيمة، أو سنّة مؤكّدة، أو رخصة ؟!

هنا أقوال ثلاثة نشير إليها بالتفصيل:

ذهبت الإمامية والحنفية إلى أنّها عزيمة، وإنّ فرض المسافر في كلّ صلاة رباعية ركعتان.

وقالت المالكية: القصر سنّة مؤكّدة لفعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّه لم يُر منه في أسفاره أنّه أتمّ الصلاة.

ص: 160


1- . النساء: 101.

أخرج الشيخان عن ابن عمر أنّه قال: صحبت النبي فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك.(1)

وقالت الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخيير، فللمسافر أن يتمّ أو يقصّر.

قال الشيخ الطوسي في «الخلاف»: التقصير في السفر فرض وعزيمة، والواجب في هذه الصلوات الثلاث: الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتان، فإن صلّى أربعاً مع العلم وجب عليه الإعادة.

وقال أبو حنيفة مثل قولنا: إلّا أنّه قال: إن زاد على ركعتين، فإن كان تشهّد في الثانية صحّت صلاته، وما زاد على اثنتين يكون نافلة، إلّاأن يأتم بمقيم فيصلي أربعاً فيكون الكلّ فريضة أسقط بها الفرض. ولعلّه أراد بالتشهد، ما هو المقرون بالسلام وإلّا فالركعة الثانية لا تنفك عن التشهّد.

والقول بأنّ التقصير عزيمة مذهب علي عليه السلام وعمر، وفي الفقهاء مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

وقال الشافعي: وهو بالخيار بين أن يصلّي صلاة السفر ركعتين وبين أن يصلّي صلاة الحضر أربعاً، فيسقط بذلك الفرض عنه.

وقال الشافعي: التقصير أفضل.

وقال المزني: والإتمام أفضل، وبمذهبه قال في الصحابة: عثمان وعبد اللّه بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعائشة، وفي الفقهاء: الأوزاعي وأبو ثور.(2)1.

ص: 161


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 205/5، باب صلاة المسافرين وقصرها من كتاب الصلاة برقم 8.
2- . الخلاف: 569/1، كتاب الصلاة، المسألة 321.

وهناك مَن يقول بأنّه يقصّر إلّاإذا نوى إقامة عشرة أيّام كما عليه الإمامية، إلى غير ذلك من المباحث الراجعة إلى صلاة المسافر، ونحن نركِّز على موضوع آخر وهو كون القصر عزيمة أو سنّة مؤكّدة أو رخصة.

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع فنقول:

ورد حكم صلاة المسافر في الكتاب العزيز، فقد قال سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) .(1)

تفسير مفردات الآية

1. الضرب في الأرض كناية عن السفر، أي إذا سرتم فيها فليس عليكم جناح - يعني: حرج - ولا إثم أن تقصروا من الصلاة - يعني: من عددها - فتصلّوا الرباعيات ركعتين.(2)

وبهذا أيضاً فسّر القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن».(3)

ويؤيّد ذلك استعمال الضرب في الأرض في غير واحدة من الآيات، كقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا) .(4)

وقال سبحانه: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ ) (5).

ص: 162


1- . النساء: 101.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 307/3.
3- . الجامع لأحكام القرآن: 351/5.
4- . النساء: 94.
5- . المائدة: 106.

وقال سبحانه: (إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا) (1).

2. وأمّا الجناح فهو بمعنى الإثم، وقد تضافر استعماله في الإثم في آيات كثيرة.

يقول سبحانه: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) .(2)

وقد ورد لفظة «جناح» في الكتاب العزيز 25 مرّة، والمقصود في الجميع هو ما ذكرنا.

3. إنّ قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) جزاء للشرط المتأخّر، فكأنّه قال سبحانه: «فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة».

4. المراد من القصر هو تخفيف عدد الركعات من أربع ركعات إلى ركعتين.

ثمّ إنّ الآية تخصّ القصر بالسفر المرافق للخوف، وظاهرها أنّ السفر ليس موضوعاً مستقلاً، بل الموضوع هو السفر المرافق للخوف، لكنّ السنّة فسّرت الآية وأعطت للسفر استقلالاً للتقصير.

فإنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يقصّر في حالتي الخوف والأمن - كما ستوافيك الروايات - وأمّا تعليق القصر على الخوف في الآية كأنّه كان لتقرير الحالة الواقعة؛ لأنّ غالب أسفار النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم تخلو منه.8.

ص: 163


1- . آل عمران: 156.
2- . البقرة: 158.

وبعبارة أُخرى: أنّ القيد في الآية قيد غالبي بالنسبة إلى الظروف التي نزلت الآية فيها، فمَن حاول أن يحصر التقصير بسفر الخوف دون سفر الأمن، فقد أخذ بظاهر الآية وترك السنّة النبوية واتّفاق المسلمين وفي مقدمهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين عرّفهم الرسول بكونهم أعدال القرآن وقرناء الكتاب.

ثمّ إنّ من زعم أنّ القصر رخصة تمسّك بظاهر الآية، وهو قوله سبحانه: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ، ولكنّه غفل عن أنّ هذا التعبير لا يدلّ على مقصوده، لأنّ الآية وردت في مقام رفع توهّم الحظر، فكأنّ المخاطب يتصوّر أنّ القصر إيجاد نقص في الصلاة وهو أمر محظور، فنزلت الآية لدفع هذا التوهّم، لتطيب النفس بالقصر وتطمئن إليه.(1)

وليس ذلك بغريب فقد ورد مثله في قوله سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) .(2)

روى الصدوق بإسناده عن زرارة ومحمد بن مسلم أنّهما قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي ؟ وكم هي ؟ فقال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ ) فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر» قالا: قلنا له:

إنّما قال اللّه عزّ وجلّ : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ولم يقل: افعلوا فكيف أوجب ذلك ؟ فقال عليه السلام: «أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ8.

ص: 164


1- . تفسير الكشّاف: 294/1، ط دار المعرفة.
2- . البقرة: 158.

اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) . ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وذكره اللّه في كتابه.(1)

إنّ المسلمين لمّا أرادوا الطواف بين الصفا والمروة في عمرة القضاء شاهدوا وجود الأصنام فوق الصفا والمروة، فتحرّج المسلمون من الطواف بينهما، فنزل قوله سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ ) .

يقول الطبرسي: كان على الصفا صنم يقال له: اساف وعلى المروة صنم يقال له: نائلة، وكان المشركون إذا مرّوا بهما مسحوهما، فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وهو منقول عن الشعبي وكثير من العلماء، فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرّجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف، كما لو كان الإنسان محبوساً في موضع لا يمكنه الصلاة إلّابالتوجّه إلى ما يكره التوجّه إليه من المخرج وغيره، فيقال له: لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان، فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة، لأنّ عين الصلاة واجبة وإنّما يرجع التوجّه إلى ذلك المكان.

ورويت رواية أُخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أُعيدت الأصنام، فجاءوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقيل له: إنّ فلاناً لم يَطُف وقد أُعيدت الأصنام، فنزلت هذه الآية (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) :

أي2.

ص: 165


1- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

والأصنام عليهما، قال: فكان الناس يسعون والأصنام على حالها.(1)

ويجري نفس هذا الكلام في المقام، فإنّ قصر الصلاة وتبديلها إلى ركعتين من الأُمور التي يتحرّج منه المسلم ويتصوّر أنّه ترك للفريضة، ففي هذه الظروف يقول سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ ) .

وعلى ضوء هذا فالآية لا تدلّ على العزيمة ولا على الرخصة، بل هي ساكتة عن هذا الجانب.

إلى هنا تبين أنّ الآية لا تدلّ على أحد الأقوال، فلا محيص من الرجوع إلى السنّة.

نعم ربما يظهر الوجوب بوجه آخر وهو:

أخرج مسلم عن يعلى بن أُميّة، قال: قلت لعمر بن الخطاب: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) (2) فقال:

عجبتُ ممّا عجبتَ منه، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟ قال: «صدقة منّ اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته».(3)

وربما: يقال إنّ المتصدّق عليه، لا يجب عليه قبول الصدقة.

وأجاب الشوكاني عن الاستدلال المذكور بقوله: إنّ الأمر بقبولها يدلّ على4.

ص: 166


1- . مجمع البيان: 240/1 في تفسير الآية.
2- . النساء: 101.
3- . شرح صحيح مسلم للنووي: 203/5 برقم 4.

أنّه لامحيص عنها، وهو المطلوب.(1)

وكان للشوكاني أن يرد على الاستدلال بوجه آخر أيضاً ويقول: إنّ قياس صدقة اللّه وهديته، على صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ المهدى إليه أو المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدِّق إنساناً مثله، وأمّا إذا كان المتصدِّق هو اللّه سبحانه فيجب قبولها، وذلك لأنّ صدقة اللّه أمر امتناني، وامتناناته سبحانه ليست أُموراً اعتباطية، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية، فحيث يعلم اللّه بأنّ المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان، يمنّ بها على العباد، فيصير القبول أمراً مفروضاً عليهم.

وربما يظهر من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّه يحرم رد صدقة اللّه، حيث قال الصادق عليه السلام: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه عزّوجلّ تصدّق على مرضى أُمّتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة أن تُرد عليه ؟!».(2)

ثمّ إنّ سيد مشايخنا السيد محمد الحجّة الكوهكمري قدس سره كان يستدلّ بالرواية على بطلان مَن صلّى تماماً عالماً بالحكم وصحّة مَن صلّى تماماً جاهلاً به قائلاً: بأنّ المصلّي في الصورة الأُولى يرد هدية المولى على الإطلاق وهو إهانة له، دون الصورة الأُخرى.

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة

دلّت السنّة المتضافرة المبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد على أنّ

ص: 167


1- . نيل الأوطار: 201/3.
2- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.

القصر عزيمة، وكان النبي يقصّر في عامّة أسفاره، فنذكر من ذلك الكثير ما يلي:

1. أخرج مسلم عن عائشة زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأُقرّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.(1)

قال الشوكاني: وهو دليل ناهض على الوجوب، لأنّ صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنّها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر.(2)

2. أخرج مسلم عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين فأقرّت صلاة السفر وأتمّت صلاة الحضر.

3. أخرج مسلم عن ابن عباس قال: فرض اللّه الصلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه و آله و سلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

4. أخرج مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألت ابن عباس كيف أُصلّي إذا كنت بمكّة إذا لم أُصلّ مع الإمام ؟

فقال: ركعتين، سنّة أبي القاسم.

5. أخرج مسلم عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلّى لنا الظهر ركعتين.

إلى أن قال: إنّي صحبت رسول اللّه في السفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، وصحبت عمر3.

ص: 168


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 201/5؛ وصحيح البخاري: 55/2، باب يَقصُر إذا خرج من موضعه من كتاب الصلاة.
2- . نيل الأوطار: 246/3.

فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، فقد قال اللّه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

6. أخرج مسلم عن أنس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلّى العصر بذي الحليفة ركعتين.

7. أخرج مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة ؟ فقال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك -(1) صلّى ركعتين. وظاهر الحديث أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يقصر ما لم يصل إلى ثلاثة فراسخ، وهذا على خلاف المشهور ولذلك قال النووي: هذا ليس على سبيل الاشتراط وإنّما وقع بحسب الحاجة - إلى أن قال: - وإنّما كان يسافر بعيداً من وقت المقصورة فتدركه على ثلاثة أميال أو أكثر أو نحو ذلك فيصلّيها حينئذٍ.

8. أخرج مسلم عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً، فصلّى ركعتين، فقلت له فقال:

رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له فقال: إنّما أفعل كما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يفعل.(2)

والحديث دالّ على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقصر في السفر دائماً، وإنّما الاختلاف في أنّ مبدأ القصر هو الخروج عن البلد كما جرى عليه عمر أو بعدن.

ص: 169


1- . المراد من «شعبة الشاك»، هو: أنّ التردّد في عبارة: «مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ» من شعبة أحد الرواة الموجودين في سند الرواية.
2- . صحيح مسلم: 142/2-145، باب صلاة المسافرين.

الخروج مسيرة ثمانية عشر ميلاً.

قال النووي: أمّا قوله: «قصر شرحبيل على رأس 17 ميلاً أو 18 ميلاً» فلا حجّة فيه، لأنّه تابعي فعل شيئاً يخالف الجمهور، أو يتأوّل على أنّها كانت في أثناء سفره لا أنّها غايته، وهذا التأويل ظاهر.(1) وقد مرّ كلامه أيضاً في الحديث المتقدّم.

وعلى كلّ تقدير فما هو موضع الخلاف، خارج عن إطار بحثنا.

9. أخرج مسلم عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة إلى مكّة فصلّى ركعتين ركعتين حتّى رجع، قلت: كم أقام بمكة ؟ قال:

عشراً.

ثمّ إنّ قصر النبي في مكّة مع إقامته فيها عشرة أيّام وإن كان يوافق بعض المذاهب لكنّه يخالف مذهب الإمام مالك، كما يخالف مذهب الإمامية، فإنّ نية العشرة قاطعة للسفر موجبة للإتمام، ولعلّ الإقامة لم تكن عشرة كاملة بالضبط بل كانت عشرة عرفية وربما تنقص عن العشرة التامّة.

هذه الأحاديث التسعة نقلها مسلم في صحيحه، ولنذكر ما ورد من روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

1. روى الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعاً؟ قال: «نعم».(2)

2. روى الصدوق أيضاً، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن صلّى في السفر أربعاً1.

ص: 170


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 201/5.
2- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.

فأنا إلى اللّه منه بريء».(1)

3. قال: وقال الصادق عليه السلام: «المتمّم في السفر كالمقصّر في الحضر».(2)

4. روى الكليني بسند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوماً صاموا حين أفطر وقصّر: عصاة، وقال: هم العصاة إلى يوم القيامة، وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا».(3)

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في أبواب صلاة المسافر عن كتاب وسائل الشيعة، وفيما ذكرنا من الأحاديث وما تقدّم في تفسير آية: (لا جُناحَ ) * غنى وكفاية.5.

ص: 171


1- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
2- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
3- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.

أحكام الصلاة

4. صلاة الخوف في الذكر الحكيم

الآية الأُولى:

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .(1)

المفردات

أسلحتهم: جمع السلاح، كخمار وأخمرة.

ص: 172


1- . النساء: 102.

وليأخذوا حذرهم: أخذ الحذر كناية عن شدّة الاحتراز عن العدو، بالاستعداد للدفاع.

التفسير

من أنواع الصلوات صلاة الخوف، وذكر العلّامة لها أربع صور.(1) والمهم هو بيان الصورة التي جاء ذكرها في الآية.

أقول: الآية قليلة النظير في القرآن، حيث إنّها من قبيل البيان بإيراد المثال لتكون أوضح في عين أنّها أوجز وأجمل.(2)

روى الطبرسي: نزلت الآية والنبي بعُسفان والمشركون بضجنان، فتواقفوا، فصلّى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه الظهر بتمام الركوع والسجود، فهمّ المشركون بأن يُغيروا عليهم، فقال بعضهم: إنّ لهم صلاة أُخرى أحبّ إليهم من هذه، يعنون صلاةَ العصر، فأنزل اللّه عليه هذه الآية، فصلّى بهم العصر صلاة الخوف.(3) ومن هذا الزمان شُرّعت صلاة الخوف.

ثمّ إنّ السنّة قد تضمّنت بيان كيفية صلاة الخوف، وبها يتّضح مضمون الآية.

روى الكليني بسند صحيح عن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن صلاة الخوف ؟ قال: يقوم الإمام وتجيء طائفة من أصحابه فيقومون خلفه، وطائفة بإزاء العدو، فيصلّي بهم الإمام ركعة، ثمّ يقوم ويقومون معه فيمثل قائماً ويصلّون هم الركعة الثانية، ثمّ يسلّم بعضهم على بعض، ثمّ ينصرفون فيقومون في مقام

ص: 173


1- . لاحظ: تذكرة الفقهاء: 422/4-435.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 62/5.
3- . مجمع البيان: 206/3.

أصحابهم ويجيء الآخرون فيقومون خلف الإمام فيصلّي بهم الركعة الثانية، ثمّ يجلس الإمام فيقومون هم فيصلّون ركعة أُخرى، ثم يسلّم عليهم فينصرفون بتسليمه.(1)

وظاهر الرواية أنّ الصلاة إذا كانت ثنائية كالظهرين والعشاء صلّى الإمام بالأُولى ركعة وقام إلى الثانية ويسكت. فينوي مَنْ خلفه الإنفراد واجباً، ويتمّون بركعة أُخرى، ثم يستقبلون العدو، وتأتي الفرقة الأُخرى، فيحرمون ويدخلون معه في ثانية الإمام وهي أولاهم، فإذا جلس الإمام للتشهد أطال، ونهض مَنْ خلفه فأتمّوا وجلسوا وتشهد الإمام بهم وسلّم.(2)

وهل العدو كان في جانب القبلة أو في خلافها؟ و الظاهر هو الثاني لقوله سبحانه في الآية: (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ) وعلى هذا فالآية متضمّنة بيان صورة واحدة دون الصور الباقية، وبما أنّ مهمتنا تفسير الآية، فلنقتصر على هذه الصورة.

قال سبحانه خطاباً للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: (وَ إِذا كُنْتَ ) أيّها الرسول (فِيهِمْ ) : أي بين المؤمنين، وبما أنّ الحكم ليس من خصائص النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فهذا الحكم حكم كلّ إمام في المقام (فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ ) يحتمل أُريد ذكر الإقامة أو الأذان معها، ويحتمل أيضاً أنّه أُريد الصلاة جماعة (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين العدو، يحرسون المصلّين خوفاً من اعتداء العدو، ثمّ إنّ هؤلاء الذين دخلوا الصلاة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُمروا بأخذ أسلحتهم في1.

ص: 174


1- . الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب صلاة الخوف والمطاردة، الحديث 4.
2- . شرائع الإسلام: 130/1.

حال الصلاة، كما يقول: (وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) ولا يدعوها وحدها، فيكونوا مستعدّين للقتال، واحتمال أنّ الأمر بأخذ السلاح راجع إلى الطائفة الحارسة، بعيد، وسيأتي في نفس الآية أنّ الطائفة الثانية إذا دخلوا في الصلاة في ثانية الإمام يأخذون أسلحتهم.

(فَإِذا سَجَدُوا) : أي المصلّون معك (فَلْيَكُونُوا) : أي الطائفة الحارسة (مِنْ وَرائِكُمْ ) : أي من خلفكم. يقول صاحب المنار: وأحوج ما يكون المصلّي للحراسة ساجداً لأنّه لا يرى حينئذٍ من يهمّ به، وعبّر بالسجود عن إتمام الصلاة؛ لأنّه آخر صلاة الطائفة الأُولى، ويجب حينئذٍ أن يكون الباقون مستعدّين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما صلّوا(1)، فعندئذٍ تصل نوبة الطائفة الحارسة حتى يصلّوا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وعندئذٍ تحرسهم الطائفة الأُولى مثل السابقين كما يقول: (وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ) لأنّ الحراسة عاقتهم عن الصلاة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم (وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ ) : أي التيقّظ والاحتراز من المخاوف (وَ أَسْلِحَتَهُمْ ) كما فعل الأوّلون.

فإن قلت: إنّ اللّه سبحانه أمر الطائفة الثانية بأمرين:

1. الأخذ بالحذر، 2. أخذ الأسلحة بخلاف الطائفة الأُولى فأمرهم بأخذ الأسلحة فقط.

قلت: إنّه سبحانه بيّن وجه الأمر بأخذ الأمرين بقوله: (وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) :

أي تمنّى الكافرون (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً ) : أي حملة (واحِدَةً ) وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح، وهذا هو السر لأمر5.

ص: 175


1- . تفسير المنار: 373/5.

الطائفة الثانية بالتيقّظ وأخذ السلاح.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورتين:

1. إذا أمطروا، فشقّ عليهم حمل السلاح كما يقول: (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) .

2. (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى ) بالجرح وغيره، ففي هاتين الحالتين لا جناح (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ) ، (وَ) مع ذلك (خُذُوا حِذْرَكُمْ ) : أي كونوا متيقّظين فإنّ العدو غير غافل، ثمّ إنّه سبحانه تطييباً لنفوس المسلمين يقول: (إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما رواه السيوطي عن أبي عياش الزرقي قال: «كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعُسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلّى بنا النبي صلى الله عليه و آله و سلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآية بين الظهر والعصر (وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ ) فحضرت، فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخذوا السلاح وصففنا خلفه صفين، إلى آخر ما ذكره».(1)

وجه النظر: أنّه لو صحّ ما ذكر كان اللازم على الطائفة الحارسة الوقوف أمام النبيّ والمصلّين ليدفعوا عنهم شرّ هجوم العدو عليهم حين الركوع والسجود.2.

ص: 176


1- . تفسير الدر المنثور: 659/2.

هذا فيما إذا كانت الصلاة ثنائية، وأمّا إذا كانت ثلاثية فالإمام بالخيار، إن شاء صلّى بالطائفة الأُولى ركعة وبالثانية ركعتين، وإن شاء بالعكس.(1)

صلاة الخوف ثنائيّة في السفر والحضر

ثمّ إنّ صلاة الخوف صلاة مقصورة، ولذلك عبّر المحقّق بلفظ ثنائية، وأراد رباعية المقصورة، روى الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: صلاة الخوف وصلاة السفر، تقصران جميعاً؟ قال: «نعم، وصلاة الخوف أحقّ أن تقصّر من صلاة السفر، لأنّ فيها خوفاً».(2)

والشاهد على ذلك أنّه لو كانت مقصورة في السفر كان اشتراط الخوف لغواً.

نعم شذّ قول الشيخ الطوسي حيث شرط في القصر الجماعة للآية، لكن إطلاق الصحيحة يخالفه، إذ لم يُقيد بالجماعة.

الآية الثانية:

اشارة

قال سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) .(3)

ص: 177


1- . شرائع الإسلام: 129/1-130.
2- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الخوف والمطاردة، الحديث 1.
3- . النساء: 103.
ذكر اللّه بعد إقامة الصلاة

الآية خطاب لمَن صلّى صلاة الخوف وتفرض عليهم أن لا ينسوا ذكر اللّه بعد أداء الصلاة بل يذكرونه في عامّة الحالات، قائمين، قاعدين، مضطجعين، ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب، يقول سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ ) : أي فرغتم من صلاة الخوف أيّها المؤمنون وأنتم في نفس الموقف لا تنسوا ذكر اللّه (فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ ) ، ولعل قوله: (جُنُوبِكُمْ ) كناية عن الحالات الثلاث بعد ترك القعود، وهي وضع الجنب على الأرض يميناً أو يساراً وحال الاستلقاء أيضاً لعدم الخصوصية.

ثمّ إنّه سبحانه يحدّد صلاة الخوف بظروف خاصّة وهي فيما لو اشتدت الأزمة وخيف من هجوم العدو ولم تطمئن القلوب آنذاك، وأمّا إذا زال الخوف وحصلت الطمأنينة فعند ذلك يتمّون الصلاة، يقول سبحانه: (فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ ) :

أي زال الخوف... وبما أنّه يقابل قوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ ) (1)فأُريد به الرجوع إلى الأوطان أو ترك العدو المعركة ولم يكن هناك سبب للتقصير كأن يكونوا قريبين من الوطن فالواجب عليهم ما يقوله: (فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ ) : أي أتموها (إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ، فقوله: (مَوْقُوتاً) يحتمل وجهين:

1. أي فريضة مؤقّتة منجّمة تؤدّى في أوقاتها ونجومها.

2. أي موجوداً مفروضاً لا يسقط بحال حتى وجبت في الخوف والوجل، وأُمر الناس بإقامتها على وضع خاص، ما هذا إلّالأنّ الصلاة واجبة لا تسقط أبداً، وليس كالصوم حيث يسقط بالفدية.

ص: 178


1- . النساء: 101.

أحكام الصلاة

5. صلاة المطاردة في الذكر الحكيم

اشارة

قال سبحانه: (حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

قانتين: أي مطيعين، أو عابدين.

فرجالاً: الرجال: جمع راجل، وهو الكائن على رجله، واقفاً كان أو ماشياً.

ركباناً: جمع راكب كالفرسان جمع فارس، وكلّ شيء علا شيئاً فقد ركبه.(2)

التفسير

الآية ناظرة إلى صورة شدّة الخوف، وذلك عند التحام القتال وعدم التمكّن من تركه لأحد، أو اشتدّ الخوف وإن لم يلتحم القتال، فلم يأمنوا أن يهجموا عليهم

ص: 179


1- . البقرة: 238-239.
2- . مجمع البيان: 166/2.

لو ولّوا عنهم أو انقسموا، فيصلّون رجالاً ومشاةً على الأقدام وركباناً مستقبلي القبلة واجباً مع التمكّن، وغير مستقبليها مع عدمه على حسب الإمكان. فإن تمكّنوا من استيفاء الركوع والسجود، وجب، وإلّا أومأوا لركوعهم وسجودهم، ويكون السجود أخفض من الركوع. ولو تمكّنوا من أحدهما، وجب، ويتقدّمون ويتأخرون، لقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ ) : أي يمكنكم أن تقوموا قانتين موفين الصلاة حقّها لخوف عرض لكم (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً...) . وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها».(1)

وقال الفاضل المقداد: الخوف إذا انتهى إلى حال لا يمكن معه الاستقرار وإيقاع الأفعال، بل إلى المسايفة والمعانقة، صلّى الناس فرادى بحسب إمكانهم.(2)

إذا عُلم ذلك فلندخل في تفسير الآية.

والآية تؤكّد على المحافظة على الصلاة وأنّها لا تسقط بحال، حتى الخوف من العدو واللص والسبع، فيصلّى مهما أمكن، كما يقول: (فَإِنْ خِفْتُمْ ) من العدو وغيره (ف) صلّوا (رجالا): أي راجلين أو على أرجلكم (أَوْ رُكْباناً) على ظهور دوابكم، والآية إشارة إلى صلاة الخوف من العدو وهي ركعتان في السفر والحضر، إلّاالمغرب فإنّه ثلاث ركعات.

روى الطبرسي: أنّ عليّاً صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء، وقيل1.

ص: 180


1- . صحيح البخاري: 38/6؛ تذكرة الفقهاء: 435/4.
2- . كنز العرفان: 188/1.

بالتكبير، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم صلّى يوم الأحزاب إيماءً .(1)

هذا كلّه إذا ساد الخوف، وأمّا في حالة الأمن فيصلون حسب ما تعلّموا، يقول تعالى: (فَإِذا أَمِنْتُمْ ) من العدو وغيره، (فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ) : أي صلّوا على السنّة المعروفة في الأمن بإتمام القيام والاستقبال فالركوع والسجود.2.

ص: 181


1- . مجمع البيان: 166/2.

أحكام الصلاة

6. صلاة الجمعة في الذكر الحكيم

الآية الأُولى

اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

الجمعة: - بضمّتين - والجمعة - بضمّة - لغتان، وجمعهما جُمَع وجُمَعات، وضمّ الميم لغة جمهور العرب، وسكونها لغة عُقيل.

نودي: بصيغة المجهول فهو كناية عن عدم اختصاص النداء بمناد خاص، بل في كلّ زمان قام إنسان بالنداء مع اجتماع سائر شرائطه يجب على المكلّف السعي إليها.

ص: 182


1- . الجمعة: 9.

فاسعوا: السعي: المشي السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجدّ في الأمر، خيراً كان أم شراً، قال تعالى: (وَ سَعى فِي خَرابِها) (1).

والظاهر أنّه كناية عن الاهتمام بالوصول إلى محل النداء، بترك ما بيده من الأُمور، وأمّا تفسيره بالإسراع دون العدو فهو مخالف لما روي من استحباب السكينة والوقار إلّامع ضيق الوقت وخوف فوت الصلاة، فلا يبعد الإسراع حينئذٍ.(2)

ويؤيّد ما ذكرنا ما روي من أنّ عبد اللّه بن مسعود قرأ: «فامضوا إلى ذكر اللّه».(3)

ذكر اللّه: أُريد به صلاة الجمعة بقرينة الآية التالية: (وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .(4)

وتفسير الذكر برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غير تام، إذ لم يُعهد استعماله فيه، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ ) (5).

فإن قلت: جاءت كلمة «رسولاً» بعد قوله: «ذكراً» في الآيتين التاليتين، قال تعالى:

(فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا9.

ص: 183


1- . البقرة: 114.
2- . بحار الأنوار: 150/89.
3- . تفسير الكشّاف: 231/3، تفسير سورة الجمعة.
4- . الجمعة: 10.
5- . المنافقون: 9.

عَلَيْكُمْ آياتِ اَللّهِ مُبَيِّناتٍ ) (1) .

قلت: الظاهر أنّ رسولاً مفعول لفعل محذوف، أي: أرسل رسولاً يتلو عليكم آياته،... على أنّه لو سلمنا كونه المراد في الآية لكان لوجود القرينة دون المقام.

التفسير

يخاطب اللّه سبحانه المجتمع الإيماني بقوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) فيكون دليلاً على أنّ ما سيأتي فريضة عامّة للمؤمنين جمعاء، ثم يقول: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ ) فاستخدام صيغة المجهول (نُودِيَ ) كناية عن عدم اختصاص النداء بمناد خاصّ كما مرّ في تفسير المفردات، بل في كلّ زمان قام إنسان بالنداء مع اجتماع سائر شرائطه يجب السعي إليها. ثم رتّب على النداء قوله: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ) : أي امشوا إليها مشياً سريعاً وذروا كلّ ما يلهيكم عن ذكر اللّه، وذكر البيع من باب المثال الغالب.

ثمّ أشار إلى ما في تلك الفريضة من الخير والبركة بقوله: (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

الآية الثانية

اشارة

قوله تعالى: (فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2).

ص: 184


1- . الطلاق: 10-11.
2- . الجمعة: 10.
المفردات

قضيت: بمعنى الفراغ عن الصلاة.

فضل اللّه: هو ابتغاء أسباب المعاش بقرينة النهي في الآية السابقة عن البيع.

والأمر في (اِبْتَغُوا) ليس للإيجاب، بل لرفع الحظر المستفاد من قوله: (وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ) .

وقد ثبت في الأُصول أنّ الأمر بعد الحظر أو بعد توهّمه بمعنى رفع الحظر السابق.

التفسير

قوله تعالى: (فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ ) : أي إذا صلّيتم الجمعة وفرغتم منها (فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ ) : أي تفرّقوا (وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ ) : أي الرزق في البيع والشراء وغير ذلك.

وفي الوقت نفسه (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً) : أي غير منكبّين على طلب المال والرزق؛ بل تطلبونه بذكر اللّه كثيراً (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فإنّ الفلاح هو في الجمع بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، والآية دليل على وجوب رعاية التوازن بين طلب الدنيا والآخرة.

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أقام صلاة الجمعة لأوّل مرّة في مسيره من قبا إلى المدينة، قال ابن هشام: فأدرك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الجمعة في «بني سالم بن عوف» فصلّاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أوّل جمعة صلّاها بالمدينة.(1)

ص: 185


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 494/1، طبع مطبعة الحلبي.

2. نقل الطبرسي الخطبة التي خطبها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيها: قال: «الحمد للّه أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور...».(1)

ونقل في الوسائل: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب يوم الجمعة وقال: «إنّ اللّه تعالى فرض عليكم الجمعة، فمَن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع اللّه شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا بر له، حتى يتوب».(2)

الآية الثالثة

اشارة

قوله تعالى: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجارَةِ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ ) .(3)

المفردات

انفضوا: من الانفضاض من باب الانفعال، مطاوع فضّه، إذا فرّقه فتفرّق، نظير قولهم: كسرته فانكسر.

اللهو: ما يلهي الإنسان، وأُريد هنا ضرب الطبل.

إليها: الضمير يرجع إلى التجارة.

ص: 186


1- . مجمع البيان: 432/9.
2- . الوسائل: 3، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 28.
3- . الجمعة: 11.
التفسير

اتّفق المفسّرون على أنّ الآية نزلت في عير وردت المدينة بضرب الطبل والنبي صلى الله عليه و آله و سلم يخطب فترك المصلّون المسجد متوجّهين إلى التجارة واللهو.

روى البخاري عن جابر بن عبد اللّه قال: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فثار الناس إلّااثنا عشر رجلاً، فأنزل اللّه: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً) .(1)

قيل: كان للتجّار الواردين إلى المدينة طبل يضربونه إذا وردوا فيها لإخبار الناس، فكانوا إذا سمعوا صوت الطبل تركوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قائماً في الصلاة أو الخطبة وذهبوا إليها إمّا للمسارعة إلى التجارة لئلّا يفوتهم الربح، وإمّا لمحض الطبل والصوت، فنزل قوله سبحانه: (وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ ) يعني يرزق من غير أن يسرع إلى التجارة.(2)

ثمّ إنّه سبحانه أمر نبيّه بتذكير المؤمنين بأنّ ما عند اللّه خير من التجارة التي انفضّوا إليها، قائلاً: (قُلْ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجارَةِ ) فإن كان الانفضاض وترك النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو يخطب، لأجل الرزق (وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ ) .

وقت صلاة الجمعة بدءاً ونهاية

وقت صلاة الجمعة وقت الظهر يوم الجمعة خاصّة وقت زوال الشمس، وهذا هو المشهور، فلا تصحّ الركعتان قبل الزوال. إنّما الكلام في مبدأ وقتها، فهل

ص: 187


1- . صحيح البخاري، برقم 4899، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الجمعة.
2- . الوافي: 1080/8.

يكفي وصول الشمس إلى دائرة نصف النهار ولو لم تزل عنها؟

المشهور عدم الجواز، بل يشترط زوالها عن الدائرة؛ ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يصلّي الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك، ويخطب في الظلّ الأوّل، فيقول جبرئيل: يا محمد صلى الله عليه و آله و سلم قد زالت الشمس، فأنزل فصلّ ، وإنّما جعلت الجمعة ركعتين، من أجل الخطبتين.

فهي صلاة حتّى ينزل الإمام».(1)

والشراك هو قطعة من الجلد تكون في أعلى النعل تربط من الجانبين لتوثق به القدم.

ويدلّ عليه ما ورد في «كنز العمال»: «انقطع شراك نعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوصله بشيء جديد فجعل ينظر إليه...».(2)

وروى الطبرسي: عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «إنّ الرجل ليعجبه شراك نعله، فيدخل في هذه الآية (تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ ) »(3).

وعلى هذا يكفي أن تكون الشمس قد زالت عن الدائرة بمقدار أقل من الشبر.

وقال الطريحي: تصلّى الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك، يعني: إذا استبان الفيّ في أصل الحائط من الجانب الشرقي عند الزوال، فصار في رؤيةص.

ص: 188


1- . الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4. والمراد من الظلّ الأول، ظلّ قبل الزوال كما في «ملاذ الأخيار» للمجلسي، والحديث يدلّ على جواز تقديم الخطبتين على الزوال.
2- . كنزالعمال: 526/7، برقم 20085.
3- . مجمع البيان: 491/7، والآية 83 من سورة القصص.

العين قدر الشراك، وهذا أقلّ ما يعلم به الزوال.(1) بل يعلم الزوال بأقلّ من ذلك بالآلات الحديثة.

آخر وقت صلاة الجمعة

إنّما الكلام في آخر الوقت، فيعلم بملاحظة ما ورد في وقت نافلة الظهر والعصر المشهور أنّ وقت نافلة الظهر من الزوال إلى الذراع والعصر إلى الذراعين، أي سبعي الشاخص وأربعة أصابعه، فإذا خرج وقت نافلة الظهر دخل وقت فضيلة الظهر، كما أنّه إذا خرج وقت نافلة العصر دخل وقت فضيلة العصر.

إذا علم ذلك فاعلم أنّه قد تضافرت الروايات على أنّ وقت صلاة الجمعة محدّد بمقدار نافلة الظهر - أعني: الذراعين أو سبعي الشاخص - وبعبارة أُخرى:

إذا دخل وقت فضيلة الظهر يخرج وقت صلاة الجمعة.

ويدلّ عليه الروايات المتضافرة التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثامن من أبواب صلاة الجمعة نأتي بقسم منها:

1. ما رواه الكليني عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ من الأشياء أشياء موسّعة وأشياء مضيّقة، فالصلاة ممّا وسّع فيه، تُقدّم مرّة وتؤخّر أُخرى، والجمعة ممّا ضيّق فيها، فإنّ وقتها يوم الجمعة ساعة تزول، ووقت العصر فيها وقت الظهر في غيرها».(2) فإذا زالت الشمس بمقدار الذراعين هو وقت الظهر في غير يوم الجمعة، وفي الوقت نفسه هو وقت صلاة العصر في يومها.

ص: 189


1- . مجمع البحرين: 276/5، مادة «شرك».
2- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.

2. ما رواه أيضاً الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «إنّ من الأُمور أُموراً مضيّقة وأُموراً موسّعة، وإنّ الوقت وقتان، والصلاة ممّا فيه السعة، فربما عجّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وربما أخّر إلّاصلاة الجمعة، فإنّ صلاة الجمعة من الأمر المضيّق، إنّما لها وقت واحد حين تزول، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيّام».(1)

3. ما رواه الشيخ عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا صلاة نصف النهار إلّايوم الجمعة».(2)

والرواية تشير إلى أنّ المصلّي في غير الجمعة يتنفّل عند الزوال ولكنّه في هذا الوقت يصلّي الفريضة يوم الجمعة، وقد جاء هذا المضمون في الرواية السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة من الباب المذكور.

وممّا يدلّ على خروج وقت صلاة الجمعة بانتهاء وقت نافلة الظهر ما رواه الصدوق عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «وقت الجمعة زوال الشمس، ووقت صلاة الظهر في السفر زوال الشمس (لسقوط النافلة في السفر)، ووقت العصر يوم الجمعة في الحضر نحو من وقت الظهر في غير يوم الجمعة».(3)

ومن المعلوم أنّ وقت الظهر من غير يوم الجمعة عند صيرورة الظل ذراعين، وهذا الحدّ في يوم الجمعة وقت صلاتها.

وبالجملة فالروايات الواردة في هذا الباب تناهز إحدى وعشرين رواية1.

ص: 190


1- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 3.
2- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 6.
3- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 11.

تدلّ على أُمور:

1. إنّ أوّل وقتها هو زوال الشمس.

2. إنّ آخر وقتها أوّل وقت فضيلة الظهر في غير يوم الجمعة، بمعنى أنّه يخرج بصيرورة الظل ذراعين.

3. إنّ لازم إقامة الجمعة بالزوال جواز تقديم الخطبتين عليه، وقد مرّ في رواية عبد اللّه بن سنان أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يخطب في الظل الأوّل، وقد مرّ تفسير الظل الأوّل بالظلّ الموجود في جانب الشرق فما لم تصل الشمس إلى دائرة نصف النهار يُسمّى بالظلّ الأوّل، فإذا رجع الظلّ إلى جانب الشرق ثانياً يُسمّى فيئاً أو ظلاً ثانياً.

فإن قلنا بذلك فهو، وإلّا فيمكن أن يقال: ما تضافر من الروايات من أنّ وقت صلاة الجمعة هو الظهر أُريد به الصلاة مع خطبتيها، ولعلّ الوجه الثاني أفضل. فعلى الإمام إذا زالت الشمس بمقدار الشراك أن يخطب.

وعلى هذا فعلى أئمّة الجمعة الانتباه حتى لا تقع الصلاة بعد الذراعين، ولعلّه لما ذكرنا كانت الخطب المروية عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والوصي عليه السلام خطباً قصيرة ليست بالطويلة. واللّه العالم.

كيفية صلاة الجمعة

وهي: ركعتان كصلاة الصبح، ويستحب أن يقرأ في الركعة الأُولى سورة الجمعة وفي الثانية المنافقون، بعد الحمد في كلّ من الركعتين.

وفي الجمعة خطبتان يأتي بهما الإمام قبل الصلاة، وفيها قنوتان: أحدهما

ص: 191

قبل ركوع الركعة الأُولى، والثاني بعد ركوع الركعة الثانية، إجماعاً وسنة.(1)

فلسفة كون الخطبتين قبل الصلاة

ورد في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: «إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة في أوّل الصلاة وجعلت في العيدين بعد الصلاة؛ لأنّ الجمعة أمر دائم وتكون في الشهر مراراً وفي السنة كثيراً، وإذا كثر ذلك على الناس ملّوا وتركوا ولم يقيموا عليه وتفرّقوا عنه، فجعلت قبل الصلاة ليحتبسوا على الصلاة ولا يتفرّقوا ولا يذهبوا، وأمّا العيدين فإنّما هو في السنة مرّتين، وهو أعظم من الجمعة...».(2)

قال الزمخشري: وروي عن بعضهم: قد أبطل اللّه قول اليهود في ثلاث:

1. افتخروا بأنّهم أولياء اللّه وأحباؤه، فكذّبهم في قوله: (فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (3).

2. افتخروا بأنّهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبّههم بالحمار يحمل أسفاراً.

3. افتخروا بالسبت، وأنّه ليس للمسلمين مثله، فشرّع اللّه لهم الجمعة.(4)

حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة

اشارة

اختلفت كلمة الأصحاب في حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة، ونشير

ص: 192


1- . لاحظ: الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، أحاديث الباب.
2- . الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4.
3- . الجمعة: 6.
4- . تفسير الكشّاف: 231/3، تفسير سورة الجمعة.

إلى المهمّ من الأقوال:

[القول] الأوّل: القول بالتحريم
اشارة

نسب إلى جماعة من أصحابنا تحريم صلاة الجمعة في عصر الغيبة، واستظهروه من كلامهم من اشتراط إقامة صلاة الجمعة بوجود الإمام الأصل أو مَن نصبه، ونشير إلى بعض من وقفنا على كلامه:

1. قال سلّار في مراسمه: صلاة الجمعة فرض مع حضور إمام الأصل، أو مَن يقوم مقامه، واجتماع خمسة نفر فصاعداً، الإمام أحدهم.(1)

2. قال الشيخ علاء الدين أبو الحسن الحلبي في (كتاب الصلاة) في «إشارة السبق»: وتجب صلاة الجمعة إذا تكاملت شروطها، فمنها ما يخصّها وهي حضور إمام الأصل، أو مَن نصبه وناب عنه لأهليته وكمال خصاله المعتبرة.(2)

3. قال ابن إدريس: صلاة الجمعة فريضة على مَن لم يكن معذوراً بما سنذكره من الأعذار بشروط، أحدها حضور الإمام العادل أو مَن نصبه للصلاة، اجتماع خمسة نفر فصاعداً، الإمام أحدهم على الصحيح من المذهب.(3)

4. قال العلّامة في «المنتهى »: ويشترط في الجمعة الإمام العادل أي المعصوم عندنا أو إذنه، أمّا اشتراط الإمام أو إذنه فهو مذهب علمائنا أجمع.(4) فلو أُريد من إذنه، المنصوبُ للإمامة فيكون موافقاً لما ذهب إليه الأعلام الثلاثة، ولو

ص: 193


1- . المراسم العلوية: 77.
2- . إشارة السبق: 97.
3- . السرائر: 290/1.
4- . منتهى المطلب: 334/5 (الطبعة المحقّقة).

أراد من قوله: «من إذنه» الإذن العام، فهو قول آخر.

ونقل المحدّث البحراني القول بالتحريم عن ظاهر المرتضى في أجوبة المسائل «الميافارقيات، والعلّامة في جهاد التحرير، والشهيد في الذكرى .(1)

أقول: القول بالتحريم قول شاذّ بين القدماء، نعم حُكي عن بعض المتأخّرين. وقال في «مفتاح الكرامة»: وأمّا القول الثاني: وهو التحريم؛ فهو خيرة «السرائر» و «المراسم» في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال:

ولفقهاء الطائفة أن يصلّوا بالناس في الأعياد والاستسقاء، وأمّا الجُمع فلا، و «رسالة» الشيخ إبراهيم القطيفي المعاصر لمولانا الكركيّ و «رسالة» الشيخ سليمان ابن أبي ظبية، وقوّاه في صلاة «المنتهى» في آخر البحث، وجهاد «التحرير»، وجعله في جهاد «السرائر» أظهر، وفي «كشف الرموز» أشبه، وفي «كشف اللثام» أقوى، وجعله في «رياض المسائل» قويّاً، واستظهره في «المقاصد العلية» من «الألفية». وعن الكيدري: إنّه أحوط، ونقله في «مصابيح الظلام» عن الطبرسيّ والتونيّ ، وقد يلوح من «جملي علم الهدى والشيخ» و «الوسيلة» وكذا «الغنيّة» المنع.(2)

إنّ القول بتحريم صلاة الجمعة في حال الغيبة أمر غريب جدّاً؛ وذلك لأنّه لو قيل بأنّ جوازها مشروط بالإمام الأصل أو مَن نصبه للإمامة، فلابدّ أن يُراد من الشرط الإمام الموصوف ببسط اليد، حيث يقيمها بنفسه وينصب النواب لإقامتها في سائر البلدان، دون الإمام المحدود من جانب الأعداء الذي ربما يقتدي بالإمام5.

ص: 194


1- . الحدائق الناضرة: 436/9.
2- . مفتاح الكرامة: 1003/5.

الجائر أو يأمر شيعته بالاقتداء حفظاً للدماء، فإذا كان الشرط - عند القائلين - الإمام المقتدر، يلزم أن يكون تشريع وجوب صلاة الجمعة محدّداً بعصر الرسالة وزمناً قليلاً من إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وشهوراً من زمن إمامة الإمام الحسن عليه السلام. وهذا - تحديد الوجوب بزمان قليل - لا يقبله العقل الحصيف لوجوه:

1. إذ كيف يصحّ لفقيه حصر وجوب صلاة نزلت في حقّها سورة كاملة، بسنين معدودة ؟!

2. إذا كان التشريع في الحقيقة محدوداً بزمن قليل، فما معنى التأكيد المتضافر في نفس الآيات، أعني قوله: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ ) ؟ فإنّ التعبير بالسعي أبلغ تعبير لبيان الاهتمام، كما أنّ وصف صلاة الجمعة بذكر اللّه، تأكيد آخر.

3. قوله تعالى: (وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ) فترك البيع كناية عن ترك كلّ ما يمتّ للدنيا بصلة، والحضور في الصلاة.

4. قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) إذ فيه تشويق إلى الجمعة وتوبيخ لمن تركها.

5. قوله تعالى: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) فإنّه توبيخ وذم لمن رجّح التجارة أو اللهو على ذكر اللّه.

6. أنّ الإمام يقرأ في الركعة الثانية سورة «المنافقون» وفيها قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ

ص: 195

فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ ) (1) . فاللّه سبحانه يصف مَن ألهته الأُمور الدنيوية عن ذكر اللّه، بالخسران.

7. الأحاديث الحاثّة على الاهتمام بصلاة الجمعة المذكورة في الوسائل وغيرها.(2) وسيوافيك قسم منها.

فتخصيص جميع ما ذكر بفترة محدّدة لا يقبله الذوق الفقهي.

أدلّة القائلين بشرطية الإمام المعصوم
اشارة

لا شكّ أنّ الأصل في العبادة، هو التحريم إذا لم يرد فيها الإذن، فالأصل مع القائلين بالتحريم إلّاإذا ثبت الإذن بإقامتها.

ثمّ إنّ القائلين بالحرمة في حال الغيبة قالوا بشرطية الإمام الأصل أو مَن نصبه، مستدلّين بروايات نذكرها تباعاً:

1. دعاء الإمام السجاد عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة:

«اللّهمّ إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أُمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها وأنت المقدّر لذلك لا يُغالب أمرُك ولا يُجاوز المحتومُ من تدبيرك كيف شئت وأنّى شئت، ولما أنت أعلم به غير متّهم على خلقك ولا لإرادتك، حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلاً، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيّك متروكة، اللّهم العن أعداءهم من الأوّلين والآخرين، ومَن

ص: 196


1- . المنافقون: 9.
2- . لاحظ: الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، روايات الباب.

رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم. اللّهم صل على محمد وآل محمد إنّك حميد مجيد كصلواتك وبركاتك وتحياتك على أصفيائك إبراهيم وآل إبراهيم، وعجلّ الفرج والرّوح والنصرة والتمكين والتأييد لهم».(1)

وجه الاستدلال: أنّ المشار إليه في قوله: «إنّ هذا المقام» هو مقام صلاتي الأضحى والجمعة، فهو لخلفاء اللّه تعالى.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ من المحتمل أنّ المشار إليه «هذا المقام» هو مقام الإمامة والرئاسة الدينية التي من مظاهرها إقامة صلاتي الجمعة والعيدين، بشهادة قوله: «حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة».(2)

وثانياً: تنديد الإمام عليه السلام إنّما هو لجماعة يقيمون صلاتي الجمعة والأضحى بعنوان الإمامة والخلافة، وبذلك اغتصبوا مقام صفوة أولياء اللّه، فإنّ إقامتهما بهذا العنوان من خصائصهم. وأمّا مَن أقامهما لا بهذا العنوان بل أقامهما بما أنّه من شيعة الإمام إجابة لقوله سبحانه: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ ) أو لقوله في أوّل الدعاء: «اللّهمّ إنّ هذا يوم مبارك ميمون، والمسلمون فيه مجتمعون في أقطار أرضك، يشهد السائل منهم الطالب والراغب والراهب وأنت الناظر في حوائجهم...». فلا يشمله تنديد الإمام وإنذاره.

وما ذكرناه ضابطة كلّية في كلّ ما يمتّ للإمامة بصلة، فلو أخذ أحد9.

ص: 197


1- . الصحيفة السجادية، الدعاء رقم 48. ابتزّ منه الشيء: سلبه قهراً.
2- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 443/9.

الفرائض المالية بما أنّه إمام الأُمّة وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فهذا حرام، وأمّا إذا أخذها الفقيه بما أنّه من شيعة الإمام عليه السلام عملاً بقوله سبحانه: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى ) (1).

وحصيلة الكلام: أنّ كلام الإمام عليه السلام ناظر إلى مَن يزاحمونهم في هذا المقام ويسلبون حقوقهم عنهم، وأمّا مَن كان مطيعاً لأمرهم ونهيهم وأقام الصلاة بهذا العنوان، فكلام الإمام عليه السلام منصرف عنه.

2. كان زرارة تاركاً لصلاة الجمعة

ما رواه الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: حثّنا أبو عبد اللّه عليه السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يُريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك ؟ فقال: «لا، إنّما عنيت عندكم».(2)

وجه الاستدلال: أنّه لو كان زرارة ممّن يصلّي صلاة الجمعة، لم يكن معنى للحثّ عليها، ولذكّره بأنّي أُصلّيها.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ القول بأنّ زرارة لم يكن يصلّي صلاة الجمعة، مخالف لما ذكره وليد هذا البيت الرفيع، غالب الزراري في ترجمة جدّه، قال: إنّ زرارة كان وسيماً جسيماً، وكان يخرج إلى الجمعة وعلى رأسه برنس أسود وبين عينيه سجادة وفي يده عصا، فيقوم له الناس سماطين، ينظرون إليه لحسن هيئته، وربما رجع عن طريقه، وكان خصماً جدلاً، لا يقوم أحد لحجّته، إلّاأنّ العبادة

ص: 198


1- . الأنفال: 41.
2- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.

أشغلته عن الكلام، والمتكلّمون من الشيعة تلاميذه».(1)

وثانياً: كيف يمكن القول بأنّ زرارة كان تاركاً لصلاة الجمعة مع أنّه يروي روايات عديدة عن الباقر عليه السلام ممّا يدلّ على وجوب صلاة الجمعة عيناً، وكفى في ذلك ما رواه في الوسائل في الباب الأوّل، برقم 1 و 8 و في الباب الثاني برقم 2 و 4. ونقتصر بذكر رواية واحدة وهي عن أبي جعفر عليه السلام: «فرض اللّه عزّ وجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللّه عزّ وجلّ في جماعة، وهي الجمعة؛ ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومَن كان على رأس فرسخين».(2)

وثالثاً: أنّ زرارة كان يقيم الجمعة مع صلاة الآخرين، فحثّه الإمام على إقامة الجمعة بين أبناء الشيعة، وهو إمّا إذن خاص لزرارة، أو إذن عام للشيعة يعمّ الحضور وأيام الغيبة.

فإن قلت: قد ظهر مفاد حديث زرارة، فما هو مفاد حديث عبد الملك:

روى زرارة عن عبد الملك، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: «مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها اللّه». قال: قلت: كيف أصنع ؟ قال: «صلّوا جماعة» يعني صلاة الجمعة.(3)

قلت: الظاهر أنّ عبد الملك لم يكن يشارك في صلاة المخالفين، فوبّخه2.

ص: 199


1- . رسالة أبي غالب الزراري: 27-28.
2- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2.

الإمام بأنّه يمكنه أن يقيم صلاة الجمعة بين أصحابه، والرواية كالسابقة إمّا إذن خاص له، أو إذن عام للشيعة بأن يقيموا صلاة الجمعة، وفي بعض الروايات: «فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم».(1) والتقييد بعدم الخوف؛ لأنّ إقامتها في تلك الظروف بلا إذن من الحكام كان يعدّ خروجاً عليهم كما سيوافيك.

3. إذن الإمام لترك صلاة الجمعة في يوم اجتمع فيه عيدان

خبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: «إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنّه ينبغي للإمام أن يقول للناس في خطبته الأُولى: إنّه قد اجتمع لكم عيدان فأنا أُصلّيهما جميعاً، فمَن كان مكانه قاصياً فأحبّ أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له».(2)

وجه الاستدلال: أنّ الإذن في ترك صلاة الجمعة للإمام المعصوم، إذا أدرك صلاة الأضحى أو صلاة الفطر، وأنّ له أن يأذن في تركها إذا رأى مصلحة في ذلك، وهذا يدلّ على كون إقامتها حقّاً له.

يلاحظ عليه: أنّ القائل وإن كان الإمام المعصوم، ولكنّه إخبار عن تشريع عام لأئمة الجمعة جمعاء، فقوله: «ينبغي للإمام أن يقول للناس» أُريد به مطلق مقيم الجمعة، ولا يُريد نفسه. وبذلك عُلم أنّ الإذن في الترك بما أنّه حكم شرعي ليس من شؤون الإمام المعصوم، بل من شؤون إمام الجمعة وإن لم يكن معصوماً.

ثمّ إنّ الرواية بحاجة إلى توجيه؛ لأنّ التشريع بيد اللّه سبحانه ومن مراتب

ص: 200


1- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4.
2- . الوسائل: 5، الباب 16 من أبواب صلاة العيد، الحديث 3.

التوحيد، التوحيد في التشريع، فليس على الإمام على الإطلاق أن يتدخّل في التشريع، بأن يأذن بترك الفريضة، وعلى هذا فلا محيص أن يقال: لمّا كان الحكم الشرعي في حقّ من كان مكانه قاصياً، له أن يُشارك في الصلاة الأُولى ويترك الصلاة الأُخرى، بيّن الإمام هذا الحكم الشرعي في تعبير عاطفي لطيف كماترى.

4. قولهم عليهم السلام لنا الجمعة

ما في «الجواهر» عن رسالة الفاضل بن عصفور عنهم عليهم السلام: «لنا الخمس، ولنا الأنفال، ولنا الجمعة، ولنا صفو المال».(1)

يلاحظ عليه: مع أنّه لم نعثر على سنده، بأنّه على خلاف المطلوب أدلّ ؛ لأنّ الخمس غير مشروط بحضور الإمام، مع أنّه ذكر مع الجمعة والأنفال وصفو المال.

5. الاستدلال بروايات ضعاف

ومنها:

أ. ما في «الجواهر» أيضاً عن النبوي المشهور: «أربع للولاة: الفيء، والصدقات، والجمعة».(2)

يلاحظ عليه: بما تقدّم فقد أُريد من الصدقات الزكوات، وهي غير مشروطة بحضور الإمام عليه السلام.

ب. ما في «الجواهر» عن رسالة الفاضل بن عصفور، روى مرسلاً

ص: 201


1- . جواهر الكلام: 158/11.
2- . جواهر الكلام: 158/11.

عنهم عليهم السلام: «إنّ الجمعة لنا والجماعة لشيعتنا».(1)

ج. وفي النبوي: «إنّ الجمعة والحكومة لإمام المسلمين».(2)

د. ما روي عن «الجعفريات» عن علي عليه السلام وفيه: «العشيرة إذا كان عليهم أمير يقيم الحدود عليهم فقد وجب عليهما الجمعة والتشريق».(3)

والجواب: أنّ هذه الروايات ناظرة إلى أنّه لا يجوز لأحد مزاحمة الإمام المعصوم في إقامة الجمعة، فمَن صلّى بعنوان أنّه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، فهو غاصب لحقوقهم؛ وأمّا من أقام معترفاً بحقّهم ممتثلاً لقوله سبحانه (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ ) ، فهذه الروايات غير ناظرة إلى منعه، وسيأتي توضيحه.

ه. وعن «الجعفريات»: أنّ عليّاً عليه السلام قال: «لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلّابإمام».(4)

و. وعنها أيضاً: أنّ عليّاً عليه السلام سُئل عن الإمام يهرب ولا يخلف أحداً يصلّي بالناس، كيف يصلّون الجمعة ؟ قال: «يصلّون كصلاتهم أربع ركعات».(5)

ز. وعن «دعائم الإسلام» عن جعفر بن محمد عليهما السلام: أنّه قال: «لا جمعة إلّامع إمام عدل تقيّ »(6).4.

ص: 202


1- . جواهر الكلام: 158/11.
2- . رياض المسائل: 33/4، وقال محقّق الكتاب: لم نعثر عليه.
3- . مستدرك الوسائل: 13/6، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
4- . مستدرك الوسائل: 408/1، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
5- . مستدرك الوسائل: 408/1، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 3.
6- . مستدرك الوسائل: 408/1، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4.

والجواب عن هذه الأحاديث - مع غضّ النظر عن ضعف أسانيدها - هو أنّ الأُمور الدينية على وجه الإطلاق من: نصب القاضي للقضاء، وبعث الجابي لأخذ الزكاة، وتعيين الإمام للمساجد العامّة حتى المؤذّن للصلاة كان يوم ذاك بيد الخلفاء من بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وكانت الممارسة لهذه الأُمور حتى إقامة صلاة الجمعة دليلاً على أنّ الممارس خليفة وإمام للناس أو مأذون منه، سواء أكانت الممارسة حقاً أم باطلاً.

والخلفاء بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يمارسون هذه الأُمور بما أنّهم خلفاء الرسول وساسة البلاد، وبذلك كانوا يغرّون ضعفاء العقول ويجلبون عواطفهم وعقائدهم بصحّة خلافتهم؛ حتّى أنّ المحقّق في «المعتبر» جعل ذلك دليلاً على شرطية إذن الإمام، قال: ومعتمدنا فعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة، وكذا الخلفاء بعده كما يعيّن للقضاء، فكما لا يصحّ أن ينصب الإنسان نفسه قاضياً من دون إذن الإمام، كذا إمامة الجمعة، وليس هذا قياساً بل استدلال بالعمل المستمر في الأعصار فمخالفته خرق للإجماع.(1)

وفي هذه الظروف صدرت هذه الروايات قائلة بأنّ هذه الأُمور لإئمة الحقّ لا للأمويّين ولا للعباسيّين، وأنّهم ابتزّوها وسلبوها عنهم واستولوا عليها. وعلى هذا فبما أنّ ممارسة هذه الأُمور باسم الخلافة حقّ لأئمة أهل البيت عليهم السلام، فمَن مارسها بهذا العنوان فقد سلب حقّاً من أئمّة الحقّ .

روى الصدوق باسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: «يا عبد اللّه ما من عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلّاويجدّد لآل محمد فيه حزن».2.

ص: 203


1- . المعتبر: 279/2.

قلت: ولم ذاك ؟ قال: «لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم».(1)

وعلى هذا فهذه الروايات تندد بكلّ مَن أقام صلاة الجمعة وأخذ الخمس والفيء وغير ذلك بما أنّه إمام وخليفة أو مأذون منهم.

وأمّا مَن أقام صلاة الجمعة في غيبة الإمام أو حضوره من غير أن يكون له هذا الادّعاء، بل كانت الغاية العمل بكتاب اللّه وسنّة رسوله وامتثالاً لما أمر به أبو جعفر عليه السلام من إقامة صلاة الجمعة بين الشيعة، فلا صلة لهذه الروايات المنددة المنكرة لمن يقيمها بما أنّه خليفة الرسول أو المأذون من خليفته.

أقول: كما أنّ لعاملي الزمان والمكان تأثيراً في استنباط الأحكام الشرعية، فهكذا للظروف السائدة حين صدور هذه الروايات تأثير في تفسير مرمى الروايات وهدفها. فمَن نظر إلى هذه الروايات مع قطع النظر عن ظروف الصدور يجعلها دليلاً على اختصاص إقامة صلاة الجمعة بهم وبإذنهم، وأمّا إذا نظر إليها مقرونةً بما ذكرنا من أنّ مَن كان يقيم صلاة الجمعة وأمثالها في تلك الظروف فإنّما كان يقيمها بما أنّه خليفة وإمام وقائد الأُمّة، أو مأذون منهم، وعلى هذا فلا صلة لهذه الروايات بعصر الغيبة الذي نفقد حضور الإمام، وإنّما نقيم الفريضة امتثالاً للكتاب بلا ادّعاء للمقيم ولا للمأمومين.

أضف إلى ذلك: أنّ في أكثر هذه الروايات ضعفاً في السند والدلالة، وهي لا تقاوم الذكر الحكيم، ولا ما دلّ على وجوب الجمعة إذا توفّرت الشروط المجمع عليها.

وربما يستدل على شرطية إذن الإمام بما رواه الشيخ عن حمّاد بن عيسى،2.

ص: 204


1- . من لا يحضره الفقيه: 175/2 برقم 2058؛ الكافي: 169/4 برقم 2.

عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام قال: «إذا قدم الخليفة مصراً من الأمصار جمع الناس. ليس ذلك لإحد غيره».(1)

ولا يخفى أنّ لسان الحديث يوحي صدوره عن تقية، وعلى فرض الصدور يختص بحال الحضور، وفي «الوافي» أنّ الشيخ حمله في التهذيبين على التقية؛ لأنّه مذهب كثير من العامة.

ثم أضاف: بأنّ الخليفة إن كان معصوماً فلا يجوز لأحد من الرعية التقدّم عليه، وإن كان جائراً فالتقدّم عليه يوجب الفتنة والفساد، وفي هذا الحديث دلالة بحسب المفهوم على جواز التجميع لغير الإمام المعصوم إذا لم يكن هو شاهداً في البلد.(2)

تمّ الكلام في القول الأوّل، أعني: القول بالتحريم.

***

[القول] الثاني: القول بالتخيير
اشارة

اشتهر القول بالوجوب التخييري لصلاة الجمعة في عصر الغيبة، وحكاه في «مفتاح الكرامة» عن كثير من القدامى والمتأخّرين، قال: وهو خيرة النهاية والمبسوط والمصباح وجامع الشرائع والشرائع والنافع والمعتبر والتخليص (للتلخيص) وحواشي الشهيد والبيان وغاية المراد كما سمعت، والموجز الحاوي والمقتصر وتعليق الإرشاد والميسيّة والروض والمقاصد العليّة

ص: 205


1- . الوسائل: 5، الباب 20 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
2- . الوافي: 1129/8 و 1132.

وتمهيد القواعد والذكرى.

ثم قال: وظاهر «كشف الالتباس» و «غاية المرام» أو صريحهما، وهو المنقول عن القاضي وكذا المفيد والتقيّ على ما عرفت.(1)

وقد احتمل في «مفتاح الكرامة» أنّ لقولهم: تجب تخييراً أو لا تجب عيناً إذا صلّاها غير المعصوم والمنصوب من قبله، له معنيان:

أحدهما: - وهو المراد - أنّه لا يجب عيناً عقدها، و إذا عقدت يجب الحضور فيها.

وهذا هو الظاهر من الفيض في الرسالة الخاصّة لبيان حكم الجمعة قال: إنّ الناس بالخيار في إنشائها وجمع العدد لها وتعيين الإمام لأجلها، فإذا فعلوا ذلك وعزموا على فعلها تعيّن على كلّ مَن اجتمعت له الشرائط الأُخر، حضورها، ولا يسع لأحد التخلّف عنها حينئذ، لا أنّ لآحاد الناس حينئذٍ التخيير في حضورها وعدمه.(2)

والثاني: أنّه لا يجب الحضور وإن انعقدت، أو عَلِمَ أنّ جمعاً من المؤمنين اجتمع فيهم العددُ المعتبر وحصل لإمامهم شروط الإمامة وأنّهم يعقدونها.(3)

أقول: تحقيق القول بالتخيير يتم بالكلام في مقامين:

الأوّل: دراسة القول على ضوء القواعد الأوّلية

فنقول:

الواجب التخييري يتميّز عن الواجب التعييني، هو أنّ الشارع إذا أراد فعلاً

ص: 206


1- . مفتاح الكرامة: 1007/5، وسيوافيك أنّ المفيد والتقي أبو الصلاح من القائلين بالوجوب العيني.
2- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 393/9.
3- . مفتاح الكرامة: 1008/5.

معيّناً، فهو تعييني، وإن أراد به الدائر بين متعدّد نوعاً فتخييري، ثمّ إنّ مقتضى القاعدة الأوّلية عدم ثبوت التخييري؛ وذلك لأنّ حضور المعصوم إمّا شرط لمشروعية الجمعة، أو شرط لوجوبها؛ فعلى الأوّل، تكون الصلاة محرّمة لعدم كونها مشروعة، وعلى الثاني - أي كون الحضور شرطاً للوجوب - فينتفي الوجوب بانتفاء شرطه، فمن أين جاء الوجوب التخييري بعد انتفاء الوجوب التعييني.

فإن قلت: إنّ الفقيه الجامع لشرائط الفتوى منصوب من قبل الإمام ولهذا تمضي أحكامه وتجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس، فلتكن صلاة الجمعة من هذا القبيل.

قلت: الفقيه الجامع للشرائط منصوب من قبل الإمام لإجراء الأحكام الباقية بحالها، والمفروض في المقام احتمال انتفاء وجوب صلاة الجمعة بانتفاء شرطه، ومعه كيف صار واجباً تخييرياً.

وإن شئت قلت: إنّ قوله سبحانه: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ ) يدلّ على كون الواجب أمراً معيّناً، لا كليّاً مردّداً بين الجمعة والظهر، فإذا ارتفع الوجوب التعييني بانتفاء شرطه، فتبديل التعييني إلى التخييري بحاجة إلى دليل.

فإن قلت: بدلية الظهر للجمعة كانت ثابتة في عصر الظهور، بشهادة أنّ من لم يتمكّن من الواجب تجب عليه صلاة الظهر بدلاً عنها، فليكن عصر الغيبة كذلك، فكلّ مَن لا يتمكّن من إقامة الصلاة مع الإمام المنصوب تنتقل وظيفته إلى الظهر.

قلت: بدلية الظهر ثبتت لمن فاتته صلاة الجمعة بعد وجوبها عليه، وأين هذا من بدلية الظهر لمن لم تفته وبإمكانه اقامتها؟! وأين هذا من الوجوب التخييريّ؟!

ص: 207

المقام الثاني: دراسة القول حسب الأدلة الاجتهادية

وقد استدلّ له بوجوه:

الأوّل: خبر الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم مَن يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».(1)

قال السيد الخوانساري قدس سره بعد ذكر الرواية حيث إنّ صدر هذه الرواية يدلّ على أنّ الساكنين في قرية من القرى يجب عليهم في يوم الجمعة صلاة الظهر أربع ركعات، ووجه التقييد بكونهم في قرية مع أنّ الأحكام لا تختصّ بأهل الأمصار، هو أنّ القرى ليس فيها السلطان أو نائبه بحيث يسوقهم إلى الاجتماع للجمعة، ولكن إقامة الجمعة باختيارهم مع إمام منهم كانت راجحة.(2)

أقول: إنّ في الرواية فقرتين: الفقرة الأُولى ناظرة إلى قرية بعيدة عمّن يخطب ولم يكن عندهم مَن يقوم بصلاة الجمعة بشرائطها وآدابها، إذ ليست الخطبتان مورد كلّ شارد ووارد، وهؤلاء يصلّون صلاة الظهر، ولذلك أخرج أهل قرية من القرى عن إقامة صلاة الجمعة لعدم وجود خطيب يقوم بأمر الخطابة. وأمّا الفقرة الثانية فهي ناظرة لجمع يتمكّن من إقامة الجمعة، فأي صلة للرواية بالوجوب التخييري في زمان الغيبة ؟!

وحاصل الرواية: أنّ مَن لم يتمكّن من الخطيب يصلّي الظهر، والمتمكّن يصلّي الجمعة. نظير ما يقال: من وجد الماء يتوضّأ، ومن لم يجد يتيمّم، وما في

ص: 208


1- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 6.
2- . جامع المدارك: 522/1.

ذيل كلامه: «لكن إقامة الجمعة باختيارهم مع إمام منهم كانت راجحة»، خارج عن مفهوم الرواية، وليس في الرواية ما يدلّ عليه.

الثاني: ما استند عليه غير واحد من القائلين بالتخيير، وهو أنّ مقتضى الكتاب والسنّة هو الوجوب العيني غير أنّ الإجماع الذي هو أحد الأدلّة، دلّ على عدمه، والجمع بينه وبين الكتاب والسنّة، حمل الوجوب على التخييري.

وقد طرح الشهيد الثاني هذا الدليل بصورة السؤال والجواب، وقال:

فإن قيل: الأوامر الدالّة على الوجوب إنّما استفيد منها الوجوب العيني، كما هو موضع وفاق بالنسبة إلى حالة الحضور، ومدّعاكم الوجوب التخييري، وأحدهما غير الآخر.

قلنا: أصل الوجوب ومطلقه مشترك بين العيني والتخييري، ومن حقّ المشترك أن لا يخصّص بأحد معنييه إلّابقرينة صارفة عن الآخر أو مخصّصة، والوجوب العيني منفيّ حال الغيبة بالإجماع، فيختصّ الفرد الآخر.(1)

وقال في كتاب آخر له: تخييراً لقوّة الأوامر المطلقة والعامّة بها في الكتاب والسنّة، وإجماع المسلمين على وجوبها في الجملة(2)، أمّا الوجوب العيني فمنتف إجماعاً، فيبقى التخييري.

وقال في الروضة: «ولولا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب لكان القول به في غاية القوّة».(3)9.

ص: 209


1- . روض الجنان: 774/2.
2- . المقاصد العلية: 366.
3- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 420/9.

وقال النراقي: أمّا ثبوت التخييري، فللأخبار المثبتة للوجوب لها عموماً، والوجوب ماهية كلّية صادقة على جميع أفرادها.(1)

وربما تقف على نظير هذه الكلمات في توجيه الوجوب التخييري.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الإجماع المحصّل على نفي الوجوب العيني غير حاصل، والمنقول منه غير طائل، وذلك لأنّ قسماً كبيراً من القدماء اختاروا الوجوب العيني، وسيوافيك ذكر كلماتهم في نهاية البحث عن الوجوب التعييني.

ومع هذه الكلمات الصريحة من قدماء الشيعة، كيف يمكن ادّعاء الإجماع على نفي الوجوب العيني، حتى تكون قرينة على التصرّف في الآية والروايات بحملها على الوجوب التخييري ؟!

وفي الحدائق: قد تمحّلوا لتصحيح هذا الإجماع المدّعى في المقام فاصطنعوا له دليلاً ليجدوا إليه سبيلاً، فقالوا: إنّ الاجتماع لمّا كان مظنّة النزاع ومثار الفتن، والحكمة موجبة لحسم مادة الاختلاف، فالواجب قصر الأمر في ذلك على الإمام بأن يكون هو المباشر لهذه الصلاة، أو الإذن فيها.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه يكفي في رفع الفتنة تصدّي الفقيه الجامع للشرائط لتعيين الإمام للجمعة في البلاد و المدن.

وثانياً: قد حقّق في علم الأُصول أنّ صيغة الأمر إذا جرّدت عن القرينة تنصرف إلى العيني والنفسي والتعييني، فقوله سبحانه: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ ) أو قولهم عليهم السلام في الروايات، منصرف إلى العيني، فليس له إلّامدلول واحد، فإذا قام9.

ص: 210


1- . مستند الشيعة: 57/6.
2- . الحدائق الناضرة: 422/9.

الإجماع على عدم الوجوب العيني، تسقط الآية عن الدلالة على حكم آخر، فمن أين جاء الوجوب التخييري ؟ فما استدلّ به النراقي وقبله الشهيد الثاني ناقلاً عن القائلين، مبني على أنّ مدلول الآية وجوب مجرّد عن الدلالة على العينية والتخييرية، فإذا انتفى أحد الفرضين يبقى الفرض الآخر، ومن المعلوم أنّه خلاف التحقيق.

***

الاستدلال على الوجوب التخييري بالاستبعادات

إنّ السيد الخوئي رحمه الله لمّا أذعن بأنّ مقتضى الأخبار هو الوجوب التعييني(1)قال: إلّاأنّ هنا أُموراً تمنعنا من الأخذ بظاهرها ولا مناص من حملها على الوجوب التخييري(2) يجمعها عنوان الاستبعاد، وذكر في ذلك أُموراً:

الأوّل: أنّ صلاة الجمعة لو كانت واجبة تعيينية لشاع ذلك وذاع، ولكان من المسلّمات الواضحات نظير غيرها من الفرائض اليومية... إلى أن قال: ولم ينقل القول بالوجوب التعييني من أحد من العلماء في المسألة على اختلاف آرائهم في مشروعيتها في عصر الغيبة وعدمها.(3)

يلاحظ عليه: أنّ وجوبها التعييني أمر مسلّم بين سائر الفرق الإسلامية، وأمّا الشيعة فقد ذهب جمع من القدماء إلى وجوبها التعييني كالكليني والصدوق والحلبي وغيرهم، وبما أنّ القيام بهذا الأمر من شؤون الإمام المعصوم، ولم يكن

ص: 211


1- . لاحظ: التنقيح، كتاب الصلاة: 40/1.
2- . التنقيح: 27/1.
3- . التنقيح: 26/1.

ذلك ميسوراً لأئمّة الحق عليهم السلام صار ذلك سبباً لاختلاف العلماء في وجوبها التعييني. ولو كان الأمر مفوضاً إلى الأئمّة وكانوا قائمين بنصب الإمام في البلاد لما اختلف في الوجوب اثنان.

الثاني: أنّ صلاة الجمعة لو كانت واجبة تعيينية فلماذا جرت سيرة أصحابهم عليهم السلام على عدم إقامتها في زمانهم على جلالتهم في الفقه والحديث ؟! فهل يحتمل أن يكونوا متجاهرين بالفسق لتركهم واجباً تعيينياً في حقّهم وفريضة من فرائض اللّه سبحانه ؟! فكيف أهملوا ما وجب في الشريعة المقدّسة ولم يعتنوا بالأخبار التي رووها بأنفسهم عن أئمّتهم عليهم السلام ولم يعملوا على طبقها؟!(1)

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت إعراض أصحابنا عن إقامة صلاة الجمعة، وقد عرفت حال الحديث عن زرارة وهو أنّه كان يشارك العامّة في صلواتهم. نعم كان عبد الملك بن أعين غير مشارك لشبهة أنّ الإمام ليس بعادل، فأمره الإمام بإقامتها فيما بينهم.

وإن شئت قلت: لم نجد دليلاً على إعراض الأصحاب عن إقامة صلاة الجمعة في أعصارهم، ومَن أعرض فإنّما أعرض عن شبهة ودليل وهو مثلاً عدم عدالة إمام الجمعة، مع التسليم بالحكم.

وممّا ذكرنا يظهر ما في قوله: وكيف كان فقد استفدنا من الروايات الواردة أنّ سيرة أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانت جارية على ترك الجمعة.(2)

أقول: قد عقد الفيض في الوافي بابين تحت عنوانين:1.

ص: 212


1- . التنقيح: 27/1.
2- . التنقيح: 30/1.

1. باب صفة الجمعة معهم.

2. باب فضل الصلاة معهم.

يظهر ممّا ورد فيه من الروايات أنّ أكثر الأصحاب كانوا يصلّون الجمعة معهم وربما يعيد بعضهم الصلاة لأجل كون الإمام غير عادل.

أمّا الأوّل: فقد أورد فيه ما يدلّ على أنّهم إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم.(1)

أمّا الباب الثاني فقد أورد فيه: إنّ المصلّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل اللّه. وقد أورد فيه ثمانية أحاديث تحثّ على الصلاة معهم، وحمل الروايات على غير صلاة الجمعة كما ترى.(2)

الثالث: الأخبار الواردة في عدم الحضور لصلاة الجمعة على مَن كان بعيداً عنها بأزيد من فرسخين، وقد عُدّ هذا من جملة المستثنيات، والوجه في دلالتها على عدم وجوب الجمعة تعييناً أنّ الحضور لها إذا لم يكن واجباً على النائي بأزيد من فرسخين وبنينا على أنّ صلاة الجمعة واجبة تعيينية لوجبت إقامتها على مَن كان بعيداً عنها بأزيد من فرسخين في محلّه.(3)

يلاحظ عليه: أنّ لازم ما ذكره عدم كون صلاة الجمعة واجبة تعييناً حتى في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والوصي عليه السلام، وهذا خلاف المجمع عليه، فالظاهر أنّ كلمة الفقهاء متّفقة على وجوبها تعييناً في عصر الرسول والوصي إذا كان متمكّناً من1.

ص: 213


1- . الوافي: 1215/1.
2- . الوافي: 1217/8.
3- . التنقيح: 30/1.

إقامتها ونصب الإمام لها.

وأمّا ما أفاده من قوله: إنّ مفروضنا وجوبها على كلّ مكلّف تعييناً، وإمام الجماعة يوجد في كلّ قرية ومكان من بلاد المسلمين.

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من استثناء مَن بعد فرسخين لأجل صعوبة عودته إلى محلّ إقامة الجمعة، فلأجل ذلك سقط عنه التكليف كما سقط عن أصناف أُخرى. وأمّا عدم إقامتها في محلّه فلعدم وجود مَن يقوم بإيراد الخطبتين وإقامة الصلاة على الوجه المطلوب.

الرابع: الروايات الواردة في أنّ كلّ جماعة ومنهم أهل القرى إذا كان فيهم مَن يخطب لهم لصلاة الجمعة وجبت عليهم صلاة الجمعة، وإلّا يصلون ظهراً أربع ركعات؛ كصحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن أُناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة ؟ قال: «نعم (و) يصلون أربعاً إذا لم يكن مَن يخطب».(1)

وقال أيضاً: وتقريب الاستدلال بتلك الروايات أنّ المراد بمَن يخطب في هذه الأخبار ليس مجرّد مَن يتمكّن من إقامة الخطبة - شأناً - وإن لم يكن قادراً عليها فعلاً، لأنّه فرض نادر التحقّق. وحاصل المعنى: أنّه إن كان هناك مَن يقدم لإقامة الخطبة فعلاً ومتهيّئاً لذلك وجبت الجمعة، وإن لم يقدم بالفعل مع قدرته عليها سقطت وصلّوا الظهر جماعة، وهذا كما ترى لا يلائم الوجوب التعييني، إذ عليه يجب الإقدام والتصدي للخطبة تعييناً وتركها موجب للفسق.(2)1.

ص: 214


1- . التنقيح: 31/1.
2- . المستند في شرح العروة الوثقى: 26/11.

يلاحظ عليه: بأنّ الحديث بصدد بيان تنجيز التكليف على المكلّفين بأنّه لو وجد فيهم مَن يخطب فيتنجّز الوجوب على الجميع وإلّا فلا. نعم لو تخلّف الجامع للصفات عن القيام بالإمامة والخطابة فقد عصى وفسق وسقط التكليف عن الآخرين.

فإن قلت: إنّه من البعيد أن ينحصر الخطيب بفرد واحد، إذ في وسع كثير من الناس أن يؤم ويقتصر في الخطابة بأقلّ الواجب.

قلت: هذا ما أشار إليه بقوله: إنّ أقل الواجب هو التحميد والثناء وقراءة سورة والوعظ المتحقّق بقوله: يا أيّها الناس اتّقوا اللّه، فهو ليس أمراً صعباً.

لكن المعهود من صلاة الجمعة في تلك الأيام هو إقامتها بخطبتين لهما تأثير خاص في أذهان المصلين، وليس مثل هذا شأن كلّ شارد ووارد، ولذلك كثيراً ما يتّفق عدم وجوده؛ وعلى هذا فالإمام عليه السلام يفصّل بين وجود الشرط وعدمه، ففي الأوّل تجب عليهم الجمعة، وفي الثاني تجب أربع ركعات.

وفي نهاية كلامه يقول: والمتحصّل من جميع ما قدّمناه لحدّ الآن: أنّ الروايات التي استدلّ بها الخصم وإن كانت ظاهرة في الوجوب التعييني بالظهور الإطلاقي، إلّاأنّه لا يسعنا الأخذ بهذا الظهور لأجل تلكم القرائن والشواهد التي منها بعض نفس تلك الأخبار - كما عرفت - فلا مناص من حملها على الوجوب التخييري.(1)

وبذلك ظهر أنّه ليس للقول بالوجوب التخييري أي دليل صالح، إلّاإذا قلنا بأنّها كانت كذلك منذ عصر الرسالة كما عليه صريح كلامه، وهو بعيد عن ظاهر1.

ص: 215


1- . المستند في شرح العروة الوثقى: 27/11.

النصوص وكلمات العلماء.

***

القول الثالث: الوجوب التعييني في عصري الحضور والغيبة
اشارة

قال صاحب مفتاح الكرامة: وهو خيرة الشهيد الثاني في رسالته، وولده في رسالته، وسبطه والشيخ نجيب الدين والمولى الخراسانيّ في كتابيه، والكاشانيّ في المفاتيح والشهاب الثاقب والوافي، والشيخ سليمان في رسالتيه، والسيّد عبد العظيم والشيخ أحمد الخطيّ ومولانا الحرّ في الوسائل، ومولانا الشيخ أحمد الجزائري في الشافية، وصاحب الحدائق، والسيد عليّ صائغ، واحتمله احتمالاً في الذكرى .

ونسبوه إلى المفيد في المقنعة وكتاب الإشراف وإلى أبي الفتح الكراجكيّ وإلى أبي الصلاح التقيّ ، وإلى ظاهر الصدوق في المقنع والأمالي، وإلى الشيخ في التهذيب، وإلى الشيخ عماد الدين الطبرسي، وقال بعضهم: إنّ في عبارة «النهاية» إشعاراً به، والإشعار في عبارة «الخلاف» أقوى.(1) وسيوافيك ذكر كلمات القدماء في نهاية البحث.

وقبل كلّ شيء فالآية ظاهرة في الوجوب التعييني حيث لم يذكر البدل لها.

وتؤيّده سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حيث إنّه لم يعدل يوم الجمعة في الحضر إلى الظهر أبداً، وهو دليل على كونها واجباً تعيينياً. والقول بأنّ عدم عدوله لأجل كون صلاة الجمعة أفضل الفردين، يحتاج إلى دليل.

ص: 216


1- . مفتاح الكرامة: 997/5.

ولنقدّم دلالة الكتاب العزيز على الحكم ثمّ ندرس الروايات بصورة طوائف أربع.(1)

أمّا الكتاب فقد مرّ تفسير الآيات وأنّ دلالتها على الوجوب التعييني واضحة حيث تدلّ على وجوب السعي إلى ذكر اللّه وترك البيع؛ وقد مرّ أنّ المراد من الذكر في الآية هو صلاة الجمعة، أو خطبتها، أو هما معاً؛ ويعضد ذلك ما رواه الكليني في «الكافي» عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: قول اللّه عزّ وجلّ : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ ) ؟ قال: «اعملوا وعجّلوا، فإنّه يوم مضيّق على المسلمين فيه، وثواب أعمال المسلمين فيه على قدر ما ضيّق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه»، قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: «واللّه لقد بلغني أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس لأنّه يوم مضيّق على المسلمين».(2)

ثمّ إنّه أُورد على الاستدلال بالآية بأُمور واهية، نذكر بعضها:

الأوّل: إنّ (إِذا) في قوله تعالى: (إِذا نُودِيَ ) غير موضوعة للعموم، فلا يلزم وجوب السعي كلّما تحقّق النداء، بل يتحقّق بالمرّة، وهي عند تحقّق الشرط.(3)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّها وإن لم تكن موضوعة للعموم، لكن المتبادر من أمثال الموارد، هو العموم. يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ 9.

ص: 217


1- . تصنيف الروايات بصورة طوائف أربع من إفاضات آية اللّه مرتضى الحائري قدس سره.
2- . الكافي: 415/3، برقم 10؛ الوسائل: 5، الباب 31 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1.
3- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 399/9.

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (1) .

وثانياً: أنّ إيجاب السعي ولو في الجملة بحيث يتحقّق بالمرّة، على خلاف الإجماع، فلا مناص من الحمل على العموم.

الثاني: أنّ الأمر في الآية معلّق على ثبوت الأذان، فمن أين ثبت وجوب الصلاة مطلقاً؛ بل تجب إذا أذّنوا، دون ما لو لم يأذّنوا.(2)

يلاحظ عليه: أنّ تعليق السعي إلى الصلاة، على الأذان لأجل أنّ المراد دخول وقت الصلاة. فيكون المعنى: إذا دخل وقت صلاة يوم الجمعة بأن نودي بالنداء المقرر المعهود المستمر كلّ يوم، فاسعوا إلى ذكر اللّه، وصلّوا صلاة الجمعة.(3)

الثالث: اختصاص الخطابات القرآنية بالحاضرين، ولا يشمل مَن سيوجد إلّا بدليل خارجي، وليس إلّاالإجماع وهو غير موجود في المقام.(4)

يلاحظ عليه: أنّ الخطابات القرآنية أشبه بقضايا حقيقية تعمّ المكلّفين كلّاً في زمانه، فتخصيص الآيات القرآنية بجمع قليل حين نزول القرآن، حاكٍ عن أنّ القائل فرض الخطابات خطابات شخصية مع أنّه أشبه بالخطابات الواردة في الوصايا والكتب والقوانين العامّة.

هذا وهناك إشكالات أُخرى لا تليق بأن تُذكر ويجاب عنها. فإنّ هذهي.

ص: 218


1- . المائدة: 6.
2- . الحدائق الناضرة: 400/9، نقله عن المنكرين للوجوب التعييني.
3- . الوافي: 1079/8.
4- . الحدائق الناضرة: 402/9، نقله عن المنكرين للوجوب التعييني.

المناقشات إنّما نبعت من القول بتحريم الجمعة أو عدم وجوبها، فصار ذلك سبباً لمثل هذه الإشكالات.

هذا كلّه حول الكتاب العزيز.

الاستدلال بالروايات
اشارة

وقبل الدخول بالاستدلال بالروايات نذكر ما ذكره بعض الأعاظم حول الروايات.

قال المحدّث الكبير الشيخ محمد تقي المجلسي، والد العلّامة المجلسي صاحب البحار، حيث وصف مجموع الروايات الواردة حول صلاة الجمعة بالنحو التالي:

قال قدس سره: فذلكة: فصار مجموع الأخبار مائتي حديث، فالّذي يدلّ بظاهره على الوجوب خمسون حديثاً، والذي يدلّ على الوجوب بصريحه من الصّحاح والحسان والموثّقات وغيرها أربعون حديثاً، والذي يدلّ على المشروعية في الجملة أعمّ من أن يكون عينياً أو تخييرياً تسعون حديثاً، والذي يدلّ بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثاً، ثمّ الذي يدلّ بصريحه على وجوب الجمعة إلى يوم القيامة حديثان، والذي يدل على عدم اشتراط الإذن بظاهره ستة عشر حديثاً، بل أكثرها كذلك كما مرّت الإشارة إليه في تضاعيف الفصول، وأكثرها أيضاً يدل على الوجوب العيني كما أُشير إليه.(1)

ص: 219


1- . الحدائق الناضرة: 390/9، ناقلاً عنه وقال: في رسالة مبسوطة ألّفها في تحقيق المسألة.
الطائفة الأُولى: ما يذكر مَن تجب عليه صلاة الجمعة من دون أن يذكر حضور الإمام

1. صحيحة زرارة بن أعين، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: إنّما فرض اللّه عزّ وجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللّه عزّ وجلّ في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومَن كان على رأس فرسخين».(1)

قوله: «فرضها اللّه عزّ وجلّ في جماعة» أُريد به العدد المخصوص، ودلالتهاعلى وجوبها على الناس - غير ما استثنى - واضحة جدّاً، وقد عرفت أنّ المراد من قوله: «في جماعة» العدد الخاص.

2. ما رواه الصدوق في أماليه بسند صحيح عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاثة جُمع فقد ترك ثلاث فرائض، ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلّامنافق».(2)

ورواه من الوسائل عن عقاب الأعمال للصدوق برقم 12، وهي متّحدة مع ما تقدّم.

وعلى هذا فلزرارة في هذه الطائفة روايتان لا ثلاث.

نعم أورد عليه سيد مشايخنا بقوله: ولا يخفى أنّه ليس بصدد بيان وجوب

ص: 220


1- . الوسائل: 5 الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1.
2- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 8.

إقامة الجمعة فضلاً عن وجوبها على كلّ أحد وإن لم يؤذن له من قبل الإمام، ولا في مقام بيان شروط الانعقاد؛ بل هو بصدد بيان وجوب حضور الجمعة والسعي إليها بعد ما فرض انعقادها بشرائطها، ويشهد لذلك استثناء الذين لا يجب عليهم الحضور.(1)

وفي موضع آخر يقرر ذلك الاشكال بالنحو التالي: ليس الحديث بصدد بيان الوظيفة لنفسه أو لعمّاله بل بصدد بيان وظيفة الناس بالنسبة إلى الجمعات التي كانت تنعقد بشرائطها، أعني: وجوب الحضور والسعي إليها.(2)

يلاحظ عليه: ماذا يُريد بقوله: «بعد ما فرض انعقادها بشرائطها» أو بقوله: «الجمعات التي كانت تنعقد بشرائطها»، فإن أراد الجمعات المعقودة من قبل حكّام بني أُمية وبني العباس، فهذا على خلاف المقصود أدلّ ، حيث يلازم عدم اشتراط إقامتها بإمام الأصل أو مَن نصبه.

وإن أراد - من الفقرتين - الجمعات المعقودة من الشيعة بإذنهم فإنّ المفروض عدمه، إذ لم يكن للشيعة آنذاك جمعات معقودة حتى يكون الحديث ناظراً إليها إلّانادراً.

فتعيّن أنّها بصدد بيان وجوبها على الناس إلّامَن استثني.

3. ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي بصير ومحمد بن مسلم جميعاً، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض في كلّ سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّاخمسة: المريض،2.

ص: 221


1- . البدر الزاهر: 11.
2- . البدر الزاهر: 12.

والمملوك، والمسافر، والمرأة، والصبي».(1)

وقد أورد عليه سيد مشايخنا بمثل ما أورده على الرواية السابقة، من أنّ الرواية «صريحة في وجوب السعي والحضور بعد ما فرض انعقاد الجمعة وليست بصدد بيان وجوب العقد».(2)

يلاحظ عليه: بنفس ما سبق، ماذا يُريد بقوله: بعدما فرض انعقاد الجمعة، فإنّ المنعقد آنذاك بين غير صحيح - كما هو الحال في زمن الحكّام - وبين صحيح غير منعقد كصلاتهم عليهم السلام أو مَن نصبوه.

4. ما رواه الشيخ بسند صحيح عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام - في حديث - قال: «الجمعة واجب على كلّ أحد، لا يعذر الناس فيها إلّاخمسة:

المرأة، والمملوك، والمسافر، والمريض، والصبي».(3)

وأورد عليه أيضاً بمثل ما سبق، من أنّ الحديث بصدد بيان وجوب الحضور، بعد انعقادها بشرائطها لا وجوب عقد الجمعة وإقامتها على الناس.(4)

ولا يخفى أنّ ما ذكر من الاحتمال لا يتبادر إلى أذهان أصحاب الأئمّة عليهم السلام فضلاً عن غيرهم، بل المتلقّى هو أنّ صلاة الجمعة واجبة على الناس (سوى ما استثني) كلّ يعمل بوظيفته، فعلى الإمام إلقاء الخطبة وإقامة الصلاة، وعلىح.

ص: 222


1- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 14.
2- . البدر الزاهر: 12.
3- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 16.
4- . البدر الزاهر: 12، بتصرف للإيضاح.

المأمومين الحضور. فالتفكيك بين الحضور والعقد والإقامة، أمر مغفول عنه عند العرف.

5. ما رواه الفريقان عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم - في خطبة طويلة نقلها المخالف والمؤالف -: «إنّ اللّه تبارك وتعالى فرض عليكم الجمعة، فمَن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع اللّه شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتى يتوب».(1)

ورواه الشهيد الثاني في رسالته مع هذا الذيل: «فمَن تركها في حياتي أو بعد مماتي (وله إمام عادل) استخفافاً...».

وأورد عليه سيد مشايخنا قدس سره بنفس ما أورده على الأحاديث الماضية بأنّه بصدد بيان وجوب السعي والحضور لا بوجوب العقد والإقامة، إضافة إلى أنّ المتبادر هو إمام الأصل.(2)

ولا يخفى ضعف كلا الوجهين، أمّا الأوّل فإنّ التفصيل بين الأمرين (وجوب السعي ووجوب العقد) بعيد عن الأذهان العرفية؛ بل المتبادر الحثّ على صلاة الجمعة كلّ حسب وظيفته؛ وأمّا الثاني - كون المراد من الإمام هو الإمام المعصوم - فهو كما ترى، لكثرة إطلاق الإمام في روايات كثيرة على غير المعصوم.

***4.

ص: 223


1- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 28.
2- . البدر الزاهر: 14.
الطائفة الثانية: ما يدلّ على البعث على الإقامة مع عدم كون المقيم هو المعصوم

إنّ في الروايات الواردة حول صلاة الجمعة ما يدلّ على أنّ الإمام المعصوم كان يحثّ شيعته على إقامة صلاة الجمعة ولم يكن هو المقيم، كما لم يكن هناك أي إجازة من الحكام، وإليك ما يلي:

1. روى الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: حثّنا أبو عبد اللّه عليه السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يُريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك ؟ فقال: «لا، إنّما عنيت عندكم».(1)

والمتبادر من الرواية أنّ الإمام أكّد على إقامة صلاة الجمعة فيما بينهم، أو الحضور في جمعات الآخرين من الشيعة، وأمّا الحضور في جمعات المخالفين فهو بعيد جدّاً؛ وبذلك يظهر ضعف ما أُورد على الاستدلال بالرواية من أنّ المقصود الترغيب في حضور جمعات المخالفين لئلّا تظهر مخالفة الأئمّة عليهم السلام وشيعتهم لخلفاء الوقت وعمّالهم.

وجه الضعف: أنّ لفظة «إنّما عنيت عندكم» ينفي هذا الاحتمال، وإلّا اللازم أن يقول: «عنيت عند غيركم». ثم إنّ سيد مشايخنا البروجردي قدس سره أورد على الاستدلال بوجهين:

الأوّل: أن يكون المقصود ترغيبهم في حضور الجمعات التي كان يقيمها المنصوبون من قبل الأئمّة عليهم السلام، إذ من المحتمل كون أشخاص معينين منصوبين من قبلهم لإقامتها في بعض الأمكنة.

ص: 224


1- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1.

يلاحظ عليه: أنّ الظروف السائدة على أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانت تمنع من نصب أشخاص لإقامة الجمعة من قبلهم. أضف إلى ذلك: أنّه لو كان هناك نصب لم يخف على زرارة وأضرابه، بل كان زرارة أولى بالنصب.

الثاني: أن يكون نفس هذا الكلام منه عليه السلام نصباً أو إذناً لهم، إمّا بأن يكون نصباً لأشخاص معيّنين خاطبهم بكلامه، أو بأن يكون إذناً لهم بما أنّهم فقهاء، فيعمّ جميع فقهاء الشيعة، أو بأن يكون إذناً لهم بما أنّهم مؤمنون، فيعمّ جميع المؤمنين.(1)

يلاحظ عليه: إنّ هنا احتمالاً آخر أقرب إلى اللفظ وهو تحريض زرارة وأمثاله على العمل بالفريضة الواردة في كتاب اللّه، وإقامتها وعقدها بين الشيعة حسب الإمكانات.

ولعمر القارئ لولا أنّ صلاة الجمعة صارت موضع النقاش والجدال عبر قرون عشرة، لما خطر ببال أحد أمثال هذه الاحتمالات حول هذه الروايات الحاثّة على إقامة الجمعة لشيعتهم.

ثمّ إنّ اشتمال كونه إذناً لزرارة يدفعه قوله: «إنّما عنيت عندكم» وإلّا كان اللازم أن يقول: إنّما عنيت عندك.

2. ما رواه عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: «مَثْلك يُهْلَك ولم يصل فريضة فرضها اللّه»، قال: قلت: كيف أصنع ؟ قال: «صلّوا جماعة» يعني صلاة الجمعة.(2)2.

ص: 225


1- . البدر الزاهر: 40.
2- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 2.

والسند صحيح، وأمّا عبد الملك بن أعين، يقول سيد مشايخنا البروجردي:

في وثاقته وتشيّعه خلاف. لكن الظاهر ممّا رواه الكشي كونه شيعياً ثقة؛ روى الكشي عن زرارة قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام بعد موت عبد الملك بن أعين: «اللهم إنّ أبا ضريس كنّا عنده خيرتك من خلقك، فصيّره في ثقل محمد صلواتك عليه وآله يوم القيامة»، ثم قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «أما رأيته ؟» يعني في النوم، فتذكرت، فقلتُ : لا، فقال: «سبحان اللّه مثل أبي الضريس لم يأت بعد».(1)

وقد أورد السيد البروجردي على الاستدلال بإشكالين:

1. إنّ جملة (يعني صلاة الجمعة) ليست من كلام الإمام عليه السلام، فليست الرواية ظاهرة فيما نحن فيه.

أقول: نفترض أنّ الجملة ليست من كلام الإمام، ولكن أي فريضة يحتمل أنّ عبد الملك تركها غير صلاة الجمعة ؟!

2. إنّ الظاهر أنّه عليه السلام كان بينه وبين عبد الملك مكاتبات من قبل، ولعلّه كان بين تلك المكاتبات قرينة على أنّ المقصود هو التوبيخ على ترك الحضور للجمعة المنعقدة بإذن الإمام عليه السلام.(2)

يلاحظ عليه: أنّ هذا النوع من الاحتمال جارٍ في أكثر الروايات في غالب الأبواب، ولازم ذلك ترك العمل بالروايات لأجل هذا النوع من الاحتمالات.

3. احتمال صدور الكلام المذكور تقية، من عدّة كانوا حاضرين عنده.

يلاحظ عليه: أنّه لا شاهد على هذا الاحتمال.5.

ص: 226


1- . رجال الكشي: 175-176
2- . البدر الزاهر: 44-45.

4. صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن أُناس في قرية، هل يصلون الجمعة جماعة ؟ قال عليه السلام: «نعم (و) يصلون أربعاً إذا لم يكن مَن يخطب».(1)

5. موثّق الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم مَن يخطب لهم، جمّعوا إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».(2)

إنّ مفاد الروايتين هو كون الفريضة صلاة الظهر إذا لم يكن عندهم مَن يخطب، وصلاة الجمعة إذا كان لهم مَن يخطب، ومع ذلك فالميزان وجود الشرط الأهم، أعني: الإمام الذي يخطب، فإنّ الخطبتين ليستا أمراً سهلاً.

ثمّ إنّ السيد البروجردي احتمل أن يكون المراد بالجمعة صلاة الظهر يوم الجمعة، ويكون السؤال عن أهل القرية من جهة أنّهم لا يتمكّنون - غالباً - من إقامة الجمعة لعدم وجود الإمام أو من نصبه.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان السؤال عن صلاة الظهر يوم الجمعة فما معنى قوله عليه السلام: «إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين»؟!

***

الطائفة الثالثة: ما يركّز على الوجوب عند العدد المخصوص

روى الصدوق باسناده عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: على مَنْ تجب

ص: 227


1- . الوسائل: 5، الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 3.
2- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 6.

الجمعة ؟ قال: «تجب على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين، أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا، أمّهم بعضهم وخطبهم».(1)

ودلالة الرواية على الوجوب التعييني عند وجود العدد المذكور، واضحة، وأنّه يأمّ بعضهم بعضاً وكذلك يخطب.

وقد أورد على الاستدلال بوجهين:

1. انصراف البعض فيه إلى البعض الخاص الذي يكون إقامة الجمعة وقراءة الخطبة من وظائفه ومناصبه. وعليه يكون المراد بالبعض الإمام الأصل أو مَن نصبه.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الكلام لأبي جعفر عليه السلام والمخاطب هم المسلمون، فاحتمال كون المراد من البعض هو الإمام الأصل، كماترى.

2. أنّ من المظنون جدّاً أن يكون من قوله: «فإذا اجتمع سبعة... إلى آخره» من كلام الصدوق، كما احتمله (بحر العلوم).(3)

يلاحظ عليه: أنّه لا توجد أيّ قرينة على كونه من كلامه، خصوصاً أنّه يلزم أن يكون في كلام الصدوق شيء ليس في كلام الإمام، حيث قال: «أمّهم بعضهم وخطبهم».

***9.

ص: 228


1- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 4.
2- . البدر الزاهر: 49.
3- . لاحظ: البدر الزاهر: 49.
الطائفة الرابعة: ما ورد في أنّ الخطيب ليس هو الإمام الأصل

قد ورد في تعليم الخطبة ما يدلّ على أنّ الخطيب غير الإمام، وهي خطبة مفصّلة رواها الفيض في «الوافي»، ونحن نقتبس منها ما يلي:

«الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدي اللّه فلا مضلّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، انتجبه لولايته واختصّه برسالته وأكرمه بالنبوّة، أميناً على غيبه ورحمة للعالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله وعليهم السلام.

أُوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه وأُخوفكم من عقابه... إلى أن قال:

ثم اقرأ سورة من القرآن وادعو ربك وصلّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم وادعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم تجلس، قدر ما تمكن هنيهة ثم تقوم وتقول: الحمد اللّه نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به، ونتوكّل عليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدي اللّه فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليُظهرَه على الدِّين كلّه ولو كره المشركون، وجعله رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً، مَن يُطِعِ اللّهَ ورسوله فقد رشد، ومن يَعصيهما فقد غَوى.

أُوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ينفعُ بطاعته مَن أطاعه، والّذي يَضرّ بمعصيته مَن عصاه. الّذي إليه مَعادكم وعليه حسابكم. فإنّ التقوى وصيةُ اللّه فيكم وفي الذين من قبلكم، قال اللّه تعالى: (وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

ص: 229

وَ إِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (1) ، انتفعوا بموعظة اللّه وألزموا كتابه فإنّه أبلغُ الموعظة وخيرُ الأُمور في المعاد عاقبة، ولقد اتّخذ اللّه الحجّة فلا يَهلكُ مَن هلك إلّاعن بيّنة، ولا يحيى مَن حيّ إلّاعن بيّنة، وقد بلّغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي أرسل به فألزموا وصيّته وما ترك فيكم من بعده من الثقلين: كتابَ اللّه وأهل بيته، اللّذين لا يضلّ مَن تمسّك بهما ولا يهتدي من تركهما، اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين.

ثمّ تقول: اللّهمّ صلّ على أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين، ثمّ تُسمّي الأئمّة حتّى تنتهي إلى صاحبك، ثم تقول: اللّهمّ افتح له فتحاً يسيراً، وانصره نصراً عزيزاً. اللّهم أظهر به دينك وسنّة نبيّك حتى لا يستَخفي بشيء من الحقّ مخافة أحدٍ من الخلق. اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك والقادة في سبيلك وترزقنا فيها كرامة الدّنيا والآخرة. اللّهمّ ما حمّلتنا من الحقّ فعرّفناهُ ، وما قصرنا عنه فعلمناه.

ثمّ يدعو اللّه على عدوّه ويسأل لنفسه وأصحابه ثم يرفعون أيديهم فيسألون اللّه حوائجهم كلّها حتّى إذا فرغ من ذلك قال: اللّهمّ استجب لنا ويكون آخر كلامه أن يقول: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (2).0.

ص: 230


1- . النساء: 131.
2- . النحل: 90.

ثمّ يقول: اللّهمّ اجعلنا ممّن تذكّر فتنفعه الذّكرى ثمّ ينزل.(1)

إنّ الرواية بصدد تعليم الشيعة كيفية إيراد الخطبة في جمعاتهم، عندما تمكّنوا من إقامتها، وليس الخطيب ولا الإمام الأصل أو مَن نصبه، مقصودين فيها، فلو كانت الجمعة منحصرة بعصرهم وبمن نصبوه لصارت الرواية قليلة الفائدة.

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يستدل به على الوجوب التعييني، وهناك روايات أُخرى مبثوثة في الوسائل يمكن الاستدلال بها على المقصود، ولكن فيما ذكرنا كفاية.

***

بقيت هنا أسئلة نطرحها على طاولة البحث

السؤال الأوّل: القول بالواجب التعييني قول شاذ أعرض عنه الأصحاب عبر القرون، والأدلّة الدالّة عليه تكون أيضاً معرض عنها، فكيف أفتيتم به ؟

الجواب: أنّ القول بالوجوب التعييني لم يكن قولاً شاذاً عبر القرون، بل قال به جمع كثير نذكر أسماءهم إلى سنة 1000 من الهجرة:

1. ابن أبي عقيل (المتوفّى حدود 340 ه)، قال: صلاة الجمعة فرض على المؤمنين حضورها مع الإمام في المصر الذي هو فيه، وحضورها مع إمرته في الأمصار والقرى النائية عنه، ومَن كان خارجاً من مصر أو قرية إذا غدا من أهله بعدما صلّى الغداة فيدرك الجمعة، فإتيان الجمعة عليه فرض.(2)

ص: 231


1- . كتاب الوافي للفيض الكاشاني: 1148/8-1151.
2- . راجع: رسالتان مجموعتان، فتاوى ابن أبي عقيل: 37/36.

والشاهد في قوله: ومن كان خارجاً من مصر أو قرية... إلى آخر ما ذكره.

2. الشيخ الصدوق (المتوفّى 381 ه)، قال: فرض اللّه عزّ وجلّ ، من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرض اللّه - عزّ وجلّ - في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة... ومَن صلّاها وحده فليصلّها أربعاً كصلاة الظهر في سائر الأيام، فإذا اجتمع يوم الجمعة سبعة ولم يخافوا، أمّهم بعضهم وخطبهم.(1) 3. الشيخ المفيد (المتوفّى 413 ه)، قال: واعلم أنّ الرواية جاءت عن الصادقين عليهما السلام أنّ اللّه عزّ وجلّ فرض على عباده من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، لم يفرض فيها الاجتماع إلّافي صلاة الجمعة خاصّة. فقال - جلّ من قائل: - (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(2) ففرضها - وفّقك اللّه - الاجتماع على ما قدّمناه، إلّاأنّه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات يتقدّم الجماعة، ويخطبهم خطبتين، يسقط بهما وبالاجتماع عن المجتمعين من الأربع الرّكعات ركعتان. وإذا حضر الإمام وجبت الجمعة على سائر المكلفين إلّامَن عذّره اللّه تعالى منهم.(3)

4. أبو الصلاح الحلبي (المتوفّى 447 ه)، قال: لا تنعقد الجمعة إلّابإمام الملّة، أو منصوب من قبله، أو بمَن يتكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذّر الأمرين،3.

ص: 232


1- . الهداية: 145، كتاب الصلاة، باب أقلّ ما يجزي في إقامة الجمعة.
2- . الجمعة: 9.
3- . المقنعة: 162-163.

وأذان و...، فإذا تكاملت هذه الشروط انعقدت جمعة وانتقل فرض الظهر من أربع ركعات إلى ركعتين بعد الخطبة.(1)

5. الشيخ الطوسي (المتوفّى 460 ه) قال في باب صلاة الجمعة: لا بأس أن يجتمع المؤمنون في زمان التقية بحيث لا ضرر عليهم فيصلّوا جمعة بخطبتين.(2)

وقال في باب الأمر بالمعروف منها «ويجوز لفقهاء أهل الحقّ أن يجمعوا بالناس في الصلوات كلّها، وصلاة الجمعة والعيدين ويخطبون الخطبتين، ويصلّون بهم صلاة الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضرراً، فإن خافوا في ذلك الضرر لم يجز لهم التعرّض لذلك على حال.(3)

6. الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتابه المسمّى ب «تهذيب المسترشدين» قال: وإذا حضرت العدّة التي تصحّ أن تنعقد بحضورها الجماعة يوم الجمعة، وكان إمامهم مرضياً متمكّناً من إقامة الصلاة في وقتها، وإيراد الخطبة على وجهها وكانوا حاضرين آمنين ذكوراً بالغين كاملي، العقول، أصحّاء، وجبت عليهم فريضة الجمعة جماعة، وكان على الإمام أن يخطب بهم خطبتين ويصلّي بهم بعدها ركعتين.(4)

7. الشهيد الأوّل (المتوفّى 787 ه)، قال: تجب صلاة الجمعة ركعتين بدلاً عن الظهر بشرط الإمام أو نائبه، وفي الغيبة تجمّع الفقهاء مع الأمن.(5)1.

ص: 233


1- . الكافي في الفقه: 151-152.
2- . النهاية: 107.
3- . النهاية: 302.
4- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 381/9.
5- . الدروس الشرعية: 186/1.

8. الشيخ علي الكركي المعروف بالمحقّق الثاني (المتوفّى 940 ه)، قال صاحب روضات الجنات: كتب الشيخ نور الدين علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي «رسالة في صلاة الجمعة» أو وجوبها التخييري وأنّها أفضل الأفراد ويتعيّن الوجوب مع الفقيه الجامع للشرائط، النائب للإمام على العموم.(1)

ثمّ إنّ الجدال بين المحقّق الكركي ومعاصره الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي البحراني الغروي كان على أشدّه، فألّف الثاني رسالة في حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة ردّاً على المحقّق الثاني.(2) 9. الشهيد الثاني (المتوفّى 966 ه)، قال: إنّ الأصحاب اتّفقوا على وجوبها عيناً مع حضور الإمام أو نائبه الخاص، وإنّما اختلفوا فيه في حال الغيبة وعدم وجود المأذون له فيها على الخصوص، فذهب الأكثر - حتى كاد أن يكون إجماعاً أو هو إجماع على قاعدتهم المشهورة من أنّ المخالف إذا كان معلوم النسب لا يقدح فيه - إلى وجوبها أيضاً مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الإمام (وبعد أن ذكر الأقوال قال:) والذي نعتمده من هذه الأقوال ونختاره وندين اللّه تعالى به هو المذهب الأوّل.(3)

10. الشيخ حسين العاملي والد الشيخ البهائي (المتوفّى 984 ه)، قال في رسالته الموسومة بالعقد الحسيني: وممّا يتحتم فعله في زماننا، صلاة الجمعة لدفع تشنيع أهل السنّة، إذ يعتقدون إنّنا نخالف اللّه ورسوله وإجماع العلماء في تركها،4.

ص: 234


1- . روضات الجنات: 368/4-369.
2- . الذريعة: 75/15.
3- . رسالة في صلاة الجمعة: 3 و 4.

وظاهر الحال معهم، إمّا بطريق الوجوب التخييري وإمّا بطريق وجوبها من القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة عليهم السلام الكثيرة الصحيحة الصريحة....(1)

11. المحقّق الأردبيلي (المتوفّى 993 ه)، والظاهر من كلامه وجوبها، قال: إنّ الذي استفيد من الآية الشريفة (يعني الآية 9 من سورة الجمعة) هو وجوب الجمعة على كلّ مؤمن بعد النداء يوم الجمعة مطلقاً وتحريم البيع حينئذٍ ثمّ إباحته بعدها.(2)

12. السيد شمس الدين العاملي (صاحب المدارك) (المتوفّى 1009 ه) يقول بعد دراسة الأقوال: وبالجملة فالأخبار الواردة بوجوب الجمعة مستفيضة بل متواترة، وتوقّفها على الإمام أو نائبه غير ثابت، بل قد بيّنا أنّه لا دليل عليه، واللازم من ذلك الوجوب العيني إن لم ينعقد الإجماع القطعي على خلافه.(3)

هذه اثنا عشر نصّاً نقتصر بها، وأمّا الإشارة إلى مَن قال بالوجوب بعد هؤلاء فخارج عن وضع كتابنا، وكلّ ذلك يدلّ على عدم الإعراض.

السؤال الثاني

لو كانت صلاة الجمعة واجبة بالوجوب التعييني لعلمه الفقهاء من أصحاب الأئمّة عليهم السلام ووصلت إلينا بنقل السلف ؟

الجواب: أنّ الفقهاء والأُصوليّين اتّفقوا على أنّ الأمر ظاهر في التعييني دون التخييري، والنفسي دون الغيري، والعيني دون الكفائي، فكفى ذلك في الدلالة4.

ص: 235


1- . العقد الحسيني: 21.
2- . زبدة البيان في أحكام القرآن: 117.
3- . مدارك الأحكام: 80/4.

على أنّ الوجوب الوارد في سورة الجمعة حول صلاتها واجب تعييني لا تخييري، نفسي لا غيري، عيني لا كفائي، ولأجل هذا الظهور لم تكن هناك حاجة بالتصريح، على أنّ الأخبار الحاثّة على السعي إلى صلاة الجمعة، بل إلى عقدها كافية في التصريح.

وأمّا عدم تصريح أصحاب الأئمّة بالوجوب التعييني فلأجل عدم وجود الخلاف بينهم في أنّها فريضة تعيينية، فكأنّ تسليمهم قلباً وعملاً أغناهم عن عنوان المسألة وبيان حكمها وإنّما ظهر الخلاف في العصور المتأخّرة بعد عصر الصدوق (306-381 ه) وقد كانوا ملتزمين بهذه الصلاة إمّا بالمشاركة في صلاة الآخرين كما ظهر ممّا نقلناه في أحوال زرارة بن أعين، أو بالانعقاد مستقلّاً، فعدم وجود فكرة الخلاف سبّب عدم التصريح بالحكم، ولذلك لاترى أي سؤال عن حكم صلاة الجمعة في الأسئلة التي طرحت على أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

***

السؤال الثالث

لو لم يشترط حضور السلطان العادل أو مَن نصبه كان لكلّ واحد عقدها وإقامتها ولم يتكلّف الناس في تلك الأعصار على الفرسخين مع سهولة اجتماع الخمسة أو السبعة، وأقلّ الواجب من الخطبة أمر سهل يتعلّمه كلّ أحد؟

الجواب: إنّ وجود الخطيب العادل الذي تطمئن إليه نفوس البلد أو القرية، ليس من الأُمور السهلة جدّاً، ولذلك جاء في غير واحد من الأخبار بإقامة الجمعة

ص: 236

إذا فرض وجود مَن يخطب.(1)، فلو كان وجوده في كلّ مجتمع من مجتمعات المسلمين معلوماً ضرورياً، لكان الشرط المذكور ملحقاً باللغو.

وببيان آخر: إنّ المرتكز في أذهان المسلمين من صلاة الجمعة ليس مجرّد الاقتصار على صعود الخطيب المنبر والاكتفاء بقوله: أيّها الناس اتّقوا اللّه ثم ينزل مع قراءة سورة الإخلاص حتى يقال: ما أكثر الخطباء في الأمصار والقرى؛ بل المرتكز أنّها صلاة لها كيان وعظمة وللخطيب مهابة حين إلقاء الخطبة ولكلامه تأثير في المخاطبين، ولذلك كان أصحاب رسول اللّه يتهيّأون لتلك الفريضة يوم الخميس كما مرّ، فمثل هذه الصلاة والخطيب لم يكن أمراً متوفّراً في كلّ قرية، ولذلك سمحوا لسكّان الفرسخين أن يصلّوا الظهر مكان الجمعة.

***

السؤال الرابع

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو بنفسه يعقد الجمعة ويقيمها، وكذلك الخلفاء من بعده حتّى أمير المؤمنين عليه السلام، فكان الخلفاء ينصبون في البلدان أشخاصاً معيّنين لإقامتها، ولم يُعهد في تلك الأعصار تصدّي غير المنصوبين لإقامتها، وصار هذا الأمر مركوزاً في أذهان جميع المسلمين حتى أصحاب الأئمّة عليهم السلام، فكان جميع الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام ملقاة إلى الذين ارتكز في أذهانهم كون إقامة الجهة من خصائص الخلفاء والأُمراء.(2)3.

ص: 237


1- . لاحظ: الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 6؛ والباب 5، الحديث 3.
2- . البدر الزاهر: 23.

وقد مرّ قول المحقّق: إنّ معتمدنا فعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة وكذا الخلفاء من بعده، فكما لا يصحّ أن ينصب الإنسان نفسه قاضياً من دون إذن الإمام، كذا إمام الجمعة.

الجواب: أوّلاً: أنّا لم نقف على حديث على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نصب شخصاً لخصوص إقامة صلاة الجمعة. نعم كان ينصّب الوالي وهو يقوم بمسؤوليات منها صلاة الجمعة. نعم أرسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مصعب بن عمير إلى يثرب لتعليم الناس القرآن والصلاة وإقامتها، وما ذلك إلّالأنّ المسلمين لم يكونوا عارفين بالقرآن والصلاة وأحكامها، فالنصب في هذه الموارد التي لا يقيمها في المحل إلّا المنصوب لا يدلّ على شرطية النصب.

وثانياً: أنّ الفعل فاقد للظهور فلا يدلّ على الشرطية، ولعلّ النصب حتى في غير مورد مصعب كان لأنّ صلاة الجمعة صلاة خاصّة ولها خصوصيات لا يقوم بها إمام الجماعة في أيّام الرسالة، فلذلك كان يعيّن من يقوم بهذه الفريضة.

وثالثاً: أنّ ما ذكره المحقّق من تشبيه المقام بالقضاء تشبيه مع الفارق؛ لأنّ القضاء تصرّف في النفوس والأموال ولا يصحّ لإنسان أن ينصب نفسه للقضاء لتلك الغاية، وهذا بخلاف إمامة صلاة الجمعة إذ ليس له إلّاالأمر بالتقوى وإنذار الناس، فلو اجتمع في إنسان شيء من الثقافة وحفظ القرآن والحديث فهذا ما يقبله الناس للإمامة. وأمّا نصب الخلفاء أشخاص معيّنين لإقامة الجمعة فلأنّ منبر هذه الصلاة كانت وسيلة لدعم خلافتهم ودعوة الناس إليهم، ولا فرق في ذلك بين الأمويّين

ص: 238

والعباسيّين وغيرهم، فإنّهم اتّخذوها وسيلة لدعم منصبهم. فلا يدلّ على أنّ الإقامة منصب جمع خاص.

***

السؤال الخامس

روى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام ما يظهر منه شرطية النصب، وقد جاء في الرواية: فإن قال قائل: فَلِمَ صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين وإذا كانت بغير إمام ركعتين وركعتين. قيل: لعلل شتّى. منها - إلى أن قال - : «أنّ الصلاة مع الإمام أتم وأكمل لعلمه وفقهه وفضله وعدله. ومنها: أنّ الجمعة عيد، وصلاة العيد ركعتان، ولم تقصر لمكان الخطبتين، فإن قال: فلم جُعلت الخطبة ؟ قيل: لأنّ الجمعة مشهد عامّ ، فأراد أن يكون للإمام سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفات [الأوقات] ومن الأحوال التي لهم فيها المضرة والمنفعة، ولا يكون الصائرَ في الصلاة، منفصلاً وليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة»(1).

استدلّ بهذه الرواية على أنّ المراد من الإمام غير إمام الجماعة الذي لا يشترط فيه إلّاالعدالة، وقد اشترط في إمام صلاة الجمعة أُمور أُخرى، وذلك بالتمسّك بالمقاطع التالية:

1. قوله: «إذا كانت مع الإمام ركعتين وإذا كانت بغير إمام ركعتين ركعتين»2.

ص: 239


1- . عيون أخبار الرضا: 118/2؛ علل الشرائع: 264/1-265، الباب 182.

حيث يدلّ على أنّ إمام الجمعة إمام مطلق غير إمام الجماعة. «فإذا صلّوا الظهر فإنّما يصلّون جماعة، ومع ذلك يصدق عليهم أنّهم صلّوا بغير إمام».

يلاحظ عليه: أنّ غاية ما يدلّ عليه، مغايرة الإمامين من حيث المقدرة على إلقاء الخطبتين، إذ ليس كلّ إمام للجماعة قادراً عليها، لما عرفت من أنّ لصلاة الجمعة كياناً خاصّاً وللإمام مهابة، ولكلامه تأثيراً، وليس ذلك فعل كلّ شارد ووارد، وأين ذلك من كونه إماماً معصوماً أو نائباً عنه ؟

2. قوله: «إنّ الصلاة مع الإمام أتمّ وأكمل لعلمه وفقهه». ومن المعلوم أنّه ليس من صفات إمام الجماعة.(1)يلاحظ عليه: أنّ الرواية واردة مورد الغالب فإنّ الغالب تصدي منصب الجمعة من قبل العالم الفقيه لا العامّي العادل. مضافاً إلى أنّه يدلّ على كون الإمام موصوفاً بهذه الصفات وهي أعمّ من كونه منصوباً.

3. ما في بعض النسخ «للأمير» وهو لا يصدق على إمام الجماعة.

يلاحظ عليه: بأنّ النسخ مختلفة ففي بعضها: (للإمام لا للأمير).

4. قوله: «وليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة» فإنّه أوضح تعبير على اختلاف الإمامين.

يلاحظ عليه: كما تقدّم من أنّه لا يدلّ على أزيد من كون إمام الجمعة موصوفاً بصفات خاصّة والتي لا تعتبر في إمام الجماعة، وأين هذا من المدّعى من كونه معصوماً أو منصوباً منه ؟ على أنّ صاحب الوسائل ذكر أنّ تلك الفقرة غيرق.

ص: 240


1- . هذه الفقرة سقطت من قلم صاحب الوسائل وإنّما نقلناها من كتاب علل الشرائع: 348/1، الطبعة المحقّقة: سنة 1430 ه، نشر كلمة الحق.

موجودة في «عيون الأخبار».

5. قوله: «ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق»، فإنّ إمام الجماعة مع المأمومين سيان في ذلك.

يلاحظ عليه: بأنّه وارد مورد الغالب، فبما أنّ صلاة الجمعة صلاة خاصّة في كلّ أُسبوع، فتكون مشروطة بخطبتين لا يقدم أحد على عقدها إلّامَن كان له اطّلاع واسع على ما يجري في الدنيا. مضافاً إلى ما مرّ من أنّه لا يدلّ على لزوم كون الإمام منصوباً، بل يدلّ على كون الإمام مطّلعاً عمّا يجري على المسلمين من الحوادث والكوارث.

***

السؤال السادس

ما ورد في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، ولا تجب على أقلّ منهم: الإمام، وقاضيه، والمدعي حقّاً، والمدّعى عليه، والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام».(1)

الجواب: أنّ مضمون الحديث من المعضلات إذ لم يقل أحد من الفقهاء بشرطية حضور من ذكر في الرواية من القاضي والمدّعي والمدّعى عليه، فالحديث مردود إليهم عليهم السلام.

قال في «الوافي»: كأنّه إشارة إلى العلّة في اعتبار العدد إذ التمدّن لا يخلو9.

ص: 241


1- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 9.

غالباً من مخاصمة لا تكاد تتحقّق بأقل منه. أو صدر الحديث عن تقية لاشتراطهم التمدّن في الجمعة، وذلك لعدم اشتراط وجود هذه الأشخاص بعينها في انعقاد الجمعة بالاتّفاق.(1)

***

السؤال السابع روى الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما يصلّي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام، كي إذا قضوا الصلاة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رجعوا إلى رحالهم قبل الليل، وذلك سنّة إلى يوم القيامة».(2)

قال السيد البروجردي: ويستفاد من هذه الرواية أنّ إقامة الجمعة ليست بيد كلّ أحد، وكذلك جميع الروايات الدالّة على وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بفرسخين وعدم وجوبه على مَن بعد بالأزيد، كيف ولو لم تشترط بحضور السلطان العادل أو مَن نصبه وكان لكلّ أحد عقدها وإقامتها لم يتكلّف الناس في تلك الأعصار طي الفرسخين مع سهولة اجتماع الخمسة أو السبعة، وأقلّ الواجب من الخطبة أيضاً يسهل تعلّمه لكلّ أحد.(3)

يلاحظ عليه: أنّه ليس سؤالاً جديداً بل هو نفس السؤال الثالث، وقد عرفت4.

ص: 242


1- . الوافي: 1129/9-1130.
2- . الوسائل: 5، الباب 4 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1. يريد صلاة العصر يوم الجمعة في وقت الظهر في سائر الأيام.
3- . البدر الزاهر: 14.

أنّ متلّقى الناس من أنّ صلاة الجمعة لم تكن صلاة كسائر الصلوات اليومية، بل كانت عندهم لها مكانة خاصّة من حيث إيراد الخطبتين وغيرهما، ولذلك لم يكن القائم بذلك متوفّراً في القرى والقصبات وإلّا لم يسمح للمتواجد في الأزيد من الفرسخين ترك الجمعة.

إلى هنا تمّت الأسئلة المطروحة حول وجوب الجمعة تعيينياً، غير أنّ هنا أمراً لابدّ منه وهو أنّ لصلاة الجمعة وقتاً وكيفية وإماماً وخطيباً ومكاناً محدّداً بحدود، فإجراؤها بحاجة إلى أن يكون هناك مسؤول يُشرف على هذه الأُمور وينظّمها، إذ فرق بينها وبين الصلوات اليومية العادية، فالمشرف في عصر الظهور هو الإمام عليه السلام، وأمّا في عصر الغيبة فالمشرف عليها هو الفقيه الجامع للشرائط أو السلطان العادل. وعلى هذا فليست صلاة الجمعة أمراً يقيمها كلّ أحد، بل لابدّ من كون الإمام منصوباً من مقام خاص، وهو أحد المقامين.

وبذلك يعلم ضعف ما ذكره بعضهم من أنّ الاجتماع لمّا كان مظنّة النزاع ومثار الفتن، والحكمة موجبة لحسم مادة الاختلاف، فالواجب قصر الأمر في ذلك على الإمام بأن يكون هو المباشر لهذه الصلاة أو الإذن فيها، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومَن بعده من الخلفاء كانوا يعيّنون أئمة الجمعات.(1)

ولكنّك قد عرفت أنّ رفع الفتنة، يحصل بإشراف سلطان عادل، أو فقيه جامع للشرائط يشرف على إقامة الصلاة في البلاد حتى لا تتثنى الصلاتان في مكان أقلّ من فرسخ. واللّه العالم.9.

ص: 243


1- . الحدائق الناضرة: 422/9.

فرع: تعدّد الجمعة في أقلّ من فرسخ

الغرض النهائي من دراسة آيات الأحكام هو تبيين مضامينها ومفاهيمها وأمّا الفروع المترتبة عليها المذكورة في الكتب الفقهية فغير مطروحة لنا، إلّاأنا عدلنا عن ذلك الأصل في هذا الفرع ليعلم أنّ تعدد الجمعة في أقلّ من فرسخ يعدّ بدعة أصفق عليها علماء الفريقين.

قال المحقّق: أن لا يكون هناك جمعة أُخرى، وبينهما دون ثلاثة أميال (ثلاثة أميال تساوي فرسخاً واحداً)، فإن اتّفقتا بطلتا، وإن سبقت إحداهما ولو بتكبيرة الإحرام بطلت المتأخّرة، ولو لم تتحقّق السابقة أعادا ظهراً.(1)

وربما يتصوّر أنّ هذا الحكم من خصائص الفقه الإمامي ولكن بعد الرجوع إلى ما عليه فقهاء السنّة يعلم أنّ هذه هي سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

قال العلّامة عبد اللّه بن الصدّيق الغماري (1328-1413 ه) في كتابه: «إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة» ما هذا لفظه: تعدّد الجمعة لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا في عهد الصحابة والتابعين.

روى البيهقي في المعرفة من طريق أبي داود في المراسيل عن بكير بن الأشج، قال: كان في المدينة تسعة مساجد مع مسجده صلى الله عليه و آله و سلم، يسمع أهلها أذان بلال فيصلّون في مساجدهم. زاد يحيى: ولم يكونوا يصلّون الجمعة في شيء من تلك المساجد إلّامسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم. قال الحافظ: ويشهد له صلاة أهل العوالي مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم الجمعة كما في الصحيح. وصلاة أهل قباء معه، كما رواه ابن ماجة وابن

ص: 244


1- . شرائع الإسلام: 690/1.

خزيمة.

وروى البيهقي: أنّ أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة. قال البيهقي:

ولم ينقل أنّه أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة، ولا في القرى التي يقربها. وقال الأثرم لأحمد: أجمع جمعتين في مصر؟ قال: لا أعلم أحد فعله.

وقال ابن المنذر: لم يختلف الناس أنّ الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلّافي مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وفي تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد، أبين البيان بأنّ الجمعة خلاف سائر الصلوات وأنّها لا تصلى إلّافي مكان واحد. انتهى

وذكر الحافظ ابن عساكر في مقدمة «تاريخ دمشق»: أنّ عمر كتب إلى عمّاله:

إلى أبي موسى، وإلى عمرو بن العاص، وإلى سعد بن أبي وقّاص: أن يتخذ مسجداً جامعاً ومسجداً للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع، فشهدوا الجمعة.(1)

وذكر الحافظ الخطيب في «تاريخ بغداد»: أنّ أوّل جمعة أحدثت في الإسلام في بلد، مع قيام الجمعة القديمة، في أيام المعتضد في دار الخلافة، يعني بغداد، من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة، وسبب ذلك، خشية الخلفاء على أنفسهم. وذلك في سنة ثمانين ومائتين، ثم بني في أيام المكتفي، مسجد فجمعوا فيه.(2)7.

ص: 245


1- . تاريخ دمشق لابن عساكر: 322/2، دارالفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995 م.
2- . تاريخ بغداد: 403/4-407.

أحكام الصلاة

7. الجهر والمخافتة في الصلاة

اشارة

قال تعالى: (قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً) .(1)

المفردات

ادعوا اللّه: أي سمّوه بأحد الاسمين: اللّه، والرحمن.

تخافت: يقال: تخافت القوم: تسارّوا فيما بينهم، واللغة الدارجة هي المخافتة. وأمّا أخفت فليست لغة دارجة، نعم هو كثير الورود في الكتب الفقهية.

أيّاً مّا: «أي» اسم استفهام في الأصل، فإذا اقترن ب «ما» الزائدة، أفادت الشرط، ولذلك جزم الفعل بعدها وهو «تدعو» شرطاً. وجاء الجواب مقروناً بالفاء،

ص: 246


1- . الإسراء: 110-111.

وهو قوله: (فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى ) . والجملة الاسمية إذا وقعت جواباً تلزمها «الفاء» للقاعدة المعروفة: كلّ جزاء يمتنع جعله شرطاً فالفاء لازمة.

كان المشركون ينزعجون من سماع كلمة الرحمن، وقد حكاه عنهم سبحانه في قوله: (وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا اَلرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً) (1).

روى أهل السِّير أنّه لمّا جرى الصلح بين قريش المشركة وبين النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية، دعا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً ليكتب وثيقة الصلح، فلمّا أمره أن يكتب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» قال سهيل بن عمرو (مندوب قريش): لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.(2)

التفسير

قوله: (قُلِ ) يا محمد (اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ ) فلا حرج في دعائه بأي اسم كان، ثم علّله بقوله: (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى ) فكلّ يشير إلى كمال من كمالاته سبحانه. وأمّا كيفية الدعاء فيذكره بقوله: (وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها) ، فيقع الكلام في ما هو المراد من الصلاة، وهل هي بمعنى الدعاء، أم العبادة المعروفة ؟ والظاهر هو الأوّل، أي دعاء اللّه بأسمائه، والشاهد على ذلك تقدّم قوله سبحانه: (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى ) وعلى هذا فللداعي أن يتّخذ طريقاً وسطاً بين الجهر والمخافتة، وبما أنّه أُريد من المخافتة هو التسارّ، يكون المراد من الجهر هو رفع الصوت بشدّة، فيجب أن يكون الداعي داعياً للّه لا

ص: 247


1- . الفرقان: 60.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 281/2.

بصورة سرّية حتى لا يسمع نفسه، ولا بصورة جهرية أي رفع الصوت عن المتعارف.

نعم الجهر في اللغة بمعنى رفع الصوت على وجه الإطلاق خفيفاً كان أو شديداً، غير أنّ المراد به في الآية بقرينة المخافتة هي رفع الصوت بشدّة، ولولا المقابلة لما فسّر الجهر برفع الصوت شديداً، وبما ذكرنا ورد التفسير عن الإمام الصادق عليه السلام، روى سماعة مضمراً عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : (وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها) ، قال: «المخافتة ما دون سمعك، والجهر أن ترفع صوتك شديداً».(1)

وقد روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ ربّكم ليس بأصم ولا غائب هو بينكم وبين رؤوس رحالكم».(2) وعن ابن عباس: أنّ معناه: لا تجهر بدعائك ولا تخافت بها ولكن بين ذلك.(3)

والمروي عن ابن عباس وإن ورد في رفع الصوت في الدعاء، ولكن يمكن أن تكون ضابطة كلّية في أكثر المجالات التي يتوجّه فيها الإنسان إلى اللّه سبحانه.

هذا ويظهر من بعض الروايات أنّ الصلاة في الآية بمعنى العبادة المعروفة، فقد روى علي بن إبراهيم بسند صحيح عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

أعلى الإمام أن يُسمع مَن خلفه وإن كثروا؟ قال: «ليقرأ قراءة وسطاً، يقول اللّه تبارك6.

ص: 248


1- . تفسير نور الثقلين: 233/3.
2- . سنن الترمذي: 172/5.
3- . مجمع البيان: 349/6.

وتعالى: (وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها) ».(1)

وممّا ذكرنا يعلم أنّ كيفية صلاتنا في الظهرين لا تخالف الآية، فإنّ تلك الكيفية ليست جهراً كما هو واضح لما مرّ من أنّه هو رفع الصوت شديداً وفي الوقت نفسه ليست مخافتة أيضاً؛ لأنّها عبارة عمّا لا يسمع القارئ نفسه، والرائج هو سماع نفسه وإن لم يسمع غيره. وهذا هو الذي يصفه سبحانه بقوله: (وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) .

وقريب من ذلك ما رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الجهر بها رفع الصوت شديداً والمخافته ما لم تسمع أُذنيك، واقرأ قراءة وسطاً ما بين ذلك وابتغ بين ذلك سبيلاً».(2)

ثمّ إنّي رأيت بعض من لم يكن له إلمام باللغة العربية كان يجهر في الظهرين بزعم أنّ الكيفية الرائجة مخافتة منهية، مع أنّك قد عرفت أنّ الآية لو كانت ناظرة إلى العبادة المعروفة فالمراد من الجهر ليس هو مطلق رفع الصوت؛ بل رفعه بشدّة فيشكّل قرينة على أنّ المخافتة هي التسارّ الذي لا يسمع حتى نفسه، وعليه تكون قراءة الصلاة على نحو الإخفات الذي يسمع المصلّي كلامه أو يسمعه الواقف إلى جانبه من مصاديق الآية فليست جهراً ولا مخافتة.6.

ص: 249


1- . تفسير نور الثقلين: 233/3.
2- . مجمع البيان: 350/6.

أحكام الصلاة

8. التسليم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد

اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً) .(1)

المفردات

الصلاة: هي طلب الرحمة، وإذا نسبت إلى اللّه سبحانه جُرّدت عن الطلب، والغاية هي الاعتناء بشرف النبيّ ورفع شأنه، ومن هنا قال بعضهم: تشريف اللّه محمداً صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: (إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ ) أبلغ من تشريف آدم بالسجود له.(2)

تسليماً: التسليم: فيه احتمالان:

1. الانقياد، قال تعالى: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .(3)

ص: 250


1- . الأحزاب: 56.
2- . كنز العرفان في فقه القرآن: 131/1.
3- . النساء: 65.

2. المراد من التسليم هو الوارد في التشهّد، أعني: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته؛ وعليه الزمخشري والقاضي في تفسيريهما، وذكره الشيخ الطوسي في تبيانه، وهو الحقّ . لقضية العطف، حيث عطف قوله: (وَ سَلِّمُوا) على (صَلُّوا) (1)، حيث يدلّ على التغاير فالآية تدلّ على طلب الرحمة للنبيّ أوّلاً والسلام عليه في التشهّد ثانياً.

ويقع الكلام في مقامين:

1. التسليم والصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد.

2. الصلوات عليه خارج التشهّد عند ذكر اسمه.

أمّا المقام الأوّل: فقد اتّحدت المذاهب الأربعة مضافاً إلى الإمامية بدخول السلام على النبيّ في التشهّد، فإنّ صيغ التشهّد عند المذاهب وإن كانت تختلف، لكن الجميع يشتمل على عبارة: «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته».

نعم اختلفوا في وجوب التسليم، قال الشافعية والمالكية والحنابلة: التسليم واجب، وقال الحنفية: ليس بواجب.(2)

والظاهر من الشيخ في «الخلاف» أنّ القائل بالوجوب هو الشافعي في التشهّد الأخير، والباقي على الاستحباب.(3)

وأمّا الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد فقد قال الشيخ في «الخلاف»:4.

ص: 251


1- . كنز العرفان: 132/1.
2- . الفقه على المذاهب الخمسة: 114، نقلاً عن بداية المجتهد: 126/1.
3- . الخلاف: 376/1، المسألة 134.

الصلاة على النبي فرض في التشهّدين، وركن من أركان الصلاة، وبه قال الشافعي في التشهّد الأخير، وبه قال: ابن مسعود، وأبو مسعود البدري الأنصاري واسمه عقبة بن عمر، وابن عمر، وجابر، وأحمد وإسحاق. وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه: إنّه غير واجب.(1) والمسألة فقهية فهي بحاجة إلى دراسة أدلّة التشهّد.

فالتسليم على النبيّ جزء من التشهّد، وهو غير التسليم الذي يخرج به المصلّي عن الصلاة.

الآية دالّة على أنّ النبيّ حيّ

وهنا أمر نعطف نظر القارئ إليه وهو أنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة يمنعون من الصلاة على أولياء اللّه، قائلين بأنّ الموت صار حاجزاً بيننا وبينهم.

فنقول: قد ورد في الذكر الحكيم أنّ اللّه سبحانه يصلّي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم وملائكته يصلّون عليه، ويأمر المؤمنين بالصلوات عليه، فلو كان الموت حاجزاً فما معنى الأمر بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

والظاهر أنّ هؤلاء يرون الموت فناءً للإنسان، بحيث لا يبقى منه شيء، ولكن القرآن يرى الموت انتقال الإنسان من دار إلى دار، وعند ذلك يصبح السلام أمراً معقولاً.

ص: 252


1- . الخلاف: 369/1، المسألة 128.

المقام الثاني: الصلاة على النبيّ عند ذكر اسمه

هذا كلّه حول المقام الأوّل، وأمّا المقام الثاني وهو وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غير الصلاة أو استحبابها.

قال جمال الدين المقداد: ذهب الكرخي إلى وجوبها في العمر مرّة، وقال الطحاوي: كلّما ذُكر، واختاره الزمخشري، ونقل عن ابن بابويه من أصحابنا.(1)

والظاهر من أصحابنا هو الاستحباب.

وعلى كلّ تقدير فسواء أكان واجباً أو مستحبّاً، إنّما الكلام في كيفية الصلاة عليه، فقد علّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين، كيفية الصلاة عليه في حديث نقله الفريقان.

أمّا محدثّو أهل السنّة، فقد رووا الحديث كما يلي:

1. روى كعب بن عجرة قال: قلت: يا رسول اللّه قد علمنا (أو عرفنا) كيف السلام عليك فكيف الصلاة ؟ قال: قولوا: «اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم». رواه جماعة(2) إلّاأنّ الترمذي قال فيه: على إبراهيم في الموضعين.(3)

2. روى البخاري في صحيحه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:

لقيني كعب بن عجرة... فقال: سألنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلنا: يا رسول اللّه كيف

ص: 253


1- . كنز العرفان: 133/1.
2- . مسند أحمد: 241/4؛ سنن النسائي: 48/3.
3- . سنن الترمذي: 301/1.

الصلاة عليكم أهل البيت فإنّ اللّه قد علّمنا كيف نسلّم ؟ قال: قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».(1)

ففي قولهم: «كيف الصلاة عليكم أهل البيت ؟» دلالة على أنّ المرتكز هو الصلاة على النبي وأهل بيته فما في بعض الروايات من إدخال الأزواج في قوله: «اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى أزواجه وذرّيته» فلا يعتدّ به.(2) مع ما ورد من الذم لبعضهنّ في سورة التحريم.

أمّا الشيعة فقد رواه الشيخ الطوسي في كتاب المجالس باسناده عن كعب بن عجرة قال: قلت: يا رسول اللّه، قد علّمتنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال: «قولوا: اللّهم صلّ على محمّد (وآل محمد) كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمد (وآل محمد) كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».(3)

وبذلك يُعلم أنّ الصلوات على النبي بحذف الآل يخالف ما أمر به النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وأعجب منه أنّهم حذفوا الآل، وعندما أتوا بالآل أضافوا إليه (وصحبه) مع أنّه لم يرد في أي آية أو حديث أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم صلّى على الصحابة بما هم صحابة!!

فإن قلت: إنّه سبحانه أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يصلّي على مَن يأخذ منهم الزكاة،2.

ص: 254


1- . صحيح البخاري: 118/4-119، كتاب بدء الخلق، باب يزفّون النسلان في المشي.
2- . صحيح مسلم: 17/2، باب الصلاة على النبي بعد التشهّد.
3- . الوسائل: 4، الباب 35 من أبواب الذكر، الحديث 2.

وقال: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .(1)

قلت: إنّ الآية ناظرة إلى الصلاة على مَن يؤدّي زكاة ماله من غير فرق بين الصحابي وغيره، وليس كلّ صحابي أدّى زكاته إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولذلك أفتى الفقهاء باستحباب الصلاة على المؤدّي للزكاة حين أدائها، وأيّ صلة للآية بالصلاة على الصحابي في كلّ وقت ؟!

الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا لم يذكر الآل فيها:

إنّ حذف الآل - مضافاً إلى أنّه على خلاف ما رواه في تعليم النبي صلى الله عليه و آله و سلم - يخالف ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء»، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: «تقولوا: اللّهمّ صلّ على محمد وتمسكون، بل قولوا: اللّهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد».

ثم نقل عن الإمام الشافعي قوله:

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له

فقال: فيحتمل لا صلاة له صحيحة، فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل، ويحتمل لا صلاة كاملة، فيوافق أظهر قوليه.(2)

وهنا كلام لبعض المحقّقين من أهل السنّة حول الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 255


1- . التوبة: 103.
2- . الصواعق المحرقة: 146، طبعة عام 1385 ه.

نأتي بنصّه، قال:

1. ومن المعلوم أنّ الصلاة المأمور بها التي وردت هي المقرونة بالآل، فقد علّم النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُمّته الصلاة المأمور بها في كتاب اللّه مقرونة بالآل فقال: «قولوا اللّهمّ صلّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأُمّيّ وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

فمَن صلّى على النبي صلى الله عليه و آله و سلم من غير أن يذكرهم في صلاته لم يأت كامل الصلاة المأمور بها. فلو جرينا على أصل «أنّ ما خالف سنّة الرسول يكون بدعة سيّئة» لكان كلّ هذه الصلوات بدعة ضلالة، أي حرام فضلاً عن أن يكون لها أجر.

أمّا على الأصل الذي قال به مخالفوهم من أنّ مخالفة السنّة ليس بدعة ضلالة، فيحصل بها ثواب أصل الصلاة وإن لم يحصل بها الثواب الكامل الذي يحصل بموافقة السنّة.

2. يلحق كثير من الناس في كلّ صلاة يصلّونها على النبي صلى الله عليه و آله و سلم الصلاة على الصحابة رضوان اللّه عليهم، ولم تجئ رواية صحيحة بالصلاة على الصحابة.

فعلى أصل هؤلاء من أنّ مخالفة فِعْل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ليس بدعة ضلالة»(1)يكون هذا الإلحاق مخالفاً للسنّة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ترك الصلاة على الصحابة في حديث التعليم، ممّا يدلّ على أنّها مخصوصة للآل.

وأمّا على ما قرّرناه يكون قولها زيادة على المشروع لا يراد بها إلّاالدعاء لهم فيحصل به الدعاء لهم.(2)9.

ص: 256


1- . سياق العبارة يدلّ على هذه الزيادة ولعلّها سقطت عند الطبع، وإلّا فلا تستقيم العبارة.
2- . إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة لعبد اللّه الصدّيق الغماري: 258-259.

ما ذا يراد من الآل ؟

وأمّا ما هو المراد من الآل ؟ فقد قام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في غير موقف من المواقف بتبيينه.

روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال:

أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب ؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم... ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ ) .(1) دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي».(2)

حتى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخرج بعض أزواجه عن كونهم من أهل البيت.

روى عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (3) في بيت أُمّ سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره فجلّله بكساء، ثم قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً». قالت أُمّ سلمة: وأنا معهم يا نبيّ اللّه ؟ قال: «أنت على مكانك، وأنت على خير».(4)

ص: 257


1- . آل عمران: 61.
2- . صحيح مسلم: 1871/4 برقم 32، طبع دار الحديث، مصر، القاهرة - 1412 ه.
3- . الأحزاب: 33.
4- . سنن الترمذي: 192/5، طبع دار الحديث مصر، القاهرة - 1419 ه.

أحكام الصلاة

9. الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن

اشارة

قال تعالى: (وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .(1)

المفردات

استمعوا له: اصغوا لغاية الفهم.

أنصتوا: اسكتوا. وفي «كنز العرفان»: لم أجد أحداً من المفسّرين فرّق بين الاستماع والإنصات، فيكون معنى الآية: إذا قرئ القرآن فاستمعوا له، غير أنّ ظاهر العطف هو المغايرة بين المعنيين. والذي يظهر لي أن استمع بمعنى سمع، والإنصات توطين النفس على الاستماع مع السكوت.(2)

ولكن الظاهر من الحديث النبوي أنّ الإنصات هو السكوت، ففي الحديث:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا رسول اللّه ما حقّ العلم ؟ قال: «الإنصات له» قال:

ص: 258


1- . الأعراف: 204.
2- . كنز العرفان: 195/1.

ثم مه ؟ قال: «الاستماع له»، قال: ثمّ مه ؟ قال: «الحفظ له» قال: ثم مه ؟ قال: «العمل به»، قال: ثم مه ؟ قال: «نشره».(1)

وعلى هذا فمعنى الآية إذا قرئ القرآن فاستمعوا واسكتوا لأجل الاستماع، ويشهد على ما ذكرنا من أنّ الإنصات بمعنى السكوت ما يأتي من الروايات.

وعلى كلّ تقدير فظاهر المجموع هو السكوت لغاية الاستماع.

التفسير

تدلّ الآية على أنّه إذا قرئ القرآن فعليكم باستماعه والسكوت مادام القرآن يتلى. ويترتب على ذلك قوله: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .

والظاهر أنّ الخطاب للمؤمنين دون الكافرين؛ لأنّ عمل الكافرين على ضد هذه الآية كما حكى عنهم سبحانه بقوله: (وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ ) (2) ومع ذلك لم يحكم بالترّحم بصورة قاطعة بل قال:

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) لأنّ بين العمل وقبوله، موانع وعراقيل ربما تمنع عن قبوله، ولذلك لم يقل: «وأنتم ترحمون» على سبيل القطع والجزم.

ثمّ إنّ الأمر بالاستماع والإنصات حين قراءة القرآن لغاية تكريمه، فالمتكلّم هو اللّه سبحانه عن لسان الوحي، ومقتضى ذلك حفظ الأدب في ذلك المقام، مضافاً إلى ما فيه من الهداية والرحمة للمؤمنين.

ص: 259


1- . بحار الأنوار: 28/2، برقم 8، عن الخصال.
2- . فصلت: 26.

اختصاص السكوت بحال الصلاة عند قراءة الإمام

ثمّ إنّ هنا طائفتين من الروايات:

الأُولى: ما يستظهر منها اختصاص مورد الآية هو الصلاة خاصّة خلف الإمام الذي يُؤتَّم به إذا سمعت قراءته، وفي المجمع: روي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام قالوا: وكان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم، ويسلّم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل فقال لهم: كم صلّيتم ؟ أجابوه، فنهوا عن ذلك، وأُمروا بالاستماع.

1. روى السيوطي عن ابن عباس قال: صلّى النبيّ فقرأ خلفه قوم، فنزلت: (وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا) .(1)

2. أُريد به الخطبة حيث أُمروا بالإنصات والاستماع إلى خطبة الإمام يوم الجمعة.

3. إنّه في الخطبة والصلاة جميعاً.(2)

يقول الشيخ الطوسي: أقوى الأقوال الأوّل؛ لأنّه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلّاحال قراءة الإمام في الصلاة، فإنّ على المأموم الإنصات والإستماع.(3)

وظاهر بعض الروايات يؤيّد هذا القول ففي صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبداللّه عليه السلام: سألته عن الرجل يؤم القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها

ص: 260


1- . تفسير الدر المنثور: 155/3.
2- . مجمع البيان: 455/4.
3- . التبيان في تفسير القرآن: 68/5.

بالقراءة ؟ فقال: «إذا سمعت كتاب اللّه يتلى فأنصت له».(1)

وفي رواية عمرو بن الربيع النصري عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنّه سئل عن القراءة خلف الإمام ؟ فقال: «إذا كنت خلف إمام تتولّاه وتثق به يجزيك قراءته؛ وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه، فإذا جهر فأنصت، قال اللّه تعالى:

(وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ».(2)

الطائفة الثانية: ما يدلّ على وجوب السكوت مطلقاً، ويدلّ عليه أمران:

1. ما روي أنّ عليّاً كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكوّاء وهو خلفه: (وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ) (3) فأنصت علي عليه السلام تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في قراءته، ثم أعاد ابن الكوّاء الآية فأنصت علي عليه السلام أيضاً ثم قرأ فأعاد ابن الكوّاء فأنصت علي عليه السلام ثم قال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (4) ثم أتمّ السورة ثم ركع.(5)

ولكن في دلالته أيضاً على الوجوب تأمّل، لأنّ الفعل أعمّ من الوجوب لاحتمال كونه مستحباً.

2. روى زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وفي غيرها، وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات7.

ص: 261


1- . التهذيب: 35/3 برقم 127.
2- . التهذيب: 33/3 برقم 120.
3- . الزمر: 65.
4- . الروم: 60.
5- . التهذيب: 35/3-36 برقم 127.

والاستماع».(1)

أقول: لا منافاة بين الطائفتين، فيجب الإنصات عند قراءة الإمام، كما يجب عند سماع قراءة القرآن، فهنا حكمان مثبتان لموضوعين مختلفين.

نعم هذا لولا السيرة العملية على عدم الوجوب في غير حال الصلاة، مضافاً إلى شأن النزول. ومع ذلك الأحوط هو الإنصات مطلقاً.2.

ص: 262


1- . تفسير العياشي: 44/2 برقم 132.

أحكام الصلاة

10. سجود التلاوة

الآية الأُولى

قال سبحانه: (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) .(1)

الآية الثانية

قال سبحانه: (وَ مِنْ آياتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) .(2)

الآية الثالثة

قال سبحانه: (وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ * وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ

ص: 263


1- . السجدة: 15.
2- . فصّلت: 37.

فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَ اُعْبُدُوا) .(1)

الآية الرابعة

قال سبحانه: (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ * سَنَدْعُ اَلزَّبانِيَةَ * كَلاّ لا تُطِعْهُ وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ ) .(2)

حكم سجود التلاوة

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على وجوب سجود العزيمة في السور الأربع خاصّة.

ص: 264


1- . النجم: 60-62.
2- . العلق: 17-19.

3. روى الطبرسي عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «العزائم:

الم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربّك، وماعداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض».(1)

وأمّا الأمر بالسجود في السور التالية: الأعراف، الرعد، النحل، الإسراء، مريم، والحج في موضعين، والفرقان، والنحل، وص، والإنشقاق، فالسجود فيها مندوب حسب الروايات السابقة.

وأمّا في فقه أهل السنّة، فقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:

اتّفق الفقهاء على مشروعية سجود التلاوة، أواجب هو أو مندوب ؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ سجود التلاوة سُنّة مؤكّدة، وليس بواجب، قائلاً بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم تركه وقد قُرئت عليه سورة «والنجم» وفيها سجدة. واختلف فقهاء المالكية في حكم سجود التلاوة: هل هو سنّة غير مؤكّدة أو فضيلة، وذهب الحنفية إلى أنّ سجود التلاوة وبدله كالإيماء واجب لحديث «السجدة على مَن سمعها» و «على» للوجوب، ولحديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله؛ وفي رواية أبي كريب:

يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار».(2)ة.

ص: 265


1- . الوسائل: 4، الباب 42 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 9.
2- . صحيح مسلم: 61/1، باب بيان إطلاق اسم الكفر على مَن ترك الصلاة.

عدم جواز قراءة إحدى سور العزائم في الفريضة

اتّفقت كلمة فقهاء الإمامية على حرمة قراءة سورة من العزائم في الفريضة، روى الشيخ الطوسي بإسناده عن زرارة، عن أحدهما قال: «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة».(1)

ص: 266


1- . الوسائل: 4، الباب 40، من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

الفصل الثالث: أحكام الصيام في الذكر الحكيم

اشارة

1. الصيام فريضة مكتوبة في عامّة الشرائع.

2. الإفطار عزيمة على المريض والمسافر.

3. نزول القرآن في شهر رمضان وحكم المريض والمسافر.

4. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان.

5. حدّ الصوم زماناً.

6. حرمة مباشرة النساء في الاعتكاف.

ص: 267

ص: 268

أحكام الصيام

1. الصيام فريضة مكتوبة في عامّة الشرائع

اشارة

إنّ الصيام فريضة شرعت في الشرائع السابقة أيضاً ولها آثار بنّاءة على الصعيد الفردي والاجتماعي، وسيوافيك في ثنايا البحث ما يترتّب على هذه الفريضة من المصالح الفردية والاجتماعية. وقد نزل حول الصيام عدد من الآيات الكريمة ندرسها على التوالي:

الآية الأُولى

اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .(1)

المفردات

الصيام: وهو في اللغة مطلق الإمساك. نقل ابن منظور عن أبي عبيدة قوله:

ص: 269


1- . البقرة: 183.

كلّ ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.(1)

وقال الفيروزآبادي: صام، يصوم: أمسك عن الطعام والشرب والكلام والنكاح، ويؤيّد ذلك قوله سبحانه مخاطباً مريم العذراء: (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (2)، فقولها: (فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ ) ، تفسير لما نذرته من الصوم، أعني: الإمساك عن الكلام في المقام، لا الطعام والشراب، ولكن الصوم في عرف الشرع هو: الكفّ عن المفطرات من طلوع الفجر إلى الليل مع قصد القربة.

على الذين من قبلكم: أُريد به الشرائع النازلة على الأنبياء السابقين خصوصاً على النّبيّين موسى وعيسى عليهما السلام.

تتّقون: من الوقاية، وكأنّ الصوم وقاية يتّخذها الصائم عن العقوبة.

التفسير

تشريع الصوم في أيام معدودة

خاطب سبحانه المؤمنين بقوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) وأمّا ما هي الغاية من الخطاب فهي كما يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ ) : أي فرض عليكم الإمساك عمّا تنازع إليه النفس، من طعام وشراب ونكاح، وغير ذلك، وقوله: (كُتِبَ ) جملة خبرية أُريد بها الإنشاء، كقول القائل: ولدي يصلّي. ثم أخبر سبحانه عن تشريع الصوم على أهل الملل السابقة أيضاً، وقال: (كَما) : أي مثل ما (كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ

ص: 270


1- . لسان العرب: 351/12.
2- . مريم: 26.

مِنْ قَبْلِكُمْ ) من اليهود والنصارى. ووجه الشبه هو أصل الكتابة لا الخصوصيات.

وأمّا الغاية فيشير إليها بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) عن المعاصي، إذ مَن قدر على ترك الشهوات المحلّلة من الطعام والشراب والنساء وغير ذلك، فيكون أكثر استعداداً على ترك المحرّمات، خصوصاً أنّ الصائم يترك المحلّلات طلباً لرضاه سبحانه وتقرّباً إليه، وهو في هذه الحالة قلّما يفكّر بالحرام. وقد دلّت الإحصاءات التي تصدرها مراكز الشرطة عن انخفاض عدد الجرائم في أيام شهر رمضان المبارك، بل ربّما تصل في ليالي القدر إلى حدّ الصفر، فكأنّ الصائم بصومه يرفع مقامه عن حدّ البهيمة إلى حدّ الملائكة، فيكون معصوماً نسبياً، ولذلك عُرّف الصوم بأنّه جُنّة من النار.(1)

وقال الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علّم أصحابه كيفية مواجهة الشيطان ؟ قال: «الصوم يُسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في اللّه والمؤازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه».(2)

بقي هنا أمران:

1. ما هو الوجه لذكر أنّ الصوم كان مفروضاً على مَن سبق من الأُمم من أهل الكتاب أيضاً؟

2. بيان ما يدلّ على وجود الصوم في التوراة والإنجيل ؟

أمّا الأوّل: فلعلّه: لمّا كان الصوم خصوصاً في الجزيرة العربية في فصل

ص: 271


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 256/96.
2- . الكافي: 62/4.

الصيف أمراً شاقّاً، جاء البيان القرآني يذكر بما يُسهّل الأمر على المسلمين من أنّ فرض الصوم ليس أمراً بدعياً، بل اللّه سبحانه كتبه على مَن سبق من أهل الملل، ولعلّه إلى ما ذكر يشير السيد الطباطبائي بقوله: هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب ويحصل به تطيّب النفس، بأنّه أمر سبق فرضه على غيركم.(1)

ويؤيّد ما ذكره أنّه سبحانه يفرض وجوب الصوم بأُمور مخفّفة، فتارة يقول:

(أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ) ثم يذكر بأنّ المريض والمسافر لا يصومان وإنّما يقضيان، وأنّ المطيق يكتفي بالفدية، كلّ ذلك لأجل أن يقع الصيام موقع القبول ولا يتلقّاه المكلّف بأنّه أمر حرجي.

وأمّا الثاني: فالظاهر وجود الصيام حتى بين الوثنيّين، يقول صاحب المنار:

إنّ الصوم مشروع في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف عند قدماء المصريّين في أيام وثنيّتهم... إلى أن قال: ولا يزال وثنيّو الهند وغيرهم يصومون إلى الآن.(2)

إنّما الكلام في صوم اليهود والنصارى، أمّا اليهود فقد جاء في التوراة أنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً، وإليك النصّ : أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء.(3)

وقال مؤلّف قاموس الكتاب المقدّس: اليهود كانوا يصومون غالباً حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام اللّه، ليعترفوا بذنوبهم عن9.

ص: 272


1- . الميزان في تفسير القرآن: 6/2.
2- . تفسير المنار: 143/2.
3- . التوراة، سفر التثنية، الفصل 9، الفقرة 9.

طريق الصوم والتوبة، وليحصلوا على رضاء حضرة القدس الإلهي.(1)

وأمّا النصارى فالمسيح عليه السلام صام أربعين يوماً، فقد جاء في إنجيل متى : ثمّ اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليهرب من إبليس، فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاء أخيراً.(2)

وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير، قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون.(3)

ويظهر من بعض الآيات في قصّة زكريا ومريم أنّهما كانا يصومان عن الكلام مع الصيام عن الطعام والشراب والنساء.(4)6.

ص: 273


1- . قاموس الكتاب المقدس: 228.
2- . إنجيل متى، الاصحاح 4، الفقرة 1 و 2.
3- . تفسير المنار: 144/2.
4- . لاحظ: سورة مريم: 10 و 26.

أحكام الصيام

2. الإفطار عزيمة على المريض والمسافر

الآية الثانية

اشارة

قال تعالى: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(1)

المفردات

أيّاماً: منصوب بفعل مقدّر: أن تصوموا أياماً، فيكون بدلاً عمّا تقدّم من لفظ الصيام.

على سفر: لم يقل مسافراً، ولعلّه لبيان أنّ الموضوع كون الإنسان في حال

ص: 274


1- . البقرة: 184.

السفر، فخرج ما إذا كان في بلده، وهو يُريد السفر.

معدودات: محصورات، مضبوطات، وهو إشارة إلى كون الأيام قلائل، قال سبحانه في قصة يوسف: (وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ ) (1).

يطيقونه: المطيق: من لا يستطيع الصوم إلّابمشقة كبيرة، وهو من الإطاقة، يقال: أطاق الشيء إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمّله مع مشقّة كثيرة.

تطوّع: مَن أطعم أكثر من مسكين واحد أو أطعم المسكين الواحد أكثر من قدر الكفاية.

التفسير

هذه الآية وما بعدها من الآيتين كسبيكة ذهب متّسقة السياق، واضحة المعنى والمرمى ، نزل بها أمين الوحي على قلب سيد المرسلين في السنة الثانية من الهجرة تعليماً للعباد وأنّهم بين من يصوم الشهر إذا شهده ومن لا يصوم كالمريض والمسافر ويقضي في أيام أُخر، أو لا يصوم ويعطي الفدية كالمطيق.

دلّت الآية السابقة على أنّ الصيام فُرض على المؤمنين، وأمّا ما هو حدّه من حيث القلّة والكثرة ؟ وعلى مَن يجب وعلى مَن لا يجب ؟ فجاء البيان القرآني يشرح لنا هذه الأُمور، فقال: (أَيّاماً) نصب بفعل مقدّر، أي صوموا أياماً (مَعْدُوداتٍ ) : أي أيّاماً قلائل، حتى لا يستثقلها بعض المؤمنين، وأمّا تعيين هذه

ص: 275


1- . يوسف: 20.

الأيام من حيث الشهور، فسيأتي في الآية التالية، أعني قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يستثني من قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ ) (في شهر رمضان) طوائف ثلاثة، يقول:

1. (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً) .

2. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) .

3. (وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) : إذا كان مطيقاً، يصوم بجهد كبير.

ومعنى ذلك: أنّه يجب الصوم على كلّ مكلّف إلّاهذه الطوائف الثلاث، وبذلك ارتفع الإبهام الثاني، أعني: على مَن يجب وعلى مَن لا يجب ؟

أمّا الطائفتان الأوليان فقد كتب عليهم صيام عدّة من أيّام أُخر، فهم يفطرون ويقضون الصيام في تلك الأيام، كما يقول: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) كتب عليه صيام (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ واجب هاتين الطائفتين هو الإفطار والقضاء بعد شهر رمضان، وأمّا ما هو حدّ المرض ؟ فمناسبة الحكم والموضوع تشهد على أنّ المراد: المرض الذي يضرُّ به الصوم، دونما إذا لم يكن مضرّاً؛ وذلك لأنّ الآية في مقام الإرفاق وهي تختص بما ذكرنا. روى الصدوق عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر».(1)

وروى الصدوق مرسلاً، جازماً بصحّته: «كلّ ما أضرّ به الصوم فالإفطار له1.

ص: 276


1- . الوسائل: 7، الباب 19 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.

واجب».(1)

وأمّا الطائفة الثالثة وهو المطيق فيقول سبحانه: (وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) :

أي مَن يصومون ولكن ببذل جهد كبير، وطاقة شديدة (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) ، يقول الراغب: المفاداة: ما يقي به الإنسان نفسه من مال يبذله في عبادة قصّر فيها.(2) فبما أنّ المطيق سقط عنه الفرض فهو بالمفاداة يجبر بها ما فاته من آثار الصيام.

فقوله: (طَعامُ مِسْكِينٍ ) بدل من قوله: (فِدْيَةٌ ) ، وأمّا مقدار الفدية، فالمشهور، أنّه مدّ؛ وقد روى الكليني بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام، ولا قضاء عليهما، فإن لم يقدرا فلا شيء عليهما».(3)

وقد ورد في بعض الروايات أنّه يتصدّق في كلّ يوم بمدّين من طعام، وحمل على الاستحباب.

ثمّ إنّ ما ذكر من المقدار هو أقلّ الواجب (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) بأن يزيد على المدّ أو المدّين شيئاً أو يزد على أكثر من مسكين واحد.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) وسيأتي الكلام في مرجع هذه الفقرة من الآية.1.

ص: 277


1- . الوسائل: 7، الباب 20 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 2. ولاحظ بقية روايات الباب.
2- . المفردات للراغب: 374، مادة «فدى».
3- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.

ثمّ إنّه يقع الكلام في موضعين:

الأوّل: هل الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة ؟

الثاني: هل إفطار المطيق عزيمة أو رخصة ؟ وإليك دراسة الموضعين.

الموضع الأوّل: هل الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة ؟

اشارة

اتّفقت كلمة الفقهاء على مشروعية الإفطار في السفر، تبعاً للذكر الحكيم والسنّة المتواترة، إلّاأنّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة، نظير الخلاف في كون القصر فيه واجباً أو جائزاً.

ذهبت الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة لا رخصة، واختاره جمع من الصحابة والتابعين. وسيوافيك توضيح ما عليه الظاهرية في كلام الشيخ الطوسي.

وذهب جمهور أهل السنّة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلى كون الإفطار رخصة، وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار أو الصوم.

قال الشيخ في «الخلاف»: كلّ سفر يجب فيه التقصير في الصلاة يجب فيه الإفطار، وقد بيّنا كيفية الخلاف فيه، فإذا حصل مسافراً لا يجوز له فيه أن يصوم، فإن صامه كان عليه القضاء. وبه قال أبو هريرة وستة من الصحابة.

وقال داود: هو بالخيار بين أن يصوم ويقضي وبين أن يفطر ويقضي، فوافقنا في وجوب القضاء، وخالف في جواز الصوم.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامّة الفقهاء: هو بالخيار بين أن يصوم ولا يقضي وبين أن يفطر ويقضي، وبه قال ابن عباس.

ص: 278

وقال ابن عمر: يكره أن يصوم، فإن صامه فلا قضاء عليه.(1)

وها نحن ندرس حكم المسألة على ضوء القرآن الكريم فنقول:

قد بيّن سبحانه حكم المريض والمسافر في موردين:

1. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .(2)

2. (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .(3)

والإمعان في الآيتين يثبت أنّ الإفطار عزيمة وذلك بوجوه أربعة:

الأوّل: ترتّب الوجوب على العنوانين

إنّ قوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) بمعنى أنّه يترتّب على المريض والمسافر وجوب صيام أيّام أُخر، وهذا هو الظاهر من غير واحد من المفسّرين حيث يفسّرونه بقولهم: عليه صوم أيّام أُخر.

هذا هو الطبري يقول: فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أُخر.(4)

وهذا هو ابن كثير يقول: أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر، لما في ذلك من المشقّة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدّة ذلك من أيام أُخر.(5)

ص: 279


1- . الخلاف: 201/2، المسألة 53، كتاب الصوم.
2- . البقرة: 184.
3- . البقرة: 185.
4- . تفسير الطبري: 77/2.
5- . تفسير ابن كثير: 376/1.

إنّ هذا الوجوب - أي الصوم في أيّام أُخر - وجوب تعييني لا تخييري؛ لأنّه الأصل في الوجوب دون الآخر لاحتياجه إلى البيان الزائد، فإذا وجب الصيام تعييناً في تلك الأيام يحرم الصوم عليهما في شهر رمضان، إذ لا صوم في الشريعة الإسلامية في كلّ السنة إلّاصوماً واحداً، ويصير الصيام فيه بدعة.

وإن شئت قلت: إنّ الفاء في قوله: (فَعِدَّةٌ ) هي فاء الترتيب التي تدلّ على ترتّب وجوب صيام الأيام الأُخر، على كون المكلّف مريضاً أو على سفر، بحيث يكون كلّ من المرض والسفر موضوعاً مستقلّاً لوجوب الصيام في أيام أُخر، وجوباً تعيينيّاً لا يعدل به إلى غيره، ولازم ذلك حرمة الصيام في شهر رمضان؛ لعدم وجوب صومين في سنة واحدة.

الثاني: التقابل بين الجملتين

إنّ في الآية تقابلاً بين الجملتين، الأُولى تدلّ على الأمر بالصوم، والجملة الثانية تدلّ على النهي عنه، فالأمر ظاهر في الوجوب والنهي في الحرمة.

فإذا قال: كما في الآية الثالثة التي سيأتي تفسيرها، أعني قوله سبحانه:

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) و (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) فيكون مفاد قوله: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) بمنزلة قوله: فمَن لم يشهد الشهر مصحّاً إمّا لكونه مريضاً أو مسافراً فلا يصمه، بل يصوم عدّة من أيام أُخر. فكأنّه يقول: تصوم الطائفة الأُولى ولا تصوم الطائفتان الثانية والثالثة، والنهي ظاهر في الحرمة التعيينية؛ وقد أُشير إلى هذا الاستدلال في رواية عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قلت له: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ؟ قال

ص: 280

الإمام عليه السلام: «ما أبينها، مَن شهد الشهر فليصمه، ومَن سافر فلا يصمه».(1)

الثالث: ذكر المريض والمسافر في سياق واحد

إنّ الآية ذكرت المريض والمسافر في سياق واحد، وحكمت عليهما بحكم واحد، قال تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) ، فهل الرخصة في حقّ المسافر فقط؟ أو تعمّ المسافر والمريض ؟

فالأوّل يستلزم التفكيك، فإنّ ظاهر الآية أنّ الصنفين في الحكم على غرار واحد لا يختلفان، فالحكم بجواز الإفطار في المسافر دون المريض لا يناسب ظاهر الآية.

وأمّا الثاني فهل يصحّ لفقيه أن يفتي بالترخيص في المريض إذا كان الصوم ضارّاً أو شاقّاً عليه ؟ فإنّ الإضرار بالنفس حرام في الشريعة المقدّسة، كما أنّ الإحراج في امتثال الفرائض ليس مكتوباً ولا مجعولاً في الشرع، قال سبحانه:

(وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .(2)

الرابع: الواجب من أوّل الأمر هو صيام أيام أُخر

إنّ ظاهر قوله سبحانه: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) هو أنّ المكتوب على الصنفين من أوّل الأمر هو الصيام في أيّام أُخر، فإذا كان الصيام واجباً على عامّة المكلّفين وكان المكتوب عليهم من أوّل الأمر هو الصيام في أيام أُخر، فصيامهم في شهر رمضان يكون بدعة وتشريعاً محرّماً،

ص: 281


1- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 8.
2- . الحج: 78.

لاتّفاق الأُمّة على عدم وجوب صومين طول السنة.

تقدير «فأفطر» لتطبيق الآية على المذهب

لا شكّ أنّ هذه الوجوه لم تكن خافية على مفسّري أهل السنّة، ولذلك نراهم عند تفسير الآية تفسيراً حرفياً أتوا ببعض الجمل التي تدلّ على وجوب الصيام في الأيام الأُخر لا التخيير بين الصيام والإفطار، ومع ذلك ذهب جُلّهم إلى أنّ الإفطار رخصة، وما هذا إلّالأنّهم لمّا وقفوا على أنّ مذاهب أئمتهم في الفقه على الرخصة، جنحوا إلى تأويل هذه الفقرات، فقدّروا كلمة: (فأفطر) في الآيات، وكأنّه سبحانه قال: «فمن كان منكم مريضاً أو على سفر - فأفطر - فعدّة من أيام أُخر» ومعنى ذلك أنّه لو لم يفطر لما وجب صيام تلك الأيام، ومن المعلوم أنّ الإفطار يكون رخصة لا عزيمة، لكن الكلام في التعرّف على دليلهم على ذلك التقدير المفترض.

من المتّفق عليه أنّ القرآن في مقام التشريع يجب أن يكون بيّن المراد واضح المقصود، فلو كان الحكم مفروضاً على هذا التقدير كان عليه أن يشير إليه في واحدة من الآيتين. وهذا هو الذي أشرنا إليه في صدر المقام وهو أنّ الفقيه يجب أن يفهم الآية بعيداً عن آراء مذهبه المسبقة.

والعجب أنّ صاحب تفسير المنار وقف على مفاد الآية لكنّه تأوّلها وقال:

اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزي الصوم في السفر عن الفرض، بل مَن صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر، لظاهر قوله تعالى:

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) ... قالوا: ظاهره: فعليه عدّة، أو فالواجب عدّة، وتأوّله

ص: 282

الجمهور بأنّ التقدير: فأفطر فعدّة.(1)

ولا ينقضي تعجّبي منه، حيث إنّه يصفه بأنّه تأويل، ومع ذلك يصرّ على صحّة فتوى الجمهور، ومع أنّه يندّد في ثنايا تفسيره بجملة من المقلّدين لأئمة مذاهبهم حيث يؤوّلون ظواهر الآية تطبيقاً لها لفتوى مذهب إمامهم، ويقول في مسألة الطلاق ثلاثاً - التي اختار فيها تبعاً لظاهر القرآن بأنّه لا يقع إلّامرّة واحدة -:

ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنّة رسوله.(2)

الموضع الثاني: هل إفطار المطيق عزيمة أو رخصة ؟

أُريد من المطيق مَن يقدر على الصوم بجهد ومشقّة ببذل جميع طاقاته، قال ابن منظور: الطاقة: أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقّة منه.(3)

وفي «النهاية» عند تفسير شعر عامر بن فهيرة:

كلّ امرئ مجاهد بطوقه ***والثور يحمي أُمَّهُ بروقه

قال: أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقّة منه.(4)

ومصداق المطيق: في لسان الفقهاء الشيخ والشيخة وذو العطاش، والحق

ص: 283


1- . تفسير المنار: 153/2.
2- . تفسير المنار: 386/2.
3- . لسان العرب: 225/1، مادة «طوق».
4- . النهاية، لابن الأثير: 144/3، مادة «طوق». والثور: الذكر من البقر، والروق: الجماعة، يقال: جاء روق بن فلان: أي جماعتهم.

أنّه ليس لعنواني الشيخ والشيخة مدخلية في الحكم، ولذلك يقول في «الجواهر»: والتحقيق أنّ المراد بالشيخ والشيخة: من توقّف بقاء صحّة مزاجهما على تعدّد الأكل والشرب في أزمنة متقاربة للاستبانة لا لمزيد الهضم، ولا ريب في منافاته للصوم.(1) ثم يشير إلى نقد ما ذكره القاموس من التحديد بالسن.

ثمّ الظاهر: أنّ افطار المطيق عزيمة، حيث إنّ ظاهر الآية أنّ المكتوب على المطيق هو الفدية لا غير نظير ما ذكرنا في المريض والمسافر، وأمّا الروايات فيمكن استظهار العزيمة من بعضها:

1. صحيحة محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ».(2)

2. صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: سألته عن رجل كبير ضعف عن صوم شهر رمضان ؟ قال: «يتصدّق كلّ يوم بما يجزي من طعام مسكين».(3)

وقد مرّ أنّ ظاهر الآية هو العزيمة حيث إنّ ظاهرها أنّ المكتوب على المطيقين هو الفدية لا غير، نظير ما ذكرنا في المريض والمسافر.

لكن أكثرها بصدد بيان الفدية، وليست بصدد بيان كونها عزيمة أو رخصة.

ومع ذلك تصحّ استفادة العزيمة وتعيّن الدية في الروايتين الماضيتين بالبيانب.

ص: 284


1- . جواهر الكلام: 150/17-151.
2- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.
3- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 5. ولاحظ الأحاديث 1، 3، 4، 7، 9، 10، 11، 12، من ذلك الباب.

التالي: أنّ قوله: «يتصدّق كلّ يوم بما يجزي من طعام مسكين» في صحيحة ابن سنان، أو قوله: «ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدٍّ من طعام» في صحيحة محمد بن مسلم، ظاهر في كون التصدّق واجباً تعيينيّاً لا تخييرياً، إذ لو كان كذلك كان عليه أن يأتي بالعِدْل الآخر، فالسكوت مع كونه في مقام البيان آية كونه تعيينيّاً مع أنّه لم يرد في رواية ضعيفة فضلاً عن غيرها أنّه مخيّر بين الأمرين.

وبذلك لا يمكن الاعتماد على ظهور قوله في صدر رواية محمد بن مسلم: «لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان»، لأنّه ورد في محلّ توهّم الحظر، فالهدف رفع ذلك التوهّم، أي لا يحرم الإفطار، وأمّا كونه واجباً أو رخصة فخارج عن مصبّ الكلام.

نعم ذهب جماعة منهم المحدّث البحراني والماتن إلى التخيير، قال في «الحدائق»: إنّ المراد من الآية هو من أمكنه الصوم بمشقّة، فإنّه قد جوّز له الإفطار والفدية.(1) وقد عرفت مدلول الآية.

بقي الكلام في الفقرتين التاليتين:

1. قوله تعالى: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) .

2. قوله تعالى: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

أمّا الأُولى: فهي بمعنى أنّ مَن زاد في الفدية فهو خير له، فلو زاد في الإطعام على مسكين واحد، أو أطعم على أكثر من مسكين واحد فهو خير له، والمقصود من قوله: (خَيْراً) ما يقارب معنى المال مثل قوله سبحانه: (إِنْ تَرَكَ 3.

ص: 285


1- . الحدائق الناضرة: 421/13.

خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ ) (1) .

وأمّا الثانية: أعني قوله: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) . فقد وقع ذريعة للقائلين بالرخصة في المريض والمسافر.

قال صاحب المنار: وأمّا مَن يقول بالرخصة في المريض والمسافر أو بخصوص المسافر يتّخذ ذلك ذريعة للرخصة ويقول: إنّ الخطاب فيها لأهل الرخص وأنّ الصيام في رمضان خير لهم من الترخّص بالإفطار.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الآية الثانية تتشكّل من أربع فقرات بعد بيان أنّ الواجب لا يتجاوز عن كونه أياماً معدودات، وهي:

الأُولى: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .

الثانية: (وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) .

الثالثة: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) .

الرابعة: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(3)

وقد جاءت الفقرتان الثانية والثالثة بصيغة الغائب، بخلاف الأخيرة التي جاءت بصيغة الخطاب.

وهذا دليل على أنّ الفقرة الأخيرة منقطعة عن الثانية والثالثة هذا من جانب ومن جانب آخر لا يمكن أن تكون ناظرةً إلى الفقرة الأُولى فقط لما مرّ من عدم صحّة التفكيك، فيكون دليلاً على أنّه تأكيد للخطاب الأوّل بعد التفصيل، أعني4.

ص: 286


1- . البقرة: 180.
2- . تفسير المنار: 158/2.
3- . البقرة: 184.

قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ ) .

وثانياً: لو كان الخطاب راجعاً لأهل الرخص فلابدّ أن يرجع إلى خصوص المسافر، لا إلى المريض، لافتراض كون الصوم مضرّاً له؛ ولا إلى المطيق لفرض كونه حرجياً، وقد رفع وجوب الصوم عنه ولم يشرع في حقّه، فإذا اختصّ رجوعه إلى المسافر كان مقتضى سياق الكلام أن يقول: وأن يصوم المسافر خير من أن يفطر، يعني بصيغة الغائب لا بصيغة الحاضر.

وعلى هذا فالفقرة ناظرة إلى عامّة الحالات على النحو المذكور فيها، فيكون المراد:

1. (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ) للحاضر غير المريض.

2. أنّ المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيّام أُخر.

3. أنّ المطيق يفطر ويفدي.

فإن تصوموا على النحو الماضي هو خير لكم، لأنّ فيه جمعاً بين الفريضة وعدم الحرج.

الروايات تؤيّد أنّ الإفطار عزيمة

قد عرفت أنّ الآيات تدلّ بوضوح على أنّ الإفطار عزيمة وليس برخصة، وأنّ المذكورين في الآيات هم أصحاب عزائم لا أصحاب رخص، ومن حسن الحظ أنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وما رواه أهل السنّة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يدلّ على العزيمة، أمّا القسم الأوّل فالمجال لا يسع لنقله فمن أراد

ص: 287

التوسّع فليرجع إلى وسائل الشيعة.(1)

وأمّا القسم الثاني - أعني: ما رواه أهل السنّة - فنذكر منه شيئاً:

أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إنّ بعض الناس قد صام ؟ فقال: «أُولئك العصاة، أُولئك العصاة».(2)

والمراد من العصيان هو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، يقول اللّه سبحانه:

(وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .(3) والعجب ممّن يريد إحياء مذهب إمامه يحمل الحديث على أنّ أمره صلى الله عليه و آله و سلم كان أمراً استحبابياً، لكنّه بمعزل من الواقع، فأين الاستحباب من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«أُولئك العصاة، أُولئك العصاة»؟!

وأخرج ابن ماجة في سننه عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر».(4)

ودلالة الحديث على كون الإفطار عزيمة، واضحة، فإنّ الإفطار في الحضر إذا كان إثماً وحراماً فيكون المنزّل منزلته - أعني: الصيام للمسافر في نفس هذا الشهر - إثماً وحراماً.7.

ص: 288


1- . لاحظ: الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب من يصحّ منه الصوم، عامّة روايات الباب التي يناهز عددها 15 رواية.
2- . صحيح مسلم: 141/3-142، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر.
3- . الأحزاب: 36.
4- . سنن ابن ماجة: 532/1، برقم 8666؛ سنن أبي داود: 217/2، برقم 2407.

أحكام الصيام

3. نزول القرآن في شهر رمضان وحكم المريض و المسافر

الآية الثالثة

اشارة

قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .(1)

المفردات

شهر: جمعه أشهر، وجمع كثرته شهور.

رمضان: شدة وقع الشمس على الرمل.

الفرقان: ما يفرق بين الحقّ والباطل.

ص: 289


1- . البقرة: 185.

اليسر: ضد العسر.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أُمور:

1. تحديد أيام الصيام في شهر رمضان.

2. نزول القرآن في شهر رمضان.

3. اشتمال القرآن على البيّنات والفرقان.

4. مَن شهد الشهر فعليه أن يصومه من الرؤية إلى الرؤية.

5. المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيّام أُخر.

6. تعلّق إرادته سبحانه في حقّ المكلّفين على اليسر دون العسر.

7. أمره سبحانه بإكمال العدّة والتكبير.

وإليك دراسة هذه الأُمور واحداً تلو الآخر.

الأمر الأوّل: تحديد أيام الصيام في شهر رمضان

تقدّم في الآية السابقة قوله سبحانه: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ) : أي كتب عليكم الصيام في أيام معدودات، ولمّا كانت الفقرة مبهمة وأنّ هذه الأيام في أي شهر من الشهور الإثني عشر، جاءت آيتنا هذه ترفع الإبهام عن هذه الأيام بالقول بأنّها (شَهْرُ رَمَضانَ ) ، وبذلك يُعلم وجه كونه مرفوعاً حيث إنّها خبر لمبتدأ محذوف أي هي أيام معدودات. وإنّما سُمّي هذا الشهر: (رمضان)، - كما قال الطبرسي - لأنّهم سمّوا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق رمضان أيام رمض

ص: 290

الحر.(1)

أقول: يريد أنّ العرب قبل الإسلام كانوا يُسمّون الشهور بالأزمنة الّتي وقعت فيها، فسمّوا هذا الشهر رمضاناً، لأنّ التسمية بها كانت في الصيف وفي رمض الحرّ.

الأمر الثاني: نزول القرآن في شهر رمضان

اشارة

لا شكّ أنّ القرآن نزل في هذا الشهر، وقد جاء ذكره في موضعين آخرين، قال سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ) (2)، وقال تعالى: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3).

هذا من جانب ومن جانب آخر إنّه سبحانه يذكر نزول القرآن على النبي صلى الله عليه و آله و سلم نجوماً، ويقول في نقد من قال: (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) فقال: (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (4).

فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين ؟ أضف إلى ذلك: أنّ من الأُمور المتواترة نزول القرآن نجوماً حسب الأسئلة والحوادث، وهذا أمر ثابت فوق التواتر، فنزول القرآن في ليلة القدر كيف ينسجم مع نزوله نجوماً؟

الجواب: أنّ المفسرين أجابوا عن السؤال بوجوه مختلفة، أكثرها خالٍ عن الدليل، والذي يمكن أن يقال هو ما ذكره الشيخ المفيد في كتاب «تصحيح

ص: 291


1- . مجمع البيان: 275/2.
2- . القدر: 1.
3- . الدخان: 3 و 4.
4- . الفرقان: 32.

الاعتقاد»، ونأتي ببعض نصّه:

قال رحمه الله: إنّ المراد من نزول القرآن في ليلة القدر هو نزول جملة منه في ليلة القدر، لا كلّه، والقرآن كما يطلق على المجموع يطلق على بعض أجزائه، فأمّا أن يكون نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر، فهو بعيد عمّا يقتضيه ظاهر القرآن، والمتواتر من الأخبار، وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء.(1)

توضيحه: أوّلاً: إنّا نعلم بالوجدان أنّ قسماً من الآيات لم ينزل في ليلة القدر، أعني: نفس الآيات التي تدلّ على نزول القرآن في ليلة القدر، مثل قوله سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ) ، وقوله سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (2).

وثانياً: أنّ قسماً من الآيات تتعلّق بحوادث وقعت في المدينة المنوّرة، كحكم الظهار، الذي يحكيه سبحانه يقول: (قَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ ) (3)، والإخبار عن نصر اللّه ودخول الناس في دين اللّه: (إِذا جاءَ نَصْرُ اَللّهِ وَ اَلْفَتْحُ * وَ رَأَيْتَ اَلنّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللّهِ أَفْواجاً) (4)، والإخبار عن مجيء المنافقين وشهادتهم على الإيمان: (إِذا جاءَكَ اَلْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ) (5)، وكذلك الآيات التي تحكي عن تآمر اليهود والمنافقين ضد الإسلام، فهل يمكن القول بأنّها نزلت في ليلة القدر وأنّه سبحانه أخبر عن وجود الحوادث بلفظها وعينها مع أنّها لم تقع1.

ص: 292


1- . تصحيح الاعتقاد: 58. مع تصرّف يسير في العبارة.
2- . الدخان: 3 و 4.
3- . المجادلة: 1.
4- . النّصر: 1-2.
5- . المنافقون: 1.

بعد، وإنّما تقع في المستقبل، ومَن تتّبع هذا القسم من الآيات التي تخبر عن المستقبل، يقف على أنّه لا يمكن القول بنزول جميع الآيات في ليلة القدر أو في مكّة المكرّمة، فلا محيص من القول من أنّ المراد نزول قسم كبير من القرآن في ليلة القدر.

وبهذا النحو ينسجم الأمران، وهما: نزول القرآن في ليلة واحدة، أي قسم كبير منه، ونزوله نجوماً على طول ثلاث عشرة سنة.

الإجابة عن سؤال آخر

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن سؤال آخر:

والسؤال هو: أنّ الآية الكريمة تدلّ على نزول القرآن في شهر رمضان، هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ بعثة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وفق روايات أهل البيت عليهم السلام كانت في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، ومن المعلوم أنّ البعثة كانت مرفقة بنزول عدّة من الآيات التي وردت في سورة العلق، فكيف يمكن الجمع بينهما؟

والجواب: ما عرفت من أنّ نزول عدد كبير من الآيات في ليلة القدر، لا ينافي نزول آيات معدودة في غيرها، أي في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، ولذلك اتّفقت الروايات على نزول آيات خمس من أوّل سورة العلق لدى البعثة، أعني قوله تعالى: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ اَلْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (1).

ص: 293


1- . العلق: 1-5.

وما ذكرنا من وجه الجمع أوضح من جميع الوجوه التي ذكرت في المقام، فلاحظ.

وهنا وجه آخر وهو أنّ السؤال الثاني مبني على وجود المقارنة بين بعثة النبي بالرسالة ونزول القرآن في ذلك اليوم، أو نزول آيات خمس من سورة العلق في ذلك الزمان.

غير أنّ الدليل الدالّ على التقارن بين الأمرين غير نقي السند، وقد أوضحنا حاله في كتابنا «مفاهيم القرآن».(1)

ولذلك يمكن أن يقال: إنّه صلى الله عليه و آله و سلم تشرّف بالنبوّة والرسالة في اليوم السابع والعشرين، وأمّا الآيات الخمس فقد نزلت في شهر رمضان في نفس السنة، واللّه العالم.

الأمر الثالث: اشتمال القرآن على البيّنات والفرقان

أُريد من البيّنات ما هو الهادي إلى وظائف الناس عقيدة وتكليفاً، فالقرآن يهدي المجتمع الإنساني إلى ما هو الحقّ فيما يرجع إلى العقل النظري وما يرجع إلى العقل العملي، ولذلك قال: (بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى ) : أي دلالات من الهدى .

وأمّا كونه فرقاناً؛ فلأنّه بدلائله الرصينة يفرّق بين الحقّ والباطل، والظاهر أنّه وصف لعامّة آيات القرآن الكريم؛ ولكن روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «القرآن:

جملة الكتاب، والفرقان: المحكم الواجب العمل به».(2)

ص: 294


1- . مفاهيم القرآن: 102/7.
2- . الكافي: 163/2 برقم 11، باب النوادر.

الأمر الرابع: مَن شهد الشهر فعليه الصوم

لمّا كان قوله: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ) مجملاً من حيث الزمان والعدد، رفع الإجمال الأوّل بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ ) في صدر الآية، وأمّا الإجمال الثاني فقد رفع بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) : أي مَن شهده من هلال إلى هلال ومن رؤية إلى رؤية، فليصمه.

الأمر الخامس: المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيام أُخر

فقد استثني من إيجاب الصوم لمَن شهد الشهر طائفتان: المريض والمسافر، فالواجب عليهم صوم عدّة من أيام أُخر، قال تعالى: (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .

ثمّ إنّه يقع الكلام في ما هو الوجه في ذكر المريض والمسافر؟ فقد تقدّم حكمه في الآية السابقة. ولعلّ وجهه أنّه ربما يتوهّم من قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أنّه ناسخ للترخيص المتقدّم في الآية السابقة في حقّ هاتين الطائفتين المذكورتين، فكرّر ذلك ليكون ردّاً لهذين الوهمين، فقال: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .

ويمكن أن يقال: إنّ التكرار لوجه آخر (لا لرد التوهّم) وهو التأكيد على أنّ الإفطار لهذين الطائفتين عزيمة لا رخصة.

الأمر السادس: تعلّق إرادة اللّه في حقّ المكلّفين على اليسر دون العسر

اشارة

يشير قوله تعالى: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) إلى أنّ التشريع الإسلامي من الطهارة إلى الديات مبني على اليسر دون العسر، ولذلك أمر المصحّ

ص: 295

بالصوم لكونه متمكّناً منه، كما أمر المريض والمسافر بالإفطار؛ لأنّ الصوم شاق عليهما. وكأنّ قوله سبحانه: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ) إشارة إلى قوله سبحانه:

(وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .(1)

وقد استخرج الفقهاء من الآية الأخيرة قاعدة كلّية تستنبط منها أحكام كلّيّة، ويشهد عليها أيضاً قوله سبحانه: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ ) .(2)

وقوله تعالى في آيات أُخرى: (لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها) (3). وأراد أنّ التشريع الإسلامي منزّه عن تكليف الإنسان فوق طاقته.

سؤال وإجابة

ربما يقال: كيف يقول سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (4)، مع أنّا نلمس الحرج في التكاليف الشاقّة والأحكام الصعبة، وأهل العرف يعدّونه عسراً وحرجاً وضيقاً، كالصوم في اليوم الحار الطويل، والحجّ للنائي، ولزوم الثبات في مقاومة الكفّار، وحرمة الفرار، والتوضّؤ بالماء البارد في الشتاء وفي السفر، ومجاهدة النفس، والسعي في طلب العلم في البلاد البعيدة، وعدم الخوف من لومة لائم، في بيان أحكام اللّه وإجراء حدوده، والجهاد في سبيله، ونظائر ذلك ؟!

ص: 296


1- . الحج: 78.
2- . النور: 61.
3- . البقرة: 286.
4- . الحج: 78.

وقد أجاب القوم عن هذه الشبهة بوجوه متعدّدة تعرّضنا لذكرها في كتابنا:

«الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية»(1)، فراجع. ونأتي في المقام بموجز ما فصّلناه فيها وهو: إنّ الأحكام الشرعية على قسمين:

1. قسم بني على الحرج والعسر، بحيث يكون الحرج موضوعاً ومقوّماً لها، وهذا كالجهاد والحج، والمرابطة، فإنّ خصيصة هذه الأحكام الحرج والعسر، وقد شُرّعت لمصالح في تثبيت الأمن، فلو قال الشارع: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، فهو يعني غير هذه الأحكام.

3. الأحكام التي ليس الحرج مقوّماً لها، بل يعرضها الحرج والضرر، وهذا كالصلاة والصوم، فإنّها بالذات ليست حرجية، وإنّما يعرضها الحرج في ظروف خاصّة، وآيات الباب ناظرة إلى هذا النوع من الأحكام.

***

الأمر السابع: أمره سبحانه بإكمال العدّة والتكبير

قوله سبحانه: (وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ ) ناظر إلى قوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) والغرض تعليم كيفية القضاء بأنّهما يقضيان حسب عدد ما أفطرا فيه.

ثمّ إنّه سبحانه يعطف على إكمال العدّة قوله: (وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ ) ويحتمل أن يراد به تكبير يوم الفطر الذي ورد استحبابه في ذلك اليوم.

قال الطبرسي: المراد به تكبير الفطر عقيب أربع صلوات: المغرب والعشاء الآخرة

ص: 297


1- . الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 36/3-39.

والغداة وصلاة العيد على مذهبنا. وقال ابن عباس وجماعة: التكبير يوم الفطر.(1)

وهو إشارة إلى التكبيرات التي يردّدها المصلّون جماعة قبل وبعد صلاة العيد، وهي: اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّااللّه واللّه أكبر، اللّه أكبر وللّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا.(2)

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) والمراد لتشكروا اللّه سبحانه على نعمه، ومنها تشريع الصوم على ما فيه من المنافع والمصالح لحال الصائم. والتعبير بحرف الترجي (لعلّ ) لأجل جهل حال المكلّف من حيث هوهو، من القيام بالشكر أولا، دون اللّه سبحانه فإنّه عالم بما أنّه سوف يشكر أو لا يشكر.

الآثار البنّاءة للصوم

تضمّنت الروايات بيان آثار الصوم، وقد خطب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في آخر جمعة من شعبان خطبة، وردت فيها إشارات إلى آثار الصوم وفوائده، فمَن أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إلى مصادرها.(3)

الآثار الاجتماعية للصوم

ومن آثار الصوم الاجتماعية أنّ الصائم يتحسّس فيه آلام الجوع والفقر، فقد سأل هشام بن الحكم أبا عبد اللّه عليه السلام عن علّة الصيام ؟ فقال: «إنّما فرض اللّه عزّ وجلّ الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أنّ الغني لم يكن ليجد مسَّ الجوع

ص: 298


1- . مجمع البيان: 36/2.
2- . الوسائل: 4، الباب 20 من أبواب صلاة العيدين، الحديث 2.
3- . لاحظ: الوسائل: 7، الباب 18 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 10 و 20.

فيرحم الفقير، لأنّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم، ليرقَّ على الضعيف فيرحم الجائع».(1)

هذا كلّه حول الآثار الروحية والاجتماعية، وأمّا الفوائد الصحيّة لبدن الإنسان فيكفي في ذلك قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «المعدة بيت الداء، والحمية هي الدواء».(2)

فالإنسان إذا استمر في الأكل والشرب على طول سنة، تتراكم المواد الغذائية الزائدة في بدنه، فالإمساك مدّة معيّنة يوجب ذوبان هذه المواد والتخلّص منها ومن أضرارها.

أضف إلى ذلك: أنّ الإمساك عن الطعام والشراب في شهر واحد يورث استراحة كافية ومناسبة لجهاز الهضم وتنظيفه، بشرط أن لا يكثر الصائم من الطعام عند الإفطار والسحور، لكي يحصل على الآثار الصحّية لهذه العبادة.

إلى غير ذلك من الآثار التي ذكرها الأطباء حول الإمساك عن الطعام.2.

ص: 299


1- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
2- . الخصال: 512.

أحكام الصيام

4 و 5 و 6 1. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان 2. حد الصوم زماناً 3. حرمة مباشرة النساء في إعتكاف

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .(1)

ص: 300


1- . البقرة: 187.
المفردات

الرفث: قال الراغب: كلام متضمّن بما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، وجُعل كناية عن الجماع، وعُدّي ب (إلى) في قوله: (اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) لتضمّنه معنى الإفضاء.(1)

لباس: لبس الثوب: استتر به، وجعل اللباس لكلّ ما يغطي الإنسان عن قبيح، وجعل الزوج والزوجة لباساً من حيث إنّه يمنعها ويصدّها عن تعاطي القبيح، كما تمنعه أيضاً عن تعاطيه.

وقد ذكر الرازي وجوهاً خمسة في تشبيه الزوجين باللباس، ثانيها ما ذكره الراغب بوجه كامل، قال: إنّما سمّي الزوجان لباساً ليستر كلّ واحد منهما صاحبه عمّا لا يحلّ كما جاء في الخبر: «مَن تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه».(2)

وربما يقال: شبّه شدّة المخالطة والملامسة والانضمام، بمخالطة الثياب وملامستها وانضمامها لصاحبها.(3) ولا يخفى أنّ الوجه الأوّل أفضل.

ولم يقل: هن ألبسة لكم، حتّى يوافق الخبر للمبتدأ، لأجل أنّ اللّباس مصدر، يستعمل في المفرد والجمع، والغرض من التشبيه هو التعليل للتحليل المستفاد من قوله: (أُحِلَّ ) .

تختانون: يقال: خانه يخونه خوناً وخيانة، إذا لم يف له، وخان الرجلُ الرجلَ إذا لم يؤدِّ الأمانة. وناقض العهد خائن، وفي الكشّاف: الاختيان من الخيانة،

ص: 301


1- . المفردات للراغب: 199، مادة «رفث».
2- . تفسير الرازي: 5/106، ولاحظ بقية الوجوه في نفس الكتاب.
3- . زبدة البيان: 234/1.

كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدّة.(1)

وأُريد من الخيانة هنا الجماع المحرّم الذي يعدّ نوع خيانة على النفس بعد ما حرّمه اللّه تعالى.

باشروهن: إذن في المباشرة، كناية عن الاستمتاع بالجماع، وهذا التعبير يدلّ على أدب القرآن الكريم. حيث لا يشير إليه إلّابالكناية كالدخول والمسّ واللمس.

الخيط: معروف وجمعه خيوط، والخياط الإبرة الّتي يخاط بها، قال تعالى:

(حَتّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِياطِ) .(2) والخيط الأبيض كناية عن تميّز بياض النهار من سواد الليل، فالفجر فجران، الفجر الكاذب وهو على شكل عمود من الضوء يظهر في السماء كذنب الثعلب، ثم يزول ويظهر بعده الفجر الصادق، وهو بياض شفَّاف أُفقي يظهر في أُفق السماء كخيط أبيض يظهر إلى جوار الخيط الأسود، أعني: سواد الليل، وهذا هو الصبح الصادق، وبه يتعلّق حكم الصوم والصلاة.

وقد روي أن عديّ بن حاتم قال للنبيّ إنّي وضعت خيطين من شعر، أبيض وأسود، فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي، فضحك رسول اللّه حتّى رؤيت نواجذه، ثم قال: «يابن حاتم، إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل».(3)

إنّ عَديّ بن حاتم كان عربياً صميماً، عارفاً بالاستعارات والكنايات بين3.

ص: 302


1- . تفسير الكشّاف: 1/115؛ تفسير الرازي: 5/106.
2- . الأعراف: 40.
3- . مجمع البيان: 1/43.

الأُمّة العربية، والقرآن نزل بلسان عربيّ مبين، فمن البعيد جداً أن لا يفهم مَن هذا هو شأنه، ما يفهمه غيره من أوساط الناس، حتى يقارن بين خيطين لتمييز الأسود من الأبيض.

وهذا إن دلّ على شيء، فيدلّ على أنّ الحديث مكذوب على لسان النبيّ وعديّ وإن نقله أعلام التفسير من الفريقين.

ويشهد لذلك، ما نقله الراغب في ذيل الحديث، قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً لعدي: «إنك لعريض القفا، إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل».(1) وقد أخذ هذا الكلام من صحيح البخاري.

روى البخاري عن عدي بن حاتم رضى الله عنه قال: قلت يا رسول اللّه ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال: «إنّك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين» ثم قال: «لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار».(2)

يلاحظ عليه: أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو النموذج الأكمل للخلق السامي ومن البعيد جداً ممّن وصفه الباري تعالى بقوله: (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3)، أن يتكلّم بما مرّ، مع أنّ عدي بن حاتم كان شريفاً في قومه وعزيزاً، كيف وهو ابن حاتم الّذي ضرب به المثل في السخاء والكرم. وما وصف بهذا الوصف إلّالأنّه وابنه حجر كانا من أصحاب الإمام علي عليه السلام وقد شهد الوالد حرب الجمل وقتل ابناه فيها.4.

ص: 303


1- . المفردات للراغب: 161، مادة «خيط».
2- . صحيح البخاري: 1102، برقم 4510، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة.
3- . القلم: 4.

دخل عدي بن حاتم على معاوية فقال له معاوية: ما فعلت الطرفات ؟ يعني أولاده، وما قصد معاوية بذلك إلّاالشماتة وجرح قلب عدي قال: قتلوا مع علي.

فقال معاوية: ما أنصفك علي قدّم أولادك وأخّر أولاده، فقال عدي: بل أنا ما أنصفته قتل وبقيت بعده حيّاً.(1)

عاكفون: العكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له.

ويراد به الاحتباس في المسجد على سبيل القربة.(2) والاعتكاف في الشرع أن يقيم الإنسان في المسجد الجامع ثلاثة أيام بليلتين - على الأقل - صائماً على أن لا يخرج من المسجد إلّالحاجة ضرورية، ويعود بعد قضائها مباشرة، ويحرم على المعتكف مباشرة النساء ليلاً ونهاراً حتّى التقبيل واللمس بشهوة.

حدود: الحد: الحاجز بين الشيئين الّذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، يقال: حددتُه بكذا: جعلت له حدّاً يتميّز. وسمّيت أحكام اللّه حدوداً؛ لأنّه يتميّز بها الحلال عن الحرام والواجب عن غيره.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أحكام ثلاثة:

1. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان 2. حدّ الصوم زماناً 3. حرمة مباشرة النساء في الاعتكاف

وإليك بيان هذه الأُمور:

ص: 304


1- . أعيان الشيعة: 8/144.
2- . المفردات للراغب: 343، مادة «عكف».

أحكام الصيام

4. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان

قال الطبرسي: روي أنّه كان الأكلّ محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول اللّه يقال له مطعم بن جبير، أخو عبداللّه بن جبير [رئيس الرماة في غزوة أُحد]...

ثم قال: وكان مطعم بن جبير شيخاً ضعيفاً، وكان صائماً، فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر، فلمّا انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلمّا أصبح حضر حفر الخندق، فأُغمي عليه، فرآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فرقّ له.

ثم قال: وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.(1)

وذكر ابن كثير هذه الرواية أيضاً ولكنّه قال إنّ الرجل هو: قيس بن صرمة الأنصاري.(2)

ص: 305


1- . مجمع البيان: 2/41.
2- . تفسير الدر المنثور: 1/475.

إذا تبيّن ذلك فاعلم أنّ للنفس ميولاً لا يملك الإنسان كبح جماحها في كثير من الأحيان، ويشبعها مستخفياً من الناس، أو محرّفاً دين اللّه، فالأفضل تحليل الشيء المرغوب إن كان هناك وجه للتحليل، كي لا يتمادى الإنسان في الغيّ .(1)

فلمّا كان الإمساك عن الأكل والشرب بعد النوم في ليلة الصيام، أو الإمساك عن مباشرة النساء في الشهر كلّه، أمراً شاقّاً، استدعت الحكمة تحليل الأمرين، ولذلك قال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ ) وهي الليلة الّتي يصبح المرء عنها صائماً (اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) : أي مباشرتهن، ثم علّل التحليل بقوله سبحانه: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) وقد مرّ في تفسير المفردات كيفية كون كلّ من الرجل والمرأة لباساً للآخر حيث يحفظ كلّ واحد منهما الطرف الآخر من العصيان. أو إشارة إلى شدّة المخالطة والملامسة.

ولمّا كان مسّ النساء في ليالي شهر رمضان ممنوعاً غير أنّ بعض الشباب كانوا ينكحون بالليل سرّاً، فاقتضت الحكمة تحليل الرفث في ليلة شهر رمضان إلى طلوع الفجر الصادق، كما يقول: (عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ ) وهذه الفقرة تدلّ على استمرار العمل المحظور (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) وهو بمنزلة قوله سبحانه:

(وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (2) فالمباشر قبل التحليل يظلم نفسه ويخونها. ولمّا كان هذا الأمر مستمراً، جاء البيان القرآني بالإخبار عن العفو عمّا سبق كما يقول: (فَتابَ ) اللّه (عَلَيْكُمْ ) : أي رجع عليكم بالرحمة (وَ عَفا عَنْكُمْ ) ، فهذان التعبيران يدلّان على صدور المعصية من هؤلاء، إذ لولا المعصية فما معنى7.

ص: 306


1- . التفسير الكاشف: 1/290.
2- . البقرة: 57.

توبة اللّه عليهم وعفوه عنهم مضافاً إلى قوله: (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) ؟!

قال الشريف الرضي رحمه الله عن قوله تعالى: (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) : هذه استعارة، لأنّ خيانة الإنسان نفسه لا تصحّ على الحقيقة، وإنّما المراد أنّه سبحانه خفّف عنهم التكليف في ليالي الصيام بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب، والإفضاء إلى النساء، ولو منعهم من ذلك لعلم أنّ كثيراً منهم يخلع عذار الصبر ويضعف عن مغالبة النفس فيواقع المعصية بفعل ما حظر عليه من غشيان النساء، فيكون قد سبب لنفسه العقاب ونقصها الثواب، فكأنّه قد خانها في نفي المنافع عنها وجرّ المضار إليها، وأصل الخيانة في كلامهم النقص، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس.(1)

قلنا: اقتضت الحكمة تحليل ذلك فجاء البيان القرآني لبيان التحليل، وقال:

(فَالْآنَ ) حيث اتّضحت المصلحة الجواز (بَاشِرُوهُنَّ ) بما أنّ الأمر ورد في مورد توهّم الحظر، فهو يدلّ على الإباحة (لا الوجوب)، وهذا دليل على جواز الرفث ليلة شهر رمضان.9.

ص: 307


1- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 9.

أحكام الصيام

5. حدّ الصوم زماناً

هذا هو الحكم الثالث وفي الوقت نفسه الأمر الثاني الذي تضمّنت الآية بيانه، قد تقدّم أنّ الصيام أياماً معدودة، كما تقدّم أنّ تلك الأيام في شهر رمضان، بقي الكلام لبيان حدّ الصيام زماناً، وهذا هو الذي يبيّن قوله تعالى: (كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ) والخيط الأبيض فوق الأُفق، والخيط الأسود يكون تحته. فمبدأ الصيام أوّل الفجر ومنتهاه أوّل الليل.

قال الشريف الرضي رحمه الله عن هذه الفقرة: وهذه استعارة عجيبة والمراد بها - على أحد التأويلات -: حتّى يتبيّن بياض الصبح من سواد الليل، والخيطان هاهنا مجاز، وإنّما شبههما بذلك لأن بياض الصبح يكون في أوّل طلوعه مشرقاً خافياً ويكون سواد الليل منقضياً موليّاً، فهما جميعاً ضعيفان إلّاأنّ هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً.(1)

ص: 308


1- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 9.

أحكام الصيام

6. حرمة مباشرة النساء في الإعتكاف

لمّا كانت مباشرة النساء في الاعتكاف ممنوعة مطلقاً ما دام الرجل معتكفاً من غير فرق بين الليل والنهار، جاء البيان القرآني لاستثنائه قائلاً: (وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ) .

إذا تبيّن ذلك فاللّه سبحانه يوصي المؤمنين بالتعرّف على حدود اللّه وعدم تجاوزها، وعبّر عن التجاوز بالنهي عن القرب منها، ليكون آكد في النهي عن المقصود، فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ ) : أي ما ورد من أوّل الآية إلى هنا تحديدات من اللّه سبحانه (فَلا تَقْرَبُوها) ، وفي آية أُخرى قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها) .(1)

ثم قال تعالى: (كَذلِكَ ) مركّب من كاف التشبيه واسم الإشارة، والكاف بمعنى مثل واسم الإشارة (ذلك) إشارة إلى ما سبق من أحكام الصيام، أي مثل

ص: 309


1- . البقرة: 229.

ما سبق (يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ ) : أي أحكامه وحدوده (لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) عن المخالفة.

***

تمّت آيات أحكام الصيام

ص: 310

الفصل الرابع: أحكام الزكاة في الذكر الحكيم

اشارة

المنابع المالية للحكومة الإسلامية.

1. وجوب إخراج الزكاة من المال

2. حرمة اكتناز العملة قبل إخراج زكاتها.

3. وجوب أخذ الزكاة على النبي وعلى مَن يقوم مقامه.

4. مصارف الزكاة.

5. إخراج الطيب من الأموال للزكاة.

6. قصد التقرّب في إعطاء الزكاة.

7. أيّهما أفضل: الإبداء بالصدقات أو إخفاؤها؟

8. ما هو اللازم في الإنفاق ؟

9. المنع عن إتباع الإنفاق بالمنّ والأذى.

ص: 311

ص: 312

أحكام الزكاة

قد ورد لفظ الزكاة في الذكر الحكيم - بمعنى الفريضة المالية - 26 مرّة، كما ورد لفظ الصدقات سبع مرّات، ومن المعلوم أنّ الزكاة ضريبة مالية بها قوام المجتمع، ولذلك جاء الأمر بالزكاة وراء الأمر بالصلاة في كثير من الآيات. غير أنّا نبحث عن الآيات التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي. وقبل الورود في تفسير مثل هذه الآيات، نشير إلى المنابع المالية للحكومة الإسلامية، فنقول:

المنابع المالية للحكومة الإسلامية

اشارة

لا شكّ أنّ للإسلام برامج خاصّة في إدارة البلد ورفع حاجاته، إذ لا تقوم الحكومة في بلدٍ ما إلّاإذا كانت لها منابع مالية تعتمد عليها.

إنّ الإسلام أغلق في وجه حكومته كلّ السبل غير المشروعة التي تعتمد عليها الحكومات الحاضرة، كالضرائب المأخوذة على تجارة الخمور والبغاء والقمار وما شابهها، ولكنّه فتح بدلاً من ذلك منابع أُخرى ذكرنا تفصيلها في

ص: 313

موسوعتنا «مفاهيم القرآن»(1)، وإليك ذكر هذه المنابع على وجه الإجمال:

1. الأنفال

وهي كلّ أرض مُلكت بغير قتال، وكلّ أرض موات، ورؤوس الجبال وبطون الأودية، والآجام والغابات والمعادن، وميراث من لا وارث له، وما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام، وكافّة المياه العامّة، والأحراش الطبيعية(2)، والمراتع التي ليست ملكاً لأحد، وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة.

2. الزكاة

وهي ضريبة تجب في تسعة أشياء: الأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم، والنقدين وهما: الذهب والفضة، والغلّات وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والأدلّة عليها من الكتاب والسنّة لا تحصى، وأمّا مقدار ما يؤخذ من هذه الأشياء، فيطلب من الكتب الفقهية.

3. الغنائم المأخوذة من أهل الحرب قهراً بالقتال

4. الخمس

الخمس يجب في الأُمور الستة التالية: المعادن، الكنز، الغوص، المال الحلال المختلط بالحرام، الأرض التي اشتراها الذمّيّ من المسلم، ما يفضل من مؤونة سنّة المكتسب ومؤونة عياله من أرباح التجارات والصناعات والمكاسب،

ص: 314


1- . لاحظ: مفاهيم القرآن: 570/2-587.
2- . الأحراش: النباتات الطبيعية التي تنتشر بين أشجار الغابات وهي مرتفعة نسبيّاً، بخلاف أعلاف المراتع فهي منخفضة يخطمها الإبل والدواب.

وكلّ ذلك من المنابع المالية الّتي يخرج منها الخمس وراء خمس الغنائم.

5. زكاة الفطرة

وتُسمّى بزكاة الأبدان التي تجب على كلّ مسلم في عيد الفطر.

6. الخراج والمقاسمة

وهما ضريبتان مفروضتان على مَن يعمل في الأراضي التي فتحها المسلمون بالقتال.

7. الجزية

وهي الضريبة العادلة المفروضة على أهل الذمّة، على رؤوسهم وأراضيهم، إذا عملوا بشرائط الذمّة المقرّرة في محلّها، وتقديره تابع لنظر الحاكم.

8. ضرائب أُخرى

هناك ضرائب أُخرى ليس لها حدّ معيّن ولا زمان خاصّ ، بل هي موكولة إلى نظر الحاكم الإسلامي يفرضها عند الحاجة إليها من عمران البلاد، أو الجهاد في سبيل اللّه، أو سدّ عيلة الفقراء، أو غير ذلك ممّا يحتاج إليه قوام البلاد.

ويشهد على ذلك ما رواه الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم وزرارة عنهما عليهما السلام جميعاً، قال: «وضع أمير المؤمنين عليه السلام على الخيل العتاق الراعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً».(1)

ص: 315


1- . الوسائل: 6، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 1.

هذه هي المنابع المالية الرئيسية، غير أنّ هناك منابع أُخرى متفرّقة يجوز للدولة الإسلامية التصرّف فيها نظير:

9. المظالم

وهي ما يتعلّق بذمّة الإنسان بتعدٍّ أو إتلاف في مال الغير، ولم يعرف صاحبه، فيجوز للحاكم التصرّف فيها وصرفها في المصارف المقرّرة لها.

10. الكفّارات

مثل كفّارة مخالفة النذر والعهد واليمين فيما يتعلّق بالإطعام والإكساء، فيجوز للحكومة أن تتولّى أمرها بدلاً عن صاحب الكفّارة.

11. اللقطة

وهي الضالّة من الأشياء ولم يعرف لها صاحب، فيجوز للحكومة الإسلامية التصرّف فيها حسب الشروط.

12. الأوقاف والوصايا العامة والنذور العامّة

13. الضحايا

وهي الذبائح التي يذبحها الحجّاج في منى ، فيجوز للحكومة الإسلامية التصرّف فيها وصرفها في مصالح المسلمين.

14. توظيف الأموال في المجالات الاقتصادية الكبرى

وذلك من خلال القيام بإنشاء الصناعات الكبرى، والتجارة، والعمل

ص: 316

المصرفيّ ، والتأمين، والشركات الزراعية، وتوفير الطاقة وإدارة شبكات الري، والمواصلات الجوية والبرية والبحرية، والخدمات البريدية والهاتفية، وما شابه ذلك... وتأمين قسم كبير من ميزانيّتها في هذه الموارد الضخمة.

ولا يُعنى بذلك جعل الممارسة بهذه الأُمور بيد الدولة الإسلامية وحرمان الشعب عنها، بل المجال مفتوح للشعب والحكومة معاً.

هذه صورة إجمالية للمنابع المالية للحكومة الإسلامية، ذكرناها ردّاً على مَن يتوهم أنّه ليس للحكومة الإسلامية منابع مالية منظمة لإجراء برامجها العمرانية والعلمية والصحّية.

إذا عرفت ذلك فلنبدأ بدراسة أحكام الزكاة، وهاهنا بحوث:

ص: 317

أحكام الزكاة

1. وجوب إخراج الزكاة من المال

اشارة

بما أنّ الزكاة هي صلة المؤمن بالمجتمع، كما أنّ الصلاة صلته باللّه سبحانه، أكّد اللّه تعالى في غير واحدة من الآيات على وجوبها، ويؤنب على مَن لا يعطيها، أو يكنزها، ولنبدأ بدراسة الآيات المتعلّقة بالزكاة وأحكامها ومصارفها.

***

الآية الأُولى

اشارة

قال تعالى: (لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ

ص: 318

هُمُ اَلْمُتَّقُونَ ) .(1)

المفردات

البر: - بكسر الباء - التوسّع في الخير، مشتقّ من البَر - بالفتح - وهو في مقابل البحر في تصوّر سعته. وأمّا شرعاً فيظهر من الآية أنّه كلّ ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى من الإيمان والأخلاق و الأعمال الصالحة.

تولّوا: تتوجّهوا.

على حبّه: الضمير يرجع إلى حبّ المال، نظير قوله سبحانه: (وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ) (2) أي حبّ الطعام.

الرقاب: العبيد.

البأساء: حال الفقر والشدّة.

الضرّاء: حال المرض و السقم والوجع.

البأس: شدّة الحرب.

التفسير
اشارة

كان أهل الكتاب يتصوّرون أنّ الإنسان البَر عبارة عمّن يتوجّه في صلاته قبل المشرق و المغرب، لكن القرآن الكريم يفسّر البِر بوجه آخر ويقول: إنّ للبر محاور أربعة:

ص: 319


1- . البقرة: 177.
2- . الإنسان: 8.

1. الإيمان والعقيدة.

2. خدمة المجتمع الإيماني.

3. القيام بالفرائض الشرعية.

4. الالتزام بالأخلاق الفاضلة.

أمّا الأوّل: فهو عبارة عن الإيمان باللّه واليوم الآخر والكتب والنبيّين.

وأمّا الثاني: فهو إنفاق المال على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب.

وأمّا الثالث: فهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

وأمّا الرابع: فهو الوفاء بالعهد، والصبر في مختلف الحالات كالبأساء والضراء وحين البأس.

وفي الختام يصف اللّه سبحانه من تنطبق عليه هذه المحاور بأنّهم موصوفون بالصدق في إيمانهم والتقوى في حياتهم.

وإليك بيان هذه المحاور:

المحور الأوّل: الإيمان والعقيدة

ويشير إليه بقوله تعالى: (لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ ) بل المهم: الإيمان الذي يبعث الإنسان إلى هذا العمل كما يقول: (وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ) الذي هو أساس كلّ فضيلة (وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) الذي تُجزى فيه كلّ نفس وفق ما عملت (وَ اَلْمَلائِكَةِ ) ، فالإيمان بها رمز للإيمان بالغيب وأنّ رقعة الوجود أوسع من المادّة (وَ اَلْكِتابِ ) الذي أنزل اللّه سبحانه لإسعاد

ص: 320

البشر (وَ اَلنَّبِيِّينَ ) فإنّ الإيمان بهم يسوق الإنسان إلى السعادة.

فالإيمان بهذه الأُمور الخمسة جامع لجميع المعارف الحقّة.

بقي هنا سؤال وهو: أنّ المعرَّف (البر) أمر معنوي، وأمُّّا المعرِّف فذات خارجية حيث قال: (وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ) فيقع السؤال: كيف أخبر عن أمر معنوي بذات خارجية ؟

يقول صاحب المنار: هذا أمر معهود في الكلام العربي الفصيح، يقولون:

ليس الكرم أن تدعو الأغنياء والأصدقاء إلى طعامك، ولكن الكرم من يعطي الفقراء العاجزين عن الكسب.(1) لكنّه لم يُشر إلى وجه العدول عن تعريف البِر إلى البَّر. نعم ذكره الشيخ البلاغي بقوله: إنّه أُسلوب فائق من البلاغة يُخرج الكلام به من صورة الفرض الذي لا يهم في البيان إلى صورة الوقوع والحجّة بالعيان... ثم استشهد بأبيات لشعراء الجاهلية منها قول الحطيئة:

وشرّ المنايا ميّت وسط أهله ***كهُلك الفتى قد استلم الحيّ حاضره(2)

المحور الثاني: خدمة المجتمع الإيماني

إنّ الإيمان باللّه واليوم الآخر شجرة طيّبة ثمرتها اليانعة اهتمام الإنسان بخدمة أبناء مجتمعه، فيقوم بالأعمال الصالحة كما يُشير: (وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ) : أي رغم كونه يحبّه، على أصناف:

ص: 321


1- . تفسير المنار: 110/2.
2- . آلاء الرحمن: 288/1.

1. (ذَوِي اَلْقُرْبى ) : أي الأقارب، وقد ورد: «لا صدقة وذو رحم محتاج».(1)

2. (وَ اَلْيَتامى ) وهو من مات كافله.4.

ص: 322


1- . بحار الأنوار: 58/74.

اَلْبَأْسِ ) وقد مرّ معناها في المفردات.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا أتم بيان صفات الأبرار أثنى عليهم بأمرين:

1. (أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا) . 2. (وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ ) .

أمّا الأوّل: فمن اجتمعت فيه جميع الخصال المذكورة في المحاور الأربعة فهو صادق في عامّة شؤون حياته، صادق في الاعتقاد، صادق في القول، صادق في العمل.

وأمّا الثاني: فإنّ أعمالهم وأحوالهم تشهد على تقواهم وأنّ لهم وقاية خاصّة بينهم وبين سخط اللّه تعالى.

ثمّ إنّ الفاضل المقداد جعل الآية ممّا دلّ على وجوب الزكاة ومحلّها(1)، فلو أراد من المحلّ ما تتعلّق به الزكاة فلم يُذكر في الآية، وإن أراد المصارف فإنّما وردت قبل قوله: (وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ...) فلا يكون دليلاً على أنّ ما ذكر هو المصارف.

ثمّ إنّ قوله تعالى: (وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .(2)

يدلّ على أنّ الكّفار محكومون بالفروع كما هم محكومون بالأُصول، إلّاأنّ الكلام في كون المراد من الزكاة هو الفريضة المعروفة في الكتب الفقهية.7.

ص: 323


1- . لاحظ: كنز العرفان: 219/1، حيث عنون تفسير الآية بقوله: في الوجوب ومحلّه.
2- . فصّلت: 6 و 7.

أحكام الزكاة

2. حرمة اكتناز العملة قبل إخراج زكاتها

الآية الثانية

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ وَ اَلرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .(1)

المفردات

ليأكلون: أكل الأموال كناية عن الاستيلاء عليها والتصرّف فيها.

يصدّون: يمنعون الناس عن الدخول في الشريعة الحقّة.

يكنزون: الكنز عبارة عن جمع المال تحت الأرض أو فوقها حفظاً له. قال الطبرسي: الكنز في الأصل: الشيء الذي جمع بعضه إلى بعض. ويقال للشيء

ص: 324


1- . التوبة: 34.

المجتمع: مكتنز، فالكنز مصدر كنز يقال: كنز فلان، إذا ادّخر مالاً.

الذهب: سمّي ذهباً لأنّه يذهب ولا يبقى.

الفضّة: سمّيت فضّة لأنّها تنفضّ أي تتفرّق ولا تبقى .

في سبيل اللّه: سيأتي الكلام فيه في التفسير.

التفسير

الآية تتضمّن أمرين:

1. ما يرجع إلى عمل الأحبار والرهبان.

2. تحريم كنز الذهب والفضّة على كلّ مكلّف موسوياً كان أو عيسوياً أو محمدياً.

وصف عمل الأحبار والرهبان

أمّا الأمر الأوّل: فقد وصف سبحانه كثيراً من الأحبار والرهبان بأمرين:

1. أكل أموال الناس بالباطل، وما هذا إلّالأنّ قسماً منهم كانوا يجتنبون هذا العمل، وهذا يدلّ على موضوعية البيان القرآني.

ثمّ إنّ المراد من أكل أموال الناس بالباطل هو الرشوة حيث يأخذها صاحب السلطة الدينية لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حقّ أو إحقاق باطل، ويحتمل أن يُراد به الربا أيضاً، وهذان النوعان كانا أمرين فاشيين بين الأحبار، وأمّا الرهبان فيحتمل أن يُراد ما يأخذونه جُعلاً على مغفرة الذنوب.

2. الصدّ عن سبيل اللّه، ولعلّ المراد به صدّ الناس عن الدخول في الإسلام، وهو يختلف أُسلوبه حسب اختلاف الزمان والمكان، وربما لا يقتنعون بصدّ

ص: 325

الناس عن الإسلام فقط، بل يحاولون صدّ المسلمين عنه ودعوتهم إلى دينهم المشحون بالوثنية.

هذا ما يذكره القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً، وأمّا اليوم فقد اتّسع نطاق صدّ الناس عن الإسلام وصدّ المسلمين عنه بأساليب مختلفة، فجاءوا تحت غطاء المشاريع الإنسانية لنشر النصرانية، وهي مستشفيات وجامعات ومعاهد علمية إلّا أنّها في الحقيقة مراكز للتبشير، فعلى المسلمين الغيارى عدم السماح بانتشار هذه المراكز التبشيرية في بلادهم، وعلى أقل التقادير عدم السماح لمؤسّسيها بنشر المسيحية عن طريق هذه المراكز.

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى الأمر الأوّل وهو ما يتعلّق بعمل الأحبار والرهبان.

تحريم اكتناز الذهب والفضة على المسلم والكتابي

وأمّا الأمر الثاني: وهو تحريم كنز الذهب والفضة على وجه الإطلاق، من غير فرق بين أهل الكتاب أو من غيرهم وقال: (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ ) : أي يكنزون الدنانير والدراهم بكلّ وسيلة ممكنة، سواء أكانت في الصناديق كما هو المرسوم في القرون السابقة أم البنوك والمصارف كما هو الرائج اليوم (وَ لا يُنْفِقُونَها) الضمير المستتر الذي تحكي عنه «الواو» يرجع إلى الموصول، أعني: (وَ اَلَّذِينَ ) والضمير المؤنث عائد إلى الذهب والفضة فقد اكتفي برجوع الضمير إلى أحدهما، عن الضمير الراجع إلى الآخر نظير قوله سبحانه: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها) (1)، وقوله: (وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ

ص: 326


1- . الجمعة: 11.

اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً) (1) : أي لا ينفقون كلّاً منهما في سبيل اللّه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

وربما يتوهّم أنّ الآية ناظرة إلى الأحبار والرهبان فهم الذين كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه ويكنزون الذهب والفضة ولا يشمل غير أهل الكتاب، فعلى هذا فالنهي عن الكنز مختصّ بهم، ولكنّه وهم باطل، ولو كان كذلك كان اللازم أن يقول: (اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ ) حتى يكون من أوصافهم، وعلى هذا فالآية تعمّ الناس من غير فرق بين المسلم وغيره، فالجميع أمام الآية سواء.

نزاع بين عثمان وأُبيّ في كتابة الواو

روى السيوطي عن علباء بن أحمر أنّ عثمان بن عفان قال: لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلغوا الواو التي في «براءة»: (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ ) ، قال لهم أُبيّ : لتلحقنّها أو لأضعن سيفي على عاتقي، فألحقوها.(2)

ولعلّ الغاية من إلغاء «الواو» هو تبرير عمل قسم من الصحابة الذين اكتنزوا كنوزاً كثيرة من بيت المال حتى لا تشملهم الآية الكريمة، ومَن أراد أن يتعرّف على مقدار الأموال المكتنزة خلال خلافة الثالث، مِنْ قِبل كثير من حاشيته وأقاربه، فليرجع إلى كتاب «الغدير» حتى يقف على أنّ ميراث عبد الرحمن بن عوف من الذهب والفضة قد كُسّر بالفؤوس.(3)

ص: 327


1- . النساء: 112.
2- . تفسير الدر المنثور: 178/4.
3- . لاحظ: الغدير: 284/8.

إذا تبيّن ذلك فنقول ما هو متعلّق التحريم ؟

أقول: إنّ متعلّق التحريم هو الكنز المقيّد، وهو كنز المال مع عدم الإنفاق في سبيل اللّه، وإلّا فلو اكتنز ومع ذلك أنفق الفريضة في سبيل اللّه، فهذا ليس بحرام.

يقول الفاضل المقداد: اعلم أنّ مَن يجمع المال للإنفاق على العيال أو بعد إخراج الحقوق المالية خارج عن هذا الوعيد؛ لأنّه تعالى قيّد الكنز بعدم الإنفاق، وإذا عُدم القيد عُدم الحكم، ولِما روي عنه عليه السلام أنّه قال: «ما أُدّي زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكّى فلم يزكَّ فهو كنز وإن كان ظاهراً».(1) وعلى هذا فأُريد من (سَبِيلِ اَللّهِ ) زكاتهما إذا بلغا النصاب، وسيأتي احتمالان آخران في معناه.

ويدلّ على ما ذكره ما رواه السيوطي عن ابن عباس في تفسير الآية: هم الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم، وكلّ مال لا تؤدّى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها.(2)

وروى الشيخ في أماليه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا نزلت هذه الآية (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ ...) : «كلّ مال تؤدّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكلّ مال لا تؤدّي زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض».(3)

وحاصل الكلام: أنّ إدخار المال بعد أداء حقوقه الواجبة أمر جائز وهو من4.

ص: 328


1- . سنن أبي داود: 358/1؛ كنز العرفان: 224/1.
2- . تفسير الدر المنثور: 177/4.
3- . البرهان في تفسير القرآن: 443/4.

ضروريات الفقه الإسلامي، فالإسلام لا يوجب إنفاق كلّ ما يملكه الإنسان من الذهب والفضّة بعد إخراج ما فرض من الحقوق، بل اللازم إخراج ما فرض اللّه سبحانه من الفرائض المالية كالزكاة والخمس وغيرهما من الكفّارات، ويشهد على ذلك قوله سبحانه: (وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) (1)، وقوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ) (2)، وقوله سبحانه: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ) (3) وهذه الآيات صريحة في أنّه لا يجب على الإنسان إنفاق كلّ ما يملكه.

نعم لو سبّب اكتناز العملة حتى بعد إخراجها، أزمةً اقتصادية، واختلالاً في النظام، لحرم الاكتناز أيضاً كما سيأتي.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: أنّ حكم العملة الورقية حكم العملة الذهبية أو الفضية، وذلك لأنّ الإشارة إلى العملتين الأخيرتين لأجل أنّ الآية نزلت في عصر يسود فيه التعامل بها، فإذا صار التعامل بغيرهما يكون حكمه حكم العملتين. وبعبارة أُخرى: أنّ اتّخاذ الذهب والفضة موضوعاً للحكم لأجل أنّ التعامل بهما كان رائجاً في ذلك الزمان، وليس لهما أي موضوعية خاصّة في الحكم. غاية الأمر أنّ الواجب في العملة الذهبية والفضية، إخراج الزكاة وفي الورقية إخراج خمسها إذا تعلّق بها الخمس.

ص: 329


1- . البقرة: 3.
2- . المعارج: 24 و 25.
3- . البقرة: 267.

الثاني: أنّ المراد في سبيل اللّه يحتمل أحد أُمور ثلاثة:

1. ما تقدّم من أنّ المراد أداء زكاته.

2. الإنفاق في جهاد العدو؛ ويؤيّد ذلك احتمال ورود الآية إبّان غزوة تبوك، وقد أمر فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم وذلك في زمان عسرة الناس، وشدّة من الحرج، وجدب من البلاد، وحاجة الناس للأموال وما يحمل عليه من الدواب في سبيل اللّه، فأنفق رجال من أهل الغنى وبَخَل آخرون. وقد جاء رجال من المسلمين للمشاركة في الجهاد وطلبوا من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما يحملهم فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ) .(1)

3. أن يُراد به كلّ ما يتعلّق بمصالح الدين الواجب حفظها وشؤون المجتمع الإسلامي التي ينفسخ عقد المجتمع إذا انفسخت، فمَن كنز ذهباً أو فضّة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة، فقد كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل اللّه فليبشر بعذاب أليم، فقد آثر نفسه على ربّه وقدّم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة المجتمع الديني القطعية.(2) وعلى هذا تتّسع دائرة وجوب الإنفاق.

الثالث: أنّ الآية ناظرة إلى تحريم كنز العملة، وأمّا الاحتكار فهو موضوع آخر، وله أحكام مذكورة في كتب الفقه.

الرابع: لو قلنا بالوجه الأوّل في تفسير (سَبِيلِ اَللّهِ ) وإنّ تحريم الكنز مشروط بعدم إخراج الحقّ الواجب، فإذا أخرج ما هو الحقّ الواجب فليس بكنز، لكن هناك أمر آخر وهو أنّه لو أدّى هذا العمل - أي الكنز - بعد إخراج الحقّ 9.

ص: 330


1- . التوبة: 92.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 250/9.

الواجب إلى حصول مشاكل في المجتمع الإسلامي تعرقل مسير عجلة الاقتصاد، فهذا النوع من الاكتناز حرام بالعنوان الثانوي، لأنّ حفظ النظام من أوجب الواجبات، فكلّ عمل ينتهي إلى الإخلال بالنظام، فهو محكوم بالحرمة.

إنّ اجتماع النقود (الأموال) عند واحد أو مجموعة من الناس يصيب حركة تبادل الأعيان والثروات بالشلل ويعرقلها، وهذا يعود بالضرر على أفراد المجتمع ويحرمهم من الحصول على حاجاتهم الضرورية.

ثمّ إنّه قد ينسب إلى أبي ذر الغفاري الذهاب إلى حرمة جمع المال مطلقاً سواء أُخرجت زكاته أم لا، فقد ثبت في محلّه بطلان هذه النسبة وإنّها فرية نسبت إلى هذا الصحابي الجليل، وإنّما كانت غايته من تلاوة هذه الآية منصبّة على الكنوز المكتنزة عن طريق عطايا الخليفة من بيت مال المسلمين لأقربائه ورجال بلاطه.

وما كان أبو ذر يمنع الناس عن جلب الثروة من طريقها المشروع، ولا يبغي سلب السلطة عمّن ملك شيئاً ملكاً مشروعاً، لكنّه كان ينقم على أهل الإثرة على اغتصابهم حقوق المسلمين، وخضمهم مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع، وما كان يتحرّى إلّاما أراد اللّه سبحانه بقوله عزّ من قائل: (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) ، وما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الأحكام (الإقتصادية) المالية.(1)

وعلى كلّ حال فالآية من أدلّة وجوب إخراج الزكاة من المال.م.

ص: 331


1- . لاحظ: الغدير: 502/8-534، تحت عنوان: لا شيوعية في الإسلام.

أحكام الزكاة

3. وجوب أخذ الزكاة على النبيّ وعلى مَن يقوم مقامه

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .(1)

المفردات

صدقة: ما ينفقه المؤمن من قربة للّه، وأُريد في الآية الزكاة الواجبة.

تطهّرهم: من دنس البخل والطمع.

تزكّيهم: من قولهم: رجل زكيّ أي زائد الخير والفضل، وأُريد بها هنا تنقية النفس وترفّعها بعمل الخيرات.

التفسير

تقدّم في الآيتين السابقتين، ما يدلّ على وجوب الزكاة، وهذه الآية تدلّ

ص: 332


1- . التوبة: 103.

على وجوب أخذ الصدقة من التائبين، بقرينة وقوع الآية بعد قوله سبحانه: (وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ...) .(1)

ولكن المورد غير مخصّص للحكم، وإن كان السبب خاصّاً، يقول سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ) : أي من أموال التائبين (صَدَقَةً ) أُريد بها الزكاة، لأنّ حمله على غيرها بحاجة إلى دليل، ثم علّل سبحانه حكمة أخذ الصدقة بوجهين:

أ. (تُطَهِّرُهُمْ ) عن دنس البخل والرذائل الأخلاقية، ومن القسوة على الفقراء والمساكين.

ب. (وَ تُزَكِّيهِمْ بِها) : أي تزكّي أنفسهم بها، وتزرع مكانها نوعاً من السخاء ورعاية حقوق الآخرين في أنفسهم، ويحتمل أن يُراد به الإنماء، والمعنى أنّه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سبباً للإنماء.(2)

وهل الضمير المستتر في (تُطَهِّرُهُمْ ) يرجع إلى الصدقة، أي تطهّرهم الصدقة، فتكون التاء للتأنيث، أو هو خطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم والفعل خطاب للنبي ؟ الظاهر هو الثاني بقرينة قوله: (وَ تُزَكِّيهِمْ بِها) فإنّ الضمير المجرور يرجع إلى الصدقة، وتقدير الآية: تطهّرهم بها وتزكّيهم بها.

فإن قلت: على ما ذكر يكون الفعلان جواباً للأمر، أعني: (خُذْ) ، ولازم ذلك أن يكونا مجزومين، مع أنّهما مرفوعان.

قلت: إنّ الشيخ الطوسي التفت إلى ذلك وقال: ولا يجوز أن يكون جواباً للأمر لأنّه لو كان كذلك لكان مجزوماً، فعلى هذا فجواب الأمر محذوف، نظير أن6.

ص: 333


1- . التوبة: 102.
2- . تفسير الرازي: 179/16.

يقال: خذ من أموالهم صدقة، فهو خير لهم، تطهّرهم وتزكّيهم بها.(1)

فعلى ما ذكرنا فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم هو الذي يقوم بهذين العملين: تطهير النفوس من مساوئ الأخلاق وتزيينها بفضائلها.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالدعاء والصلاة لمؤدّي الزكاة ويقول: (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ ) وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يدعو لمَن يؤدّي الزكاة، مثلاً يقول: «اللّهم صل على آل أبي أوفى » وظاهر الآية وجوب الدعاء على آخذ الزكاة إلّاأن يدلّ دليل على استحبابها.

نعم ليس للدعاء صيغة خاصّة، وفي الحقيقة الدعاء من الآخذ نوع شكر لمؤدّي الزكاة، فلو قال: آجرك اللّه فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، فقد أدى الوظيفة.

وممّا يدلّ على فضيلة التصدّق - سواء أكانت فريضة أم مندوبة - ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا أعطى السائل قبّل يده وشمّها، ثم وضعه في يد السائل، فقيل له: لم تفعل ذلك ؟ قال: لأنّها تقع في يد اللّه قبل يد العبد» وقال: «ليس من شيء إلّاوُكِّل به ملكٌ إلّاالصدقة فإنّها تقع في يد اللّه» قال الفضل: أظنّه يقبّل الخبز أو الصدقة.(2)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل دعاء النبيّ لمؤدّي الزكاة بقوله: (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) فإنّ دعاء النبي أو الإمام يورث ارتياح قلوبهم حيث يطمئنون بقبول عملهم وغفران ذنوبهم، ويستعدّون لدفعها في وقت آخر أيضاً.7.

ص: 334


1- . لاحظ: التبيان في تفسير القرآن: 296/5.
2- . تفسير العياشي: 108/2، برقم 117.

قال الرازي في تفسير قوله: (سَكَنٌ لَهُمْ ) : إنّ روح محمد صلى الله عليه و آله و سلم كانت روحاً قويّة مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير، فاضت آثار من قوّته الروحية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم، وانتقلوا من الظلمة إلى النور، ومن الجسمانية إلى الروحانية.(1)

وخُتمت الآية باسمين مباركين، هما: (وَ اَللّهُ سَمِيعٌ ) لدعاء النبي (عَلِيمٌ ) بكلّ شيء وبما في قلوب المتصدّقين، أو بما في الأمر بأخذ الصدقات من الخير والمصلحة.

جواز الصلاة على المؤمن مفرداً

ظاهر قوله سبحانه: (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) جواز الصلاة على المؤمن مفرداً، ولذلك صارت سنّة علمائنا الإمامية الصلاة بعد ذكر أحد الأنبياء والأئمّة مفرداً تبعاً للذكر الحكيم، ومع ذلك نرى أنّ بعض أهل السنّة يتردّد في ذلك أو يستشكل وربما يمنع؛ لأنّه يؤدّي إلى اتّهامه بالرفض، وإن كنت في شكّ من ذلك فأقرأ ما ذكره الزمخشري في تفسير قوله سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ ) (2) قال: فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره ؟

قلت: القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله تعالى: (هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) ، وقوله تعالى: (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) وقوله: اللّهم صلّ على أبي أوفى، ولكنّ للعلماء تفصيلاً في ذلك وهو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى اللّه على النبي وآله، فلا كلام فيها، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت

ص: 335


1- . تفسير الرازي: 184/16.
2- . الأحزاب: 56.

بالصلاة كما يفرد هو فمكروه، لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض.(1)

والعجب من ابن حجر في فتح الباري إذ قال: اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتّفاق على مشروعيته في الحيّ ، فقيل يشرع مطلقاً، وقيل: بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني.(2)

ومعنى ذلك: أنّه لم يجد مبرراً لترك ما شرعه الإسلام، إلّاعمل الرافضة بسنّة الإسلام، ولو صحّ ذلك، لوجب على القائل أن يترك عامّة الفرائض والسنن التي يعمل بها الروافض حسب زعمه.

ثمّ إنّ الرازي مع كونه إمام المشكّكين قد خضع للحقيقة في المقام وقال: إنّ أصحابنا يمنعون من ذكر «صلوات اللّه عليه» و «عليه الصلاة والسلام» إلّافي حقّ الرسول. والشيعة يذكرونه في عليّ وأولاده واحتجّوا عليه بأنّ نصّ القرآن دلّ على أنّ هذا الذكر جائز في حقّ مَن يؤدّي الزكاة. فكيف يمنع ذكره في حقّ علي والحسن والحسين (رضي اللّه عنهم)، ورأيت بعضهم قال: أليس أنّ الرجل إذا قال: سلام عليكم يقال له: وعليكم السلام، فدلّ هذا على أنّ ذكر هذا اللفظ جائز في حقّ جمهور المسلمين، فكيف يمتنع ذكره في حقّ آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.(3)6.

ص: 336


1- . تفسير الكشّاف: 549/2.
2- . فتح الباري: 14/11.
3- . تفسير الرازي: 181/16.

كما أنصف صاحب المنار في المقام حيث قال: والأفضل الجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه و آله و سلم وعلى آله، وأكثر المسلمين يخصّ بالسلام الأنبياء والملائكة، وكذا جماعة آل بيته صلى الله عليه و آله و سلم والشيعة يلتزمون السلام على السيدة فاطمة وبعلها وولديهما والأئمّة المشهورين من ذرية السبطين ويوافقهم كثير من أهل السنّة وغيرهم في الزهراء والسبطين ووالدهما (سلام اللّه ورضوانه عليهم) إذا ذكروا جماعة أو أفراداً، وأمّا الصلاة والسلام على الآل بالتبع للرسول صلى الله عليه و آله و سلم فهو مجمع عليه، ومنه صلاة التشهّد، وكذا عطف الصحابة والتابعين على الآل ذائع في الكتب والخطب والأقوال.(1)

قال سبحانه: (أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ ) .(2)

قبول التوبة بيد اللّه

ذكر الطبرسي في سبب نزول هذه الآية: أنّهم لمّا سألوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأخذ من أموالهم ما يكون كفّارة لذنوبهم، امتنع من ذلك انتظاراً لإذن من اللّه سبحانه فيه، فبيّن اللّه أنّه ليس قبول التوبة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأنّ ذلك إلى اللّه عزّ اسمه، فإنّه الذي يقبلها.(3)

فنزلت الآية: (أَ لَمْ يَعْلَمُوا) أُولئك التائبون من ذنبهم (أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ

ص: 337


1- . تفسير المنار: 26/11.
2- . التوبة: 104.
3- . مجمع البيان: 128/5.

عَنْ عِبادِهِ ) ثم ضمّ إلى قبول التوبة قوله: (وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ ) : أي يتقبّلها بأنواعها، ووجه الجمع أنّ التوبة مطهّرة وإيتاء الصدقة كما مرّ يُطهر، فالتصدّق بالصدقة، توبة ماليّة.

فعلى هذا تكون توبتهم بدفع الصدقات ويحتمل أن تكون بغيره، كتوبة النصوح. ويؤيّد الثاني ما في ذيل الآية: (وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ ) : أي يقبل التوبة (اَلرَّحِيمُ ) رحيم بعباده الذي من مظاهر رحمته قبول الصدقات وصرفها في مواضعها.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ في هذا التعبير: (وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ ) الكثير من اللطافة، فإنّ اللّه هو الذي يأخذ الصدقات، ومن المعلوم أنّ الآخذ هو النبي أو الإمام أو الجابي، لكن لمّا كان أخذهم بإذن من اللّه سبحانه، كأنّ الجميع يمثّل أخذ اللّه سبحانه، وقد مرّ في الحديث السابق أنّ الصدقة، لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب.(1)

تتمة

استدلّ غير واحد من الفقهاء على أنّ الزكاة تتعلّق بالعين، لا بالذمّة، لقوله سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (2)، غير أنّ تعلّقها بالعين يتصوّر على وجوه ثلاثة:

1. التعلّق على نحو الإشاعة، فيكون مستحقّ الزكاة شريك المالك في

ص: 338


1- . البرهان في تفسير القرآن: 540/4، برقم 4691.
2- . التوبة: 103.

النصاب.

2. التعلّق على نحو الكلّي في المعيّن، وهذا ما قوّاه السيّد الطباطبائي في «العروة الوثقى»، قال: الأقوى أنّ الزكاة متعلّقة بالعين، لكن لا على وجه الإشاعة، بل على وجه الكلّي في المعيّن.

وحينئذٍ فلو باع قبل أداء الزكاة بعض النصاب صحّ ، إذا كان مقدار الزكاة باقياً عنده، بخلاف ما إذا باع الكلّ ، فإنّه بالنسبة إلى مقدار الزكاة يكون فضولياً محتاجاً إلى إجازة الحاكم.(1)

3. التعلّق على نحو تعلّق الحقّ ، ومعنى ذلك أنّ النصاب كلّه ملك للمالك غير أنّه سبحانه أمره بالتصدّق بجزء منه، وهذا الأمر أوجد حقّاً للفقير ونظيره، دون أن يكون مالكاً بالفعل شيئاً في نفس النصاب.

وبعبارة أُخرى: إنّ النصاب ملك للمالك، ولكنّه مأمور بدفع شيء إلى مستحقّي الزكاة كما أنّ ناذر الصدقة مأمور بصرف ما نذره في مورده، فيتولّد من هذا الحكم التكليفي حكم وضعي، وهو تعلّق حقّ (لا ملك) بمال المالك، فيعدّ ملك المالك وثيقة لمستحقّي الزكاة.

والذي يقرب أنّ التعلّق على نحو «الاستيثاق». وإن شئت قلت: تعلّق حقّ لمستحقّ الزكاة بمال المالك، هو الارتكاز العرفي في الضرائب العرفية، فإنّ دائرة الضرائب التي وظيفتها جباية الضرائب لاترى نفسها مالكة بالفعل على نحو الإشاعة أو الكلّي في المعيّن للأموال التي اكتسبها التاجر أو الكاسب، وإنّماترى صاحب الأرباح مكلّفاً من جانب الدولة بإخراج 20% من الأرباح التي اكتسبها من1.

ص: 339


1- . العروة الوثقى: 84/4، كتاب الزكاة، المسألة 31.

هذه السنة أو السنة الماضية، فأوجد ذلك التكليف، حقّاً لدائرة الضرائب لأن تطلب منه ما فرضته الدولة، وترى نفسها محقّة في هذا الطلب والأخذ على نحو لا تملك إلّابدفع المالك، وأخذ الجابي، والتفصيل في محلّه.(1)

وبما ذكرنا يتغيّر حكم قسم من الأحكام المذكورة في الرسائل العملية في مورد التصرّف في المال الزكوي قبل إخراج زكاتها فلاحظ.1.

ص: 340


1- . لاحظ: كتابنا: الزكاة في الشريعة الإسلامية الغراء: 454/1.

أحكام الزكاة

4. مصارف الزكاة

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .(1)

المفردات

الصدقات: الزكوات، بقرينة الآية السابقة، حيث جاء فيها: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ ) .(2) ولكن يظهر من شأن النزول أنّها أعمّ من الزكوات والغنائم.

الفقراء والمساكين: ستقرأ الفرق بينهما في التفسير.

ص: 341


1- . التوبة: 60.
2- . التوبة: 58.
التفسير

الآية بصدد بيان مصارف الزكاة الثمانية، وقبل التفسير نشير إلى ما في الآية من نكات:

1. ابتدأ سبحانه الآية بأداة الحصر، وقال: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ ) لأجل ردّ لمز المنافقين وغيرهم كما جاء في الآية المتقدّمة، فردّ عليهم ببيان مصارف الصدقات الثمانية وإنّها إمّا لهم أو يُصرف فيهم وليس للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التجاوز عنها.

2. إنّ اللام في قوله: (لِلْفُقَراءِ ) للتمليك، فالجميع يملك بحكم اللام المذكورة في المعطوف عليه، أو المقدّرة كما في المعطوف المجرّد عنها، أي (وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ ) .

وأمّا ما قُرن بلفظة (فِي) فيدلّ على أنّه مصرف لها لا مالك، وهذا كما (وَ فِي اَلرِّقابِ ) بناء على أنّ العبد لا يملك، و (فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) كالجهاد وبناء المساجد والقناطر.

3. قوله تعالى: (فَرِيضَةً ) فلعلّها مفعول مطلق لفعل مقدّر يدلّ عليه قوله:

(إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ ) : أي فرض اللّه الصدقات فريضة، ويحتمل أن تكون منصوبة لكونها حالاً، أي فريضة مؤكّدة لا تعصى.

4. وقد ختمت الآية باسمين شريفين: (عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) إشعاراً منه بأنّ تشريع هذه الضريبة، صدر عن علم وحكمة، ومحاسبة دقيقة وأنّ أصحاب الأموال لو قاموا بواجبهم، لسدّوا خلّة الفقراء في الأُمة الإسلامية.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان مصارف الزكاة:

الأوّل والثاني: (لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ ) إنّما الكلام في الفرق بينهما، وقد

ص: 342

ذكروا في الفرق بينهما وجوهاً(1)، ويمكن استظهار الفرق بينهما بالبيان التالي:

إنّ لفظ المسكين مفرداً وجمعاً مرفوعاً ومنصوباً ورد في القرآن ثلاثاً وعشرين مرّة، كما ورد لفظ الفقير كذلك ثلاث عشرة مرّة، والإمعان في الآيات يوضح بأنّ المسكين يتميّز عن الفقير بأحد أمرين:

أ. كونه أسوأ حالاً من الفقير قال سبحانه: (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (2)، أي يتيماً ذا قربى من قرابة النسب والرحم، أو مسكيناً قد لصق بالتراب من شدّة فقره وضرّه، وأمّا الفقير فيستعمل في مقابل الغني، قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ) (3)، ومن المعلوم أنّ لعدم الغنى مراتب كثيرة وليس كلّ من ليس بغني مسكيناً ذليلاً لاصقاً بالتراب بخلاف المسكين.

ب. كون المسكين من يسأل الناس دون الفقير، ويدل عليه قوله سبحانه: (لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً) (4) أي لا يسألون الناس أصلاً، كما في المجمع(5)، بخلاف المسكين فهو من يسأل الناس قال سبحانه: (فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا اَلْيَوْمَ 2.

ص: 343


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 168/8-171.
2- . البلد: 15-16.
3- . فاطر: 15.
4- . البقرة: 273.
5- . لاحظ: مجمع البيان: 253/2.

عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) (1) ، فدخول المسكين علامة السؤال.

وما استفدناه من الآية من الفرقين أُشير إليه في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام ونكتفي هنا بذكر واحدة منها.

روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام أنّه سأله عن الفقير والمسكين ؟ فقال: «الفقير الذي لا يسأل، والمسكين - الذي هو أجهد منه - الذي يسأل».(2)

الثالث: قوله: (وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم المنصوبون من قبل الإمام أو نائبه الخاص أو العام لأخذ الزكوات وضبطها وحسابها وإيصالها إليه، فإنّ العامل يستحقّ منها سهماً في مقابل عمله وإن كان غنياً. قال العلّامة الحلّي: يجب على الإمام أن يبعث ساعياً لتحصيل الصدقات من أربابها لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يبعثهم في كلّ عام فيجب اتّباعه. ولأنّ تحصيل الزكاة غالباً إنّما يتمّ به وتحصيل الزكاة واجب فيجب ما لا يتم إلّابه.(3)

ويشترط فيهم: البلوغ والعقل والإيمان والعدالة، كما يشترط معرفة المسائل المتعلّقة بعملهم اجتهاداً أو تقليداً.

الرابع: (وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) وهم الذين يراد من إعطائهم ألفتهم وميلهم إلى الإسلام أو إلى معاونة المسلمين في الجهاد مع الكفّار أو الدفاع، ومن المؤلّفة قلوبهم: ضعفاء العقول من المسلمين لتقوية اعتقادهم، أو لإمالتهم للمعاونة في الجهاد أو الدفاع.5.

ص: 344


1- . القلم: 23-24.
2- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث 2، ولاحظ الحديث: 6 و 7.
3- . تذكرة الفقهاء: 246/5.

الخامس: (وَ فِي اَلرِّقابِ ) عبّر سبحانه عن هذا الصنف: (وَ فِي اَلرِّقابِ ) بتغيير السياق عن «اللام» إلى (فِي) إشعاراً بأنّ الزكاة تصرف في طريق مصالحهم من فكّهم وعتقهم دون التمليك لهم، كما مرّ. ولذلك فسّره الطبرسي بقوله: «في فكّ الرقاب من العتق». وهم ثلاثة أصناف:

الأوّل: المكاتبة مطلقاً أو مشروطاً.

الثاني: العبد تحت الشدّة.

الثالث: مطلق عتق العبد مع عدم وجود المستحقّ للزكاة.

السادس: (وَ اَلْغارِمِينَ ) وهم الذين ركبتهم الديون وعجزوا عن أدائها وإن كانوا مالكين لقوت سنتهم.

السابع: (وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) وهو جميع سبل الخير من الجهاد وبناء القناطر والمدارس والخانات والمساجد وتعميرها وتخليص المسلمين من يد الظالمين ونحو ذلك من المصالح كإصلاح ذات البين ودفع وقوع الشرور والفتن بين المسلمين.

الثامن: (وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ ) وهو المسافر الذي نفدت نفقته، أو فقد وسيلة سفره، بحيث لا يقدر مع ذلك على السفر والعودة إلى أهله، وإن كان غنيّاً في وطنه، بشرط عدم تمكّنه من الاستدانة أو بيع ما يملكه.

هذه هي المصارف الثمانية للزكاة، والتفصيل في كلّ واحد منها والشروط اللازمة في دفع الزكاة إليهم يحتاج إلى بسط في الكلام، وقد بسطنا الكلام فيها في

ص: 345

كتابنا «الزكاة في الشريعة الإسلامية الغرّاء».(1)

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى بقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ ) : أي مقدّرة واجبة قدّرها اللّه وختمها بقوله: (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ ) بحاجات خلقه (حَكِيمٌ ) فيما فرض عليهم.

بحوث حول الزكاة

الأوّل: أنّ الزكاة إحدى المنابع المالية للحكومة الإسلامية، وقد استأثرت باهتمام الفقهاء منذ رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم 32 مرّة، وقُرنت بالصلاة في موارد كثيرة، وقد تضافرت الروايات على وجوبها(2) حتى عدّ السيد الطباطبائي (صاحب العروة الوثقى) وجوبها من ضروريات الدين، ومنكره مع العلم به كافر. وكأنّه مبني على أنّ إنكار وجوبها عند المنكر يلازم إنكار الرسالة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وقد ثبت في محلّه أنّ الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللّه والتصديق برسول اللّه، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث.(3)

الثاني: قد دلّت الآيات على أنّ للفقراء والمساكين سهماً في الصدقات وربما يتوهّم من ذلك تثبيت الفقر والمسكنة في المجتمع الإسلامي، إذ لولا الفقر والحاجة لما كان لسهمهما مصرف. ولكنّه توهّم باطل، لوجوه:

أوّلاً: إنّ معنى الآية أنّه لو كان في المجتمع فقير أو مسكين فتسدّ حاجاتهم

ص: 346


1- . لاحظ: الزكاة في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 14/2-198.
2- . لاحظ: الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة. مضافاً إلى ما مرّ من الآيات.
3- . بحار الأنوار: 248/88، برقم 8.

عن طريق الصدقات، وقد ثبت في محلّه أنّ صدق القضايا الحقيقية أو الشرطية لا يلازم وجود الموضوع قطعاً؛ بل يكفي في صدقهما فرض الموضوع. وعلى هذا فلو وجد الفقير والمسكين فتسدّ حاجاتهما بالصدقات، وإلّا فتصرف في الموارد الستة الواردة في الآية.

ثانياً: إنّ افتراض خلوّ المجتمع من الفقير والمسكين أمر مثالي، فتاريخ الإنسان على البسيطة يشهد على أنّه لم يوجد مجتمع إلى الآن خالٍ من الفقر والحاجة.

ثالثاً: إنّ العوامل المسبّبة لوجودهما لا تنحصر بسوء تدبير الدولة أو نقصان قوانينها، بل لوجود عوامل أُخرى خارجة عن سيطرة الحكومة وتدبيرها، مثلاً ربما يموت الوالد أو يقتل أو يجرح، ويبقى الأولاد فقراء، بسبب عدم وجود الضمان الاجتماعي، أو وجوده ولكن ربما يكون غير كاف في رفع حوائجهم، أو أنّه يخسر في تجارته خسارة فادحة يضيع بها رأس ماله، فيصير فقيراً صفر اليدين، فلابد للدولة الإسلامية من ترميم وضعه، إلى غير ذلك من الحالات والأسباب.

الثالث: قد ذكرنا أنّ للمؤلّفة قلوبهم احتمالات ثلاثة غير أنّ صاحب المنار أسهب في الكلام وذكر أنّ المؤلّفة قلوبهم قسمان: كفّار ومسلمون، والكفّار ضربان والمسلمون أربعة، فمجموع الفريقين ستة، ثم بسط الكلام في بيان كلٍّ ، فمن أراد فليرجع إليه.(1)

غير أنّ الذي يجب ذكره أنّ مدرسة الخلافة قد أسقطت سهم المؤلّفة6.

ص: 347


1- . لاحظ: تفسير المنار: 574/10-576.

قلوبهم وقد جرت سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم على دفع السهام إليهم، لكن لمّا ولي أبو بكر جاء المؤلّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم هذا - جرياً على عادتهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - فكتب أبو بكر لهم بذلك، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطه عليه، فمزّقه، وقال: لا حاجة لنا بكم فقد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلّا فالسيف بيننا وبينكم؛ فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا له: أنت الخليفة أم هو؟ فقال: بل هو إن شاء اللّه تعالى، وأمضى ما فعله عمر.(1)

فاستقرّ الأمر لدى الخليفتين ومَن يرى رأيهما على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم، وصرفه إلى مَن عداهم من الأصناف المذكورين في الآية.

ثمّ إنّ أهل السنّة برّروا عمل الخليفتين بتغيّر المصلحة بتغيّر الأزمان.

قال صاحب المنار: إنّ ذلك اجتهاد من عمر بأنّه ليس من المصلحة استمرار هذا التأليف لهذين الرجلين الطامعين وأمثالهما بعد الأمن من ضرر ارتدادهما لو ارتدّا، لأنّ الإسلام قد ثبت في أقوامهما حتى أنّه لا يترتّب على قتلهما - لو ارتدّا - أدنى فتنة.(2)

أقول: لو صحّ ما زعمه صاحب المنار من السبب لتبرير عمل الخليفة، لم يستقرّ حجر على حجر، إذ ربما يكون مدعاة لترك كثير من الأحكام بزعم فقدان المصلحة والأمن من المفسدة، وهذا يجرّ لفتح باب الاجتهاد أمام النصّ ، وعلى ذلك بنى الخليفة حكمه في نفاذ الطلاق لو أُجري ثلاثاً في مجلس واحد.س.

ص: 348


1- . الجوهرة النيّرة على مختصر القدوري في الفقه الحنفي: 164/1 كما في النص والاجتهاد: 42، ولاحظ: تفسير المنار: 496/10، روح المعاني: 122/10.
2- . تفسير المنار: 496/10. وأراد من الرجلين: عيينة بن حصين، والأقرع بن حابس.

روى مسلم عن طاووس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.(1)

الرابع: اتّفقت كلمة الفقهاء من السنّة والشيعة على حرمة الصدقات الواجبة على الهاشمي من غير خلاف.

قال الخرقي في متن المغني: ولا لبني هاشم ولا لمواليهم، والمراد من الموالي مَن اعتقهم الهاشمي، وقال ابن قدامة في شرحه: لا نعلم خلافاً في أنّ بني هاشم لا تحلّ لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمد وإنّما هي من أوساخ الناس» أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة، قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «كخ كخ - ليطرحها - وقال: أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة»، متّفق عليه.(2)

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على حرمة الصدقة على بني هاشم. ولكنّه سبحانه عوّضهم برفع حاجاتهم عن طريق الخمس من الغنائم وغيرها، والتفصيل يطلب من الموسوعات الفقهية.

الخامس: لا يشترط الفقر في العاملين على الزكاة، فإنّ الزكاة كالأُجرة لعملهم، إنّما الكلام في شرطية الفقر في صرف الزكاة في سبيل اللّه كالغازي وإحجاج الغني للحج، والتفصيل يطلب من الفقه.2.

ص: 349


1- . صحيح مسلم: 184/4، باب طلاق الثلاث، الحديث 2.
2- . المغني: 519/2.

أحكام الزكاة

5. إخراج الطيّب من الأموال للزكاة

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .(1)

المفردات

الخبيث: ضد الطيّب وهو الرديء من كلّ شيء، وأُريد به ما لا يأخذه المنفق عليه إلّابإغماض بقرينة قوله سبحانه: (وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا) ، وتفسير الخبيث بالحرام، بعيد عن سياق الآية.

ص: 350


1- . البقرة: 267-268.

تيمّموا: من التيمّم بمعنى القصد.

تغمضوا: غمض العين في الآية كناية عن التسامح والتساهل في البيع والشراء، فكأنّ المتساهل يغمض عينه ويقبل.

الفقر: الحاجة، وهو ضد الغنى .

الفحشاء: المعاصي.

التفسير

هاتان الآيتان ناظرتان إلى طبيعة المخرَج بعنوان الزكاة، واللّه يأمر الأغنياء أن ينفقوا أطيب الأموال لا أردأها، معلّلاً بأنّ المنفق لا يقبل الأردأ في مقام المعاملة إلّا بغمض العين.

ثم تنتقل الآية إلى غرض آخر وهو أنّ الشيطان بوسوسته، يصدّ الناس عن إنفاق المال، ويغريه بأنّه ربما يفتقر ويحتاج إليه، واللّه سبحانه يرد عليه بأمرين بمعنى أنّ الإنفاق يوجب المغفرة ووفرة المال وزيادته.

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآيتين:

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ) ما تملكون، وهو:

1. (ما كَسَبْتُمْ ) في التجارة ونحوها.

2. (وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ ) من المعادن والزراعة.

هذا من غير فرق بين الإنفاق الواجب كالزكاة، أو المستحبّ كسائر الإنفاقات.

ثمّ إنّه سبحانه تأكيداً على إنفاق أطيب الأموال ينهى عن إنفاق الأردأ،

ص: 351

ويقول: (وَ لا تَيَمَّمُوا) : أي لا تقصدوا (اَلْخَبِيثَ ) : أي الأردأ (مِنْهُ ) : أي ما كسبتم (تُنْفِقُونَ ) : من الأردأ، أي اجعلوا إنفاقكم من أفضل ما تملكون، فساووا بينكم وبين غيركم، فبما أنّكم لا تأخذون الأردأ في مقام المعاملة، فكذلك تعاملوا مع غيره معاملة النفس، كما يقول: (وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ) الواو للحال، والضمير يرجع إلى الخبيث (إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) : أي تتنازلوا وتتساهلوا.

ثمّ ختمت الآية باسمين كريمين ويقول: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ ) عن إنفاقكم (حَمِيدٌ) : أي محمود على نعمائه، فلو فرض عليكم الإنفاق فلمصلحتكم في الدنيا والآخرة.

روى الكليني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قوله تعالى:

(أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ) فقال: «كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية، فلمّا أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها فأبى اللّه تبارك وتعالى إلّاأن يخرجوا من أطيب ما كسبوا».(1)

وروى العياشي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: «كان أهل المدينة يأتون بصدقة الفطر إلى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفيه عذق يسمّى الجعرور وعذق يسمى معافارة، كانا عظيم نواهما، رقيق لحاهما في طعمهما مرارة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للخارص: لا تخرص عليهم هذين اللونين لعلّهم يستحيون لا يأتون بهما، فأنزل اللّه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ) .(2)

وروى الطبرسي، قال: وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف5.

ص: 352


1- . الكافي: 48/4، برقم 10.
2- . تفسير العياشي: 273/1، برقم 496/597. الوسائل: 6، الباب 20 من أبواب زكاة الغلّات، الحديث 5.

فيدخلونه في تمر الصدقة؛ عن علي عليه السلام(1).

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلّاالطيّب».(2)

ثمّ إنّ الدافع الذي يدعو بعض المنفقين إلى إنفاق الأردأ بحفظ الأطيب إلى أنفسهم هو أنّهم يخافون الفقر في المستقبل العاجل، فيدخرون الأطيب لأنفسهم، وينفقون الأردأ الذي لا يرغب فيه إلّاالفقير المدقع، واللّه سبحانه يردّ هذه الفكرة بأنّها فكرة شيطانية لا رحمانية ويقول: (اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ) ويوسوس في نفوسكم ما ذُكر، (وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ) ولعلّه أُريد البخل، فإنّ البخل عند عامّة الناس من أقبح القبائح. هذا ما يعد به الشيطان، (وَ) لكن (اَللّهُ يَعِدُكُمْ ) بأمرين مهمّين، هما:

1. (مَغْفِرَةً مِنْهُ ) فإنّ الحسنات يذهبن السيئات.

2. (وَ فَضْلاً) يخلف عليكم خيراً من صدقتكم ويتفضّل عليكم بالزيادة في أرزاقكم، وكأنّ من سنة اللّه تعالى أن يخلف على المنفق بما يسهل له من أسباب الرزق، ويرفع من شأنه في القلوب، وأن يحرم البخيل عن مثل ذلك، وعلى هذا فاللّه سبحانه وعد المنفق بجزائين:

(مَغْفِرَةً ) ترجع إلى الآخرة، (وَ فَضْلاً) يرجع إلى الدنيا.

ثم ختمت الآية بقوله: (وَ اَللّهُ واسِعٌ ) : أي ذو سعة وغنى لا يحتاج إلى أحد وإنّما يأمركم بالإنفاق لأجل مصالحكم (عَلِيمٌ ) بأفعال العباد وأغراضهم.2.

ص: 353


1- . مجمع البيان: 191/2، مؤسسة الأعلمي، بيروت.
2- . مجمع البيان: 208/2؛ مسند أحمد: 404/2.

أحكام الزكاة

6. قصد التقرّب إلى اللّه في إعطاء الزكاة

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) .(1)

التفسير

الزكاة فريضة ماليّة وفي الوقت نفسه فريضة قربية، لا عباديّة(2) يتقرب بها، وليس كسائر الواجبات التوصلية التي لا تحتاج إلى قصد التقرّب، كدفن الموتى وجواب السلام، بل يلزم أن يكون الإعطاء طلباً لمرضاة اللّه تعالى.

ص: 354


1- . البقرة: 272.
2- . إشارة إلى الفرق بين كون شيء واجباً قريباً يتقرب به إلى اللّه، دون أن يتعبّد به كالزكاة والخمس والوضوء. وبين كونه قربياً عبادياً، يُعبد به كالصلاة والصوم والحجّ . وقد أوضحنا حالهما في المبسوط عند تقسيم الأوامر إلى توصلية وقربية وتعبدية.

الآية تشتمل على مقاطع:

الأوّل: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ) والغاية من هذه الفقرة هي التنبيه على أنّ ساحة الداعي منزّهة عن الانتفاع بالإنفاق، وإنّما يعود نفعه إلى المدعوين.

الثاني: (وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ ) هذه الفقرة جملة حاليّة وقيد للفقرة السابقة فكأنّه يقول: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم في حال أنّكم لا تنفقونه إلّا ابتغاء وجه اللّه. وأُريد بوجه اللّه، ذات اللّه ومرضاته، إذ يطلق الوجه ويراد به الذات، كما في قوله سبحانه: (كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) (1).

الثالث: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) وهذه الفقرة إشارة إلى دفع توهّم، وهو أنّ ما سبق من قوله: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ) ليس مجرّد شعار بل له واقعية (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ ) من التوفية، أي يؤدّ إليكم كاملاً، ويؤيّده قوله: (وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) : أي لا ينقص من أجوركم شيء.

ثمّ إنّ في قوله سبحانه: (وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ ) دلالة واضحة على أنّ عملية الزكاة لا تُقبل إلّاإذا كانت مقرونة بنية القربة إلى اللّه سبحانه، وبذلك يعلم أنّ العمل الصالح يتقوّم بأمرين:

1. كون العمل صالحاً وحسناً ينتفع به الناس.

2. كون الباعث للعمل هو النية الخالصة عن السمعة والرياء.

وبذلك يفترق المنهج الإصلاحي والتربوي في الإسلام عن المنهج الغربي في ذينك الأمرين. وذلك أنّ كلّ عمل يصبح مفيداً للمجتمع يتمتّع عند الغربيّين8.

ص: 355


1- . القصص: 88.

بالقبول والتقدير؛ سواء أكان الباعث نيّة هو التقرب إلى اللّه سبحانه أو لرفع الحاجة عن المستضعفين والطبقة الضعيفة، أو كان لأجل تحصيل الأصوات عند الانتخابات، فالميزان كون العمل حسناً فقط دون النية، وهذا بخلاف ما عليه المنهج الإسلامي فلو كان العمل جميلاً ولكن النيّة مشوبة بالآمال المادية، فلا يثاب فاعله ولا يقدّر عمله، ولذلك يقول سبحانه: (وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ ) .

ص: 356

أحكام الزكاة

7. أيّهما أفضل: الإبداء بالصدقات أو إخفاؤها؟

اشارة

في الإخفاء تكفير لبعض السيّئات

الآية السابعة

اشارة

قال سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) .(1)

التفسير

العمل الصالح الذي يتقرّب به العبد إلى اللّه سبحانه ويحصّل على رضاه به، هو العمل المجرّد عن الرياء والسمعة المرفق بالإخلاص، هذا هو ملاك العمل الصالح، سواء أبداه أو أخفاه، ولذلك يقول سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ ) : أي تظهروها وتعلنوها (فَنِعِمّا هِيَ ) : أي نعم الشيء إظهارها وإعلانها وليس فيه

ص: 357


1- . البقرة: 271.

كراهة (وَ) لكن (إِنْ تُخْفُوها) : أي تستروها (وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ ) : أي تؤدوها إليهم في السرّ (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) : أي أبلغ في الثواب، ويترتّب عليه - وراء الثواب - أمر آخر (وَ) هو (يُكَفِّرُ) : أي يُمحي (عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) : أي بعض سيئاتكم بشهادة «مِن». ولكن أُبهمت السيئات، ومن المعلوم أنّ السيئات الكبيرة لا تُكفّر بالإنفاق، بل لتكفيرها طرق أُخرى .

قوله تعالى: (وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) : أي لا تخفى عليه نيّاتكم في الإبداء والإخفاء. ثمّ إنّ الظاهر من الروايات التفصيل بين الإنفاق الواجب و الإنفاق المندوب. ففي النوع الأوّل الأفضل هو الإبداء، وفي النوع الثاني الأفضل الإسرار.

روى الكليني عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكلّ ما كان تطوّعاً فإسراره أفضل من إعلانه، ولو أنّ رجلاً حمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسناً جميلاً».(1)

وروى علي بن إبراهيم بسنده عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ ) قال: «يعني الزكاة المفروضة»، قلت: (وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ ) قال: «يعني النافلة، إنّهم كانوا يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل».(2)

ويمكن أن يكون وجه الإبداء في الزكاة المفروضة مرغوباً فيه، هو ترغيب الآخرين إلى العمل بالواجب مضافاً إلى أنّ الإخفاء مظنّة الاتّهام، فلذلك يقوم بأداء1.

ص: 358


1- . الكافي: 501/3، برقم 16.
2- . الكافي: 60/4، برقم 1.

هذا التكليف بشكل علني. كما أنّ الزكاة (الصدقة الواجبة) تُدفع إلى الحاكم الشرعي ويقوم نائبه بجمعها، فليس فيها أي مذلّة وتحقير للمحتاجين لها، فلا إشكال في إعلانها.

وهذا بخلاف الصدقة المندوبة، فإنّها تسلّم إلى نفس الفقير والمحتاج، فإسرارها أفضل؛ لأجل حفظ شخصيته وعدم شعوره بذلّة الحاجة.

نعم ما ورد في الآية ضابطة غالبية، فقد تقتضي المصلحة بإعلان الإنفاق المستحبّ ، كما لو قام جماعة ببناء المشاريع الخيرية، كالمستشفيات والمدارس، فمن الواضح أنّ الإعلان أفضل من الإخفاء، حيث إنّه يكون باعثاً ومحفِّزاً للآخرين على المشاركة في الإنفاق.

ولعلّه يشير إلى ما ذُكر، قوله سبحانه: (اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .(1)

بقيت هنا كلمة وهي أنّ قوله سبحانه: (وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ ) لعلّه مطلق يعم كلّ فقير، سواء أكان موحدّاً أو لا، مسلماً أو غير مسلم، ولو قلنا بالإطلاق فهو يختصّ بالإنفاق المندوب الذي لا يشترط فيه كونه موحّداً أو مسلماً، إلّاأن يكون محارباً متعدّياً، يقول سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ ) (2).9.

ص: 359


1- . البقرة: 274.
2- . الممتحنة: 8 و 9.

أحكام الزكاة

8. ما هو اللازم في الإنفاق ؟

الآية الثامنة:

اشارة

قال سبحانه: (اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) .(1)

المفردات

المنّ : أن يتطاول المعطي على مَن أعطاه بأن يقول: «ألم أعطك» أو «ألم أحسن إليك» كلّ ذلك استطالة عليه.

الأذى: هو التعيير والتوبيخ والاستخفاف.

ص: 360


1- . البقرة: 262-263.
التفسير

فرض سبحانه على المنفق في سبيل اللّه، الطالب رضاه ومغفرته، أن لا يتبع ما أنفقه بالمنّ والأذى، وقال: (اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً ) فجزاء هؤلاء المنفقين غير المتبعين إنفاقهم بالمن والأذى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

وأمّا المعوِز والمعدم فيقول سبحانه في حقّه: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) .

يُرشد سبحانه - في هذه الآية - المعوزين (أي من لا يستطيع الإنفاق) بأن يردّوا الفقراء إذا سألوهم بأحد أسلوبين:

أ. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) كأن يتلطّفوا بالكلام في ردّ السائلين والاعتذار منهم والدعاء لهم.

ب. (وَ مَغْفِرَةٌ ) لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة، فالمواجهة بهاتين الصورتين (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً ) .

وعلى كلّ حال فالمغني هو اللّه سبحانه، كما يقول: (وَ اَللّهُ غَنِيٌّ ) : أي يغني السائل من سعته، ولكنّه لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل (حَلِيمٌ ) فعليكم يا عباد اللّه بالحلم والغفران لما يبدر من السائل.

ص: 361

أحكام الزكاة

9. المنع عن إتباع الإنفاق بالمنّ والأذى

الآية التاسعة:

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ ) .(1)

المفردات

رئاء: من الرؤية، وسمّي المرائي بذلك كأنّه يفعل ليُري عمله لغيره.

صفوان: الحجر الأملس.

وابل: مطر عظيم القطر شديد الوقع الذي يزيل التراب.

ص: 362


1- . البقرة: 264.

صلداً: أي صلباً أملس.

التفسير

تتضمّن الآية أمرين:

1. أنّ المن والأذى يبطلان الصدقات.

2. يشبه هؤلاء بالمنفق رآء الناس، ويمثّل واقع عمله بمثال.

أمّا الأمر الأوّل: وهو أنّ المنّ والأذى يبطلان الصدقات. فيشير إليه بقوله: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى ) .

ثمّ إنّ الإبطال في الآية غير (الحبط) فإنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السيِّئ، الثوابَ المكتوب المفروض، وهذا كالكفر إذا ارتدّ المسلم فيحبط عمله، وأمّا المقام فليس من هذا القبيل؛ وذلك لأنّ ترتّب الثواب على الإنفاق مشروط من أوّل الأمر بعدم صدوره عن رياء أو عدم متابعته بالمنّ والأذى في المستقبل، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والأذى.

وأمّا استخدام كلمة الإبطال الذي يوحي إلى وجود الثواب والأجر، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للأجر وهو الإنفاق، ولا يتوقّف على تحقّق الأجر ومفروضيته على اللّه بالنسبة إلى العبد.

وأمّا الأمر الثاني: فهو توضيح عمل المرائي بالمثال التالي:

نفترض أرضاً صفواناً ملساء عليها تراب ضئيل يخيّل لأوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للزراعة، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلدة صلبة

ص: 363

ملساء لا تصلح لشيء من الزرع، كما قال سبحانه: (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا) .

فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن رديء، فالإنسان غير العارف بحقيقة نية العامل يتخيّل أنّ عمله منتج، كما يتصوّر الإنسانُ الحجرَ الأملس الذي عليه تراب قليل أنّه صالح للنبات، فعندما أصابه مطر غزير شديد الوقع وأزاح التراب عن وجه الحجر تبيّن أنّه حجر أملس لا يصلح للزراعة، وهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الأستار تبيّن أنّه عمل رديء عقيم غير ناتج.

قال السيد الطباطبائي: فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب، لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما، فهذا حال الصلد.(1)

فما هو سبب لإنبات النبات على النحو الأحسن صار سبباً لإزالته من رأس.

ثمّ إنّ المانّ والمؤذي بعد الإنفاق أشبه بعمل المرائي. والجامع بين الجميع عدم انتفاعهم من إنفاقهم غير أنّ المرائي يفتقد قصد القربة والمانّ والمؤذي يفقدان شرط القبول.

ثمّ إنّ الآية ختمت بقوله: (وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ ) وهي ناظرة إلى المرائي الذي مرّ وصفه في قوله تعالى: (وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) .

***

تمّت آيات أحكام الزكاة2.

ص: 364


1- . الميزان في تفسير القرآن: 394/2.

الفصل الخامس: أحكام الخمس والأنفال والفيء في الذكر الحكيم

اشارة

1. ما هو المراد من الأنفال ؟

2. في الأسرى وأخذ الفدية.

3. الخمس في الغنائم.

4. أحكام الأنفال والفيء في الذكر الحكيم.

ص: 365

ص: 366

أحكام الخمس في الذكر الحكيم

قد تقدّم في الفصل السابق أنّ الخمس والأنفال من المنابع الماليّة للحكومة الإسلامية، وها نحن نخصّ هذا الفصل لبيان أحكامهما، وسيوافيك معنى الأنفال.

ثمّ إنّ متعلق الخمس تارة يكون من الأنفال كالكنز والمعدن، وأُخرى يكون من غيره كأرباح المكاسب والأرض التي اشتراها الذمي، وعلى كلّ تقدير فهناك آيات حول الخمس والأنفال مبثوثة في سورتي الأنفال والحشر، ونحن ندرس الجميع على وجه الإيجاز.

***

ص: 367

أحكام الخمس

1. ما هو المراد من الأنفال ؟

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .(1)

المفردات

الأنفال: جمع نفل، وهو الزيادة على الشيء، يقال: نفلتك كذا، إذا زدته.

ذات: في الأصل مؤنث «ذا» بمعنى الصاحب، وهو من الأسماء الستة، ولا يستعمل إلّامضافاً، يقال: ذو مال أي صاحب مال، ولكن حصل التطوّر في استعمال اللفظ فأصبح يطلق على نفس الشيء وما به الشيء هوهو، يقال: ذات الإنسان، وذات زيد، أي واقعه الذي سُمّي بزيد، وعلى هذا فمعنى قوله: (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) : أي حقيقة بينكم، أو حال بينكم السيّئة.

ص: 368


1- . الأنفال: 1.
التفسير

ربما يتبادر إلى الأذهان بأنّ اللازم دراسة هذه الآية وما بعدها في قسم الأنفال، مع أنّ البحث في المقام مخصّص في الخمس، غير أنّ العدول عن ذلك لأنّ لفظ الأنفال وإن كان لا يختصّ بموارد الخمس بل سيأتي أنّه أعمّ حتى يشمل رؤوس الجبال والأودية والأنهار الكبيرة، لكن المراد من الأنفال في خصوص هذه الآية هو الغنائم الحربية التي وردت فيها أحكام الخمس في الآية السادسة، فبما أنّ المجموع ورد في غزوة بدر التي لم يكن آنذاك أي حديث عن الأنفال بالمعنى الأعمّ ، ولذلك درسنا الآية في هذا المقام. فنقول:

إنّ الآية تدلّ على وجود سؤال عن الأنفال، وأمّا ما هو السؤال فلم يرد في هذه السورة ولا في غيرها، وإنّما يُعلم من الروايات، التي تضمّنت بيان وقوع الاختلاف بين الصحابة في مسألة الأنفال التي وقعت بيد المسلمين بعد معركة بدر، يقول عبادة بن الصامت: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس، فهزم اللّه العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون، واكبّت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يصيب العدوّ منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحقّ بها منّا، نحن نفينا عنها العدوّ وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به، فنزلت: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ ...) ، فقسّمها

ص: 369

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين المسلمين.(1)

إذا تبيّن ذلك فعُلم وجه السؤال وترتّب الجواب عليه.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر الحاضرين في غزوة بدر بأُمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: قال تعالى: (فَاتَّقُوا اَللّهَ ) : أي اتّقوا معصية اللّه وعقابه، واتركوا المنازعة وارضوا بما حكم به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

الأمر الثاني: (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) : أي أصلحوا الحالة التي بينكم، واجتنبوا عن الجدال والشقاق وكونوا إخواناً متحابّين.

الأمر الثالث: (وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ ) في تقسيم الأنفال، وفي غير ذلك.

ثمّ إنّه سبحانه ذكر شرطاً لتحقق هذه الأُمور الثلاثة، وهو قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وهو بمعنى أنّه لا يقوم بهذه الأُمور إلّاالمؤمن باللّه والمسلّم له، والشرط أشبه بالشرط المحقِّق للموضوع، نظير قولك: إن رزقت ولداً فأختنه.

ما هو المراد من الأنفال ؟

وردت كلمة الأنفال في الآية الأُولى من هذه السورة، ولا شكّ أنّ الغنائم الحربية داخلة في آيتنا هذه وكأن المفهوم من الآية، يومئذ هو الغنائم فقط، لكن يظهر من الروايات أنّ للأنفال مصاديق كثيرة نذكر شيئاً منها.

ففي رواية حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه السلام، قال: «وله الخمس بعد الأنفال، والأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال، وله رؤوس الجبال،

ص: 370


1- . تفسير الدر المنثور: 5/4.

وبطون الأودية، والآجام، وكلّ أرض ميّتة لا ربّ لها، وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأنّ الغصب كلّه مردود، وهو وارث من لا وارث له، يعول من لا حيلة له».(1)

وروى الكليني بسنده عن حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة، وبطون الأودية، فهو لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء».(2)

إنّما الكلام أنّ مقتضى سياق الآية والظروف التي عاشها النبي صلى الله عليه و آله و سلم يومذاك، هو القول الأوّل (أي الغنائم)؛ لأنّ إرادة غير الغنائم - حسب ما جاء في الرواية - إنّما يصحّ عرفاً فيما لو كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم مسلطاً على بطون الأودية أو رؤوس الجبال، أو لو فتح المسلمون أرضاً بلا خيل ولا ركاب، فإنّ البحث في هذه الجهات من شأن مَن له سلطة على بلدان شاسعة ومناطق عديدة، والمفروض أنّ الآية نزلت في السنة الثانية للهجرة، ولم يقرّ للمسلمين قرار تام مثلما حصل عقيب غزوة الأحزاب. فالإصرار على إرادة العموم غير تام.

والذي يمكن أن يقال: إنّ الروايات وسّعت مصاديق الأنفال، كما مرّ.

***1.

ص: 371


1- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4.
2- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 1.

أحكام الخمس

2. في الأسرى وأخذ الفدية

الآيتان: الثانية والثالثة

اشارة

قال سبحانه: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .(1)

المفردات

أسرى: جمع أسير، كالقتلى والجرحى : جمع قتيل وجريح، يقول ابن مالك:

فَعْلى لوصفٍ كقتيلٍ و زَمِنْ ***و هالكٍ وَ مَيِّتٍ به قَمِنْ

وهو من الأسر بمعنى الشدّ، فكلّ من يؤخذ من العسكر في الحرب، يُشدّ لئلّا يهرب، ثمّ أُطلق على كلّ مأخوذ وإن لم يُشدّ.

يثخن: الثخانة بمعنى الغلظة، وثوب ثخين ضد رقيق، وأُريد في الآية

ص: 372


1- . الأنفال: 67 و 68.

«الاستقرار».

عرض الدنيا: المتاع.

كتاب من اللّه سبق: أي ما مضى من حكم اللّه أن لا يعذب اللّه قوماً حتى يبيّن لهم ما يتّقون.

التفسير

يظهر من الآية الأُولى وما روي من الروايات حولها أنّ المسلمين، قد أسروا جمعاً من المشركين لغاية الفدية قبل أن تنتهي الحرب وتُعلم نتائجها، لأنّ أسرهم لغاية أخذ الفدية منهم قبل استقرار الأمر سوف يجعلهم يلتحقون من جديد بجيش العدوّ، ولذلك نرى أنّ الآية تندد بعمل المسلمين بهذا الخصوص، وأنّه لم يكن أمراً مشروعاً، فعاتبهم اللّه سبحانه على قيامهم بهذا الأمر، وقال: (ما كانَ لِنَبِيٍّ ) : أي لم يكن من شأن نبي من أنبياء السلف (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) من المشركين للفداء أو المنّ (حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ ) : أي حتى يقوى ويشتدّ ويغلب، فيدلّ على جواز أخذ الأسرى بعد حصول الإثخان في الأرض، والآية تحكي عن أنّ المجاهدين في غزوة بدر أخذوا الأسرى قبل الإثخان في الأرض لغاية الفداء أي تحريرهم في مقابل المال، كما يقول: (تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا) ، وسُمّيت المنافع الدنيوية بالعرض لأنّها لا ثبات لها ولا دوام على عكس نعم الآخرة، (وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ) لكم، أي يُريد لكم ثواب الآخرة، الثابت الدائم (وَ اَللّهُ عَزِيزٌ) لا تغلب أنصاره، فيجب أن يكون المؤمنون غالبين، واللّه (حَكِيمٌ ) : أي في أحكامه.

وهذا دليل على وجود التنازع والتشاجر والاختلاف بين الصحابة في أمر

ص: 373

الغنائم، فصار ذلك سبباً لحصر المالكية بيد اللّه سبحانه ثم بيان مصرف الأنفال في آية الخمس.

ويظهر من الآية الثالثة أنّ أخذ الأسرى لغاية الانتفاع بهم قبل نهاية الحرب، وقبل أن تضع أوزارها، كان ذنباً يستحقّ صاحبه العذاب العظيم، ولكنّه سبحانه لم يؤاخذهم بذلك وعفا عنهم بكتاب اللّه، كما قال: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ ) : أي سنّة من سنن اللّه، وهو عدم التعذيب قبل البيان (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وقد اختلف المفسّرون في ما هو المراد من (كِتابٌ ) في قوله سبحانه: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ ) ، وقد ذكر الطبرسي وجوهاً مختلفة.(1)

وأوضح هذه الوجوه هو الأوّل من كلامه، أي: لو ما مضى من حكم اللّه أن لا يعذّب قوماً حتى يبيّن لهم ما يتقون، قال سبحانه: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (2) أي أنّه لولا ما كتب اللّه سبحانه وفرض على نفسه أن لا يعاقب عبداً إلّا بعد ما يبيّن له ما يتّقي، لولا هذا لمسّكم في ما أخذتم من الأسرى عذاب عظيم.

***5.

ص: 374


1- . لاحظ: مجمع البيان: 535/3-536.
2- . الإسراء: 15.

أحكام الخمس

3. الخمس في الغنائم

الآية الرابعة:

اشارة

قال سبحانه: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .(1)

المفردات

غنمتم: الغُنم: الفوز بالشيء (والظفر به)، قاله الأزهري.(2)

وقال الراغب: الغَنْم معروف، والغُنم إصابته والظفر به، ثم استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم.(3) وفي مصطلح الفقهاء: ما كان من غير قتال

ص: 375


1- . الأنفال: 41.
2- . لاحظ: تهذيب اللغة، مادة «غنم».
3- . المفردات للراغب: 366، مادة «غنم».

فهو فيءٌ ، وإن كان مع القتال فهو غنيمة.

يوم الفرقان: أُريد به يوم بدر، لأنّه اليوم الذي فرّق فيه بين الإيمان وأهله، وبين الكفر وأهله.

الجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين.

التفسير

إنّ لفظة «ما» في قوله: (أَنَّما) اسم موصول وهو اسم «أنّ » التي هي من الحروف المشبّهة، ومقتضى قاعدة رسم الخط أن يكتبا مفصولتين «أنّ ما» ولكن لمّا كتبا في المصاحف الأُولى موصولتين بقيت كتابتهما على الرسم السابق، (غَنِمْتُمْ ) : أي فزتم (مِنْ شَيْ ءٍ ) بيان للموصول لئلّا يتوهّم بأنّ الحكم مخصوص بغنيمة خاصّة، وهو من القرائن الدالّة على أنّه أُريد من الغنيمة مطلق ما يغنمه الإنسان، سواء أكان في الحرب أم غيرها (فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ ) لفظة (للّه) خبر مقدّم وما بعده مبتدأ مؤخّر، أي فأنّ خمسه للّه، واللام في قوله: للّه، لام التمليك، فبما أنّ مورد الآية الغنائم التي يفوز بها الإنسان في الحرب، فخمس المغنم للّه ولمن يذكر بعده من الطوائف الخمس، وأمّا الأخماس الأربعة الباقية المنقولة فهي للغزاة، فالغنائم تقسّم على خمسة أسهم: سهم للموارد الستة، والأربعة الباقية للغزاة حسب رأي الإمام، وأمّا الموارد الستة فقد مرّ المورد الأوّل منها وهو (لِلّهِ ) سبحانه، وأمّا الموارد الباقية فإليك بيانها:

الثاني: (وَ لِلرَّسُولِ ) .

الثالث: (وَ لِذِي اَلْقُرْبى ) ، وقد تكرّر حرف الجر في الموارد الثلاثة إشارة

ص: 376

إلى أنّ لكلّ سهماً خاصّاً.

وأمّا ما هو المراد من ذي القربى؟ فإنّ ذكر الرسول قبله دليل على أنّ اللام في (لِذِي اَلْقُرْبى ) : أي مَن له قرابة من الرسول، وإفراد «ذي القربى» دون أن يقول: «ذوي القربى» كما في سائر الآيات، دليل على أنّه أُريد به الفرد الخاصّ وفسّرته روايات أهل البيت عليهم السلام بالإمام بعد الرسول.

روى الكليني بسند صحيح عن الرضا عليه السلام قال: سُئل عن قول اللّه عزوجل:

(وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى ) فقيل له: فما كان للّه فلمَن هو؟ فقال: «لرسول اللّه وما كان لرسول اللّه فهو للإمام».(1)

وفي حديث آخر: «فأمّا الخمس فيقسّم على ستّة أسهم: سهم للّه، وسهم للرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، فالذي للّه فلرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فرسول اللّه أحقّ به فهو له خاصّة، والذي للرسول هو لذي القربى والحجّة في زمانه، فالنصف له خاصّة، والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد عليهم السلام الذين لا تحلّ لهم الصدقة ولا الزكاة عوّضهم اللّه مكان ذلك بالخمس...».(2)

وأمّا الموارد الثلاثة فقد أُوتي بها مجرّدة عن حرف الجر، كما في قوله:

(وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ ) مشعراً بأنّ النصف من الخمس للمجموع فيجوز صرف الجميع في مورد واحد إذا اقتضت المصلحة، ولولا الروايات يمكن9.

ص: 377


1- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 6.
2- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 9.

أن يقال: مطلق الأيتام والمساكين وأبناء السبيل، لكن الروايات خصّتهم بيتامى أهل البيت عليهم السلام ومساكينهم وأبناء سبيلهم، وما هذا إلّاعوضاً عن الزكاة، فإنّها حُرّمت على بني هاشم وأُبدلت بالخمس. مضافاً إلى أنّ مجيئهم بعد (الرسول) قرينة على أنّ المراد يتامى ومساكين ذلك البيت.

قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ ) الظاهر أنّ الجملة الشرطية تتعلّق بما تقدّم من قوله: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ) والغرض من القيد هو طلب العمل بعد العلم، والمعنى: إن كنتم آمنتم باللّه فاعلموا أنّ ما غنمتم فإنّ خمسه للّه وللرسول...، إلخ.

قوله تعالى: (وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) : أي الرسول (يَوْمَ اَلْفُرْقانِ ) والجملة عطف على لفظ الجلالة (بِاللّهِ ) : أي إن آمنتم باللّه وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان، وأبهم سبحانه ما أنزله يوم الفرقان الذي هو يوم بدر الذي فرّق بين الإيمان والكفر، وهنا احتمالان:

1. قوله سبحانه: (فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) (1).

2. أُريد به نزول الملائكة لنصرة المؤمنين، وقد تقدّم قوله سبحانه: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا) (2).

قوله سبحانه: (يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ ) المؤمنون والمشركون. قوله:

(وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) يتعلّق ببعض ما سبق في الآية وأنّه سبحانه لو فرّق في ذلك اليوم بين الطائفتين ونصر أحدهما على الأُخرى فهو من شؤون كونه (عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .2.

ص: 378


1- . الأنفال: 69.
2- . الأنفال: 12.

إلى هنا خرجنا عن تفسير الآية بجملها وكلماتها، ولكن يقع البحث في أُمور:

الأمر الأوّل: ما هو المراد من الغنيمة في الآية ؟

اشارة

إنّ مفسّري أهل السنّة يقولون هي عبارة عمّا يغنمه المسلمون من الكفّار بقتال، وعلى قولهم هذا تكون مسألة الخمس عبارة عمّا لا واقع له في حياتنا العملية في هذه الأيام، إذ لا دولة إسلامية تقاتل الكفّار والمشركين، وأصبحت الآية عندهم كالآيات التي ذكرت أحكام العبيد والإماء التي لا واقع لها في حياتنا العملية، وليس لديهم دليل على الاختصاص إلّاكونها واردة في قتال المشركين، لكن الفقيه أعرف بأنّ المورد لا يكون مخصّصاً إذا كان اللفظ مطلقاً.

ثمّ إنّ اللغة والكتاب العزيز والسنّة تدلّ على أنّ الغنيمة عبارة عن كلّ ما يفوز ويظفر به الإنسان، سواء أكان عن قتال أو لا؟ وإليك التفصيل:

أوّلاً: الغنيمة في معاجم اللغة

أ. قال الخليل: الغنم: الفوز بالشيء من غير مشقّة، والاغتنام انتهاز الغنم.(1)

ب. قال الأزهري: قال اللبيب: الغنم: الفوز بالشيء، والاغتنام انتهاز الغنم.(2)

ج. قال ابن فارس: غنم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك

ص: 379


1- . كتاب العين: 426/4، مادة «غنم».
2- . تهذيب اللغة، مادة «غنم».

من قبل، ثم يختص بما أخذ من المشركين.(1)

د. قال ابن منظور: الغنم، الفوز بالشيء من غير مشقّة.(2)

ه. قال ابن الأثير في تفسير قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه» غنمه زيادته ونماؤه، وفاضل قيمته.(3)

و. قال الفيروزآبادي: الغنم: الفوز بالشيء بلا مشقّة، وغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه، واغتنمه، وتغنّمه: عدّه غنيمة.(4)

ز. قال الزبيدي: الغُنْم: الفوز بالشيء بلا مشقّة، أو هذا الغُنْم والفيء:

الغنيمة.(5)

إلى غير ذلك من الكلمات المترادفة والمتشابهة في المعاجم، وهذه النصوص تعرب عن أنّ المادة لم توضع لما يفوز به الإنسان في الحروب فقط، بل معناها أوسع من ذلك، وإن كان يغلب استعمالها في العصور المتأخّرة عن عصر نزول القرآن، في ما يظفر به في ساحة الحرب.

ثانياً: الغنيمة في الكتاب والسنّة

أطلق الكتاب المجيد الغنيمة على أجر الآخرة، وهذا يدلّ على أنّ للفظ معنى وسيعاً يشمل كلّ ما يفوز به الإنسان في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا

ص: 380


1- . معجم مقاييس اللغة: 4/397، مادة «غنم».
2- . لسان العرب: 12/445، مادة «غنم».
3- . النهاية: 3/390، مادة «غنم».
4- . القاموس المحيط: 4/158، مادة «غنم».
5- . تاج العروس: 17/527، مادة «غنم».

اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) (1) .

والمراد بالمغانم الكثيرة: هو أجر الآخرة، بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا، فيدلّ على أنّ لفظ المغنم لا يختصّ بالأُمور التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا أو في ساحات الحرب فقط، بل هو عام لكلّ مكسب وفائدة وإن كان أُخروياً.

هذا ما في الكتاب، وأمّا السنّة فقد وردت فيها اللفظة وأُريد بها مطلق الفائدة الحاصلة للإنسان، ومن ذلك:

1. روى ابن ماجة في سننه في كتاب الزكاة: أنّه جاء عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«اللّهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً».(2)

2. روى أحمد في مسنده عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «غنيمة مجالس الذكر، الجنّة».(3)

3. وروى في وصف شهر رمضان عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «غنم للمؤمن».(4)

4. روى ابن الأثير في «النهاية»، عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» ثم قال ابن الأثير: سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب.(5)».

ص: 381


1- . النساء: 94.
2- . سنن ابن ماجة: 1/573، كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة، الحديث 1797.
3- . مسند أحمد: 330/2، 374 و 524.
4- . مسند أحمد: 177/2.
5- . النهاية: 3/390، مادة «غنم».

5. من له الغنم، عليه الغرم(1) وهذه القاعدة في لسان الفقهاء دليل على أنّ الغنم في اللغة هو مطلق الفائدة وإلّا لم يصحّ ترتّب قوله: «عليه الغرم» على ما تقدّم، وذكر ابن الأثير في الحديث: «الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه».

فقد تبيّن ممّا ذكرناه من كلمات أئمة اللغة وموارد استعمال تلك اللفظة ومادّتها في الكتاب والسنّة، أنّ العرب تستعملها في كلّ مورد يفوز به الإنسان، من جهة العدى وغيرهم، وإنّما صار حقيقة متشرّعة في الأعصار المتأخّرة في خصوص ما يفوز به الإنسان في ساحة الحرب، ونزلت الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يكن الاستعمال إلّاتطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاصّ .

ورود الخمس في أرباح المكاسب في الحديث النبوي

ومن حسن الحظّ أنّه ورد لفظ الخمس في أرباح المكاسب في الحديث النبوي، وإليك نقل بعض ما وقفنا عليه:

قدم وفد عبد القيس على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا له: إنّ بيننا وبينك المشركين، وإنّا لا نصل إليك إلّافي شهر الحرام، فمُرنا بأمرٍ فصل، إن عملنا به دخلنا الجنة وندعو إليه مَن وراءنا، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم: بالإيمان باللّه، وهل تدرون ما الإيمان ؟ شهادة أن لا إله إلّااللّه، وإقام الصلاة،

ص: 382


1- . قاعدة فقهيّة.

وإيتاء الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم».(1)

وتفسير المغنم، بالنهب، باطل جدّاً، للنهي عنه في لسان الرسول حيث قال:

«إنّ النهبة ليست بأحلّ من الميتة»(2)، كما لم يطلب منهم غنائم الحرب، كيف وهم (أعني وفد عبد القيس) لا يستطيعون الخروج من أحيائهم في غير أشهر الحج خوفاً من المشركين. فكيف يمكن لهم الحرب مع المشركين ؟!

وهناك روايات مروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تدلّ على وجوب الخمس في أرباح المكاسب.(3)

وممّا يثير العجب أنّ السنّة اتّفقوا على أنّ في الركاز الخمس، وإنّما اختلفوا في المعادن، فالواجب هو الخمس لدى الحنفيّة والمالكية، وربع العُشر عند الشافعية والحنابلة، وقد استدلّت الحنفية على وجوب الخمس في المعادن بقوله سبحانه: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ ) .(4) وهذا دليل على سعة مفاد الآية حيث يستدلّون بها في مورد المعادن وهي ليست من الغنائم.

ولعلّ هذا المقدار من البحث يكفي في إثبات ما عليه الشيعة الإمامية من أنّ المراد كلّ ما يفوز به الإنسان حتى أرباح المكاسب.

***6.

ص: 383


1- . صحيح البخاري: 250/4، باب «واللّه خلقكم وماتعملون» من كتاب التوحيد، و ج 13/1 و 19، و ج 53/3؛ صحيح مسلم: 35/1-36، باب الأمر بالإيمان؛ سنن النسائي: 333/1؛ مسند أحمد: 318/1؛ الأموال: 52، وغيرها.
2- . كنز العمال: 390/4، برقم 1106.
3- . لاحظ: الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس.
4- . لاحظ: الفقه الإسلامي وأدلته: 2/775-776.

الأمر الثاني: في قسمة الخمس

إنّه سبحانه ذكر المورد الثالث لتملّك الخمس بصورة الإفراد، وقال:

(وَ لِذِي اَلْقُرْبى ) وهو ظاهر في أنّه شخص واحد ولا ينطبق إلّاعلى أئمة أهل البيت عليهم السلام واحداً بعد واحد.

ثم إنّ علماء السنة بما أنّهم خصّوا الآية بغنائم دار الحرب عطّلوا الآية عن العمل بها، فإنّ المسلمين عبر قرون لم يخوضوا حرباً مع غير المسلمين، فصارت الآية كأنّها خاصّة بحرب الرسول، وبعده بمدّة قليلة. وهنا يفترق الشيعة عن السنّة في تفسير الآية.

وبذلك صار الخمس عند الشيعة أصلاً مستقلّاً، عن الجهاد خلافاً، لأهل السنّة حيث جعلوه فرعاً له.

وهنا فرق آخر بين الطائفتين وهو أنّ الخمس عند الإمامية يُقسّم إلى ستة أسهم - كما في نفس الآية - وأمّا السنّة، فقال الحنفية: إنّ سهم الرسول سقط بموته، وعلى هذا فيقسّم على خمسة أسهم. بل على أربعة أسهم لإسقاط سهم ذي القربى من سهام الخمس أيضاً كما سيوافيك، بل صار ثلاثة كما سيأتي بيانه عن الزمخشري.

وأمّا الإمامية: أمّا ما يرجع إلى الرسول فهو إلى الإمام بعده، لأنّه كان يملك بما أنّه قائد الأُمّة ورئيسها، فينتقل إلى القائد بعده.

روى أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال: سُئل عن قول اللّه عزّ وجل: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى ...) ؟ فقيل له: فما كان للّه، فلمن هو؟ فقال: لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وما كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 384

فهو للإمام...».(1)

وهنا سؤال آخر وهو: أنّ تقسيم الخمس على ستة أسهم، فمنهم: اليتامى ، والمساكين، وابن السبيل من أهل بيت النبوة، فعندئذٍ يصبح أصحاب الخمس من أصحاب الثروات الكبيرة، وهذا ما لا تخفى مفاسده. فكيف جعل اللّه عزَّوجلّ هذه السهام لطوائف ثلاث، مع أنّ مؤونتهم أقل بكثير من هذه السهام.

والجواب: هو ما جاء في حديث الإمام الكاظم عليه السلام، قال: «وله - يعني:

وللإمام - نصف الخمس كملاً، ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، يقسّم بينهم على الكتاب والسنّة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي، فإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وإنّما صار عليه أن يموّنهم لأن له ما فضل عنهم».(2) فعلى هذا ينفق عليهم بمقدار حاجاتهم لا أكثر.

بل يظهر من حديث أبي علي بن راشد أنّ الجميع إنّما هو لمقام الإمامة وهو يقسّمه حسب ما يراه من المصلحة، قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام: إنّا نؤتى بالشيء، فيقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا، فكيف نصنع ؟ فقال: «ما كان لأبي عليه السلام بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه وسنّة نبيّه».(3)6.

ص: 385


1- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 6.
2- . الوسائل: 7، الباب 3 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 1.
3- . الوسائل: 6، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.

يقول صاحب الجواهر: بل لولا وحشة الإنفراد عن ظاهر اتّفاق الأصحاب لأمكن دعوى ظهور الأخبار في أنّ الخمس جميعه للإمام عليه السلام وإن كان يجب عليه الإنفاق منه على الأصناف الثلاثة الذين هم عياله، ولذا لو زاد كان له عليه السلام، ولو نقص كان الإتمام عليه من نصيبه، وحلّلوا منه من أرادوا.(1)

الأمر الثالث: إسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

إنّ الخلفاء بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم اجتهدوا في مقابل النصّ في موارد عديدة منها: إسقاط سهم ذي القربى من الخمس، وذلك أنّ اللّه سبحانه وتعالى جعل لهم سهماً وافترض أداءه نصّاً في الذكر الحكيم، والقرآن الكريم يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، وهو قوله عزّ من قائل: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .(2)

وقد أجمع أهل القبلة كافّة على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أقاربه بسهم آخر منه، وأنّه لم يَعهَد بتغيير ذلك إلى أحد حتى وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

فلمّا ولّى أبوبكر تأوّل الآية فأسقط سهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسهم ذي القربى بموت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ومنع بني هاشم من الخمس، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم.

ص: 386


1- . جواهر الكلام: 155/16.
2- . الأنفال: 41.

قال الزمخشري: وعن ابن عباس: الخمس على ستة أسهم: للّه ولرسوله، سهمان، وسهم لأقاربه حتى قُبض، فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء، قال: وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم الخمس.(1)

وقد أرسلت فاطمة عليها السلام تسأله ميراثها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة عليها السلام على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها، الحديث.(2)

إتمام

قال المراغي في تفسير الآية: وخصّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ذلك [يعني ذي القربى ] ببني هاشم وبني أخيه المطلب، المسلمين، دون بني عبد شمس ونوفل، ثم المحتاجين من سائر المسلمين، وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.

روى البخاري عن مُطعم بن جبير (من بني نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان ابن عفان (من بني عبد شمس) إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلنا: يا رسول اللّه أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد».

ص: 387


1- . تفسير الكشّاف: 126/2.
2- . صحيح البخاري: 36/3، باب غزوة خيبر؛ وفي صحيح مسلم: 154/5: «... وصلّى عليها عليّ ».

وسرُّ هذا أنّ قريشاً لمّا كتبت الصحيفة [يعني صحيفة المقاطعة] وأخرجت بني هاشم من مكّة وحصرتهم في الشِعب لحمايتهم له صلى الله عليه و آله و سلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل، للعداوة التي كانت بين بني أُميّة بن عبد شمس لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويؤلّب عليه المشركين وأهل الكتاب، إلى أن أظفر اللّه رسوله ودانت له العرب بفتح مكّة، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على عليّ وقاتله.(1)

ثمّ إنّ صديقنا المرحوم محمد جواد مغنية بعد ما نقل ما تقدّم من كلام الشيخ المراغي قال: ونعطف نحن على قول الشيخ المراغي: (وكذلك قتل يزيد حفيد أبي سفيان الحسين بن علي عليهما السلام سبط الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم)، وقال الشاعر في هذا العدوان الموروث أباً عن جد:

فابن حرب للمصطفى وابن هند ***لعلي وللحسين يزيد(2)

***

الأمر الرابع: [تخصيص خمس الغنائم للنبي وآله ليس تفرقة عنصرية]

إنّ تخصيص الذكر الحكيم النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام بخمس الغنائم، ليس من باب التفرقة العنصرية، وإنّما هو مقابل حرمانهم من الصدقات، فبما أنّها - أي الصدقات - تُعدّ أموالاً حكومية يتصدّى لها جماعة خاصّة، فاللّه سبحانه حرّم عليهم التصدّي لهذه الأُمور لئلّا يتّهموا ببعض التُّهم، وعوّضهم بخمس الغنائم، فحرمانهم من الأموال الحكومية صار سبباً لسدّ حاجاتهم المالية من الخمس.

ص: 388


1- . تفسير المراغي: 4/4-5.
2- . التفسير الكاشف: 3/484.

والعجب أنّ أُناساً من بني هاشم سألوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن وجه حرمانهم من الصدقات، روى الإمام الصادق عليه السلام وقال: «إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي، وقالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعل اللّه عزّ وجلّ للعاملين عليها، فنحن أولى به، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا بني عبد المطلب (هاشم) إنّ الصدقة لا تحلّ لي ولا لكم ولكنّي قد وُعدت بالشفاعة».(1)

***

الأمر الخامس: ما هو المقصود من تحليل الخمس ؟

اشارة

الخمس فريضة شرعية دلّ عليها الكتاب والسنّة النبويّة والأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وهذا الحكم الشرعي لم ينسخ أبداً، بل بقي على ما كان عليه في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وليس لأحد بعد رحلته صلى الله عليه و آله و سلم نسخ حكم شرعي أتى به.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تُفسّر الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، والدالّة على تحليل الخمس لشيعتهم ؟

والجواب: إنّ تحليله كان حكماً ولائيّاً لا حكماً شرعيّاً وكان في ظرف خاص، ولمصلحة مؤقّتة اقتضت تجميد العمل به، ولم يكن تصرّفاً في الحكم الشرعي، بل هو باقٍ على ما كان عليه، ولن يتغيّر أبداً.

وأمّا ما هو السبب الأساسي في تحليل الخمس، فهو:

ص: 389


1- . الوسائل: 6، الباب 29 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.

أنّ إيصال الأموال إلى الإمام المعصوم عليه السلام في بعض الأزمان كان يشكل خطراً على النظام الأموي أو العباسي، فإنّ في إرسال الخمس إلى الأئمّة المعصومين تعبيراً عن عدم الاعتراف بشرعية حكم الحاكم الأموي والعباسي.

ومن هنا لم يجد الأئمّة عليهم السلام بُدّاً من تقديم الأهم على المهمّ ، فأجازوا لشيعتهم إبقاء الخُمس في أيديهم لما يترتّب على دفعه إليهم عليهم السلام من مخاطر وأضرار تلحق بهم جميعاً.

هذا هو السبب المهمّ للتحليل، وثمّة أسباب أُخرى نشير إليها:

القسم الأوّل: تحليل خمس الغنائم

كان المسلمون خلال حياة الأئمّة عليهم السلام يخوضون حروباً لنشر الإسلام في كافّة أرجاء العالم، وكان يرجعون بغنائم كثيرة (من إماء ومتاع وأموال)، وكانت تباع في الأسواق، فتتداولها الأيدي بالبيع والشراء، وكان الشيعة - وهم جزء من هذا المجتمع - يشترون الأمتعة والإماء.

ومن المعلوم أنّ خمس الغنائم الذي أوجبه اللّه وجعله من حقّ اللّه ورسوله، كان لا يُخرج من هذه الغنائم، ولا يُدفع للإمام، والتكليف بالخمس لم يكن متوجّهاً للشيعة أوّلاً وبالذات، بل يتعلّق بأموال وقعت في أيدي الشيعة، فأوجد هذا الأمر مشكلة لهم. ولأجل رفع هذه المشكلة، أحلّ الأئمّة لهم خمس الغنائم التي تقع بأيديهم(1)؛ وأكثر ما يدلّ على التحليل راجع إلى هذا القسم، وما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام - يعني الباقر أو الصادق - قال: «إنّ أشدّ ما فيه

ص: 390


1- . بل الجميع لهم عليهم السلام لأنّ كلّ غزو بلا إذن من المعصوم، يصبح أنفالاً ويخرج عن كونه غنائم.

الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيّبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكوا أولادهم».(1)

فإنّ قوله: «لتطيب ولادتهم» أصدق شاهد على أنّ التحليل يتعلّق بالسراري التي يشتريها الشيعة، وهن من الغنائم الحربية.

القسم الثاني: تحليل الخمس لمَن ضاق عليه معاشه

يظهر من بعض الروايات أنّ التحليل كان لطائفة خاصّة من الناس الذين ضاق عليهم العيش، ومن روايات هذا القسم ما رواه الصدوق في «الفقيه» عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القمّاطين، فقال: جُعلت فداك، يقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وإنّا عن ذلك مقصّرون ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك، اليوم».(2)

القسم الثالث: تحليل ما ينتقل إلى الشيعة من غير المخمس

يظهر من روايات أنّ ملاك التحليل أنّ أكثر الناس كانوا غير معتقدين بوجوب التخميس في الأرباح والمكاسب، فربما تقع أموالهم عن طريق البيع والشراء بيد الشيعة، وفيها حقّهم عليهم السلام، وهذا هو الذي أباحه الأئمّة للشيعة رفعاً للحرج والضرر، ويدلّ على ذلك ما رواه أبو سلمة سالم بن مُكرم - وهو أبو

ص: 391


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 5.
2- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 6. القِماط: جمعه قُمُط، يقال: قَمطَ أي شدّ ويطلق على الحبل، وعلى خرقة عريضة تلفّ على الصغير إذا شدّ في المهد. (المنجد)

خديجة - عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رجل وأنا حاضر: حلّل لي الفروج ؟ ففزع أبو عبد اللّه عليه السلام فقال له الرجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنّما يسألك خادماً يشتريها، أو امرأة يتزوّجها، أو ميراثاً يصيبه، أو تجارة أو شيئاً أُعطيه، فقال: «هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، الميّت منهم والحيّ ، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أما واللّه لا يحلّ إلّالمن أحللنا له، ولا واللّه ما أعطينا أحداً ذمّة (وما عندنا لأحد عهد) ولا لأحد عندنا ميثاق».(1)

القسم الرابع: تحليل الأنفال

أُريد من الأنفال كلّ أرض ملكت بغير قتال، وكلّ أرض موات ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام والغابات، وميراث مَن لا وارث له، وكافّة ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام، وكافّة المياه العامّة والأحراش الطبيعية والمراتع التي ليست حريماً لأحد، وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة، فالكلّ للّه ورسوله وبعده للإمام، وقد مرّ معنى كون الأنفال للرسول وللإمام، فلا يجوز التصرّف فيها إلّابإذن. هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ بعض هذه الأُمور قد يقع في متناول الشيعة، وهذا ما أحلّه الأئمّة عليهم السلام لهم، خصوصاً ما يرجع إلى الأرض.(2)

وقد ظهر من هذا البحث الضافي أنّ روايات التحليل - التي وقعت ذريعة بأيدي بعض المناوئين لأئمّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، لا سيّما المرجعية الدينية التي تتولّى قيادة الشيعة في حياتهم الفردية والاجتماعية - لا صلة لها بما يرتئيه

ص: 392


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 4.
2- . لاحظ: الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 12.

البعض من تحليل الخمس في عامّة الموارد، وفي جميع الأزمنة، بل هي تدور حول الموضوعات التالية:

1. تحليل الخمس في فترة خاصّة، كان إيصاله إلى الأئمّة عليهم السلام يشكّل خطراً عليهم.

2. خمس الغنائم في الحروب التي خاضتها الدولتان (الأموية والعباسية).

3. خمس مال مَن ضاق عليه معاشه.

4. خمس الأموال غير المخمّسة المنتقلة إلى الشيعة.

5. تحليل الأنفال التي ترجع إلى اللّه ورسوله والإمام من بعده فأذنوا فيها للشيعة، خصوصاً ما يتعلّق بالأراضي الموات منها.

***

الأمر السادس

ربّما يُتصوّر أنّ آية الخمس ناسخة لما ورد في صدر سورة الأنفال، أعني قوله سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .(1)

والجواب: أنّ آية الخمس بصدد بيان مصرف ما كان للّه وللرسول، وما هذا شأنه، لا يُعدّ ناسخاً.

توضيح ذلك: أنّ اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة بدر صار سبباً لحصر ملكية الأنفال في اللّه والرسول صلى الله عليه و آله و سلم، يقول عبادة بن الصامت: خرجنا مع

ص: 393


1- . الأنفال: 1.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس، فهزم اللّه العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون، واكبّت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يصيب العدوّ منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحقّ بها منّا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به، فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ ...) فقسّمها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين المسلمين».(1)

ترى أنّ هذه الرواية وغيرها تدلّ على وجود الشجار والاختلاف بين الصحابة، واللّه سبحانه فصل خصومتهم، وأثبت أنّ الأنفال كلّها لذاته ولرسوله، ومن المعلوم أنّ مالكيته سبحانه أو الرسول للأنفال، لأجل صرفها في موارد تتحقّق بها مصالح الإسلام والمسلمين، فجاءت آية الخمس مبيّنة لمصارفها.

وبهذا يظهر عدم التنافي بين الآيتين.

يقول السيد الطباطبائي: أمّا قوله: (اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ ) فلا يفيد إلّاكون أصل ملكها للّه وللرسول صلى الله عليه و آله و سلم من دون أن يتعرّض لكيفية التصرّف وجواز الأكل والتمتّع، فلا يناقضه في ذلك قوله: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى ) (2) حتى يكون بالنسبة إليه ناسخاً.(3)9.

ص: 394


1- . تفسير الدر المنثور: 5/4. قد تقدّم نقل هذه الرواية فلاحظ.
2- . الأنفال: 41.
3- . الميزان في تفسير القرآن: 10/9.

أحكام الخمس

4. أحكام الأنفال والفيء في الذكر الحكيم

اشارة

بعد أن درسنا ما يتعلّق بأحكام الخمس، حان الوقت لدراسة ما يتعلّق بالأنفال، وإليك الآيات:

الآيتان: الأُولى والثانية

قال سبحانه: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (1).

وقال سبحانه: (فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) .(2)

المفردات

القربى: القرب يستعمل في المكان والزمان والنسبة، والمراد هنا هو الثالث.

ص: 395


1- . الإسراء: 26.
2- . الروم: 38.

وأُريد الأرحام الذين لهم صلة قريبة من الإنسان، وعلى هذا فالقرب والقرابة بمعنى القرب في الرحم.

حقّه: أُريد به نفقة الأقارب - كالآباء - أو الأعم وهو صلة الرحم، والبر بهم وإن لم يكونوا واجبي النفقة.

المسكين: المُعدم الذي لا مال له.

ابن السبيل: المسافر الذي نفدت نفقته وهو في وسط الطريق، وهو غنيّ في بلده.

التفسير

لو اعتمدنا في تفسير الآية على الروايات وما يُحكى عن شأن نزولها فالخطاب خاص للنبي، رواه الصدوق في ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع المأمون، قال عليه السلام: «والآية الخامسة قول اللّه تعالى: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ ) ففي الآية خصوصية خصّهم العزيز الجبّار بها واصطفاهم على الأُمّة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ادعوا لي فاطمة، فدُعيت له، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا فاطمة، قالت:

لبيك يا رسول اللّه، فقال: هذه فدك هي ممّا لم يوجَف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لكِ لما أمرني اللّه تعالى به، فخذيها لك ولولدك».(1)

وليس الشيعة هم الوحيدين في نقل نزول الآية في حقّ السيدة الزهراء عليها السلام بل رواه السيوطي وقال: واخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضى الله عنه أنّه قال لرجل

ص: 396


1- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 211/1، الباب 23.

من أهل الشام: أقرأت القرآن ؟ قال: نعم. قال: أفما قرأت في بني إسرائيل: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ ) قال: وإنكم للقرابة الذي أمر اللّه أن يؤتى حقّه ؟ قال: نعم.(1)

روى الطبرسي بسند متّصل عن أبي سعيد الخدري، قال: لمّا نزل قوله: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ ) أعطى رسول اللّه فاطمة فدكاً، قال عبد الرحمن بن صالح: كتب المأمون إلى عبد اللّه بن موسى يسأله عن قصة فدك، فكتب إليه عبد اللّه، بهذا الحديث، رواه الفضيل بن مرزوق عن عطية، فردّ المأمون فدكاً إلى ولد فاطمة عليها السلام.(2)

وقد أُثير هنا سؤال، وهو أنّ السورة مكّية والآية كذلك، وأمّا فدك فإنّما صالح أهلها مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في العام السابع من الهجرة ؟

والجواب: يمكن أن تكون هذه الآية مدنيّة، ويؤيّده قول محمد عزّة دَروزة (السنّي): «والمصحف الّذي اعتمدناه ذكر في عنوان سورة الإسراء، أنّ آية الإسراء الّتي نحن في صددها مدنيّة».(3) أقول: المصحف الّذي اعتمده دَروزة في تفسيره الّذي رتّب فيه السُّوَر حسب النزول، فهو مصحف الخطّاط قَدَر أوغلي (التركي)، وعلّل اعتماده عليه بقوله: لأنّه ذكر فيه أنّه طُبع تحت إشراف لجنة خاصّة من ذوي العلم والوقوف.(4)

ويمكن أن يجاب عن السؤال المتقدّم بنزول الآية مرّتين، الأُولى في مكّة1.

ص: 397


1- . تفسير الدر المنثور: 271/5.
2- . مجمع البيان: 279/6.
3- . التفسير الحديث: 384/3.
4- . التفسير الحديث: 13/1.

المكرمة والأُخرى في المدينة المنوّرة التي لم يبق من قرباه إلّابنته فاطمة عليها السلام.

وأمّا ما جرى على فدك بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فحدّث عنه ولا حرج فقد صارت أمراً سياسياً يتداولها الحكام واحداً بعد الآخر، وبما أنّ المسألة ذات شجون نترك البحث عن المسألة إلى موضع آخر.

هذا كلّه حول حقّ ذي القربى، وقد عطف عليه حقّ المسكين وابن السبيل.

وهذا يُعرب عن اهتمام الشارع بهاتين الطائفتين، كما يُعرب عن أنّ التبذير أمر محرّم خطير.

ثمّ إنّ الدليل على أنّ الآيتين الماضيتين ناظرتان إلى الأنفال، والفيء، هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم منح أرض فدك لبنته فاطمة عليها السلام وهي من القرى التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فتكون من مصاديق الأنفال أو الفيء التي أمرها بيد النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ويمكن أن يقال: إنّ الآية خطاب للنبي دون أن يختصّ حكمها به فعلى المسلمين عامّة إعطاء القربى والمسكين وابن السبيل حقّهم، غير أنّ الحقّ في يد النبي كان فيئاً ونفلاً فأعطى فاطمة فدكاً، ولكنّه في أيدي الآخرين مطلق يعمّ ما يملكون فربما يكون الإعطاء واجباً وأُخرى مستحباً فتدبّر.

الآيتان: الثالثة والرابعة

قال سبحانه: (وَ ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اَللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ

ص: 398

اَلسَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) .(1)

المفردات

أفاء: الفيء والغنيمة: يستعملان في مصطلح الفقهاء فيما يغنمه الإنسان، ولكن ما كان بلا قتال فهو الفيء، وما كان معه فهو الغنيمة. ثمّ إنّ معنى قوله: «أفاء» أي أعطى الفيء، وقوله: (وَ ما أَفاءَ اَللّهُ ) مبتدأ، خبره (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ) ، وإنّما دخلت الفاء على الخبر، لتضمّن (ما) الموصولة معنى الشرط.

من أهل القرى: اللام للعهد، والظاهر أنّ المراد: القرى التي استسلم أهلها بلا إيجاف خيل ولا ركاب، والتي منها: قريظة، وفدك، وقرى عُرينة وينبع ووادى القرى والصفراء، كلّها فتحت في عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بلا عنوة، وحُكم الجميع واحد.

دُولة - بضم الدالّ -: ما يتداوله الناس، والتداول التعاقب في التصرّف، وأمّا الدَولة - بفتح الدال - فهي بمعنى الغلبة والمُلك.

وما آتاكم الرسول: يحتمل أن يكون بمعنى: أعطاكم الرسول، ويحتمل أن يكون بمعنى: أمركم به الرسول، بقرينة ما بعده أي قوله: (وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، أمّا استعمال الإيتاء في مورد الأمر فكأنّه إشارة إلى أنّ جعل تشريع الرسول

ص: 399


1- . الحشر: 6 و 7.

وتبليغه كإيتاء الشيء باليد، كما في قوله سبحانه: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ) (1)، والآية خطاب لبني إسرائيل، حتى يأخذوا بما يأمر به موسى عليه السلام بتمام القوّة.

التفسير

صلة الآيتين بما قبلها واضحة لأنّ الجميع ناظر إلى الفيء، أعني: ما لم يوجب عليه من خيل ولا ركاب.

غادر بنو النضير أرض المدينة وأخذوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، وبقيت بساتينهم وأراضيهم تحت يد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقسّمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، وقد أثار ذلك التقسيم، التساؤلَ لدى الأنصار، لماذا لم يقسّمها رسول اللّه بين جميع الغُزاة، كما فعل ذلك في غزوة بدر؟ والآية الأُولى إجابة عن هذا السؤال، بوجود الفرق بين ما أُخذ في غزوة بدر، وبين ما أُخذ في غزوة بني النضير، فالمسلمون في غزوة بدر أوجفوا على ذلك بخيل وركاب، وقاتلوا وقتل عدد منهم، فلذلك استحقّوا أربعة أخماس الغنيمة، بخلاف غزوة بني النضير، فلم يوجفوا على ذلك بخيل ولا ركاب، وإنّما سلّطهم اللّه سبحانه عليهم بإلقاء الرعب في قلوب اليهود، فلم يروا بُدّاً من الاستسلام، ولم يكن للجيش إلّادور ضعيف من محاصرة القلاع وقطع شيء من اللينة (الأشجار).

ثمّ إنّه سبحانه جعل الفيء جميعه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقال: (ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ ) : أي ما ارجع اللّه إلى رسوله (مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى ) : أي من اليهود الذين

ص: 400


1- . البقرة: 63.

أجلاهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ ) : أي فما أوجفتم عليه خيلاً ولا إبلاً، ولم تسيروا إليها على خيل ولا إبل، وإنّما كانت ناحية من المدينة مشيتم إليها مشيّاً (وَ لكِنَّ اَللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ) : أي يمكّنهم من عدوهم من غير قتال (وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .

ثمّ إنّه سبحانه جعل الفيء في هذه الآية للرسول صلى الله عليه و آله و سلم. وبما أنّه لم يجعل له بما هو شخص بل بما أنّه رئيس الدولة، وقائد الشعب، ثم ذكر موارد صرفها في الآية الرابعة وقال: (ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى ) : أي من كفّار أهل القرى (فَلِلّهِ ) يأمركم فيه بما أحبّ (وَ لِلرَّسُولِ ) بتمليك اللّه إيّاه (وَ لِذِي اَلْقُرْبى ) : أي أهل بيت رسول اللّه وقرابته وهم بنو هاشم (وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ ) .

والسؤال: هل المراد أيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، أو مطلق الأيتام والمساكين وأبناء السبيل ؟ يحتمل الثاني، لأنّ سهم ذي القربى يعمّ كلّ مَنْ له وشيجة بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، سواء أكان يتيماً أو لا، مسكيناً أو لا، ابن سبيل أو لا، فتكون الأسهم الثلاثة الأخيرة لمطلق المسلمين.

نعم قال الشيخ الطوسي: إنّ المراد بهم الأيتام من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومساكينهم وابن سبيلهم، لأنّ تقديره: ولذي قرباه ويتامى أهل بيته وابن سبيلهم، لأنّ الألف واللام تعاقب الضمير.(1)

وأمّا الروايات فهي تؤيّد القول الأوّل، فقد روى المنهال بن عمرو عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قلت: (وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ ) قال:9.

ص: 401


1- . التبيان في تفسير القرآن: 564/9.

«هم قربانا، ومساكيننا، وأبناء سبيلنا»، وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان أبي يقول: لنا سهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسهم ذي القربى ، ونحن شركاء الناس فيما بقي».(1)

ثمّ إنّه سبحانه يُعلّل ما ذكره في الآية من تقسيم أموال بني النضير بين الأصناف الستة دون الأغنياء من بني الأنصار، قال: لِ (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) يتناولها الأغنياء بينهم والفقرة تهدف إلى أنّه يجب أن تكون الأموال بنحو يتناولها الفقراء والأغنياء معاً، حتى تسود العدالة في المجتمع (وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ ) : أي أعطاكم الرسول من الفيء (فَخُذُوهُ ) وارضوا به، ويحتمل أن يُراد: ما أمركم الرسول به فافعلوه، ويشهد للمعنى الثاني قوله تعالى: (وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . ثم قال: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) .

إلى هنا تمّ تفسير الآيتين، وتبيّن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأمر من اللّه سبحانه قسّم ما تركه بنو النضير بين أقربائه واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلّاثلاث نفر، كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن صمّة.

الآيتان: الخامسة والسادسة

قال سبحانه: (لِلْفُقَراءِ اَلْمُهاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلصّادِقُونَ * وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّارَ وَ اَلْإِيمانَ مِنْ

ص: 402


1- . مجمع البيان: 431/9.

قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) .(1)

المفردات

تبوءُوا: تبوّأ (المكانَ ): حلّ فيه، والمراد بالدار هنا: المدينة المنوّرة، والمعنى: الذين عمروا المدينة وسكنوها.

حاجة: يراد بها المعنى المصدري، أي الاحتياج، وأُخرى المحتاج إليه، وقد تفسّر هنا بالغيظ، وهو تفسير باللازم.

والإيمان: عطف على الدار، والعامل فيه محذوف بمعنى: آثروا الإيمان، نظير قوله: علفتها تبناً وماء بارداً.

يؤثرون: الإيتاء: ترجيح شيء على غيره مع الحاجة إليه، أو تقديم الغير على النفس.

خصاصة: الفقر والحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فُرجُه، وعبّر عن الفقر الذي لم يُسدّ بالخصاصة(2)، كأنّ الفقر فُرج في حياة الإنسان.

يُوق: فعل مضارع مجهول، من الوقاية أي الحفظ.

الشُّحّ : بخل مع حرص على ما في يد الغير، بخلاف البخيل فإنّه يبخل بما

ص: 403


1- . الحشر: 8 و 9.
2- . المفردات للراغب: 141، مادة «خصص».

في يده دون حرص على مال الغير. وفي مجمع البيان: لا يجتمع الشُّحّ والإيمان في قلب رجل مؤمن، ولا يجتمع غبار في سبيل اللّه ودخان جهنم في جوف رجل مسلم.(1)

غِلّاً: الغِلّ : بكسر الغين، الحقد والغشّ .

التفسير

صلة الآيتين بما قبلهما واضحة لأنّ الجميع ناظر إلى ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب وتبيّن وجه تخصيصه بالمهاجرين دون الأنصار، فالآية الأُولى بصدد بيان إشراك المهاجرين الفقراء بالفيء، والآية الثانية بصدد بيان وجه حرمان الأنصار، عن الفيء.

قوله سبحانه: (لِلْفُقَراءِ اَلْمُهاجِرِينَ ) اللام في (لِلْفُقَراءِ ) متعلّقة بقوله: (وَ ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ ) فكأنّه قال: ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللفقراء المهاجرين، أُعيدت (اللام) لوجود فصل طويل بين البدل والمبدل منه، فإنّ قوله: (لِلْفُقَراءِ ) بدل من الأصناف الثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل. ثمّ إنّه سبحانه وصف المهاجرين الذين خُصّوا بأموال بني النضير بالأُمور التالية:

1. (لِلْفُقَراءِ ) كونهم فقراء.

2. (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ ) .

3. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ ) : أي رزقاً من اللّه، ويمكن أن يُراد به الثواب.

ص: 404


1- . مجمع البيان: 393/9.

4. (وَ) يبتغون (رِضْواناً) من اللّه.

5. (وَ يَنْصُرُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ ) في الغزوات وغيرها.

6. (أُولئِكَ هُمُ اَلصّادِقُونَ ) .

وهؤلاء الذين شُرّدوا من ديارهم وأموالهم رغبة في مرضاة اللّه وثوابه ونصرة الإسلام، أولى بالفيء والزكاة لفقرهم، وجهادهم.

أوصاف الأنصار

تعرّضت الآية السابقة لذكر أوصاف المهاجرين، وأمّا الآية الثانية فقد تبنّت بيان صفات من سكن المدينة قبل نزول المهاجرين فيها وعمروها في حال كونهم مؤمنين، وبذلك صارت مهيأة لنزول المهاجرين وسكناهم فيها.

وقد عبّر سبحانه عن الأنصار بقوله: (وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّارَ وَ اَلْإِيمانَ ) وقد سبق ذكر معنى الفقرة، والمراد تبوّءُوا الدار أي سكنوا فيها، وقوله:

(وَ اَلْإِيمانَ ) : أي وآثروا الإيمان، وكأنّه يقول: والذين تبوّءُوا الدار وآثروا الإيمان فلهم أوصاف، وهي:

1. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) : أي يحبون المهاجرين إلى ديارهم.

2. (وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا) : أي لا يجد الأنصار في نفوسهم رغبة إلى أخذ شيء ممّا أُوتي المهاجرون من أموال بني النضير.

3. (وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ) : أي يقدّمون المهاجرين على أنفسهم (وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) : أي كانوا في فاقة.

4. (وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) : أي من تمكّن من السيطرة عليها (فَأُولئِكَ هُمُ

ص: 405

اَلْمُفْلِحُونَ ) : أي الفائزون بثواب اللّه ونعيم الجنة.

وهل هذه الجمل الخبرية استعملت بصدد الإخبار عن كون الأنصار موصوفين بهذه الصفات، أو هي بصدد الانشاء والإيجاب وأنّه يجب أن يكونوا كذلك مثل قول الوالد لولده: ولدي يصلّي.

إلى هنا تمّ تفسير الآيتين، وبه تمّ تفسير الآيات التي تعرّضت لذكر الأنفال والفيء والخمس، غير أنّ هذه الآيات النازلة في الفيء تذكر فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالفيء مع أصحابه، ومورد الآية يختصّ بفيء بني النضير، وما في حكمه كفيء بني قريظة وفدك، وأمّا سائر الأفياء التي مرّ بيان أقسامها فالناس فيها سواء يتولى القائد الإسلامي كيفية تقسيمها بينهم.

***

تمّ تفسير آيات الخمس والأنفال والفيء

والحمد للّه ربّ العالمين

ص: 406

الفصل السادس: فريضة الحجّ في الذكر الحكيم

اشارة

1. في وجوب الحجّ على المستطيع فوراً.

2. أقسام الحجّ وحجّ التمتّع باق على تشريعه.

3. أعمال العمرة في الذكر الحكيم.

4. أعمال الحجّ .

5. لزوم ذكر اللّه بدل التفاخر بالآباء في منى .

6. حكم المُحصَر والمصدود.

7. زمان الحجّ وتحريم أُمور ثلاثة.

8. الابتلاء بالصيد و أحكامه.

9. الأمور الأربعة التي جُعلت قياماً للناس.

10. تكريم شعائر اللّه والشهر الحرام.

11. حكم الصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام.

ص: 407

ص: 408

تمهيد الحجّ لغة واصطلاحاً

اشارة

الحجّ في اللغة بمعنى القصد، وهو عند الشرع - أو عند المتشرّعة - اسم لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة، كما عليه المحقّق في «الشرائع».(1)

وربما يقال: صار اسماً لقصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة في زمان خاصّ .

والفرق بين المعنيين واضح، إذ على الأوّل فاللفظ نقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، وعلى الثاني فهو باقٍ في المعنى اللغوي غير أنّه قيّد متعلّق القصد بالبيت الحرام لأداء المناسك.

وقد ناقش الشهيد في «المسالك»،(2) في طرد التعريف وعكسه، ولا يهمّنا دراستهما.

ثمّ إنّ الفرق بين الحِجّ (بكسر الحاء) والحَج (بفتحها) هو أنّ الأوّل مصدر يُراد به القصد إلى بيت اللّه تعالى بمكة لأداء مناسك مخصوصة، وأمّا الثاني فهو

ص: 409


1- . لاحظ: شرائع الإسلام: 163/1.
2- . لاحظ: مسالك الإفهام: 119/2-120.

اسم مصدر يطلق على نفس المناسك والأعمال. ويعلم ذلك بمراجعة الآيات، فعندما يُريد سبحانه المعنى المصدري يستعمل اللفظ بكسر الحاء فيقول: (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1).

وعندما يُريد نفس المناسك والأعمال يستعمل اللفظ بفتح الحاء، فيقول سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (2).

الحجّ من أركان الدين

يظهر من غير واحدة من الروايات أنّ الحجّ من أركان الدين، ففي الحديث المعروف: «بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحّد اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم (شهر) رمضان، وحجّ البيت».(3)

وفي رواية أُخرى: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وايتاء الزكاة، والحجّ ، وصوم رمضان».(4)

وقال الإمام علي عليه السلام: «فَرَضَ اللّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ ، وَالصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ ، وَالْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ ».(5)

روى الكليني في «الكافي» باسناده عن عيسى بن يونس، عن أبي عبد

ص: 410


1- . آل عمران: 97.
2- . البقرة: 196.
3- . صحيح مسلم: 34/1، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم بني الإسلام على خمس.
4- . صحيح البخاري: 1، كتاب الإيمان، برقم 8.
5- . نهج البلاغة، قصار الحكم، برقم 252.

اللّه عليه السلام - في حديث - أنّه قال: «وهذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلّ أنبيائه، وقبلة للمصلّين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال، خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام، فأحقّ من أُطيع فيما أمر وانتهي عمّا نهى عنه وزجر، اللّه المنشئ للأرواح والصور».(1)

ثمّ إنّ للحجّ فوائد وآثاراً في تهذيب النفس وتقوية المجتمع الإسلامي وتماسكه، إلى غير ذلك من المنافع، وقد روى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام في حديث طويل قال عليه السلام: «إنّما أُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس (الأنفس) عن اللّذات، شاخصاً في الحرّ والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البر والبحر، ممّن يحجّ وممّن لم يحجّ ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة عليهم السلام إلى كلّ صقع وناحية، كما قال اللّه عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ ه.

ص: 411


1- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 10. قوله: «منصوب على استواء الكمال: نقل المجلسي في مرآة العقول عن والده انّه فسره: كلّ فعل من أفعال الحجّ سبب لرفع رذيلة من الرذائل النفسانية وموجباً لحصول فضيلة من الفضائل العلية: مرآة العقول: 23/17. وقوله: «فأحقّ » مبتدأ، و «اللّه» خبره.

يَحْذَرُونَ ) .(1) و (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) (2).(3)

وعلى كلّ تقدير فالحجّ مؤتمر سنوي يجتمع في أيامه رؤوساء الدين وأعلام الأُمّة للتباحث في مصالح المسلمين وما يهدّد كيانهم وبلادهم واستقلالهم، فيتّخذون موقفاً موحّداً، ثمّ ينتشرون راجعين إلى بلدانهم وينفّذون ما اتّفقوا عليه.

ولعلّ هذا المقدار كافٍ في بيان أهمية الحجّ ، ومَن أراد التفصيل فليقرأ ما في جواهر الكلام:(4) والعروة الوثقى (مقدمة كتاب الحجّ ) بقلم حفيد المؤلّف.

وقد ألّفنا رسالة في سالف الأيام حول الآثار البنّاءة للحج طبعت في الجزء 18 من «منية الطالبين في تفسير القرآن المبين»، فلاحظ.9.

ص: 412


1- . التوبة: 122.
2- . الحج: 28.
3- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 15.
4- . جواهر الكلام: 218/17-219.

أحكام الحج

1. في وجوب الحجّ على المستطيع فوراً

اشارة

إنّ وجوب الحجّ وجوباً فورياً على كلّ مَن استطاع، من ضروريات الفقه، لو لم يكن من ضروريات الدين، ويدلّ على وجوبه قسم من الآيات نذكر منها ما يلي:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ) (1).

المفردات

بيت: قال الراغب: البيت مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار [السكون في] الليل فيه.(2)

ص: 413


1- . آل عمران: 96.
2- . المفردات للراغب: 64، مادة «بيت».

ببكة: الأصل فيها هو البَك: وهو الزحام، يقال: بكّه، يبكّه، بكّاً: إذا زحمه، فبكّة مزدحم الناس للطواف، لأجل إقامة الفريضة خصوصاً حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، وأمّا مكّة فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكّة وإبدال الميم من الباء، نظير قولهم: ضربة لازب، ولازم، وقولهم: راتم، وراتب، وعلى ذلك فهما مترادفان، ومع ذلك ربما يقال: بكّة: المسجد، ومكّة: الحرم كلّه وتدخل فيه البيوت. وقيل: بكّة موضع البيت والمطاف، ومكّة اسم البلدة.

هدى للعالمين: لا لخصوص آل إبراهيم أو العرب، بل لكلّ مَن قصده، لما فيه من سعة الهداية إذا تأمّلوا في الآيات الموجودة فيه.

التفسير

الآية إجابة عن إشكال أثارته اليهود، قائلين بأنّ الكعبة كيف يمكن أن تكون قبلة في ملّة إبراهيم، مع أنّ اللّه جعل بيت المقدس قبلة ؟ ونقل الطبرسي إشكالاً آخر قال: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنّها مهاجر الأنبياء والأرض المقدّسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل اللّه تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ) (1).

والوجه الأوّل مبني على امتناع النسخ في الأحكام الإلهية، والوجه الثاني مبني على أفضلية بيت المقدس على الكعبة.

ثمّ إنّ تحويل القبلة أحدث ضجّة كبيرة بين اليهود وجعلوا ذلك ضعفاً في الشريعة المحمديّة، فجاء البيان القرآني يجيب عن الشبهة، وقال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ

ص: 414


1- . مجمع البيان: 419/2.

وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) .

وحاصل الجواب: أنّ الكعبة المعظّمة صارت قبلة بيد إبراهيم الخليل، فكونها قبلة، جزء من ملّة إبراهيم وشريعته، فالصلاة نحوها ليس خروجاً عن ملّة إبراهيم بل دعماً لها، وإنّما صار بيت المقدس قبلة في مدّة يسيرة، فلمصالح اقتضت ذلك، فلو كان الميزان هو الأخذ بشريعة إبراهيم فقد شرّع هو كون الكعبة قبلة؛ لأنّه بناها مع ابنه إسماعيل لأجل العبادة.

نعم بنى سليمان بيت المقدس بعد إبراهيم بقرون، فيقال إنّه بناه قبل الميلاد ب 800 سنة أو أزيد.

إلى هنا تمّت الإجابة عن شبهتهم.

ثمّ إنّ المراد بكون الكعبة أوّل بيت ليس بمعنى أوّل بيت بناه الإنسان ليسكن فيه، بل المراد أوّل بيت بُني للعبادة، وهذا هو المروي عن الإمام علي عليه السلام، فقد روى السيوطي عنه في تفسير قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ) أنّه قال: «كانت البيوت قبله، ولكن كان أوّل بيت وضع لعبادة اللّه».(1) وأيّده ابن عاشور بقوله: أنّه أُريد بيت العبادة، إذ لو كان بيت سكني، لقيل: وضعه الناس، مع أنّه قال: (وُضِعَ ) بالصيغة المجهولة.(2)

ثمّ إنّه سبحانه وصف البيت بأوصاف:

1. (مُبارَكاً) أُريد البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتضافر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحجّ إليه.3.

ص: 415


1- . تفسير الدر المنثور: 265/2.
2- . التحرير والتنوير: 160/3.

2. (وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ) لعلّ المراد أنّه قبلة للعالمين، ويمكن أن يقال: إنّ مَن زار البيت وطاف به وصلّى عنده محرماً معتمراً أو حاجّاً، يتجرّد من كلّ العلاقات الدنيوية، ويكتفي في حياته بثوبين أبيضين طاهرين، قائلاً بأنّ البيت بيتك والعبد عبدك، وأي هداية أفضل من ذلك.

وعلى هذا فأُريد بالعالمين مَنْ قصد البيت وزاره وتنسّك بنسكه، وأمّا من لا يشدّ الرحال إليه، فالآية منصرفة عنه.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ ) .(1)

المفردات

آيات: جمع آية بمعنى العلامة، أي علائم أنّها من اللّه أو من إبراهيم الخليل عليه السلام. نعم ربما تطلق الآية ويراد بها المعجزة.

حِجّ : مصدر بمعنى القصد والعزم.

التفسير

الظاهر أنّ الضمير المتّصل في قوله تعالى: (فِيهِ ) يرجع إلى البيت، وأمّا قوله: (آياتٌ بَيِّناتٌ ) يفسّره قوله تعالى: (مَقامُ إِبْراهِيمَ ) .

ص: 416


1- . آل عمران: 97.

فإن قلت: إنّ مقام إبراهيم خارج عن البيت، ولذلك رجّح بعضهم أنّ الضمير يرجع إلى (بكّة).

قلت: يحتمل أن كونه في البيت من باب المجاز، لقربه منه.

قال ابن عطية: لأنّ البيت إنّما وضع بحرمه، وجميع فضائله، فهي فيه، وإن لم تكن داخل جدرانه.(1)

ثمّ إنّه سبحانه وصفه بوصف ثان، وقال: (وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) والفقرة إمّا تحكي عن سيرة العرب في الجاهلية حيث إنّ قبائل العرب كلّها تحترم هذا البيت بل يحترمون الحرم لنسبته إلى اللّه تعالى.

ويحتمل أن تكون الآية بصدد التشريع أي حرمة التعرّض لمن دخل فيه فلا ينتقض بفعل الحجّاج حيث قتل عبد اللّه بن الزبير وهو في جانب البيت، إلى غير ذلك من أفعال الجبابرة الذين لم يحترموا هذا البيت والحرم؛ لأنّ المنع من التعرّض تشريعي لا تكويني، ثم قال سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ ) : أي جعل الحجّ في ذمّة الناس، وهو يلازم الوجوب العيني كقوله عليه السلام:

«عليه الصوم».

ثمّ إنّ وجوبه فوري ويدلّ على ذلك الروايتان التاليتان:

1. صحيحة أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: أرأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوّف الحجّ كلّ عام وليس يشغله عنه إلّاالتجارة أو الدين ؟ فقال: «لا عذر له يسوّف الحجّ ، إن مات وقد ترك الحجّ فقد ترك شريعة من.

ص: 417


1- . المحرر الوجيز: 475/1، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1422 ه.

شرائع الإسلام».(1)

2. رواية زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: التاجر يسوّف الحجّ؟ قال: «ليس له عذر، فإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام».(2)

الاستطاعة الشرعية شرط الوجوب

يدلّ قوله سبحانه: (مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أنّ الاستطاعة شرط الوجوب، والمراد الاستطاعة الشرعية لا العقلية، لأنّ الثانية شرط كلّ تكليف، فتخصيص وجوب الحجّ بها دليل على أنّه أُريد بها غير العقلية، أعني: الشرعية، فمَن حجّ متسكّعاً ثم استطاع يجب عليه الحجّ .

ثمّ إنّ الاستطاعة الشرعية رهن تحقّق أُمور أربعة:

1. الاستطاعة المالية وفسّرت بما قاله العلّامة: لا يشترط وجود عين الزاد والراحلة، بل المعتبر التمكّن منهما تملّكاً أو استئجاراً.(3) كما هو الحال في حياتنا المعاصرة.

وتشهد على ذلك السيرة المستمرة بين المسلمين، فإنّ الآفاقي البعيد لا يحمل الزاد من بلده إلى مقصده، بل كان يشتريه في طريقه، كما أنّ أكثرهم يُكرون الجمال، وقد عدّ ذلك من فوائد الحجّ ، ففي حديث هشام بن الحكم: «ولينتفع بذلك المكاري والجمّال».(4)

ص: 418


1- . الوسائل: 8، الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 8، الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 6.
3- . تذكرة الفقهاء: 52/7.
4- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 18.

2. الاستطاعة البدنية، فلو كان مريضاً لا يقدر على الركوب أو كان حرجاً عليه، لم يجب عليه الحجّ ، مثلاً لو تمكن من السفر بالطائرة لا بالسيارة، لكن شريطة أن يرافقه خادم فإن ملك مؤونتهما، وجب عليه الحجّ ، وإلّا سقط.

3. الاستطاعة الزمانية، فلو كان الوقت ضيّقاً لا يمكنه الوصول إلى الحجّ ، أو أمكن ولكن بمشقّة شديدة، فلا يجب، وحينئذٍ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل، وجب، وإلّا فلا.

4. الاستطاعة السربية، وأُريد بها ألّا يكون في الطريق مانع لا يمكن معه الوصول إلى الميقات أو إلى تمام الأعمال، وإلّا لم يجب، وذلك لأنّ الاستطاعة غير متوفّرة مع وجود المانع في الطريق، ففي رواية حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد وراحلة، فلم يحجّ ، فهو ممّن يستطيع الحجّ؟ قال: «نعم».(1)

هذا إجمال ما عليه الفقهاء في معنى الاستطاعة، وهناك فروع أُخرى محرّرة في الكتب الفقهية.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ ) والظاهر أنّ الكفر هنا ليس كفر الملّة، بأن يجحد وجوب الحج، وإنّما أُريد به ترك الحجّ ، ففي رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام بعد قراءة الآية، قال: «هو لمَن كان عنده مال - إلى أن قال: - وعن قول اللّه عزّ وجلّ : (وَ مَنْ كَفَرَ) يعني: مَن ترك».(2)2.

ص: 419


1- . الوسائل: 8، الباب 8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 8، الباب 7 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 2.

ثمّ إنّ تقسيم الكفر إلى كفر الملّة وكفر النعمة، أمر يؤيّده القرآن الكريم، أمّا الأوّل فلا حاجة لذكره، وأمّا الثاني فيشير إليه سبحانه بقوله: (إِنّا هَدَيْناهُ اَلسَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً) (1).

فشكر النعمة عبارة عن صرفها في محلّها، وكفرها عبارة عن خلافه، فعلى ذلك فالمراد من كفر النعمة هو أنّه إذا لم يحجّ مع الاستطاعة المالية والبدنية، فلا يضرّ اللّه شيئاً فإنّ اللّه غني عن العالمين.

وجوب الحجّ مرّة واحدة في العمر

لا يجب الحجّ في أصل الشرع إلّامرّة واحدة في تمام العمر، وهو المسمّى بحجّة الإسلام، أي الحجّ الذي بُني عليه الإسلام مثل الصلاة والصوم والخمس والزكاة.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «أيّها الناس قد فرض اللّه عليكم الحجّ فحجّوا» فقال رجل: أكلّ عام يا رسول اللّه ؟ فسكت، حتّى قالها ثلاثاً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو قلت نعم، لوجبت ولما استطعتم» ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».(2)

ص: 420


1- . الإنسان: 3.
2- . التاج الجامع للأُصول: 100/2، كتاب الحج.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) .(1)

المفردات

أذّن: ناد في الناس بالحجّ والدعوة إليه.

رجالاً: مشاة.

ضامر: البعير الهزيل الذي أتعبته كثرة الأسفار.

فجٍّ : الطريق.

التفسير

أمر اللّه تعالى نبيّه إبراهيم الخليل عليه السلام بأن يؤذّن في الناس بالحجّ ، وأُريد به - بشهادة فتح «الحاء» - المناسك المعلومة، لا القصد الذي هو معنى لغوي له، أي ادعهم لأداء المناسك. قال ابن عباس: إنّ إبراهيم عليه السلام قام في المقام، فنادى: «يا أيّها النّاس إنّ اللّه قد دعاكم إلى الحجّ » فأجابوا ب: لبيك اللّهمّ لبيك.(2)

وروى الحلبي عن أبي عبد اللّه (الصادق) عليه السلام، قال: سألته: لِمَ جُعلت التلبية ؟ فقال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: (وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) ، فأُجيب (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) .(3)

ص: 421


1- . الحج: 27.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 309/7.
3- . تفسير نور الثقلين: 89/3.

قوله تعالى: (يَأْتُوكَ ) جواب للأمر، كأنّه قال: إنّ دعوتهم يأتوك جماعات:

أ. (رِجالاً) : أي مشاة.

ب. (وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ) : أي على كلّ بعير ضامر، وهو المهزول الذي أضمره السير.

قوله: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) : أي من كلّ طريق بعيد.

وعلى ما ذكرنا تعود النون في (يَأْتِينَ ) إلى تلك الجماعات المتشكّلة من المشاة والركبان. ويجوز أن تعود إلى كلّ ضامر لأنّه بمعنى الجمع، وبما أنّه جمع لما لا يعقل، أُنّث الفعل (يَأْتِينَ ) .

وأمّا الغاية من المجيء والوفود إلى الكعبة، فهي ما تذكره الآيات الواردة في سورة الحجّ .(1) وسيوافيك تفسيرها في محلّها.0.

ص: 422


1- . لاحظ: سورة الحج: 28-30.

أحكام الحج

2. أقسام الحج وحجّ التمتع باقٍ على تشريعه

اشارة

ينقسم الحج إلى ثلاثة أقسام بالإجماع والأخبار:

1. حجّ تمتع.

2. حجّ قران.

3. حجّ إفراد.

والأوّل فرض مَن كان بعيداً عن مكّة، وحدّ البُعد الموجب لكون وظيفته حجّ تمتع 48 ميلاً من كلّ جانب، وكلّ ميل ثلث الفرسخ، وأمّا حسب الفراسخ فالحدّ 16 فرسخاً (وهو ما يساوي 86، 400 كيلومتراً)، وقد أُشير إلى هذا القسم من الحجّ في قوله سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ ) إلى أن قال: (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) (1). فقوله: (ذلِكَ ) إشارة إلى مَن أتى بالعمرة ثم تمتّع بالخروج عنها قاصداً إلى اقتراب مناسك الحجّ ، فهذه وظيفة مَن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وقد فسّر عدم الحضور في السنة كما مرّ

ص: 423


1- . البقرة: 196.

بالابتعاد مقدار 16 فرسخاً.

وأمّا الثاني والثالث فهما وظيفة الحاضر.

وكلّ مَن كان أهله دون 86، 400 كيلومتراً أو 48 ميلاً، فوظيفته القران والإفراد، ولأجل إيضاح الحال نشير إلى المواقيت الخمسة ومقدار المسافة بينها وبين مكّة المكرّمة:

1. ذو الحليفة وهو يبعد عن مكّة مسافة 400 كيلومتر.

2. العقيق، وهو يبعد عنها مسافة 187 كيلومتراً تقريباً.

3. الجحفة، وهي تبعد عن مكّة مسافة 190 كيلومتراً.

4. يلملم، وهي تبعد عن مكّة مسافة 100 كيلومتر.

5. قرن المنازل، وهي تبعد عن مكّة مسافة 75 كيلومتراً.

ثمّ لو كان بيت المكلّف قبل الميقات فهو يحرم منه، وأمّا إذا كان بيته بين الميقات ومكّة، فهو يُحرم من دويرة أهله. هذه هي الضابطة، وأمّا تطبيقها على المسافات المذكورة، فيكون بالشكل التالي.

فكلّ مَن كان بيته بعد قرن المنازل فهو يُحرم من دويرة أهله. وأمّا غيره، فهو يحرم من إحدى المواقيت؛ وذلك لأنّ بينه وبين مكّة أحد المواقيت.

ثمّ إنّ الفرق بين حجّ التمتّع والآخرين، أنّ المتمتّع يأتي بأعمال العمرة في أشهر الحجّ ثم يتحلّل ثم يحرم. وأمّا حجّ الإفراد فهو يحجّ أوّلاً، ثمّ يُحرم بالعمرة ويأتي بأعمالها.

ثمّ إنّ القران والإفراد شيء واحد، لا يفترقان إلّافي حالة واحدة وهي أنّ القارن يسوق الهدي عند ما يحرم، فيلزمه أن يهدي ما ساقه، وأمّا من حجّ حجّة

ص: 424

الإفراد فليس عليه هدي أصلاً.

وأمّا عند غيرنا فقد اتّفق الأربعة من فقهاء السنّة على أنّ معنى القران أن يحرم بالحجّ والعمرة معاً بحيث يقول الناسك: «لبيك اللّهمّ بحجّة وعمرة»، ولكن التداخل بين الإحرامين لا يجوز عند الإمامية، ولا إتيان الحجّ والعمرة بنيّة واحدة.

كلّ ذلك ثبت بالدليل في محلّه.

أعمال العمرة والحجّ في حجّ التمتّع

العمرة: عبارة عن إحرام المكلّف من الميقات بالعمرة المتمتّع بها إلى الحج ثم يدخل مكّة فيطوف سبعة أشواط بالبيت، ويصلّي ركعتي الطواف بالمقام، ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم يقصّر، فإذا فعل ذلك فقد أحلّ من كلّ شيء أحرم منه، فله التمتّع بأي شيء شاء من الأُمور المحلّلة بالذات إلى أن ينشئ إحراماً آخر للحج.

وأمّا الحج: فهو أن ينشئ إحراماً آخر من مكّة يوم التروية أو بعد، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها من ظهر اليوم التاسع إلى الغروب، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام فيقف به إلى طلوع الشمس، ثمّ يفيض إلى منى ويرمي جمرة العقبة، ثمّ يذبح هديه ثم يحلق رأسه، ثمّ يأتي مكّة ليومه أو من غده، فيطوف للحج ويصلّي الركعتين، ثم يسعى سعي الحج، ثم يطوف طواف النساء ويصلي ركعتيه، ثم يعود إلى منى ليرمي ما تخلّف عليه من الجمار الثلاث، يوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.(1)

ص: 425


1- . لاحظ: تحرير الاحكام: 1/557.

أعمال حجّ الإفراد والقران

والمُفرد يقدّم الحج على العمرة، فيحرم من الميقات إذا كان بيته قبله أو من حيث يصحّ له الإحرام منه بالحج، كما إذا كان بيته بعد الميقات فيحرم من دويرة أهله كما سيأتي، ثم يمضي إلى عرفات فيقف بها، ثم يقف بالمشعر الحرام، ثمّ يأتي منى فيقضي مناسكه بها، ثمّ يأتي مكّة يطوف بالبيت للحج ويصلي ركعتين ويسعى للحج ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتين، فيخرج من الإحرام فتحل له كلّ المحرّمات، ثم يأتي بعمرة مفردة من أدنى الحلّ متى شاء.

وأمّا أعمال القارن: حجّ القران فهو نفس حج الإفراد عند الإمامية إلّاأنّ القارن يضيف إلى إحرامه سياق الهدي، وإنّما يُسمّى بالقران لسوقه الهدي، فيقرن حجّه بسوقه.

إلى هنا تمّ ما أردنا بيانه من أقسام الحجّ وأعمال كلّ قسم منها، إلّاأنّ الذي حدانا إلى عقد هذا الفصل هو بيان أنّ حجّ التمتّع باقٍ على وجوبه لم يُنسخ وقد سنّه الكتاب العزيز وعمل به النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع، غير أنّ المشهور عن عمر بن الخطاب أنّه حرّم حجّ التمتّع في قوله: «متعتان كانتا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحجّ ومتعة النساء».(1)

غير أنّ الصحابة لم يُعيروا لتحريمه بالاً.

نعم كان النزاع على قدم وساق بين بعض وبعض آخر.

غير أنّ قوله سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ ) صريح في تشريع حجّ

ص: 426


1- . أحكام القرآن للجصاص: 92/1؛ تفسير القرطبي: 267/2، وغيرهما.

التمتّع وإليك البيان:

قال القرطبي في تفسيره: وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج وأن يكون من أهل الآفاق وقدم مكّة ففرغ منها ثم أقام حلالاً بمكّة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده.(1)

وقال صاحب الكشّاف: وقيل إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يُحرم بالحج.(2)

وقال صاحب المنار: أي فمَن تمتع بمحظورات الإحرام بسبب العمرة، أي أداؤها بأن أتمّها وتحلّل وبقي متمتّعاً إلى زمن الحج ليحج من مكّة، فعليه ما استيسر من الهدي، أي فعليه دم.(3)

ثم إنّ عمر نهى عن متعة الحج بهذا المعنى أي التمتّع بين العمرة والحج، وقال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحجّ ومتعة النساء.. وفي لفظ الجصّاص: لو تقدمتَ فيهما لرجمتُ . وفي رواية أُخرى: أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج.(4)

روى البخاري عن مروان بن الحكم: شهدت عثمان وعليّاً، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى عليَّ أهلّ بهما، لبّيك بعمرة وحجّة، قال: مار.

ص: 427


1- . تفسير القرطبي: 2/291.
2- . تفسير الكشّاف: 1/121.
3- . تفسير المنار: 1/222.
4- . البيان والتبيين: 2/193؛ أحكام القرآن: 1/92-93؛ تفسير القرطبي: 2/392، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ زاد المعاد: 2/184، طبعة مصر.

كنت لأدع سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لقول أحد.(1) أراد بقوله عليه السلام: «لبّيك بعمرة وحجّة» إتيانهما لا جمعهما في إحرام واحد.

وروى أيضاً عن عمران أنّه قال: تمتّعنا على عهد رسول اللّه ونزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء.(2)

وروى أيضاً عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتّى مات، قال رجل برأيه ما شاء، قال محمد: يقال أنّه عمر.(3)

وعلى كلّ تقدير فقد طال النقاش بين الخليفة وحماته، وبين جمع من الصحابة، فاستقر الأمر على جواز حج التمتّع، بل على كونه أفضل.

المعروف أنّ الخليفة حرّم متعة الحجّ لاستلزامها التحلّل بين العمرة والحجّ ، وهذا ممّا كان يستهجنه الخليفة ويعبّر عنه بقوله: إنّي أخشى أن يعرسّوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً، وقوله: كرهت أن يظلّوا معرّسين بهنّ ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم.

يلاحظ عليه: أنّه اجتهاد في مقابل النص، قال سبحانه: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .(4)6.

ص: 428


1- . صحيح البخاري: 2/142، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج.
2- . صحيح البخاري: 2/153، باب التمتّع؛ صحيح مسلم: 4/48، باب جواز التمتّع.
3- . صحيح البخاري: 5/158، كتاب تفسير القرآن، قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ ).
4- . الأحزاب: 36.

روى الكليني عن الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين حجّ حجّة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة وصلّى بها ثم قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها وأهلّ بالحجّ وساق مائة بدنة، وأحرم الناس كلّهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتّى إذا قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلّى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثم قال: أبدأ بما بدأ اللّه عزَّ وجلَّ به، فأتى الصفا فبدأ بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فلمّا قضى طوافه عند المروة قام خطيباً وأمرهم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة(1)، وهو شيء أمر اللّه عزَّ وجلَّ به فأحلّ الناس، وقال رسول اللّه:

لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولم يكن يستطيع أن يحلّ من أجل الهدي الّذي معه، إن اللّه عزَّ وجلَّ يقول: (وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) ، قال: قال سراقة بن جعشم الكناني: علمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الّذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا بل للأبد، وإن رجلاً قام فقال: يا رسول اللّه نخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر من نسائنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّك لن تؤمن بها أبداً».(2)

وحصيلة الكلام: أنّ عمر بن الخطاب خالف الرأي العام بين الصحابة، وما هو صريح الذكر الحكيم في موردين:

الأوّل: إفراد العمرة وفصلها عن الحج، بأن يحج المسلمون في أشهر6.

ص: 429


1- . وسيوافيك أنّهم كانوا يقدّمون بعض أعمال الحجّ على الوقوف في عرفات ولذلك قال: فاجعلوهاعمرة. أي فاجعلوا ما أتيتم به بعنوان أعمال الحجّ ، عمرة نظير الطواف بالبيت أو السعي.
2- . الكافي: 4/246.

الحج، ثم يعتمرون بالعمرة في الأشهر الأُخرى، لئلّا تتعطّل أسواق مكّة، وقد عرفت ما فيه.

الثاني: المنع عن التمتّع بين العمرة والحج، حيث كره التمتّع بين العبادتين، وقد عرفت ما فيه.

وقد مرّ أن منشأ الأمر الأوّل هو كون إفراد العمرة عن الحج رسماً من رسوم الجاهلية، ولذلك كان المشركون يُحرمون إحرام الحج ابتداءً حتّى أنّ المسلمين الّذين كانوا مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع أحرموا إحرام الحج، ودخلوا مكّة فطافوا وصلّوا ناوين بأعمالهم هذه، عمل الحج، إذ ربّما كانوا يقدّمون أعماله قبل الذهاب إلى عرفة، فجاء الوحي الإلهي بدخول العمرة بالحج، وأنّ على هؤلاء أن يجعلوا ما أتوا به بعنوان الحج عمرة، فثقُل ذلك على المسلمين لأنّهم أحرموا إحرام الحج، غير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم احتجّ عليهم بأنّ هذا جبرئيل يأمرني بذلك.(1)

ميقات عمرة المفرد والقارن

قد تقدّم أنّ المتمتع يحرم من أحد المواقيت ويأتي إلى مكّة لإتمام أعمال العمرة، وأمّا للحجّ فيحرم من نفس مكّة، والأفضل المسجد الحرام.

وأمّا المفرد و القارن فيحرمان للحجّ من أحد المواقيت الخمسة إذا كان منزله قبل الميقات. وأمّا إذا كان منزله بعد الميقات فميقاته دويرة أهله، وليس عليه الرجوع إلى الميقات.

ص: 430


1- . لاحظ: مناقب ابن شهر آشوب: 1/394؛ بحار الأنوار: 30/634 و ج 38/72.

وأمّا ميقات عمرة القران والإفراد فيحرم من أدنى الحل، كالتنعيم مثلاً.

كلّ ذلك ممّا اتّفقت عليه كلمة الفقهاء.

ميقات العمرة المفردة

النائي إذا أراد أن يأتي بعمرة مفردة، فميقاته أحد المواقيت الخمسة، وأمّا إذا كان في مكّة وأراد أن يأتي بالعمرة المفردة، فميقاته أدنى الحل. رزقنا اللّه وإيّاكم الحجّ والعمرة.

الفرق بين العمرتين (المفردة وعمرة التمتّع)

يتلخّص الفرق بينهما في الأُمور التالية:

1. أنّ طواف النساء يجب في العمرة المفردة، ولا يجب في عمرة التمتّع، وقال بعضهم: لا يشرّع فيها.

2. أنّ وقت عمرة التمتّع يبتدئ من أوّل شوال إلى اليوم التاسع من ذي الحجّة، أمّا العمرة المفردة فوقتها طول أيام السنة.

3. أنّ المعتمر بعمرة التمتّع يحل بالتقصير فقط، أمّا المعتمر بعمرة مفردة فهو مخيّر بين التقصير والحلق.

4. أنّ عمرة التمتّع والحجّ يقعان في سنة واحدة، وليس كذلك في العمرة المفردة.

ص: 431

أحكام الحج

3. أعمال العمرة في الذكر الحكيم

اشارة

قد تعرّفت في الفصل السابق على أقسام الحجّ ، وقد ذكر القرآن الكريم أعمال العمرة:

1. الإحرام للعمرة واتمامها إتمام العمرة.

2. الطواف بالبيت العتيق.

3. الصلاة في مقام إبراهيم.

4. السعي بين الصفا والمروة.

5. ويخرج من الإحرام بالتقصير.

أمّا الأوّل: فقد قال سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ ... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) .(1)

ص: 432


1- . البقرة: 196. ونقتصر في هذا الفصل بتفسير الفقرة الأُولى أعني قوله: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ )، وأمّا سائر الفقرات فستأتي في فصل حكم المحصور والمصدود. ولذلك اقتصرنا بما له مساس بالمقام.

أ. قوله تعالى: (أَتِمُّوا) : أي أكملوا العمرة والحجّ وإتمامها يلازم الإحرام لها، وأُريد من الإتمام هو إنجاز العمل كاملاً لا ناقصاً، وكلّما أُطلق الإتمام في القرآن الكريم أُريد به الإكمال، كما في قوله سبحانه: (وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (1)، وقوله سبحانه: (ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ ) (2)، وقوله سبحانه: (وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ ) (3)، وقوله سبحانه:

(وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ ) (4) ، وقوله تعالى: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) .(5)

تفسير الاتمام بإفراد العمرة عن الحجّ إنكار لحجّ التمتّع

وأمّا تفسير الإتمام بإفراد العمرة في حجّ التمتّع عن العمرة فممّا لا تدلّ عليه الآية. فمآله إلى إنكار حج التمتّع. نعم كان العرب في الجاهلية يفردون كُلّاً عن الآخر، وكانت سيرتهم على ذلك إلى أن أدخل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم العمرة في الحج، حتّى أنّ مَن لبّى بالحج في الأشهر الحرم وأحرم له، أمره أن يجعله عمرة ثم يتحلّل ويحرم للحج ثانياً، وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «دخلت العمرة في الحج إلى الأبد»، وقد تقدّم بيانه.

ثم إنّه ربّما يستدلّ بقوله: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ ) بوجوب العمرة مستقلّاً

ص: 433


1- . البقرة: 124.
2- . البقرة: 187.
3- . التوبة: 32.
4- . يوسف: 6.
5- . المائدة: 3.

فمَن استطاع إليها فقط دون الحج يجب عليه الاعتمار ولكنّه ضعيف، لأنّ الفقرة تدلّ على وجوب إكمال العمرة بما لها من الحكم حتّى وإن كان مستحباً كالعمرة المفردة لمن اعتمر وحجّ سابقاً، فهي مع استحبابها، يجب على المعتمر إكمالها، وإن كانت مستحبة. وليست الفقرة بصدد بيان وجوب العمرة لمن استطاع لها.

وأمّا الثاني: فقد قال سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ) .(1) والطواف يبدأ من الحجر الأسود، فإذا أتمّ الشوط السابع يخرج من الطواف ويتوجّه إلى إنجاز الأمر الثالث.

وأمّا الثالث: فقد قال سبحانه: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (2)وهو يشير إلى وجوب صلاة ركعتين في مقام إبراهيم بعد إتمام الطواف للمعتمر والحاج، وسيأتي تفصيله عند بيان واجبات الحجّ وأركانه.

وأمّا الرابع: فقال سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) .(3)

نعم أنّ ما ذكر من الآيات لا تشير إلى خصوص العمرة بل تعمّ العمرة والحجّ أيضاً لاشتراكهما في تلك الأعمال. والغرض الإشارة إلى أعمالها في الكتاب العزيز.

وأمّا الخامس: فقد ورد في السنّة.8.

ص: 434


1- . الحجّ : 29.
2- . البقرة: 125.
3- . البقرة: 158.

بالتفسير بعد بيان المفردات.

المفردات

الصفا: خلوص الشيء من الشوب، ومنه: الصفا للحجارة الصافية، وذلك اسم لموضع مخصوص.(1)

قال المبرد: الصفا: كلّ حجر لا يخلطه غيره من طين لازب، واشتقاقه: صفا، يصفو إذا خلص، وأصله من الواو ولأنّك تقول في تثنيته صفوان.(2)

المروة: الحجارة الصلبة. وأُريد به وبالصفا هنا، جبلان بمكة.

أمّا الصفا، فهو جبل يقع في جنوب شرق المسجد الحرام من جهة الحجر الأسود.

وأمّا المروة فهو جبل يقع في شمال شرق المسجد الحرام يقابل الركن العراقي تجاه بيت اللّه الحرام، والمسافة بينهما 766 ذراعاً ونصف. والمعتمر والحاج يسعيان بين الجبلين. وقد أصبح المسعى في هذه السنوات عبارة عن صالة كبيرة مسقّفة ذات طابقين يسعى الحجاج بينهما.

شعائر: جمع شعيرة بمعنى العلامة، يقال: أشعر الهدي أي جعل فيه علامة أنّه يهدى إلى الحرم. وأُضيف لفظ «شعائر» إلى لفظ الجلالة، فلابدّ من تقدير كلمة بينهما أي من علائم أو أعلام دين اللّه.

حجّ : الحجّ هو القصد، صار علماً للعمل المعروف بين المسلمين.

ص: 435


1- . المفردات للراغب: 450، مادة «صفو».
2- . مجمع البيان: 476/1.

اعتمر: الاعتمار الزيارة، وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود ويشارك الحجّ في قسم من الأعمال وليس فيه الوقوف في عرفات والمشعر ورمي الجمار والهدي.

جناح: الميل عن الحقّ والعدل نظير «جنف» في مقابل «حنف» وينطبق على الإثم، وسيأتي تفسيره في الشرح.

يطوّف: يتطوّف، ادغمت التاء في الطاء، وهو السير الذي ينتهي أوّله إلى آخره، سواء أكان على حالة الدوران أو على غيرها، أمّا الأوّل كالطواف حول الكعبة، والثاني الطواف بين الصفا والمروة.

تطوّع: من الطوع بمعنى الطاعة ويستعمل غالباً في التبرّع بعناية أنّ العمل الواجب لكونه إلزامياً كأنّه ليس بمأتي به طوعاً، بخلاف المأتي من المندوب فإنّه على الطوع من غير شائبة. ويشهد على أنّ التطوّع بمعنى التبرّع حديث الأعرابي، روى مسلم، قال: جاء رجل إلى رسول اللّه من نجد يسأل عن الإسلام. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة». فقال: هل عليّ غيرهن ؟ قال: لا... إلّا أن تطوّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليّ غيره ؟ قال: لا... إلّاأن تطوّع، وذكر له رسول اللّه الزكاة. فقال الرجل: هل عليّ غيره ؟ قال: لا... إلّاأن تطوّع. فأدبر الرجل وهو يقول: واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.(1) وعلى هذا فيحتمل أن يراد: تَبرّع وراء الواجب. وسيأتي توضيحه في قسم التفسير.

خيراً: منصوب بنزع الخافض أي مَن تطوع بالخير.

شاكر: أي يجزي عمل العباد الشاكرين. ؟

ص: 436


1- . صحيح مسلم: 32/1، باب ما هو الإسلام ؟

تمهيد

السعي بين الصفا والمروة عبادة وفرض واجب في الحجّ والعمرة، والزائر بعمله هذا يحاكي عمل هاجر أُمّ إسماعيل عليه السلام في طريق طلب الماء لولدها؛ فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ هاجر أُمّ إسماعيل لمّا تركها إبراهيم بموضع مكّة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جراباً من تمر وسقاء فيه ماء، فلمّا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتَلوّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرّات، قال ابن عباس: فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: فلذلك سعى الناس بينهما، فلمّا أشرفت على المروة سَمِعتْ صوتاً، فقالت: صه تُريد نفسها، ثم تسمّعت فسَمِعتْ أيضاً، فقالت: قد أسْمَعْتَ إن كان عندك غُواث، فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعت ولدها.(1)

روى الكليني في «الكافي» عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا خلّف إسماعيل بمكّة، عطش الصبي فكان فيما بين الصفا والمروة شجر فخرجت أُمّه حتّى قامت على الصفا، فقالت: هل بالبوادي من أنيس ؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة، فقالت: هل بالبوادي من أنيس ؟ فلم تجب، ثم رجعت إلى الصفا وقالت ذلك، حتى صنعت ذلك سبعاً فأجرى اللّه ذلك سنّة».(2)

ص: 437


1- . التحرير والتنوير: 58/2، ولاحظ: الدر المنثور: 388/1. الغُواث والغَواث: المعونة.
2- . الكافي: 202/4.

من ألطافه سبحانه على عباده الشاكرين أنّه جعل مسعى «هاجر» موضعاً لعبادته، تقديراً لسعيها وتكريماً لها تكريماً لا نهاية له، وتبرّكاً بها حيث إنّ حجاج بيت اللّه الحرام ما زالوا يسعون بين الجبلين حاكين به عمل هذه المرأة الصابرة. وأين هذا التكريم من إنكار الوهابية مقامات الأولياء؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

التفسير

قوله تعالى: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ ) : أي الجبلين، المعروفين فالصفا رأس نهاية جبل أبي قبيس، وأمّا المروة فهو رأس منتهى جبل قعيقعان، فلعل المراد أنّهما علامة أنّ المسعى محلّ عبادة اللّه سبحانه، (مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ ) : أي أنّ السعي بينهما عبادة، فاللّه سبحانه جعلهما علامتين على مكان عبادته (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ) فرّع على كونهما من شعائر اللّه، أي السعي بينهما من المناسك، (فَلا جُناحَ ) : أي لا إثم (عَلَيْهِ ) : أي على الحاج والمعتمر (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وأمّا وجه التعبير بعدم الجناح مع أنّ اللازم في بادئ الأمر، أن يقول: يجب عليه أن يطوّف بهما، فسيوافيك وجهه. (وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) : أي تبرّع وراء الواجب (فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ) لعمل عباده (عَلِيمٌ ) بواقع أعمالهم.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بمفردها بقيت هنا أُمور:

الأمر الأوّل: ما هو السبب للعدول عن وجوب الطواف بينهما إلى قوله:

(لا جُناحَ ) ؟

ص: 438

أقول: هناك وجهان:

الأوّل: ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سُنّة ؟ فقال: «فريضة»، قلت: أو ليس قال اللّه عزّ وجلّ : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قال: «كان ذلك في عمرة القضاء. إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام، وأُعيدت الأصنام، فجاءوا إليه، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ فلاناً لم يسعَ بين الصفا والمروة، وقد أُعيدت الأصنام، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) : أي وعليهما الأصنام».(1)

فعلى هذا فالفقرة وردت في مورد توهّم الحظر، ومثل ذلك لا يدلّ على كون السعي ندباً أو واجباً. وإنّما يستنبط حكمه من دليل آخر.

ونظير الآية قوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ ) (2) فإنّ ظاهره عدم وجوب التقصير، وهو خلاف ما استقرّ عليه المذهب؛ ولذلك روى الصدوق عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام - في حديث قصر الصلاة - قال: قال له: إنّما قال اللّه عزّ وجلّ : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك ؟ كما أوجب التمام في الحضر: «أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ؟ ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه، وصنعه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذلك التقصير في1.

ص: 439


1- . الكافي: 435/4 برقم 8؛ البرهان: 42/2، برقم 728.
2- . النساء: 101.

السفر شيء صنعه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وذكره اللّه في كتابه...».(1)

الثاني: ما رواه معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث حجّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتين قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ الصفا والمروة من شعائر اللّه فأبدأ بما بدأ اللّه عزّ وجلّ به، وأنّ المسلمين كانوا يظنون أنّ السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ».(2) ولا منافاة بين الخبرين بجواز أن يكون لنزول الآية سببان.

الأمر الثاني: أنّ الآية حسب الروايات نزلت إمّا في عمرة القضاء أو في حجّة الوداع.

أمّا الأُولى فكانت في السنة السابعة من الهجرة، والثانية في السنة العاشرة.

وعندئذٍ يقع السؤال عن وقوعها في هذا المورد مع أنّ سورة البقرة نزلت في السنة الثانية من الهجرة، وأين هي من السنتين الماضيتين ؟

والجواب أنّ الآية وضعت في هذا الموضع بأمر الرسول، وكم لها من نظير في القرآن الكريم حيث نزلت آية وحدها أو مجموعة آيات فأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن توضع في سورة كذا بعد آية كذا.

الأمر الثالث: أنّ في قوله: (وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) وجوه ثلاثة:

1. أنّ معناه: مَن تبرّع بالطواف والسعي بين الصفا والمروة بعد ما أدّى الواجب من ذلك، عن ابن عباس وغيره. ولكنّه بعيد إذ لم يثبت استحباب السعي1.

ص: 440


1- . الوسائل: 9، الباب 1 من أبواب السعي، الحديث 7، لاحظ: من لا يحضره الفقيه: 278/1.
2- . الكافي: 245/4، الحديث 2؛ البرهان: 42/2، برقم 729، ولاحظ أيضاً تفسير الدر المنثور: 384/1.

في نفسه خلافاً للطواف بالبيت فإنّه مستحب نفسي.

2. أنّ معناه: مَن تطوّع بالحج والعمرة بعد أداء الحجّ والعمرة المفروضين، عن الأصم.

3. أنّ معناه: مَن تطوّع بالخيرات وأنواع العبادات.(1) ولعلّ هذا الوجه أفضل.

الأمر الرابع: إنّ قوله سبحانه: (فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) من ألطف التعابير، حيث إنّه سبحانه مع كونه خالق السماوات والأرض وخالق الإنسان وما بيده من النعم، يصف نفسه شاكراً لأعمال عباده، وما هذا إلّالتلطّف خاص، نظير كونه مقترضاً من عباده، حيث قال: (مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً) .(2)

وعلى هذا فظاهر الآية أنّه سبحانه شاكر لأعمال عباده، ولكنّه في الواقع قابل لإحسان عباده، فيجزي الإحسان بالإحسان، قال تعالى: (هَلْ جَزاءُ اَلْإِحْسانِ إِلاَّ اَلْإِحْسانُ ) (3)، وقال تعالى: (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (4).

ولهذا التعبير نظير في القرآن الكريم كلّ ذلك لأجل إيجاد الرغبة في قلوب المسلمين يقول سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ 2.

ص: 441


1- . مجمع البيان: 479/1.
2- . البقرة: 245.
3- . الرحمن: 60.
4- . الإنسان: 22.

وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ) (1) فاللّه سبحانه يعرّف نفسه مشترياً والمؤمنين بائعين مع أنّ كلّ ما بيد المؤمنين من النفس والنفيس ملك للّه سبحانه. ومع ذلك يصوّر أنّ المؤمنين يملكون أنفسهم وأموالهم واللّه سبحانه يشتري منهم.

ثمّ إنّ المعتمر بعمرة حجّ التمتّع يخرج من الإحرام بالتقصير بأخذ شيء من شعر رأسه أو شيء من أظافر يده، كلّ ذلك ثبت بالسنّة، وينتظر حتى يحرم مجدّداً إلى عرفات، وقد ثبت بالسنّة.

***1.

ص: 442


1- . التوبة: 111.

أحكام الحج

4. أعمال الحجّ

اشارة

قد عرفت ما يجب على المعتمر من الأعمال، فإذا فرغ عن العمرة، يُحرم إلى الحجّ من مكّة والأفضل من المسجد الحرام، ثمّ الخروج إلى عرفات، ثمّ إلى المشعر، ثمّ إلى منى لرمي الجمرات، والذبح، والحلق، ثم الرجوع إلى مكّة للطواف بالبيت مع ركعتي الطواف، ثمّ السعي بين الصفا والمروة، انتهاء بطواف النساء وركعتيه.

وها نحن نذكر ما يدلّ عليه من الآيات، وما لم يرد فيها فإنّما ثبت بالسنّة.

أمّا الأوّل: أعني: الإحرام إلى الحجّ من مكّة فقد ثبت بالسنّة.

أمّا الثاني: أعني الوقوف في عرفات من زوال اليوم التاسع إلى غروب الشمس، فتدلّ عليه الآيات التالية:

الآية الأُولى

اشارة

قوله سبحانه: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ

ص: 443

وَ اُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ ) .(1)

المفردات

جناح: الحرج.

فضلاً: الكسب الحلال.

أفضتم: اندفعتم من عرفات إلى المزدلفة باجتماع وكثرة، كفيضان الماء.

الناس: أُريد إبراهيم وإسماعيل حيث كانا يفيضان من عرفات والناس كلّهم بعدهم.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أُمور:

1. عدم الحرج في كسب الحلال في أيام الحج.

2. الوقوف في عرفات.

3. الدعوة إلى ذكر اللّه عند المشعر الحرام.

فالأوّل ذكره سبحانه بقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) فرفع الحرج عن ابتغاء الفضل كناية عن رفعه عن التجارة في الحج الّتي تنتهي إلى طلب الفضل من اللّه سبحانه، والتعبير (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) استدراك لما يتوهّم من حرمة الكسب في الحجّ ، كما هوالحال في كلّ ما ورد فيه ذلك اللفظ أيضاً، وقد مرّ في تفسير قوله سبحانه: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ

ص: 444


1- . البقرة: 198.

بِهِما) (1) أنّ المسلمين كانوا يتحرّجون بالطواف بين الجبلين وعليهما أصنام المشركين، فاستدرك بأنّه لا حرج عليكم. وفي المقام ربّما يسبق إلى الذهن من الأمر بالتزوّد بالتقوى أنّه لا يجوز لزائر البيت ممارسة الأُمور الدنيوية كالكسب والتجارة فنزل الوحي بأنّ ممارسة ذلك لا ينافي التقوى، فإنّ حياة الإنسان رهن توفّر الإمكانات المالية، وأنّ الكسب والربح موصوفان بفضل اللّه.

بل يمكن أن يقال: إنّ الحج ملتقى سياسي واقتصادي وراء كونه أمراً عبادياً، ففي هذا التجمع الكبير الّذي يتواجد فيه أصحاب الشركات والتجارات من الشرق والغرب إذا تدارسوا أُمور المسلمين في النواحي الاقتصادية وعقدوا الاتفاقيات والمعاهدات التجارية في مختلف الأصعدة، فقد حقّقوا أحد أهداف الحج وهي تنمية الجانب الاقتصادي في المجتمع الإسلامي، وهذا لا يتناقض مع روح الحج ومقاصده.

روى هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام فقلت له: ما العلّة الّتي من أجلها كلّف اللّه العباد بالحج والطواف بالبيت ؟ فقال: «إنّ اللّه خلق الخلق - إلى أن قال -: وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعرف أخباره، ويذكر ولا يُنسى ، ولو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها، هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم8.

ص: 445


1- . البقرة: 158.

تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج».(1)

الأمر الثاني: ذكره سبحانه بقوله: (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ) سيأتي في الآية التالية أنّ من فرائض الحج الوقوف في عرفات من ظهر اليوم التاسع إلى مغيب الشمس ثم الإفاضة منها إلى المشعر الحرام، فالإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام، تدلّ ضمناً على وجوب الوقوف في عرفات. بناء على أنّ الآية التالية ناظرة إلى الإفاضة من عرفات؛ لأنّ في تفسير الآية وجهاً آخر سيوافيك.

وأمّا الأمر الثالث فمن فرائض الحج أو آدابه ذكر اللّه عند المشعر الحرام، وهل ذكر اللّه سبحانه واجب كما هو لازم الأمر خصوصاً بتعليله سبحانه بقوله:

(كَما هَداكُمْ ) : أي (لما) أو (مثل ما) أو أمر مستحب من آداب الوقوف في المشعر؟ والحكم القطعي يطلب من المصادر الفقهية، وطريق الاحتياط معلوم، وعلى كلّ تقدير فإنّه سبحانه يذكِّر المسلمين بأنّهم كانوا ضالّين قبل البعثة، كما قال: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ ) فلازم تلك النعمة الكبرى أي الهداية من الكفر إلى التوحيد ومن عبادة الأحجار والأصنام إلى عبادة رب العالمين ذكره سبحانه في هذه الليلة الظلماء الّتي يخيّم عليهم السكون.

وممّا ذكرنا يُعلم وجه تسمية المشعر؛ لأنّه مركز لشعائر الحج، ومعلم من معالم هذه العبادة.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ

ص: 446


1- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 18.

إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(1)

الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام

تقع عرفات خارج الحرم بخلاف المشعر فإنّه جزء من الحرم، وكان القرشيّون متغطرسين، فلا يقفون حيث يقف الناس، كما فيما روي عن عائشة أنّها قالت: كانت قريش ومَن يدين دينها، وهم الحمس، يقفون عشية عرفة بالمزدلفة يقولون نحن قطن البيت، وكان بقية الناس والعرب يقفون بعرفات فأنزل اللّه تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ ) (2) فأمرهم بالوقوف بعرفة والإفاضة منها، كما يفيض الناس، والمراد من الناس جمهرة العرب، وربّما يفسّر بإبراهيم وولده إسماعيل.

قوله تعالى: (وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ ) لما أحدثوا بعد إبراهيم من تغيير المناسك (إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

نعم بقي هنا سؤال وهو أنّ الآية السابقة دلّت على إفاضة الناس من عرفات إلى المشعر الحرام، وعلى هذا فالناس كلّهم مجتمعون في المشعر الحرام، وعندئذ كيف يبدأ بلفظة (ثم) الّتي تدلّ على الترتيب ويقول (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ ) ؟ ويفسّر بوجوب إفاضتهم من عرفات إلى المشعر الحرام، مع أنّ الناس كلّهم تركوا عرفات واجتمعوا في المشعر الحرام.

وأُجيب عن السؤال بأنّ هاهنا تقديماً وتأخيراً وتقديره: «ليس عليكم جناح

ص: 447


1- . البقرة: 199.
2- . السيرة النبوية لابن إسحاق: 2/76، أُريد من قطن البيت مكانه، من قَطنَ يَقطنُ : إذا سكن وتوطّن.

أن تبتغوا فضلاً من ربكم، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام، واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيم»(1)، وعلى هذا الجواب فلفظة (ثُمَّ ) للترتيب في الذكر لا للترتيب في العمل، ولا يخفى ضعفه.

وهنا وجه آخر لتفسير الآية وهو أنّ المراد من الإفاضة، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النحر، بعد شروق الشمس، للرمي والنحر، فمجموع الآيات يدلّ على أنّ هناك إفاضتين، من عرفات إلى المشعر، ومن المشعر إلى منى.(2)

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .(3)

من أعمال منى الرمي وذكر اللّه في أيام معدودات

إيضاح الآية رهن بيان أُمور:

1. من فرائض الحج في الأيام الثلاثة من ذي الحجة (أعني: اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر) رمي الجمرات. ففي اليوم العاشر يرمي الحاج جمرة

ص: 448


1- . مجمع البيان: 2/72.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 2/169.
3- . البقرة: 203.

العقبة فقط، وفي اليومين الأخيرين يرمي الجمرات الثلاث.

2. ثم إنّه سبحانه يصف هذه الأيام والليالي بكونها: (مَعْدُوداتٍ ) ، مشيراً إلى قلّتها، فإنّ القليل يُعدّ، وأمّا الكثير فإمّا أن لا يُعدّ أو يعسر عدّه، وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه: (وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ ) .(1)

3. إنّ الحاج مخيّر بين النفر في اليوم الثاني عشر بعد الظهر قبل مغيب الشمس، وإلّا يبيت ليلة الثالث عشر ثم يرمي في يومه الجمرات وينفر.

4. بما أنّ عمل الحج عمل عبادي فربما يشتغل الناس بأُمور تنافي العبادة، ولذا يأمرسبحانه بذكره في هذه الأيام، لأجل أن يضفي على عمل الحج الصبغة العبادية.

روى الكليني في «الكافي» في تفسير الآية عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «أيام التشريق كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا، فقال الرجل منهم كان أبي يفعل كذا وكذا».(2)

وهل الذكر في قوله سبحانه: (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ ) واجب أو مستحب مؤكّد؟ جاء في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الكاظم عليه السلام: قال:

سألته عن التكبير في أيام التشريق، أواجب أو لا؟ قال عليه السلام: «مستحب، وإن نسي فلا شيء عليه».(3)5.

ص: 449


1- . يوسف: 20.
2- . تفسير نور الثقلين: 1/242، برقم 732.
3- . التهذيب: 5/488، رقم 1745.

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قوله تعالى: (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ ) وأكثر المفسّرين على أنّ المراد هو اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة، قال في المجمع: أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر، وأمّا الذكر المأمور به أن يقول الحاج عقيب خمس عشرة صلاة: اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلّااللّه واللّه أكبر، اللّه أكبر وللّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا، والحمد للّه على ما أولانا، واللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.(1)

نعم أيام التشريق هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر، ولكن الأذكار يبدأ بها بعد صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر، فيكون المجموع خمسة عشر ذكراً، هذا لمن نفر في اليوم الثالث عشر، وأمّا من نفر في اليوم الثاني عشر فيكون عدد الأذكار عشرة.

روى الكليني عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: التكبير في أيّام التشريق في دبر الصلوات ؟ فقال: «التكبير بمنى في دبر خمس عشرة صلاة، وفي سائر الأمصار في دبر عشر صلوات، وأوَّل التكبير في دبر صلاة الظهر يوم النحر يقول فيه: «اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلّااللّه واللّه أكبر، اللّه أكبر، وللّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا، اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام» وإنّما جعل في سائر الأمصار في دبر عشر صلوات لأنّه إذا نفر الناس في النفر الأوَّل أمسك أهل الأمصار عن التكبير وكبّر أهل منى ما داموا بمنى إلى النفر الأخير».(2)6.

ص: 450


1- . مجمع البيان: 2/77؛ التبيان في تفسير القرآن: 2/175.
2- . الكافي: 4/516.
التخيير في النفر بين الثاني عشر والثالث عشر

ثم إنّ الحجّاج على قسمين: مكّيّ وغير مكّيّ ، فالأوّل لا يسرع في ترك منى، بخلاف غير المكّيّ فلأنّ مسكنه خارج مكّة فهو يتعجّل حتّى يصل إلى مسكنه سريعاً، فلذلك نرى أنّه سبحانه يرخّص في الأمرين ويقول: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي) : أي ضمن (يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) ، قلنا: «في ضمن يومين» لأجل عدم جواز النفر في اليوم الأوّل بإجماع المسلمين.

ثم إنّه يجوز الاستعجال في اليوم الثاني - كما مرّ - إذا ترك منى قبل الغروب من اليوم الثاني، فلو أمسى حرم عليه النفر الأوّل.(1)

(وَ مَنْ تَأَخَّرَ) : أي في ضمن ثلاثة أيام (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) .

ثم إنّ قوله سبحانه: (لِمَنِ اِتَّقى ) بمعنى أنّ ذلك الحكم من التخيير بين الخروجين لمن اتّقى محظورات الإحرام كلّها أو بعضها وإلّا فمَن ارتكب واحداً منها أو الحرام المشدّد من المحظورات، فعليه أن ينفر في النفر الثاني، فيؤوّل المعنى: إنّ الحكم المذكور إنّما هو لمن اتّقى تروك الإحرام أو بعضها، أمّا مَن لم يتقّ فيجب أن يقيم بمنى ويذكر اللّه في أيام معدودات.

روى حمّاد عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إذا أصاب المحرم الصيد، فليس له أن ينفر في النفر الأوّل، ومن نفر في النفر الأوّل فليس له أن يصيب الصيد حتّى ينفر الناس، وهو قول اللّه: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى ) قال: «اتّقى الصيد».(2)

ص: 451


1- . التبيان في تفسير القرآن: 2/176؛ كنز العرفان: 1/320.
2- . التهذيب: 5/490، برقم 404.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْبائِسَ اَلْفَقِيرَ) .(1)

المفردات

أياماً معلومات: أيام النحر و الذبح في الحجّ .

بهيمة الأنعام: البهيمة هي ما لا صوت له، أو في صوته إبهام من البهم وتقال على الإبل والبقر والضأن والمعز.

البائس: هو الذي أصابه بؤس أي شدّة، وأضعفه الإعسار.

الفقير: الذي لا شيء له.

التفسير
من أعمال منى : الهدي والذبيحة وإطعام البائس والفقير

ما تقدّم من الآيات وردت في سورة البقرة، وقد وردت في سورة الحجّ آيات أُخرى تتضمّن أحكام فريضة الحجّ ، تبتدئ من الآية 26 وتنتهي بالآية 38، غير أنّا ندرس ما يتضمّن حكماً شرعياً في الحجّ ، وأمّا ما يرجع إلى الآداب وأمثال ذلك فنحيل القارئ إلى كتب التفسير.

ص: 452


1- . الحج: 28.

قوله سبحانه: (لِيَشْهَدُوا) تعليل لقوله سبحانه - خطاباً لنبيّه إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية (وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ ) - لماذا؟ والجواب: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) .

نسخ ما عليه المشركون عند الذبح والنحر

ثمّ إنّه سبحانه نسخ ما كان عليه المشركون حيث كانوا يذبحون أو ينحرون باسم الأصنام، فأمر سبحانه بذكر اللّه عند الذبح والنحر وقال: (وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ ) (أيام التشريق) لماذا؟! لأجل (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ ) فاللّه سبحانه هو المنعم فليذكر اسمه عند الذبح والنحر.

ثمّ أمرهم سبحانه بأمرين فقال: (فَكُلُوا مِنْها) : أي من الأُضحية، وظاهر الفقرة وجوب الأكل من الأُضحية، ومع ذلك ذهب الشيخ الطوسي وزميله ابن البرّاج إلى استحبابه.(1)

والظاهر هو القول الأوّل لورود الأمر بالأكل مرّتين: تارة في هذه الآية، وأُخرى في آية أُخرى حيث قال تعالى: (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها) .(2)

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ الأمر بالأكل ورد في مقام توهّم الحظر، لأنّ أهل الجاهلية ما كانوا يأكلون من أضاحيهم بل كانوا يحرّمونها على أنفسهم.(3)

قلنا: (أمر سبحانه بأمرين)، وقد عرفت الأوّل وإليك الأمر الثاني، وهو ما في قوله تعالى: (وَ أَطْعِمُوا اَلْبائِسَ اَلْفَقِيرَ) والبائس هو الذي أصابه بؤس أي شدّة وأضعفه الإعسار، والفقير الذي لا شيء له، ومع أنّ ذكر الفقير مُغنٍ عن ذكر الآخر،

ص: 453


1- . لاحظ: النهاية: 261؛ المهذّب البارع: 259/1.
2- . الحج: 36.
3- . انظر: مجمع البيان: 165/7؛ تفسير الكشّاف: 246/2.

جاء ذكرهما معاً لترقيق أفئدة الناس عليه.

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) .(1)

المفردات

ليقضوا: ليزيلوا.

تفثهم: التّفَث: الوسخ.

نذورهم: النذر: ما يُنذر من أعمال البرّ، قال الراغب: النّذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر.(2)

العتيق: القديم.

التفسير
اشارة

ذكر سبحانه في هذه الفقرة، وظيفتين من وظائف المُحرم، هما:

1. القضاء على التفث

من محرّمات الإحرام حلق الشعر وتقليم الأظفار والتطيّب، حتى قتل هوام الجسد، فإذا خرج المكلّف عن الإحرام - بالذبح - وجب عليه القضاء على التفث بحلق الرأس في الحجّ ، وقد أُشير إليه بقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) .

ص: 454


1- . الحجّ : 29.
2- . المفردات للراغب: 487، مادة «نذر».

روى البزنطي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «التفث: تقليم الأظفار وطرح الوسخ وطرح الإحرام عنه».(1)

ومنها ما روي عن أبي الصبّاح الكناني عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «هو الحلق وما في جلد الإنسان».(2)

2. لزوم الوفاء بالنذور

يقول سبحانه: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ويظهر من هذه الفقرة أنّ كثيراً من الناس كانوا ينذرون الصدقات وغيرها من أعمال الخير إذا رُزقوا الحجّ ، وبما أنّ النذر صار متحقّقاً فيجب عليهم الوفاء به.

الآيتان: السادسة والسابعة

اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ ) .(3)

ص: 455


1- . من لا يحضره الفقيه: 485/2، برقم 3035.
2- . الكافي: 503/4، باب الحلق والتقصير، برقم 8.
3- . الحج: 36 و 37.
المفردات

البُدن: واحده بدنة، وهي الناقة العظيمة. وأراد بالبُدن التي تنحر بمنى .

صواف: قائمات، قد صففن أيديهنّ وأرجلهن، واحدها صافّة.

وجبت جنوبها: سقطت على الأرض وخرجت الروح منها.

القانع: الراضي بما يُعطى له من غير سؤال.

المعترّ: مَن يتعرّض للعطيّة.

التفسير
آداب ذبح البُدن وتقسيم لحمها إلى ثلاثة أقسام

إنّ الحاجّ مخيّر بين ذبح الغنم والإبل، والآية تذكر القسم الثاني وتقول: (وَ اَلْبُدْنَ ) التي هي من أقسام بهيمة الأنعام يصفها سبحانه بأُمور:

1. (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ ) : أي من معالم الحجّ . وسيأتي توضيحها في آخر هذا الفصل.

2. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) في الدنيا والآخرة. أمّا في الدنيا فالانتفاع بلحومها، وأمّا في الآخرة فالثواب في نحرها وتقسيم لحومها بين الفقراء.

3. كيفية نحرها، فيبيّنه سبحانه بقوله: (فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها) : أي قولوا عند النحر: بسم اللّه واللّه أكبر اللّهمّ منك وإليك. (صَوافَّ ) وصف للبُدن، أي قائمات مصطفات.

ثمّ إنّ في قوله: (فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها) ردّ على عادة الجاهلية حيث كانوا

ص: 456

يذكرون اسم آلهتهم المكذوبة.

4. الانتفاع بها بعد زهوق روحها، كما يقول: (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) : أي سقطت على الأرض يقال: وجب الحائط وجبة أي سقط. ثم تقسّم لحومها أقساماً ثلاثة: ثلث للأكل، وثلث للقانع، وثلث للمعتر، كما يقول:

1. (فَكُلُوا مِنْها) وفيه ردّ لعادة الجاهلية حيث كانوا يحرّمونها على أنفسهم، وبما أنّ الأمر ورد موضع توهم الحظر، فهو يفيد إباحة الأكل لا وجوبه، بخلاف الأخيرين، إذ لا وجه لحمل الأمر فيهما على الإباحة، أعني:

2. (وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ ) : الذي يقنع بما أُعطي أو بما عنده ولا يسأل.

3. (وَ اَلْمُعْتَرَّ) الذي يتعرّض لك أن تطعمه من اللَّحم.

وقد روي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنّه قال: «القانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، والمعترّ مَن يعتريك فيسألك».(1)

4. تذليل البُدن امتناناً، بمعنى أنّ البُدن أجسم من السباع ولكنّ اللّه سبحانه ذلّلها وسخّرها للإنسان ومكنّه من التصرّف فيها على حسب اختياره، وتلك نعمة عظيمة، فلو كانت طبيعتها كطبيعة السِّباع لما أمكن ذلك، كما يقول سبحانه: (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) : أي لكي تشكروا.

إبطال عادات الجاهلية

كانت من عادة الجاهلية تلطيخ الأوثان وحيطان الكعبة بدماء الهدي، وكأنّهم بعملهم هذا يُريدون أن يصل ذلك إلى اللّه تعالى، فردّ اللّه تعالى بقوله:

(لَنْ

ص: 457


1- . تفسير نور الثقلين: 499/3.

يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها) بل الذي يصل إليه ويقبله ويجازي عليه كون العمل خالصاً للّه كما يقول: (وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ ) : أي ما قمت به من العمل للّه سبحانه كذكر اسم اللّه عليها والتصدّق على القانع والمعتر.

ثمّ إنّه سبحانه كرّر ما ذكره في الآية السابقة وقال: (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ ) وذلك تذكيراً بالنعمة وتقديماً لقوله: (لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ ) : أي توحّدونه بالكبرياء، أو تقولوا: «اللّه أكبر» عند الذبح، (عَلى ما هَداكُمْ ) : أي لأجل هدايته وإرشاده، حيث أرشدكم وهداكم من العادات الجاهلية إلى الدين الحنيف، وفي ختام الآية قال: (وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ ) : أي القائمين بإهداء البدن وإطعام الفقراء.

الآية: الثامنة

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) .(1)

المفردات

البيت: مأوى الإنسان بالليل، يقال: بات: أقام بالليل كما يقال: ظل بالنهار، ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه.(2) ثمّ إنّ اللام في «البيت» لام العهد.

ص: 458


1- . البقرة: 125.
2- . المفردات للراغب: 151، مادة «بيت».

مثابة: قال الراغب: أصل «الثوب» رجوع الشيء إلى حالته الأُولى التي كان عليها، ثم قال: فمن الرجوع إلى الحالة الأُولى قولهم: ثاب فلان إلى داره، وسُمّي البيت مثابة لأنّه المكان الذي يثوب إليه الناس على مرور الأوقات، وقيل: مكاناً يكتسب فيه الثواب.(1)

عهدنا: أمرناهما وألزمناهما.

الطائفين والعاكفين: اختلفت كلمة المفسّرين في معنى اللفظين، فعن سعيد بن جبير: أنّ الطائفين هم الطارئون على مكّة من الآفاق، والعاكفين هم المقيمون فيها.(2)

وهنا احتمال آخر أقرب من المذكور وهو أنّه سبحانه عبّر عن العاكفين في آية أُخرى ب: (اَلْقائِمِينَ ) وقال: (وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) (3)، وتفسيره بالمقيمين بعيد لأنّ القائم غير المقيم؛ لأنّ الأوّل لازم بخلاف الثاني، والظاهر أنّ الآية ناظرة لكلّ من دخل المسجد الحرام لغاية العبادة، فهم بين طائف حول الكعبة وبين قائم ينظر إلى الكعبة حيث إنّ النظر إليها عبادة، وبين مصلٍّ في حال الركوع والسجود. وعلى هذا فأُريد من العاكفين، القائمون الناظرون إلى الكعبة.

روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل حول الكعبة عشرين ومئة رحمة منها ستون (لِلطّائِفِينَ ) وأربعون للمصلّين6.

ص: 459


1- . المفردات للراغب: 179-180، مادة «ثوب».
2- . مجمع البيان: 407/1.
3- . الحج: 26.

(الركع، السجود) وعشرون للناظرين (العاكفين)».(1)

وعن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «النظر إلى الكعبة عبادة».(2)

التفسير
الذهاب إلى مكّة لأداء فرائضها

يجب على الحاج بعد رمي جمرة العقبة أو بعد رمي الجمرات كلّها، الذهاب إلى مكة لإنجاز أعمالها، وهي عبارة عن الطواف بالبيت وركعتيه، ثمّ السعي وطواف النساء وركعتيه وقسم منها ثبت بالسنّة وقسم منها مذكور في الآيات.

أمّا الطواف فلم يذكر في الآية لكن أُشير إلى صلاته بقوله: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (3) كما سيأتي. نعم جاء التصريح بالطواف في قوله سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ) (4): أي البيت القديم؛ لأنّه أوّل بيت وضع للناس، كما في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ) .(5)

وروى الكليني بإسناده عن أبان، عمّن أخبره، عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، قال: قلت: لِمَ سمّى اللّه البيت العتيق ؟ قال: «هو بيت حُرٌّ، عتيق من الناس، لم يملكه

ص: 460


1- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطواف، الحديث 2.
2- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطواف، الحديث 4.
3- . البقرة: 125.
4- . الحج: 29.
5- . آل عمران: 96.

أحد».(1)

فهل المراد من الطواف بالبيت العتيق طواف الفريضة أو طواف النساء الذي به تحل النساء ويحلّ الطيب ؟

ظاهر الآية هو الإطلاق. نعم يظهر من بعض الروايات أنّ المراد كليهما، حيث روى الكليني باسناده عن أحمد بن محمد قال: قال أبو الحسن في قول اللّه عزّ شأنه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ) قال: «طواف الفريضة طواف النساء».(2)

والظاهر سقوط العاطف لأنّ طواف الفريضة غير طواف النساء.

هذا ما يتعلّق بالطواف وأمّا صلاة الركعتين في مقام إبراهيم عليه السلام فسيأتي التصريح بها.

إذا عرفت هذا، فلندخل في تفسير فقرات الآية.

الآية رغم وجازتها تتحدّث عن أُمور أربعة:

1. تشريف البيت بكونه مثابة للناس.

2. جعله أمناً، أي ليس لأحد أن يقصده بسوء.

3. الأمر باتّخاذ المصلّى من مقام إبراهيم.

4. تكليف إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت للطوائف الأربعة.

أمّا الأوّل: فقوله: (إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ ) التاء في (مَثابَةً ) للمبالغة، ومعنى كون البيت مثاباً ومرجعاً هو أنّ الناس يرجعون إليه كلّ عام خصوصاً إذا4.

ص: 461


1- . الكافي: 189/4، باب إنّ أوّل ما خلق اللّه من الأرضين موضع البيت، برقم 6.
2- . الكافي: 512/4، باب طواف النساء، برقم 1؛ تهذيب الأحكام: 252/5، الباب 16، برقم 14.

كانوا من سكان الحرم والقريبين منه، وربما قيل إنّه لا ينصرف منه أحد إلّاوينوي الرجوع إليه، وبما أنّ الناس يرجعون إليه مرّة بعد مرّة، صار البيت مرجعاً.

وأمّا الثاني: فقد أُشير إليه بقوله: (وَ أَمْناً) يأمن مَن حل فيه من الناس، رغم قسوة الأعراب وتعاديهم وعدائهم، فكأنّه سبحانه أودع في القلوب نوع تعظيم له، وهذا لا ينافي كونه أمناً تشريعياً أيضاً بمعنى أنّ مَن لجأ إلى البيت وإن كان مجرماً لا يخرج بالإكراه والقوّة، بل له طريق خاص مذكور في الفقه.

وأمّا الثالث: فقد أُشير إليه بقوله: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) :

أي اتّخذوا مقام إبراهيم محلّاً يُصلّى فيه بعد الطواف بركعتين. والمقام هو الصخرة التي قام عليها إبراهيم، فصار فيها أثر قدميه.

قال أبو طالب في لاميّته:

وَمَوْطِئ إبراهيمَ في الصَّخرِ وَطأةً ***على قدميه حافياً غير ناعل

ثمّ إنّه إذا كان المقام هو الصخرة التي قام عليها إبراهيم عليه السلام كيف يتمكّن الإنسان من الصلاة عليها، فإنّ تلك الصخرة حسب ما يقولون على شكل مكعب متساوي الأضلاع، وطول الضلع ذراع واحد بذارع اليد، أي ما يساوي 50 سنتمتراً تقريباً، وهذا المقدار لا يتّسع لأداء الصلاة، لأنّ ما يشغله المصلّي المستوي الخلقة - عادة - من المساحة الكافية لوقوفه وركوعه وسجوده وجلوسه هو 50 سم عرضاً في 100 سم طولاً(1)، وأين هذا من مساحة الحجر؟ ولذلك حاول صاحب الكشّاف تفسير مقام إبراهيم بعرفة، والمزدلفة، والجمار، لأنّه قام في هذه المواضع3.

ص: 462


1- . مبادئ علم الفقه: 210/3.

وسعى فيها، وعن النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم.(1)

واحتمل بعضهم أنّ المراد من المقام المسجد الحرام لكن هذه الاحتمالات محجوجة بفعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث إنّه بعد ما طاف سبعة أشواط أتى إلى المقام فصلّاهما، وتلا قوله تعالى: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) فأفهم الناس أنّ هذه الآية تأمر بهذه الصلاة وهنا مكانها.(2) وفي صحيح مسلم بسنده عن جابر في بيان حج النبي صلى الله عليه و آله و سلم: حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمّل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) .(3)

وأمّا تفسير الآية فالظاهر أنّ قوله: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) نظير الآيات التي وردت فيها تلك المادّة، قال سبحانه: (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً) (4)، وقال سبحانه: (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) .(5)

ترى أنّ شيئاً عامّاً يؤخذ منه جزء لغرض ما، فالنحل تتّخذ من الجبال جزءاً بصفة البيت، أو أنّ الناس كانوا يتّخذون من سهول الأرض قصوراً، وعلى هذا فالآية منزلة على هذا النمط من الكلام، فيراد من المقام ما يجاوره ويقاربه تسمية لما حول المقام باسمه، ضرورة أنّ المقام لا يتبعّض لأخذ المصلّى منه، فعلى الطائف أن يأخذ جزءاً من هذا المقام المجازيّ مصلّى يصلّي فيه، وإطلاق الآية يعمّ الخلف وما حوله من اليمين واليسار، ولا يختصّ مفاده بالخلف؛ لأنّ المقام4.

ص: 463


1- . تفسير الكشّاف: 287/1.
2- . سنن الترمذي: 211/3، برقم 856؛ سنن النسائي: 235/5.
3- . صحيح مسلم: 40/4-41، باب حجّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
4- . النحل: 68.
5- . الأعراف: 74.

حسب ما استظهرناه هو المكان المتّسع قرب المقام الحقيقي، المسوِّغ لتسمية ذلك المكان مقاماً أيضاً، فالموضوع هو الصلاة قربه.

وأمّا الأمر الرابع فهو ما في قوله تعالى: (وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) ، حيث أمر اللّه سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يطهّرا بيته للطوائف الأربع التي مرّ تفسيرها، ثمّ إنّ المراد من التطهير هو أعمّ من التطهير المادّي والمعنوي، ولذلك ترى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم عندما فتح مكّة طهّر البيت من الأصنام والأوثان الموجودة في البيت.

***

وقد تمّ في هذا الفصل بيان ما يجب على الحاج من الأعمال من الوقوف في المشاعر، وإنجاز إعمال منى، والذهاب إلى مكّة لإكمال أعمال الحجّ .

ص: 464

أحكام الحج

5. لزوم ذكر اللّه بدل التفاخر بالآباء في منى

الآيات: الأُولى والثانية و الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ * أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ ) .(1)

المفردات

قضيتم: أدّيتم.

أشدّ ذكراً: أشدّ من ذكركم آبائكم.

ص: 465


1- . البقرة: 200-202.

خلاق: النصيب من الخير.

آتنا: الإيتاء: الإعطاء.

قنا: أمر من وقى يقي، والوقاء الحاجز الّذي يُسلم به من الضرر.

نصيب: الحظ.

كسبوا: الفعل الّذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر.

التفسير
إبطال سنّة الجاهلية: التفاخر بالآباء

روى المفسّرون أنّ أهل الجاهلية كانوا معتادين أن يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر على وجه التفاخر، بعد الفراغ من أعمال الحج، فكان الحج سوقاً للتفاخر بالآباء، والأعمال، فجاء البيان القرآني مغيّراً لهذه السنّة، ويُرغّب الحجاج بذكر اللّه في هذه الأيام الثلاثة، أو بعدها ذكراً أشدّ من ذكرهم آبائهم، فصار التفاخر بالرسوم الجاهلية أمراً محرّماً، وذكر اللّه والابتهال إليه أمر مرغباً كما يقول: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ ) وأدّيتموها (فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ ) مثلاً بمثل، ثم يضرب عنه ويقول: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) : أي أن يكون ذكركم للّه أشدّ من ذكركم الآباء، إذ هو يناسب جلال اللّه ونعماءه؛ روى منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«كانوا إذا قاموا بمنى بعد النحر تفاخروا، فقال الرجل منهم: كان أبي كذا وكذا، فقال اللّه: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ ) .(1)

ص: 466


1- . الكافي: 4/516، برقم 3.
تقسيم الحجيج إلى نوعين

ثم إنّ الناس في حجّهم على قسمين: قسم لا يطلب إلّامتاع الحياة الدنيا، ولا همّ له إلّاهمّ الدنيا، كالبهيمة همّها علفها، وإلى هذا القسم يشير سبحانه ويقول:

(فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا) ، فيخصّ نعيم الدنيا ولا يسأل نعيم الآخرة، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الناس غير مؤمن بالبعث والنشور، ولذلك يصفه سبحانه بقوله: (وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) وحضوره في الحج لا يمنع من ذلك فإنّ عامّة المشركين كانوا يحضرون الحج من دون أن يعتقدوا بالآخرة.

يقول ابن عطية: كانت عادتهم في الجاهلية ألّا يدعوا إلّابمصالح الدنيا، إذ كانوا لا يعرفون الآخرة، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم.(1)

وأمّا القسم الثاني فهو ما تذكره الآية التالية: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ) .

ترى أنّ هذا الفريق من الناس يطلب خير الدنيا كما في قوله: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً ) : أي خير الدنيا، وفي الوقت نفسه لا ينسى الآخرة فيقول: (وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ) .

ثم يضيف إلى الحسنة في الآخرة هو أنّه يطلب منه سبحانه أن يجعل بينه وبين عذاب النار حاجزاً فيقول: (وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ) .

ثم إنّ الإجابة كانت على وفق الدعاء فالفريق الأوّل طلبوا خيرات الدنيا

ص: 467


1- . المحرر الوجيز: 1/276.

وغفلوا عمّا في الآخرة من عذاب، فاستجاب لهم ربّهم بما سألوه؛ وأمّا الطائفة الثانية فلمّا طلبوا كلا الأمرين استجاب اللّه تعالى دعاءهم كما يأتي في الآية التالية:

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ ) :

بدأ سبحانه كلامه باسم الإشارة وقال: (أُولئِكَ ) للتنبيه على أنّ ما يأتي بعده جزاء من اللّه سبحانه لطلبهم وعملهم ويقول: (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا) والفقرة تدلّ على أنّه سبحانه يجيب دعاءهم بشيء - لا كل ما يرغبون - تقتضيه المصلحة، ولذلك يقول: (نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا) وتنكير النصيب يدلّ على ذلك (وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ ) وهو يحاسب كلا الفريقين بسرعة قال الإمام علي عليه السلام: «يحاسب الناس دفعة كما يرزقهم دفعة».(1)

وفي آية أُخرى إشارة إلى ذينك الفريقين، قال تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ) (2)، وقال تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَ مَنْ أَرادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) .(3)9.

ص: 468


1- . مجمع البيان: 2/76.
2- . آل عمران: 152.
3- . الإسراء: 18 و 19.

أحكام الحج

6. حكم المُحْصَر والمصدود

اشارة

قال سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) .(1)

المفردات

أتمّوا: أي أكملوا الحجّ والعمرة.

ص: 469


1- . البقرة: 196. وقد تقدّم تفسير الفقرة الأُولى فقط، أعني قوله: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ )، في فصل أعمال العمرة ونركّز هنا على تفسير سائر الفقرات.

أُحصرتم: أي منعكم حابس حاصر عن إتمام الحجّ . فالمُحصَر تارة يُحصر بالعدو، وأُخرى بالمرض. ويعبّر عن الأوّل بالصدّ.

استيسر: تيسّر.

الهدي: من الهدية، وهو ما يهديه الحاج إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرّق بين الفقراء.

ولا تحلقوا: من الحلق، وهو حلق الرأس.

أذى: كلّ ما يتأذّى به الإنسان.

نسك: جمع النسيكة وهي الذبيحة، ويجمع أيضاً على نسائك، كصحيفة وصحائف وصحف.

تمتع: من التمتع بمعنى الالتذاذ والاستمتاع.

حاضري المسجد الحرام: عبارة عمّن كان على ثماني وأربعين ميلاً من كلّ جانب إلى مكّة، فمن كان خارجاً عن هذا الحد فليس من الحاضرين. وقيل:

اثنا عشر ميلاً من كلّ جانب.

التفسير

اشارة

الآية المباركة تتضمّن أحكاماً نشرحها حسب مقاطع الجمل:

1. إتمام الحجّ والعمرة وإكمالهما

قال سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ ) وقد تقدّم عند ذكر أعمال العمرة، أنّ المراد من الإتمام انجاز العمل كاملاً للّه سبحانه، وقد مرّ توضيحه.

ص: 470

2. كيفية خروج المحصر عن الإحرام

إذا أحرم للعمرة أو الحجّ ولكن منعه المرض أو العدو عن إنجاز أعمال العمرة أو الحجّ ، فقال: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ ) : أي ما تيسّر منه، والمراد من الهدي - كما مرّ - ما يهدى إلى بيت اللّه عزوجل تقرّباً إليه سبحانه، أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأيسره شاة.

3. لا يتحلّل قبل الذبح

إنّ المحصر من المرض لا يتحلّل من الإحرام حتّى ينحر أو يذبح، قال سبحانه: (وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) غير أنّ المحصر بالعدو يذبح في نفس الموضع الّذي أُحصر فيه، ثمّ يحلق رأسه ويتحلّل؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نحر هديه بالحديبية وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك ورجعوا إلى المدينة، وليست الحديبية من الحرم.

وأمّا المحصر بالمرض فهو يُرسل هديه إلى مكّة مع رفاقه وينتظر إلى أن يذبح في يوم النحر في منى، فإذا اطمأنّ بالذبح فعند ذلك يحلق ويحل.

ثمّ إنّه يقع الكلام في كفاية عمل المحصَر والمصدود عن الحجّ الواجب أو لا؟ فيرجع فيه إلى كتابنا «الحجّ في الشريعة الإسلامية الغرّاء»، ج 5، ص 449 - 470.

فدلّت الفقرة على أنّ الحلّ (من بعض المحرّمات لا كلّها كمسّ الزوجة) يكون بالحلق بعد الذبح.

ص: 471

4. حكم المريض ومَن برأسه أذى

لمّا منع سبحانه عن حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محلّه، وأجاز ذلك لفريقين وإن لم يذبحوا:

أوّلهما: المريض الّذي يحتاج إلى الحلق للمداواة. قبل بلوغ الهدي إلى محلّه، كما قال: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) .

والثاني: مَن كان برأسه أذى ، وقال: (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ) فعليه الفداء، كما يدلّ عليه قوله: (فَفِدْيَةٌ ) بأحد الأُمور الثلاثة التالية:

أ. (مِنْ صِيامٍ ) : أي صوم ثلاثة أيام.

ب. (أَوْ صَدَقَةٍ ) فيتصدّق على ستة مساكين أو عشرة، كلّ واحد بمدّ من طعام.

ج. (أَوْ نُسُكٍ ) فيذبح شاة. وهو مخيّر بين الأُمور الثلاثة.

مضافاً إلى الهدي الواجب بالأصالة للحجّ . وعند ذلك يجوز لهما الحلق قبل بلوغ الهدي محلّه.

5. التمتع بالعمرة إلى الحج

يقول سبحانه: (فَإِذا أَمِنْتُمْ ) : كان الكلام فيما تقدّم هو غير المأمون إمّا بالصدّ أو بالحصر، فجاء البيان القرآني لبيان مَن لم يكن محصراً ولا مصدوداً. فإذا حصل الأمن وارتفع المانع ولم يكن هناك حصر أو صدّ، وأتيتم بفريضة العمرة (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ ) : أي مَن تمتّع بمحظورات الإحرام بسبب أداء العمرة، فيبقى متحلّلاً متمتّعاً إلى أن يحرم للحج، فعندئذٍ يأتي بأعمال الحج

ص: 472

الّتي أشرنا إليها سابقاً، من الذهاب إلى عرفات ثم المشعر ثم إلى منى فيذبح بعد رمي الجمار. ثم يأتي ببقية أعمال الحج، لكن الآية تشير إلى فريضة واحدة من فرائض الحج وهو الهدي مع أنّه بعد الذهاب إلى عرفات، ثم إلى المشعر، ثم رمي الجمار، ثم الهدي، والحلق. وإنّما ذكر خصوص الهدي فقال: (فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ ) لاختصاصه بحكم خاص، وهو ما يأتي في الأمر السادس.

6. حكم الفاقد للهدي

يبيّن سبحانه حكم مَن لم يجد الهدي فيقول: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) : أي أنّه يصوم بدل الهدي ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى موطنه، على وجه يكون الجميع عشرة كاملة، وأمّا أيّام الصوم فقد ذكرت في الكتب الفقهية، وهي اليوم السابع والثامن والتاسع.

7. التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي

إنّه سبحانه أشار كما مرّ بأنّ التمتّع بالعمرة إلى الحجّ فريضة مَن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وقال: (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) قوله: (ذلِكَ ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره من التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، ليس لأهل مكّة و مَن يجري مجراهم، وإنّما هو لمَن لم يكن أهله من حاضري مكّة، وأمّا الحاضر فهو مَن يكون بينه و بينها دون 48 ميلاً، من كلّ جانب على الاختلاف. وقد تقدّم الكلام فيه أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بالأمر بالتقوى، أي تحصيل وقاية في النفس تبعثه

ص: 473

إلى العمل بما أمر والانتهاء عمّا نهى، وذلك لأنّه سبحانه شديد العقاب، فقال:

(وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) .

ص: 474

أحكام الحج

7. زمان الحجّ وتحريم أُمور ثلاثة

اشارة

قال سبحانه: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ ) .(1)

المفردات

الحجّ : أُريد به زمان أعمال الحجّ .

أشهر معلومات: وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجّة.

فرض فيهن الحجّ : أُريد بالحجّ هنا عمله، وأُريد من فرضه على نفسه، الإحرام له بالتلبية في هذه الأشهر، أو إشعار الهدي أو تقليده.

رفث: الإفحاش بالنطق، وفُسّر في الروايات بالجماع.

ص: 475


1- . البقرة: 197.

فسوق: الخروج عن الطاقة، وفسّر في الروايات بالكذب.

جدال: المراد به الجدال في الكلام، وفسّر في الروايات بالقول: لا واللّه، ولا باللّه، وهو تفسير بالمصداق، وأُريد به التفوّق على الخصم بأي نحوٍ كان، وأمّا دراسة المسألة في جوٍّ هادئ، لتشخيص الحق، فهو خارج عنه.

في الحج: أُريد بالحج في هذه الفقرة زمانه ومكانه، فقد اعاد سبحانه لفظ الحج ثلاث مرات لافادة مقاصد مختلفة، ولذلك لم يأت بالضمير مكان الاسم الظاهر.

التفسير

أمّا الأوّل فيشير إليه بقوله: (اَلْحَجُّ ) : أي وقت الحج والّذي يصحّ فيه (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) : أي معيّنة، يعرفها الناس، وهي الأشهر الثلاثة، لا يخرج منها. نعم ربّما يتدخّل بعض سدنة البيت أو الحج بالتقديم والتأخير الّذي يُسمّى النسيء، فهو كفر، كما سيأتي.

فإن قلت: إنّ ظاهر قوله سبحانه: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) أنّ كلّ جزء من أجزاء هذه الأشهر، صالح للحج، مع أنّ الصالح لفريضة الحج وحده، هو الأيام الخاصّة من الأشهر، فالحاج يحرم يوم التروية ويتمّ عمله في اليوم الثالث عشر، فكيف يقول: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) ؟

قلت: أُريد من العبارة أنّ الأشهر الثلاثة تصلح لعمل الحج، فالمحرم بالعمرة يجوز له أن يحرم أثناء الشهرين المتقدّمين على يوم التروية، وأمّا الحج

ص: 476

فيأتي به المحرم إلى اليوم الثالث عشر، فصار مجموع الأشهر صالحاً لعمل الحج، نظير قوله: «جاء زيد يوم الجمعة» مع أنّه أتى في جزء من هذا اليوم. وبعبارة أُخرى: مجموع الأشهر صالح لمجموع الأعمال.

قوله سبحانه: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ ) : أي مَن فرض على نفسه الحج بسبب عقده للإحرام بالتلبية أو إشعار الهدي أو تقليده قبل أن يحرم، فعليه أن يحذر من الأُمور الثلاثة فإن الحج بطبيعته لا يصلح لها، ولذلك يقول: (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ ) : أي لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل. فقوله: (فَلا رَفَثَ ) قائم مقام جزاء الشرط، أعني: فليحذر في حجّه عن الرفث والفسوق والجدال. ثم إنّ نفي الموضوعات الثلاثة مكان النهي عنها يدلّ على التأكيد، فالإخبار عن عدم هذه الأُمور الثلاثة بنيّة الإنشاء، دليل على التأكيد، وشدّة الزجر.

ثم إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ ) فلا يخفى عليه شيء، وبما أنّ وصف العمل بالخير فرع كونه صادراً ممّن تزيّن بالتقوى، يقول سبحانه: (وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ ) .

ص: 477

أحكام الحج

8. الابتلاء بالصيد قتلاً واصطياداً وأحكامه

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(1)

المفردات

ليبلونّكم: من الابتلاء بمعنى الاختبار.

الصيد: ما يصطاد من حيوانات البحر والبرّ الوحشية ولا يعمّ الأهلية.

تناله أيديكم ورماحكم: كناية عن كثرة الصيد وسهولة الأخذ.

ليعلم اللّه: ليظهر معلومه ويحقّقه.

ص: 478


1- . المائدة: 94.

بالغيب: ما غاب عن الحسّ .

التفسير
الابتلاء سنّة من سنن اللّه في عباده

جرت سنّة اللّه تعالى على اختبار عباده في مواضع حسّاسة ليتميّز المطيع عن العاصي والطيّب من الخبيث، وقد أشار سبحانه في الذكر الحكيم إلى مواضع من الاختبار، قال سبحانه: (فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً) (1) فقد أمر سبحانه طالوت أن يختبر جيشه في الصبر على العطش مع التمكّن من الماء حتى يتميّز الصامد أمام العدو عن المدبر أمامه، وليس هذا هو الموضع الوحيد لاختباره سبحانه بعض عباده، فقد اختبر جمعاً من بني إسرائيل الذين كانوا يسكنون على ساحل البحر (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (2)، فصار القوم طوائف ثلاثة فمن مقترف عاصٍ لنهي اللّه سبحانه، ومن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، وإلى طائفة ثالثة لم يشاركوا القوم في الصيد ولكن سكتوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعمّ عذاب اللّه العصاة والتاركين للأمر بالمعروف.

وآيتنا هذه تكشف أنّه سبحانه اختبر أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في ظروف

ص: 479


1- . البقرة: 249.
2- . الأعراف: 163.

خاصّة كان الصيد في متناول أيديهم كما سيأتي تفسيره.

والآية وإن وردت في الحديبية، لكن الابتلاء مستمر إلى يوم القيامة، فاللّه سبحانه حرّم الاصطياد لطائفتين:

1. الاصطياد في الحرم وإن كان الصائد غير محرم.

2. الاصطياد محرماً داخل الحرم أو خارجه.

والظاهر أنّ النهي عن الاصطياد إنّما هو لأجل المحافظة على البيئة، حيث إنّ هذا العدد الكبير من الحجاج الذين يتوافدون على مكّة المكرمة لو أبيح لهم الصيد، لانقرضت هذه الحيوانات من تلك المناطق ممّا يسبب خللاً في التوازن الطبيعي الذي أودعه سبحانه الأرض، إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

تخاطب الآية المؤمنين وتقول: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) مع أنّ الحكم عام للمؤمن والكافر، خُصّ المؤمنون بالذكر لأنّهم المهتمّون بالعمل بهذا الحكم. ثمّ إنّه سبحانه يُقسم ويقول: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ) ، ثمّ إنِّ سبحانه يبتلي المؤمنين كما مرّ في حالتين:

1. إذا كانوا في الحرم وإن لم يكونوا محرمين.

2. إذا كانوا محرمين وإن لم يكونوا في الحرم ولعلّ (مِنَ ) للتبعيض مشيراً إلى صيد البر دون البحر، ويمكن أن يكون لتبيين الجنس، والأوّل أظهر حسب سياق الآية، وسيأتي جواز صيد البحر للمحرم في الآية التالية.

وعلى كلّ تقدير فاللّه سبحانه يُقسم بأنّه يمتحنكم بشيء من الصيد أو بجنس الصيد، ثمّ يصف الصيد بشيء يعرب عن أنّه يريد البرّي (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) أُريد بالأوّل فراخ الطير وصغار الوحش والبيض التي يمكن أن يُصاد

ص: 480

بلا آلة، وأُريد من الثاني الكبار من الصيد.

روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السلام في تفسير قول اللّه تبارك وتعالى: (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) قال: «ما تناله الأيدي البيض والفراخ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي».(1)

وروى العياشي في تفسيره عن حريز، وزاد: كلّ هذا يتصدّق به بمكّة ومنى ، وهو قول اللّه في كتابه: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ ) البيض والفراخ (وَ رِماحُكُمْ ) الأُمّهات الكبار».(2)

فالأقرب ما في هاتين الروايتين، وأمّا سائر الاحتمالات فلا دليل عليه.(3)

ما هي الغاية من ابتلاء العباد؟

قوله تعالى: (لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) علّة لقوله: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ ) :

أي ليعلم اللّه من هذا الطريق مَن يخافه ويتميّز عمّن لا يخافه، فالمراد من العلم كما ذكرنا هو تميّز الخائف من اللّه عن غيره، وأُريد من العلم علمه الفعلي لا علمه الذاتي، واللّه سبحانه عالم بالأنفس قبل أن يخلقها وبعد أن خلقها، قبل أن يصيد وبعد أن يصيد، وإنّما الغاية تميّز الخائفين عن غيرهم، نظير قوله تعالى: (لِيَمِيزَ اَللّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي

ص: 481


1- . الوسائل: 9، الباب 1 من أبواب تروك الإحرام، الحديث 4.
2- . الوسائل: 9، الباب 9 من أبواب كفّارات الصيد، الحديث 2، ولاحظ الحديث 1 من نفس الباب. يتصدّق بكفّارته بمكّة ومنى كما سيأتي.
3- . لاحظ: مجمع البيان: 489/3.

جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ ) .(1) وقد ذكر الإمام علي عليه السلام معنى اختبار اللّه سبحانه، قال عليه السلام في تفسير قوله: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) .(2)

وَمَعْنَى ذلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِيَتَبَيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزْقِهِ ، وَ الرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ سُبْحانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلكِنْ لِتَظْهَرَ الْأَفْعَالُ الَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ الذُّكُورَ وَيَكْرَهُ الْإِنَاثَ ، وَبَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ الْمَالِ ، وَيَكْرَهُ انْثِلَامَ الْحَالِ .(3)

وعلى كلّ تقدير إنّه سبحانه يبلو المؤمنين ويختبرهم ليتميّز مطيعهم من عاصيهم، وقد مرّ أنّ اللّه ابتلى قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت، ثمّ إنّه كان يجيئهم ذلك اليوم حتى يدخل بيوتهم، فإذا خرج السبت لم يبق منه شيء، وكما ابتلى قوم طالوت بالنهر.(4)

ما هو المراد من الخوف بالغيب ؟

وأمّا ما هو المراد من الخوف بالغيب ؟ فقد فسّره الطبري بأنّ معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربّه فهو غائب عنه.(5)

وفسّره ابن عطية بقوله: والظاهر أنّ المعنى: بالغيب من الناس، أي في الخلوة، فمَن خاف اللّه انتهى عن الصيد من ذات نفسه.(6)

ص: 482


1- . الأنفال: 37.
2- . الأنفال: 28.
3- . نهج البلاغة، قصار الحكم، برقم 93.
4- . كنز العرفان: 321/1.
5- . نقله ابن عطية في المحرّر الوجيز: 236/2.
6- . المحرّر الوجيز: 236/2.

وفسّره السيد الطباطبائي بما يرجع إلى ما ذكره الطبري لكن بنحو مستدل ويقول: ومعنى الخوف بالغيب، أن يخاف الإنسان ربّه ويحترز ممّا ينذره به من عذاب الآخرة، وأليم عقابه، وكلّ ذلك في غيب من الإنسان لا يشاهد شيئاً منه بظاهر مشاعره، قال تعالى: (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ) (1)، وقال: (وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ اَلرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) ،(2) وقال:

(اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) (3) .(4)

قوله: (فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ ) : أي بعد ما حُذّر (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) : أي عقاب شديد في الآخرة، بما اجترأ على الحرم بل على الإحرام؛ لأنّ الموضوع هو القتل محرماً فيعمّ الحرم وغير الحرم، وبذلك يُعلم أنّ آيتنا هذه جاءت كالتقديم للآية التالية.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ

ص: 483


1- . يس: 11.
2- . ق: 31-33.
3- . الأنبياء: 49.
4- . الميزان في تفسير القرآن: 138/6.

عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ ) .(1)

المفردات

حُرم: جمع حرام، ورجل حرام ومحرم بمعنى واحد. كما أنّ الحلال والمُحلّ كذلك.

النعم: هي الإبل والبقر و الغنم.

عدل: المماثل، والمعادل للشيء، إمّا حسّاً أو قيمة.

وبال: من الوبل، الشيء الثقيل، والوابل: المطر الغزير.

التفسير
حرمة قتل الصيد وكفّارته

هذه الآية تتضمّن بيان عدة أحكام:

1. تحريم قتل الصيد على المحرم أمّا اصطياده فإنّه يأتي في الآية التالية: (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فتدبّر. يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) فالفقرة مطلقة تعمّ المحرم للحج وللعمرة، كانا في أرض الحرم أو خارجه، وقد تقدّم أنّ (حرم) جمع (حرام) وأُريد به المحرم على وجه الإطلاق.

ثمّ إنّ المراد من الصيد، الوحش كلّه أُكل أو لم يؤكل، وهو قول أهل العراق

ص: 484


1- . المائدة: 95.

واستدلّوا بما ينسب إلى الإمام علي عليه السلام:

صيد الملوك أرانب وثعالب ***فإذا ركبتُ فصيدي الأبطال

وخصّه الشافعي بكلّ ما يؤكل من الصيد، وإطلاق الصيد أوّلاً وإضافته إلى الأرانب والثعالب ثانياً، يدلّ على القول الأوّل.

2. الظاهر من الآية - كما سيوافيك - أنّ كفارة المتعمّد لقتل الصيد أحد الأُمور الثلاثة:

أ. أن يذبح حيواناً مماثلاً للصيد.

ب. أن يقوّم الحيوان المماثل ويشتري بقيمته طعاماً يتصدّق به.

ج. أو يلاحظ مقدار الطعام الذي يمكن اشتراءه بقيمة الحيوان المماثل، ثم يصوم أيّاماً بعدد المساكين الذين يمكن إطعامهم. كما سيأتي في قوله: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) .

هذا هو مجمل ما ذكرته الآية حول كفّارة المتعمّد، وسيوافيك أنّها لا تختصّ بالمتعمّد.

إذا عرفت ذلك فنقول:

قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين مع أنّ التشريع عام يعمّهم وغيرهم، وذلك لأنّ المؤمن هو المهتم بالعمل (لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) : أي وأنتم مُحرمون. (وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ ) : أي فعليه جزاء، فقوله: (جزاء) مبتدأ حذف خبره (فعليه) (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ ) خبر بعد خبر: أي مماثل لما قتله في الخلقة والصورة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وشبهه بقرة، وفي الظبي والإرنب شاة، نسبه في «مجمع البيان» إلى أهل

ص: 485

البيت عليهم السلام.(1)

أمّا الأخير فقد روي عن أبي الحسن عليه السلام. قال: سألته عن محرم أصاب أرنباً أو ثعلباً؟ فقال: «في الإرنب دم شاة». وقد ورد في حديث أبي جعفر الجواد عليه السلام أكثر تفصيلاً.(2)

ثمّ إنّ الآية تخص الكفارة بالمتعمّد، أي مَن قصد الصيد، سواء أكان ذاكراً لكونه محرماً أم ناسياً، فإنّ المتعمّد في مقابل الخاطئ، كما إذا قصد غير حيوان فصادف قتل الصيد فهو خارج عن الآية.

ومع ذلك فتجب الكفّارة في غير العمد أيضاً، وإنّما قُيّد القتل بالعمد في الآية؛ لأنّ سبب نزولها في من تعمّد.(3) أو لأنّ الأصل فعل المتعمّد وألحق به الخطاء للتغليظ، ويدلّ عليه قوله تعالى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ ) .(4)

وقد ثبت في الفقه أنّ الكفّارة في عامّة محرّمات الإحرام تختصّ بالعمد، إلّا الصيد فإنّه يجب في كلتا الحالتين، والتفصيل في المصادر الفقهية.

3. يرجع في تعيين المماثل إلى رجلين صالحين فيؤخذ بحكمهما في الأشبه، كما يقول: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) : أي من المؤمنين.

4. إذا تعيّن الأشبه فيذبح في مكّة المكرّمة كما يقول: (هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ ) :1.

ص: 486


1- . لاحظ: مجمع البيان: 489/3.
2- . الوسائل: 10، الباب 4 من أبواب كفّارات الصيد وتوابعها، الحديث 1، ولاحظ سائر الروايات.
3- . تفسير الكشّاف: 364/1.
4- . كنز العرفان في فقه القرآن: 324/1.

أي يهديه هدياً يبلغ الكعبة، فقيل: ذبح في الحرم بفناء الكعبة في الحزورة وتصدّق به هناك، وإن كان في إحرام الحجّ ذبح بمنى وتصدّق به فيها.

وأمّا الحزورة، قال الطريحي: موضع كان به سوق مكّة بين الصفا والمروة قريب من موضع النخاسين معروف ويؤيّده قول الصادق عليه السلام: «المنحر ما بين الصفا والمروة وهي الحزورة».(1)

وأمّا الآن فالذبح هناك غير ممكن فيذبح الأقرب فالأقرب إلى مكّة، وإلّا فبمنى .

5. فله أن يقوّم عدله من النعم ثم يشتري بقيمته طعاماً يتصدّق به على المساكين، كما يقول: (أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ) ، فقوله: (طَعامُ مَساكِينَ ) بدل من قوله: «كفّارة».

6. له أن يصوم أياماً بعدد المساكين الذين يمكن إطعامهم، وإليه يشير بقوله: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) . وأمّا ما هو مقدار الطعام لكلّ مسكين فهل هو المدّان أو المدّ الواحد؟ سيأتي الكلام فيه.

وعلى هذا فظاهر الآية التخيير بين الأُمور الثلاثة، وتؤيّده السنّة؛ فقد روي عن أحد الصادقين عليهما السلام أنّه قال: «وكلّ شيء في القرآن: (أو) فصاحبه بالخيار يختار ما شاء».(2)

لكن الظاهر من الأصحاب الترتيب قالوا: إذا قتل نعامة كان عليه بدنة، فإن عجز قوّمت البدنة ثم يجعل قيمته طعاماً يتصدّق به ستين مسكيناً لكلّ مسكين4.

ص: 487


1- . مجمع البحرين: مادة «حزر»
2- . الكافي: 398/4.

نصف صاع، فلو لم يف بالستين كفاه، ولو زاد لم يلزمه الزائد وكان له، فإن عجز عن الإطعام صام عن كلّ مسكين يوماً.(1) فالأخذ بالترتيب أحوط لحصول تيقّن البراءة.

إنّما الكلام في مقدار ما يطعم به المسكين فهل الميزان هو المدّان كما مرّ عن «كنز العرفان» أو (المدّ) كما عليه المحقق الأردبيلي: يقوّم الجزاء الذي هو المثل (كالبدنة) ويفضّ ثمنها على الأوسط ممّا يطعمون وهو البُّر - مثلاً - ويعطى لكلّ مسكين، مدٌّ.(2) ولكلّ رواية.

أمّا الأوّل فيدلّ عليه صحيح أبو عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «... ثمّ قوّمت الدراهم طعاماً لكلّ مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر على الطعام صام لكلّ نصف صاعٍ يوماً»(3).

وعلى هذا فالميزان ما يُشترى بما قوّم من الطعام، ويقسط على كلّ مسكين نصف صاع، سواء أنقص من الستين أو زاد، وإذا أراد الصيام إنّما يصوم حسب ما يمكن إطعامه بما قوّم.

أمّا الثاني فيدلّ عليه مرسلة العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام: «وإمّا أن يقوم فيشتري به طعاماً فيطعمه المساكين يطعم كلّ مسكين مدّاً».(4)ه.

ص: 488


1- . كنز العرفان: 325/1، بتلخيص.
2- . زبدة البيان: 376/1. بل الظاهر لكلّ مسكين نصف صاع كما مرّ عن «كنز العرفان» ويدلّ عليه حديث أبي عبيدة.
3- . الوسائل: 9، الباب 2 من أبواب كفّارات الصيد، الحديث 1.
4- . الوسائل: 9، الباب 2 من أبواب كفّارات الصيد، الحديث 14، والأقوى هو الأوّل لصحّة السند دون الثاني لإرساله.

7. ثمّ إنّه سبحانه يعلّل إيجاب الكفّارة ويقول: أوجبنا عليه التكفير بأحد الأُمور (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ ) : أي ليذوق عقوبة أمره وعمله.

8. ثمّ إنّ من المؤمنين مَن صاد في الجاهلية أو قبل بيان الحكم، فاللّه سبحانه يقول: (عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ ) لعدم تشريع حرمة الصيد.

9. وأمّا (وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ ) وظاهره أنّ عمله لا يكفّر بالجزاء.

قال الفاضل المقداد: وهل هذا مانع من وجوب الكفّارة عليه، أم لا؟ قال ابن عباس: نعم، وبه قال أكثر أصحابنا، وقال الحسن وابن جبير وعامّة الفقهاء: لا، بل تجب، وبه قال بعض أصحابنا(1)، لقول الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة ابن أبي عمير: «عليه كلّما عاد كفّارة».(2) وهي عامّة بحسب الزمان.

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل انتقامه بقوله: (وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ ) : أي ينتقم ممّن تعدّى أمره وحكمه.

حرمة الإعانة على الاصطياد

ثمّ إنّ المستفاد من الآية حرمة الاصطياد وذبح المصيد وأكله، لكن المستفاد من الروايات حرمة الإشارة والدلالة والإغلاق، ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «لا تستحلنّ شيئاً من الصيد وأنت حرام، ولا وأنت حلال في الحرم، ولا تدلّنّ عليه مُحِلّاً ولا محرماً فيصطاده، ولا تُشر إليه فيستحلّ من أجلك، فإنّ فيه فداء لمَن تعمّده».(3)

ص: 489


1- . كنز العرفان: 327/1.
2- . الاستبصار: 210/2؛ الوسائل: 9، الباب 48 من أبواب كفّارات الصيد وتوابعها، الحديث 3.
3- . الوسائل: 9، الباب 1 من أبواب تروك الإحرام، الحديث 1.

وعلى هذا يحرم على المحرم مطلقاً مصيد البر، اصطياداً وأكلاً وذبحاً وإشارة ودلالة عليه وإغلاقاً وبيعاً وشراء وتملّكاً وإمساكاً وإغراء للحيوان به.(1)

ثمّ إنّ هنا بحوثاً في صيد المحرم، وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا «الحجّ في الشريعة الإسلامية الغراء».

ولصديقنا محمد جواد مغنية كلام يقول فيه: وقد أطال فقهاء المذاهب الكلام في الصيد وكفّاراته، وابتدأوا من صيد النعامة التي تشبه الناقة إلى صيد الجرادة، وفرعوا فروعاً، وافترضوا صوراً شتّى... ونحن نكتفي بما ذكرناه لعدم الجدوى من التطويل والتمثيل؛ لأنّ الذي يذهب إلى الحرمين الشريفين يذهب ناسكاً زاهداً، لا متنزّهاً صائداً.(2)

الآية: الثالثة

اشارة

قال سبحانه: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .(3)

المفردات

السيارة: جمع السائر: المسافرون.

ص: 490


1- . كنز العرفان: 329/1.
2- . الفقه على المذاهب الخمسة: 227.
3- . المائدة: 96.
التفسير

المتبادر من الآية أنّه سبحانه أحلّ لكلّ الناس أوّلاً وللمحرم ثانياً أمرين:

1. عملية الاصطياد، كما يقول: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ) ، وأُريد من الصيد المعنى المصدري بخلاف الآية السابقة فقد أُريد به المصيد، بقرينة قوله: (لا تَقْتُلُوا) .

وأُريد من (اَلْبَحْرِ) الأنهار الكبيرة والأهوار(1) والمستنقعات(2)، قال الطبرسي: عُني بالبحر جميع المياه، والعرب تُسمّي النهر بحراً.(3)

2. (وَ طَعامُهُ ) : أي أكله وهو يشمل الطري والمُمْلَح.

وعن ابن عباس: (صَيْدُ اَلْبَحْرِ) : أي الصيد هو الطريّ (وَ طَعامُهُ ) هو المملوح. ونسبه في كنز العرفان إلى أهل البيت.

ثمّ إنّه يقع الكلام في ما هو الميزان لكون المصيد بحرياً أو برّياً فهنا أقوال:

1. ما لا يمكن أن يعيش إلّافي الماء كلّه حلال لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «هو الطهور ماؤه و (حلال) أكل ميتته».(4) هو مذهب الشافعي ومالك.

2. يحل السمك وما له مثلٌ في البرّ يؤكل.

3. قال أبو حنيفة: لا يحل إلّاالسمك.

ص: 491


1- . وهي البحيرة تجري إليها مياه غياض وآجام فتتّسع. يقال: غاض الماء: أي غار.
2- . الماء المستنقع: المجتمع.
3- . مجمع البيان: 245/4.
4- . تفسير الدر المنثور: 331/2.

الظاهر أنّ الميزان هو ما يتولّد في البحر ويتّخذ لحياته من المواد الموجودة فيه فهو بحري، وصيده صيد البحر، وما ينشأ في البر ويستمد لبقائه من المواد الموجودة في البر فهو برّيّ ، وعلى ذلك فالطيور المائية من صيد البرّ؛ لأنّها تبيض وتفرّخ حوالي الماء لا فيه وتعيش في البر أكثر من البحر.

قوله: (مَتاعاً لَكُمْ ) : أي تمتيعاً لانتفاعكم (وَ لِلسَّيّارَةِ ) : أي المسافرين يتزوّدون من السمك طرياً وقديداً.

وحاصل الآية: أنّ اللّه سبحانه أحلّ الاصطياد من البحر والأكل من طعامه المتّخذ من حيوانه سواء أصاده الإنسان أو شخص آخر، وسواء أكنتم حلّالاً أو محرمين، واللّه سبحانه أحلّ صيد البحر لتمتّع الإنسان المقيم والمسافر. وفي مقابل هذا ذكر صيد البر وقال: (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فهنا عناوين ثلاثة:

1. (لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) .

2. (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) .

3. (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ) .

فالأوّلان حرام للمحرم، بخلاف الثالث.

قوله تعالى: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) تأكيد على حفظ ما حرّم اللّه سبحانه من الصيد وغيره فإنّكم ستحشرون إليه يوم القيامة ويحاسبكم.

ص: 492

أحكام الحج

9. الأُمور الأربعة التي جُعلت قياماً للناس

الآيتان: الأُولى والثانية

اشارة

قال سبحانه: (جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ * اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ وَ أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(1)

المفردات

الكعبة: الكعب في اللغة هو النتوء في الشيء، ومن مصاديقه الانبوبة الناتئة من القصب، وما نتأ من العظام كما في المفصل، وما نتأ وارتفع من الأعضاء كالثدي، وربما يستعمل في الشرف والمجد المعنوي. والبناء المرتفع ظاهراً وباطناً كالكعبة والغرفة.(2)

ص: 493


1- . المائدة: 97-98.
2- . التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 78/10.

وأُطلق (الكعبة) على البناء الذي بناه إبراهيم لارتفاعه، وسُمّيت الكعبة كعبة لتربيعها، وإنّما قيل للمربع: كعبة لنتوء زواياه الأربع.(1)

قياماً: قال الراغب: أي قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، وقال في قوله: (دِيناً قِيَماً) : أي ثابتاً مقوّماً لمعاشهم ومعادهم.(2) وعلى هذا فيكون معادلاً ل «سناداً» وعماداً لحياة الناس.

الشهر الحرام: الأشهر الحرم الأربعة، واحد فرد (كرجب) وثلاثة سُرد، (ذوالقعدة، وذو الحجّة، والمحرّم).

الهدي: مختص بما يهدى إلى البيت الحرام.

القلائد: أُريد به ذوات القلائد من الهدي، وهي الأنعام التي كانوا يقلّدونها بشيء إذا ساقوها هدياً وخصّها سبحانه بالذكر لعظم شأنها.

التفسير

كون الكعبة قياماً للناس

إنّه سبحانه أشار في الآية إلى تكريم البيت وما يمتّ له بصلّة، وعرّف الكعبة، بكونها قواماً للناس، فدلّ ذلك على أنّ تحريم الصيد في الحرم وعلى المحرم لأجل تكريم البيت وتعظيمه، ولولاه لما تعرّض سبحانه لحكم الوحوش في بقعة خاصّة.

قوله تعالى: (جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ

ص: 494


1- . مجمع البيان: 494/3.
2- . المفردات: 417، مادة «قوم».

وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلائِدَ) فقد أخبر سبحانه أنّه جعل الأُمور الأربعة قياماً للناس تقوم بها حياتهم وهي:

1. الكعبة وصفها بالبيت الحرام.

2. الشهر الحرام.

3. الهدي.

4. القلائد، يقلّد بها البعير غالباً.

فالجميع يُعدّ قياماً للناس أي قواماً لمعاشهم وحياتهم.

وعلى هذا فالبيت الحرام بدل من الكعبة، والشهر الحرام والهدي والقلائد كلّها عطف على الكعبة، ومعنى الآية أنّ اللّه سبحانه: «جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس» وهي الكعبة المعبّر عنها بالبيت الحرام، والشهر الحرام، وهي الشهور الأربعة، والهدي أي الحيوان المُهدى إلى البيت، والقلائد وهو الهدي المقلّد بشيء يدلّ على أنّه أُهدي إلى الكعبة.

ثمّ إنّه يقع الكلام كيف يمكن عدّ هذه الأُمور الأربعة قياماً للناس ؟

أمّا كون الكعبة قياماً للناس، فإن أُريد به بعض الناس أي القاطنين منها، فيكون إشارة إلى أنّها قوام المعيشة؛ لأنّ مكة بلدة ميّتة لا ضرع فيها ولا زرع، وقلّما يوجد فيها ما يحتاجون إليه. فاللّه تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب فيسافرون إليها من كلّ فج عميق ويأتون بكلّ ما يحتاج إليه الناس، وإليه سبحانه يشير بقوله: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) (1) هذا كلّه إن7.

ص: 495


1- . العنكبوت: 67.

أُريد بالناس مَن يسكن مكّة وما حولها.

وأمّا إذا أُريد به عامّة الناس - أي المسلمون كلّهم - فتكون الكعبة قياماً للناس بمعنى آخر. فإنّ الحجّ عمل اجتماعي وملتقى ثقافي وفي الوقت نفسه مؤتمر سياسي سنوي يجتمع فيه قادة المسلمين فيتشاورون في مهام الأُمور بغية التنسيق والتعاون فيما بينهم ويشير إلى تلك الجوانب الثلاثة بقوله تعالى: (جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ ) .

وأمّا الثاني - أي: الشهر الحرام - فمعنى كونه سبباً لقيام الناس بمعنى أنّه لولا حرمة هذا الشهر هلك الناس واستؤصلوا من الجوع والشدّة والحرب، ففي هذه الأشهر الحرم يزول الخوف من الناس عامّة في زيارة البيت الحرام، فهم آمنون على أنفسهم وأموالهم. وهذا يناسب القول الثاني.

وأمّا الثالث - أعني: الهدي - فلأنّ الناس ينتفعون بذبحه حيث يفرّق الهدي بين الناس.

وأمّا الرابع - أي القلائد - فلأنّ القلادة في عنق الهدي آية أنّه للبيت، فلا يتعرّض له الناس ويصل إلى البيت سالماً، وبه يكون قوام المعيشة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل ذلك أي جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس بقوله: (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) فيقع الكلام في كيفية التعليل حيث علّل جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس، بعلمه سبحانه لما في السماوات وما في الأرض، وعلمه بكلّ شيء. وقال: (ذلِكَ ) أي جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) .

ص: 496

أقول: ويمكن أن يقال: إنّه سبحانه يعلم ما كان عليه العرب في الجزيرة العربية - قبل الإسلام - من الخشونة والغلظة والميل إلى النهب والسلب والأنانية والسيادة، فلو بقيت هذه الأُمور في حياتهم لقطع نسل العرب ولم يبق أحدٌ منهم ولحلّ الخراب في البلاد، فلأجل الحدّ من أنانيّتهم وميولهم العدوانية أمرهم بتكريم الكعبة وما يمّت إليها بصلة كالأشهر الحرم حيث حرّم فيها القتل والتعرّض للغير، كما أمر بتكريم القلائد والهدي اللّتان بواسطتهما يتوفّر الطعام لأهل الحرم، فتشريع هذه الأحكام لأجل أن يسود الأمن والأمان على المجتمع العربي، وهو دليل على سعة علم المشرّع وأنّ مَنْ شرّع هذه الأُمور: (يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) ، فتأمين الناس في قطر من الأقطار وزمن من الأزمان في كلّ سنة دليل على سعة علم المشرّع، حيث حطّ بهذا التشريع من أطماعهم الجشعة، لكي يعيش الناس في هذه المجتمعات عيشة أخوية متحابّين متسالمين.

ثمّ إنّه سبحانه أشار في غير واحدة من الآيات إلى أسرار هذا التشريع، قال سبحانه: (وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1)، وقال سبحانه: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ يَكْفُرُونَ ) .(2)

وقد استجاب اللّه تعالى دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال: (رَبِّ اِجْعَلْ هذا7.

ص: 497


1- . القصص: 57.
2- . العنكبوت: 67.

بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ ) (1) .

كلّ ذلك صار بتدبير من اللّه سبحانه من بناء الكعبة بيد إبراهيم عليه السلام وتشريع الأشهر الحرم وإيجاب الهدي والقلائد، فلو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على سعة علمه سبحانه بأسرار البلاد والعباد.

ثم إنّه سبحانه ختم الآية الأُولى بقوله: (وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) : أي يعلم ما كانت عليه العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام من الخشونة فلأجل الحدّ من غلظتهم، حرّم في هذه الأشهر الحرم كلّ تعرّض للغير. كما أنّه سبحانه ختم الآية الثانية بجملتين:

1. (اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) : أي يجزي كلّ صانع بما صنع.

2. (وَ أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لمَن تاب وأصلح حاله.

ثمّ إنّه سبحانه قدّم العقاب على الغفران والرحمة، يقول الرازي في سبب تقديم (شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) على الغفران والرحمة: لمّا ذكر اللّه تعالى أنواع رحمته بعباده، ذكر بعده أنّه شديد العقاب، لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّابالرجاء والخوف كما قال الإمام علي عليه السلام: «ولو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» ثم ذكر عقيبه ما يدلّ على الرحمة وكونه غفوراً رحيماً، وذلك يدلّ على أنّ جانب الرحمة أغلب.(2)

والأولى أن يقال: إنّ الكلام فيما سبق من الآيات إنّما هو موجّه للعصاة دون المطيعين، فناسب أن يبتدئ كلامه بذكر العقاب وشدّته، ثمّ يتبعه بذكر الغفران2.

ص: 498


1- . البقرة: 126.
2- . تفسير الرازي: 102/12.

والرحمة كما هو أُسلوب القرآن - غالباً - في المقابلة. ولا دلالة في خصوص الآية على كون رحمته أغلب. نعم ورد في بعض الأدعية: «يا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ ».(1)).

ص: 499


1- . الصحيفة السجادية الكاملة: 345، دعاؤه في موقف عرفة (أبطحي).

أحكام الحج

10. تكريم شعائر اللّه والشهر الحرام

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) .(1)

المفردات

شعائر: جمع شعيرة بمعنى العلامة وسيأتي ما هو المراد منها عند التفسير.

الهَدْي: جمع هديّة، كالجَدْي جمع جديّة. وهو كناية عن كلّ ما يُهدى إلى

ص: 500


1- . المائدة: 2.

الكعبة من الأنعام ويذبح هناك، قال الشاعر:

حلفت بربّ مكّة والمصلّى ***وأعناق الهدي مقلّدات

القلائد: جمع قلادة وهي التي تُشدّ على عنق البعير وغيره، لتكون علامة على أنّه هدية إلى الكعبة.

آمّين: قاصدين.

شنآن: البغض، يقال: رجل شنآن، وامرأة شنآنة، وهي كالضربان والسريان.

البِرّ: بكسر الباء: التوسّع في فعل الخير. قال سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) (1).

والبَرّ - بفتح الباء - مَن يقوم بفعل الخير، وبهذا المعنى قالوا: (إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ ) (2).

التقوى: جعل النفس في وقاية ممّا يُخاف...

الإثم: بمعنى البطء عن السير، ومنه: الناقة الآثمة، ويطلق في القرآن على الذنب الذي يبطئ الإنسان عن تكامله، وقال الراغب: الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب(3)، ويقسم إلى كبائر وصغائر، قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ ) (4).7.

ص: 501


1- . الممتحنة: 8.
2- . الطور: 28.
3- . المفردات للراغب: 10، مادة «إثم».
4- . الشورى: 37.

التفسير

إنّ الآية على رغم اختصارها، تشتمل على أحكام مختلفة وتشريعات كثيرة تناهز عشرة تدور بين الأمر و النهي، وإليك بيانها:

الأوّل: (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ ) : ما هو المراد من شعائر اللّه تعالى ؟ فيه احتمالات:

1. أن يُراد به خصوص البُدن، لقوله سبحانه: (وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ ) (1)، أو يُراد خصوص الصفا والمروة، لقوله سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ ) (2).

يلاحظ عليه: أنّ لفظة «مِنْ » دليل على أنّ الموردين من شعائر اللّه لا أنّها منحصرة بهما.

2. أن يُراد بها المعنى الأعمّ فيشمل أرض منى وعرفات والمشعر الحرام، ويشهد على ذلك ما ورد في سورة الحجّ حيث إنّه تعالى بعد أنّ عدّد أعمال الحجّ قال: (وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ ) .(3)

3. أن يراد بها: جميع معالم دين اللّه، والبُدن والقلائد والهدي والصفا والمروة، من مصاديقه، فكلّ حكم من أحكامه سبحانه يُعدّ من علائم دين الإسلام، يجب تعظيمه، أو يستحب استحباباً مؤكّداً وجهان، فالقرآن المجيد، والمساجد الشريفة والكتب الروائية التي اشتملت على أحاديث الرسول

ص: 502


1- . الحج: 36.
2- . البقرة: 158.
3- . الحج: 32.

الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم وصفاته، ومراقد أهل بيته الطاهرين، كلّها من شعائر دين اللّه، يجب تعظيمها، ولو قلنا بالاستحباب المؤكد، يحرم تخريبها وهتك حرمتها، وإهانتها.

ولذلك يحرم تنجيس المساجد وتجب إزالة النجاسة عنها، وكذا يحرم تخريب مراقد الأنبياء وأئمّة أهل البيت عليهم السلام وجعلها معرضاً للإهانة.

الثاني: (وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ ) : أي لا تحلّوا الشهر الحرام، وهي الشهور الأربعة أعني: المحرّم ورجب وذا القعدة وذا الحجة.

ولا يختصّ بالأخيرين الموصوفين بالحرام، حيث يقال: ذو القعدة الحرام، وذو الحجّة الحرام، لأنّ الشهر اسم جنس يفيد العموم، فيراد به تحليل الحرب في بعض هذه الشهور، بتجويز القتال فيه، كما سيوافيك تفصيله في قوله سبحانه: (إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اَللّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اَللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ ) (1).

الثالث: (وَ لاَ اَلْهَدْيَ ) : أي لا تحلّوا الهدي الذي يُهدى إلى بيت اللّه من الأنعام، وإحلاله المنع من بلوغه إلى محلّه بالسرقة والذبح وغير ذلك.

الرابع: (وَ لاَ اَلْقَلائِدَ) : أي ولا تحلّوا الهدي الذي في عنقه من القلائد، كنعل ونحوه الذي يُعلم أنّه هدي للحج، والنهي عن القلائد كناية عن النهي عن ذوات القلائد، والنهي عنه تخصيص بعد تعميم، لأنّ ذات القلائد من مصاديق الهدي.

الخامس: (وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ ) : أي القاصدين زيارة البيت الحرام، فلا7.

ص: 503


1- . التوبة: 37.

تتعرّضوا لأموالهم أو أنفسهم، وأُريد بالبيت الحرام هو مكّة المكرمة.

ثم يصف اللّه سبحانه هؤلاء الآمّين البيت الحرام بقوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً) : أي يأمّون البيت الحرام لإحدى الغايتين: التجارة، وإلى ذلك يشير بقوله: (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ ) ، أو الحجّ ، وإلى ذلك يشير بقوله:

(وَ رِضْواناً) فالحيلولة بينهم وبين الكعبة أمر حرام. وبما أنّ الآية وردت في سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتلك الفقرة تختصّ بغير المشركين، فلا يلزم فيها النسخ، بما ورد في سورة التوبة من قتل المشركين حيثما وُجدوا.

السادس: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) بما أنّه مرّ في الآيات السابقة من تحريم الصيد على المُحرمين، جاءت هذه الآية مبيّنة لحدّ الحرمة وهي أنّكم إذا خرجتم عن إحرامكم بالحجّ والعمرة يجوز لكم الاصطياد، وبما أنّ الأمر ورد بعد النهي، فهو يفيد الترخيص والإباحة، نظير قوله: (فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ ) (1). حيث جاء بعد قوله سبحانه: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ) (2)، وهذه قاعدة كلّية، وهي أنّ الأمر بعد النهي أو بعد توهّمه، لا يفيد الوجوب، بل يشير إلى الإباحة أو رفع الحرمة السابقة، والجواز محدّد بغير الحرام.

السابع: (وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ ) : أي لا يحملنّكم (شَنَآنُ ) بغضاء (قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) : أي الاعتداء عليهم، وهي إشارة إلى منع قريش النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين عن الذهاب إلى مكّة لأداء مناسك العمرة، كما في9.

ص: 504


1- . الجمعة: 10.
2- . الجمعة: 9.

قوله تعالى: (هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) (1).

ومن المعلوم أنّ عمل هؤلاء أوجد بغضاً في قلوب المسلمين، حيث منعوهم من مراسم العمرة، واللّه سبحانه يقول: إنّ ذلك البغض لا يصير سبباً للاعتداء، فلا يحملنّكم بغض هؤلاء على الاعتداء عليهم لأجل أنّهم صدوكم عن المسجد الحرام.

قال الإمام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: «وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً (ضارباً) تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ : إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ ».(2)

وقال عليه السلام في وصيته للحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه): «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، لَاأُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ .

أَلَا لَاتَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي.

انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ : إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ».(3)

فإن قيل: إنّ السورة نزلت بعد فتح مكة، لأنّ سورة «المائدة» هي آخر سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكن يتوقع صدّ من أحد.7.

ص: 505


1- . الفتح: 25.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 52.
3- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.

قلت: الآية تنهى عن الاعتداء على القوم الذين اعتدوا على المسلمين في الأزمنة السابقة، وإن صاروا عُزّلاً غير قادرين على الصدّ، فهي من مظاهر العدل الإسلامي وأنّ المسلم يجب أن ينسى العدوان الذي يقع عليه بعد كون المعتدي ضعيفاً غير قادر على العمل. الثامن: (وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى ) ، يمكن تفسير الفقرة بوجهين:

الأوّل: ما ذكره الطبرسي رحمه الله وقال: أمر اللّه عباده بأن يُعين بعضهم بعضاً على البر والتقوى ، وهو العمل بما أمرهم اللّه تعالى به واتّقاء ما نهاهم عنه.(1)

الثاني: يمكن أن يقال: إنّ المراد من البرّ تحلية النفس بكلّ فعل يستحسن عند الناس، كما أنّ المراد من التقوى تقوية النفس بما يصدّها عن القبيح. وعلى هذا فالفقرة تأمر الناس بأن يساعد بعضهم بعضاً في كلّ عمل من أعمال الخير التي ينتفع بها الناس في دينهم ودنياهم كما تدلّ على أنّ الإنسان يعرف البرّ عن ضدّه، والفعل الحسن عن مخالفه، خلافاً للأشاعرة الذين لا يعترفون بالتحسين والتقبيح العقليّين.

ولذلك نرى أنّ القرآن ربما يشير إلى نقد ما يتصوّر أنّه برّ ويقول: (وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .(2)

والآية بصدد نقد ما كانوا عليه في الجاهلية حيث إنّهم يأتون البيوت من ظهورها إذا كانوا محرمين بالحج، ويتصوّرون أنّه من البر. فقوله: (وَ تَعاوَنُوا عَلَى9.

ص: 506


1- . مجمع البيان: 155/2.
2- . البقرة: 189.

اَلْبِرِّ) تشير إلى أمر اجتماعي لو كان المسلمون قائمون به عبر التاريخ لصار الوضع أفضل من ذلك. وعلى هذا فما تقوم به جمعيات البر والإحسان في مختلف بلدان العالم لأجل إيواء من لا بيت له وتأمين حوائج الأيتام والمعوّقين وغير ذلك كلّها من مصاديق التعاون على البر.

التاسع: (وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ ) نهاهم سبحانه أن يُعين بعضهم بعضاً على الإثم، كبيع العنب ممّن يعمل خمراً، فتكون النتيجة الإعانة على فعل الحرام كما نهاهم عن ارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان، وهو مجاوزة ما حدّ اللّه لعباده في دينهم.(1)

ثمّ إنّ هاتين الفقرتين قاعدتان فقهيتان قد أشبعنا الكلام فيهما في كتابنا:

الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية.(2)

قد عرفت معنى الإثم، الذي يبطئ الإنسان عن الثواب، وأمّا العدوان فهو التجاوز عن حدّ الشرع وما يحكم به العقل، أو ما هو سيرة المسلمين.

العاشر: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ) : أي احذروا المعاصي التي نهيتم عنها، فإنّ اللّه شديد العقاب، فإنّ مصير العاصي هو النار التي لا يطفأ حرّها ولا يخمد جمرها، نستعيذ باللّه منها ومن عذابها.2.

ص: 507


1- . مجمع البيان: 155/2.
2- . لاحظ: الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 79/2-92.

أحكام الحج

11. حكم الصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام وتعظيم حرمات اللّه

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ اَلَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .(1)

المفردات

إنّ الذين كفروا: الموصول - اسم إنّ - مبتدأ حذف خبره، أي خسروا أو هلكوا. قال الطبرسي: الخبر محذوف يدلّ عليه قوله: (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) فالمعنى: إنّ الذين كفروا نذيقهم العذاب الأليم(2)، وقريب منه ما في الكشّاف.(3)

ص: 508


1- . الحجّ : 25.
2- . مجمع البيان: 152/7.
3- . لاحظ تفسير الكشاف: 345/2.

المسجد الحرام: الذي يحتضن البيت الحرام أي الكعبة.

العاكف: المقيم.

الباد: أصله البادي حذفت الياء تبعاً لرسم المصحف (ولعلّ الرسم وفقاً للوقف)، ويراد به القادم إلى مكّة غير مقيم بل طارئاً عليها.

بإلحاد: الإلحاد: الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة.

بظلم: بغير حقّ ، واللفظان (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ) حالان مترادفان.

التفسير

الآية تتضمّن أمرين:

الأوّل: صدّ الناس عن سبيل اللّه والمسجد الحرام عمل الكافر.

الثاني: ذم من مال عن الحقّ وقصد الظلم في ذاك المسجد.

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ) :

أي يمنعون الناس عن اعتناق الإسلام، وعطف المضارع (يَصُدُّونَ ) على الماضي (كَفَرُوا) لأجل أنّ المراد من المضارع هو الإخبار عن الاستمرار في العمل من غير فرق بين الماضي والحال والاستقبال. (وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) : أي يمنعون الناس عن دخول المسجد الحرام لأجل الطواف والصلاة. (اَلَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ ) وصف للمسجد الحرام فقد جعله للناس كافّة كائناً مَن كان، مكّياً كان أو آفاقيّاً (سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ) : أي المقيم أو الطارئ الوافد عليه، والإخبار عن التسوية دليل لذم عملهم حيث يجعلون ما شرعه اللّه لعامة الناس خاصّاً لأنفسهم، ولعل الآية

ص: 509

نزلت في العهد المكّي، حيث كان المشركون يمنعون مَن أسلم عن دخول المسجد الحرام للنسك والعبادة، كما يحتمل أنّها نزلت في العهد المدني قبل فتح مكّة، حيث كانت القدرة بيد الكافرين فيصدّون الناس عن الإيمان بدين اللّه كما يصدّون مَن أسلم عن إتيان النسك في المسجد الحرام.

وأمّا الثاني: أعني مَن أراد الظلم فيه فقد أشار إليه بقوله: (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

قد تقدّم أنّ الإلحاد هو الميل عن الحقّ - كما في المفردات - والظاهر أنّ الباء في قوله: (بِإِلْحادٍ) زائدة للتأكيد، ومعنى الفقرة: ومن يُرد إلحاداً بظلم أي مائلاً عن الحقّ متلبّساً بظلم، وعلى هذا فالباء في (بِظُلْمٍ ) إشارة إلى التلبّس به، وعلى هذا فاللّه سبحانه يهدّد مَن عدل عن الحقّ وتلبّس بالظلم في المسجد الحرام الذي هو من أفضل المقامات فاللّه سبحانه يعذبه أشدّ العذاب. وفي الكشّاف: ومَن يرد فيه مراداً ما، عادلاً عن القصد ظالماً، نذقه من عذاب أليم.(1)

وقد مرّ في قسم المفردات أنّ اللفظين: (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ) حالان مترادفان.

وأمّا ما هو المراد من العدول عن الحقّ الذي يؤتيه قوله: (بِإِلْحادٍ) فلم ينصّ عليه الذكر الحكيم، فنلجأ إلى ما ورد في الروايات التي نقلها السيوطي في «الدر المنثور»: عن قتادة قال: مَن لجأ إلى الحرم ليشرك به عذّبه اللّه.

وعن مجاهد قال: أن يعبد فيه غير اللّه.

ولكن الأفضل فيه ما روي عن ابن عباس: أن تشتمل من الحرام ما حرّم اللّه2.

ص: 510


1- . تفسير الكشاف: 345/2.

عليك من لسان أو قتل فتظلم مَن لا يظلمك، وتقتل مَن لا يقتلك، فمَن فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم.(1)

هذا، وقد جاء في «نهج البلاغة» من كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام إلى قُثَم بن العباس (رحمهما اللّه) وهو عامله على مكّة: ومُرْ أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً.(2)

والظاهر أنّ ما ورد في الروايات هو بعض المصاديق، والمراد هو التعريف بمكانة المسجد الحرام وأنّه يجب أن يكون منزّهاً عن كلّ إلحاد وميل إلى الظلم من غير فرق بين ظلم وظلم.

ولعلّ المراد من النهي عن الأُجرة هو أخذ الأُجرة على النزول في أرض مكّة لا النزول على الدار الذي بناه المقيم على أرضها، وقد جرت السيرة على نزول الحجّاج على أرض مكّة وضرب الخيام عليها.

وفي الفقه الرضوي: فمَن همّ لمعصية (أي في مكّة) ولم يعملها كتب عليه سيئة لقوله تعالى: (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) وليس ذلك في بلد غيره.(3)

الآية: الثانية

اشارة

قال سبحانه: (ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ

ص: 511


1- . انظر: تفسر الدر المنثور: 27/6.
2- . تفسير نور الثقلين: 480/3.
3- . جامع أحاديث الشيعة: 93/1.

وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) .(1)

المفردات

ذلك: اسم إشارة يقع للفصل بين كلامين أو لوجه من كلام واحد وأُريد به هنا: الأمر هكذا، كما في قوله تعالى: (هذا وَ إِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) (2). وعلى هذا فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف، كما قلنا: الأمر هكذا، أو الأمر ذلك.

حرمات: جمع حُرمة وهي ما يجب احترامه ويحرم انتهاكه.

الرجس: الخبث والقذارة، وهو تارة محسوس كما في النجاسات، وأُخرى معنوي كما في الأوثان.

الزور: الكذب، وسيوافيك الكلام في تخصيص تفسيره به في المقام.

التفسير

لمّا فرغ سبحانه عن بيان مناسك الحجّ شرع ببيان ما يجب على الحاج بل على كلّ مؤمن من أُمور:

1. تعظيم حرمات اللّه، قال: (وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) ويحتمل أن يراد ما ذكر من مناسك الحجّ في الآيات المتقدّمة. وربما يقال:

الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام،

ص: 512


1- . الحجّ : 30.
2- . ص: 55.

والمحرم حتى يحل(1)، ولا دليل له.

وهناك احتمال ثالث أنّ المراد رعاية الحدود فيما أحلّ اللّه وحرّمه بشهادة قوله: (وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) وكأنّ قوله: (وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ ) مقدّمة للفقرة الثانية، أي تحليل حلاله وتحريم حرامه، الوارد في قوله: (وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ ) ، وفي ذلك يكون ردّاً لما قام به عبدة الأصنام من تحريم البحيرة والسائبة وغير ذلك، وتحليل ما حرّم اللّه من أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك، وقد حكى اللّه سبحانه عن أهل الجاهلية أنّهم حرّموا الأنعام المذكورة في قوله تعالى: (ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2) كما أنّهم أحلّوا قسماً من المحرّمات، أعني: ما أشار إليه سبحانه بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) .(3)

تخصيص أمرين مهمّين بالذكر

ثمّ إنّه سبحانه يخصّ بالذكر (بعد الأمر بتعظيم حرمات اللّه وحرمة انتهاكها) أمرين، وهما الأمر الثاني والثالث من الأُمور التي أوعزنا إليها في صدر البحث:

2. (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ ) ذكر أهل الأدب أنّ (مَنْ ) في قوله: (مِنَ اَلْأَوْثانِ ) بيانية، أي الرجس الذي هو الأوثان، وهل المراد من اجتنابها هو

ص: 513


1- . لاحظ: تفسير الكشاف: 346/2.
2- . المائدة: 103.
3- . المائدة: 3.

الاجتناب عن عبادتها، أو المراد الاجتناب عن ذكر أسمائها لدى النحر والذبح ؟ الظاهر هو الأخير بحكم سياق الآيات، وفي وصف الأوثان بالرجس إشارة إلى الرجس المعنوي لا الرجس الحسّي، فكأنّ انكباب المشركين عليها والتمسّح والاستشفاء بها جعلها أمراً منفوراً مرغوباً عنه كحال كلّ رجس حسّي.

3. (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) وهو المائل عن الحقّ .

وفسّر في الروايات بالكلام الباطل والغناء.(1) والظاهر أنّه تفسير بالمصداق الخفي. والمراد كلّ شيء مائل عن الحقّ فيشمل الكذب والغيبة والشتم والفحشاء، وفي بعض الروايات قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «عدلت شهادة الزور بالشرك باللّه» ثم قرأ: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) .(2) والذي يناسب سياق الآية هو الكلام الذي يخرج الإنسان من الإيمان إلى الكفر بشهادة قوله تعالى في الآية التالية: (حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) (3) وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد قول الجاهلية في تلبيتهم:

لبيك لا شريك لك، إلّاشريك هو لك، تملكه وما ملك.(4)

ثمّ إنّ مؤلّفي آيات الأحكام درسوا عدداً من الآيات التي ترجع إلى حياة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حول بناء البيت ورفع قوائمه، إلى غير ذلك من الآيات التي لها صلة بالحج ولكنّها لا تتضمّن حكماً فقهياً شرعياً حتى تقع في إطار الموضوع6.

ص: 514


1- . لاحظ: تفسير نور الثقلين: 495/3.
2- . تفسير نور الثقلين: 496/3.
3- . الحج: 31.
4- . تفسير الدر المنثور: 45/6.

الذي أُلّف لأجله الكتاب، ولذلك فنحن تركناها لهذا السبب. وهكذا الكلام في سائر الأبواب والكتب فنقتصر بتفسير الآيات التي تقع ذريعة للاستنباط.

***

تمّت دراسة الآيات المتعلّقة بأحكام الحجّ

وبه يتمّ الجزء الأوّل من كتاب:

«ألطاف الرحمن في فقه القرآن»

ويليه بعونه تعالى الجزء الثاني

مبتدئاً بأحكام الجهاد

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 515

ص: 516

فهرس المحتويات

تقديم: القرآن الكريم الحجر الأساس للتشريع... 7

1. التشريع تدريجياً... 7

2. الاقتصار على الأحكام الكلّيّة... 8

3. مرونة التشريع... 8

تمهيد... 9

كم هو عدد آيات الأحكام ؟... 10

تحديد عدد الآيات غير مفيد... 11

1. الذمّي الّذي نقض حكم الذمّة... 11

2. موضوعات خفيّت عن المؤلّفين... 13

1. البدعة... 14

2. الإسراف والتبذير... 14

3. التكفير... 14

4. التعزير... 15

اختلاف المناهج في تفسير آيات الأحكام... 15

ص: 517

الكتب المشهورة المؤلّفة في آيات الأحكام عند الفريقين... 16

الفصل الأوّل

أحكام الطهارة في الذكر الحكيم

1. آية الوضوء والغسل والتيمّم في الذكر الحكيم... 21

المفردات... 21

كيفية الوضوء في الكتاب العزيز... 23

بيان إعراب «الأرجل» على رأي الإمامية... 31

قراءة النصب ورأي أهل السنّة... 32

قراءة الجر ورأي أهل السنّة... 35

دراسة كلام صاحب المنار... 38

مسح الأرجل في أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 39

ما هو المراد من الكعب ؟... 43

حكم غير المتمكّن من الماء... 44

الأوّل: ما هو المراد من الصعيد؟... 45

الثاني: حدّ الملامسة... 47

الثالث: حكم المريض والمسافر... 48

فتوى شاذّة لصاحب المنار وأُستاذه... 49

الرابع: كيفية التيمّم... 51

الخامس: الغاية من الوضوء... 53

السادس: سبب الاختلاف في حكم الأرجل... 53

الأوّل: الاختلاف في القراءة... 54

ص: 518

الثاني: النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يغسل رجليه قبل نزول الآية... 55

الثالث: إشاعة الغسل من قبل السلطة... 55

2. آية التيمّم... 57

المفردات... 57

تفسير قوله: (إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) ... 60

حكم الطوائف الأربع... 61

كيفية التيمّم... 62

عليٌّ إمام المتقين... 63

عليّ ربيب بيت النبوة... 63

عدم مفارقة عليّ رسول اللّه منذ صباه إلى رحيله... 64

تحريم الخمر في عامة الشرائع... 66

رواية مجعولة للحطّ من مقام الوصيّ ... 67

3. أحكام الحائض في الذكر الحكيم... 70

الآية الأُولى... 70

المفردات... 70

التفسير... 72

الآية الثانية... 74

جواز إتيان النساء بالنقاء عن الدم وعدمه... 77

الأوّل: ما يدلّ على الجواز مطلقاً... 79

الصنف الثاني: ما يدلّ على المنع... 80

الصنف الثالث: ما يدلّ على تقييد الجواز بغسل الموضع... 81

ص: 519

4. حكم المشرك في الذكر الحكيم... 83

المفردات... 83

التفسير... 84

الأوّل: في أصناف الكافرين... 84

الأمر الثاني: في نجاسة المشرك وطهارته... 85

الثالث: القول بالنجاسة الجعلية الاعتبارية... 88

عرض الآراء على مفاد الآية... 90

الاحتجاج بالروايات... 93

المنع في الآية مختصّ بالمسجد الحرام... 94

خوف المسلمين الجُدَد من أمرين:... 95

5. حكم الخمر تكليفاً ووضعاً في الذكر الحكيم... 97

المفردات... 97

التفسير... 100

نجاسة الخمر... 101

ما يدلّ على النجاسة... 104

ما يدلّ على الطهارة... 106

حكم الكحول الرائجة في الطبابة... 111

الفصل الثاني

أحكام الصلاة في الذكر الحكيم

1. أوقات الصلاة في الذكر الحكيم... 115

لزوم الاهتمام بالصلاة في أوقاتها... 115

ص: 520

مواقيت الصلوات في الذكر الحكيم... 117

الآية الأُولى... 117

المفردات... 117

التفسير... 119

الآية الثانية... 120

المفردات... 121

التفسير... 121

الآية الثالثة... 122

الآية الرابعة... 124

الآية الخامسة... 126

مواقيت الصلوات في الروايات... 127

الأوّل: زوال الشمس وقت الظهرين وغيبوبتها وقت العشائين... 127

الصنف الثاني: القامة والقامتان آخر وقتي الظهر والعصر... 128

الصنف الثالث: الذراع والذراعان أوّل وقتي الظهر والعصر... 128

الصنف الرابع: القدمان وأربع أقدام أوّل وقتي الظهر والعصر... 129

الصنف الخامس: القدمان وأربع أقدام آخر وقتي الظهر والعصر... 129

رفع التعارض بين الأصناف الخمسة... 131

الجمع بين الصلاتين... 134

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة... 134

2. الجمع بين الصلاتين في السفر... 134

3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر... 135

ص: 521

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً... 135

2. استقبال الكعبة في الذكر الحكيم... 137

الآية الأُولى... 137

المفردات... 138

التفسير... 138

الإخبار الغيبي عن نقاش اليهود في المستقبل... 139

الآية الثانية... 140

المفردات... 141

التفسير... 141

ما هو السرّ لجعل بيت المقدس قبلة ؟... 141

الآية الثالثة... 144

المفردات... 144

التفسير... 145

الآية الرابعة... 147

الآية الخامسة... 148

التفسير... 149

ما هو الواجب في الاستقبال ؟... 150

كلام المحقّق الأردبيلي في كفاية الجهة... 150

كفاية استقبال الجهة عند صاحب المدارك... 151

تأييد صاحب الحدائق كفاية الجهة... 152

نظرية صاحب الجواهر... 155

ص: 522

الصف الطويل وكون القبلة عين الكعبة... 157

مختارنا... 159

3. صلاة المسافر في الذكر الحكيم... 160

تفسير مفردات الآية... 162

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة... 167

4. صلاة الخوف في الذكر الحكيم... 172

الآية الأُولى... 172

المفردات... 172

التفسير... 173

صلاة الخوف ثنائيّة في السفر والحضر... 177

الآية الثانية... 177

ذكر اللّه بعد إقامة الصلاة... 178

5. صلاة المطاردة في الذكر الحكيم... 179

المفردات... 179

التفسير... 179

6. صلاة الجمعة في الذكر الحكيم... 182

الآية الأُولى... 182

المفردات... 182

التفسير... 184

الآية الثانية... 184

المفردات... 185

ص: 523

التفسير... 185

الآية الثالثة... 186

المفردات... 186

التفسير... 187

وقت صلاة الجمعة بدءاً ونهاية... 187

آخر وقت صلاة الجمعة... 189

كيفية صلاة الجمعة... 191

فلسفة كون الخطبتين قبل الصلاة... 192

حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة... 192

الأوّل: القول بالتحريم... 193

أدلّة القائلين بشرطية الإمام المعصوم... 196

1. دعاء الإمام السجّاد عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة... 196

2. كان زرارة تاركاً لصلاة الجمعة... 198

3. إذن الإمام لترك صلاة الجمعة في يوم اجتمع فيه عيدان... 200

4. قولهم: لنا الجمعة... 201

5. الاستدلال بروايات ضعاف... 201

الثاني: القول بالتخيير... 205

المقام الأوّل: دراسة القول على ضوء القواعد الأوّلية... 206

المقام الثاني: دراسة القول حسب الأدلة الاجتهادية... 208

الاستدلال على الوجوب التخييري بالاستبعادات... 211

القول الثالث: الوجوب التعييني في عصري الحضور والغيبة... 216

ص: 524

الاستدلال بالروايات... 219

الطائفة الأُولى: ما يذكر مَن تجب عليه صلاة الجمعة من دون أن يذكر حضور الإمام... 220

الطائفة الثانية: ما يدلّ على البعث على الإقامة مع عدم كون المقيم هو المعصوم... 224

الطائفة الثالثة: ما يركّز على الوجوب عند العدد المخصوص... 227

الطائفة الرابعة: ما ورد في أنّ الخطيب ليس هو الإمام الأصل... 229

بقيت هنا أسئلة نطرحها على طاولة البحث... 231

فرع: تعدّد الجمعة في أقلّ من فرسخ... 244

7. الجهر والمخافتة في الصلاة... 246

المفردات... 246

التفسير... 247

8. التسليم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد... 250

المفردات... 250

الآية دالّة على أنّ النبيّ حيّ ... 252

الصلاة على النبيّ عند ذكر اسمه... 253

الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا لم يذكر الآل فيها... 255

ما ذا يراد من الآل ؟... 257

9. الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن... 258

المفردات... 258

التفسير... 259

ص: 525

اختصاص السكوت بحال الصلاة عند قراءة الإمام... 260

10. سجود التلاوة... 263

الآية الأُولى... 263

الآية الثانية... 263

الآية الثالثة... 263

الآية الرابعة... 264

حكم سجود التلاوة... 264

عدم جواز قراءة إحدى سور العزائم في الفريضة... 266

الفصل الثالث

أحكام الصيام في الذكر الحكيم

1. الصيام فريضة مكتوبة في عامّة الشرائع... 269

الآية الأُولى... 269

المفردات... 269

التفسير... 270

تشريع الصوم في أيام معدودة... 270

2. الإفطار عزيمة على المريض والمسافر... 274

الآية الثانية... 274

المفردات... 274

التفسير... 275

الموضع الأوّل: هل الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة ؟... 278

الأوّل: ترتّب الوجوب على العنوانين... 279

ص: 526

الثاني: التقابل بين الجملتين... 280

الثالث: ذكر المريض والمسافر في سياق واحد... 281

الرابع: الواجب من أوّل الأمر هو صيام أيام أُخر... 281

تقدير «فأفطر» لتطبيق الآية على المذهب... 282

الموضع الثاني: هل إفطار المطيق عزيمة أو رخصة ؟... 283

الروايات تؤيّد أنّ الإفطار عزيمة... 287

3. نزول القرآن في شهر رمضان وحكم المريض و المسافر... 289

الآية الثالثة... 289

المفردات... 289

التفسير... 290

الأمر الأوّل: تحديد أيام الصيام في شهر رمضان... 290

الأمر الثاني: نزول القرآن في شهر رمضان... 291

الإجابة عن سؤال آخر... 293

الأمر الثالث: اشتمال القرآن على البيّنات والفرقان... 294

الأمر الرابع: مَن شهد الشهر فعليه الصوم... 295

الأمر الخامس: المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيام أُخر... 295

الأمر السادس: تعلّق إرادة اللّه في حقّ المكلّفين على اليسر دون العسر... 295

سؤال وإجابة... 296

الأمر السابع: أمره سبحانه بإكمال العدّة والتكبير... 297

الآثار البنّاءة للصوم... 298

الآثار الاجتماعية للصوم... 298

ص: 527

4 و 5 و 6. الرفث وزمان الصوم ومباشرة النساء في الاعتكاف... 300

الآية الرابعة... 300

المفردات... 301

التفسير... 304

4. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان... 305

5. حدّ الصوم زماناً... 308

6. حرمة مباشرة النساء في الاعتكاف... 309

الفصل الرابع

أحكام الزكاة في الذكر الحكيم

أحكام الزكاة... 313

المنابع المالية للحكومة الإسلامية... 313

1. الأنفال... 314

2. الزكاة... 314

3. الغنائم المأخوذة من أهل الحرب قهراً بالقتال... 314

4. الخمس... 314

5. زكاة الفطرة... 315

6. الخراج والمقاسمة... 315

7. الجزية... 315

8. ضرائب أُخرى... 315

9. المظالم... 316

10. الكفّارات... 316

ص: 528

11. اللقطة... 316

12. الأوقاف والوصايا العامة والنذور العامّة... 316

13. الضحايا... 316

14. توظيف الأموال في المجالات الاقتصادية الكبرى... 316

1. وجوب إخراج الزكاة من المال... 318

الآية الأُولى... 318

المفردات... 319

التفسير... 319

المحور الأوّل: الإيمان والعقيدة... 320

المحور الثاني: خدمة المجتمع الإيماني... 321

المحور الثالث: القيام بالفرائض الشرعية... 322

المحور الرابع: الالتزام بالأخلاق الفاضلة... 322

2. حرمة اكتناز العملة قبل إخراج زكاتها... 324

الآية الثانية... 324

المفردات... 324

التفسير... 325

وصف عمل الأحبار والرهبان... 325

تحريم اكتناز الذهب والفضة على المسلم والكتابي... 326

نزاع بين عثمان وأُبيّ في كتابة الواو... 327

3. وجوب أخذ الزكاة على النبيّ وعلى مَن يقوم مقامه... 332

الآية الثالثة... 332

ص: 529

المفردات... 332

التفسير... 332

جواز الصلاة على المؤمن مفرداً... 335

قبول التوبة بيد اللّه... 337

4. مصارف الزكاة... 341

الآية الرابعة... 341

المفردات... 341

التفسير... 342

بحوث حول الزكاة... 346

5. إخراج الطيّب من الأموال للزكاة... 350

الآية الخامسة... 350

المفردات... 350

التفسير... 351

6. قصد التقرّب إلى اللّه في إعطاء الزكاة... 354

الآية السادسة... 354

التفسير... 354

7. أيّهما أفضل: الإبداء بالصدقات أو إخفاؤها؟ في الإخفاء تكفير لبعض السيّئات... 357

الآية السابعة... 357

التفسير... 357

8. ما هو اللازم في الإنفاق ؟... 360

ص: 530

الآية الثامنة... 360

المفردات... 360

التفسير... 361

9. المنع عن إتباع الإنفاق بالمنّ والأذى... 362

الآية التاسعة... 362

المفردات... 362

التفسير... 363

الفصل الخامس

أحكام الخمس في الذكر الحكيم

1. ما هو المراد من الأنفال ؟... 368

الآية الأُولى... 368

المفردات... 368

التفسير... 369

ما هو المراد من الأنفال ؟... 370

2. في الأسرى وأخذ الفدية... 372

الآيتان: الثانية والثالثة... 372

المفردات... 372

التفسير... 373

3. الخمس في الغنائم... 375

الآية الرابعة... 375

المفردات... 375

ص: 531

التفسير... 376

الأمر الأوّل: ما هو المراد من الغنيمة في الآية ؟... 379

أوّلاً: الغنيمة في معاجم اللغة... 379

ثانياً: الغنيمة في الكتاب والسنّة... 380

ورود الخمس في أرباح المكاسب في الحديث النبوي... 382

الأمر الثاني: في قسمة الخمس... 384

الأمر الثالث: إسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 386

الأمر الرابع: تخصيص خمس الغنائم للنبي وآله ليس تفرقة عنصرية... 388

الأمر الخامس: ما هو المقصود من تحليل الخمس ؟... 389

القسم الأوّل: تحليل خمس الغنائم... 390

القسم الثاني: تحليل الخمس لمَن ضاق عليه معاشه... 391

القسم الثالث: تحليل ما ينتقل إلى الشيعة من غير المخمس... 391

القسم الرابع: تحليل الأنفال... 392

الأمر السادس... 393

4. أحكام الأنفال والفيء في الذكر الحكيم... 395

الآيتان: الأُولى والثانية... 395

المفردات... 395

التفسير... 396

الآيتان: الثالثة والرابعة... 398

المفردات... 399

التفسير... 400

ص: 532

الآيتان: الخامسة والسادسة... 402

المفردات... 403

التفسير... 404

أوصاف الأنصار... 405

الفصل السادس

فريضة الحجّ في الذكر الحكيم

تمهيد: الحجّ لغة واصطلاحاً... 409

الحجّ من أركان الدين... 410

1. في وجوب الحجّ على المستطيع فوراً... 413

الآية الأُولى... 413

المفردات... 413

التفسير... 414

الآية الثانية... 416

المفردات... 416

التفسير... 416

الاستطاعة الشرعية شرط الوجوب... 418

وجوب الحجّ مرّة واحدة في العمر... 420

الآية الثالثة... 421

المفردات... 421

التفسير... 421

2. أقسام الحج وحجّ التمتع باقٍ على تشريعه... 423

ص: 533

أعمال العمرة والحجّ في حجّ التمتّع... 425

أعمال حجّ الإفراد والقران... 426

ميقات عمرة المفرد والقارن... 430

ميقات العمرة المفردة... 431

الفرق بين العمرتين (المفردة وعمرة التمتّع)... 431

3. أعمال العمرة في الذكر الحكيم... 432

تفسير الاتمام بإفراد العمرة عن الحجّ إنكار لحجّ التمتّع... 433

المفردات... 435

تمهيد... 437

التفسير... 438

4. أعمال الحجّ ... 443

الآية الأُولى... 443

المفردات... 444

التفسير... 444

الآية الثانية... 446

الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام... 447

الآية الثالثة... 448

من أعمال منى الرمي وذكر اللّه في أيام معدودات... 448

التخيير في النفر بين الثاني عشر والثالث عشر... 451

الآية الرابعة... 452

المفردات... 452

ص: 534

التفسير... 452

من أعمال منى : الهدي والذبيحة وإطعام البائس والفقير... 452

نسخ ما عليه المشركون عند الذبح والنحر... 453

الآية الخامسة... 454

المفردات... 454

التفسير... 454

1. القضاء على التفث... 454

2. لزوم الوفاء بالنذور... 455

الآيتان: السادسة والسابعة... 455

المفردات... 456

التفسير... 456

آداب ذبح البُدن وتقسيم لحمها إلى ثلاثة أقسام... 456

إبطال عادات الجاهلية... 457

الآية: الثامنة... 458

المفردات... 458

التفسير... 460

الذهاب إلى مكّة لأداء فرائضها... 460

5. لزوم ذكر اللّه بدل التفاخر بالآباء في منى ... 465

الآيات: الأُولى والثانية و الثالثة... 465

المفردات... 465

التفسير... 466

ص: 535

إبطال سنّة الجاهلية: التفاخر بالآباء... 466

تقسيم الحجيج إلى نوعين... 467

6. حكم المُحْصَر والمصدود... 469

المفردات... 469

التفسير... 470

1. إتمام الحجّ والعمرة وإكمالهما... 470

2. كيفية خروج المحصر عن الإحرام... 471

3. لا يتحلّل قبل الذبح... 471

4. حكم المريض ومَن برأسه أذى... 472

5. التمتع بالعمرة إلى الحج... 472

6. حكم الفاقد للهدي... 473

7. التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي... 473

7. زمان الحجّ وتحريم أُمور ثلاثة... 475

المفردات... 475

التفسير... 476

8. الابتلاء بالصيد قتلاً واصطياداً وأحكامه... 478

الآية الأُولى... 478

المفردات... 478

التفسير... 479

الابتلاء سنّة من سنن اللّه في عباده... 479

ما هي الغاية من ابتلاء العباد؟... 481

ص: 536

ما هو المراد من الخوف بالغيب ؟... 482

الآية الثانية... 483

المفردات... 484

التفسير... 484

حرمة قتل الصيد وكفّارته... 484

حرمة الإعانة على الاصطياد... 489

الآية الثالثة... 490

المفردات... 490

التفسير... 491

9. الأُمور الأربعة التي جُعلت قياماً للناس... 493

الآيتان: الأُولى والثانية... 493

المفردات... 493

التفسير... 494

كون الكعبة قياماً للناس... 494

10. تكريم شعائر اللّه والشهر الحرام... 500

المفردات... 500

التفسير... 502

11. حكم الصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام وتعظيم حرمات اللّه... 508

الآية الأُولى... 508

المفردات... 508

التفسير... 509

ص: 537

الآية الثانية... 511

المفردات... 512

التفسير... 512

تخصيص أمرين مهمّين بالذكر... 513

فهرس المحتويات... 517

ص: 538

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.