المعجم فی فقه لغه القرآن و سر بلاغته المجلد 17

اشارة

عنوان و نام پديدآور : المعجم فی فقه لغه القرآن و سر بلاغته / اعداد قسم القرآن لمجمع البحوث الاسلامیه ؛ بارشاد و اشراف محمد واعظ زاده الخراسانی .

مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی ‫، 1419ق . ‫ = -1377.

مشخصات ظاهری : ‫ج.

فروست : الموسوعة القرآنیة الکبری.

شابک : ‫دوره ‫ 964-444-179-6 : ؛ ‫دوره ‫ 978-964-444-179-0: ؛ ‫1430000 ریال (دوره، چاپ دوم)‮ ؛ ‫25000 ریال ‫: ج. 1 ‫ 964-444-180-X : ؛ ‫30000 ریال ‫: ج. 2 ‫ 964-444-256-3 : ؛ ‫32000 ریال ‫: ج. 3 ‫ 964-444-371-3 : ؛ ‫67000 ریال (ج. 10) ؛ ‫ج.12 ‫ 978-964-971-136-2 : ؛ ‫ج.19 ‫ 978-600-06-0028-0 : ؛ ‫ج.21 ‫ 978-964-971-484-4 : ؛ ‫ج.28 ‫978-964-971-991-7 : ؛ ‫ج.30 ‫ 978-600-06-0059-4 : ؛ ‫1280000 ریال ‫: ج.36 ‫ 978-600-06-0267-3 : ؛ ‫950000 ریال ‫: ج.37 ‫ 978-600-06-0309-0 : ؛ ‫1050000 ریال ‫: ج.39 ‫ 978-600-06-0444-8 : ؛ ‫1000000 ریال ‫: ج.40 ‫ 978-600-06-0479-0 : ؛ ‫ج.41 ‫ 978-600-06-0496-7 : ؛ ‫ج.43 ‫ 978-600-06-0562-9 :

يادداشت : عربی .

يادداشت : جلد سی و ششم تا چهلم باشراف جعفر سبحانی است.

يادداشت : جلد سی و ششم با تنقیح ناصر النجفی است.

يادداشت : جلد سی و هفتم تا چهل و سوم با تنقیح علیرضا غفرانی و ناصر النجفی است.

يادداشت : مولفان جلد چهل و یکم ناصر نجفی، محمدحسن مومن زاده، سیدعبدالحمید عظیمی، سیدحسین رضویان، علی رضا غفرانی، محمدرضا نوری، ابوالقاسم حسن پور، سیدرضا سیادت، محمد مروی ...

يادداشت : ج . 2 (چاپ اول : 1420ق . = 1378).

يادداشت : ج . 3 (چاپ اول: 1421ق . = 1379).

يادداشت : ج.3 (چاپ دوم: 1429ق. = 1387).

يادداشت : ج. 10 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).

يادداشت : ج.21 (چاپ اول: 1441ق.=1399) (فیپا).

يادداشت : ج.36 (چاپ دوم : 1440ق.=1398)(فیپا).

يادداشت : ج.37 (چاپ اول : 1440ق.=1397)(فیپا).

يادداشت : ج.39 (چاپ اول: 1441ق.=1399) ( فیپا).

يادداشت : ج.40 - 41(چاپ اول: 1442ق.= 1399) (فیپا).

يادداشت : جلد دوازدهم تا پانزدهم این کتاب در سال 1398 تجدید چاپ شده است.

يادداشت : ج.19 و 28 و 30 ( چاپ دوم: 1442ق = 1400 ) (فیپا).

يادداشت : ج.21 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.38 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.30 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.29 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.12 (چاپ چهارم: 1399).

يادداشت : ج.32 (چاپ دوم: 1399).

مندرجات : ج.3. ال و - ا ن س

موضوع : قرآن -- واژه نامه ها

Qur'an -- Dictionaries

موضوع : قرآن -- دایره المعارف ها

Qur'an -- Encyclopedias

شناسه افزوده : واعظ زاده خراسانی ، محمدِ، ‫1385-1304.

شناسه افزوده : سبحانی تبریزی ، جعفر، ‫ 1308 -

شناسه افزوده : Sobhani Tabrizi, Jafar

شناسه افزوده : نجفی ، ناصر، ‫1322 -

شناسه افزوده : غفرانی، علیرضا

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی. گروه قرآن

شناسه افزوده : بنیاد پژوهش های اسلامی

رده بندی کنگره : ‫ BP66/4 ‫ ‮ /م57 1377

رده بندی دیویی : ‫ 297/13

شماره کتابشناسی ملی : 582410

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فیپا

ص: 1

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الموسوعة القرآنيّة الكبرى

المعجم فى فقه لغة القرآن و سرّ بلاغته

المجلّد السابع عشر

تأليف و تحقيق

قسم القرآن بمجمع البحوث الاسلاميّة

بإشراف مدير القسم الاستاذ محمّد واعظ زاده الخراسانىّ

ص: 2

المؤلّفون

الأستاذ محمّد واعظ زاده الخراسانيّ

ناصر النّجفيّ

قاسم النّوريّ

محمّد حسن مؤمن زاده

حسين خاك شور

السيّد عبد الحميد عظيمي

السيّد جواد سيّدي

السيّد حسين رضويان

علي رضا غفراني

محمّد رضا نوري

السيّد علي صبّاغ دارابي

أبو القاسم حسن پور

و قد فوّض عرض الآيات و ضبطها إلى أبي الحسن الملكيّ و مقابلة النّصوص

إلى خضر فيض اللّه و عبد الكريم الرّحيميّ و تنضيد الحروف إلى المؤلّفين

ص: 3

كتاب نخبة

مؤتمر تكريم خدمة القرآن الكريم في ميدان الأدب المصنّف.1421 ق

الكتاب النّخبة في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.1422 ق

مؤتمر الكتاب المنتخب الثّالث للحوزة العلميّة في قم.1422 ق

الدّورة الثّانية لانتخاب و عرض الكتب و المقالات الممتازة في حقل القرآن.1426 ق

الملتقى الثّاني للكتاب النّخبة الّذي يعقد كلّ سنتين في محافظة خراسان الرّضويّة.1426 ق

ص: 4

المحتويات

تصدير 7

خ ل ف 9

خ ل ق 285

خ ل ل 687

خ ل و 743

خ م د 785

خ م ر 795

الأعلام المنقول عنهم بلا واسطة و أسماء كتبهم 907

الأعلام المنقول عنهم بالواسطة 915

ص: 5

ص: 6

تصدير

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصّلاة و السّلام على خير خلقه و أفضل بريّته سيّدنا و نبيّنا محمّد المصطفى خاتم النّبيّين،و على آله الطّاهرين و صحبه المنتجبين،و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.

و بعد،فنشكر اللّه عزّ اسمه و عمّت رحمته على أن وفّقنا لتقديم المجلّد السّابع عشر من موسوعتنا القرآنيّة الكبرى:«المعجم في فقه لغة القرآن و سرّ بلاغته»،و إهدائه إلى روّاد العلوم القرآنيّة الرّاغبين في معرفة كتاب ربّهم بمعرفة فقه لغته،و أسرار بلاغته، و رموز إعجازه،و طرائف تفسيره،و فنون معارفه،و الّذين يتابعون بشوق بالغ مجلّدا بعد مجلّد،و مفردة بعد مفردة،سواء القاطنون في بلدنا هذه،أو في البلاد الإسلاميّة الأخرى الّذين يشعروننا برغبتهم هذه كتابة و مشافهة،مشكورين.

و قد حوى هذا المجلّد ستّ موادّ قرآنيّة من حرف الخاء،ابتداء ب«خلف» و انتهاء ب«خمر».و كان أوسع موادّها نصّا،و بحثا،و تنقيبا،و تحقيقا،و دراسة،مادّة «خلق»فقد استوعبت 402 صفحة منه.و هي أطول الموادّ الّتي مرّت علينا إلى الآن في هذا المعجم الكبير،و هذا العدد الجمّ يعكس اهتمام القرآن بأمر«الخلق»الدّالّ على وجود الخالق،و علمه،و قدرته،و رحمته،و سائر صفاته العليا و أفعاله الكبرى.و نحن نعلم أنّ أهمّ مرامي هذا الكتاب الكريم معرفة اللّه تعالى،و أنّ خلقه أقوى و أوضح

ص: 7

عامل لعرفانه،و أكثر آيات«الخلق»-إن لم تكن جميعها-تهدف إلى هذا المرمىّ العظيم.

و تلي«الخلق»مادّة«الخلف»الّتي شملت 275 صفحة.هذا مع أنّا لخّصنا كثيرا من نصوص هاتين المفردتين،و اكتفينا بذكر منابعها حذرا من التّطويل.

نسأله تعالى دوام التّوفيق و التّسديد،و نتوكّل عليه أوّلا و آخرا،و الحمد للّه ربّ العالمين.

محمّد واعظزاده الخراسانيّ

مدير قسم القرآن بمجمع البحوث الإسلاميّة

في الآستانة الرضويّة المقدّسة

25 ذي الحجّة الحرام 1430 ه ق

ص: 8

تتمة حرف الخاء

خ ل ف

اشارة

52 لفظا،127 مرّة:77 مكّيّة،50 مدنيّة

في 40 سورة:29 مكّيّة،11 مدنيّة

خلف 2:1-1 خلفة 1:1

خلفتمونى 1:1 اخلفوا 1:-1

يخلفون 1:1 اخلفتم 1:1

اخلفنى 1:1 اخلفتكم 1:1

الخالفين 1:-1 اخلفنا 1:1

الخوالف 2:-2 يخلف 6:2-4

خليفة 2:1-1 يخلفه 1:1

خلائف 4:4 تخلف 1:-1

خلفاء 3:3 نخلفه 1:1

خلف 2:1-1 تخلفه 1:1

خلفه 4:3-1 مخلف 1:1

خلفهم 12:7-5 خلّفوا 1:-1

خلفها 1:-1 المخلّفون 3:-3

خلفك 1:1 للمخلّفين 1:-1

خلفكم 1:-1 يخالفون 1:-1

خلفنا 1:1 اخالفكم 1:1

خلاف 5:3-2 مختلفون 1:1

خلافك 1:-1 مختلفين 1:1

اختلف 4:2-2 اختلاف 6:4-2

اختلفوا 11:5-6 اختلافا 1:-1

اختلفتم 2:1-1 يتخلّفوا 1:-1

اختلف 2:2 استخلف 1:-1

يختلفون 10:9-1 يستخلف 2:2

تختلفون 6:3-3 ليستخلفنّهم 1:-1

مختلف 4:4 يستخلفكم 1:1

مختلفا 4:3-1 مستخلفين 1:-1

ص: 9

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الخلف:حدّ الفأس،تقول:فأس ذات خلفين،و ذات خلف؛و جمعه:خلوف،و كذلك المنقار الّذي يقطع به الحجر.

و الخلف:أصغر ضلع يلي البطن؛و جمعه:خلوف، و هو القصيرى.

و الخلف من الأطباء:المؤخّر،و القادم:هو المقدّم.

و يقال:الخلف:الضّرع نفسه،و القادمان و الآخران:

المتقدّمان و المتأخّران؛و الجميع:الأخلاف.

و خلوف فم الصّائم:نكهته في غبّه.

و خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:مخالفته في القرآن.

و رجل خالف و خالفة،أي يخالف،ذو خلاف، و خلفة.و اختلفت اختلافة واحدة.

و الخلاف بمنزلة«بعد»،و منه قوله تعالى:

لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ الإسراء:76،أي بعدك،و يقرأ:

(خلفك) .

و الخلاف:شجر؛و الواحدة:خلافة.و يقال:جاء الماء ببزره فنبت مخالفا لأصله،فسمّي خلافا.

و الخلف:الخليفة بمنزلة مال يذهب فيخلف اللّه خلفا،و والد يموت فيكون ابنه خلفا له،أي خليفة فيقوم مقامه.

و الخلف:القرن من النّاس؛و يجمع على خلوف.

و الخلف:خلف سوء بعد أبيه.

و الخلف:من الصّالحين،و لا يجوز أن يقال:من الأشرار خلف،و لا من الأخيار خلف.

و في الحديث:«في الصّالحين كلّ خلف عدوله».

قال الضّرير:يقول:يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله،يعني من كلّ قوم يحمله العدول من كلّ خلف من النّاس.

و الخلف:مصدر قولك:أخلفت وعدي،و أخلف ظنّي.

و لحم خالف:به رويحة،و لا بأس بمضغه،و قد خلف يخلف.و منه اشتقّ خلوف الفم،يقال:خلف ريح فمه،أي تغيّر.

و قوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ التّوبة:87،يعني النّساء.

و الخلف:قوم يذهبون من الحيّ يستقون و خلّفوا أثقالهم.يقال:أبيناهم و هم خلوف،أي غيّب.

و يقال:بعثنا فلانا يخلف لنا،أي يستقي،فهو مخلف.

و الخلفة و الإخلاف:الاستقاء،يقال:من أين خلفتكم؟

و يقال للقطا:مخلفات،لأنّها تستخلف لأولادها الماء و تخلف.

و المخلاف:الكورة،بلغة أهل اليمن،و مخاليفها:

كورها.

و الخليفة:من استخلف مكان من قبله،و يقوم مقامه.و الجنّ كانت عمّار الدّنيا،فجعل اللّه آدم و ذرّيّته خليفة منهم،يعمرونها؛و ذلك قوله عزّ اسمه:

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30،و قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ الأنعام:

165،أي مستخلفين في الأرض.

ص: 10

و الخالفة:الأمّة الباقية بعد السّالفة.

و المخلف:الغلام إذا راهق الحلم.

و خلف فلان بعقب فلان،إذا خالفه إلى أهله.

و خلفك اللّه بأحسن الخلافة،و فلان يخلف فلانا في عياله بخلافة حسنة

و إذا تمّت للإبل بعد البزول سنة قيل:مخلف عام، و مخلف عامين،و مخلف ثلاثة أعوام،فإذا جاوز ذلك أخذ في الانتقاص.

و المتوشّح يخالف بين طرفي ثوبه.

و الخلفة:ما أنبت الصّيف من العشب بعد ما يبس من الرّبعيّ،و منه سمّي زرع الحبوب:خلفة،لأنّه يستخلف من البرّ و الشّعير.

و الخلفة:مصدر الاختلاف،و منه قوله تعالى:

جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ الفرقان:62.

يقول:إن فاته أمر بالنّهار من العبادة تداركه باللّيل،و إن فاته باللّيل تداركه بالنّهار.

و الخليفان من الإبل كالإبطين من النّاس.

و الخلفة من النّوق:الحامل،و الخلفات جماعة، فإذا جمعت الخلفات قلت لهنّ:مخاض إلى مطلع سهيل،ثمّ قيل لهنّ:متلئة،و إتلاؤها:أن تعظم بطونها و تثقل.

و الخليف:فرج بين قنّتين أو بين جبلين،متدان قليل العرض و الطّول،و سدّ القارة و القنّة و نحوهما، و ليس بشعب،لأنّ الشّعب يكون بين الجبال الطّوال، و ليس في الرّمل شعب و لا خليف،و ربّما كثر نبته.

و الخلّيفى على بناء هجّيرى:الخلافة،و مثله جاءت أحرف،نحو:ردّيدى من الرّدّ،و دلّيلى من الدّلالة،و خطّيبى من الخطبة،و حجّيزى من حجزت،و هزّيمى من الهزيمة.

و الخليف:مدافع الأودية،و من الطّريق:أفضلها، لأنّك لا تضلّ فيه،و هو جدد،و إنّما ينتهي المدفع إلى خليف يفضي إلى سعة.

و البوانان هما الخالفتان،و هما عمودا البيت؛ و أحدهما:خالفة.

و رجل خالفة:كثير الخلاف،و قوم خالفون، كقولك:رجل راوية و لحّانة و نسّابة،إذا كان النّعت واحدا،فإذا جمعت قلت:خالفون و راوون.و أدخلت الهاء،لأنّه نعت واجب لازم له،و كذلك المرأة،و هذا في مكان له فعل يفعله.

و إذا كان النّعت فاعلا و لا فعل له كان بغير الهاء، الذّكر و الأنثى سواء،كقولك:رجل رامح و رجل كاس،و امرأة رامح و امرأة كاس،أي معهما رماح و أكسية و نحوه.

و الواجب في نعت النّساء ربّما ألقيت منه الهاء للوجوب.

[و استشهد بالشّعر 7 مرّات](4:265)

اللّيث:الخلف:ضدّ قدّام.(الأزهريّ 7:393)

و الخلف:اسم وضع موضع الإخلاف.

يقال:هو يختلفني في النّصيحة،أي يخلفني.

يقال:فلان من مخلاف كذا و كذا.و هو عند أهل اليمن كالرّستاق؛و الجميع:مخاليف.

(الأزهريّ 7:410،411)

ص: 11

خلف للأشرار خاصّة،و بالتّحريك ضدّه.

(الفيروزآباديّ 3:141)

سيبويه :الخلّيفى:كثرة تشاغله بالخلافة و امتداد أيّامه فيها.(4:41)

خليفة و خلفاء،كسّروه تكسير«فعيل»،لأنّه لا يكون إلاّ للمذكّر،و أمّا«خلائف»فعلى لفظ «خليفة»،و لم يعرف«خليفاء».(ابن سيده 5:197)

الكسائيّ: يقال لكلّ شيئين اختلفا:هما خلفان و خلفتان.و يقال:له ابنان خلفان،و له عبدان خلفان، و له أمتان خلفان،إذا كان أحدهما طويلا و الآخر قصيرا،أو كان أحدهما أبيض و الآخر أسود.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:398)

يقال منه:الخلوف،خلف فمه يخلف خلوفا.

(الأزهريّ 7:401)

الخلف:القرن بعد القرن.(الأزهريّ 7:416)

اليزيديّ: خلف اللّه عليك بخير خلافة.

(الأزهريّ 7:403)

يقال:أخلف اللّه لك.(الأزهريّ 7:405)

يقال:إنّما أنتم في خوالف من الأرضين،أي في أرضين،لا تنبت إلاّ في آخر الأرضين نباتا.

و الأخلف:الأعسر.[ثمّ استشهد بشعر]

(الصّغانيّ 4:467)

مثله أبو زيد.(الأزهريّ 7:414)

ابن شميّل: الخلف يكون في الخير و الشّرّ،و كذلك الخلف.(الأزهريّ 7:416)

الخلف-بجزم اللاّم و إسكانها-في غير القرآن:

السّوء واحد،فأمّا في القرآن:الصّالح،بفتح اللاّم لا غير.[ثمّ استشهد بشعر](الثّعلبيّ 4:299)

أبو عمرو الشّيبانيّ: الخوالف:زوايا المظلّة،كلّ زاوية خالفة.[ثمّ استشهد بشعر](1:219)

الخلفة:الكلأ يؤكل،ثمّ يخرج بعد ما يؤكل، و لم يصبه مطر.

و الخليف:الأرض بين الجبلين،يجيز النّاس منها مقبلين و مدبرين.(1:220)

الخالفة:عمود في وسط كسر البيت،و البوان:

عمود مقدّم الكسر.

خلفت ثوبي،إذا قطعه من وسطه و جمع بين طرفيه،يخلف.

خلفك اللّه في أهلك،يخلف.

و يقال:خلف فوه،إذا تغيّر،و خلف النّبيذ،إذا تغيّر.و أبل و أخلف.(1:222)

و الخلفة من النّصيّ،ما نبت منه أخضر.

ولد فلان رجالا خلوفا؛و الواحد:خالف،إذا لم يكن فيهم خير.

إنّ فيه لخلفة،إذا كان أحمق.(1:224)

قد أخلف الكوكب،إذا استسرّ.(1:227)

الخليف:اللّبن بعد اللّبإ.(1:228)

يوم خليف النّاقة،من الغد،من يوم تنتج،أو الفرس أو المرأة.(1:234)

قال العجلانيّ: الخلف من اللّبن:ما ليس بلبن و لا لبإ.(1:238)

قد خلف فوه،إذا تغيّرت ريحه،و خلف الشّراب،

ص: 12

إذا تغيّر،و خلفه في أهله،و هو خالفة أهل بيته.

و ثوب مخلوف،إذا قطع وسطه و خيط طرفاه.

و الأخلف:الأعسر.

و تقول:أخلف بعيرك،إذا جعل الحقب خلف الثّيل.(1:239)

في الحديث:«خلفة فم الصّائم».أصلها في النّبات أن ينبت الشّيء بعد الشّيء،فاستعير هاهنا،لأنّها رائحة بعد الرّائحة الأولى.(المدينيّ 1:610)

الخلف:الاستقاء.(إصلاح المنطق:12)

الفرّاء: و يقال:إذا مات للرّجل بنيّ صغير قد يبدل:أخلف اللّه لك.و كذلك إذا ذهب له مال قلت:

أخلف اللّه لك.و إذا مات أبو الرّجل أو الأمّ،أو ذهب له ما لا يخلف،قيل:خلف اللّه عليك،بغير ألف.

(الأزهريّ 7:396)

أخلف ولدي،إذا أراد سيفه،و أخلف إلى الكنانة.

(الأزهريّ 7:406)

في الحديث:«يكون بعد ستّين سنة خلف أضاعوا الصّلاة».و أمّا الخلف فما أجد لك بدلا ممّا أخذ منك.

(الهرويّ 2:585)

أبو عبيدة :يقال للصّدق أيضا:خلف صدق.

(الأزهريّ 7:393)

أبو زيد :يقال:له غلامان خلفان،إذا اختلفا، فكان أحدهما طويلا و الآخر قصيرا،أو كان أحدهما أسود و الآخر أبيض،و كلّ شيئين اختلفا فهما خلفان.

(15)

يقال:خوت النّجوم تخوي خيّا،و أخلفت إخلافا، إذا أمحلت فلم يكن بها مطر،فذلك الخيّ[بالخاء] و الإخلاف.[ثمّ استشهد بشعر](ابن السّكّيت:25)

يقال:اختلف فلان صاحبه في أهله اختلافا؛ و الاسم:الخلفة،و ذلك أن يباصره حتّى إذا غاب عن أهله جاء فدخل عليهم،فتلك الخلفة.

(ابن دريد 2:238)

الخالف:الفاسد الأحمق،و قد خلف يخلف خلافة.

و يقال:جاء فلان خلافي و خلفي،و هما واحد.

خلف الشّراب و اللّبن يخلف خلوفا،إذا حمض ثمّ أطيل إنقاعه ففسد.(القاليّ 1:159)

يقال خلفت نفسه عن الطّعام تخلف خلوفا،إذا أضربت عنه من مرض...لا يقال ذلك إلاّ من المرض.

(القاليّ 1:159)

خالفة البيت:تحت الأطناب في الكسر،و هى الخصاصة أيضا،و هي الفرجة.

و جمع الخالفة:خوالف،و هي الزّوايا.

(الأزهريّ 7:415)

و يقال:القوم خلفة،أي مختلفون.[ثمّ استشهد بشعر](الجوهريّ 4:1355)

يقال:أخلف اللّه تعالى مالك،و أخلف عليك بخير، و خلف عليك مالك.(المدينيّ 1:609)

الأخفش: رجي فلان فأخلف.

(الأزهريّ 7:407)

هما[الخلف و الخلف]سواء،منهم من يحرّك، و منهم من يسكّن فيهما جميعا إذا أضاف.و منهم من

ص: 13

يقول:خلف صدق بالتّحريك،و يسكّن الآخر،و يريد بذلك الفرق بينهما.[ثمّ استشهد بشعر]

(الجوهريّ 4:1354)

الأصمعيّ: خلف فلان عن خلق أبيه،إذا تغيّر، و خلف فوه يخلف خلوفا،إذا تغيّرت رائحته.

خلّف خلف صدق بإسكان اللاّم،إذا ترك عقبا.

الخلف:الرّديء من الكلام المحال.

الخلفة:الاستقاء،يقال:من أين خلفتكم؟أي من أين تستقون.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:نتاج فلان خلفة،أي عام ذكر و عام أنثى، و الخلفة:الشّيء من الثّمر يخرج بعد الشّيء.

الخليف:الطّريق في الجبل.

حيّ خلوف،أي غيّب و خلوف حضور.

و الإخلاف:أن تعيد على النّاقة فلا تلقح.

و الإخلاف:أن تعد الرّجل عدة فلا تنجزها.

و الإخلاف:أن تضرب يدك إلى قراب السّيف لتأخذه.

و الإخلاف:أن تجعل الحقب وراء الثّيل.و الثّيل:

وعاء مقلمه و هو قضيبه،يقال:أخلف عن بعيرك.

(القاليّ 1:159،160)

الخلفة من البطن،يقال:به خلفة،أي به بطن،و هو الاختلاف.(الأزهريّ 7:400)

يقال:خلف فلان عن كلّ خير،فهو يخلف خلوفا،إذا فسد و لم يفلح،فهو خالف و هي خالفة.

و يقال:خلفت نفسه عن الطّعام فهي تخلف خلوفا،إذا أضربت عن الطّعام من مرض.

(الأزهريّ 7:401)

يقال:«خلف اللّه عليك بخير»إذا أدخلت الباء ألقيت الألف،و«أخلف اللّه عليك خيرا».

و يقال:أخلف اللّه لك،أي أبدل اللّه لك ما ذهب.

و خلف اللّه عليك،أي كان اللّه خليفة والدك عليك.

و الإخلاف:أن يكون في الشّجر ثمر،فيذهب،ثمّ تعود فيه خلفة،فيقال:قد أخلف الشّجر،فهو يخلف إخلافا.(الأزهريّ 7:405)

أخلف بيده إلى سيفه.

و أخلفت الأرض،إذا أصابها برد آخر الصّيف، فيخضرّ بعض شجرها.(الأزهريّ 7:406)

يقال:فرس به شكال من خلاف،إذا كان في يده اليمنى و رجله اليسرى بياض.(الأزهريّ 7:408)

يقال:خلف فلان على فلانة خلافة،إذا تزوّجها بعد زوج.(الأزهريّ 7:413)

الخلف في البعير:أن يكون مائلا في شقّ.يقال منه:

بعير أخلف.(الأزهريّ 7:415)

يقال:أخلفت عن البعير؛و ذلك إذا أصاب حقبه ثيله فيحقب،أي يحتبس بوله،فتحوّل الحقب فتجعله ممّا يلي خصيي البعير،و لا يقال ذلك في النّاقة،لأنّ بولها من حيائها،و لا يبلغ الحقب الحياء.

(الجوهريّ 4:1357)

يقال:خلف اللّه تعالى لك بخير،و أخلف عليك خيرا.إذا أسقطت الباء أثبتّ الألف.

و يقال:أخلف اللّه تعالى لك،أي أبدلك ما ذهب منك.(المدينيّ 1:609)

اللّحيانيّ: عبد خالف،أي لا خير فيه.

ص: 14

يقال:نوم الضّحى مخلفة للفم.

الخلف:الولد الصّالح،و الخلف:الرّديء،يقال:

بقيت في خلف سوء أي في بقيّة سوء.قال اللّه عزّ و جلّ:

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم:59.[ثمّ استشهد بشعر]

و الخلف:الرّديء من الكلام المحال.

(القاليّ 1:159)

المخلفة:الطّريق أيضا،يقال:عليك المخلفة الوسطى.(القاليّ 1:160)

خلف فلان فلانا في أهله و في مكانه يخلف خلافة حسنة؛و لذلك قيل:أوصى له بالخلافة.

(الأزهريّ 7:403)

الخليف:الطّريق خلف الجبل،أو الطّريق بين الجبلين.(الأزهريّ 7:404)

[الخالفة:عمود]تكون الخالفة في آخر البيت.

(الأزهريّ 7:409)

هذا رجل خالف،إذا اعتزل أهله.

و المخلفة:الطّريق.يقال:عليك المخلفة الوسطى.

(الأزهريّ 7:410)

الخلف:في الظّلف،و الخفّ.و الطّبي:في الحافر و الظّفر.(الأزهريّ 7:415)

بقينا في خلف سوء،أي في بقيّة سوء،و بذلك فسّر قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم:59،أي بقيّة.(ابن سيده 5:198)

سررت بمقعدي خلاف أصحابي،أي مخالفهم، و خلف أصحابي،أي بعدهم.(ابن سيده 5:199)

ذهب المستخلفون يستقون،أي المتقدّمون.

(ابن سيده 5:200)

هذا رجل خلفناة،و امرأة خلفناة،و كذلك الاثنان و الجمع.

يقال لكلّ شيئين اختلفا:هما خلفان.

(ابن سيده 5:201)

خلف الطّعام و الفم،و ما أشبههما،يخلف خلوفا، إذا تغيّر.

الخالفة:العمود الّذي يكون قدّام البيت.

إنّما يقال:أخلف الحقب،أي نحّه عن الثّيل و حاذ به الحقب،لأنّه يقال:حقب بول الجمل،أي احتبس،يعني أنّ الحقب وقع على مباله.

(ابن سيده 5:203)

الإخلاف:ألاّ يفي بالعهد.

و خلفت النّاقة خلفا:حملت.(ابن سيده 5:204)

الخالفة:النّاس،فأدخل عليه الألف و اللاّم.

و فرس ذو شكال من خلاف.(ابن سيده 5:206)

أبو عبيد: في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم«...و لخلوف فم الصّائم عند اللّه جلّ ثناؤه أطيب من ريح المسك».

قوله:في الخلوف،فإنّه تغيّر طعم الفم لتأخير الطّعام.

و منه حديث عليّ رضى اللّه عنه حين سئل عن القبلة للصّائم،فقال:«و ما أربك إلى خلوف فيها»؟

(1:195)

[في أسماء الإبل في دية قتل شبه العمد:]

...ثلاث و ثلاثون حقّة،و ثلاث و ثلاثون جذعة،

ص: 15

و أربع و ثلاثون ما بين ثنيّة إلى بازل عامها كلّها خلفة،و الأنثى ثنيّة.[إلى أن قال:]

فلا يزال بازلا حتّى تمضي[النّاقة]التّاسعة،فإذا مضت و دخل في العاشرة فهو حينئذ مخلف.ثمّ ليس له اسم بعد الإخلاف،و لكن يقال له:بازل عام و بازل عامين،و مخلف عام و مخلف عامين،إلى ما زاد على ذلك.(1:410)

...الخلّيفى و هي الخلافة،و إيّاها أراد عمر بقوله:

«لو أطيق الأذان مع الخلّيفى لأذّنت».(2:65)

الخلف بكسر الخاء:الاستقاء،و المستخلف:

المستقي؛و الخلف:الاسم منه.يقال:أخلف،و استخلف [ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:395)

في باب الأضداد،قال غير واحد:

الخلوف:الغيب،و يقال:الحيّ خلوف،أي غيب.

و الخلوف:المتخلّفون.[ثمّ استشهد بشعر]

(الأزهريّ 7:400)

قال الأصمعيّ: خلف فلان بعقبي؛و ذلك إذا ما فارقه على أمر،ثمّ جاء من ورائه،فجعل شيئا آخر بعد فراقه.

أبو عمرو:خلفت القميص أخلفه فهو خليف؛ و ذلك أن يبلى وسطه فتخرج البالي منه ثمّ تلفقه.

(الأزهريّ 7:403)

الخليف من الجسد:ما تحت الإبط.

(الأزهريّ 7:404)

الخالفة:عمود من أعمدة الخباء؛و جمعها:

خوالف.(الأزهريّ 7:409)

الخلف:حلمة ضرع النّاقة(الأزهريّ 7:415)

و بعير أخلف بيّن الخلف،إذا كان مائلا إلى شقّ.

(الجوهريّ 4:1354)

الخلفة:ما نبت في الصّيف.(الجوهريّ 4:1355)

ابن الأعرابيّ: يقال:أبيعك العبد و أبرأ إليك من خلفته،و رجل ذو خلفة،و رجل خالفة و خالف و خلفنة و خلفناة،و فيه خلفناة.(القاليّ 1:159)

الخلف:المربد.و الخلف:الظّهر.

(الأزهريّ 7:397)

الخلوف:العبد اللّجوج،و الخلوف:الحيّ إذا خرج الرّجال و بقي النّساء،و الخلوف،إذا كان الرّجال و النّساء في الدّار،مجتمعين في الحيّ.و هذا من الأضداد.

و الخالفة:اللّجوج من الرّجال.

(الأزهريّ 7:402)

امرأة خليف،إذا كان عهدها بعد الولادة بيوم أو يومين.(الأزهريّ 7:404)

الخلاف:كمّ القميص.يقال:اجعله في متى (1)خلافك،أي في وسط كمّك.و الخلاف:الصّفصاف، و الخلاف:الخلف.(الأزهريّ 7:409)

الخالفة:القاعدة من النّساء في الدّار.

(الأزهريّ 7:410)

الخلفة:وقت بعد وقت.(الأزهريّ 7:415)

المخاليف من الإبل:الّتي رعت البقل،و لم ترع6)

ص: 16


1- في اللّسان«...في متن خلافك...».و هو الظّاهر.(9:96)

اليبيس،فلم يغن عنها رعيها الخضرة شيئا.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:417)

كان أعرابيّ مع قوم فحبق حبقة فتشوّر،فأشار بإبهامه نحو استه،و قال:إنّها خلف نطقت خلفا.

(الجوهريّ 4:1354)

الخلف بالفتح:الصّالح،و بالجزم:الطّالح.[ثمّ استشهد بشعر](الثّعلبيّ 4:299)

أخلفت القوم:حملت إليهم الماء العذب،و هم في ربيع ليس معهم ماء عذب،أو يكونون على ماء ملح.

و لا يكون«الإخلاف»إلاّ في الرّبيع،و هو في غيره مستعار منه.

و الخلاف:المضادّة،و قد خالفه مخالفة و خلافا، و في المثل:«إنّما أنت خلاف الضّبع الرّاكب»،أي تخالف خلاف الضّبع،لأنّ الضّبع إذا رأت الرّاكب هربت منه.(ابن سيده 5:200)

إذا استبان حملها[النّاقة]فهي خلفة حتّى تعشر.

(ابن سيده 5:204)

أبو نصر الباهليّ: الخليف:الطّريق وراء الجبل أو في أصله.(القاليّ 1:160)

ابن السّكّيت: الخالف:الفاسد الّذي ليست له جهة،يقال:خلف ففسد.(189)

إنّه لخالف و خالفة،إذا كان أحمق،و هو خالفة أهل بيته،و إنّه لبيّن الخلفة.و قال:أبيع العبد فأبرأ من خلفته.(193)

المخلف:المستقي،و الخلف:الرّديء من القول.

و يقال في مثل:«سكت ألفا،و نطق خلفا»، للرّجل يطيل الصّمت فإذا تكلّم تكلّم بالخطإ.

و يقال:هذا خلف سوء،و هؤلاء خلف سوء،قال اللّه عزّ و جلّ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم:59.

[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:هذه فأس ذات خلفين،إذا كان له رأسان.

و المستخلف:الّذي يحمل الماء من بعد إلى أهله.

و الخلف بالكسر:واحد الأخلاف،و هي أطراف جلد الضّرع.(إصلاح المنطق:12)

يقال:أخلف الرّجل فهو مخلف،إذا استعذب الماء.و استخلف الرّجل يستخلف.

و يقال:قد أخلفت النّجوم إخلافا،إذا أمحلت فلم يكن فيها مطر،و قد أخلف الرّجل في ميعاده.

و يقال لمن ذهب منه مال أو يستعاض:أخلف اللّه عليك.

و يقال لمن هلك له والد أو عمّ:خلف اللّه عليك،أو كان اللّه عليك خليفة والدك.

و قد خلف فلان فلانا،إذا كان خليفته.

و يقال:خلفته،إذا جئت بعده.

و قد خلف فوه من الصّيام يخلف خلوفا،إذا تغيّر.

و قد خلف فلان،إذا فسد.

و فلان خالف أهل بيته،و خالفة أهل بيته.

و الخلف من القول:الرّديء.

(إصلاح المنطق:270)

ألححت على فلان في الاتّباع حتّى اختلفته،أي جعلته خلفي.(الأزهريّ 7:411)

أبو حاتم: الخلف بسكون اللاّم:الأولاد؛

ص: 17

و الواحد و الجميع فيه سواء.

و الخلف بفتح اللاّم:البدل،ولدا كان أو غريبا.

(الثّعلبيّ 4:299)

شمر:قال أبو الدّقيش:يقال:مضى خلف من النّاس،و جاء خلف لا خير فيه،و خلف صالح.

خفّفهما جميعا.(الأزهريّ 7:416)

الدّينوريّ: الخلفة:أن يأتي الكرم بحصرم جديد.(ابن سيده 5:198)

الخليف من السّهام:الحديد،كالطّرير.[ثمّ استشهد بشعر](ابن سيده 5:204)

المبرّد: يقال:هو خلف فلان،لمن يخلفه من رهطه،و هؤلاء خلف فلان،إذا قاموا مقامه من غير أهله.و قلّما يستعمل خلف إلاّ في الشّرّ،و أصله ما ذكرنا.(2:325)

قولهم:«سكت ألفا و نطق خلفا»أي سكت عن ألف كلمة و نطق بواحدة رديئة.(القاليّ 1:159)

النّاس كلّهم يقولون:خلف صدق و خلف سوء.

و خلف للسّوء لا غير.(الأزهريّ 7:393)

في حديث:«جاء رجل إلى أبي بكر الصّدّيق فقال له:أنت خليفة رسول اللّه؟فقال:لا أنا الخالفة بعده».

أراد القاعد بعده،و الخالفة:الّذي يستخلفه الرّئيس على أهله و ماله ثقة به،و قد خلفه يخلفه خلافة بكسر الخاء،إذا صار خليفة له.

(الهرويّ 2:587)

الزّجّاج: خمّ اللّحم و أخمّ إخماما،أي تغيّرت رائحته.و خلف فم الصّائم و أخلف وعده فهو خالف.(فعلت و أفعلت:13)

جاز أن يقال للأئمّة:خلفاء اللّه في أرضه،بقوله عزّ و جلّ: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ص:

26.

و قد يقال:«خلف»بفتح اللاّم،في الطّلاح، و«خلف»بإسكانها،في الصّلاح.(ابن سيده 5:197)

ابن دريد :[ذكر نحو العين و غيره مع تكرار كثير فلاحظ](2:237)،و(3:437)،و(3:509)

ابن الأنباريّ: إنّما يختلف[الخالفة]في المصدر، فيقال:خلفه يخلفه خلافة،إذا صار خليفة له، و خلافة إذا كان متخلّفا لا خير فيه،ميئوسا من رشده.(الخطّابيّ 2:230)

القاليّ: ...فإذا دخل[النّتاج]في العاشر فهو مخلف،ثمّ ليس له اسم بعد الإخلاف،و لكن يقال:

بازل عام و بازل عامين،و مخلف عام و مخلف عامين.(1:23)

يقال:هو خالفة أهل بيته،إذا كان أحمقهم، و الخالفة:عمود في مؤخّر البيت...

و رجل ذو خلفة،و رجل خالفة و خالف و خلفنة و خلفناة،و فيه خلفناة.

و يقال:خذ هذا خلفا من مالك بتحريك اللاّم، أي بدلا منه،و هو خلف من أبيه،أي بدل منه.

و الخلف:المربد يكون وراء البيت.[ثمّ استشهد بشعر]

الخلفة:النّبت في الصّيف،و الخلفة:اللّيل و النّهار لاختلافهما،و الخلفة:اختلاف البهائم و غيرها،

ص: 18

و يقال:حلب النّاقة خليف لبئها،يعنى الحلبة الّتي بعد ذهاب اللّبإ.

و الخوالف:النّساء إذا غاب عنهنّ أزواجهنّ،قال اللّه عزّ و جلّ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ التّوبة:93.(1:159)

الخلف:ما يقبض عليه الحالب من ضرع الشّاة و البقرة و النّاقة.(1:174)

و ما خالفت درّة جرّة،و ما اختلفت الدّرّة و الجرّة، و اختلافهما أنّ الدّرّة تسفل إلى الرّجلين و الجرّة تعلو إلى الرّأس.(1:238)

الأزهريّ: [له نصوص أكثرها تكرار فلاحظ]

(7:395-416)

الصّاحب:[ذكر نحو من سبقه فلاحظ:]

(4:345)

الخطّابيّ: في حديث النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«...قالوا:لقد علمنا أنّ محمّدا لم يترك أهله خلوفا».قوله:«لم يترك أهله خلوفا»،أي لم يخلفهنّ لا حامي لهنّ و لا رجل معهنّ.

يقال:الحيّ خلوف،إذا خلّفوا أثقالهم و خرجوا في رعي أو سقي أو نحو ذلك.

يقال:أخلف الرّجل،إذا استقى الماء و استخلف مثله.[ثمّ استشهد بشعر](1:105،106)

في حديث سعيد في قصّة أبيه أنّه لمّا خالف دين قومه،قال له الخطّاب بن نفيل:إنّي لأحسبك خالفة بني عديّ،هل ترى أحدا يصنع من قومك ما تصنع؟

يقال:رجل خالفة،أي مخالف،كثير الخلاف،كما قيل:راوية و لحّانة و نسّابة.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:فلان خالفة من الخوالف،إذا كان فاسدا لا خير فيه،و ما أبين الخلافة فيه!أي الجهل.

و قال بعضهم:اشتقاقه من قولهم:لحم خالف، و هو الّذي قد بدا يروح،و منه أخذ خلوف الفم،و هو تغيّر ريحه من صوم أو نحوه.(2:229)

نحوه الزّمخشريّ.(الفائق 1:390)

قوله:«لخلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك».

أصحاب الحديث يقولون:خلوف بفتح الخاء، و إنّما هو خلوف مضمومة الخاء،مصدر خلف فمه يخلف خلوفا،إذا تغيّر.فأمّا الخلوف:فهو الّذي يعد ثمّ يخلف.[ثمّ استشهد بشعر](3:239)

الجوهريّ: [ذكر نحو من سبقه فلاحظ:]

(4:1353).

ابن فارس: الخاء و اللاّم و الفاء أصول ثلاثة:

أحدها:أن يجيء شيء شيئا يقوم مقامه،و الثّاني:

خلاف قدّام،و الثّالث:التّغيّر.

فالأوّل الخلف،و الخلف:ما جاء بعد.و يقولون:

هو خلف صدق من أبيه،و خلف سوء من أبيه.فإذا لم يذكروا صدقا و لا سوء،قالوا للجيّد:خلف، و للرّديء خلف.قال اللّه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم:59.

و الخلّيفى:الخلافة،و إنّما سمّيت خلافة،لأنّ الثّاني يجيء بعد الأوّل قائما مقامه.و تقول:قعدت خلاف فلان،أي بعده.

ص: 19

و الخوالف في قوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ التّوبة:87،هنّ النّساء،لأنّ الرّجال يغيبون في حروبهم و مغاوراتهم و تجاراتهم،و هنّ يخلفنهم في البيوت و المنازل؛و لذلك يقال:الحيّ خلوف،إذا كان الرّجال غيّبا و النّساء مقيمات.

و يقولون في الدّعاء:«خلف اللّه عليك»أي كان اللّه تعالى الخليفة عليك لمن فقدت من أب أو حميم.

و«أخلف اللّه لك»أي عوّضك من الشّيء الذّاهب ما يكون يقوم بعده و يخلفه.

و الخلفة:نبت ينبت بعد الهشيم.و خلفة الشّجر:

ثمر يخرج بعد الثّمر.

و من الباب:الخلف،و هو الاستقاء،لأنّ المستقيين يتخالفان،هذا بعد هذا،و ذاك بعد هذا.

يقال:أخلف،إذا استقي.

و الأصل الآخر:خلف،و هو غير قدّام.يقال:هذا خلفي،و هذا قدّامي،و هذا مشهور.

و من الباب:الخلف،الواحد من أخلاف الضّرع، و سمّي بذلك،لأنّه يكون خلف ما بعده.

و أمّا الثّالث فقولهم:خلف فوه،إذا تغيّر،و أخلف.

و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله:«لخلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك».

و منه الخلاف في الوعد.و خلف الرّجل عن خلق أبيه:تغيّر.

و يقال:الخليف:الثّوب يبلى وسطه فيخرج البالي منه ثمّ يلفق،فيقال:خلفت الثّوب أخلفه.و هذا قياس في هذا و في الباب الأوّل.

و يقال:وعدني فأخلفته،أي وجدته قد أخلفني.

و أمّا قولهم:اختلف النّاس في كذا،و النّاس خلفة، أي مختلفون.فمن الباب الأوّل،لأنّ كلّ واحد منهم ينحّي قول صاحبه،و يقيم نفسه مقام الّذي نحّاه.

و أمّا قولهم للنّاقة الحامل:خلفة،فيجوز أن يكون شاذّا عن الأصل،و يجوز أن يلطف له،فيقال:إنّها تأتي بولد،و الولد خلف.و هو بعيد.و جمع الخلفة:المخاض، و هنّ الحوامل.

و من الشّاذ عن الأصول الثّلاثة:الخليف،و هو الطّريق بين الجبلين.فأمّا الخالفة من عمد البيت،فلعلّه أن يكون في مؤخّر البيت،فهو من باب«الخلف و القدّام».و لذلك يقولون:فلان خالفة أهل بيته،إذا كان غير مقدّم فيهم.

و من باب التّغيّر و الفساد:البعير الأخلف،و هو الّذي يمشي في شقّ،من داء يعتريه.[و استشهد بالشّعر 5 مرّات](2:210)

أبو هلال :الفرق بين الاختلاف و التّفاوت:أنّ التّفاوت كلّه مذموم،و لهذا نفاه اللّه تعالى عن فعله، فقال: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ الملك:

3،و من الاختلاف ما ليس بمذموم،أ لا ترى قوله تعالى: وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ المؤمنون:80، فهذا الضّرب من الاختلاف يكون على سنن واحد، و هو دالّ على علم فاعله.و التّفاوت هو الاختلاف الواقع على غير سنن،و هو دالّ على جهل فاعله.

الفرق بين الاعوجاج و الاختلاف:أنّ الاعوجاج من الاختلاف:ما كان يميل إلى جهة،ثمّ يميل إلى

ص: 20

أخرى.و ما كان في الأرض و الدّين و الطّريقة،فهو عوج مكسور الأوّل،تقول:في الأرض عوج و في الدّين عوج مثله.و العوج بالفتح:ما كان في العود و الحائط و كلّ شيء منصوب.

الفرق بين الاختلاف في المذاهب و الاختلاف في الأجناس:أنّ الاختلاف في المذاهب هو ذهاب أحد الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر،و الاختلاف في الأجناس:امتناع أحد الشّيئين من أن يسدّ مسدّ الآخر.و يجوز أن يقع الاختلاف بين فريقين و كلاهما مبطل،كاختلاف اليهود و النّصارى في المسيح.

الفرق بين المختلف و المتضادّ:أنّ المختلفين اللّذين لا يسدّ أحدهما مسدّ الآخر في الصّفة الّتي يقتضيها جنسه مع الوجود كالسّواد و الحموضة،و المتضادّان هما اللّذان ينتفي أحدهما عند وجود صاحبه،إذا كان وجود هذا على الوجه الّذي يوجد عليه ذلك، كالسّواد و البياض.

فكلّ متضادّ مختلف،و ليس كلّ مختلف متضادّا، كما أنّ كلّ متضادّ ممتنع اجتماعه،و ليس كلّ ممتنع اجتماعه متضادّا،و كلّ مختلف متغاير،و ليس كلّ متغاير مختلفا.

و التّضادّ و الاختلاف قد يكونان في مجاز اللّغة سواء،يقال:زيد ضدّ عمرو،إذا كان مخالفا له.(129)

الفرق بين الخلف و الخلف:أنّه يقال لمن جاء بعد الأوّل:خلف،شرّا كان أو خيرا،و الدّليل على الشّرّ قول لبيد.[ثمّ استشهد بشعره]و على الخير قول حسّان.[ثمّ استشهد بشعره]

و الخلف بالتّحريك:ما أخلف عليك بدلا ممّا أخذ منك.(257)

الهرويّ: في الحديث:«يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف النّاس...»،يعني من كلّ قرن.

و يقال:خلف سوء و خلف صدق.

و يقال:«الحيّ خلوف»،أي خرج الرّجال و بقي النّساء.[إلى أن قال:]

و يقال:ما أبين الخلافة في وجهه!-بفتح الخاء- أي الجهل و الحمق،...

و في الحديث:«أنّ رجلا قال:...فأخلفني عمر فجعلني عن يمينه»أي ردّني إلى خلفه.

و في الحديث:«فلينفض فراشه فإنّه لا يدري ما خلفه عليه».يقول:لعلّ هامّة دبّت،فصارت فيه بعده.

و في حديث جرير:«خير المراعي الأراك،و السّلم، إذا أخلف كان لجينا»يريد:إذا أخرج الخلفة،و هو ورق يخرج بعد الورق الأوّل في الصّيف.

و منه حديث خزيمة السّلميّ فقال:«حتّى آل السّلاميّ و أخلف الخزاميّ»يريد:طلعت من أصولها خلفة بالمطر.يقال:أخلفت الشّجرة،إذا لم تحمل، و أخلف الغرس،إذا لم يعلق.(2:585)

الثّعالبيّ: خلف النّاقة بمنزلة ضرع البقرة و ثدي المرأة.(46)

فإذا كان[ولد النّاقة]في العاشرة فهو مخلف،ثمّ مخلف عام،ثمّ مخلف عامين،فصاعدا.(114)

ص: 21

الخلوف:رائحة فم الصّائم.(139)

الخلفة:أن لا يلبث الطّعام في البطن اللّبث المعتاد، بل يخرج سريعا،و هو بحاله لم يتغيّر مع لذع و وجع و اختلاف صديدي.(145)

أبو سهل الهرويّ: خلف النّاقة بالكسر،هو رأس ضرعها الّذي يخرج منه اللّبن،و هو بمنزلة الحلمة من ثدي المرأة.

و ليس لوعده خلف بالضّمّ،أي إنّه صادق فيما يعد به من الخير و الإحسان.(67)

فلان خلف صدق من أبيه بالتّثقيل،أي بدل منه في صدق أفعاله و أخلاقه المحمودة،و خلف سوء بالتّخفيف،و هو اسم لكلّ رديء مذموم من المستخلفين.[ثمّ استشهد بشعر]

و الخلف بالتّخفيف أيضا:كلّ من يجيء من النّاس بعد،أي بعد قوم هلكوا.(68)

ابن سيده: خلف:نقيض قدّام،مؤنّثة،و هي تكون اسما و ظرفا،فإذا كانت اسما جرت بوجوه الإعراب،و إذا كانت ظرفا لم تزل نصبا على حالها.

و قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ البقرة:255،قال الزّجّاج:(خلفهم):ما قد وقع من أعمالهم،و ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر القيامة،و جميع ما يكون،و قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ يس:45، ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: ما أسلفتم من ذنوبكم، وَ ما خَلْفَكُمْ: ما تعملونه فيما تستقبلون.

و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: ما نزل بالأمم قبلكم من العذاب، وَ ما خَلْفَكُمْ: عذاب الآخرة.[ثمّ أطال نحو من تقدّمه،و استشهد بالشّعر 18 مرّة](5:196)

الخلف:هو من الشّاة و من النّاقة:كالثّدي للإنسان.و قيل:هو طرف الضّرع.(الإفصاح 2:776)

الخلفة:نبات ينبت في دبر القيظ بعد يبس الأرض إذا أحسّ بانكسار الحرّ و برد له اللّيل،فمنه ما يكون ذلك أوّل نباته،و منه ما يكون نباتا في أصول قد ذهبت فروعها فأكلت،و منه ما ينبت و النّبات الأوّل بحاله أخضر،غير أنّه يتجدّد له ورق و أفنان رطبة، كهيئة ما ينبت في أوّل الزّمان.و يقال:استخلف النّبات و أخلف،من الخلفة.(الإفصاح 2:1082)

«خلف اللّه عليك»،يقال لمن هلك له ما لا يعتاض منه كالأب و الأمّ،أي كان اللّه خليفة أبيك و أمّك، و«أخلف اللّه عليك».

و«خلف اللّه لك»،يقال لمن هلك له ما يعتاض منه،أي ردّ عليك مثل ما ذهب منك.

(الإفصاح 2:1291)

الرّاغب: خلف:ضدّ القدّام.[ثمّ ذكر الآيات إلى أن قال:]

و خلف:ضدّ تقدّم و سلف.و المتأخّر لقصور منزلته،يقال له:خلف،و لهذا قيل:الخلف الرّديء، و المتأخّر لا لقصور منزلته،يقال له:خلف،قال تعالى:

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم:59،و قيل:سكت ألفا و نطق خلفا،أي رديئا من الكلام.

و قيل للاست إذا ظهر منه حبقة:خلفة،و لمن فسد كلامه،أو كان فاسدا في نفسه.

ص: 22

يقال:تخلّف فلان فلانا،إذا تأخّر عنه،و إذا جاء خلف آخر،و إذا قام مقامه؛و مصدره:الخلافة بالكسر.

و خلف خلافة بفتح الخاء:فسد،فهو خالف،أي رديء أحمق،و يعبّر عن الرّديء بخلف،نحو: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ مريم:59.

و يقال لمن خلف آخر فسدّ مسدّه:خلف.

و الخلفة يقال:في أن يخلف كلّ واحد الآخر،قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62،و قيل:أمرهم خلفة،أي يأتي بعضه خلف بعض.[ثمّ استشهد بشعر]

و أصابته خلفة:كناية عن البطنة و كثرة المشي.

و خلف فلان فلانا:قام بالأمر عنه،إمّا معه و إمّا بعده،قال تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ الزّخرف:60.

و الخلافة:النّيابة عن الغير:إمّا لغيبة المنوب عنه، و إمّا لموته،و إمّا لعجزه،و إمّا لتشريف المستخلف، و على هذا الوجه الأخير:استخلف اللّه أولياءه في الأرض.و الخلائف:جمع خليفة،و خلفاء:جمع خليف.

[ثمّ ذكر الآيات إلى أن قال:]

و الاختلاف و المخالفة:أن يأخذ كلّ واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله.

و الخلاف أعمّ من الضّدّ،لأنّ كلّ ضدّين مختلفان و ليس كلّ مختلفين ضدّين.و لمّا كان الاختلاف بين النّاس في القول قد يقتضي التّنازع،استعير ذلك للمنازعة و المجادلة.[إلى أن قال:]

و أخلفت فلانا:وجدته مخلفا.

و الإخلاف:أن يسقي واحد بعد آخر.

و أخلف الشّجر،إذا اخضرّ بعد سقوط ورقه.

و أخلف اللّه عليك،يقال:لمن ذهب ماله،أي أعطاك خلفا،و خلف اللّه عليك،أي كان لك منه خليفة.[ثمّ ذكر الآيات إلى أن قال:]

و الخالفة:عمود الخيمة المتأخّر،و يكنّى بها عن المرأة،لتخلّفها عن المرتحلين؛و جمعها:خوالف،قال:

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ التّوبة:87.

و وجدت الحيّ خلوفا،أي تخلّفت نساؤهم عن رجالهم.

و الخلف حدّ الفأس الّذي يكون إلى جهة الخلف، و ما تخلّف من الأضلاع إلى ما يلي البطن.

و الخلاف:شجر كأنّه سمّي بذلك،لأنّه يخلف فيما يظنّ به،أو لأنّه يخلف مخبره منظره.

و يقال للجمل بعد بزوله:مخلف عام و مخلف عامين.(155)

نحوه الفيروزآباديّ.(بصائر ذوي التّمييز 2:561)

الزّمخشريّ: خلفه:جاء بعده خلافة،و خلفه على أهله فأحسن الخلافة.

و مات عنها زوجها فخلف عليها فلان،إذا تزوّجها بعده.

و خلفه بخير أو شرّ:ذكره به من غير حضرته

و خلفه:أخذه من خلفه.

و خلف له بالسّيف:جاءه من خلفه فضرب عنقه به.

ص: 23

و هو خلف صدق من أبيه و خلف سوء.

و أخلف اللّه عليك:عوّضك ممّا ذهب منك خلفا.

و خلف اللّه عليك:كان خليفة من كافلك.

و فلان مخلف متلف و مخلاف متلاف.

و جلست خلاف فلان و خلفه،أي بعده.

و خالف عن أمره فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ النّور:63،و خالفه إلى كذا أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ هود:88.

و لمّا رأى العدوّ أخلف بيده إلى السّيف، أي ضرب بها إليه فاستلّه.

و من أين خلفتكم؟

و من أين تخلفون أو تستخلفون؟أي تستقون.

و غزوهم و الحيّ خلوف،أي رجالهم غيّب ليس منهم إلاّ من يستقي الماء.

و فلان يلبس الخليف،و هو الثّوب يبلى وسطه فيخرج و يلفق طرفاه،و خلفت الثّوب،و أخلف ثوبك،و اَللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62، يخلف أحدهما الآخر.

و أنبت اللّه الخلفة،و هي النّبات بعد النّبات و الثّمر بعد الثّمر.

و أخلف الشّجر.

و أخلف الطّائر:نبت له ريش بعد الرّيش.

و بقيت في الحوض خلفة من ماء:بقيّة بعد ذهاب معظمه.

و علينا خلفة من النّهار:بقيّة منه.

و نتاج فلان خلفة:عامّا ذكور و عاما إناث.

و ولده خلفة:ذكور و إناث.

و أخذته خلفة:اختلاف إلى المتوضّإ.

و رجل مخلوف.

و أخلفني موعده و أخلفت موعده:وجدته مخلفا.

و له خلفة و خلفات:نوق حوامل،و بعير مخلف:

بعد البازل.

و من المجاز:ناقة مخلفة:ظنّ بها حمل ثمّ لم يكن، و نوق مخاليف.

و أخلفت النّجوم و الشّجر:لم تمطر و لم تثمر.

و خلف اللّبن:تغيّر،و معناه:خلف طيّبه تغيّره.

و خلف فوه خلوفا.

و خلف فلان عن خلق أبيه.

و خلف عن كلّ خير:تحوّل و فسد.

و هو خالفة أهل بيته،أي فاسدهم و شرّهم،و ما أدري أيّ خالفة هو.

و درّت لفلان أخلاف الدّنيا.

(أساس البلاغة:119)

في حديث:«ثلاث آيات يقرؤهنّ أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات سمان عظام».الخلفة:

النّاقة الحامل.(الفائق 1:390)

أبو بكر رضى اللّه عنه:«جاءه أعرابيّ فقال:أنت خليفة رسول اللّه؟قال:لا،قال:فما أنت؟قال:أنا الخالفة بعده».

الخالف و الخالفة:الّذي لا غناء عنده و لا خير فيه،

ص: 24

و هو بيّن الخلافة بالفتح.يقال:هو خالفة أهل بيته.

و هو خالفة من الخوالف،و ما أدري أيّ خالفة هو؟ أراد تصغير شأن نفسه و توضيعها.(الفائق 1:391)

[في حديث:]«...فإنّه لا يدري ما خلفه عليه...» خلفه عليه،أي صار بعده فيه،من هامّة أو غيرها،ممّا يؤذي المضطجع.(الفائق 1:420)

[في حديث:]«...خير المرعى الأراك و السّلم،إذا أخلف كان لجينا...».

أخلف:أخرج الخلفة،و هي الورق بعد الورق الأوّل.(الفائق 1:433)

[في حديث:]«كيف أنتم إذا مرج الدّين،و ظهرت الرّغبة،و اختلف الإخوان...»اختلاف الإخوان:أن يختلفوا في الفتن،و يتحزّبوا في الأهواء و البدع،حتّى يتباغضوا،و يتبرّأ بعضهم من بعض.(الفائق 3:358)

المدينيّ: في الحديث:«دع داعي اللّبن،قال:

فتركت أخلافها قائمة».

الأخلاف:جمع خلف،و هو مقبض يد الحالب من الضّرع،و قيل:هو الضّرع نفسه لذي الخفّ و الظّلف، كالظّبي لذي الحافر و السّباع.

في حديث الدّية:«كذا و كذا خلفة»،و هي الحامل من الإبل؛و الجمع:الخلفات.يقال:خلفت،إذا حملت،و أخلفت،إذا حالت فلم تحمل،و هنّ المواخض أيضا.و لا واحد له من لفظه،إنّما واحدته:

خلفة،كالنّساء جمع؛واحدتها:امرأة.

في حديث الدّعاء:«أخلف لي خيرا منه».

و في حديث آخر:«تكفّل اللّه للغازي أن يخلف نفقته».

و في حديث أبي الدّرداء:«أنّه كان يقول في الدّعاء للميّت:اخلفه في عقبه».

و في الحديث:«سوّوا صفوفكم،و لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»قيل:إذا اختلفوا فتقدّم بعضهم على بعض،تغيّر قلب بعضهم على بعض،و وقع بينهم الاختلاف.

و في حديث آخر:«لتسوّنّ صفوفكم،أو ليخالفنّ اللّه بين وجوهكم»ذكر لي بعضهم أنّه أراد ليحوّلنّ اللّه وجوهكم إلى أقفائكم.

في حديث سعد:«أتخلّف عن هجرتي»،معناه:

خوف الموت بمكّة،و هي دار تركوها للّه عزّ و جلّ، و هاجروا إلى المدينة،فلم يحبّوا أن تكون مناياهم بها.

و في الحديث:«فكان يختلف بالماء»،أي يجيء و يذهب.(1:608)

ابن الأثير: في الحديث:«يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله،ينفون عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين،و تأوّل الجاهلين».

الخلف بالتّحريك و السّكون:كلّ من يجيء بعد من مضى،إلاّ أنّه بالتّحريك في الخير،و بالتّسكين في الشّرّ.يقال:خلف صدق،و خلف سوء،و معناهما جميعا القرن من النّاس.و المراد في هذا الحديث المفتوح.

و في حديث الدّعاء:«اللّهمّ أعط كلّ منفق خلفا»، أي عوضا.يقال:خلف اللّه لك خلفا بخير،و أخلف عليك خيرا:أي أبد لك بما ذهب منك و عوّضك عنه.

ص: 25

و قيل:إذا ذهب للرّجل ما يخلفه مثل المال و الولد،قيل:أخلف اللّه لك و عليك،و إذا ذهب له ما لا يخلفه غالبا كالأب و الأمّ،قيل:خلف اللّه عليك.

و قد يقال:خلف اللّه عليك،إذا مات لك ميّت،أي كان اللّه خليفة عليك،و أخلف اللّه عليك،أي أبد لك.

و حديث أبي الدّرداء في الدّعاء للميّت:«اخلفه في عقبه»،أي كن لهم بعده.

و حديث أبي اليسر:«أخلفت غازيا في سبيل اللّه في أهله بمثل هذا؟».يقال:خلفت الرّجل في أهله،إذا أقمت بعده فيهم،و قمت عنه بما كان يفعله،و الهمزة فيه للاستفهام.

[ثمّ نقل حديث سعد و بيانها كما في المدينيّ و أضاف:]

و كان يومئذ مريضا.

و التّخلّف:التّأخّر،و منه حديث سعد:«فخلّفنا فكنّا آخر الأربع»أي أخّرنا و لم يقدّمنا.

و الحديث الآخر:«حتّى أنّ الطّائر ليمرّ بجنباتهم فما يخلّفهم»أي ما يتقدّم عليهم و يتركهم وراءه.

و منه الحديث الآخر:«لتسوّنّ صفوفكم،أو ليخالفنّ اللّه بين وجوهكم».

يريد أنّ كلاّ منهم يصرف وجهه عن الآخر، و يوقع بينهم التّباغض،فإنّ إقبال الوجه على الوجه من أثر المودّة و الألفة.

و قيل:أراد بها تحويلها إلى الأدبار،و قيل:تغيير صورها إلى صور أخرى.

يقال:حيّ خلوف،إذا غاب الرّجال و أقام النّساء،و يطلق على المقيمين و الظّاعنين.

و منه حديث المرأة و المزادتين:«و نفرنا خلوف» أي رجالنا غيّب.

و منه حديث هدم الكعبة:«لمّا هدموها ظهر فيها مثل خلائف الإبل»،أراد بها صخورا عظاما في أساسها،بقدر النّوق الحوامل.

و فى حديث عائشة و بناء الكعبة:«قال لها:لو لا حدثان قومك بالكفر لبنيتها على أساس إبراهيم، و جعلت لها خلفين،فإنّ قريشا استقصرت من بنائها».

الخلف:الظّهر،كأنّه أراد أن يجعل لها بابين، و الجهة الّتي تقابل الباب من البيت ظهره،فإذا كان لها بابان فقد صار لها ظهران.و يروى بكسر الخاء،أي زيادتين كالثّديين؛و الأوّل الوجه.

و فى حديث الصّلاة:«ثمّ أخالف إلى رجال فأحرّق عليهم بيوتهم»أي آتيهم من خلفهم،أو أخالف ما أظهرت من إقامة الصّلاة و أرجع إليهم، فآخذهم على غفلة،أو يكون بمعنى أتخلّف عن الصّلاة بمعاقبتهم.

و منه حديث السّقيفة:«و خالف عنّا عليّ و الزّبير»،أي تخلّفا.

و منه الحديث:«أيّما مسلم خلف غازيا في خالفته»أي فيمن أقام بعده من أهله و تخلّف عنه.

و في حديث عمر:«لو أطقت الأذان مع الخلّيفى لأذّنت».الخلّيفى بالكسر و التّشديد و القصر:الخلافة و هو و أمثاله من الأبنية،كالرّمّيّا و الدّلّيلا،مصدر يدلّ على معنى الكثرة.يريد به كثرة اجتهاده في ضبط

ص: 26

أمور الخلافة و تصريف أعنّتها.

و فيه ذكر«خليفة»بفتح الخاء و كسر اللاّم:جبل بمكّة يشرف على أجياد.

و فى حديث معاذ:«من تحوّل من مخلاف إلى مخلاف فعشره و صدقته إلى مخلافه الأوّل إذا حال عليه الحول».

المخلاف في اليمن كالرّستاق في العراق؛و جمعه:

المخاليف،أراد أنّه يؤدّي صدقته إلى عشيرته الّتي كان يؤدّي إليها.

و منه حديث ذي المشعار:«من مخلاف خارف و يام».هما قبيلتان من اليمن.[و قد تركنا كثيرا من الأحاديث حذرا من التّكرار](2:65)

الصّغانى:خلف فلان بيته يخلفه،إذا جعل له خالفة.و يقال:ما أدري أيّ الخوالف هو،و أيّ خالفة هو،و أيّ خافية هو،مصروفتين،أي أيّ النّاس هو...

قيل:الأخلف:المخالف العسر الّذي كأنّه يمشي على أحد شقّيه.

و قيل:الأخلف:الأحول.

و الخلفة:البقيّة،يقال:علينا خلفة من ثمار،أي بقيّة.و بقي في الحوض خلفة من ماء.

و الخلفة:ما يعلّق خلف الرّاكب.[ثمّ استشهد بشعر]

و رجل خلفف،أي أحمق،و امرأة خلففة:حمقاء.

و يقال لها:خلفف أيضا،بغير هاء.

و قد سمّوا خليفة،و خلفا بالتّحريك،و خليفا مصغّرا.و يقال:أخلف الغلام،فهو مخلف:إذا راهق الحلم.

و اختلف الرّجل في المشي اختلافا؛و ذلك إذا كان به بطن.

و الخليف:المرأة إذا سدلت شعرها خلفها.و يوم خليف النّاقة بعد انقطاع لبئها.

و خلف:صعد الجبل.

و المخالف:صدقات العرب.

و الأخلف:الأحمق،و السّيل،و الحيّة الذّكر.

و أمّ خلفف:الدّاهية العظمى.

و الخلف بالكسر:اللّجوج من الرّجال.و الخلف بالفتح:المربد.(4:467)

الفيّوميّ: خلف فم الصّائم خلوفا،من باب «قعد»:تغيّرت ريحه،و أخلف بالألف:لغة.و زاد في «الجمهرة»من صوم أو مرض.

و خلف الطّعام:تغيّرت ريحه أو طعمه،و خلفت فلانا على أهله و ماله خلافة:صرت خليفته.

و خلفته:جئت بعده.[ثمّ ذكر نحوا ممّا سبق فلاحظ:](1:178)

الجرجانىّ:الخلاف:منازعة تجري بين المتعارضين،لتحقيق حقّ أو لإبطال باطل.(45)

الفيروزآباديّ: خلف،أو الخلف:نقيض قدّام، و القرن بعد القرن،و منه:هؤلاء خلف سوء،و الرّديء من القول،و الاستقاء،و حدّ الفأس أو رأسه،و من لا خير فيه،و الّذين ذهبوا من الحيّ،و من حضر منهم، ضدّ،و هم خلوف،و الفأس العظيمة،أو برأس واحد، و رأس الموسى،و النّسل،و أقصر أضلاع الجنب؛

ص: 27

جمعه:خلوف،و المربد،أو الّذي وراء البيت،و الظّهر، و الخلق من الوطاب،و لبث خلفه:بعده.

و بالكسر:المختلف،كالخلفة،و اللّجوج،و الاسم من الاستقاء،كالخلفة،و ما أنبت الصّيف من العشب، و ما ولي البطن من صغار الأضلاع،و حلمة ضرع النّاقة أو طرفه،أو المؤخّر من الأطباء،أو هو للنّاقة كالضّرع للشّاة.

و ولدت الشّاة خلفين:ولدت سنة ذكرا و سنة أنثى،و ذات خلفين،و يفتح:اسم الفأس؛جمعه:ذوات الخلفين.

و ككتف:المخاض،و هي الحوامل من النّوق؛ الواحدة:بهاء.

و بالتّحريك:الولد الصّالح،فإذا كان فاسدا أسكنت اللاّم،و ربّما استعمل كلّ منهما مكان الآخر، يقال:هو خلف صدق من أبيه،إذا قام مقامه،أو الخلف،و بالتّحريك سواء،و ما استخلفت من شيء، و مصدر الأخلف للأعسر و الأحول،و للمخالف العسر الّذي كأنّه يمشي على شقّ.

و خلف،بضمّتين:قرية باليمن.

و الأخلف:الأحمق،و السّيل،و الحيّة الذّكر، و القليل العقل.

و الخلف،بالضّمّ:الاسم من الإخلاف،و هو في المستقبل كالكذب في الماضي،أو هو أن تعد عدة و لا تنجزها،و جمع الخليف في معانيه.

و الخلفة،بالكسر:الاسم من الاختلاف،أو مصدر الاختلاف،أي التّردّد.و جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62،أي هذا خلف من هذا أو هذا يأتي خلف هذا،أو معناه من فاته أمر باللّيل أدركه بالنّهار و بالعكس.

و الخلفة أيضا الرّقعة يرقع بها،و ما ينبته الصّيف من العشب،و زرع الحبوب خلفة،لأنّه يستخلف من البرّ و الشّعير.و اختلاف الوحوش مقبلة مدبرة،و ما علّق خلف الرّاكب،و ما يتفطّر عنه الشّجر في أوّل البرد،أو ثمر يخرج بعد ثمر،أو نبات ورق دون ورق، و شيء يحمله الكرم بعد ما يسودّ العنب،فيقطف العنب و هو غضّ أخضر ثمّ يدرك،و كذلك هو من سائر الثّمر، أو أن يأتي الكرم بحصرم جديد،و أن يناظر الرّجل الرّجل،فإذا غاب عن أهله خالفه إليهم،و الدّوابّ الّتي تختلف،و ما يبقى بين الأسنان من الطّعام، و الهيضة،و وقت بعد وقت،و نبت ينبت بعد نبت،أو ينبت من غير مطر،بل ببرد آخر اللّيل،و القوم المختلفون،و المخالفة،و يضمّ.و له ولدان،أو عبدان، أو أمتان خلفتان و خلفان،إذا كان أحدهما طويلا و الآخر قصيرا أو أحدهما أبيض و الآخر أسود؛ جمعه:أخلاف و خلفة.

و كلّ لونين اجتمعا فهما خلفة.

و خلفة الإبل:أن يوردها بالعشيّ بعد ما يذهب النّاس.

و من أين خلفتكم؟من أين تستقون؟

و أخذته خلفة:كثر تردّده إلى المتوضّإ.

و بالضّمّ:العيب،و الحمق،كالخلافة،كسحابة، و العته،و الخلاف،و من الطّعام:آخر طعمه.

ص: 28

و بالفتح و كصرد:ذهاب شهوة الطّعام من المرض و مصدر خلف القميص،إذا أخرج باليه و لفقه.

و المخلاف:الرّجل الكثير الإخلاف،و الكورة، و منه:مخاليف اليمن.

و رجل خالفة:كثير الخلاف.

و ما أدري أيّ خالفة هو-مصروفة و ممنوعة- و أيّ الخوالف هو،و أيّ خافية،أي أيّ النّاس.

و هو خالفة أهل بيته،و خالفهم:غير نجيب لا خير فيه.

و الخوالف:النّساء،قال اللّه تعالى: مَعَ الْخَوالِفِ و الأراضي الّتي لا تنبت إلاّ في آخر الأرضين.

و الخالفة:الأحمق،كالخالف،و الأمّة الباقية بعد الأمّة السّالفة،و عمود من أعمدة البيت في مؤخّره.

و الخالف:السّقاء،كالمستخلف،و النّبيذ الفاسد، و الّذي يقعد بعدك،قال اللّه تعالى: مَعَ الْخالِفِينَ.

التّوبة:83.

و الخلّيفى،بكسر الخاء و اللاّم المشدّدة:الخلافة.

و كأمير:الطّريق بين الجبلين،أو الوادي بينهما، و منه:ذيخ الخليف،أو مدفع الماء،و الطّريق في الجبل أيّا كان أو الطّريق فقط،و السّهم الحديد الطّرير، و الثّوب يشقّ وسطه فيوصل طرفاه،و النّاقة في اليوم الثّاني من نتاجها،يقال:ركبها يوم خليفها،و اللّبن بعد اللّبإ،جمع الكلّ:ككتب،و جبل،و قرية بين مكّة و اليمن،و المرأة الّتي أسبلت شعرها خلفها.

و خليفا النّاقة:ما تحت إبطيها،لا إبطاها،و وهم الجوهريّ.

و الخليفة:جبل مشرف على أجياد،الكبير.

و الخليفة:السّلطان الأعظم،و يؤنّث،كالخليف؛ جمعه:خلائف و خلفاء.

و خلفه خلافة:كان خليفته،و بقي بعده،و فم الصّائم خلوفا و خلوفة:تغيّرت رائحته كأخلف، و منه:«نومة الضّحى مخلفة للفم»،و اللّبن،و الطّعام:

تغيّر طعمه أو رائحته كأخلف،و فلان:فسد،و صعد الجبل،و فلانا:أخذه من خلفه،و اللّه تعالى عليك،أي كان خليفة من فقدته عليك،و بيته:جعل له عمودا في مؤخّره،و أباه:صار خلفه أو مكانه،و مكان أبيه خلافة:صار فيه دون غيره،و الفاكهة بعضها بعضا:

صارت خلفا من الأولى،و ربّه في أهله خلافة:كان خليفة عليهم،و فوه خلوفا و خلوفة،بضمّهما:تغيّر، و الثّوب:أصلحه،كأخلف،فيهما،و لأهله:استقى ماء،كاستخلف و أخلف،و النّبيذ:فسد.

و يقال لمن هلك له ما لا يعتاض منه،كالأب و الأمّ:خلف اللّه عليك،أي كان عليك خليفة،و خلف اللّه تعالى عليك خيرا،أو بخير،و أخلف عليك،و لك خيرا.و لمن هلك له ما يعتاض منه:أخلف اللّه لك، و عليك،و خلف اللّه لك.أو يجوز:خلف اللّه عليك في المال و نحوه،و يجوز في مضارعه:يخلف كيمنع،نادر.

و خلف عن أصحابه:تخلّف،و فلان خلافة، كصدارة و صدور:حمق،فهو خالف و خالفة،و عن خلق أبيه:تغيّر عنه،و فلانا:صار خليفته في أهله.

و خلف البعير،كفرح:مال على شقّ فهو أخلف، و النّاقة:حملت.

ص: 29

و الخلاف،ككتاب،و شدّه لحن:صنف من الصّفصاف،و ليس به،سمّي خلافا لأنّ السّيل يجيء به سبيا،فينبت من خلاف أصله،و موضعه:مخلفة.

و رجل خلّيفة،كبطّيخة،و خلفنة كربحلة، و خلفناة،و نونهما زائدة،و هما للمذكّر و المؤنّث و الجمع،أي كثير الخلاف.

و في خلقه خلفنة و خلفناة أيضا،و خالف و خالفة،و خلفة،بالكسر و الضّمّ:خلاف.

و كمرحلة:الطّريق،و المنزل،و مخلفة منى حيث ينزل النّاس.

و كمقعد:طرق النّاس بمنى حيث يمرّون.

و رجل خلفف،كقنفذ:أحمق،و هي خلفف و خلففة،و أمّ الخلفف،كقنفذ و جندب:الدّاهية أو العظمى.

و أخلفه الوعد:قال و لم يفعله،و فلانا:وجد موعده خلفا،و النّجوم:أمحلت فلم يكن فيها مطر، و فلان لنفسه:إذا ذهب له شيء فجعل مكانه آخر، و النّبات:أخرج الخلفة،و أهوى بيده إلى السّيف ليسلّه،و عن البعير:حوّل حقبه،فجعله ممّا يلي خصييه و ذلك إذا أصاب حقبه ثيله فاحتبس بوله، و فلانا:ردّه إلى خلفه،و اللّه تعالى عليك:ردّ عليك ما ذهب،و الطّائر،خرج له ريش بعد ريشه الأوّل، و الغلام:راهق الحلم،و الدّواء فلانا:أضعفه.

و الإخلاف:أن تعيد الفحل على النّاقة إذا لم تلقح بمرّة.

و المخلف:البعير جاز البازل،و هي مخلف و مخلفة،أو المخلفة:النّاقة ظهر لهم أنّها لقحت ثمّ لم تكن كذلك.

و خلّفوا أثقالهم تخليفا:خلّوه وراء ظهورهم، و بناقته:صرّ منها خلفا واحدا،و فلانا:جعله خليفته، كاستخلفه.

و الخلاف:المخالفة،و كمّ القميص.

و هو يخالف فلانة،أي يأتيها إذا غاب زوجها.

و خالفها إلى موضع آخر:لازمها.

و تخلّف:تأخّر،و اختلف:ضدّ اتّفق،و فلانا:كان خليفته،و إلى الخلاء:صار به إسهال،و صاحبه:

باصره،فإذا غاب دخل على زوجته.(3:140)

الطّريحيّ: [ذكر نحوا ممّن سبق و زاد:]

و في الدّعاء:«اللّهمّ أنت الخليفة في السّفر»، و المعنى أنت الّذي أرجوه و أعتمد عليه في غيبتي عن أهلي،أن تلمّ شعثهم،و تقوّم إودهم،و تداوي سقمهم، و تحفظ عليهم دينهم و أمانتهم.

و مثله:«أنت الصّاحب في السّفر،و الخليفة في الأهل،و لا يجمعهما غيرك».و فيه تنزيه للّه تعالى عن الجهة و الجسميّة إذا كان اجتماع الأمرين في الجسم الواحد محال،كما علّله عليه السّلام بقوله:«لأنّ المستخلف لا يكون مستصحبا و المستصحب لا يكون مستخلفا».

و الخلافة بالكسر:خلافة الخلفاء...(5:53)

الجزائريّ: الفرق بين الخلف و الكذب:قال في «أدب الكاتب»:الكذب فيما مضى،و هو أن تقول:

فعلت كذا،و لم تفعله!و الخلف لما يستقبل،و هو أن تقول:سأفعل كذا و لا تفعله،انتهى.و يرشد إليه قوله

ص: 30

تعالى: وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ المنافقون:

1،أي فيما أخبروا به من إيمانهم فيما مضى،و قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إبراهيم:

47،أي فيما وعدهم بالنّصر و إهلاك أعدائهم في المستقبل.(95)

مجمع اللّغة :1-خلف فلان فلانا يخلفه:جاء بعده.

2-و خلف فلان فلانا:قام بالأمر بعده.

3-الخليفة:من يخلف غيره و يقوم مقامه؛ و يجمع على:خلائف و خلفاء.

4-الخالف:المتأخّر الّذي يقعد عن القتال، و جمعه:خالفون.

5-و الخالفة:مؤنّث الخالف،و يكنّى بها عن المرأة لتخلّفها في البيت،و من جموعها:خوالف.

6-خالفهم إلى كذا:قصده و هم مولّون عنه.

7-خالفوا عن كذا:ولّوا عنه و انصرفوا معرضين.

8-أخلف الوعد و أخلفه الوعد:لم يف به،فهو مخلف.

9-أخلف اللّه عليه:ردّ عليه ما ذهب عنه.

10-خلّفه تخليفا:أخّره.و اسم المفعول:مخلّف.

11-تخلّف:تأخّر.

12-اختلف القوم:ذهب كلّ منهم إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.

و اختلاف الألوان و الألسنة و الطّعوم:تنوّعها و تفاوتها.و اختلاف الكلام:تناقضه أو تفاوته.

و اختلاف اللّيل و النّهار:تعاقبهما،أو اختلافهما في الطّول و القصر،و النّور و الظّلمة.

13-استخلفهم اللّه في الأرض:جعلهم خلفاء متصرّفين فيها بأمره،أو جعلهم خلفا من الّذين لم يكونوا على حالهم فهم مستخلفون.

14-الخلف:القرن بعد القرن.

15-و خلف:ضدّ قدّام،و ما يأتي بعدك.

16-و الخلفة:ما يخلف الآخر.

17-و خلاف:

أ:بمعنى خلف و بعد.

ب:بمعنى مخالفة و اختلاف.(1:351)

العدنانيّ: أخلف الوعد،أخلفه الوعد.

و يقولون:أخلف فلان بوعده،أو في وعده،أي لم يف به.و الصّواب:أخلف فلان وعده،كما جاء في المصباح.

و يعدّيه آخرون إلى مفعولين:أخلفه الوعد:

الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و المختار،و اللّسان، و القاموس،و التّاج،و محيط المحيط،و أقرب الموارد، و المتن.

و ذكر آخرون:أنّه يجوز أن يعدّى إلى مفعول واحد،أو إلى مفعولين،قال سبحانه و تعالى في الآية:

86،من سورة طه: فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. و ورد الفعل «أخلف»متعدّيا إلى مفعول به واحد،إحدى عشرة مرّة أخرى في آي الذّكر الحكيم.

و ورد متعدّيا إلى مفعولين في الآية:77،من سورة التّوبة: أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ.

و ممّن ذكر أيضا أنّه يجوز أن يعدّى إلى مفعول

ص: 31

واحد،أو إلى مفعولين:معجم ألفاظ القرآن الكريم، و مفردات الرّاغب الأصفهانيّ،و الأساس،و المغرب، و المدّ.

و الّذي يخلف وعده أو عهده:مخلف و مخلاف؛ و الاسم:الخلف.

أخلف اللّه عليك،خلف اللّه عليك.

و يخطّئون من يقول:خلف اللّه عليك،و يقولون:

إنّ الصّواب هو:أخلف اللّه عليك،اعتمادا على قوله تعالى في الآية:39،من سورة سبأ: ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ.

و قال معجم ألفاظ القرآن الكريم:«أخلف اللّه عليه:ردّ عليه ما ذهب عنه».

و قال الوسيط:«و في الدّعاء:أخلف اللّه لك و عليك خيرا».

و لكن:

أجاز قول:أخلف اللّه عليك،و خلف اللّه عليك، كلّ من:أبي زيد الأنصاريّ،و أدب الكاتب، و مفردات الرّاغب الأصفهانى،و الأساس،و النّهاية، و المختار،و اللّسان،و المصباح،و القاموس،و التّاج، و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد.

و انفرد المتن بذكر جملة:«خلف اللّه عليك وحدها».

و ممّا قاله الصّحاح:«و يقال لمن ذهب له مال،أو ولد،أو شيء يستعاض:أخلف اللّه عليك،أي ردّ عليك مثل ما ذهب،فإن كان قد هلك له والد أو عمّ أو أخ،قلت:خلف اللّه عليك،بغير ألف،أي كان اللّه خليفة والدك،أو من فقدته عليك».

و جاء في معجم مقاييس اللّغة:«و يقولون في الدّعاء:خلف اللّه عليك،أي كان اللّه تعالى الخليفة لمن فقدت من أب أو حميم.و أخلف اللّه لك،أي عوّضك من الشّيء الذّاهب ما يكون يقوم بعده و يخلفه».

و ممّا جاء في اللّسان:«يقال لمن هلك له من لا يعتاض منه كالأب و العمّ:خلف اللّه عليك،أي كان اللّه عليك خليفة.و خلف عليك خيرا و بخير.و أخلف لك خيرا،و لمن هلك له ما يعتاض منه،أو ذهب من ولد أو مال:أخلف اللّه لك،و خلف لك».

الخلف:الصّالح و الطّالح.

الخلف:الطّالح و الصّالح.

و يخطّئون من يقول:بئس الخلف الطّالح، و يقولون:إنّ الصّواب هو:بئس الخلف الطّالح،لأنّ لام«الخلف»تسكّن عند ما يكون رديئا،جاء في الآية:59،من سورة مريم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ.

و جاء في الحديث:«سيكون بعد ستّين سنة خلف أضاعوا الصّلاة».

و ممّن ذكر أيضا أنّ الخلف يعني الطّالح:اللّيث بن سعد،و أبو عبيد البكريّ،و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و النّهاية،و المصباح،و الوسيط.

و عند ما تفتح اللاّم«الخلف»،تكون الكلمة خاصّة بالولد الصّالح يبقى بعد أبيه.جاء في الحديث:

«يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله،ينفون عنه تحريف الغالين،و انتحال المبطلين،و تأوّل الجاهلين».

ص: 32

و ممّن ذكر أيضا أنّ لام الخلف تفتح أيضا عند ما يكون الولد صالحا:اللّيث بن سعد،و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و الأساس،و النّهاية،و الوسيط.

و لكن:

يجيز إطلاق كلمة:«الخلف و الخلف»على الولد الصّالح و الطّالح كليهما:الأخفش و المختار،و اللّسان، و القاموس،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد.

و ممّا قاله أبو زيد الأنصاريّ: هم أخلاف سوء:

جمع:خلف.

و من شواهد المحمود قول حسّان بن ثابت الأنصاريّ:

لنا القدم الأولى إليك و خلفنا.

لأوّلنا في طاعة اللّه تابع

و من شواهد المذموم قول لبيد:

ذهب الّذين يعاش في أكنافهم

و بقيت في خلف كجلد الأجرب

و يرى ابن برّيّ أنّ«الخلف»يشمل الولد الصّالح و الطّالح كليهما.

و يقول معجم مقاييس اللّغة:«نقول:هو خلف صدق من أبيه،أو خلف سوء من أبيه،فإن لم نذكر الصّدق و السّوء،قلنا للجيّد:خلف،و للرّديء:

خلف».

و يرى المتن أنّ الخلف هو الولد صالحا أو طالحا، أو خاصّ بالصّالح يبقى بعد أبيه.أمّا الخلف فهو خاصّ بالطّالح.

فهذه الفوضى،و هذا الاختلاف يجعلانني أقترح استعمال كلمتي:الخلف و الخلف كلتيهما للولد الصّالح أو الطّالح،إلاّ إذا قلنا:فلان شرّ خلف لخير سلف،فإنّا مضطرّون إلى فتح اللاّم في«خلف» للمشاكلة،أي لتكون حركات الكلمتين متشابهة، كما نفتح السّين في السّلم،عند ما نقول:الحرب و السّلم.و في هذه المشاكلة موسيقيا لفظيّة،تضع اللّغة العربيّة فوق قمّة البلاغة.

اختلفوا في الأمر

و يقولون:اختلفوا على الأمر.و الصّواب:

اختلفوا في الأمر،اعتمادا على قوله تعالى في الآية:

213،من سورة البقرة: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.

و قد جاء الفعل(اختلف)سبعا و عشرين مرّة أخرى في القرآن الكريم،متلوّا بحرف الجرّ«في»،دون أن يأتي مرّة واحدة متلوّا بحرف الجرّ«على».

و أورد حرف الجرّ«في»بعد الفعل(اختلف)كلّ من معجم ألفاظ القرآن الكريم،و معجم مقاييس اللّغة،و مفردات الرّاغب،الّذي قال أيضا:«و الخلاف أعمّ من الضّدّ،لأنّ كلّ ضدّين مختلفان،و ليس كلّ مختلفين ضدّين»،و مدّ القاموس.

و من معاني«اختلف»:

1-اختلف الشّيئان:لم يتساويا.

2-اختلف فلان:أصابته رقّة بطن:«إسهال».

3-اختلف إلى المكان:تردّد.

4-اختلف الشّيء:جعله خلفه.أخذه من خلفه.

ص: 33

5-اختلف فلانا:كان خليفته.

6-اختلف صاحبه:باصره،فإذا غاب دخل على زوجته.

و فعله:اختلف خلفة و اختلافا.(201)

محمود شيت:...المتخلّف:الجنديّ الّذي لا يلبّي دعوة العلم،فلا يحضر دائرة تجنيده،للانخراط في سلك الجنديّة.

المخلّف:الّذي تؤجّل خدمته العسكريّة لأسباب صحّيّة أو لإعالته،و نحو ذلك.(1:224)

المصطفويّ: التّحقيق:أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة هو ما يقابل القدّام و الاستقبال،أي ما يكون على ظهر شيء و وراءه.و هذا المعنى:إمّا من جهة الزّمان،أو من جهة المكان،أو الكيفيّة.

فالأوّل:كما في مفهوم:الخلف الصّدق،و الخليفة، فيعتبر فيه التّأخّر الزّمانيّ،و وقوع شيء عقيب شيء آخر زمانا.

و الثّاني:يعتبر فيه التّأخّر مكانا،كما فيما يقع خلف شيء و ظهره مكانا،كالتّخلّف في القعود و الذّهاب و القيام.

و الثّالث:يعتبر فيه التّأخّر و التّعقّب في الكيفيّة و الوصف و الخصوصيّة،كما في تغيّر ريح الفم و طعمه، و تخلّف الرّجل عن أبيه في خصوصيّات أخلاقه و كيفيّات سلوكه،و الخلف و الاختلاف في العقيدة و النّظر و الفكر و الطّريقة.

فيلاحظ في جميع هذه المعاني جهة التّعقّب و الوقوع في الخلف و الظّهر،و هذه الخصوصيّة هي الفارقة بينها و بين الظّهر و العقب و التّأخّر و التّغيّر و التّعوّض و التّقدّم و التّسلّف و غيرها،فيلاحظ في كلّ منها خصوصيّة ممتازة.

ثمّ إنّ الخلف يقابله حقيقة كلمة«ما بين الأيدي» كما في الآيات الكريمة: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ الجنّ:27، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ البقرة:255، وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا يس:9، نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها البقرة:66،و هذه الكلمة في هذه الموارد بمعناها الاسميّ،و لا يبعد أن تكون في الأصل مصدرا ثمّ جعل بكثرة الاستعمال و للدّلالة على المبالغة:اسما يقابل مفهوم:«بين الأيدي».

و قد يلاحظ مفهوم المصدريّة و الاسميّة معا،قريبا من الوصفيّة،كما في فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ مريم:59.

و أمّا الخلف كالحسن:فصفة،بمعنى ذات متّصفة بكونها متأخّرة واقعة عقيب السّابق،فيعتبر فيه مفهوم الوصفيّة،و يفهم من كون شيء خلفا لآخر:تقارنهما و تشابههما في المفهوم و الخصوصيّة الّتي للأوّل.و لعلّ إلى هذا المعنى يرجع قولهم:بأنّ الخلف بالسّكون يستعمل في الأشرار،و الخلف في الأخيار.

و أمّا الخليفة:فهو كالخلف صفة،إلاّ أنّه إذا انتسب إلى اللّه المتعال فيراد منه التّأخّر من جهة الكيفيّة،و هذا المعنى من أشرف الأوصاف الرّوحانيّة، و أعلى المقامات الرّبّانيّة،و لا يتصوّر مقام أعلى و أفضل منه،و إليه يشار في الآيات الكريمة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30، إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ص:26،و في الزّيارات الواردة:

ص: 34

و أمّا الخليفة:فهو كالخلف صفة،إلاّ أنّه إذا انتسب إلى اللّه المتعال فيراد منه التّأخّر من جهة الكيفيّة،و هذا المعنى من أشرف الأوصاف الرّوحانيّة، و أعلى المقامات الرّبّانيّة،و لا يتصوّر مقام أعلى و أفضل منه،و إليه يشار في الآيات الكريمة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30، إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ص:26،و في الزّيارات الواردة:

السّلام عليك يا خليفة اللّه في أرضه.

و جمع الخليفة:الخلائف،مثل كريمة و كرائم،و جمع الخليف:الخلفاء مثل شريف و شرفاء،و التّاء في«الخليفة»للمبالغة،كما في«العلاّمة»،فهو أدلّ على مفهومه من الخليف،كما أنّ«الخلائف»يدلّ على وصف زائد،و تأكيد و تثبيت أزيد من الخلفاء:

جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأنعام:165، جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ يونس:14، وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يونس:

73،و هم الّذين ثبتت الخلفيّة في حقّهم،و أنّهم خلائف زمانا و كيفيّة من السّابقين.و ليس كذلك الخلفاء: إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ الأعراف:69، وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ النّمل:62.

و أمّا الخوالف:فهو جمع الخالفة،و ليس في معناه إلاّ مجرّد الخلفيّة،أي كونهم واقعين بعد جماعة،و في ورائهم ظاهرا: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ التّوبة:87.

و الخلفة:بناء نوع كالقعدة،فيدلّ على نوع مخصوص من الخلفيّة: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62،أي على نوع خاصّ من التّعقّب.

و الإخلاف:بمعنى جعل شيء ذا خلف و خالفا:

فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي طه:86، ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ طه:87، أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ التّوبة:77، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ آل عمران:194، فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ البقرة:80، فَهُوَ يُخْلِفُهُ سبأ:39، مُخْلِفَ وَعْدِهِ إبراهيم:47،أي جعل اللّه الوعد و الموعد و العهد و الميعاد فيما بين أيديه مستقبلا إليه،و متوجّها و ناظرا إليه،و لا يخلفه،أي لا يجعله وراءه و خلفه بأن يتركه و يعرض عنه.

و أمّا الاختلاف:فهو يدلّ على صدور الفعل على وجه الطّوع و الوفاق،أي اختيار التّخلّف و الموافقة في الخلف من دون حصول إباء و منع: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ البقرة:164، وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ الرّوم:

22، مُخْتَلِفاً أَلْوانُها فاطر:27، لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ الذّاريات:8، مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ الأنعام:141، هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ النّبأ:3، لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ هود:118.يقال:أخلفه فاختلف،أي فصار ذا خلف و في خلف.و الاختلاف في مقابل الاستواء و الاتّفاق، و اختلفوا،أي صاروا خارجين عن الاستواء،و وقعوا متأخّرين و متخلّفين.

و المعنى:و من آياته تعالى عدم الاستواء و الاتّحاد بين اللّيل و النّهار و الألسنة،بل أنّها صارت متأخّرة و متخلّفة عنه.و هكذا التّخلّف في الألوان و غيرها.

ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يونس:

19، وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ آل عمران:105،أي تأخّروا و صاروا خلف الوحدة و البيّنات،فتخلّفوا عنها.

فظهر أنّ حقيقة الاختلاف:هو التّخلّف و صيرورة الشّيء متأخّرا و خلف شيء أو أمر آخر،و التّغيّر من لوازم تلك الحقيقة.

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً

ص: 35

كَثِيراً النّساء:82،أي تأخّرا و تعقّبا و انحطاطا محسوسا عن البلاغة و الفصاحة و الكمال،و ليس المنظور المغايرة و التّناقض-كما يقال-فإنّها غير ملزومة.

و أمّا المخالفة و الخلاف:فبمعنى إدامة الوقوع في التّأخّر و خلف شيء،يقال:خالفته فتخالف،و ليس المعنى المغايرة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ النّور:63،أي يصيرون خلف مقام الأمر و الطّاعة و متأخّرا عنه.

لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً الإسراء:76،أي في مقام التّخلّف و التّعقّب. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ المائدة:33، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ الشّعراء:49، فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ التّوبة:81.فالجارّ متعلّق بمقدّر، و الجملة الظّرفيّة في مقام الحاليّة أو الوصفيّة.

و المعنى:تقطّع أيديهم و أرجلهم حال كونها كائنة من مخالفة،أو متّصفة و كائنة على صفة الخلاف،بمعنى لزوم القطع إذا كانت الأيدي و الأرجل ناشئة و متظاهرة و متحرّكة و متحوّلة على هذه الحالة أو على هذه الصّفة،و ليست الظّرفيّة لغوا متعلّقة بالفعل المذكور،فإنّ القطع من خلاف لا معنى له،و ما ذكره المفسّرون خارج عن مدلول اللّفظ،و لا خصوصيّة لذلك المعنى في مقام التّعذيب.

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ الفتح:

16،التّعبير بالتّخليف إشارة إلى أنّ تخلّفهم و خلافهم ليس من جانب أنفسهم و باقتضاء طبيعتهم السّاذجة من حيث هي،بل بعلل خارجيّة و بدواعي موجبة مضلّة محرّفة أخرى،فإنّ«التّفعيل»يدلّ على جهة الوقوع،يقال:خلّفته فتخلّف،أي جعلته ذا خلف فاختار التّخلّف و تخلّف.

و أمّا الاستخلاف:فهو لطلب الفعل و استدعاء الخلف: وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ هود:57، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ النّور:55، وَ أَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ الحديد:7،التّعبير بالاستفعال يدلّ على الميل و الاقتضاء،و تحقّق الطّلب منه تعالى،لوجود المقتضي له.

فاتّضح لطف التّعبير في الموارد بالمادّة و الصّيغ المذكورة.(3:109)

النّصوص التّفسيريّة

فخلف-خلف

1- فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى... الأعراف:169

ابن عبّاس: فبقي من بعد الصّالحين(خلف) خلف سوء،و هم اليهود.(141)

نحوه ابن زيد.(ابن الجوزيّ 3:280)

مجاهد :النّصارى.(الطّبريّ 6:105)

إنّ الخلف من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(ابن الجوزيّ 3:280)

الفرّاء: (خلف)أي قرن،بجزم اللاّم.و الخلف:

ما استخلفته،تقول:أعطاك اللّه خلفا ممّا ذهب لك، و أنت خلف سوء،سمعته من العرب.(1:399)

ص: 36

أبو عبيدة:(خلف)ساكن ثاني الحروف،و إن شئت حرّكت الحرف الثّاني،و هما في المعنى واحد،كما قالوا:أثر و أثر.و قوم يجعلونه إذا سكّنوا ثاني حروفه إذا كانوا مشركين،و إذا حرّكوه جعلوه خلفا صالحا.

(1:232)

ابن قتيبة :و الخلف:الرّديء من النّاس و من الكلام،يقال:هذا خلف من القول.(174)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:فخلف من بعد هؤلاء القوم الّذين وصف صفتهم،(خلف)،يعني:خلف سوء.يقول:حدث بعدهم و خلافهم،و تبدّل منهم، بدل سوء.

يقال منه:هو خلف صدق،و خلف سوء،و أكثر ما جاء في المدح بفتح اللاّم،و في الذّمّ بتسكينها،و قد تحرّك في الذّمّ،و تسكّن في المدح.[ثمّ استشهد بشعر]

و أحسب أنّه إذا وجّه إلى الفساد،مأخوذ من قولهم:خلف اللّبن،إذا حمض من طول تركه في السّقاء حتّى يفسد،فكأنّ الرّجل الفاسد مشبّه به.و قد يجوز أن يكون من قولهم:خلف فم الصّائم،إذا تغيّرت ريحه.

[ثمّ استشهد بشعر]

و قيل:إنّ الخلف الّذي ذكر اللّه في هذه الآية أنّهم خلفوا من قبلهم،هم النّصارى...

و الصّواب من القول في ذلك عندي أن يقال:إنّ اللّه تعالى ذكره،إنّما وصف أنّه خلف القوم الّذين قصّ قصصهم في الآيات الّتي مضت خلف سوء رديء، و لم يذكر لنا أنّهم نصارى في كتابه،و قصّتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النّصارى.

و بعد،فإنّ ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل،و ما بعده كذلك،فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه؛إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم،و لا جاء بذلك دليل يوجب صحّة القول به.

فتأويل الكلام إذا:فتبدّل من بعدهم بدل سوء...

(6:104)

الزّجّاج: يقال للّذي يجيء في أثر قرن:خلف.

و الخلف:ما أخلف عليك بدلا ممّا أخذ منك،و يقال:

في هذا خلف أيضا.فأمّا ما أخلف عليك بدلا ممّا ذهب منك،فهو«الخلف»بفتح اللاّم.(2:388)

النّحّاس: قال مجاهد:يعني النّصارى.

و قال غيره:يعني أبناءهم.

و هذا أولى القولين-و اللّه أعلم-لأنّه يقال لولد الرّجل:خلفه،يقال للواحد و للاثنين و الجمع، و المؤنّث،على لفظ واحد،و الجمع:خلوف.

و قيل:يستعمل للرّديء من الأبناء.

فأمّا«الخلف»بتحريك اللاّم،فهو البدل من الشّيء،من ولد أو غيره.(3:98)

الثّعلبيّ: (خلف)أي حضر و جاء،و تبدّل من بعد هؤلاء الّذين وصفناهم(خلف...)(4:299)

الماورديّ: معناه فخلفهم خلف،و الخلف بتسكين اللاّم مستعمل في الذّمّ،و بفتح اللاّم مستعمل في الحمد.و قال أبو عبيدة:معناها واحد مثل الأثر و الأثر؛و الأوّل أظهر،و هو في قول الشّعراء أشهر.[ثمّ استشهد بشعر]

و في الخلف وجهان:

ص: 37

أحدهما:القرن،قاله الفرّاء.

و الثّاني:أنّه جمع خالف.(2:274)

الطّوسيّ: [نقل قول مجاهد و قال:]

و هذا الّذي قاله جائز،و جائز أيضا أن يكون المراد به:قوم خلفوهم من اليهود.(5:25)

الواحديّ: (خلف)من اليهود،و هم أولادهم الّذين أتوا بعدهم...(2:422)

البغويّ: أي جاء من بعد هؤلاء الّذين وصفناهم (خلف،)و الخلف:القرن الّذي يجيء بعد قرن...

(2:243)

الزّمخشريّ: (خلف)و هم الّذين كانوا في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.(2:127)

ابن عطيّة: (خلف)معناه حدث خلفهم، و بَعْدِهِمْ خَلْفٌ بإسكان اللاّم يستعمل في الأشهر في الذّمّ.[ثمّ استشهد بشعر]

و قد يستعمل في المدح.[ثمّ استشهد بشعر]

و الخلف بفتح اللاّم يستعمل في الأشهر في المدح.

قال أبو عبيدة و الزّجّاج:و قد يستعمل في الذّمّ أيضا.

(2:472)

الطّبرسيّ: معناه فذهب أولئك و قام مقامهم قوم آخرون.(2:495)

ابن الجوزيّ: قرأ الجونيّ،و الجحدريّ:( خلف ) بفتح اللاّم...

قال ابن الأنباريّ: أكثر ما تستعمل العرب «الخلف»،بإسكان اللاّم،في الرّديء المذموم،و تفتح اللاّم في الفاضل الممدوح.و قد يوقع الخلف على الممدوح،و الخلف على المذموم،غير أنّ المختار ما ذكرناه...

فإن قيل:الخلف واحد،فكيف قال:(يأخذون)، و كذلك قال في مريم:59:(اضاعوا)؟فقد ذكر ابن الأنباريّ عنه جوابين:

أحدهما:أنّ الخلف:جمع خالف،كما أنّ الرّكب:

جمع راكب،و الشّرب:جمع شارب.

و الثّاني:أنّ الخلف مصدر يكون للاثنين و الجميع، و المذكّر و المؤنّث.(3:280)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ظاهره أنّ الأوّل ممدوح،و الثّاني مذموم،و إذا كان كذلك،فيجب أن يكون المراد:

فخلف من بعد الصّالحين منهم الّذين تقدّم ذكرهم خلف.[ثمّ نقل بعض أقوال أهل اللّغة في معنى الخلف]

(15:43)

القرطبيّ: يعني أولاد الّذين فرّقهم في الأرض.

[ثمّ ذكر بعض أقوال أهل اللّغة](7:310)

البيضاويّ: (خلف)بدل سوء،مصدر نعت به، و لذلك يقع على الواحد و الجمع،و قيل:جمع.و هو شائع في الشّرّ،و الخلف بالفتح في الخير،و المراد به الّذين كانوا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.(1:375)

مثله أبو السّعود(3:47)،و نحوه النّسفيّ(2:83)، و الشّربينيّ(1:532)،و الكاشانيّ(2:249)، و القاسميّ(7:2894).

النّيسابوريّ: [نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]

فخلف من بعد الأرواح و القلوب لمّا سلكوا

ص: 38

طريق الحقّ و وصلوا إلى مقعد صدق،خلفهم النّفوس الأمّارة بالسّوء.(9:76 و 78)

أبو حيّان :[اكتفى بذكر الأقوال في ذلك]

(4:415)

البروسويّ: أي بدل سوء،و هم الّذين كانوا في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الّذين خلفوا من اليهود الّذين فرّقهم اللّه في الأرض أمما موصوفين بأنّهم منهم الصّالحون و منهم دون ذلك...(3:269)

شبّر:(خلف)بدل سوء،و هو بالتّسكين جار في السّوءة،و بالتّحريك في الخير.(2:432)

الآلوسيّ: (خلف)أي بدل سوء،مصدر نعت به،و لذلك يقع على الواحد و الجمع.و قيل:هو اسم جمع،و هو مراد من قال:إنّه جمع،و هو شائع في الشّرّ، و منه:«سكت ألفا و نطق خلفا».و الخلف بفتح اللاّم في الخير،و ادّعى بعضهم الوضع لذلك،و قيل:هما بمعنى،و هو من يخلف غيره صالحا كان أو طالحا.[ثمّ استشهد بشعر]

و عن البصريّين:أنّه يجوز التّحريك و السّكون في الرّديء،و أمّا الجيّد فبالتّحريك فقط،و وافقهم أهل اللّغة إلاّ الفرّاء و أبا عبيدة.و اشتقاقه إمّا من الخلافة أو من الخلوف،و هو الفساد و التّغيّر،و منه خلوف فم الصّائم...و الأكثرون على أنّ المراد بهؤلاء:الخلف الّذين كانوا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم،و حينئذ لا يصحّ تفسير«الصّالحين»بمن آمن به عليه الصّلاة و السّلام،و الظّاهر أنّهم من اليهود،و عن مجاهد:أنّهم النّصارى،و ليس بذاك.(9:96)

ابن عاشور:جملة(فخلف)تفريع على قوله:

وَ قَطَّعْناهُمْ الأعراف:168،إن كان المراد تقطيعهم في بلاد أعدائهم و إخراجهم من مملكتهم،فتكون الآية مشيرة إلى عودة بني إسرائيل إلى بلادهم في عهد الملك «كورش»ملك الفرس في حدود سنة:530،قبل الميلاد،فإنّه لمّا فتح بلاد أشور أذن لليهود الّذين أسرهم«بخت نصّر»أن يرجعوا إلى بلادهم فرجعوا، و بنوا بيت المقدس بعد خرابه على يد«نحميا» و«عزرا»كما تضمّنه سفر نحميا و سفر عزرا،و كان من جملة ما أحيوه أنّهم أتوا بسفر شريعة موسى الّذي كتبه عزرا و قرءوه على الشّعب في أورشليم،فيكون المراد بالخلف:ما أوّله ذلك الفلّ من بني إسرائيل الّذين رجعوا من أسر الآشوريّين.و المراد بإرث الكتاب:إعادة مزاولتهم التّوراة الّتي أخرجها إليهم عزرا المعروف عند أهل الإسلام باسم عزير،و يكون أخذهم عرض الأدنى أخذ بعض الخلف لا جميعه،لأنّ صدر ذلك الخلف كانوا تائبين و فيهم أنبياء و صالحون.

و إن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمما:

تكثيرهم و الامتنان عليهم،كان قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ تفريعا على جميع القصص المتقدّمة الّتي هي قصص أسلافهم،فيكون المراد بالخلف:من نشأ من ذرّيّة أولئك اليهود بعد زوال الأمّة و تفرّقها،منهم الّذين كانوا عند ظهور الإسلام،و هم اليهود الّذين كانوا بالمدينة،و إلى هذا المعنى في«الخلف»نحا المفسّرون.[ثمّ ذكر معنى الخلف في اللّغة نحوا ممّن

ص: 39

سبقه](8:338)

مكارم الشّيرازيّ: [ذكر الفرق بين خلف و خلف كالسّابقين](5:255)

2-فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصّلوة و اتّبعوا الشّهوات فسوف يلقون غيّا.مريم:59

ابن عبّاس: (فخلف)فبقي(من بعدهم)من بعد الأنبياء و الصّالحين خلف سوء.(257)

هم اليهود،تركوا الصّلاة المفروضة،و شربوا الخمر،و استحلّوا نكاح الأخت من الأب.

(الزّمخشرىّ 4:514)

مجاهد :هم[الخلف]من هذه الأمّة عند قيام السّاعة،و ذهاب صالحي هذه الأمّة،قوم يتنابزون بالزّنى،ينزو بعضهم على بعض في الأزقّة زناة.

(الواحديّ 3:187)

مثله ابن كعب القرظيّ،و قتادة،و عطاء.

(أبو حيّان 6:201)

وهب بن منبّه:هم شرّابو القهوة.

(أبو حيّان 6:201)

السّدّيّ: هم اليهود و النّصارى.(342)

مقاتل:أنّهم[الخلف]اليهود من بعد ما تقدّم من الأنبياء.(الماورديّ 3:379)

الفرّاء: الخلف:يذهب به إلى الذّمّ.و الخلف:

الصّالح.و قد يكون في الرّديء خلف،و في الصّالح خلف،لأنّهم قد يذهبون بالخلف إلى القرن بعد القرن.(2:170)

الزّجّاج:يقال في الرّداءة:خلف بإسكان اللاّم.

تقول:خلف سوء،و في الصّلاح:خلف صدق بفتح اللاّم.و قد يقال في الرّداءة أيضا:خلف بفتح اللاّم، و في الصّلاح بإسكان اللاّم؛و الأجود القول الأوّل.

(3:335)

الماورديّ: [ذكر الفرق بين الخلف و الخلف بوجهين نظير الزّجّاج و استشهد للثّاني بشعر ثمّ قال:]

و في هذا الخلف قولان:

أحدهما:[قول مقاتل]

الثّاني:أنّهم من المسلمين.

فعلى هذا في قوله: مِنْ بَعْدِهِمْ قولان:

أحدهما:من بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،من عصر الصّحابة و إلى قيام السّاعة،كما روى الوليد بن قيس،حكاه إبراهيم عن عبيدة.

الثّاني:أنّهم من بعد عصر الصّحابة.روى الوليد بن قيس عن أبي سعيد،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يكون بعد ستّين سنة خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ». (3:379)

الزّمخشريّ: خلفه إذا عقبه،ثمّ قيل في عقب الخير«خلف»بالفتح،و في عقب السّوء«خلف» بالسّكون،كما قالوا وعد في ضمان الخير،و وعيد في ضمان الشّرّ.(2:514)

ابن عطيّة: «الخلف»بفتح اللاّم،القرن يأتي بعد آخر يمضي،و الابن بعد الأب،و قد يستعمل في سائر الأمور.و«الخلف»بسكون اللاّم مستعمل إذا كان الآتي مذموما،هذا مشهور كلام العرب،و قد ذكر عن

ص: 40

بعضهم أنّ الخلف و الخلف بمعنى واحد.[ثمّ استشهد بشعر](4:22)

الفخر الرّازيّ: ظاهر الكلام أنّ المراد:من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم.[ثمّ قال مثل الزّمخشريّ و أضاف:]

و في الحديث:«في اللّه خلف من كلّ هالك».[ثمّ استشهد بشعر](21:235)

مثله الشّربينيّ.(2:435)

ابن عاشور :فرع على الثّناء عليهم،اعتبار و تنديد بطائفة من ذرّيّاتهم،لم يقتدوا بصالح أسلافهم، و هم المعنيّ بالخلف.

و الخلف بسكون اللاّم:عقب السّوء،و بفتح اللاّم عقب الخير...

و هو هنا يشمل جميع الأمم الّتي ضلّت،لأنّها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح؛إذ هم من ذرّيّة نوح،و من يرجع أيضا إلى إبراهيم،فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل و هم العرب،و منهم من يدلي إليه من نسل يعقوب و هم بنو إسرائيل.

و لفظ مِنْ بَعْدِهِمْ يشمل طبقات و قرونا كثيرة، ليس قيدا،لأنّ الخلف لا يكون إلاّ من بعد أصله،و إنّما ذكر لاستحضار ذهاب الصّالحين.(16:59)

و لاحظ:نصوص الآية المتقدّمة.

خلفتمونى

و لمّا رجع موسى الى قومه غضبان اسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى...الأعراف:150

ابن عبّاس: بئس ما صنعتم بعبادة العجل من بعد انطلاقي إلى الجبل.(138)

نحوه الطّبرسيّ(2:482)،و ابن الجوزيّ(3:

264)،و شبّر(2:419).

الطّبريّ: يقول:بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إيّاكم،و أوليتموني فيمن خلفت ورائي من قومي فيكم،و ديني الّذي أمركم به ربّكم.

يقال منه:خلفه بخير،و خلفه بشرّ،إذا أولاه في أهله أو قومه،و من كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم،خيرا أو شرّا.(6:65)

نحوه البغويّ(2:235)،و القرطبيّ.(7:287)

الزّمخشريّ: (خلفتمونى)قمتم مقامي و كنتم خلفائي من بعدي،و هذا الخطاب إمّا أن يكون لعبدة العجل من السّامريّ و أشياعه،أو لوجوه بني إسرائيل و هم هارون عليه السّلام و المؤمنون معه،و يدلّ عليه قوله: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي و المعنى:بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة اللّه،أو حيث لم تكفّوا من عبد غير اللّه.

فإن قلت:أين ما تقتضيه(بئس)من الفاعل و المخصوص بالذّمّ؟

قلت:الفاعل مضمر يفسّره(ما خلفتمونى)، و المخصوص بالذّمّ محذوف،تقديره:بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم.

فإن قلت:أيّ معنى لقوله: مِنْ بَعْدِي بعد قوله:

(خلفتمونى؟)

قلت:معناه من بعد ما رأيتم منّي من توحيد اللّه

ص: 41

و نفي الشّركاء عنه و إخلاص العبادة له،أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التّوحيد و أكفّهم عمّا طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر،حين قالوا:

اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ و من حقّ الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده و لا يخالفوه،و نحوه فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي من بعد أولئك الموصوفين بالصّفات الحميدة.(2:118)

نحوه الفخر الرّازيّ(15:10)،و البيضاويّ(1:

370)،و النّسفيّ(2:78)،و أبو حيّان(4:395)، و الشّربينيّ(1:518)،و أبو السّعود(3:32)، و البروسويّ(3:245).

الكاشانىّ:أي قمتم مقامي و كنتم خلفائي من بعدي؛حيث عبدتم العجل مكان عبادة اللّه.

(2:239)

الآلوسيّ: [نحو الزّمخشريّ مع إضافة فلاحظ]

(9:66)

ابن عاشور :هذا خطاب لهارون و وجوه القوم، لأنّهم خلفاء موسى في قومهم،فيكون(خلفتمونى) مستعملا في حقيقته.و يجوز أن يكون الخطاب لجميع القوم،فأمّا هارون فلأنّه لم يحسن الخلافة بسياسة الأمّة كما كان يسوسها موسى،و أمّا القوم فلأنّهم عبدوا العجل بعد غيبة موسى،و من لوازم الخلافة فعل ما كان يفعله المخلوف عنه،فهم لمّا تركوا ما كان يفعله موسى من عبادة اللّه و صاروا إلى عبادة العجل، فقد انحرفوا عن سيرته فلم يخلفوه في سيرته.و إطلاق «الخلافة»على هذا المعنى مجاز،فيكون فعل(خلفتمونى)مستعملا في حقيقته و مجازه.

و زيادة(من بعدى)عقب(خلفتمونى)للتّذكير بالبون الشّاسع بين حال الخلف و حال المخلوف عنه، تصوير لفظاعة ما خلفوه به،أي بعد ما سمعتم منّي التّحذير من الإشراك و زجركم عن تقليد المشركين، حين قلتم: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، فيكون قيد مِنْ بَعْدِي للكشف و تصوير الحالة،كقوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ النّحل:26، و معلوم أنّ السّقف لا يكون إلاّ من فوق،و لكنّه ذكر لتصوير حالة الخرور و تحويلها،و نظيره قوله تعالى، بعد ذكر نفر من الأنبياء و صفاتهم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الأعراف:196،أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصّفات.(8:296)

يخلفون

وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. الزّخرف:60

ابن عبّاس: (يخلفون)خلفاء منكم بدلكم، و يقال:يمشون في الأرض بدلكم.(415)

يخلف بعضهم بعضا.(الطّبريّ 11:204)

مجاهد :يعمرون الأرض بدلا منكم.

(الطّبريّ 11:204)

قتادة :يخلف بعضهم بعضا،مكان بني آدم.

(الطّبريّ 11:204)

السّدّيّ: خلفا منكم.(438)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و لو نشاء معشر بني

ص: 42

آدم أهلكناكم،فأفنينا جميعكم،و جعلنا بدلا منكم في الأرض ملائكة يخلفونكم فيها يعبدونني؛و ذلك نحو قوله تعالى ذكره: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً النّساء:133، و كما قال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ الأنعام:133.(11:204)

الزّجّاج: معنى(يخلفون)يخلف بعضهم بعضا، و المعنى لجعلنا منهم بدلا منكم.(4:417)

الثّعلبيّ: يعني يكونون خلفا منكم،فيعمرون الأرض و يعبدونني و يطيعونني.(8:341)

نحوه البغويّ.(4:166)

الماورديّ: وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً، فيه وجهان:

أحدهما:يعني لقلبنا بعضكم ملائكة من غير أب، كما خلقنا عيسى من غير أب،ليكونوا خلفاء من ذهب منكم.

الثّاني:جعلنا بدلا منكم ملائكة.

فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ فيه أربعة أوجه:[نقل قول مجاهد و قتادة و السّدّيّ و قال:]

الرّابع:ملائكة يكونون رسلا إليكم بدلا من الرّسل منكم.(5:235)

الطّوسيّ: أي بدلا منكم معاشر بني آدم ملائكة في الأرض(يخلفون)بني آدم،غير أنّه أنشأ بني آدم لإسباغ النّعمة عليهم.(9:211)

القشيريّ: و لو شئنا لأنزلنا ملائكة من السّماء حتّى يكونوا سكّان الأرض بدلكم.(5:372)

الواحديّ: أي لو نشاء أهلكناكم و جعلنا بدلا منكم ملائكة فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يكونون خلفا منكم.

قال الأزهريّ: و«من»قد تكون للبدل كقوله:

(جعلنا منكم)يريد بدلا منكم.(4:79)

الزّمخشريّ: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ: لولّدنا منكم يا رجال(ملائكة)يخلفونكم في الأرض،كما يخلفكم أولادكم،كما ولّدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميّزنا بالقدرة الباهرة،و لتعلموا أنّ الملائكة أجسام لا تتولّد إلاّ من أجسام،و ذات القديم متعالية عن ذلك.(3:494)

نحوه الفخر الرّازيّ(27:222)،و النّيسابوريّ (25:58).

ابن عطيّة: معناه:لجعلنا بدلا منكم،أي لو شاء اللّه لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض، و يخلفون بني آدم فيها.(5:61)

الطّبرسىّ:(يخلفون)بني آدم،أي يكونون خلفاء منهم.و المعنى لو نشاء أهلكناكم و جعلنا الملائكة بدلكم سكّان الأرض،يعمرونها و يعبدون اللّه.

[ثمّ استشهد بشعر]

و قيل:معناه و لو نشاء لجعلناكم أيّها البشر ملائكة،فيكون من باب التّجريد،و فيه إشارة إلى قدرته على تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة،يخلفون، أي يخلف بعضهم بعضا.(5:53)

نحوه المراغيّ.(25:104)

القرطبيّ: ...و قيل:لو نشاء لجعلنا من الإنس

ص: 43

ملائكة و إن لم تجر العادة بذلك،و الجواهر جنس واحد و الاختلاف بالأوصاف.و المعنى:لو نشاء لأسكنّا الأرض الملائكة،و ليس في إسكاننا إيّاهم السّماء شرف حتّى يعبدوا،أو يقال لهم:بنات اللّه...

(16:105)

البيضاويّ: وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولّدنا منكم يا رجال،كما ولّدنا عيسى من غير أب،أو لجعلنا بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ملائكة يخلفونكم في الأرض.و المعنى أنّ حال عيسى عليه السّلام و إن كانت عجيبة فإنّه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك،و أنّ الملائكة مثلكم من حيث إنّها ذوات ممكنة، يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا،فمن أين لهم استحقاق العبوديّة و الانتساب إلى اللّه سبحانه و تعالى؟!(2:370)

نحوه الشّربينيّ.(3:570)

النّسفيّ: أي بدلا منكم،كذا قاله الزّجّاج.و قال «جامع العلوم»:لجعلنا بدلكم،و(من)بمعنى البدل (يخلفون)يخلفونكم في الأرض،أو يخلف الملائكة بعضهم بعضا.و قيل:و لو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور لَجَعَلْنا مِنْكُمْ: لولّدنا منكم...[ثمّ قال مثل الزّمخشريّ](4:122)

أبو حيّان :(منكم)قال بعض النّحويّين:(من) تكون للبدل،أي لجعلنا بدلكم ملائكة،و جعل من ذلكم قوله تعالى: أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل الآخرة.[ثمّ استشهد بشعر]

و أصحابنا لا يثبتون ل(من)معنى البدليّة، و يتأوّلون ما ورد ما يوهم ذلك.[ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و قال:]

و هو تخريج حسن،و نحو من هذا التّخريج قول من قال:لجعلنا من الإنس ملائكة،و إن لم تجر العادة بذلك،و الجواهر جنس واحد و الاختلاف بالأوصاف...(8:25)

أبو السّعود :(لجعلنا)أي لخلقنا بطريق التّوالد(منكم)و أنتم رجال ليس من شأنكم الولادة،(ملائكة)كما خلقناهم بطريق الإبداع(فى الارض)مستقرّين فيها،كما جعلناهم مستقرّين في السّماء،(يخلفون)أي يخلفونكم مثل أولادكم،فيما تأتون و ما تذرون،و يباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم،مع أنّ شأنهم التّسبيح و التّقديس في السّماء،فمن شأنهم بهذه المثابة بالنّسبة إلى القدرة الرّبّانيّة،كيف يتوهّم استحقاقهم للمعبوديّة أو انتسابهم إليه؟!تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.(6:40)

البروسويّ: [نحو أبي السّعود مع إضافة فلاحظ]

(8:383)

شبّر:(منكم)بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يقومون مقامكم،و الغرض بيان كمال قدرته،و كون الملائكة في السّماء لا يوجب لهم الألوهيّة.(5:428)

الآلوسيّ: [نحو البيضاويّ مع إضافة فلاحظ]

(25:93)

عزّة دروزة :لقد تعدّدت أقوال المفسّرين في تأويل الآية.[فذكرها و رجّح القول بأنّها تقرير

ص: 44

لقدرة اللّه على جعل نسل البشر ملائكة](5:221)

ابن عاشور :لمّا أشارت الآية السّابقة إلى إبطال ضلالة الّذين زعموا عيسى عليه السّلام ابنا للّه تعالى، من قصره على كونه عبدا للّه،أنعم اللّه عليه بالرّسالة، و أنّه عبرة لبني إسرائيل،عقّب ذلك بإبطال ما يماثل تلك الضّلالة،و هي ضلالة بعض المشركين في ادّعاء بنوّة الملائكة للّه تعالى المتقدّم حكايتها،في قوله:

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً الزّخرف:15،الآيات، فأشير إلى أنّ الملائكة عباد للّه تعالى جعل مكانهم العوالم العليا،و أنّه لو شاء لجعلهم من سكّان الأرض بدلا عن النّاس،أي إنّ كونهم من أهل العوالم العليا لم يكن واجبا لهم بالذّات،و ما هو إلاّ وضع بجعل من اللّه تعالى كما جعل للأرض سكّانا،و لو شاء اللّه لعكس،فجعل الملائكة في الأرض بدلا عن النّاس، فليس تشريف اللّه إيّاهم بسكنى العوالم العليا بموجب بنوّتهم للّه،و لا بمقتض لهم إلهيّة،كما لم يكن تشريف عيسى بنعمة الرّسالة و لا تمييزه بالتّكوّن من دون أب مقتضيا له إلهيّة،،و إنّما هو بجعل اللّه و خلقه.

و جعل شرط(لو)فعلا مستقبلا،للدّلالة على أنّ هذه المشيئة لم تزل ممكنة بأن يعوّض للملائكة سكنى الأرض.

معنى(من)في قوله:(منكم)البدليّة و العوض، كالّتي في قوله تعالى: أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ التّوبة:38.

و المجرور متعلّق ب(جعلنا،)و قدّم على مفعول الفعل،للاهتمام بمعنى هذه البدليّة،لتتعمّق أفهام السّامعين في تدبّرها.

و جملة فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بيان لمضمون شبه الجملة إلى قوله:(منكم،)و حذف مفعول (يخلفون)لدلالة(منكم)عليه،و تقديم هذا المجرور للاهتمام بما هو أدلّ على كون الجملة بيانا لمضمون(منكم.)و هذا هو الوجه في معنى الآية، و عليه درج المحقّقون.و محاولة صاحب«الكشّاف» حمل(منكم)على معنى الابتدائيّة و الاتّصال، لا يلاقي سياق الآيات.(25:278)

مغنيّة:(منكم)أي بدلا منكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي يخلفونكم.هذا تهديد و وعيد للمشركين،و معناه أنّ اللّه غنيّ عنكم و عن عبادتكم أيّها المشركون،و لو شاء أهلككم و جعل مكانكم ملائكة يخلفونكم في الأرض،يقدّسونه و يسبّحون بحمده و لا يعصون له أمرا.و مثله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ محمّد:

38.(6:556)

الطّباطبائيّ: الظّاهر أنّ الآية متّصلة بما قبلها، مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبّس البشر من الكمال ما يقصّه القرآن عن عيسى عليه السّلام،فيخلق الطّير،و يحيي الموتى،و يكلّم النّاس في المهد،إلى غير ذلك،فيكون كالملائكة المتوسّطين في الإحياء،و الإماتة،و الرّزق، و سائر أنواع التّدبير،و يكون مع ذلك عبدا غير معبود،و مألوها غير إله،فإنّ هذا النّوع من الكمال عند الوثنيّة مختصّ بالملائكة،و هو ملاك ألوهيّتهم و معبوديّتهم،و بالجملة هم يحيلون تلبّس البشر بهذا

ص: 45

النّوع من الكمال الّذي يخصّونه بالملائكة.

فأجيب:بأنّ للّه أن يزكّي الإنسان و يطهّره من أدناس المعاصي؛بحيث يصير باطنه باطن الملائكة، فظاهره ظاهر البشر و باطنه باطن الملك،يعيش في الأرض يخلف مثله و يخلفه مثله،و يظهر منه ما يظهر من الملائكة.

و على هذا ف(من)في قوله:(منكم)للتّبعيض، و قوله:(يخلفون)أي يخلف بعضهم بعضا.

[ثمّ نقل قول الطّبرسيّ و قال:]

و فيه أنّه لا يلائم النّظم تلك الملاءمة.(18:117)

مكارم الشّيرازيّ: لئلاّ يتوهّموا[المشركين]أنّ اللّه سبحانه محتاج لعبوديّتهم،و أنّه يصرّ عليها،فإنّه تعالى يقول في الآية التّالية: وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ملائكة تخضع لأوامر اللّه،و لا تعرف عملا إلاّ طاعته و عبادته.

و اختار جمع من المفسّرين تفسيرا آخر للآية، يصبح المعنى على أساسه:و لو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض،بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب،فإنّ اللّه عزّ و جلّ قادر على أن يخلق ملكا من الإنسان،و هو نوع يختلف عنه.

و لمّا كان تولّد الملك من الإنسان لا يبدو مناسبا، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الّذين يتمتّعون بصفات الملائكة،و قالوا:إنّ المراد لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى، و إبراء المرضى بإذن اللّه،و هو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر اللّه،فإنّ اللّه قادر على أن يخلق من أبنائكم من تكون فيه كلّ صفات الملائكة و طبائعهم.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع،و ليست هذه التّفاسير بعيدة.(16:79)

فضل اللّه :(يخلفون)يأخذون موقع الخلافة في الأرض بدلا منكم كما تتحدّثون،فإنّ المسألة ليست بعيدة عن قدرة اللّه الّذي يستطيع أن يصوّر مخلوقاته بأيّة صورة،و يغيّر ما يشاء كما يشاء،و لكنّه رأى بحكمته أن يرسل رسله بشرا ليتمّ التّفاعل بينهم و بين البشر،نظرا للتّشابه في الخصائص النّوعيّة الّتي تلتقي فيها الأفكار و المشاعر و القدرات،و ليمكّن للرّسول أن يكون في موضع القدوة للآخرين في أوضاعه العمليّة المتّصلة برسالته،فلا مصلحة في أن يكون الملك رسولا للبشر،كما لا مصلحة للبشر في أن يكون رسولا للملائكة،لو كان الملائكة يحتاجون إلى رسول.[ثمّ نقل كلام الطّباطبائيّ و أدام:]

ثمّ يرد على ما يلتقي بالوجه الّذي ذكرناه،بأنّه لا يلائم النّظم تلك الملاءمة.

و لكنّنا نلاحظ أنّ المسألة المطروحة لدى الوثنيّين حول ما يقصّه القرآن،ليست متّصلة بالجانب الرّوحيّ العميق الّذي يلتقي بالعصمة من المعاصي و بالطّهارة من الأدناس،بل هي ناشئة من أنّ الطّبيعة البشريّة في ذاتها لا تنسجم مع النّبوّة الّتي هي أمر يتعلّق بالأفق الغيبيّ للّه،لإحساسهم بالعظمة الضّبابيّة، تجاه كلّ الأمور الخفيّة من الموجودات الّتي إذا لم يمنحوها الألوهيّة،فأنّهم يتحدّثون عنها،على أساس العلاقة العضويّة باللّه،كما قالوا عن الملائكة:

ص: 46

بأنّهم بنات اللّه،و كما قالوا أمرا قريبا من ذلك عن الجنّ:ممّا لا يتيسّر للبشر الّذين يعرفونهم-في نقاط قوّتهم و ضعفهم-بالحسّ المباشر.

أمّا مسألة النّظم فقد يكفي فيه أن تكون المسألة واردة في الأجواء الّتي تثيرها رسالة عيسى عليه السّلام الّتي تحدّثت عنها الآية السّابقة على أساس ما جاء في سورة مريم،و هي مسألة العلاقة بين البشريّة و النّبوّة، الّتي أثاروها ضدّ النّبيّ،و اللّه العالم.(20:257)

اخلفنى

...و قال موسى لاخيه هارون اخلفنى فى قومى و اصلح و لا تتّبع سبيل المفسدين.الأعراف:142

ابن عبّاس: كن خليفتي.(137)

مثله الثّعلبيّ(4:274)،و البغويّ(2:228)، و الزّمخشريّ(2:111)،و الطّبرسيّ(2:473)، و القرطبيّ(7:277)،و البيضاويّ(1:367)، و النّسفيّ(2:74)،و النّيسابوريّ(9:43)، و الشّربينيّ(1:511)،و أبو السّعود(3:26)، و الكاشانيّ(2:232)،و القاسميّ(7:2849).

الطّبريّ: يقول:كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع، يقال منه:خلفه يخلفه خلافة.(6:49)

القشيريّ: كان هارون حمولا بحسن الخلق،لمّا كان المرور إلى فرعون استصحب موسى هارون،فقال اللّه سبحانه: أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي بعد ما قال: أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً. و لمّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه،فقال: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، و هذا غاية لحمل من هارون و نهاية التّصبّر و الرّضاء،فلم يقل:لا أقيم في قومك،و لم يقل:هلاّ تحملني مع نفسك كما استصحبتني حال المرور إلى فرعون؟بل صبر و رضي بما لزم،و هذه من شديدات بلاء الأحباب.[ثمّ استشهد بشعر](2:258)

الفخر الرّازيّ: كن خليفتي فيهم...

فإن قيل:إنّ هارون كان شريك موسى عليه السّلام في النّبوّة،فكيف جعله خليفة لنفسه،فإنّ شريك الإنسان أعلى حالا من خليفته،و ردّ الإنسان من المنصب الأعلى إلى الأدون يكون إهانة؟

قلنا:الأمر و إن كان كما ذكرتم،إلاّ أنّه كان موسى عليه السّلام هو الأصل في تلك النّبوّة.(14:227)

أبو حيّان :معنى(اخلفنى:)استبدّ بالأمر.

(4:381)

البروسويّ: كن خليفتي،و قم مقامي.

(3:228)

الآلوسيّ: [ذكر وجه استخلافه مع أنّه كان نبيّا مثله،ثمّ قال:]

و ذكر الشّيخ الأكبر قدّس سرّه في«فتوحاته»:أنّ هارون ذكر له أنّه نبيّ بحكم الأصالة و رسول بحكم التّبعيّة،فلعلّ هذا الاستخلاف من آثار تلك التّبعيّة.

و قيل:إنّ هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذّهاب لأمر:كن عوضا عنّي،على معنى ابذل غاية وسعك و نهاية جهدك بحيث يكون فعلك فعل شخصين.(9:44)

المراغيّ: [ذكر وجه استخلافه كغيره](9:56)

ص: 47

ابن عاشور:معنى(اخلفنى)كن خلفا عنّي و خليفة،و هو الّذي يتولّى عمل غيره عند فقده، فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف،فالخلافة وكالة،و فعل«خلف»:مشتقّ من الخلف بسكون اللاّم،و هو ضدّ الأمام،لأنّ الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه،و الغائب يجعل مكانه وراءه.(8:271)

مكارم الشّيرازيّ: [ذكر وجه نصبه هارون خليفة له و هو نبيّ مثله كما تقدّم](5:181)

الخالفين

...إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ. التّوبة:83

ابن عبّاس: مع النّساء و الصّبيان.(163)

مثله الحسن و قتادة(الماورديّ 2:388)، و البغويّ(2:376).

الخالفون:الرّجال.(الطّبريّ 6:438)

الرّجال الّذين تخلّفوا بغير عذر.(الثّعلبيّ 5:78)

هم الرّجال الّذين تخلّفوا بأعذار و أمراض.

(الماورديّ 2:388)

هم من تأخّر من المنافقين.(الطّوسيّ 5:314)

الضّحّاك: النّساء و الصّبيان و المرضى و الزّمنى.

(الثّعلبيّ 5:78)

نحوه الطّباطبائيّ.(9:360)

قتادة :أي مع النّساء.(الطّبريّ 6:438)

الفرّاء: من الرّجال،خلوف و خالفون،و النّساء خوالف:اللاّتي يخلفن في البيت فلا يبرجن.و يقال:

عبد خالف،و صاحب خالف،إذا كان مخالفا.

(1:447)

أبو عبيدة :الخالف الّذي خلف بعد شاخص فقعد في رحله،و هو من تخلّف عن القوم.و منه:اللّهمّ اخلفني في ولدي.

و يقال:فلان خالفة أهل بيته،أي مخالفهم إذا كان لا خير فيه.(1:265)

ابن قتيبة : ...اَلْخالِفِينَ واحدهم خالف،و هو من يخلف الرّجل في ماله و بيته.(191)

الجبّائيّ: هم كلّ من تأخّر لمرض أو نقص.

(الطّوسيّ 5:314)

الطّبريّ: يقول:فاقعدوا مع الّذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّكم منهم،فاقتدوا بهديهم،و اعملوا مثل الّذي عملوا من معصية اللّه،فإنّ اللّه قد سخط عليكم.[إلى أن قال:]

ذكر لنا أنّهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين، قيل فيهم ما قيل...و الصّواب من التّأويل في قوله:

(الخالفين،)ما قال ابن عبّاس.

فأمّا ما قال قتادة:من أنّ ذلك النّساء،فقول لا معنى له،لأنّ العرب لا تجمع النّساء إذا لم يكن معهنّ رجال،بالياء و النّون،و لا بالواو و النّون.و لو كان معنيّا بذلك النّساء لقيل:فاقعدوا مع الخوالف،أو مع الخالفات.و لكن معناه ما قلنا،من أنّه أريد به فاقعدوا مع مرضى الرّجال و أهل زمانتهم،و الضّعفاء منهم، و النّساء.و إذا اجتمع الرّجال و النّساء في الخبر،فإنّ العرب تغلّب الذّكور على الإناث،و لذلك قيل:

ص: 48

فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ، و المعنى ما ذكرنا.

و لو وجّه معنى ذلك إلى:فاقعدوا مع أهل الفساد، من قولهم:خلف الرّجل عن أهله يخلف خلوفا،إذا فسد،و من قولهم:هو خلف سوء،كان مذهبا.و أصله إذا أريد به هذا المعنى،من قولهم:خلف اللّبن يخلف خلوفا،إذا خبث من طول وضعه في السّقاء حتّى يفسد،و من قولهم:خلف فم الصّائم،إذا تغيّرت ريحه.

(6:438)

النّحّاس: [نقل بعض الأقوال ثمّ قال:]

فأمّا قول قتادة: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي مع النّساء،فليس بصواب،لأنّ المؤنّث لا يجمع كذا، و لكن يكون المعنى مع الخالفين للفساد،و يجوز أن يكون المعنى:مع مرضى الرّجال،و أهل الزّمانة.

(3:241)

الثّعلبيّ: ...قيل:مع المخالفين...و قيل:ضعفاء النّاس.و يقال:خلاف أهله إذا كان ذويهم،و قيل:مع أهل الفساد،من قولهم:خلف الرّجل على أهله يخلف خلوفا إذا فسد...و قرأ مالك بن دينار (مع المخالفين) .

(5:78)

الطّوسيّ: قيل:معناه مع أهل الفساد،مشتقّا من قولهم:خلف خلوفا،أي تغيّر إلى الفساد.و قيل:

الخالف:كلّ من تأخّر عن الشّاخص.(5:314)

الزّمخشريّ: قرأ مالك بن دينار رحمه اللّه: (مع الخلفين) على قصر الخالفين.(2:206)

ابن عطيّة: [ذكر قول ابن عبّاس و اختاره، و قول قتادة و ردّه،ثمّ قول الطّبريّ و قال:]

و هذا تأويل مقحم،و الأوّل أفصح و أجرى على اللّفظة.و قرأ مالك بن دينار و عكرمة (مع الخلفين) و هو مقصور من الخالفين،كما قال:عردا و بردا،يريد عاردا و باردا.[ثمّ استشهد بشعر](3:66)

الطّبرسيّ: ...مَعَ الْخالِفِينَ في كلّ غزوة.[ثمّ نقل الأقوال الماضية في المراد بالخالفين](3:56)

الفخر الرّازيّ: [نقل الأقوال في تفسير الخالف ثمّ قال:]

إذا عرفت هذه الوجوه الثّلاثة،فلا شكّ أنّ اللّفظ يصلح حمله على كلّ واحد منها،لأنّ أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصّفات.

و اعلم أنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الرّجل إذا ظهر له من بعض متعلّقيه مكر و خداع و كيد،و رآه مشدّدا فيه مبالغا في تقرير موجباته،فإنّه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه و بينه،و أن يحترز عن مصاحبته.

(16:151)

القرطبيّ: (الخالفين:)جمع خالف،كأنّهم خلفوا الخارجين.[نقل بعض الأقوال في ذلك و قال:]

و هذا يدلّ على أنّ استصحاب المخذّل في الغزوات لا يجوز.(8:217)

البيضاويّ: أي المتخلّفين،لعدم لياقتهم للجهاد، كالنّساء و الصّبيان.و قرئ (مع الخلفين) على قصر الخالفين.(1:426)

نحوه الكاشانيّ.(2:363)

النّسفيّ: مع من تخلّف بعد.(2:139)

أبو حيّان :أي أقيموا،و ليس أمرا بالقعود الّذي

ص: 49

هو نظير الجلوس،و إنّما المراد منعهم من الخروج معه.[ثمّ نقل بعض الأقوال و قال:]

و قيل:الأخسّاء الأدنياء،من قولهم:فلان خالفة قومه،لأخسّهم و أرذلهم.و دلّت هذه الآية على توقّي صحبة من يظهر منه مكر و خداع و كيد،و قطع العلقة بينهما و الاحتراز منه.[و أدام الكلام في ذكر الأقوال]

(5:81)

الشّربينيّ: [نحو البيضاويّ ثمّ نقل كلام الرّازيّ:

و اعلم أنّ...](1:638)

أبو السّعود :أي المتخلّفين الّذين ديدنهم القعود و التّخلّف دائما.و قرئ (الخلفين) على القصر،فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين،و لزّهم في قرن الخالفين عقوبة لهم أيّ عقوبة.و تذكير اسم التّفضيل المضاف إلى المؤنّث هو الأكثر الدّائر على الألسنة، فإنّك لا تكاد تستمع قائلا يقول:هي كبرى امرأة أو أولى مرّة.(3:176)

البروسويّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

فإن قيل:كانت أعمال المنافقين،من الشّهادة و الصّلاة و الزّكاة و الصّيام و الحجّ و الجهاد مقبولة عند النّبيّ عليه السّلام،و إن لم تكن مقبولة عند اللّه تعالى،فكان النّبيّ عليه السّلام يقول:نحن نحكم بالظّاهر،و اللّه يتولّى السّرائر،فما الحكمة في أنّ اللّه تعالى أمر النّبيّ عليه السّلام بأن لا يقبل من المتخلّفين أعمالهم من الخروج معه و القتال مع العدوّ و غير ذلك؟

قلنا:إنّ الحكمة في ذلك-و اللّه أعلم-أنّ المنافقين لمّا كانوا يظهرون الإسلام و الائتمار بأوامر النّبيّ عليه السّلام،مع[ما]كانوا يضمرون من الكفر و النّفاق، كانت أعمالهم مقبولة عند النّبيّ عليه السّلام،و سرائرهم موكولة إلى اللّه تعالى،طمعا في إنابتهم و رجوعهم من النّفاق إلى الوفاق،فلمّا أظهروا ما أضمروا ردّت إليهم أعمالهم،فكان الحكم بالظّاهر أيضا،فافهم.

قال العلماء:أخرجهم اللّه تعالى من ديوان الغزاة، و محا أساميهم من دفتر المجاهدين،و أبعد محلّهم من محفل صحبة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،عقوبة لهم على تخلّفهم،لما فيه من الإهانة،و إظهار نفاقهم،و بيان أنّهم ليسوا ممّن يتقوّى به الدّين و يعزّ الإسلام كالمؤمنين الخلّص.

(3:477)

الآلوسيّ: [نحو البيضاويّ و غيره و أضاف:]

و الظّرف متعلّق بما عنده (1)أو بمحذوف وقع حالا من ضمير الجمع،و الفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريق العقوبة،على ما صدر منهم من الرّضا بالقعود،أي إذا رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا من بعد.

و قرأ عكرمة (الخلفين) بوزن«حذرين»،و لعلّه صفة مشبّهة مثله،و قيل:هو مقصور من(الخالفين) إذ لم يثبت استعماله كذلك،على أنّه صفة مشبّهة.

(10:153)

المراغيّ: فاقعدوا أبدا مع الّذين تخلّفوا عن النّفر من الأشرار المفسدين،الّذين خرجوا عن سبيل المهتدين.و ربّما كان المراد ب(الخالفين:)الصّبيان و العجزة و النّساء الّذين لا يكلّفون القيام بشرفه.

ص: 50


1- كذا،و الظّاهر:بما قبله.

الجهاد دفاعا عن الحقّ،و إعلاء لكلمة اللّه.(10:175)

ابن عاشور :(الخالفين:)جمع خالف،و هو الّذي يخلف الغازي في أهله،و كانوا يتركون لذلك من لا غناء له في الحرب،فكونهم مع الخالفين تعيير لهم.

(10:170)

مكارم الشّيرازيّ: ملاحظات:

1-لا شكّ أنّ هذه المجموعة من المنافقين كانوا قد ندموا على تخلّفهم و تابوا منه،و أنّهم لو قد قدّموا اقتراحهم هذا في ميدان قتال آخر من أجل غسل ذنبهم السّابق،لقبل اللّه تعالى منهم ذلك،و لم يردّهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،فعلى هذا يتبيّن لنا أنّ طلبهم هذا بنفسه نوع من المراوغة و الشّيطنة و عمل نفاقيّ،أو قل:إنّه كان تكتيكا من أجل إخفاء الوجه القبيح لهم،و الاستمرار في أعمالهم السّابقة.

2-إنّ معنى كلمة«خالف»:المتخلّف،و هي إشارة إلى المتخلّفين عن الحضور في ساحات القتال، سواء كان تخلّفهم لعذر أو بدون عذر.

و البعض قال:إنّ«خالف»بمعنى مخالف،أي اذهبوا أيّها المخالفون و ضمّوا أصواتكم إلى المنافقين، لتكونوا جميعا صوتا واحدا.

و فسّرها البعض بأنّ معناها«فاسد»،لأنّ الخلوف بمعنى الفساد،و خالف بمعنى فاسد،قد وردت في اللّغة.

و يوجد احتمال آخر،و هو أنّه قد يراد من الكلمة جميع المعاني المذكورة،لأنّ المنافقين و أنصارهم توجد فيهم كلّ هذه الصّفات الرّذيلة.

3-و كذا ينبغي أن نذكر بأنّ المسلمين يجب أن يستفيدوا من طرق مجابهة المنافقين في الأعصار الماضية،و يطبّقوها في مواجهة منافقي محيطهم و مجتمعهم،كما يجب اتّباع نفس أسلوب النّبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و يجب الحذر من السّقوط في شباكهم و لو مرّة واحدة،و يجب أن لا ينخدع المسلم بهم،و لا يرقّ قلبه لدموع التّماسيح الّتي يذرفونها،فإنّ الرّجل المسلم لا يقع في نفس الشّراك و الاشتباه مرّتين،و إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين.(6:139)

الخوالف

1- رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. التّوبة:87

ابن عبّاس: مع النّساء و الصّبيان.(163)

مجاهد :النّساء.

مثله الضّحّاك،و الحسن،و قتادة،و ابن زيد (الطّبريّ 6:442)و الكلبيّ(الماورديّ 2:390)، و الثّعلبيّ(5:80)،و البغويّ(2:378).و روي مثل ذلك عن الإمام الباقر عليه السّلام.(شبّر 3:105).

السّدّيّ: يقعدوا كما قعدت النّساء.(295)

مقاتل:مع المنافقين.(الماورديّ 2:390)

ابن شميّل: من لا خير فيه.(ابن عطيّة 3:68)

أبو عبيدة :يجوز أن يكون(الخوالف)هاهنا النّساء،و لا يكادون يجمعون الرّجال على تقدير «فواعل»غير أنّهم قد قالوا:فارس،و الجميع:

فوارس،و هالك في قوم هوالك.[ثمّ استشهد بشعر]

(1:265)

ص: 51

ابن قتيبة:(الخوالف)يقال:النّساء،و يقال:

هم خساس النّاس و أدنياؤهم.يقال:فلان خالفة أهله،إذا كان دونهم.(191)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:رضي هؤلاء المنافقون،الّذين إذا قيل لهم:آمنوا باللّه و جاهدوا مع رسوله،استأذنك أهل الغنى منهم في التّخلّف عن الغزو و الخروج معك،لقتال أعداء اللّه من المشركين،أن يكونوا في منازلهم،كالنّساء اللّواتي ليس عليهنّ فرض الجهاد،فهنّ قعود في منازلهنّ و بيوتهنّ.

(6:442)

الزّجّاج: (الخوالف:)النّساء،و قد يجوز أن يكون جمع:«خالفة»في الرّجال.و الخالف:الّذي هو غير منجب.و لم يأت في«فاعل»«فواعل»إلاّ في حرفين:فارس و فوارس،و هالك و هوالك.

(2:465)

النّحّاس: و أصله من:خلف اللّبن يخلف،إذا حمض من طول مكثه.و خلف فم الصّائم،إذا تغيّر ريحه.و منه:فلان خلف سوء،إلاّ أنّ«فواعل»جمع:

«فاعلة».(القرطبيّ 8:224)

الطّوسيّ: هم النّساء و الصّبيان و المرضى و المقعدون.(5:318)

نحوه الطّبرسيّ(3:58)،و مغنيّة(4:82).

الواحديّ: قال المفسّرون:يعني النّساء اللاّتي يخلفن في البيوت فلا يبرحن.(2:517)

ابن عطيّة: و قوله رَضُوا... تقريع و إظهار شنعة،كما يقال على وجه التّعيير:رضيت يا فلان.

و(الخوالف:)النّساء،جمع:خالفة،هذا قول جمهور المفسّرين،...و قالت فرقة:(الخوالف:)جمع خالف، فهو جار مجرى فوارس و نواكس و هوالك.(3:68)

الفخر الرّازيّ: فيه وجهان:

[ذكر نحوا ممّا سبق ثمّ قال:]

قال الفرّاء:و لم يأت«فاعل»صيغة جمعه:

«فواعل»،إلاّ حرفان:فارس و فوارس،و هالك و هوالك.و القول الأوّل أولى،لأنّه أدلّ على القلّة و الذّلّة.قال المفسّرون:و كان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف.(16:157)

القرطبيّ: (الخوالف:)جمع خالفة،أي مع النّساء و الصّبيان و أصحاب الأعذار من الرّجال.

و قد يقال للرّجل:خالفة و خالف أيضا،إذا كان غير نجيب،يقال:فلان خالفة أهله،إذا كان دونهم.

و لا يجمع«فاعل»صفة على«فواعل»إلاّ في الشّعر، إلاّ في حرفين،و هما فارس و هالك.(8:223)

البيضاويّ: مع النّساء،جمع خالفة،و قد يقال الخالفة:للّذي لا خير فيه.(1:427)

نحوه أبو السّعود.(3:177)

النّسفيّ: أي النّساء،جمع خالفة.(2:140)

الشّربينيّ: جمع خالفة،أي النّساء اللاّتي تخلّفن في البيوت.و قيل:(الخوالف:)أدنياء النّاس و سفلتهم،يقال:فلان خالفة قومه،إذا كان دونهم.قال المفسّرون:كان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف.(1:640)

البروسويّ: أي مع النّساء المتخلّفات في البيوت

ص: 52

و الحيّ بعد أزواجهنّ،جمع خالفة،فالتّاء للتّأنيث،و قد يقال:الخالفة:الّذي لا خير فيه،فالتّاء للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة،لا للتّأنيث.و لعلّ الوجه في تسمية من لا خير فيه من الرّجال«خالفة»كونه غير مجيب إلى ما دعي إليه من المهمّات.(3:481)

شبّر:الّذين تخلّفوا عن الجهاد،جمع خالفة.

(3:105)

الآلوسيّ: هو جمع خالفة،و أطلق على المرأة لتخلّفها عن أعمال الرّجال كالجهاد و غيره،و المراد:

ذمّهم و إلحاقهم بالنّساء في التّخلّف عن الجهاد.

و يطلق الخالفة على من لا خير فيه،و التّاء فيه للنّقل للاسميّة،و حمل بعضهم الآية على ذلك،فالمقصود حينئذ:من لا فائدة فيه للجهاد،و جمعه على«فواعل» على الأوّل ظاهر.و أمّا على الثّاني فلتأنيث لفظه، لأنّ«فاعلا»لا يجمع على«فواعل»في العقلاء الذّكور إلاّ شذوذا.(10:156)

ابن عاشور :(الخوالف:)جمع خالفة،و هي المرأة الّتي تتخلّف في البيت بعد سفر زوجها،فإن سافرت معه فهي الظّعينة،أي رضوا بالبقاء مع النّساء.

(10:175)

عبد الكريم الخطيب :أي قد سوّلت لهم أنفسهم أن يكونوا مع الخوالف،ممّن لا طول لهم و لا حول،من المرضى،و الزّمنى،و أصحاب العاهات و العلل، و الأطفال،و النّساء،و الإماء،و العبيد،رضوا أن يكونوا مع هذه الطّوائف من النّاس،و هم أصحاب طول و حول،لم يكن يرضيهم أبدا أن يكون بينهم و بين هذه الطّوائف،أمر جامع أو صفة مشتركة،فكيف و هم أصحاب الحول[و]الطّول ينزلون إلى هذا المستوى الّذي يضيفهم إلى مجتمع الصّبيان و العبيد؟ و لكن هكذا أرادوا أن يكونوا،و هكذا صنعوا بأيديهم هذا الثّوب الّذي لبسوه،ثوب الصّغار و الامتهان.

(5:862)

مكارم الشّيرازيّ: [ذكر معنى الخوالف كما سبق](6:146)

فضل اللّه :المتخلّفين من أصحاب الأعذار الّذين لا يملكون أيّة حيلة للمواجهة و للمجاهدة.

(11:181)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

2- ...رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. التّوبة:93

خليفة

1- وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً... البقرة:30

ابن مسعود:إنّ اللّه جلّ ثناؤه قال للملائكة:

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا:ربّنا و ما يكون ذلك الخليفة؟قال:يكون له ذرّيّة يفسدون في الأرض و يتحاسدون و يقتل بعضهم بعضا.

مثله ابن عبّاس.(الطّبريّ 1:237)

إنّه خليفة عن اللّه تعالى في إقامة شرعه،و دلائل توحيده،و الحكم في خلقه.

مثله مجاهد.(ابن الجوزيّ 1:60)

ص: 53

ابن عبّاس: (خليفة)بدلا منكم.(6)

أوّل من سكن الأرض الجنّ،فأفسدوا فيها و سفكوا فيها الدّماء و قتل بعضهم بعضا،فبعث اللّه إليهم إبليس في جند من الملائكة،فقتلهم إبليس و من معه حتّى ألحقهم بجزائر البحور و أطراف الجبال،ثمّ خلق آدم فأسكنه إيّاها،فلذلك قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. (الطّبريّ 1:236)

الحسن :أي خلفا يخلف بعضهم بعضا،و هم ولد آدم الّذين يخلفون أباهم آدم،و يخلف كلّ قرن منهم القرن الّذي سلف قبله.(الطّبريّ 1:237)

ابن إسحاق :ساكنا و عامرا يسكنها و يعمرها خلفا،ليس منكم.(الطّبريّ 1:236)

ابن زيد :قال اللّه تعالى ذكره للملائكة:إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقا و أجعل فيها خليفة.و ليس للّه يومئذ خلق إلاّ الملائكة،و الأرض ليس فيها خلق.

(الطّبريّ 1:237)

الطّبريّ: الخليفة:الفعيلة،من قولك:خلف فلان فلانا في هذا الامر،إذا قام مقامه فيه بعده،كما قال جلّ ثناؤه: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يونس:14،يعني بذلك أنّه أبدلكم في الأرض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم،و من ذلك قيل للسّلطان الأعظم:خليفة،لأنّه خلف الّذي كان قبله،فقام بالأمر مقامه،فكان منه خلفا.يقال منه:

خلف الخليفة يخلف خلافة و خلّيفى.

و كان ابن إسحاق يقول:ساكنا و عامرا يسكنها و يعمرها خلقا ليس منكم.

و ليس الّذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها،و إن كان اللّه جلّ ثناؤه إنّما أخبر ملائكته أنّه جاعل في الأرض خليفة يسكنها،و لكن معناها ما وصفت قبل.

فإن قال قائل:فما الّذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا،فكان بنو آدم بدلا منه و فيها منه خلفا؟

قيل:قد اختلف أهل التّأويل في ذلك.[و نقل القول الثّالث لابن عبّاس و قال:]

فعلى هذا القول إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً من الجنّ،يخلفونهم فيها،فيسكنونها و يعمرونها.[ثمّ ذكر قول الحسن و ابن زيد و قال:]

و هذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن،و يحتمل أن يكون أراد ابن زيد أنّ اللّه أخبر الملائكة أنّه جاعل في الأرض خليفة له يحكم فيها بين خلقه بحكمه.

[ثمّ نقل رواية ابن مسعود و قال:]

فكان تأويل الآية على هذه الرّواية الّتي ذكرناها عن ابن مسعود و ابن عبّاس:إنّي جاعل في الأرض خليفة منّي يخلفني في الحكم بين خلقي،و ذلك الخليفة هو آدم و من قام مقامه،في طاعة اللّه و الحكم بالعدل بين خلقه.و أمّا الإفساد و سفك الدّماء بغير حقّها فمن غير خلفائه،و من غير آدم و من قام مقامه في عباد اللّه، لأنّهما أخبرا أنّ اللّه جلّ ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه ما ذاك الخليفة؟إنّه خليفة يكون له ذرّيّة يفسدون في الأرض و يتحاسدون و يقتل بعضهم بعضا،فأضاف الإفساد و سفك الدّماء بغير حقّها إلى ذرّيّة خليفته دونه،و أخرج منه خليفته.

ص: 54

و هذا التّأويل و إن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه،فموافق له من وجه:فأمّا موافقته إيّاه،فصرف متأوّليه إضافة الإفساد في الأرض و سفك الدّماء فيها إلى غير الخليفة،و أمّا مخالفته إيّاها،فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف اللّه إيّاه فيها،و إضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا،و قيام قرن منهم مقام قرن قبلهم،و إضافة الإفساد في الأرض و سفك الدّماء إلى الخليفة.[ثمّ أطال الكلام فيما دعا المتأوّلين إلى هذا التّأويل،فلاحظ:](1:236)

ابن الأنباريّ: الأصل في الخليفة:خليف بغير هاء،فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف، كما قالوا:علاّمة و نسّابة و راوية.

(ابن الجوزيّ 1:60)

القمّيّ: (خليفة)يكون حجّة لي في الأرض على خلقي.(1:36)

الثّعلبيّ: (خليفة)أي بدلا منكم و رافعكم إليّ، سمّي خليفة لأنّه يخلف الذّاهب و يجيء بعده،فالخليفة من يتولّى إمضاء الأمر عن الآمر.و قرأ زيد بن عليّ:

(خليقة) بالقاف.[ثمّ ذكر خلق الملائكة و الجنّ و ما وقع بين الجنّ من الحسد و البغي،ثمّ خلق الإنسان،فلاحظ](1:175)

نحوه البغويّ.(1:101)

الطّوسيّ: [ذكر معنى الخليفة،ثمّ الفرق بين الخلف و الخلف،ثمّ وجه تسمية آدم خليفة كما سبق عن غيره](1:131)

القشيريّ: يقال:إنّ اللّه سبحانه و تعالى خلق ما خلق من الأشياء،و لم يقل في شأن شيء منه ما قال في حديث آدم؛حيث قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة لو كان من المخلوقين.و الحقّ سبحانه و تعالى خلق الجنان بما فيها،و العرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء و كمال الصّورة،و لم يقل:إنّي خالق عرشا أو جنّة أو ملكا، و إنّما قال تشريفا و تخصيصا لآدم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. (1:86)

الواحديّ: [ذكر معنى الخليفة،و أنّ أصلها:

خليف،و التّاء للمبالغة،و جمعها:خلفاء،نظير ما سبق عن غيره](1:113)

الزّمخشريّ: الخليفة:من يخلف غيره،و المعنى:

خليفة منكم،لأنّهم[الملائكة]كانوا سكّان الأرض، فخلفهم فيها آدم و ذرّيّته.

فإن قلت:فهلاّ قيل:خلائف أو خلفاء؟

قلت:أريد ب«الخليفة»آدم،و استغني بذكره عن ذكر بنيه،كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك:مضر و هاشم،أو أريد من يخلفكم،أو خلفا يخلفكم،فوحّد لذلك.

و قرئ (خليفة) بالقاف.و يجوز أن يريد خليفة منّي،لأنّ آدم كان خليفة اللّه في أرضه،و كذلك كلّ نبيّ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ص:26.

فإن قلت:لأيّ غرض أخبرهم بذلك؟

قلت:ليسألوا ذلك السّؤال و يجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم،صيانة لهم

ص: 55

عن اعتراض الشّبهة في وقت استخلافهم.

و قيل:ليعلّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها،و عرضها على ثقاتهم و نصائحهم،و إن كان هو بعلمه و حكمته البالغة غنيّا عن المشاورة.

(1:271)

نحوه النّسفيّ.(1:40)

ابن عطيّة: (خليفة)معناه من يخلف.[و نقل قول الحسن ثمّ قال:]

ففي هذا القول،يحتمل أن تكون[خليفة]بمعنى خالفة،و بمعنى مخلوفة.(1:117)

الطّبرسيّ: أراد ب«الخليفة»:آدم عليه السّلام،فهو خليفة اللّه في أرضه،يحكم بالحقّ...و قيل:إنّما سمّى اللّه تعالى آدم خليفة،لأنّه جعل آدم و ذرّيّته خلفاء للملائكة،لأنّ الملائكة كانوا سكّان الأرض...

(1:74)

الفخر الرّازيّ: فيه مسائل:[إلى أن قال:]

المسألة الخامسة:اختلفوا في أنّ المراد من قوله:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً كلّ الملائكة أو بعضهم،فروى الضّحّاك عن ابن عبّاس:أنّه سبحانه و تعالى إنّما قال هذا القول:

للملائكة الّذين كانوا محاربين مع إبليس،لأنّ اللّه تعالى لمّا أسكن الجنّ الأرض فأفسدوا فيها و سفكوا الدّماء و قتل بعضهم بعضا،بعث اللّه إبليس في جند من الملائكة،فقتلهم إبليس بعسكره،حتّى أخرجوهم من الأرض و ألحقوهم بجزائر البحر،فقال تعالى لهم:

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً

و قال الأكثرون من الصّحابة و التّابعين:إنّه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص،لأنّ لفظ الملائكة يفيد العموم،فيكون التّخصيص خلاف الأصل.[إلى أن قال:]

المسألة الثّامنة:[ذكر معنى الخليفة و أنّ المراد به آدم و ذرّيّته،ثمّ وجه تسمية خليفة بوجهين،ثمّ قال:]

فإن قيل:ما الفائدة في أن قال اللّه تعالى للملائكة:

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مع أنّه منزّه عن الحاجة إلى المشورة؟

و الجواب من وجهين:

الأوّل:أنّه تعالى علم أنّهم إذا اطّلعوا على ذلك السّرّ أوردوا عليه ذلك السّؤال،فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب،فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السّؤال،و يسمعوا ذلك الجواب.

الوجه الثّاني:أنّه تعالى علّم عباده المشاورة.

(2:165)

القرطبيّ: فيه سبع عشرة مسألة:[إلى أن قال:]

الثّالثة:قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً... (خليفة)يكون بمعنى فاعل،أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض،أو من كان قبله من غير الملائكة،على ما روي.و يجوز أن يكون(خليفة) بمعنى مفعول أي مخلف،كما يقال:ذبيحة بمعنى مفعولة.و الخلف بالتّحريك من الصّالحين،و بتسكينها من الطّالحين،هذا هو المعروف.و(خليفة)بالفاء قراءة الجماعة،إلاّ ما روي عن زيد بن عليّ فإنّه قرأ (خليقة) بالقاف.

ص: 56

و المعنيّ ب«الخليفة»هنا في قول ابن مسعود و ابن عبّاس و جميع أهل التّأويل:آدم عليه السّلام،و هو خليفة اللّه في إمضاء أحكامه و أوامره،لأنّه أوّل رسول إلى الأرض،كما في حديث أبي ذرّ،قال:قلت:يا رسول اللّه أ نبيّا كان مرسلا؟قال:«نعم...»،الحديث.و يقال:

لمن كان رسولا و لم يكن في الأرض أحد،فيقال:كان رسولا إلى ولده،و كانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا، في كلّ بطن ذكر و أنثى،و توالدوا حتّى كثروا،كما قال اللّه تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً النّساء:1،و أنزل عليهم تحريم الميتة و الدّم و لحم الخنزير.و عاش تسعمائة و ثلاثين سنة،هكذا ذكر أهل التّوراة.و روي عن وهب بن منبّه أنّه عاش ألف سنة،و اللّه أعلم.

الرّابعة:هذه الآية أصل في نصب إمام و خليفة يسمع له و يطاع،لتجتمع به الكلمة،و تنفّذ به أحكام الخليفة.و لا خلاف في وجوب ذلك بين الأمّة و لا بين الأئمّة،إلاّ ما روي عن الأصمّ حيث كان عن الشّريعة أصمّ،و كذلك كلّ من قال بقوله و اتّبعه على رأيه و مذهبه،قال:إنّها غير واجبة في الدّين،بل يسوغ ذلك،و أنّ الأمّة متى أقاموا حجّهم و جهادهم، و تناصفوا فيما بينهم،و بذلوا الحقّ من أنفسهم، و قسّموا الغنائم و الفيء و الصّدقات على أهلها، و أقاموا الحدود على من وجبت عليه،أجزأهم ذلك، و لا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولّى ذلك.و دليلنا قول اللّه تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30،و قوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ص:26،و قال: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ النّور:55،أي يجعل منهم خلفاء،إلى غير ذلك من الآي.(1:261)

البيضاويّ: و الخليفة:من يخلف غيره و ينوب منابه،و الهاء فيه للمبالغة،و المراد به:آدم عليه الصّلاة و السّلام،لأنّه كان خليفة اللّه في أرضه،و كذلك كلّ نبيّ استخلفهم اللّه في عمارة الأرض و سياسة النّاس و تكميل نفوسهم و تنفيذ أمره فيهم،لا لحاجة له تعالى إلى من ينوبه،بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه،و تلقّي أمره بغير وسط،و لذلك لم يستنبئ ملكا،كما قال اللّه تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً الأنعام:9.

أ لا ترى أنّ الأنبياء لمّا فاقت قوّتهم،و اشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار، أرسل إليهم الملائكة و من كان منهم أعلى رتبة،كلّمه بلا واسطة،كما كلّم موسى عليه السّلام في الميقات،و محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة المعراج.و نظير ذلك في الطّبيعة أنّ العظم لمّا عجز عن قبول الغذاء من اللّحم لما بينهما من التّباعد،جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما، ليأخذ من هذا و يعطي ذلك.

أو خليفة من سكن الأرض قبله،أو هو و ذرّيّته، لأنّهم يخلفون من قبلهم،أو يخلف بعضهم بعضا.

و إفراد اللّفظ:إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه،كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم:مضر و هاشم.أو على تأويل من يخلفكم،أو خلقا يخلفكم.

ص: 57

و فائدة قوله تعالى هذا للملائكة،تعليم المشاورة، و تعظيم شأن المجعول،بأن بشّر بوجوده سكّان ملكوته،و لقّبه بالخليفة قبل خلقه،و إظهار فضله الرّاجح على ما فيه من الفاسد بسؤالهم و جوابه، و بيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره،فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشّرّ القليل،شرّ كثير إلى غير ذلك.(1:45)

نحوه الشّربينيّ.(1:45)

النّيسابوريّ: [ذكر معنى الخليفة و أنّه صالح للواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث،و أنّ جمعه:خلائف و خلفاء،ثمّ قال:]

و إنّما وحّد بتأويل من يخلف أو خلفا يخلف.

و بالحقيقة:الإنسان يخلف جميع المكوّنات من الرّوحانيّات و الجسمانيّات،و السّماويّات و الأرضيّات،و لا يخلفه شيء منها؛إذ لم يجتمع في شيء منها ما اجتمع فيه،و ليس للعالم مصباح يضيء بنار نور اللّه،فيظهر أنوار صفاته خلافة عنه إلاّ مصباح الإنسان،لأنّه أعطي مصباح السّرّ في زجاجة القلب، و الزّجاجة في مشكاة الجسد،و في زجاجة القلب زيت الرّوح يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ من صفاء العقل وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ النّور:35،و النّور في مصباح السّرّ فتيلة الخفاء،فإذا استنار مصباحه بنار نور اللّه كان خليفة اللّه في أرضه،فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل و الإحسان،و الرّأفة و الرّحمة،و اللّطف و القهر،و لا تظهر هذه الصّفات لا على الحيوان و لا على الملك،فاعلم.(1:231)

أبو حيّان:[ذكر أنّه بمعنى الخالف أو المخلوف، و أنّ الخليفة هو آدم،و هو خليفة عن الملائكة أو عن الجنّ أو عن إبليس،أو الخليفة ذرّيّته،ثم قال:]

و في المستخلف فيه آدم قولان:

أحدهما:الحكم بالحقّ و العدل.

الثّاني:عمارة الأرض،يزرع و يحصد،و يبني و يجري الأنهار.

و قرأ زيد بن عليّ و أبو البرهسم عمران (خليقة) بالقاف،و معناه واضح.

و خطاب اللّه الملائكة بقوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إن كان للملائكة الّذين حاربوا مع إبليس الجنّ،فيكون ذلك عامّا بأنّه رافعهم إلى السّماء،و مستخلف في الأرض،آدم و ذرّيّته.[ثمّ نقل قول الثّعلبيّ و أضاف:]

و إن كان الملائكة جميع الملائكة،فسبب القول إرادة اللّه أن يطّلع الملائكة على ما في نفس إبليس من الكبر،و أن يظهر ما سبق عليه في علمه،روي عن ابن عبّاس و عن السّدّيّ عن أشياخه،و أن يبلوا طاعة الملائكة،قاله الحسن،أو أن يظهر عجزهم عن الإحاطة بعلمه،أو أن يعظّم آدم بذكر الخلافة قبل وجوده،ليكونوا مطمئنّين له إذا وحّدوا،أو أن يعلمهم بخلقه ليسكن الأرض و إن كان ابتداء خلقه في السّماء،و أن يعلّمنا أن نشاور ذوي الأحلام منّا و أرباب المعرفة؛إذ استشار الملائكة اعتبارا لهم مع علمه بحقائق الأشياء،أو أن يتجاوز الخطاب بما ذكر فيحصل منهم الاعتراف و الرّجوع عمّا كانوا يظنّون

ص: 58

من كمال العلم،أو أن يظهر علوّ قدر آدم في العلم بقوله لآدم: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ البقرة:33،أو أن يعلّمنا الأدب معه،و امتثال لأمر عقلنا معناه أو لم نعقله،لتحصل بذلك الطّاعة المحضة،أو أن تطمئنّ قلوب الملائكة حين خلق اللّه النّار،فخافت.و سألت:

لمن خلقت هذا؟قال:لمن عصاني؛إذ لم يعلموا وجود خلق سواهم،قاله ابن زيد.

و قال بعض أهل الإشارة في قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً سابق العناية لا يؤثّر فيه حدوث الجناية،و لا يحطّ عن رتبة الولاية،و ذلك أنّه تعالى نصب آدم خليفة عنه في أرضه،مع علمه بما يحدث عنه من مخالفة أمره الّتي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة،و أهبطه إلى الأرض الّتي هي محلّ الأكدار، و مع ذلك لم يسلبه ما ألبسه من خلع كرامته،و لا حطّه عن رتبة خلافته،بل أجزل له في العطيّة فقال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى طه:122.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:إنّ اللّه سبحانه خلق ما خلق،و لم يقل في شيء منها ما قال في حديث آدم؛حيث قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فظاهر هذا الخطاب تنبيه لشرف خلق الجنان و ما فيها،و العرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء و كمال الصّورة،و لم يقل:إنّي خالق عرشا أو جنّة أو ملكا،و إنّما قال ذلك تشريفا و تخصيصا لآدم.(1:140)

أبو السّعود : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً في حيّز النّصب على أنّه مقول(قال)،و صيغة الفاعل بمعنى المستقبل،و لذلك عملت عمله.و فيها ما ليس في صيغة المضارع من الدّلالة على أنّه فاعل ذلك لا محالة،و هي من«الجعل»بمعنى التّصيير المتعدّي إلى مفعولين،فقيل:أوّلهما:(خليفة،)و ثانيهما:الظّرف المتقدّم،على ما هو مقتضى الصّناعة،فإنّ مفعولي التّصيير في الحقيقة اسم صار و خبره،أوّلهما الأوّل، و ثانيهما الثّاني،و هما مبتدأ و خبر،و الأصل:في الأرض خليفة،ثمّ قيل:صار في الأرض خليفة،ثمّ مصير في الأرض خليفة،فمعناه بعد اللّتيّا و الّتي:إنّي جاعل خليفة من الخلائف،أو خليفة بعينه كائنا في الأرض،فإنّ خبر«صار»في الحقيقة هو الكون المقدّر العامل في الظّرف.و لا ريب في أنّ ذلك ليس ممّا يقتضيه المقام أصلا،و إنّما الّذي يقتضيه هو الإخبار بجعل آدم عليه السّلام خليفة فيها،كما يعرب عنه جواب الملائكة عليهم السّلام.فإذن قوله تعالى(خليفة) مفعول ثان،و الظّرف متعلّق ب(جاعل،)قدّم على المفعول الصّريح لما مرّ من التّشويق إلى ما أخّر،أو بمحذوف وقع حالا ممّا بعده لكونه نكرة،و أمّا المفعول الأوّل فمحذوف،تعويلا على القرينة الدّالّة عليه،كما في قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً النّساء:5،حذف فيه المفعول الأوّل، و هو ضمير«الأموال»،لدلالة الحال عليه،و كذا في قوله تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ آل عمران:180،حيث حذف فيه المفعول الأوّل،لدلالة(يبخلون)عليه،أي لا يحسبنّ البخلاء بخلهم هو خيرا لهم،و لا ريب في

ص: 59

تحقّق القرينة هاهنا.

أمّا إن حمل على الحذف عند وقوع المحكيّ،فهي واضحة لوقوعه في أثناء ذكره على ما سنفصّله، كأنّه قيل:إنّي خالق بشرا من طين و جاعل في الأرض خليفة.و أمّا إن حمل على أنّه لم يحذف هناك، بل قيل مثلا:و جاعل إيّاه خليفة في الأرض،لكنّه حذف عند الحكاية،فالقرينة ما ذكر من جواب الملائكة عليهم السّلام.

قال العلاّمة الزّمخشريّ في تفسير قوله تعالى:

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ص:

71:إن قلت:كيف صحّ أن يقول لهم بشرا و ما عرفوا ما البشر و لا عهدوا به؟

قلت:وجهه أن يكون قد قال لهم:إنّي خالق خلقا من صفته كيت و كيت،و لكنّه حين حكاه اقتصر على الاسم،انتهى.

فحيث جاز الاكتفاء عند الحكاية عن ذلك التّفصيل بمجرّد الاسم من غير قرينة تدلّ عليه،فما ظنّك بما نحن فيه و معه قرينة ظاهرة.

و يجوز أن يكون من«الجعل»بمعنى الخلق المتعدّي إلى مفعول واحد هو(خليفة)،و حال الظّرف في التّعلّق و التّقديم كما مرّ،فحينئذ لا يكون ما سيأتي من كلام الملائكة مترتّبا عليه بالذّات،بل بالواسطة،فإنّه روي أنّه تعالى لمّا قال لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا:ربّنا و ما يكون ذلك الخليفة؟قال تعالى:

يكون له ذرّيّة يفسدون في الأرض،و يتحاسدون، و يقتل بعضهم بعضا،فعند ذلك قالوا ما قالوا،و اللّه تعالى أعلم.[ثمّ ذكر معنى الخليفة،و أنّ المراد به آدم و بنوه،ثمّ قال:]

و المراد بالخلافة:إمّا الخلافة من جهته سبحانه في إجراء أحكامه و تنفيذ أوامره بين النّاس و سياسة الخلق،لكن لا لحاجة به تعالى إلى ذلك،بل لقصور استعداد المستخلف عليهم،و عدم لياقتهم لقبول الفيض بالذّات،فتختصّ بالخواصّ من بنيه،و إمّا الخلافة ممّن كان في الأرض قبل ذلك،فتعمّ حينئذ الجميع.(1:109)

البروسويّ: (خليفة)و هو آدم عليه السّلام،لأنّه خلف الجنّ و جاء بعدهم،و لأنّه خليفة اللّه في أرضه، أي أريد أن أخلق في الأرض بدلا منكم و رافعكم إليّ، فكرهوا ذلك،لأنّهم كانوا أهون الملائكة عبادة.

و اعلم أنّ اللّه تعالى يحفظ العالم بالخليفة،كما يحفظ الخزائن بالختم،و هو القطب الّذي لا يكون في كلّ عصر إلاّ واحدا،فالبدء كان بآدم عليه السّلام،و الختام يكون بعيسى عليه السّلام،و الحكمة في الاستخلاف قصور المستخلف عليه عن قبول فيضه،و تلقّي أمره بغير واسطة،لأنّ المفيض تعالى في غاية التّنزّه و التّقدّس، و المستفيض منغمس غالبا في العلائق الدّنيئة كالأكل و الشّرب و غيرهما،و العوائق الطّبيعيّة كالأوصاف الذّميمة،فالاستفاضة منه إنّما تحصل بواسطة ذي جهتين،أي ذي جهة التّجرّد وجهة التّعلّق،و هو الخليفة أيّا كان،و لذا لم يستنبئ اللّه ملكا،فإنّ البشر لا يقدر على الاستفادة منه لكونه خلاف جنسه،أ لا ترى أنّ العظم لمّا عجز عن أخذ الغذاء من اللّحم لما

ص: 60

بينهما من التّباعد،جعل اللّه تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما،ليأخذ من اللّحم و يعطي العظم،و جعل السّلطان الوزير بينه و بين رعيّته،إذ هم أقرب إلى قبولهم منه،و جعل المستوقد الحطب اليابس بين النّار و بين الحطب الرّطب.

و فائدة قوله تعالى: لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أربعة أمور:

الأوّل:تعليم المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها،و عرضها على ثقاتهم و نصحائهم،و إن كان هو بعلمه و حكمته البالغة غنيّا عن المشاورة.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:أعقل الرّجال لا يستغني عن مشاورة أولي الألباب،و أفره الدّوابّ لا يستغني عن السّوط، و أورع النّساء لا تستغني عن الزّوج.

و الثّاني:تعظيم شأن المجعول بأن بشّر بوجوده سكّان ملكوته،و لقّبه بالخليفة قبل خلقه.

و الثّالث:إظهار فضله الرّاجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم،و هو قوله: أَ تَجْعَلُ...، و جوابه و هو قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.

و الرّابع:بيان أنّ الحكمة تقتضي ما يغلب خيره، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشّرّ القليل شرّ كثير، كقطع العضو الّذي فيه آكلة شرّ قليل،و سلامة جميع البدن خير كثير،فلو لم يقطع ذلك العضو،سرت تلك الآفة إلى جميع البدن و أدّت إلى الهلاك الّذي هو شرّ كثير.(1:93)

الآلوسيّ: الخليفة:من يخلف غيره و ينوب عنه، و الهاء للمبالغة،و لهذا يطلق على المذكّر.و المشهور أنّ المراد به:آدم عليه السّلام،و هو الموافق للرّواية،و لإفراد اللّفظ،و لما في السّياق.و نسبة سفك الدّم و الفساد إليه حينئذ بطريق التّسبّب،أو المراد ب مَنْ يُفْسِدُ إلخ من فيه قوّة ذلك،و معنى كونه خليفة:أنّه خليفة اللّه تعالى في أرضه،و كذا كلّ نبيّ استخلفهم في عمارة الأرض، و سياسة النّاس و تكميل نفوسهم،و تنفيذ أمره فيهم، لا لحاجة به تعالى،و لكن لقصور المستخلف عليه،لما أنّه في غاية الكدورة و الظّلمة الجسمانيّة،و ذاته تعالى في غاية التّقدّس.و المناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهيّة،فلا بدّ من متوسّط ذي جهتي تجرّد و تعلّق،ليستفيض من جهة،و يفيض بأخرى.

و قيل:هو و ذرّيّته عليه السّلام،و يؤيّده ظاهر قول الملائكة،فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم، لكونه الأصل المستتبع من عداه،و هذا كما يستغنى بذكر أبي القبيلة عنهم،إلاّ أنّ ذكر الأب بالعلم،و ما هنا بالوصف.و معنى كونهم خلفاء:أنّهم يخلفون من قبلهم من الجنّ،بني الجانّ أو من إبليس،و من معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك،على ما نطقت به الآثار،أو أنّه يخلف بعضهم بعضا.

و عند أهل اللّه تعالى المراد بالخليفة:آدم،و هو عليه السّلام خليفة اللّه تعالى و أبو الخلفاء،و المجلي له سبحانه و تعالى،و الجامع لصفتي جماله و جلاله،و لهذا جمعت له اليدان،و كلتاهما يمين،و ليس في الموجودات من وسع الحقّ سواه،و من هنا قال الخليفة الأعظم صلّى اللّه عليه و سلّم:

ص: 61

«إن اللّه تعالى خلق آدم على صورته أو على صورة الرّحمن»و به جمعت الأضداد،و كملت النّشأة و ظهر الحقّ،و لم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام السّاعة و ساعة القيام،بل متى فارق هذا الإنسان العالم مات العالم،لأنّه الرّوح الّذي به قوامه،فهو العماد المعنويّ للسّماء،و الدّار الدّنيا جارحة من جوارح جسد العالم الّذي الإنسان روحه.

و لمّا كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته، صحّت له الخلافة و تدبير العالم،و اللّه سبحانه الفعّال لما يريد،و لا فاعل على الحقيقة سواه،و في القيام ضيق،و المنكرون كثيرون،و لا مستعان إلاّ باللّه عزّ و جلّ.

و فائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة، لأنّ هذه المعاملة تشبهها،أو تعظيم شأن المجعول و إظهار فضله.و يحتمل أنّه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السّلام لهم ليعرفوا قدره،لأنّه باطن عن الصّورة الكونيّة بما عنده من الصّورة الإلهيّة،و ما يعرفه لبطونه من الملإ الأعلى إلاّ اللّوح و القلم.

و كان هذا القول على ما ذكره الشّيخ الأكبر قدّس سرّه في دولة السّنبلة،بعد مضيّ سبعة عشر ألف سنة من عمر الدّنيا،و من عمر الآخرة الّتي لا نهاية له في الدّوام ثمانية آلاف سنة،و من عمر العالم الطّبيعيّ المقيّد بالزّمان المحصور بالمكان إحدى و سبعون ألف سنة، من السّنين المعروفة الحاصلة أيّامها من دورة الفلك الأوّل،هو يوم و خمسا يوم من أيّام ذي المعارج،و للّه تعالى الأمر من قبل و من بعد،و قرأ زيد بن عليّ:

( خليقة )بالقاف و المعنى واضح.(1:220)

القاسميّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

أو تعظيم شأن المجعول،و إظهار فضله،بأن بشرّ بوجود سكّان ملكوته،و نوّه بذكره في الملإ الأعلى قبل إيجاده،و لقّبه بالخليفة.(2:94)

المراغيّ: أي و اذكر لقومك مقال ربّك للملائكة:

إنّي جاعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض، و انقرض بعد أن أفسد في الأرض و سفك الدّماء، و سيحلّ هو محلّه،يرشد إلى ذلك قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ يونس:14،و من ثمّ استنبط الملائكة سؤالهم بالقياس عليه،و على هذا فليس آدم أوّل أصناف العقلاء من الحيوان في الأرض.

و يرى جمع من المفسّرين أنّ المراد بالخلافة:

الخلافة عن اللّه في تنفيذ أوامره بين النّاس،و من ثمّ اشتهر:«الإنسان خليفة اللّه في الأرض»و يشهد له قوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ص:26.

و هذا الاستخلاف يشمل استخلاف بعض أفراد الإنسان على بعض،بأن يوحي بشرائعه على ألسنة أناس منهم يصطفيهم،ليكونوا خلفاء عنه، و استخلاف هذا النّوع على غيره من المخلوقات بما ميّزه به من قوّة العقل،و إن كنّا لا نعرف سرّها و لا ندرك كنهها،و هو بهذه القوّة غير محدود الاستعداد و لا محدود العلم،يتصرّف في الكون تصرّفا لا حدّ له، فهو يبتدع و يفتنّ في المعدن و النّبات،و في البرّ و البحر

ص: 62

و الهواء،و يغيّر شكل الأرض فيجعل الماحل خصبا، و الحزن سهلا،و يولّد بالتّلقيح أزواجا من النّبات لم تكن،و يتصرّف في أنواع الحيوان كما شاء بضروب التّوليد،و يسخّر كلّ ذلك لخدمته.

و لا أدلّ على حكمة اللّه من جعل الإنسان الّذي اختصّ بهذه المواهب خليفة في الأرض،يظهر عجائب صنعه و أسرار خليقته.(1:80)

ابن عاشور :و الخليفة في الأصل:الّذي يخلف غيره أو يكون بدلا عنه في عمل يعمله،فهو«فعيل» بمعنى«فاعل»و التّاء فيه للمبالغة في الوصف كالعلاّمة.

و المراد من«الخليفة»هنا:إمّا المعنى المجازيّ،و هو الّذي يتولّى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل و الوصيّ،أي جاعل في الأرض مدبّرا يعمل ما نريده في الأرض،فهو استعارة أو مجاز مرسل و ليس بحقيقة، لأنّ اللّه تعالى لم يكن حالاّ في الأرض و لا عاملا فيها العمل الّذي أودعه في الإنسان،و هو السّلطنة على موجودات الأرض،و لأنّ اللّه تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان،بل التّدبير الأعظم لم يزل للّه تعالى،فالإنسان هو الموجود الوحيد الّذي استطاع بما أودع اللّه في خلقته أن يتصرّف في مخلوقات الأرض، بوجوه عظيمة لا تنتهي،خلاف غيره من الحيوان.

و إمّا أن يراد من«الخليفة»:معناه الحقيقيّ،إذا صحّ أنّ الأرض كانت معمورة من قبل بطائفة من المخلوقات يسمّون الحن و البن-بحاء مهملة مكسورة و نون في الأوّل،و بموحّدة مكسورة و نون في الثّاني-.

و قيل:اسمهم الطّم و الرّم-بفتح أوّلهما-و أحسبه من المزاعم،و أنّ وضع هذين الاسمين من باب قول النّاس:

هيّان بن بيّان،إشارة إلى غير موجود أو غير معروف.

و لعلّ هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان،فإنّ الفرس زعموا أنّه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطّم و الرّم،و كان اليونان يعتقدون أنّ الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى«التّيتان»و أنّ«زفس»و هو«المشتري»كبير الأرباب في اعتقادهم،جلاهم من الأرض لفسادهم.

و كلّ هذا ينافيه سياق الآية،فإنّ تعقيب ذكر خلق الأرض ثمّ السّماوات بذكر إرادته تعالى جعل الخليفة، دليل على أنّ جعل الخليفة كان أوّل الأحوال على الأرض بعد خلقها،فالخليفة هنا الّذي يخلف صاحب الشّيء في التّصرّف في مملوكاته،و لا يلزم أن يكون المخلوف مستقرّا في المكان من قبل،فالخليفة آدم، و خلفيّته:قيامه بتنفيذ مراد اللّه تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي،و تلقين ذرّيّته مراد اللّه تعالى من هذا العالم الأرضيّ،و ممّا يشمله هذا التّصرّف تصرّف آدم بسنن النّظام لأهله و أهاليهم،على حسب وفرة عددهم و اتّساع تصرّفاتهم،فكانت الآية من هذا الوجه إيماء إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين النّاس في منازعاتهم؛إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك.

و قد بعث اللّه الرّسل و بيّن الشّرائع،فربّما اجتمعت الرّسالة و الخلافة،و ربّما انفصلتا بحسب ما أراد اللّه من شرائعه،إلى أن جاء الإسلام فجمع

ص: 63

الرّسالة و الخلافة،لأنّ دين الإسلام غاية مراد اللّه تعالى من الشّرائع و هو الشّريعة الخاتمة،و لأنّ امتزاج الدّين و الملك هو أكمل مظاهر الخطّتين،قال تعالى:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ النّساء:

64،و لهذا أجمع أصحاب رسول اللّه بعد وفاة النّبيّ على إقامة الخليفة،لحفظ نظام الأمّة و تنفيذ الشّريعة، و لم ينازع في ذلك أحد من الخاصّة و لا من العامّة،إلاّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى، من جفاة الأعراب،و دعاة الفتنة،فالمناظرة مع أمثالهم سدى.[كيف و قد خالفهم عليّ و أصحابه؟أ هو من جفاة الأعراب و دعاة الفتنة؟نعوذ باللّه]

و للخليفة شروط محلّ بيانها كتب الفقه و الكلام، و ستجيء مناسبتها في آيات آتية.

و الظّاهر أنّ خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الرّوح فيه،أو قبل النّفخ.

و الأوّل أظهر،فيكون المراد بالمخبر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق،كما يقول الّذي كتب كتابا بحضرة جليس:إنّي مرسل كتابا إلى فلان،فإنّ السّامع يعلم أنّ المراد أنّ ذلك الّذي هو بصدد كتابته،كتاب لفلان.

و يجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم،و على الوجوه كلّها يكون اسم الفاعل في قوله:(جاعل) للزّمن المستقبل،لأنّ وصف الخليفة لم يكن ثابتا لآدم ساعتئذ.

و قول اللّه هذا موجّه إلى الملائكة على وجه الإخبار،ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنسانيّ على وجه يزيل ما علم اللّه أنّه في نفوسهم،من سوء الظّنّ بهذا الجنس،و ليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم،فيكون تعليما في قالب تكريم،مثل إلقاء المعلّم فائدة للتّلميذ في صورة سؤال و جواب و ليسنّ الاستشارة في الأمور،و لتنبيه الملائكة على ما دقّ و خفي من حكمة خلق آدم،كذا ذكر المفسّرون.

و عندي أنّ هاته الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أوّل البشر،حتّى تكون ناموسا أشربته نفوس ذرّيّته،لأنّ مقارنة شيء من الأحوال و المعاني لتكوين شيء ما،تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن و بين المقارن.و لعلّ هذا الاقتران يقوم في المعاني الّتي لا توجد إلاّ تبعا لذوات مقام أمر التّكوين في الذّوات،فكما أنّ أمره إذا أراد شيئا،أي إنشاء ذات،أن يقول له:كن،فيكون،كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدّر حصول مبدإ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذّات،أ لا ترى أنّه تعالى لمّا أراد أن يكون قبول العلم من خصائص الإنسان علّم آدم الأسماء عند ما خلقه.

و هذا هو وجه مشروعيّة تسمية اللّه تعالى عند الشّروع في الأفعال،ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضا للبركة،على جميع أجزاء ذلك الفعل، و لهذا أيضا طلبت منّا الشّريعة تخيّر أكمل الحالات و أفضل الأوقات للشّروع في فضائل الأعمال و مهمّات المطالب،و تقدّم هذا في الكلام على البسملة و سنذكر ما يتعلّق بالشّورى عند قوله تعالى:

وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ آل عمران:159.

ص: 64

و أسندت حكاية هذا القول إلى اللّه سبحانه بعنوان الرّبّ،لأنّه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض،ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف و صلاح،و ذلك من معاني الرّبوبيّة،كما تقدّم في قوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الفاتحة:2،و لمّا كانت هذه النّعمة شاملة لجميع النّوع،أضيف وصف الرّبّ إلى ضمير أشرف أفراد النّوع،و هو النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم مع تكريمه بشرف حضور المخاطبة.(1:385)

مغنية:[ذكر أنّ المراد بالخليفة آدم و ذرّيّته، و سمّاهم خليفة،لأنّ اللّه أو كل الأرض للإنسان]

(1:80)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ...، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى،و كذا القول من الملائكة و الشّيطان إنشاء اللّه.

قوله تعالى: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ، إلى قوله: وَ نُقَدِّسُ لَكَ مشعر بأنّهم إنّما فهموا وقوع الإفساد و سفك الدّماء من قوله سبحانه: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، حيث إنّ الموجود الأرضيّ بما أنّه مادّيّ مركّب من القوى الغضبيّة و الشّهويّة،و الدّار دار التّزاحم،محدودة الجهات،وافرة المزاحمات،مركّباتها في معرض الانحلال،و انتظاماتها و إصلاحاتها في مظنّة الفساد و مصبّ البطلان،لا تتمّ الحياة فيها إلاّ بالحياة النّوعيّة، و لا يكمل البقاء فيها إلاّ بالاجتماع و التّعاون،فلا تخلو من الفساد و سفك الدّماء،ففهموا من هناك أنّ الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلاّ بكثرة من الأفراد،و نظام اجتماعيّ بينهم يفضي بالأخرة إلى الفساد و السّفك.

و الخلافة:و هي قيام شيء مقام آخر،لا تتمّ إلاّ بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شئونه الوجوديّة،و آثاره و أحكامه و تدابيره بما هو مستخلف.و اللّه سبحانه في وجوده مسمّى بالأسماء الحسنى،متّصف بالصّفات العليا،من أوصاف الجمال و الجلال،منزّه في نفسه عن النّقص،و مقدّس في فعله عن الشّرّ و الفساد،جلّت عظمته.و الخليفة الأرضيّ بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف،و لا يحكي بوجوده المشوب،بكلّ نقص و شين الوجود الإلهيّ المقدّس المنزّه عن جميع النّقائص و كلّ الأعدام،فأين التّراب و ربّ الأرباب؟.

و هذا الكلام من الملائكة في مقام تعرّف ما جهلوه،و استيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة،و ليس من الاعتراض و الخصومة في شيء.

و الدّليل على ذلك قولهم فيما حكاه اللّه تعالى عنهم:

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ حيث صدّر الجملة ب(انّ) التّعليليّة المشعرة بتسلّم مدخولها،فافهم.

فملخّص قولهم يعود إلى أنّ جعل الخلافة إنّما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده، و تقديسه له بوجوده.و الأرضيّة لا تدعه يفعل ذلك، بل تجرّه إلى الفساد و الشّرّ.و الغاية من هذا الجعل، و هي التّسبيح و التّقديس بالمعنى الّذي مرّ من الحكاية،حاصلة بتسبيحنا بحمدك و تقديسنا لك، فنحن خلفاؤك،أو فاجعلنا خلفاء لك،فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضيّة لك؟فردّ اللّه سبحانه ذلك عليهم

ص: 65

بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.

و هذا السّياق يشعر أوّلا:بأنّ الخلافة المذكورة إنّما كانت خلافة اللّه تعالى،لا خلافة نوع من الموجود الأرضيّ،كانوا في الأرض قبل الإنسان و انقرضوا،ثمّ أراد اللّه تعالى أن يخلفهم بالإنسان،كما احتمله بعض المفسّرين؛و ذلك لأنّ الجواب الّذي أجاب سبحانه به عنهم،و هو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك.و على هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم عليه السّلام،بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص.

و يكون معنى تعليم الأسماء:إيداع هذا العلم في الإنسان،بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما،و لو اهتدى إلى السّبيل،أمكنه أن يخرجه من القوّة إلى الفعل.

و يؤيّد عموم الخلافة قوله تعالى: إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ الأعراف:69،و قوله تعالى:

ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ يونس:14،و قوله تعالى: وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ النّمل:62.

و ثانيا:أنّه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد و سفك الدّماء،و لا كذّب الملائكة في دعواهم التّسبيح و التّقديس،و قرّرهم على ما ادّعوا،بل إنّما أبدا شيئا آخر،و هو أنّ هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله و لا تحمّله،و يتحمّله هذا الخليفة الأرضيّ،فإنّه يحكي عن اللّه سبحانه أمرا و يتحمّل منه سرّا ليس في وسع الملائكة،و لا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد و سفك الدّماء.

و قد بدّل سبحانه قوله: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ، ثانيا بقوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، و المراد بهذا«الغيب»هو الأسماء لا علم آدم بها،فإنّ الملائكة ما كانت تعلم أنّ هناك أسماء لا يعلمونها،لا أنّهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك و يجهلون من آدم أنّه يعلمها،و إلاّ لما كان لسؤاله تعالى إيّاهم عن الأسماء وجه،و هو ظاهر،بل كان حقّ المقام أن يقتصر بقوله: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، حتّى يتبيّن لهم أنّ آدم يعلمها،لا أن يسأل الملائكة عن ذلك.فإنّ هذا السّياق يعطي أنّهم ادّعوا الخلافة و أذعنوا بانتفائها عن آدم،و كان اللاّزم أن يعلم الخليفة بالأسماء،فسألهم عن الأسماء فجهلوها و علمها آدم،فثبت بذلك لياقته لها و انتفائها عنهم، و قد ذيّل سبحانه السّؤال بقوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، و هو مشعر بأنّهم كانوا ادّعوا شيئا كان لازمه العلم بالأسماء.(1:115)

عبد الكريم الخطيب :حين أصبحت الأرض صالحة لاستقبال الكائن البشريّ،أعلن اللّه تعالى في الملإ الأعلى هذا الخبر،و آذن الملائكة بأنّ كائنا بشريّا سوف يظهر في الكوكب الأرضيّ،و سيتولّى قيادة هذا الكوكب،و يكون خليفة اللّه فيه.

و الآية صريحة في أنّ هذا الكائن البشريّ أرضيّ المولد و النّشأة و الموطن،و أنّه من طينة الأرض نشأ، و في الأرض يتقلّب،و في شئونها يتصرّف، إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، هكذا من أوّل الأمر،فلم يكن آدم ابن السّماء،فلمّا عصى ربّه طرد منه،

ص: 66

ليكون خليفة اللّه على الأرض،و لو كان ذلك كذلك، لما كان للملائكة أن ينفسوا على آدم هذه الخلافة،الّتي تبدو في هذا التّصوّر عقوبة و تجريما،أكثر منها حباء و تكريما.

و لكن آدم و هو ابن الماء و الطّين،لا يتوقّع منه إلاّ أن ينضح بما في الماء و الطّين،و بما يتخلّق من الماء و الطّين،من طبائع بهيميّة،تغرى بالعدوان و الفساد، و هذا ما جعل الملائكة يقولون هذا القول بين يدي اللّه، في آدم و ما يتوقّع منه،فما هو إلاّ إنسان في مسلاخ حيوان ذي مخالب و أنياب،و ذلك قبل أن يكشف اللّه لهم عن ملكات أخرى لهذا الكائن التّرابيّ،لا يملكها الملائكة في عالمهم العلويّ،عالم النّور و الصّفاء،و تلك آيات بيّنات،تشهد لقدرة الخالق العظيم.(1:49)

مكارم الشّيرازيّ: [حكى الخلاف في المنوب عنه كغيره و اختار أنّ الحقّ هو اللّه](1:137)

فضل اللّه :(...خليفة)يملك العقل و الإرادة، و حرّيّة الحركة،و إمكانات الإبداع،و تنوّع الإنتاج، لينظّم لها حركتها،و ليدبّر أوضاعها،و يصنع فيها مجتمعاتها الّتي تمتلئ بها ساحاتها،فيكون الإنسان في الأرض تماما،كما الملائكة في السّماء،مع فارق نوعيّ، أنّ الإنسان مخلوق حرّ،بينما الملائكة مجبولون على الطّاعة.(1:215)

2- يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ... ص:26

ابن عبّاس: نبيّا ملكا على بني إسرائيل.(382)

السّدّيّ: أي جعلناك ملكا في الأرض.(411)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و قلنا لداود:يا داود إنّا استخلفناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكما بين أهلها.(10:575)

أبو مسلم الأصفهانيّ: جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدّعاء،إلى توحيد اللّه تعالى و عدله و بيان شرائعه.(الطّبرسيّ 4:473)

الماورديّ: فيه وجهان:

أحدهما:خليفة للّه تعالى،و تكون الخلافة هي النّبوّة.

الثّاني:خليفة لمن تقدّمك،لأنّ الباقي خليفة الماضي،و تكون الخلافة هي الملك.(5:90)

الطّوسيّ: الخليفة:هو المدبّر للأمور من قبل غيره بدلا من تدبيره،فداود لمّا جعل اللّه إليه تدبير الخلق فكان بذلك خليفة،و لذلك يقال:فلان خليفة اللّه في أرضه،إذا جعل إليه تدبير عباده بأمره.

و قيل:معناه جعلناك خليفة لمن كان قبلك من رسلنا.(8:556)

نحوه القشيريّ(5:252)،و شبّر(5:282).

الواحديّ: تدبّر أمور العباد من قبلنا بأمرنا.

(3:549)

نحوه البغويّ(4:66)،و الطّبرسيّ(4:473)، و ابن الجوزيّ(7:124).

الزّمخشريّ: أي استخلفناك على الملك في الأرض،كمن يستخلفه بعض السّلاطين على بعض البلاد و يملّكه عليها،و منه قولهم:خلفاء اللّه في أرضه.

ص: 67

أو جعلناك خليفة ممّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحقّ،و فيه دليل على أنّ حاله بعد التّوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغيّر.(3:371)

نحوه البيضاويّ(2:308)،و النّسفيّ(4:39)، و أبو السّعود(5:358).

ابن عطيّة: استدلّ بعض النّاس من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من اللّه تعالى.و ليس هذا بلازم من الآية،بل لزومه من الشّرع و الإجماع، و لا يقال خليفة اللّه إلاّ لرسوله.و أمّا الخلفاء فكلّ واحد منهم خليفة الّذي قبله،و ما يجيء في الشّعر من تسمية أحدهم خليفة اللّه،فذلك تجوّز و غلوّ.[ثمّ استشهد بشعر]

أ لا ترى أنّ الصّحابة رضي اللّه عنهم حرّروا هذا المعنى،فقالوا لأبي بكر الصّدّيق:خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و بهذا كان يدعى مدّته،فلمّا ولّى عمر قالوا:يا خليفة خليفة رسول اللّه،فطال الأمر،و رأوا أنّه في المستقبل سيطول أكثر،فدعوه أمير المؤمنين،و قصّر هذا الاسم على الخلفاء.(4:502)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا تمّم الكلام في شرح القصّة،[قصّة داود و أوريا]أردفها ببيان أنّه تعالى فوّض إلى داود خلافة الأرض.و هذا من أقوى الدّلائل على فساد القول المشهور في تلك القصّة،لأنّ من البعيد جدّا أن يوصف الرّجل بكونه ساعيا في سفك دماء المسلمين،راغبا في انتزاع أزواجهم منهم،ثمّ يذكر عقيبه أنّ اللّه تعالى فوّض خلافة الأرض إليه.

ثمّ نقول في تفسير كونه خليفة وجهان:

الأوّل:جعلناك تخلف من تقدّمك من الأنبياء في الدّعاء إلى اللّه تعالى،و في سياسة النّاس،لأنّ خليفة الرّجل من يخلفه؛و ذلك إنّما يعقل في حقّ من يصحّ عليه الغيبة،و ذلك على اللّه محال.

الثّاني:إنّا جعلناك مالكا للنّاس و نافذ الحكم فيهم،فبهذا التّأويل يسمّى خليفة،و منه يقال:خلفاء اللّه في أرضه.و حاصله:أنّ خليفة الرّجل يكون نافذ الحكم في رعيّته،و حقيقة الخلافة ممتنعة في حقّ اللّه، فلمّا امتنعت الحقيقة جعلت اللّفظة مفيدة اللّزوم في تلك الحقيقة،و هو نفاذ الحكم.(26:199)

القرطبيّ: أي ملّكناك لتأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر،فتخلف من كان قبلك من الأنبياء و الأئمّة الصّالحين.(15:188)

أبو حيّان :جعله تعالى داود خليفة في الأرض، يدلّ على مكانته عليه السّلام عنده و اصطفائه،و يدفع[ما]في صدر من نسب إليه شيئا ممّا لا يليق بمنصب النّبوّة.

و احتمل لفظ«خليفة»أن يكون معناه:تخلف من تقدّمك من الأنبياء أن يعلى قدرك بجعلك ملكا نافذ الحكم،و منه قيل:خلفاء اللّه في أرضه.[ثمّ نقل كلام ابن عطيّة](7:395)

الشّربينيّ: أي تدبّر أمر العباد بأمرنا.[ثمّ قال نحو الفخر الرّازيّ](3:410)

البروسويّ: الخلافة:النّيابة عن الغير:إمّا لغيبة المنوب عنه،و إمّا لموته،و إمّا لعجزه،و إمّا لتشريف المستخلف.و على هذا الوجه الأخير استخلف اللّه أولياءه في الأرض؛إذ الوجوه الأوّل محال في حقّ اللّه

ص: 68

تعالى،فالخليفة عبارة عن الملك النّافذ الحكم،و هو من كان طريقته و حكومته على طريقة النّبيّ و حكومته، و السّلطان أعمّ،و الخلافة في خصوص مرتبة الإمامة أيضا أعمّ.

و المعنى استخلفناك على الملك في الأرض، و الحكم فيما بين أهلها،أي جعلناك أهل تصرّف،نافذ الحكم في الأرض،كمن يستخلفه بعض السّلاطين على بعض البلاد و يملّكه عليها.و كان النّبوّة قبل داود في سبط و الملك في سبط آخر،فأعطاهما تعالى داود عليه السّلام فكان يدبّر أمر العباد بأمره تعالى.

و فيه دليل بيّن على أنّ حاله عليه السّلام بعد التّوبة كما كان قبلها لم يتغيّر قطّ،بل زادت اصطفائيّته،كما قال في حقّ آدم عليه السّلام ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى طه:122.

قال بعض كبراء المكاشفين:ثمّ المكانة الكبرى و المكانة الزّلفى الّتي خصّه اللّه بها التّنصيص على خلافته،و لم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه و هم الأنبياء،و إن كان فيهم خلفاء.

فإن قلت:آدم عليه السّلام قد نصّ اللّه على خلافته، فليس داود مخصوصا بالتّنصيص على خلافته.

قلنا:ما نصّ على خلافة آدم مثل التّنصيص على خلافة داود،و إنّما قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30،فيحتمل أن يكون الخليفة الّذي أراده اللّه غير آدم،بأن يكون بعض أولاده،و لو قال أيضا:«إنّي جاعل آدم»،لم يكن مثل قوله: إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً ص:26،بضمير الخطاب في حقّ داود،فإنّ هذا محقّق ليس فيه احتمال غير المقصود...

و كان مدّة ملك داود أربعين سنة ممّا وهبه الخليفة الأوّل من عمره،فإنّ آدم وهب لداود من عمره ستّين سنة،فلذا كان خليفة في الأرض كما كان آدم خليفة فيها.

و في الآية إشارة إلى معان مختلفة:

منها:أنّ الخلافة الحقيقيّة ليست بمكتسبة للإنسان و إنّما هي عطاء و فضل من اللّه يؤتيه من يشاء،كما قال تعالى: إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً ص:26،أي أعطيناك الخلافة.

و منها:أنّ استعداد الخلافة مخصوص بالإنسان كما قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ الأنعام:165.

و منها:أنّ الإنسان و إن خلق مستعدّا للخلافة و لكن بالقوّة،فلا يبلغ درجاتها بالفعل إلاّ الشّواذّ منهم.

و منها:أنّ الجعليّة تتعلّق بعالم المعنى،كما أنّ الخلقيّة تتعلّق بعالم الصّورة،و لهذا لمّا أخبر اللّه تعالى عن صورة آدم قال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ص:

71،و لمّا أخبر عن معناه قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30.

و منها:أنّ الرّوح الإنسانيّ هو الفيض الأوّل،و هو أوّل شيء تعلّق به أمر«كن»،و لهذا نسبه إلى أمره، فقال تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الإسراء:85، فلمّا كان الرّوح هو الفيض الأوّل،كان خليفة اللّه.

و منها:أنّ الرّوح الإنسانيّ خليقة اللّه بذاته و صفاته:أمّا بذاته فلأنّه كان له وجود من جود

ص: 69

وجوده بلا واسطة،فوجوده كان خليفة وجود اللّه.

و أمّا بصفاته فلأنّه كان له صفات من جود صفات اللّه بلا واسطة،فكلّ وجود و صفات تكون بعد وجود الخليفة،يكون خليفة خليفة اللّه بالذّات و الصّفات،و هلمّ جرّا إلى أن يكون القالب الإنسانيّ هو أسفل سافلين الموجودات،و آخر شيء لقبول الفيض الإلهيّ،و أقلّ حظّ من الخلافة.

فلمّا أراد اللّه أن يجعل الإنسان خليفة خليفته في الأرض،خلق لخليفة روحه منزلا صالحا لنزول الخليفة فيه و هو قالبه،و أعدّ له عرشا فيه،ليكون محلّ استوائه عليه و هو القلب،و نصب له خادما و هو النّفس،فلو بقي الإنسان على فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها،يكون روحه مستفيضا من الحقّ تعالى، فائضا بخلافة الحقّ تعالى على عرش القلب،و القلب فائض بخلافة الرّوح على خادم النّفس،و النّفس فائضة بخلافة القلب على القالب،و القالب فائض بخلافة النّفس على الدّنيا و هي أرض اللّه،فيكون الرّوح بهذه الأسباب و الآلات خليفة اللّه في أرضه، بحكمه و أمره بتواقيع الشّرائع.

و منها:أنّ من خصوصيّة الخلافة الحكم بين النّاس بالحقّ،و الإعراض عن الهوى بترك متابعته، كما أنّ من خصوصيّة أكل الحلال العمل الصّالح،قال تعالى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً المؤمنون:51.

و منها:أنّ اللّه تعالى جعل داود الرّوح خليفة في أرض الإنسانيّة،و جعل القلب و السّرّ و النّفس و القالب و الحواسّ و القوى و الأخلاق و الجوارح و الأعضاء كلّها رعيّة له،ثمّ على قضيّة:«كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته»أمر بأن يحكم بين رعيّته بالحقّ،أي بأمر الحقّ لا بأمر الهوى،كما قال تعالى:

فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ص:26،أي بحكم اللّه تعالى،فإنّ الخلافة مقتضية له حتما،و حكم اللّه بين خلقه هو العدل المحض،و به يكون الحاكم عادلا لا جائرا.(8:20)

الآلوسيّ: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إمّا حكاية لما خوطب به عليه السّلام مبيّنة لزلفاه عنده عزّ و جلّ،و إمّا مقول لقول مقدّر معطوف على (غفرنا)،أو حال من فاعله،أي و قلنا له أو قائلين له:

يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي استخلفناك على الملك فيها و الحكم فيما بين أهلها،أو جعلناك خليفة ممّن قبلك من الأنبياء القائمين بالحقّ، و هو على الأوّل مثل:فلان خليفة السّلطان،إذا كان منصوبا من قبله لتنفيذ ما يريده،و على الثّاني من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه،أي سادّ مسدّه،قائم بما كان يقوم به،من غير اعتبار لحياة و موت و غيرهما.

و الأوّل أظهر و المنّة به أعظم،فهو عليه السّلام خليفة اللّه تعالى بالمعنى الّذي سمعت.[إلى أن قال:]

و ذهب الشّيخ الأكبر محي الدّين قدّس سرّه إلى أنّ الخليفة من الرّسل من فوّض إليه التّشريع.و لعلّه من جملة اصطلاحاته،و لا مشاحّة في الاصطلاح.

و استدلّ بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من اللّه عزّ و جلّ،و هو قول من أوجب على اللّه

ص: 70

تعالى نصب الإمام،لأنّه من اللّطف الواجب عليه سبحانه،و الجماعة لا يقولون بذلك،و الإمامة عندهم من الفروع و إن ذكروها في كتب العقائد،و ليس في الآية ما يلزم منه ذلك،كما لا يخفى.و تحقيق المطلب في محلّه.(23:186)

القاسميّ: أي استخلفناك على الملك في الأرض، كمن يستخلفه بعض السّلاطين على بعض البلاد و يملّكه عليها،و منه قولهم:خلفاء اللّه في أرضه.

(14:5094)

المراغيّ: أي يا داود إنّا استخلفناك في الأرض، و جعلناك نافذ الحكم بين الرّعيّة،لك الملك و السّلطان، و عليهم السّمع و الطّاعة،لا يخالفون لك أمرا، و لا يقيمون في وجهك عصا.(23:112)

ابن عاشور :الخليفة:الّذي يخلف غيره في عمل، أي يقوم مقامه فيه.فإن كان مع وجود المخلوف عنه قيل:هو خليفة فلان،و إن كان بعد ما مضى المخلوف قيل:هو خليفة من فلان.و المراد هنا المعنى الأوّل بقرينة قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ.

فالمعنى:أنّه خليفة اللّه في إنفاذ شرائعه للأمّة المجعول لها خليفة،ممّا يوحي به إليه،و ممّا سبق من الشّريعة الّتي أوحي إليه العمل بها،و خليفة عن موسى عليه السّلام و عن أحبار بني إسرائيل الأوّلين المدعوّين بالقضاة،أو خليفة عمّن تقدّمه في الملك و هو شاول.(23:140)

مغنيّة:كلّ إنسان وجد أو يوجد فهو خليفة اللّه في أرضه،بمعنى أنّه مسئول أمام اللّه عن العمل في هذه الحياة لخير الدّنيا و الآخرة.هذا معنى خلافة الإنسان في الأرض أيّا كان.

و الفرق بين الأفراد إنّما هو في نوع العمل المسئول عنه؛حيث يطلب من كلّ حسب طاقته و مهنته،و بما أنّ وظيفة الأنبياء هي التّبشير و التّحذير كيلا يكون للنّاس على اللّه الحجّة،وجب عليهم الحكم بين النّاس بالحقّ،و على غيرهم السّمع و الطّاعة.(6:375)

الطّباطبائيّ: الظّاهر أنّ الكلام بتقدير القول، و التّقدير:فغفرنا له ذلك،و قلنا يا داوُدُ... إلخ.

و ظاهر الخلافة أنّها خلافة اللّه،فتنطبق على ما في قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30،و من شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة من استخلفه في صفاته و أعماله.فعلى خليفة اللّه في الأرض أن يتخلّق بأخلاق اللّه،و يريد و يفعل ما يريده اللّه،و يحكم و يقضي ما يقضي به اللّه،- و اللّه يقضي بالحقّ-و يسلك سبيل اللّه و لا يتعدّاها.

و لذلك فرّع على جعل خلافته قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ، و هذا يؤيّد أنّ المراد بجعل خلافته:إخراجها من القوّة إلى الفعل في حقّه،لا مجرّد الخلافة الشّأنيّة،لأنّ اللّه أكمله في صفاته،و آتاه الملك يحكم بين النّاس.

و قول بعضهم:«إنّ المراد بخلافته المجعولة،خلافته ممّن قبله من الأنبياء،و تفريع قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ، لأنّ الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل،أو أنّ المترتّب هو مطلق الحكم بين النّاس الّذي هو من آثار الخلافة،و تقييده ب(الحقّ)لأنّ سداده به»

ص: 71

تصرّف في اللّفظ من غير شاهد.(17:194)

مكارم الشّيرازيّ: محتوى هذه الآية-الّتي تتحدّث عن مقام داود الرّفيع و الوظائف المهمّة الّتي كلّف بها-تبيّن أنّ القصص الخياليّة و الكاذبة الّتي نسجت بشأن زواج داود من زوجة«أوريا»كلّها كاذبة،و لا أساس لها من الصّحّة.

فهل يمكن أن ينتخب الباري عزّ و جلّ شخصا ينظر إلى شرف المؤمنين و المقرّبين منه بعين خئونة، و يلوّث يده بدم الأبرياء،خليفة له في الأرض،و يمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذه الآية تضمّ خمس جمل،كلّ واحدة منها تتابع الحديث عن حقيقة معيّنة:

الأولى:تتابع خلافة داود في الأرض،فهل المقصود منها خلافته للأنبياء السّابقين،أم أنّها تعني خلافة اللّه؟المعنى الثّاني أنسب من المعنى الأوّل، و يتطابق مع ما جاء في الآية:30،من سورة البقرة:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.

بالطّبع فإنّ المعنى الواقعيّ للخلافة لا يتعلّق باللّه، و لكنّه يأتي في مورد وفاة شخص أو غيابه.و المراد من الخلافة هنا:هو أن يكون نائبا للّه بين العباد،و المنفّذ لأوامر اللّه سبحانه و تعالى في الأرض.هذه الجملة تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهيّة،و أيّ حكومة لا تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهيّة،فإنّها حكومة ظالمة و غاصبة...

(14:445)

فضل اللّه:في ما أعطاك اللّه من موقع الخلافة الشّرعيّة في الأرض،من خلال صفتك الرّساليّة الّتي تبلّغ فيها الرّسالة للنّاس و تحرّكها في حياتهم، و تجسّدها واقعا حيّا في صفاتك الشّخصيّة الّتي تتمثّل فيها المعاني الرّوحيّة،حتّى ترسخ قيم الرّسالة في حياة النّاس،و الالتزام الشّرعيّ الأخلاقيّ بكلّ حلالها و حرامها،لتكون قدوة لهم.و ليست هذه الخلافة مجرّد حالة تكريميّة،أو موقع عمليّ في حركة الحياة العامّة بعيدا عن موقع السّلطة الحاكمة،بل هي حركة في الحكم و السّلطة العادلة.(19:253)

خلائف

1- وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ....

الأنعام:165

ابن عبّاس: خلف الأمم الماضية في الأرض.

(123)

جعلهم خلفا من الجانّ سكّانا للأرض.

(الماورديّ 2:196)

السّدّيّ: إنّ اللّه أهلك القرون و استخلفنا في الأرض بعدها.(256)

الفرّاء: جعلت أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم خلائف كلّ الأمم.

(1:367)

أبو عبيدة :واحدهم:خليفة في الأرض بعد خليفة.[ثمّ استشهد بشعر](1:209)

ابن قتيبة :أي سكّان الأرض يخلف بعضكم

ص: 72

بعضا،واحدهم:خليفة.(164)

مثله السّجستانىّ.(64)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و أمّته:

و اللّه الّذي جعلكم،أيّها النّاس، خَلائِفَ الْأَرْضِ، بأن أهلك من كان قبلكم من القرون و الأمم الخالية، و استخلفكم،فجعلكم خلائف منهم في الأرض، تخلفونهم فيها،و تعمرونها بعدهم.

و الخلائف:جمع خليفة،كما الوصائف:جمع وصيفة،و هي من قول القائل:خلف فلان فلانا في داره يخلفه خلافة،فهو خليفة.[ثمّ استشهد بشعر]

(5:422)

نحوه الثّعلبيّ(4:213)،و الواحديّ(2:346)،و البغويّ(2:179)،و القرطبيّ(7:158).

الزّجّاج: قيل: خَلائِفَ الْأَرْضِ: أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم خاتم النّبيّين،فأمّته قد خلفت سائر الأمم،و قال بعضهم: خَلائِفَ الْأَرْضِ: يخلف بعضكم بعضا.(2:312)

النّحّاس: يعني أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.و قيل:لأنّهم آخر الأمم،فقد خلفوا من كان قبلهم.

و قيل:لأنّ بعضهم يخلف بعضا،حتّى تقوم السّاعة عليهم،و الحديث يقوّي هذا القول.(2:526)

نحوه أبو حيّان(4:263)،و شبّر(2:342).

الماورديّ: فيه أربعة أوجه:

أحدها:[نقل قول ابن عبّاس]

و الثّاني:أنّ أهل كلّ عصر يخلف أهل العصر الّذي قبله،كلّما مضى أهل عصر خلفه أهل عصر بعده على انتظام،حتّى تقوم السّاعة على العصر الأخير فلا يخلق عصر،فصارت هذه الأمّة خلفا للأمم الماضية.

و الثّالث:جعل بعضهم خليفة لبعض،ليتآلفوا بالتّعاون.

و الرّابع:لأنّهم آخر الأمم و كانوا خلفا لمن تقدّمهم.[ثمّ استشهد بشعر](2:196)

نحوه أبو حيّان(4:263)،و شبّر(2:342).

الطّوسيّ: أخبر اللّه تعالى أنّه الّذي جعل الخلق خلائف الأرض،و معناه أنّ كلّ أهل عصر يخلفون أهل العصر الّذي قبله،كلّما مضى واحد خلفه آخر على انتظام و اتّساق،و ذلك يدلّ على مدبّر أجراه على هذه الصّفة.[ثمّ استشهد بشعر]

و واحد الخلائف:خليفة،مثل صحيفة و صحائف، و سفينة و سفائن،و وصيفة و وصائف،هذا قول الحسن و السّدّيّ.

و قال قوم:معناه أنّه جعلهم خلفاء من الجانّ قبل آدم.و قال آخرون:معناه و المراد به أمّة نبيّنا عليه السّلام،لأنّ اللّه جعلهم خلفاء سائر الأمم.(4:364)

نحوه الطّبرسيّ(2:392)،و الآلوسيّ(8:71).

الزّمخشريّ: [نحو الزّجّاج و أضاف:]

أو هم خلفاء اللّه في أرضه يملكونها و يتصرّفون فيها.(2:65)

مثله الفخر الرّازيّ(14:13)،و البيضاويّ(1:

340)،و النّسفيّ(2:43)،و الشّربينيّ(1:462)، و أبو السّعود(2:470).

ابن عطيّة: (خلائف:)جمع خليفة،أي يخلف

ص: 73

بعضكم بعضا.و هذا يتصوّر في جميع الأمم و سائر أصناف النّاس،لأنّ من أتى خليفة لمن مضى-و لكنّه يحسن في أمّة محمّد عليه السّلام-أن يسمّى أهلها بجملتهم خلائف للأمم،و ليس لهم من يخلفهم؛إذ هم آخر الأمم،و عليهم قيام السّاعة.(2:370)

ابن العربيّ: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في أرضه،بإظهار كمالاته في مظاهركم،ليمكّنكم إنفاذ أمره.(1:419)

النّيسابوريّ: و هو الّذي جعل كلّ واحد من بني آدم وقته خليفة ربّه في الأرض،و سرّ الخلافة أن صوّره على صفات نفسه،حيّا قيّوما،سميعا بصيرا، عالما قادرا،مريدا متكلّما.(8:66)

الكاشانىّ:قيل:أي يخلف بعضكم بعضا،كلّما مضى قرن خلفهم قرن،يجزي ذلك على انتظام و اتّساق إلى يوم القيامة،أو خلفاء اللّه في أرضه تتصرّفون فيها.(2:178)

البروسويّ: [ذكر نحوا ممّا تقدّم عن الزّمخشريّ و النّيسابوريّ](3:131)

ابن عاشور :يظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث و على وقوعه،لأنّ الّذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبقها،فعمروا الأرض جيلا بعد جيل، لا يعجزه أن يحشرها جميعا بعد انقضاء عالم حياتها الأولى.ثمّ إنّ الّذي دبّر ذلك و أتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى،لئلاّ يذهب المعتدون و الظّالمون،فائزين بما جنوا،و إذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين.و قد أشار إلى الشّقّ الأوّل قوله:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، و أشار إلى الشّقّ الثّاني قوله: وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، و لذلك عقّبه بتذييله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

فالخطاب موجّه إلى المشركين الّذين أمر الرّسول عليه الصّلاة و السّلام بأن يقول لهم: أَ غَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا الأنعام:164،و ذلك يذكّر بأنّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك.فموقع هذه عقب قوله: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ الأنعام:164،تذكير بالنّعمة بعد الإنذار بسلبها،و تحريض على تدارك ما فات،و هو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم و انقراضها و بقائها.

و يجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة و السّلام و الأمّة الإسلاميّة،و تكون الإضافة على معنى اللاّم،أي جعلكم خلائف الأمم الّتي ملكت الأرض فأنتم خلائف للأرض،فتكون بشارة للأمّة بأنّها آخر الأمم المجعولة من اللّه لتعمير الأرض.

و المراد:الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة،و أيّا ما كان فهو تذكير بعظيم صنع اللّه و منّته،لاستدعاء الشّكر و التّحذير من الكفر.

و الخلائف:جمع خليفة،و الخليفة:اسم لما يخلف به شيء،أو يجعل خلفا عنه،أي عوضه،يقال:خليفة و خلفة،فهو«فعيل»بمعنى«مفعول»،و ظهرت فيه التّاء،لأنّهم لمّا صيّروه اسما قطعوه عن موصوفه.

و إضافته إلى(الارض)على معنى«في»على

ص: 74

الوجه الأوّل،و هو كون الخطاب للمشركين،أي خلائف فيها،أي خلف بكم أمما مضت قبلكم،كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهم:

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ الأعراف:69، وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ الأعراف:74، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ الأعراف:129.و الإضافة على معنى«اللاّم»على الوجه الثّاني،و هو كون الخطاب للمسلمين.

و في هذا أيضا تذكير بنعمة تتضمّن عبرة و موعظة،و ذلك أنّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم و أوجدهم على حين أعدم غيرهم،فهذه نعمة،لأنّه لو قدّر بقاء الأمم الّتي قبلها لما وجد هؤلاء.

(7:155)

الطّباطبائيّ: الخلائف:جمع خليفة،أي يستخلف بعضكم بعضا،أو استخلفكم لنفسه في الأرض.و قد مرّ كلام في معنى هذه الخلافة،في تفسير قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30.(7:396)

عبد الكريم الخطيب : هُوَ الَّذِي... بيان لنعمة من نعم اللّه الكبرى على بني آدم خاصّة؛ إذ جعلهم خَلائِفَ الْأَرْضِ و في هذا ما فيه من تكريم لهم،و إحسان إليهم.

و في قوله تعالى:(خلائف إشارة إلى مكانة الإنسان،و سموّ قدره،و أنّه ليس مكرّما في جنسه و حسب،بل هو مكرّم في كلّ فرد من أفراده.فكلّ إنسان هو خليفة اللّه في هذه الأرض،و أنّه-و إن كان عضوا في المجتمع الإنسانيّ-فليس ذلك بالّذي يذهب بشيء من مقوّمات شخصيّته،أو يجور على هذا الوضع الكريم الّذي وضعه اللّه فيه،فهو خليفة اللّه أيّا كان مكانه في المجتمع،غنيّا أو فقيرا،عالما أو جاهلا،قويّا أو ضعيفا،إنّه خليفة اللّه في الأرض،و من واجبه أن يعمل بمقتضى هذه الخلافة،و يجمع إلى يديه أسبابها و مقوّماتها.

هذا هو الإنسان كما تنظر إليه شريعة الإسلام، إنسان كريم على اللّه،خلع عليه خلع الخلافة،و توجّه بتاجها،و جعل درّة هذا التّاج هو عقله الّذي يستطيع به أن يبلغ من السّموّ ما يشاء...(4:358)

مكارم الشّيرازيّ: إنّ الإنسان الّذي هو خليفة اللّه في أرضه،و الّذي سخّرت له كلّ منابع هذا العالم، و الّذي صدر أمره على جميع الموجودات من جانب اللّه تعالى،لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسّقوط-الّذي يجعله أقلّ من الجماد-إلى درجة السّجود للجمادات.[إلى أن قال:]

خلافة الإنسان في الأرض:

إنّ النّقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام،هي أنّ القرآن الكريم وصف الإنسان مرارا بالخلافة،و أنّه خليفة اللّه في أرضه،إنّ هذا الوصف،و هذا التّعبير ضمن بيانه لمكانة الإنسان يبيّن هذه الحقيقة أيضا، و هي أنّ اللّه تعالى هو المالك الأصليّ و الحقيقيّ للأموال و الثّروات و القابليّات،و جميع المواهب الإلهيّة الممنوحة للإنسان،و ما الإنسان-في الحقيقة-إلاّ

ص: 75

خليفة اللّه و وكيل من جانبه،و مأذون من قبله.

و من البديهيّ أنّ الوكيل-مهما كان-فهو غير مستقلّ في تصرّفاته،بل يجب أن تخضع تصرّفاته لإذن صاحبها الأصليّ،و تقع ضمن إجازته...(4:505)

فضل اللّه :ربّما استفاد البعض من هذه الكلمة معنى الجماعات اللاّحقة الّتي تخلف جماعات متقدّمة، على أساس التّتابع التّاريخيّ في حركة الوجود الإنسانيّ،و لكن ذلك قد لا ينسجم مع ظاهر الآية في توجيه الخطاب إلى النّاس كافّة،بقرينة قوله-في ما بعد-: وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فإنّ ذلك من خصائص البشر في جميع مراحل حياتهم،في اختلاف درجاتهم في المواهب و الكفاءات الذّاتيّة، و في القدرات الماليّة و الجسديّة،و في المواقع الجغرافيّة و الاجتماعيّة و السّياسيّة،و في غير ذلك من الأمور.

فإنّ هذا التّنوّع في الأوضاع الإنسانيّة لا يختصّ بمرحلة زمنيّة عن مرحلة زمنيّة أخرى.[إلى أن قال:]

لقد جعل اللّه الإنسان خليفة في الأرض،ليديرها، و يعمرها و يتحرّك فيها على أساس ما ينطلق به جيل سابق لمصلحة جيل لاحق؛حيث يعدّ له كلّ ما يحتاجه للعيش و للاستمرار،لتأخذ الأرض زينتها و توازنها و امتدادها في إغناء المخلوقات فيها،بما يكفل لها العيش و البقاء.

و لكنّ اللّه لم يمنح الإنسان حرّيّة الفساد و الشّرّ و العدوان و التّخريب،بل وضع له شريعة و قانونا ينظّم له حركته و حياته،على أساس التّوازن بين مصلحة الفرد و المجتمع،و المادّة و الرّوح،و تلك هي خصوصيّة الخلافة الّتي يستمدّ منها الخليفة موقعه و شرعيّته من المستخلف الّذي يملك الأمر كلّه،فلا يجوز له التّعدّي عمّا حدّد له تماما،كما هي حركة الوكيل بالنّسبة إلى الموكّل.(9:402 و 405)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

2- ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. يونس:14

و قوله تعالى:

3- فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا...

يونس:73

4- هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ... فاطر:39

ابن عبّاس: سكّان الأرض بعد هلاك الأمم الماضية.(368)

قتادة :أمّة بعد أمّة،و قرنا بعد قرن.

(الطّبريّ 10:419)

الزّجّاج: (خلائف:)جمع خليفة،المعنى:جعلكم أمّة خلفت من قبلها،و رأت و شاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن يعتبر به.(4:272)

نحوه الواحدي(3:507)،و ابن الجوزيّ.(6:

495).

القشيريّ: أهل كلّ عصر خليف عمّن تقدّمهم، فمن قوم هم لسلفهم جمال،و من قوم هم أراذل و أنذال،فالأفاضل زمانهم لهم محنة،و الأراذل هم

ص: 76

لزمانهم محنة.[ثمّ استشهد بشعر](5:208)

البغويّ: أي يخلف بعضكم بعضا.[ثمّ ذكر نحو الزّجّاج](3:699)

مثله الشّربينيّ.(3:331)

الزّمخشريّ: يقال للمستخلف:خليفة و خليف ،فالخليفة:تجمع:خلائف،و الخليف:خلفاء،و المعنى:

أنّه جعلكم خلفاءه في أرضه،قد ملّككم مقاليد التّصرّف فيها،و سلّطكم على ما فيها،و أباح لكم منافعها،لتشكروه بالتّوحيد و الطّاعة.(3:311)

مثله النّسفيّ(3:343)،و نحوه أبو السّعود(5:

285)،و المراغيّ(22:135).

ابن عطيّة: (خلائف:)جمع خليفة،كسفينة و سفائن،و مدينة و مدائن.(4:442)

الطّبرسيّ: و قيل:جعلكم خلائف القرون الماضية،بأن أحدثكم بعدهم و أورثكم ما كان لهم.

(4:411)

الفخر الرّازيّ: أي نبّهكم بمن مضى و حال من انقضى،فإنّكم لو لم يحصل لكم علم بأنّ من كذّب الرّسل أهلك،لكان عنادكم أخفى و فسادكم أخفّ، لكن أمهلتم و عمّرتم و أمرتم على لسان الرّسل بما أمرتم،و جعلتم خلائف في الأرض،أي خليفة بعد خليفة،تعلمون حال الماضين و تصبحون بحالهم راضين.(26:31)

نحوه النّيسابوريّ.(22:83)

البيضاويّ: يلقى إليكم مقاليد التّصرّف فيها.

و قيل:خلفا بعد خلف،جمع خليفة،و الخلفاء:جمع خليف.(2:274)

أبو حيّان :(خلائف:)جمع خليفة،و خلفاء:

جمع خليف.و يقال للمستخلف:خليفة و خليف.و في هذا تنبيه على أنّه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتّعظوا بحال من تقدّمهم من مكذّبي الرّسل،و ما حلّ بهم من الهلاك،و لا اعتبروا بمن كفر،و لم يتّعظوا بمن تقدّم.(7:317)

البروسويّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

أو جعلكم خلفاء ممّن كان قبلكم من الأمم، و أورثكم ما بأيديهم من متاع الدّنيا،لتشكروه بالتّوحيد و الطّاعة.

و فيه إشارة إلى أنّ كلّ واحد من الأفاضل و الأراذل خليفة من خلفائه في أرض الدّنيا، فالأفاضل يظهرون جمال صنائعه في مرآة أخلاقهم الرّبانيّة و علومهم اللّدنّيّة،و الأراذل يظهرون كمال بدائعه في مرآة حرفهم و صنعة أيديهم.

و من خلافتهم أنّ اللّه تعالى استخلفهم في خلق كثير من الأشياء،كالخبز،فإنّه تعالى يخلق الحنطة بالاستقلال،و الإنسان بخلافته يطحنها و يخبزها، و كالثّوب،فإنّه تعالى يخلق القطن،و الإنسان يغزله و ينسج منه الثّوب بالخلافة،و هلمّ جرّا.(7:357)

الآلوسيّ: [نحو البروسويّ و أضاف:]

أو جعلكم بدل من كان قبلكم من الأمم الّذين كذّبوا الرّسل فهلكوا،فلم تتّعظوا بحالهم و ما حلّ بهم من الهلاك،و الخطاب قيل:عامّ،و استظهره في البحر، و قيل:لأهل مكّة،و الخلائف:جمع خليفة،و قد اطّرد

ص: 77

جمع«فعيلة»على«فعائل».و أمّا الخلفاء:فجمع خليف ككريم و كرماء.و جوّز الواحديّ كونه جمع خليفة أيضا،و هو خلاف المشهور.(22:202)

ابن عاشور :جملة هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ معترضة بين جملة إِنَّ اللّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الآية و بين جملة فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. [ثمّ ذكر نحوا ممّا سبق في إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و ذكر لها معنيين:جعلكم خلفاء لمن سبقكم،أو جعلكم متصرّفين في الأرض،و أنّها بشارة للنّبيّ عليه السّلام بأنّ أمّته سيكون لها سلطان في الأرض، و قال:]

و الجملة الاسميّة مفيدة تقوّي الحكم الّذي هو جعل اللّه المخاطبين خلائف في الأرض.(22:173)

الطّباطبائيّ: الخلائف:جمع خليفة،و كون النّاس خلائف في الأرض،هو قيام كلّ لاحق منهم مقام سابقه،و سلطته على التّصرّف و الانتفاع منها، كما كان السّابق مسلّطا عليه،و هم إنّما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة،و هو الخلقة من طريق النّسل و الولادة،فإنّ هذا النّوع من الخلقة يقسم المخلوق إلى سلف و خلف.

فجعل الخلافة الأرضيّة نوع من التّدبير مشوب بالخلق غير منفكّ عنه،و لذلك استدلّ به على توحّده تعالى في ربوبيّته،لأنّه مختصّ به تعالى لا مجال لدعواه لغيره.

فقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ حجّة على توحّده تعالى في ربوبيّته،و انتفائها عن شركائهم،تقريره:أنّ الّذي جعل الخلافة الأرضيّة في العالم الإنسانيّ هو ربّهم المدبّر لأمرهم،و جعل الخلافة لا ينفكّ عن نوع الخلقة،فخالق الإنسان هو ربّ الإنسان،لكنّ الخالق هو اللّه سبحانه حتّى عند الخصم، فاللّه هو ربّ الإنسان.(17:52)

مكارم الشّيرازيّ: (خلائف)هنا،سواء كانت بمعنى خلفاء و ممثّلي اللّه في الأرض،أم بمعنى خلفاء الأقوام السّابقين-و إن كان المعنى الثّاني هنا أقرب على ما يبدو-فهي دليل على منتهى اللّطف الإلهيّ على البشر،حيث إنّه قيّض لهم جميع إمكانات الحياة؛أعطاهم العقل و الشّعور و الإدراك،أعطاهم أنواع الطّاقات الجسديّة،ملأ للإنسان صفحة الأرض بمختلف أنواع النّعم و البركات،و علّمه طريقة الاستفادة من تلك الإمكانات،فكيف نسي الإنسان- و الحال هكذا-وليّ نعمته الأصليّ،و راح يعبد آلهة خرافيّة و مصنوعة؟[ثمّ ذكر أنّها بيان لتوحيد الرّبوبيّة، كما سبق عن الطّباطبائيّ](14:96)

فضل اللّه : هُوَ الَّذِي... فأراد لكم أن تمارسوا دور بناء الأرض في أمورها و قضاياها و علاقاتها، انسجاما مع الحقّ،كما أقامها في تكوينها الوجوديّ على أساس الحقّ،و تلك هي مسئوليّتكم الّتي تواجهونها غدا أمام اللّه،فإنّ الخلافة الّتي جعلها اللّه للإنسان ليست امتيازا ذاتيّا يزهو به و يطمئنّ إليه،بل هي مسئوليّة رساليّة يتحرّك من خلالها،و يستقيم على خطّها،فمن آمن باللّه و عمل صالحا،و اتّبع رضوانه،فسيجد الخير الكبير في الدّنيا و الآخرة،ثوابا

ص: 78

على قيامه بالمسئوليّة بأمانة،و سيحصل على محبّة اللّه و رضاه.(19:114)

خلفاء

1- ...وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً... الأعراف:69

السّدّيّ: المعنى جعلكم سكّان الأرض بعد قوم نوح.

مثله ابن إسحاق.(ابن عطيّة 2:417)

و نحوه الطّبرسيّ.(2:437)

الطّبريّ: اذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب؛إذ عصوا رسولهم،و كفروا بربّهم،فإنّكم إنّما جعلكم ربّكم خلفاء في الأرض منهم،لمّا أهلكهم أبدلكم منهم فيها.(5:523)

الزّجّاج: خلفاء:جمع خليفة،على التّذكير لا على اللّفظ،مثل ظريف و ظرفاء.و جائز أن يجمع خلائف:على اللّفظ،مثل طريفة و طرائف.(2:347)

نحوه القرطبيّ.(7:236)

الطّوسيّ: خلفاء:جمع خليفة،و هو الكائن بدل غيره،ليقوم بالأمر مقامه في تدبيره.[ثمّ ذكر نحو الزّجّاج](4:475)

القشيريّ: جعل اللّه الخلق بعضهم خلفا عن بعض،فلا يفني فوجا منهم من جنس إلاّ أقام فوجا منهم من ذلك الجنس.فأهل الغفلة إذا انقرضوا خلف عنهم قوم،و أهل الوصلة إذا درجوا خلف عنهم قوم، و لا ينبغي للعبد أن يسمو طرف تأميله إلى محلّ الأكابر،فإنّ ذلك المقام مشغول بأهله،فما لم تنته نوبة أولئك لا تنتهي النّوبة إلى هؤلاء.(2:240)

نحوه البروسويّ.(3:186)

الواحديّ: أي أهلكهم و استخلفكم بعدهم.

(2:383)

الزّمخشريّ: أي خلفتموهم في الأرض،أو جعلكم ملوكا في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم.

(2:87)

ابن عطيّة: (خلفاء:)جمع خليف،ك«ظريف و ظرفاء»،و خليفة:جمعه خلائف،و العرب تقول:

خليفة و خليف.[ثمّ استشهد بشعر](2:417)

ابن الجوزيّ: ذكّرهم النّعمة حيث أهلك من كان قبلهم،و أسكنهم مساكنهم.(3:222)

الفخر الرّازيّ: ذلك بأن أورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم،و ما يتّصل بها من المنافع و المصالح.(14:157)

البيضاويّ: أي في مساكنهم،أو في الأرض،بأن جعلكم ملوكا،فإنّ شدّاد بن عاد ممّن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلي بحر عمّان،خوّفهم من عقاب اللّه،ثمّ ذكّرهم بإنعامه.(1:354)

نحوه الشّربينيّ(1:486)،و أبو السّعود(2:506)، و الآلوسيّ(8:156).

النّسفيّ: أي خلفتموهم في الأرض أو في مساكنهم،و(اذ)مفعول به و ليس بظرف،أي اذكروا وقت استخلافكم.(2:59)

النّيسابوريّ: [نحو الزّمخشريّ و الفخر الرّازيّ]

(8:159)

ص: 79

ابن عاشور:[ذكر معنى الخليفة كما سبق في إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و أنّهم خلفاء قوم نوح](8:158)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

2- وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً...

الأعراف:74

3- أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ.

النّمل:62

و قد ذكروا فيها نحوا ممّا سبق في الآيات السّابقة فلاحظ:ابن عبّاس(320)،و قتادة و الكلبيّ و النّقّاش(الماورديّ 4:223)،و الطّبريّ(10:6)، و الثّعلبيّ(7:219)و الطّوسيّ(8:110)، و الواحديّ(3:382)،و البغويّ(3:511)، و الزّمخشريّ(3:155)،و الطّبرسيّ(4:229)،و ابن الجوزيّ(6:187)،و الفخر الرّازيّ(24:209)، و القرطبيّ(13:224)،و البيضاويّ(2:181)، و النّسفيّ(3:218)،و أبا السّعود(5:97)، و الكاشانيّ(4:71)،و المراغيّ(20:9).

أبو حيّان : وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ انتقال من حالة المضطرّ إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار، و هي حالة الخلافة،فهما ظرفان.و كم رأينا في الدّنيا ممّن بلغ حالة الاضطرار ثمّ صار ملكا متسلّطا.(7:90)

الشّربينيّ: وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ بمعنى«في»،أي يخلف بعضكم بعضا،لا يزال يجدّد ذلك بإهلاك قرن و إنشاء آخر إلى قيام السّاعة.(3:69)

ابن عاشور :[ذكر نحوا ممّا سبق ثمّ قال:]

و قد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب، و هو ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا،و هو من مسالك العلّة في أصول الفقه.

و لمّا اقتضته الخلافة من تجدّد الأبناء عقب الآباء، و الأجيال بعد الأجيال،و ما اقتضته الاستجابة و كشف السّوء من كثرة الدّاعين و المستاءين،عبّر في أفعال الجعل الّتي تعلّقت بها بصيغة المضارع الدّالّ على التّجدّد،بخلاف أفعال الجعل الأربعة الّتي في الآية قبلها.(19:289)

مغنيّة:يخلف الجيل اللاّحق الجيل السّابق في ملك الأرض و عمارتها.(6:34)

الطّباطبائيّ: الّذي يعطيه السّياق أن يكون المراد بالخلافة:الخلافة الأرضيّة الّتي جعلها اللّه للإنسان،يتصرّف بها في الأرض،و ما فيها من الخليفة كيف يشاء،كما قال تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30.

و ذلك أنّ تصرّفاته الّتي يتصرّف بها في الأرض و ما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلّقة بمعاشه، فالسّوء الّذي يوقعه موقع الاضطرار و يسأل اللّه كشفه،لا محالة شيء من الأشياء الّتي تمنعه التّصرّف أو بعض التّصرّف فيها،و تغلق عليه باب الحياة و البقاء و ما يتعلّق بذلك،أو بعض أبوابها،ففي كشف السّوء عنه تتميم لخلافته.

ص: 80

و يتّضح هذا المعنى مزيد اتّضاح،لو حمل الدّعاء و المسألة في قوله: إِذا دَعاهُ على الأعمّ من الدّعاء اللّسانيّ،كما هو الظّاهر من قوله تعالى: وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها إبراهيم:34،و قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الرّحمن:29،إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان و رزقه من التّصرّفات،من مصاديق كشف السّوء عن المضطرّ المحتاج إثر دعائه،فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه،و كشف السّوء الّذي اضطرّه عنه.

و قيل:المعنى و يجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض،تسكنون مساكنهم و تتصرّفون فيها بعدهم هذا.

و ما قدّمناه من المعنى أنسب منه للسّياق.

و قيل:المعنى:و يجعلكم خلفاء من الكفّار بنزول بلادهم،و طاعة اللّه تعالى بعد شركهم و عنادهم.

و فيه أنّ الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس الّتي قبلها للكفّار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه.

(15:383)

مكارم الشّيرازيّ: المراد من خُلَفاءَ الْأَرْضِ لعلّه بمعنى سكنة الأرض...و أصحابها،لأنّ اللّه جعل الإنسان حاكما على هذه الأرض،مبسوط اليد فيها، بما أولاه من النّعم و أسباب الرّفاه،و الدّعة و الاطمئنان.

و لا سيّما حين يبتلى الإنسان فيغدو مضطرّا، و يتّجه نحو ساحة اللّه-فيرفع بلطفه البلايا و الموانع- فتستحكم أسس خلافته،و هنا تتجلّى العلاقة بين هذين المفهومين في الآية:المضطرّ و خلفاء الأرض.

كما قد يكون المراد بهذا المعنى،و هو أنّ اللّه جعل ناموس الحياة أن يخلف قوم قوما على الدّوام؛بحيث لو لم يكن هذا التّناوب لم تغد الصّورة متكاملة.

(12:103)

فضل اللّه : وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ في ما يمهّده لكم فيها من ساحات الحياة،و يمكّنكم فيها من القدرات الّتي تستطيعون من خلالها أن تحرّكوا كلّ عناصرها و تنظّموا أوضاعها،و تقودوا حركتها،و ما يسخّره لكم منها من قوى و قوانين،بحيث تخضع لكلّ ما تريدون و تحبّون.

و تلك هي الكرامة الّتي أكرمكم فيها اللّه من موقع إنسانيّتكم،فجعل الأرض تحت تصرّفكم و اختياركم في ما أراده لكم من حركة و خطّة حياة،و حمّلكم من عبء المسئوليّة في وعي الرّسالة،في امتداد الأرض و امتداد الزّمن؛بحيث جعل لكلّ جيل منكم مرحلة يخلف فيها الجيل المتأخّر الجيل المتقدّم،لتبقى مسألة الخلافة في الأرض للإنسان،ساحة للمسئوليّة العامّة.

و حركة في معنى الزّمن الّذي لا يعيش الفراغ في كلّ مواقعه من حركة الإنسان فيه.و بذلك كانت علاقة الإنسان باللّه تنطلق في عمق الحاجة إليه؛حيث يلجأ إليه ليكشف عنه السّوء،في كلّ ما يعرض له من مشاكل الحياة و آلامها،عند ما تضيق به الأمور، فلا يجد ملجأ إلاّ في رحاب اللّه،و في ما يمهّده له من خلافة الأرض،ممّا يجعل وجوده فيها و حركته في

ص: 81

ساحتها خاضعا لإرادته في كلّ شيء.(17:228)

خلف

1- لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ... الرّعد:11

قتادة :هذه ملائكة اللّيل يتعاقبون فيكم باللّيل و النّهار،و ذكر لنا أنّهم يجتمعون عند صلاة العصر و صلاة الصّبح.(الطّبري 7:351)

نحوه ابن قتيبة.(225)

ابن جريج:الحسنات من بين يديه،و السّيّئات من خلفه.(الطّبريّ 7:352)

الطّبريّ: مِنْ خَلْفِهِ من وراء ظهره.(7:350)

البيضاويّ: من جوانبه،أو من الأعمال ما قدّم و أخّر.(1:515)

مثله أبو السّعود.(3:443)

النّسفيّ: أي قدّامه و وراءه.(2:244)

مثله الشّربينيّ.(2:150)

البروسويّ: المعنى:له ملائكة يتعاقب بعضهم بعضا،كائنون من أمام الإنسان و وراء ظهره،أي يحيطون به من جوانبه.(4:350)

الآلوسيّ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ متعلّق بمحذوف وقع صفة ل(معقبات)،أو حالا من الضّمير في الظّرف الواقع خبرا له،فالمعنى:أنّ المعقّبات محيطة بجميع جوانبه،أو هو متعلّق ب(معقبات)،و(من) لابتداء الغاية،فالمعنى:أنّ المعقّبات تحفظ ما قدّم و أخّر من الأعمال،أي تحفظ جميع أعماله...

و قرأ أبيّ: ( من بين يديه و رقيب من خلفه )و ابن عبّاس:(و رقباء من خلفه)و روى مجاهد عنه أنّه قرأ: (له معقّبات من خلفه و رقيب من بين يديه يحفظونه) .(13:112)

ابن عاشور : مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلّها.

(12:153)

راجع:ح ف ظ:«يحفظونه».

2- لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. فصّلت:42

ابن عبّاس: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ: من قبله وَ لا مِنْ خَلْفِهِ: و لا يكون من بعده كتاب فيخالفه.

و يقال:لا تكذّبه التّوراة و الإنجيل و الزّبور و سائر الكتب من قبله:و لا يكون من بعده كتاب فيكذّبه.

و يقال:لم يأت إبليس إلى محمّد عليه السّلام من قبل إتيان جبريل فزاد في القرآن،و لا من بعد ذهاب جبريل فنقص من القرآن.

و يقال:لا يخالف القرآن بعضه بعضا،و لكن يوافق بعضه بعضا.(404)

قتادة :لا يأتيه الباطل من كتاب قبله،و لا يأتيه من كتاب بعده.(الماورديّ 5:185)

السّدّيّ: الباطل هو الشّيطان،و لا يستطيع أن يزيد فيه حرفا و لا ينقص.(429)

ابن جريج:لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم، و لا في إخباره عمّا تأخّر.(الماورديّ 5:186)

ص: 82

الفرّاء:يقول:التّوراة و الإنجيل لا تكذّبه و هي مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَ لا مِنْ خَلْفِهِ، يقول:لا ينزل بعده كتاب يكذّبه.(3:19)

ابن قتيبة :قالوا:لا يستطيع الشّيطان أن يبطل منه حقّا،و لا يحقّ منه باطلا.(389)

الماورديّ: فيه ثلاثة أوجه:

أحدها:[قول قتادة]

الثّاني:لا يأتيه الباطل من أوّل التّنزيل و لا من آخره.

الثّالث:[قول ابن جريج]

و يحتمل رابعا:ما بين يديه:لفظه،و ما خلفه:

تأويله،فلا يأتيه الباطل في لفظ و لا تأويل.

(5:185)

البيضاويّ: لا يتطرّق إليه الباطل من جهة من الجهات،أو ممّا فيه من الأخبار الماضية و الأمور الآتية.

(2:350)

النّسفيّ: أي بوجه من الوجوه.(4:96)

النّيسابوريّ: قد يحتجّ أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النّسخ في القرآن،زعما منه أنّ النّسخ نوع من البطلان.و لا يخفى ضعفه،فإنّ بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله،فإنّه حقّ في نفسه،و مأمور به في وقته.(25:11)

أبو السّعود :أي لا يتطرّق إليه الباطل من جهة من الجهات.(5:446)

ابن عاشور :أنّه لا يتطرّقه الباطل،و لا يخالطه صريحه و لا ضمنيّه،أي لا يشتمل على الباطل بحال.

فمثّل ذلك ب مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ

و المقصود:استيعاب الجهات تمثيلا لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره و في تأويله بحال طرد المهاجم، ليضرّ بشخص يأتيه من بين يديه،فإن صدّه خاتله، فأتاه من خلفه.

فمعنى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ لا يوجد فيه و لا يداخله ،و ليس المراد:أنّه لا يدعى عليه الباطل.(25:71)

المراغيّ: إنّ الباطل لا يتطرّق إليه،و لا يجد لديه سبيلا من جهة من الجهات حتّى يصل إليه،فكلّ ما فيه حقّ و صدق،و ليس فيه ما لا يطابق الواقع.

(24:138)

مكارم الشّيرازيّ: [حملها على معنيين:جميع الجوانب،أو الحال و المستقبل](15:386)

فضل اللّه :هو الحقّ الخالص من شائبة الباطل، لا ينفذ إليه الباطل من قريب أو بعيد،من أيّة جهة كان،و قد نستوحي من ذلك أنّ التّحريف لا يدخله،إذا ما كان المقصود به مجموع الكتاب،فلا يمكن لأحد أن يزيد فيه شيئا،لأنّ كلّ زيادة هي من الباطل،و أيّ تحريف يغيّر بعض الحروف و بعض الكلمات لا يدخله.(20:126)

راجع:ب ط ل:«الباطل».

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

3- إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. الجنّ:27

ص: 83

4- وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. الأحقاف:21

ابن عبّاس: من بعده.(425)

الفرّاء: مِنْ خَلْفِهِ: من بعده،و هي في قراءة عبد اللّه:(من بين يديه و من بعده).(3:54)

الطّبريّ: من بعد هود.(11:291)

مثله الماورديّ.(5:283)

الطّوسيّ: أي قدّامه و ورائه.(9:280)

ابن عاشور : مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ بمعنى قريبا من زمانه و بعيدا عنه،ف مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ معناه القرب،كما في قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ سبأ:46،أي قبل العذاب قريبا منه،و قال تعالى: وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً الفرقان:

38،و قال: وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ النّساء:

164.

و أمّا الّذي من خلفه فنوح،فقد قال هود لقومه:

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ الأعراف:69،و هذا مراعاة للحالة المقصود تمثيلها، فهو ناظر إلى قوله تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ الأحقاف:9،أي قد خلت من قبله رسل مثل ما خلت بتلك.(26:39)

الطّباطبائيّ: فسّروا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بالّذين كانوا قبله،و مِنْ خَلْفِهِ بالّذين جاءوا بعده.و يمكن العكس بأن يكون المراد ب اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ: من كانوا في زمانه، وَ مِنْ خَلْفِهِ: من كان قبله،و الأولى على الأوّل أن يكون المراد بخلوّ النّذر من بين يديه، وَ مِنْ خَلْفِهِ: أن يكون كناية عن مجيئه إليهم و إنذاره لهم على فترة من الرّسل.(18:211)

مكارم الشّيرازيّ: [أرجعها إلى الأنبياء الّذين بعثوا قبله،و استبعد شمولها لمن جاء بعده](16:263)

خلفهم

1- ..يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ. البقرة:255

ابن عبّاس: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: بين أيدي الملائكة من أمر الآخرة لمن تكون الشّفاعة، وَ ما خَلْفَهُمْ: من أمر الدّنيا.(36)

نحوه قتادة.(ابن الجوزيّ 1:303)

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من السّماء إلى الأرض، وَ ما خَلْفَهُمْ: يريد ما في السّماوات.

(الفخر الرّازيّ 7:11)

مجاهد : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما مضى من الدّنيا، وَ ما خَلْفَهُمْ، من الآخرة.(الطّبريّ 3:10)

نحوه عطاء و الحكم و السّدّيّ(الثّعلبيّ 2:231)، و المراغيّ(3:13).

ما بين أيدي الملائكة من أمر الشّفاعة،و ما خلفهم من أمر الدّنيا،أو عكسه.(أبو حيّان 2:279)

الضّحّاك: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني الآخرة، لأنّهم يقدمون عليها وَ ما خَلْفَهُمْ: الدّنيا،لأنّهم يخلفونها.

مثله الكلبيّ.(الثّعلبيّ 2:231)

مقاتل بن سليمان:يقول:ما كان قبل خلق

ص: 84

الملائكة،و ما كان بعد خلقهم.(1:212)

مثله ابن جريج.(الثّعلبيّ 2:231)

أو ما فعلوه و ما هم فاعلوه.(أبو حيّان 2:279)

ابن جريج: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: ما مضى أمامهم من الدّنيا، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما يكون بعدهم من الدّنيا و الآخرة.(الطّبريّ 3:10)

الإمام الرّضا عليه السّلام: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فأمور الأنبياء و ما كان، وَ ما خَلْفَهُمْ، أي ما لم يكن بعد.

(القمّيّ 1:84)

الطّبريّ: يعني تعالى ذكره بذلك:أنّه المحيط بكلّ ما كان،و بكلّ ما هو كائن علما،لا يخفى عليه شيء منه.(3:10)

الزّجّاج: أي يعلم الغيب الّذي تقدّمهم،و الغيب الّذي يأتي من بعدهم.(1:337)

الماورديّ: فيه وجهان:

أحدهما: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: هو ما قبل خلقهم، وَ ما خَلْفَهُمْ: هو ما بعد موتهم.

و الثّاني: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: ما أظهروه، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما كتموه.(1:324)

القشيريّ: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ، لأنّه لا يخرج عن علمه معلوم،و لا يلتبس عليه موجود،و لا معدوم.(1:209)

البغويّ: قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أي ما قدّموه من خير و شرّ، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما هم فاعلوه.

(1:347)

الزّمخشريّ: ما كان قبلهم و ما يكون بعدهم.

و الضّمير[هم]ل ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لأنّ فيهم العقلاء،أو لما دلّ عليهم(من ذا)من الملائكة و الأنبياء.(1:385)

نحوه النّسفيّ.(1:128)

ابن عطيّة: الضّميران في قوله: أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ عائدان على كلّ من يعقل ممّن تضمّنه قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ. و قال مجاهد: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: الدّنيا وَ ما خَلْفَهُمْ:

الآخرة،و هذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان، لأنّ ما بين اليد هو كلّ ما تقدّم الإنسان،و ما خلفه هو كلّ ما يأتي بعده...(1:341)

الفخر الرّازيّ: في الآية وجوه:[إلى أن قال:]

الرّابع: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: بعد انقضاء آجالهم، وَ ما خَلْفَهُمْ، أي ما كان من قبل أن يخلقهم.

الخامس:ما فعلوا من خير و شرّ،و ما يفعلونه بعد ذلك.(7:11)

البيضاويّ: ما قبلهم و ما بعدهم،أو بالعكس، لأنّك مستقبل المستقبل و مستدبر الماضي،أو أمور الدّنيا و أمور الآخرة،أو عكسه،أو ما يحسّونه و ما يعقلونه،أو ما يدركونه و ما لا يدركونه.[و قال في الضّمائر مثل الزّمخشريّ](1:133)

مثله أبو السّعود(1:296)،و نحوه شبّر(1:

259).

أبو حيّان : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ، الضّمير يعود على(ما)و هم الخلق،و غلب من يعقل.[إلى أن ذكر بعض الأقوال في المراد بالآية

ص: 85

و أضاف:]

أو ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من السّماء إلى الأرض، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما في السّماوات،أو ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ :الحاضر من أفعالهم و أحوالهم، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما سيكون،أو عكسه.ذكر هذين القولين تاج القرّاء في تفسيره...

و الّذي يظهر أنّ هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات،و كنّى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به،كما تقول:ضرب زيد الظّهر و البطن،و أنت تعني بذلك جميع جسده.و استعيرت الجهات لأحوال المعلومات، فالمعنى:أنّه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات، لا يعزب عنه شيء،فلا يراد بما بين الأيدي و لا بما خلفهم شيء معيّن،كما ذهبوا إليه.(2:279)

البروسويّ: و في«التّأويلات النّجميّة»:

(يعلم)محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، من الأمور الأوّليات قبل خلق اللّه الخلائق،كقوله:«أوّل ما خلق اللّه نوري»، وَ ما خَلْفَهُمْ من أهوال القيامة و فزع الخلق،و غضب الرّبّ،و طلب الشّفاعة من الأنبياء، و قولهم:نفسي نفسي،و حوالة الخلق بعضهم إلى بعض حتّى بالاضطرار يرجعون إلى النّبيّ عليه السّلام،لاختصاصه بالشّفاعة.(1:403)

الآلوسيّ: [نقل الأقوال المتقدّمة في معنى الآية ثمّ قال:]

و الكلّ محتمل،و وجه الإطلاق فيه ظاهر، و ضمير الجمع يعود على(ما)في ما فِي السَّماواتِ...

إلاّ أنّه غلب من يعقل على غيره.و قيل:للعقلاء في ضمنه فلا تغليب.و جوّز أن يعود على ما دلّ عليه(من ذا)من الملائكة و الأنبياء،و قيل:الأنبياء خاصّة.

و العلم ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ كناية عن إحاطة علمه سبحانه،و الجملة:إمّا استئناف أو خبر عمّا قبل،أو حال من ضمير(يشفع)،أو من المجرور في(باذنه.)(3:9)

ابن عاشور :[ذكر أقوال السّابقين ثمّ قال:]

و أيّا ما كان،فاللّفظ مجاز،و المقصود عموم العلم بسائر الكائنات.و ضمير(ايديهم)و(خلفهم)عائد إلى ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ بتغليب العقلاء من المخلوقات،لأنّ المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ما يشمل أحوال غير العقلاء،أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السّماوات و ما في الأرض،فيكون المراد:ما يختصّ بأحوال البشر- و هو البعض-لضمير(و لا يحيطون)-لأنّ العلم من أحوال العقلاء.(2:496)

مغنيّة:المعنى:أنّ اللّه سبحانه يعلم من عباده ما كان و يكون من خير و شرّ،و يعلم الشّافع و المشفوع له،و من يستحقّ العفو و الثّواب،أو العذاب و العقاب، و ما دام الأمر كذلك،فلا يبقى مجال للشّفاعة إلاّ بأمره تعالى،ضمن الحدود الّتي يرتضيها.(1:394)

الطّباطبائيّ: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ سياق الجملة مع مسبوقيّتها بأمر الشّفاعة يقرب من سياق قوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ... وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ الأنبياء:28،فالظّاهر أنّ ضمير

ص: 86

الجمع الغائب راجع إلى الشّفعاء الّذي تدلّ عليه الجملة السّابقة معنى،فعلمه تعالى ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ كناية عن كمال إحاطته بهم،فلا يقدرون بواسطة هذه الشّفاعة و التّوسّط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده اللّه سبحانه،و لا يرضى به في ملكه،و لا يقدر غيرهم أيضا أن يستفيد سوء من شفاعتهم و وساطتهم،فيداخل في ملكه تعالى،فيفعل فيه ما لم يقدره.

و إلى نظير هذا المعنى يدلّ قوله تعالى: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مريم:64،و قوله تعالى:

عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً الجنّ:26،27،فإنّ الآيات تبيّن إحاطته تعالى بالملائكة و الأنبياء،لئلاّ يقع منهم ما لم يرده،و لا يتنزّلوا إلاّ بأمره،و لا يبلغوا إلاّ ما يشاؤه.و على ما بيّنّاه فالمراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ :ما هو حاضر مشهود معهم،و ب ما خَلْفَهُمْ: ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم،و يؤول المعنى إلى الشّهادة و الغيب.

و بالجملة:قوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم،و بما هو غائب عنهم آت خلفهم، و لذلك عقّبه بقوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ، تبيينا لتمام الإحاطة الرّبوبيّة و السّلطة الإلهيّة،أي إنّه تعالى عالم محيط بهم و بعلمهم، و هم لا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء.(2:333)

مكارم الشّيرازيّ: [جعلها توكيدا لقدرة اللّه الكاملة،ثمّ قال:]

أمّا المقصود من ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و وَ ما خَلْفَهُمْ فإنّ القرآن يستعمل هذا التّعبير أحيانا للدّلالة على المكان،و أحيانا أخرى للدّلالة على الزّمان.ففي الآية:170،من سورة آل عمران نقرأ:

وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ من الواضح هنا أنّ التّعبير زمانيّ.ثمّ نقرأ في الآية:17،من سورة الأعراف: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ، فهنا المكان هو المقصود.

أمّا في هذه الآية فالتّعبير قد يجمع بين المكان و الزّمان،أي إنّ اللّه يعلم ما كان في الماضي و ما يكون في المستقبل،و ما هو أمام أنظارهم و يعلمونه،و ما هو خلفهم و محجوب عنهم و لا يعلمون عنه شيئا،و على هذا فإنّ اللّه محيط بكلّ أبعاد الزّمان و المكان،و أنّ الشّفعاء لا يستطيعون أن يأتوا بشيء جديد يكشفونه أمام اللّه.(2:177)

فضل اللّه : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ فكلّ الأشياء حاضرة عنده،لا يغيب شيء منها عن علمه،لأنّ الأشياء مكشوفة لديه،فلا مجال لاختباء الإنسان عن اللّه في أيّ عمل يخفيه،أو سرّ يكتمه،أو خطإ يستره،لأنّ الإخفاء و الكتمان و السّتر معان تلتقي بالحواجز المادّيّة الّتي تحول بين الشّيء و بين

ص: 87

ظهوره،ممّا لا مجال لتصوّره في ذات اللّه الّذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصّدور.و لعلّ هذا الإحساس هو الّذي يتعمّق في وعي الإنسان من خلال حركة إيمانه،فيمنعه عن الجريمة الخفيّة، و المعصية المستورة،و النّيّات الشّريرة الّتي تتحفّز للاندفاع و الظّهور.(5:37)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

2- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. طه:110

3-و قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. الحجّ:76

4- ...وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.

آل عمران:170

ابن عبّاس: من إخوانهم الّذين في الدّنيا أن يلحقوا بهم،لأنّ اللّه بشّرهم بذلك.(60)

السّدّيّ: إنّ الشّهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه و أهله،فيقال:يقدم عليك فلان يوم كذا و كذا،و يقدم عليك فلان يوم كذا و كذا،فيستبشر حين يقدم عليه،كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدّنيا.(192)

ابن زيد :هم إخوانهم من الشّهداء ممّن يستشهد من بعدهم.(الطّبريّ 3:517)

الفرّاء: من إخوانهم الّذين يرجون لهم الشّهادة للّذي رأوا من ثواب اللّه،فهم يستبشرون بهم.

(1:247)

الثّعلبيّ: من إخوانهم الّذين فارقوهم و هم أحياء في الدّنيا على منهاجهم من الإيمان و الجهاد.

(3:205)

نحوه الواحديّ(1:521)،و البغويّ(1:538).

الزّمخشريّ: يريد الّذين من خلفهم قد بقوا بعدهم،و هم قد تقدّموهم.و قيل: لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ:

لم يدركوا فضلهم و منزلتهم.(1:479)

راجع:ب ش ر:«يستبشرون»و:ل ح ق:

«لم يلحقوا».

5- وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ... النّساء:9

ابن عبّاس: بعد موتهم.(65)

راجع:خ ش ي:«و ليخش»و:ذ ر ر:«ذرّيّة».

6- ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.

الأعراف:17

ابن عبّاس: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الآخرة، أن لا جنّة و لا نار و لا بعث و لا حساب، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أنّ الدّنيا لا تفنى،و آمرهم بالجمع و المنع و البخل و الفساد.(125)

نحوه قتادة(الطّبريّ 5:446)،و الكلبيّ(الثّعلبيّ 4:221)،و القمّيّ(1:224).

ص: 88

مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني من الدّنيا، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من الآخرة.(الطّبريّ 5:445)

نحوه إبراهيم[النّخعيّ]و الحكم[بن عتيبة] (الطّبريّ 5:446)،و شبّر(2:350).

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ... و لم يقل:«من فوقهم»،لأنّ الرّحمة تنزل من فوقهم.(الطّبريّ 5:447)

مجاهد : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ حيث يبصرون، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ حيث لا يبصرون.(الطّبريّ 5:446)

مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ: من الحسنات، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ: من السّيّئات.

(النّحّاس 3:19)

الإمام الباقر عليه السّلام: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ معناه أهوّن عليهم أمر الآخرة، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: آمرهم بجمع الأموال و البخل بها عن الحقوق،لتبقى لورثتهم.

(الطّبرسيّ 2:404)

السّدّيّ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فالدّنيا أدعوهم إليها و أرغّبهم فيها، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ فمن الآخرة، أشكّكهم فيها،و أبعّدها عليهم.(258)

نحوه ابن جريج.(الطّبريّ 5:446)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم:معنى قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: من قبل الآخرة، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من قبل الدّنيا.

و قال آخرون:بل معنى قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ:

من قبل دنياهم، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من قبل آخرتهم.

و قال آخرون:معنى ذلك من حيث يبصرون و من حيث لا يبصرون.

و أولى هذه الأقوال عندي بالصّواب،قول من قال:معناه ثمّ لآتينّهم من جميع وجوه الحقّ و الباطل، فأصدّهم عن الحقّ،و أحسّن لهم الباطل،و ذلك أنّ ذلك عقيب قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، فأخبر أنّه يقعد لبني آدم على الطّريق الّذي أمرهم اللّه أن يسلكوه،و هو ما وصفنا من دين اللّه دين الحقّ، فيأتيهم في ذلك من كلّ وجوهه،من الوجه الّذي أمرهم اللّه به،فيصدّهم عنه،و ذلك مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ، و من الوجه الّذي نهاهم اللّه عنه،فيزيّنه لهم و يدعوهم إليه،و ذلك مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ.

و قيل:و لم يقل:«من فوقهم»،لأنّ رحمة اللّه تنزل على عباده من فوقهم.(5:445)

الزّجّاج: معناه-و اللّه أعلم-ثمّ لآتينّهم في الضّلال من جميع جهاتهم.و قيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، أي لأضلّنّهم في جميع ما يتوقّع،و قيل أيضا:لأخوّفنّهم الفقر و الحقيقة-و اللّه أعلم-أي أنصرف لهم في الإضلال في جميع جهاتهم.(2:324)

النّحّاس: [نقل قول الحكم و قال:]

و هذا قول حسن،و شرطه أنّ معنى لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من دنياهم،حتّى يكذّبوا بما فيها من الآيات،و أخبار الأمم السّالفة، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من آخرتهم حتّى يكذّبوا بها.[إلى أن نقل القول الثّاني لابن عبّاس و قال:]

و ذلك القول لا يمتنع،لأنّ الآخرة لم تأت بعد،فهي

ص: 89

بين أيدينا،و هي تكون بعد موتنا،فمن هذه الجهة يقال:هي خلفنا.

و قيل:معنى وَ مِنْ خَلْفِهِمْ يخوّفهم على تركاتهم،و من يخلّفون بعدهم.(3:16)

الماورديّ: فيه أربعة تأويلات:[نقلها إلى أن قال:]

و الرّابع:أراد من كلّ الجهات الّتي يمكن الاحتيال عليهم منها،و لم يذكر«من فوقهم»،لأنّ رحمة اللّه تصدّه،و لا«من تحت أرجلهم»،لما فيه من التّنفير، قاله بعض المتأخّرين.

و يحتمل تأويلا خامسا: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: فيما بقي من أعمارهم،فلا يقدمون على طاعة، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: فيما مضى من أعمارهم،فلا يتوبون عن معصية...

و يحتمل سادسا: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: بسط أملهم، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: تحكيم جهلهم.(2:206)

القشيريّ: أخبر أنّه يأخذ عليهم جوانبهم، و يتسلّط عليهم من جميع جهاتهم.و لم يعلم أنّ الحقّ سبحانه قادر على حفظهم عنه،فإنّ ما يكيد بهم من القدرة حصل،و بالمشيئة يوجد،و لو كان الأمر به أو إليه لكان أولى الخلق بأن يؤثّر فيه كدحه نفسه؛ و حيث لم ينفعه جهده في سالف أحواله،لم يضرّهم كيده بما توعّدهم به من سوء أفعاله.(2:218)

الزّمخشريّ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من الجهات الأربع الّتي يأتي منها العدوّ في الغالب.و هذا مثل لوسوسته إليهم و تسويله ما أمكنه و قدر عليه،كقوله:

وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ الإسراء:64.

فإن قلت:كيف قيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ بحرف الابتداء وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ بحرف المجاوزة؟

قلت:المفعول فيه عدّي إليه الفعل،نحو تعديته إلى المفعول به،فكما اختلفت حروف التّعدية في ذاك اختلفت في هذا،و كانت لغة تؤخذ و لا تقاس،و إنّما يفتّش عن صحّة موقعها فقط.

فلمّا سمعناهم يقولون:جلس عن يمينه و على يمينه،و عن شماله.و على شماله،قلنا:معنى على يمينه:

أنّه تمكّن من جهة اليمين تمكّن المستعلي من المستعلى عليه،و معنى عن يمينه:أنّه جلس متجافيا عن صاحب اليمين،منحرفا عنه غير ملاصق له،ثمّ كثر حتّى استعمل في المتجافي و غيره،كما ذكرنا في«تعال».

و نحوه عن المفعول به قولهم:رميت عن القوس و على القوس و من القوس،لأنّ السّهم يبعد عنها و يستعليها إذا وضع على كبدها للرّمي،و يبتدئ الرّمي منها.كذلك قالوا:جلس بين يديه و خلفه بمعنى فيه،لأنّهما ظرفان للفعل،و من بين يديه و من خلفه، لأنّ الفعل يقع في بعض الجهتين،كما تقول:جئته من اللّيل تريد بعض اللّيل.(2:71)

ابن عطيّة: هذا توكيد من إبليس في أنّه يجدّ في إغواء بني آدم،و هذا لم يكن حتّى علم إبليس أنّ اللّه يجعل في الأرض خليفة،و علم أنّه آدم،و إلاّ فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات.

ص: 90

و مقصد هذه الآية أنّ إبليس أخبر عن نفسه أنّه يأتي إضلال بني آدم من كلّ جهة،و على كلّ طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده،و ينسيه صالح أعمال الآخرة،و يغريه بقبيح أعمال الدّنيا،فعبّر ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم،و في اللّفظ تجوّز،و هذا قول جماعة من المفسّرين.(2:380)

الطّبرسيّ: ...إنّما دخلت(من)في القدّام و الخلف،و(عن)في اليمين و الشّمال،لأنّ في القدّام و الخلف معنى طلب النّهاية،و في اليمين و الشّمال الانحراف عن الجهة.(2:404)

ابن الجوزيّ: فيه سبعة أقوال:[و قد ذكرت قبلا سوى الرّابع إذ قال:]

الرّابع: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من سبيل الحقّ، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ من سبيل الباطل.(3:176)

الفخر الرّازيّ: في ذكر هذه الجهات الأربع قولان:

القول الأوّل:أنّ كلّ واحد منها مختصّ بنوع من الآفة في الدّين.و القائلون بهذا القول ذكروا وجوها:

أحدها: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني أشكّكهم في صحّة البعث و القيامة وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ألقي إليهم أنّ الدّنيا قديمة أزليّة.

و ثانيها: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ المعنى:

أفترهم عن الرّغبة في سعادات الآخرة، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ يعني أقوّي رغبتهم في لذّات الدّنيا و طيّباتها و أحسّنها في أعينهم.و على هذين الوجهين فالمراد من قوله: بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: الآخرة،لأنّهم يردون عليها و يصلون إليها،فهي بين أيديهم،و إذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدّنيا خلفهم،لأنّهم يخلفونها.

و ثالثها:و هو قول الحاكم و السّدّيّ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الدّنيا،و وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: الآخرة.

و إنّما فسّرنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ بالدّنيا،لأنّها بين يدي الإنسان يسعى فيها و يشاهدها،و أمّا الآخرة فهي تأتي بعد ذلك.

و رابعها: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: في تكذيب الأنبياء و الرّسل الّذين يكونون حاضرين، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ:

في تكذيب من تقدّم من الأنبياء و الرّسل.[إلى أن قال:]

أمّا حكماء الاسلام فقد ذكروا فيها وجوها أخرى:

أوّلها:و هو الأقوى الأشرف،أنّ في البدن قوى أربعا،هي الموجبة لقوّات السّعادات الرّوحانيّة.

فإحداها:القوّة الخياليّة الّتي يجتمع فيها مثل المحسوسات و صورها،و هي موضوعة في البطن المقدّم من الدّماغ،و صور المحسوسات إنّما ترد عليها من مقدّمها،و إليه الإشارة بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ.

و القوّة الثّانية:القوّة الوهميّة الّتي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات،و هي موضوعة في البطن المؤخّر من الدّماغ،و إليها الإشارة بقوله: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ.

و ثانيها:أنّ قوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ المراد منه:الشّبهات المبنيّة على التّشبيه:إمّا في الذّات و الصّفات،مثل شبه المجسّمة،و إمّا الأفعال،مثل شبه المعتزلة في التّعديل و التّخويف و التّحسين و التّقبيح.

ص: 91

وَ مِنْ خَلْفِهِمْ المراد منه:الشّبهات النّاشئة عن التّعطيل.و إنّما جعلنا قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لشبهات التّشبيه،لأنّ الإنسان يشاهد هذه الجسمانيّات و أحوالها،فهي حاضرة بين يديه،فيعتقد أنّ الغائب يجب أن يكون مساويا لهذا الشّاهد.و إنّما جعلنا قوله: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التّعطيل،لأنّ التّشبيه عين التّعطيل،فلمّا جعلنا قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ كناية عن التّشبيه،وجب أن نجعل قوله: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التّعطيل.[إلى أن قال:]

و ثالثها:نقل عن شقيق رحمه اللّه أنّه قال:ما من صباح إلاّ و يأتيني الشّيطان من الجهات الأربع:من بين يديّ،و من خلفي،و عن يميني،و عن شمالي.أمّا من بين يديّ،فيقول:لا تخف فإنّ اللّه غفور رحيم،فأقرأ وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً طه:

82،و أمّا من خلفي،فيخوّفني من وقوع أولادي في الفقر،فأقرأ وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها هود:6،و أمّا من قبل يميني،فيأتيني من قبل الثّناء فأقرأ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ القصص:83،و أمّا من قبل شمالي،فيأتيني من قبل الشّهوات فأقرأ: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ سبأ:54.

و القول الثّاني في هذه الآية:أنّه تعالى حكى عن الشّيطان،ذكر هذه الوجوه الأربعة،و الغرض منه أنّه يبالغ في إلقاء الوسوسة،و لا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البتّة.

و تقدير الآية:ثمّ لآتينّهم من جميع الجهات الممكنة،بجميع الاعتبارات الممكنة.و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له:تدع دين آبائك فعصاه فأسلم،ثمّ قعد له بطريق الهجرة،فقال له:تدع ديارك و تتغرّب فعصاه و هاجر،ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال له:تقاتل فتقتل، و يقسم مالك،و تنكح امرأتك،فعصاه فقاتل»،و هذا الخبر يدلّ على أنّ الشّيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلاّ و يلقيها في القلب.

فإن قيل:فلم لم يذكر مع الجهات الأربع:«من فوقهم»و«من تحتهم»؟

قلنا:أمّا في التّحقيق،فقد ذكرنا أنّ القوى الّتي يتولّد منها ما يوجب تفويت السّعادات الرّوحانيّة، فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن.و أمّا في الظّاهر،فيروى أنّ الشّيطان لمّا قال هذا الكلام رقّت قلوب الملائكة على البشر،فقالوا:يا إلهنا كيف يتخلّص الإنسان من الشّيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع؟فأوحى اللّه تعالى إليهم أنّه بقي للإنسان جهتان:الفوق و التّحت،فإذا رفع يديه إلى فوق في الدّعاء على سبيل الخضوع،أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة،و اللّه أعلم.

المسألة الثّانية:أنّه قال: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة(من)،ثمّ قال: وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة(عن)،و لا بدّ في هذا الفرق من فائدة.

فنقول:إذا قال القائل جلس عن يمينه،معناه أنّه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملتصق به.قال

ص: 92

تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ق:17،فبيّن أنّه حضر على هاتين الجهتين ملكان،و لم يحضر في القدّام و الخلف ملكان،و الشّيطان يتباعد عن الملك، فلهذا المعنى خصّ اليمين و الشّمال بكلمة(عن)، لأجل أنّها تفيد البعد و المباينة،و أيضا فقد ذكرنا أنّ المراد من قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ الخيال و الوهم،و الضّرر النّاشئ منهما هو حصول العقائد الباطلة،و ذلك هو حصول الكفر،و قوله: وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ الشّهوة،و الغضب،و الضّرر النّاشئ منهما هو حصول الأعمال الشّهوانيّة و الغضبيّة،و ذلك هو المعصية.و لا شكّ أنّ الضّرر الحاصل من الكفر لازم،لأنّ عقابه دائم.أمّا الضّرر الحاصل من المعصية فسهل،لأنّه عقابه منقطع،فلهذا السّبب خصّ هذين القسمين بكلمة(عن)،تنبيها على أنّ هذين القسمين في اللّزوم و الاتّصال دون القسم الأوّل،و اللّه أعلم بمراده.

المسألة الثّالثة:قال القاضي:هذا القول من إبليس كالدّلالة على بطلان ما يقال:إنّه يدخل في بدن ابن آدم و يخالطه،لأنّه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحقّ.(14:40)

نحوه النّيسابوريّ.(8:86)

القرطبيّ: أي لأصدّنّهم عن الحقّ،و أرغّبنّهم في الدّنيا،و أشكّكهم في الآخرة.و هذا غاية في الضّلالة.(7:176)

البيضاويّ: أي من جميع الجهات الأربع،مثّل قصده إيّاهم بالتّسويل و الإضلال،من أيّ وجه يمكنه بإتيان العدوّ من الجهات الأربع،و لذلك لم يقل:«من فوقهم»و«من تحت أرجلهم».

و قيل:لم يقل من فوقهم،لأنّ الرّحمة تنزيل منه، و لم يقل من تحتهم،لأنّ الإتيان منه يوحش النّاس...

و إنّما عدّي الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء، لأنّه منهما متوجّه إليهم،و إلى الأخيرين بحرف المجاوزة،فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عرضهم،و نظيره قولهم:جلست عن يمينه.(1:343)

نحوه أبو السّعود(2:483)،و القاسميّ(7:2636).

النّسفيّ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أشكّكهم في الآخرة وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أرغّبهم في الدّنيا...

و لم يقل«من فوقهم»و«من تحتهم»،لمكان الرّحمة و السّجدة.و قال في الأوّلين(من)،لابتداء الغاية،و في الأخيرين(عن)،لأنّ(عن)تدلّ على الانحراف.(2:47)

أبو حيّان : وَ مِنْ خَلْفِهِمْ الظّاهر أنّ إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته و إغوائه له، و الجدّ في إضلاله من كلّ وجه يمكن.و لمّا كانت هذه الجهات يأتي منها العدوّ غالبا ذكرها،لا أنّه يأتي من الجهات الأربع حقيقة.[إلى أن قال:]

أقول:إنّما خصّ«بين الأيدي»و«الخلف»بحرف الابتداء الّذي هو أمكن في الإتيان،لأنّهما أغلب ما يجيء العدوّ منهما،فينال فرصته،و قدّم«بين الأيدي» على«الخلف»،لأنّها الجهة الّتي تدلّ على إقدام العدوّ و بسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه،و الخلف من جهة غدر و مخاتلة،و جهالة القرن بمن يغتاله،

ص: 93

و يتطلّب غرّته و غفلته.و خصّ الأيمان و الشّمائل الحرف الّذي يدلّ على المجاوزة،لأنّهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ،و إنّما يتجاوز إتيانه إلى الجهة الّتي هي أغلب في ذلك.(4:276)

الكاشانيّ: من الجهات الأربع جمّع.(2:184)

البروسويّ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي من قبل الآخرة فأشكّكهم فيها،و أيضا من قبل الحسد فأزيّن لهم الحسد على الأكابر من العلماء و المشايخ في زمانهم،ليطعنوا في أحوالهم و أعمالهم و أقوالهم. وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من جهة الدّنيا أرغّبهم فيها،و أيضا من قبل العصبيّة ليطعنوا في المتقدّمين من الصّحابة و التّابعين و المشايخ الماضين،و يقدحوا فيهم و يبغضوهم.[ثمّ قال نحو البيضاويّ](3:142)

الآلوسيّ: أي من الجهات الأربع الّتي يعتاد هجوم العدوّ منها،و المراد:لأسوّلنّ لهم و لأضلّنّهم بقدر الإمكان.إلاّ أنّه شبّه حال تسويله و وسوسته لهم كذلك،بحال إتيان العدوّ لمن يعاديه من أيّ جهة أمكنته،و لذا لم يذكر الفوق و التّحت؛إذ لا إتيان منهما، فالكلام من باب الاستعارة التّمثيليّة.و لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ على ما قيل:ترشيح لها.

و بعضهم لم يخرج الكلام على التّمثيل،و اعتذر عن ترك جهة الفوق بأنّ الرّحمة تنزل منها،و عن ترك جهة التّحت بأنّ الإتيان منها يوحش.و الاعتذار عن الأوّل بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهما،و روي أيضا عن عكرمة و الشّعبيّ.

و الاعتذار عن الثّاني نسبه الطّبرسيّ إلى الحبر أيضا.

و لا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلا أيضا، و يكون الفرق بين التّوجيهين:بأنّ ترك هاتين الجهتين على الأوّل لعدمهما في الممثّل به،و على الثّاني لعدمهما في الممثّل...(8:95)

ابن عاشور :كما ضرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطّريق،كذلك مثّلت هيئة التّوسّل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ؛إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة الّتي يتمكّن فيها من أخذه،فهو يأتيه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله،حتّى تخور قوّة مدافعته.فالكلام تمثيل،و ليس للشّيطان مسلك للإنسان إلاّ من نفسه و عقله بإلقاء الوسوسة في نفسه، و ليست الجهات الأربع المذكورة في الآية بحقيقة، و لكنّها مجاز تمثيليّ بما هو متعارف في محاولة النّاس و مخاتلتهم،و لذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم و من تحتهم؛إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة و المهاجمة.

و علّق(بين ايديهم)و(خلفهم)بحرف(من)، و علّق(ايمانهم)و(شمائلهم)بحرف(عن)،جريا على ما هو شائع في لسان العرب في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات.و أصل(عن)في قولهم:عن يمينه و عن شماله المجاوزة،أي من جهة يمينه مجاوزا له و مجافيا له، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت(عن)بمعنى«على»،فكما يقولون:جلس على يمينه،يقولون:جلس عن يمينه.

و كذلك(من)في قولهم:من بين يديه،أصلها:الابتداء، يقال:أتاه من بين يديه،أي من المكان المواجه له،ثمّ

ص: 94

شاع ذلك حتّى صارت(من)بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف،فلذلك جرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل«عند»،لأنّ وجود(من)كالعدم.(8:38)

مغنيّة:إتيانه لهم من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته،و جدّه في إضلالهم و إغوائهم؛بحيث لا يدع معصية إلاّ أغراهم بها،و لا طاعة إلاّ ثبّطهم عنها.فإن أمرهم اللّه بالجهاد و التّضحية بالنّفس،حبّب إبليس إليهم الحياة،و إن حثّهم سبحانه على بذل المال في سبيله،خوّفهم اللّعين من الفقر،و إن نهاهم الجليل عن الخمر و الزّنى و الميسر و نحوه،زيّن لهم الخبيث الملذّات و حبّ الشّهوات،و إن توعّدهم اللّه بالنّار و وعدهم بالجنّة،قال لهم عدوّ اللّه و عدوّهم:لا جنّة و لا نار،و هكذا يعدّ لكلّ حقّ باطلا،و لكلّ قائم مائلا،و تنطبق هذه الصّورة كلّ الانطباق على الّذين باعوا دينهم للشّيطان،يبرّرون أعمال المستعمرين، و قتل النّساء و الأطفال،و تشريد الآمنين من ديارهم.

(3:308)

الطّباطبائيّ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ... بيان لما يصنعه بهم،و قد كمن لهم قاعدا على الصّراط المستقيم،و هو أنّه يأتيهم من كلّ جانب من جوانبهم الأربعة.

و إذ كان الصّراط المستقيم الّذي كمن لهم قاعدا عليه أمرا معنويّا،كانت الجهات الّتي يأتيهم منها معنويّة لا حسّيّة،و الّذي يستأنس من كلامه تعالى لتشخيص المراد بهذه الجهات-كقوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً النّساء:

120،و قوله: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ آل عمران:175،و قوله: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ البقرة:168،و قوله: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ البقرة:268،إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة-هو أنّ المراد ممّا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ:

ما يستقبلهم من الحوادث أيّام حياتهم،ممّا يتعلّق به الآمال و الأماني من الأمور الّتي تهواه النّفوس و تستلذّه الطّباع،و ممّا يكرهه الإنسان و يخاف نزوله به كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل اللّه،أو ذمّ النّاس و لومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير و الثّواب.

و المراد ب(خلفهم:)ناحية الأولاد و الأعقاب، فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد آمال و أماني و مخاوف و مكاره،فإنّه يخيّل إليه أنّه يبقى ببقائهم فيسرّه ما يسرّهم و يسوؤه ما يسوؤهم،فيجمع المال من حلاله و حرامه لأجلهم،و يعدّ لهم ما استطاع من قوّة،فيهلك نفسه في سبيل حياتهم.(8:31)

مكارم الشّيرازيّ: إنّه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم،بل سيأتيهم من كلّ حدب و صوب، و يسدّ عليهم الطّريق من كلّ جانب.

و يمكن أن يكون هذا التّعبير كناية عن أنّ الشّيطان يحاصر الإنسان من كلّ الجهات،و يتوسّل إليه بكلّ وسيلة ممكنة،و يسعى في إضلاله.و هذا التّعبير دارج في المحاورات اليوميّة أيضا،فنقول:فلان حاصرته الدّيون أو الأمراض من الجهات الأربع.

و عدم ذكر«الفوق»و«التّحت»إنّما هو لأجل أنّ الإنسان يتحرّك عادة في الجهات الأربع المذكورة، و يكون له نشاط في هذه الأنحاء غالبا.(4:538)

ص: 95

فضل اللّه: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ... فليست هناك جهة لا أملك حرّيّة الدّخول منها إلى أفكارهم و مشاعرهم و خطواتهم العمليّة،و علاقاتهم البشريّة،و كلّ أوضاعهم العامّة و الخاصّة،لأنّهم مكشوفون لي بكلّ آفاتهم الدّاخليّة و الخارجيّة،فلهم غرائز يمكن إثارتها،و لهم مطامع يمكن اللّعب عليها،و لهم أهواء يمكن التّحرّك من خلالها.(10:38)

7- فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. الأنفال:57

ابن عبّاس: نكّل بهم من بعدهم.

(الطّبريّ 6:271)

نحوه أبو عبيدة.(1:248)

نكّل بهم من وراءهم.

مثله ابن جريج و ابن اسحاق.(الطّبريّ 6:271)

قتادة :عظ بهم من سواهم من النّاس.

(الطّبريّ 6:271)

السّدّيّ: نكّل بهم من خلفهم من بعد بعدهم من العدوّ.(284)

ابن قتيبة :من وراءهم من أعدائك.(180)

الطّبريّ: فافعل بهم فعلا يكون مشرّدا من خلفهم من نظرائهم،ممّن بينك و بينه عهد و عقد.(6:270)

الثّعلبيّ: أي من وراءهم،و قيل:من يأتي خلفهم.

و قرأ الأعمش: (من خلفهم) بكسر الميم و الفاء، تقديره:فشرّد بهم من خلفهم من عمل قبل عملهم.

(4:369)

الواحديّ: مِنْ خَلْفِهِمْ من أهل مكّة،و أهل اليمن.(2:467)

نحوه البغويّ.(2:302)

الزّمخشريّ: من وراءهم من الكفرة حتّى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتبارا بهم و اتّعاظا بحالهم.

(2:165)

نحوه البيضاويّ(1:399)،و أبو السّعود(3:

108)،و البروسويّ(3:362)،و الآلوسيّ(10:22).

ابن عطيّة: أي لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به، و سواء كان معاصرا لهم أم لا،و ما تقدّم الشّيء فهو بين يديه،و ما تأخّر عنه فهو خلفه.(2:542)

ابن عاشور :الخلف هنا:مستعار للاقتداء بجامع الاتّباع،...

و المعنى:فاجعلهم مثلا و عبرة لغيرهم من الكفّار الّذين يترقّبون ما ذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم؟!(9:140)

8- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. طه:110

ابن عبّاس: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: بين أيدي الملائكة من أمر الآخرة، وَ ما خَلْفَهُمْ: من أمر الدّنيا.(266)

مثله الكلبيّ.(الفخر الرّازيّ 22:119)

مجاهد : ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر الدّنيا و الأعمال، وَ ما خَلْفَهُمْ: من أمر الآخرة و الثّواب و العقاب.(الفخر الرّازيّ 22:119)

ص: 96

الضّحّاك:يعلم ما مضى و ما بقي،و متى تكون القيامة.(الفخر الرّازيّ 22:119)

قتادة : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر السّاعة، وَ ما خَلْفَهُمْ: من أمر الدّنيا.(الطّبريّ 8:460)

الطّبريّ: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ يقول تعالى ذكره:يعلم ربّك يا محمّد ما بين أيدي هؤلاء الّذين يتّبعون الدّاعي من أمر القيامة،و ما الّذي يصيرون إليه من الثّواب و العقاب، وَ ما خَلْفَهُمْ يقول:و يعلم أمر ما خلّفوه وراءهم من أمر الدّنيا.

(8:460)

الزّجّاج: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر القيامة و جميع ما يكون، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما قد وقع من أعمالهم.(3:377)

9- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى. الأنبياء:28

ابن عبّاس: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر الآخرة، وَ ما خَلْفَهُمْ: من أمر الدّنيا.(270)

مثله الكلبيّ.(الماورديّ 3:443)

ما قدّموا و ما أخّروا من عملهم.

(الماورديّ 3:443)

الطّبريّ: وَ ما خَلْفَهُمْ يقول:و ما مضى من قبل اليوم ممّا خلّفوه وراءهم من الأزمان و الدّهور ما عملوا فيه.(9:17)

الماورديّ: فيه وجهان:[إلى أن قال:]

و فيه الثّالث:ما قدّموا:ما عملوا،و ما أخّروا:

يعني ما لم يعملوا،قاله عطيّة.(الماورديّ 3:443)

الزّمخشريّ: جميع ما يأتون و يذرون ممّا قدّموا و أخّروا بعين اللّه.(2:569)

ابن عطيّة: أي ما تقدّم من أفعالهم و أعمالهم، و الحوادث الّتي لها إليهم تنسب،و ما تأخّر.(4:79)

نحوه البروسويّ.(5:468)

أبو السّعود :استئناف وقع تعليلا لما قبله،و تمهيدا لما بعده،فإنّهم لعلمهم بإحاطته تعالى بما قدّموا و أخّروا من الأقوال و الأعمال،لا يزالون يراقبون أحوالهم،فلا يقدمون على قول أو عمل بغير أمره تعالى.(4:333)

نحوه الآلوسيّ.(17:33)

الطّباطبائيّ: فسّروا ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ: بما قدّموا من أعمالهم و ما أخّروا،و المعنى:

يعلم ما عملوا و ما هم عاملون.

فقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ استئناف في مقام التّعليل،لما تقدّمه من قوله: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، كأنّه قيل:إنّما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى،لأنّه يعلم ما قدّموا من قول و عمل و ما أخّروا،فلا يزالون يراقبون أحوالهم؛حيث إنّهم يعلمون ذلك.

و هو معنى جيّد في نفسه،لكنّه إنّما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية،لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر،و هو المطلوب.على أنّ لفظ الآية لا دلالة فيه على أنّهم يعلمون ذلك،و لو لا ذلك لم يتمّ البيان.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ

ص: 97

رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مريم:64،أنّ الأوجه حمل قوله: ما بَيْنَ أَيْدِينا على الأعمال و الآثار المتفرّعة على وجودهم،و قوله: وَ ما خَلْفَنا على ما هو من أسباب وجودهم ممّا تقدّمهم و تحقّق قبلهم،فلو حمل اللّفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك،كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ إلى قوله: بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الّذي يذكّرهم بشرافة الذّات و شرافة آثار الذّات من القول و الفعل، و يكون المعنى:إنّما أكرم اللّه ذواتهم و حمد آثارهم، لأنّه يعلم أعمالهم و أقوالهم،و هي ما بين أيديهم،و يعلم السّبب الّذي به وجدوا،و الأصل الّذي عليه نشئوا،و هو ما خلفهم،كما يقال:فلان كريم النّفس، حميد السّيرة،لأنّه مرضيّ الأعمال من أسرة كريمة.

(14:276)

10- أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ...

سبأ:9

ابن عبّاس: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: فوقهم و تحتهم من السّماء و الأرض، وَ ما خَلْفَهُمْ: فوقهم و تحتهم.

(359)

قتادة :أ لم ينظروا إلى السّماء و الأرض كيف أحاطت بهم؟لأنّك إن نظرت عن يمينك أو شمالك،أو بين يديك أو خلفك،رأيت السّماء و الأرض...

(الماورديّ 4:434)

الفرّاء:يقول:أما يعلمون أنّهم حيثما كانوا فهم يرون بين أيديهم من الأرض و السّماء مثل الّذي خلفهم،و أنّهم لا يخرجون منها.(2:355)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:أ فلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالمعاد،الجاهدون البعث بعد الممات، القائلون لرسولنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم: أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ إلى ما بين أيديهم و ما خلفهم من السّماء و الأرض،فيعلموا أنّهم حيث كانوا،فإنّ أرضي و سمائي محيطة بهم من بين أيديهم و من خلفهم،و عن أيمانهم و عن شمائلهم،فيرتدعوا عن جهلهم، و ينزجروا عن تكذيبهم بآياتنا...(10:349)

الثّعلبيّ: أَ فَلَمْ يَرَوْا... فيعلموا أنّهم حيث كانوا،فإنّ أرضي و سمائي محيطة بهم،لا يخرجون من أقطارها،و أنا القادر عليهم،و لا يعجزونني؟(8:71)

مثله البغويّ.(3:671)

الماورديّ: فيه وجهان:[الأوّل:نقل قول قتادة]

الثّاني:يعني ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فمن أهلكهم اللّه تعالى من الأمم الماضية في أرضه، وَ ما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة في سمائه،قاله أبو صالح.(4:434)

الواحديّ: ذلك أنّ الإنسان حيث نظر رأى السّماء و الأرض قدّامه و خلفه و عن يمينه و عن شماله، و المعنى:أنّهم حيث كانوا فإنّ أرضي و سمائي محيطة بهم،و أنا القادر عليهم...(3:487)

نحوه ابن الجوزيّ.(6:435)

الطّوسيّ: أَ فَلَمْ يَرَوْا... فيفكّروا فيه و يعتبروا به،و أنّ اللّه تعالى خلقه و اخترعه...(8:378)

ص: 98

الزّمخشريّ: أعموا فلم ينظروا إلى السّماء و الأرض،و أنّهما حيثما كانوا و أينما ساروا أمامهم و خلفهم محيطتان بهم،لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارها و أن يخرجوا عمّا هم فيه من ملكوت اللّه عزّ و جلّ...(3:281)

نحوه النّسفيّ(3:319)،و البيضاويّ(2:256)

ابن عطيّة: المعنى أ ليس يرون أمامهم و وراءهم سمائي و أرضي،لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم،و لا عدم إحاطته بهم.(4:406)

الطّبرسيّ: أَ فَلَمْ يَرَوْا... كيف أحاطت بهم؟ و ذلك أنّ الإنسان حيث ما نظر رأى السّماء و الأرض قدّامه و خلفه و عن يمينه و عن شماله،فلا يقدر على الخروج منها.و قيل:معناه:أ فلم يتدبّروا و يتفكّروا في السّماء و الأرض،فيستدلّوا بذلك على قدرة اللّه تعالى؟(4:379)

أبو حيّان : ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أي حيث ما تصرّفوا،فالسّماء و الأرض قد أحاطتا بهم، و لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما،و لا يخرجوا عن ملكوت اللّه فيهما.(7:260)

نحوه البروسويّ.(7:264)

الشّربينيّ: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أي أمامهم وَ ما خَلْفَهُمْ؛ و ذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كلا الخافقين،فقوله تعالى: مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ دليل التّوحيد،فإنّهما يدلاّن على الوحدانيّة،و يدلاّن على الحشر و الإعادة،لأنّهما يدلاّن على كمال القدرة، لقوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يس:81.(3:281)

ابن عاشور :المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما يستقبله كلّ أحد منهم من الكائنات السّماويّة و الأرضيّة،و ب ما خَلْفَهُمْ ما هو وراء كلّ أحد منهم،فإنّهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما ورائهم؛و ذلك مثل أن ينظروا النّصف الشّماليّ من الكرة السّماويّة في اللّيل،ثمّ ينظروا النّصف الجنوبيّ منها،فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه و بعضها هاو إلى مغربه،و قمرا مختلف الأشكال باختلاف الأيّام،و في النّهار بأن ينظروا إلى الشّمس بازغة و آفلة،و ما يقارن ذلك من إسفار و أصيل و شفق.و كذلك النّظر إلى جبال الأرض و بحارها و أوديتها،و ما عليها من أنواع الحيوان و اختلاف أصنافه.(22:23)

الطّباطبائيّ: المراد بقوله: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ: إحاطة السّماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم،فأينما نظروا وجدوا سماء تظلّهم و أرضا تقلّهم لا مفرّ لهم منهما.(16:359)

نحوه مكارم الشّيرازيّ.(13:360)

11- وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. يس:9

ابن عبّاس: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: من أمر الآخرة... وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من أمر الدّنيا.(369)

ص: 99

البروسويّ: الظّاهر أنّ المراد ليس جهتي القدّام و الخلف فقط،بل يعمّ جميع الجهات،إلاّ أنّ جهة القدّام لمّا كانت أشرف الجهات و أظهرها،و جهة الخلف كان ضدّها،خصّت بالذّكر.(7:371)

نحوه الآلوسيّ.(22:215)

راجع:س د د:«سدّا».

12- إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ... فصّلت:14

ابن عبّاس: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ :من قبل عاد و ثمود إلى قومهم، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من بعدهم أيضا جاءت الرّسل إلى قومهم.(401)

نحوه السّدّىّ.(الماورديّ 5:174)

الحسن :ما بين أيديهم:عذاب الدّنيا،و ما خلفهم:

عذاب الآخرة.(الماورديّ 5:174)

الفرّاء: أتت الرّسل آباءهم،و من كان قبلهم، و مِنْ خَلْفِهِمْ يقول:و جاءتهم أنفسهم رسل من بعد أولئك الرّسل،فتكون«الهاء و الميم»في(خلفهم) للرّسل،و تكون لهم تجعل من خلفهم لما معهم (1).

(3:13)

الطّبريّ: عنى بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الرّسل الّتي أتت آباء الّذين هلكوا بالصّاعقة من هاتين الأمّتين،و عنى بقوله: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: من خلف الرّسل الّذين بعثوا إلى آبائهم رسلا إليهم؛و ذلك أنّ اللّه بعث إلى عاد هودا،فكذّبوه من بعد رسل قد كانت تقدّمته إلى آبائهم أيضا،فكذّبوهم،فأهلكوا.

(11:94)

الثّعلبيّ: يعني قبلهم و بعدهم.و أراد بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: الرّسل الّذين أرسلوا إلى آبائهم من قبلهم و(من خلفهم)يعني من بعد الرّسل الّذين أرسلوا إلى آبائهم،و هو الرّسول الّذي أرسل إليهم،هود و صالح عليهما السّلام،و الكناية في قوله مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ راجعة إلى عاد و ثمود،و في قوله تعالى: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ راجعة إلى الرّسل.(8:288)

الطّوسيّ: منهم من تقدّم زمانه و منهم من تأخّر عنه...و قال قوم:معناه قبلهم و بعد أن بلّغوا و تعبّدوا بأمر الرّسل الّذين تقدّموهم.

قال البلخيّ: و يجوز أن يكون المراد:أتتهم أخبار الرّسل من هاهنا و هاهنا مع ما جاءهم منهم.

(9:113)

نحوه الطّبرسيّ.(5:7)

الزّمخشريّ: أي أتوهم من كلّ جانب و اجتهدوا بهم،و عملوا فيهم كلّ حيلة،فلم يروا منهم إلاّ العتوّ و الإعراض،كما حكى اللّه تعالى عن الشّيطان: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ يعني لآتينّهم من كلّ جهة،و لأعملنّ فيهم كلّ حيلة.

و تقول:استدرت بفلان من كلّ جانب،فلم يكن لي فيه حيلة.

و عن الحسن:أنذروهم من وقائع اللّه فيمن قبلهم من الأمم و عذاب الآخرة،لأنّهم إذا حذّروهم ذلك!!

ص: 100


1- كذا!!

فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزّمن الماضي،و ما جرى فيه على الكفّار،و من جهة المستقبل و ما سيجري عليهم.و قيل:معناه:إذ جاءتهم الرّسل من قبلهم و من بعدهم.

فإن قلت:الرّسل الّذين من قبلهم و من بعدهم كيف يوصفون بأنّهم جاءوهم و كيف يخاطبونهم بقولهم: فَإِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ؟

قلت:قد جاءهم هود و صالح داعيين إلى الإيمان بهما،و بجميع الرّسل ممّن جاء من بين أيديهم،أي من قبلهم،و ممّن يجيء من خلفهم،أي من بعدهم،فكأنّ الرّسل جميعا قد جاءوهم.(3:447)

نحوه الفخر الرّازيّ(27:110)،و النّسفيّ ملخّصا(4:90)و البيضاويّ(2:346)،و الكاشانيّ (4:355)،و شبّر(5:371).

ابن عطيّة: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، أي قد تقدّموا في الزّمن،و اتّصلت نذارتهم إلى أعمار عاد و ثمود،و بهذا الاتّصال قامت الحجّة.

و قوله: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ، أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم،و بعد تقدّم وجودهم في الزّمن، فلذلك قال: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ. و جاء من مجموع العبارة إقامة الحجّة عليهم في أنّ الرّسالة و النّذارة عمّتهم خبرا و مباشرة،و لا يتوجّه أن يجعل وَ مِنْ خَلْفِهِمْ عبارة عمّا أتى بعدهم في الزّمن،لأنّ ذلك لا يلحقهم منه تقصير.

و أمّا الطّبريّ فقال:الضّمير في قوله: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ عائد على الرّسل،و الضّمير في قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ على الأمم،و تابعه الثّعلبيّ.و هذا غير قويّ،لأنّه يفرّق الضّمائر و يشعّب المعنى.(5:8)

ابن الجوزيّ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، أي أتت آباءهم و من كان قبلهم، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ، أي من خلف الآباء،و هم الّذين أرسلوا إلى هؤلاء المهلكين.

(7:247)

النّيسابوريّ: قوله: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ قيل:الضّميران عائدان إلى الرّسل،أي جاءهم رسل بعد الرّسل،و قيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، أي حذّروهم الدّنيا، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ: الآخرة.و قيل:

مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: الّذين عاينوهم، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ:

الّذين وصل إليهم خبرهم و كتبهم.و حقيقة«بين يديه»أن يستعمل للشّيء الحاضر،و مجازه أن يستعمل للشّيء الماضي بزمان قريب.(24:63)

أبو حيّان:...قال الطّبريّ: الضّمير في قوله:

وَ مِنْ خَلْفِهِمْ عائد على الرّسل،و في مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، عائد على الأمم.و فيه خروج عن الظّاهر في تفريق الضّمائر و تعمية المعنى؛إذ يصير التّقدير:

جاءتهم الرّسل من بين أيديهم و جاءتهم من خلف الرّسل،أي من خلف أنفسهم.و هذا معنى لا يتعقّل إلاّ إن كان الضّمير يعود في خَلْفِهِمْ على الرّسل لفظا، و هو يعود على رسل أخرى معنى،فكأنّه قال:

جاءتهم الرّسل من بين أيديهم و من خلف رسل آخرين،فيكون كقولهم:عندي درهم و نصفه،أي و نصف درهم آخر،و هذا فيه بعد.(7:489)

الشّربينيّ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي من قبلهم،لأنّ

ص: 101

نذير الأوّل نذير لكلّ من أتى بعده،بأنّه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذّب به، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ و هم من أتى إليهم،لأنّهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم.فالخلف:كناية عن الخلفاء و القدّام عن الجلاء،و أنّهم أتوهم من كلّ جانب...[ثمّ ذكر نحو الزّمخشريّ](3:510)

أبو السّعود : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ متعلّق ب(جاءتهم،)أي من جميع جوانبهم، و اجتهدوا بهم من كلّ جهة،أو من جهة الزّمان الماضي بالإنذار عمّا جرى فيه على الكفّار،و من جهة المستقبل بالتّحذير عمّا سيحيق بهم من عذاب الدّنيا و عذاب الآخرة.

و قيل:المعنى جاءتهم الرّسل المتقدّمون و المتأخّرون،على تنزيل مجيء كلامهم و دعوتهم إلى الحقّ منزلة مجيء أنفسهم،فإنّ هودا و صالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما،و بجميع الرّسل ممّن جاء من بين أيديهم،أي من قبلهم،و ممّن يجيء من خلفهم، أي من بعدهم،فكأنّ الرّسل قد جاءوهم.(5:439)

البروسويّ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ.. متعلّق ب (جاءتهم،)أي من جميع جوانبهم،و اجتهدوا بهم من كلّ جهة من جهات الإرشاد و طرق النّصيحة،تارة بالرّفق،و تارة بالعنف،و تارة بالتّشويق،و أخرى بالتّرهيب.فليس المراد الجهات الحسّيّة و الأماكن المحيطة بهم،أو من جهة الزّمان الماضي بالإنذار عمّا جرى فيه على الكفّار من الوقائع،و من جهة الزّمان المستقبل بالتّحذير عمّا أعدّ لهم في الآخرة.

و يحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة،كقوله تعالى:

يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ النّحل:112، فيراد بالرّسل ما يعمّ المتقدّمين منهم و المتأخّرين،أو ما يعمّ رسل الرّسل أيضا،و إلاّ فالجائي رسولان كما سبق،و ليس في الاثنين كثرة.(8:242)

الآلوسيّ: و(من خلفهم)متعلّق ب(جاءتهم) و الضّمير المضاف إليه ل«عاد»و«ثمود».و الجهتان كناية عن جميع الجهات،على ما عرف في مثله،أي أتتهم الرّسل من جمع جهاتهم.و المراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية.و يجوز أن يراد ب(ما بين ايديهم:)الزّمن الماضي و ب(ما خلفهم:)المستقبل و بالعكس، و استعير فيه ظرف المكان للزّمان،و المراد:جاءوهم بالإنذار عمّا جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي، و بالتّحذير عمّا سيحيق بهم في الآخرة.[ثمّ أدام نحو الزّمخشريّ](24:110)

نحوه القاسميّ.(14:5193)

ابن عاشور : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ... تمثيل لحرص رسول كلّ منهم على هداهم؛بحيث لا يترك وسيلة يتوسّل بها إلى إبلاغهم الدّين إلاّ توسّل بها.فمثّل ذلك بالمجيء إلى كلّ منهم تارة من أمامه،و تارة من خلفه،لا يترك له جهة،كما يفعل الحريص على تحصيل أمر أن يتطلّبه و يعيد تطلّبه،و يستوعب مظانّ وجوده أو مظانّ سماعه.و هذا التّمثيل نظير الّذي في قوله تعالى حكاية عن الشّيطان: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ الأعراف:17.

ص: 102

و إنّما اقتصر في هذه الآية على جهتين، و لم تستوعب الجهات الأربع،كما مثّل حال الشّيطان في وسوسته،لأنّ المقصود هنا تمثيل الحرص فقط و قد حصل،و المقصود في الحكاية عن الشّيطان تمثيل الحرص مع التّلهّف تحذيرا منه و إثارة لبغضه في نفوس النّاس.(25:26)

مغنيّة: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ... كناية عن مبالغة الرّسل و اجتهادهم في التّبشير و الإنذار،و أنّهم سلكوا من أجل هدايتهم كلّ سبيل...(6:482)

نحوه مكارم الشّيرازيّ.(15:339)

الطّباطبائيّ: أي من جميع الجهات،فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع.و جوّز أن يكون المراد به الماضي و المستقبل،فقوله: جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطّرق الممكنة:خلوة و جلوة،و فرادى و مجتمعين،بالتّبشير و الإنذار.(17:376)

فضل اللّه :(جاءتهم...)فهذه حقيقة تفرض نفسها على العقل و الوجدان،فلا مجال للشّكّ في وحدانيّة اللّه،لذا لا بدّ للعباد من أن يوحّدوا عبادة اللّه بما تفرضه من خضوع مطلق و طاعة مطلقة له،فإذا كان لديكم شبهة حول وحدانيّة اللّه نتيجة ما يمكن أن تعيشوه من عقد مرضيّة مستعصية،فتعالوا إلى الحوار في كلّ جزئيّاتها و في فكرها العامّ،لأنّ الحوار هو الّذي يفتح العقل على العقل،و يفسح المجال لتكوين القناعات من أقرب طريق.

و لعلّ جمع الرّسل-مع أنّ الآية لم تأت إلاّ على ذكر رسولين فقط-يعود إلى أنّ دعوة الرّسل واحدة، كما أنّ الحديث عن إتيانهم من بين أيديهم و من خلفهم،يحمل بعض الإيحاء،بأنّهم استخدموا كلّ الأساليب الّتي تطوّق أفكارهم من كلّ جانب.

(20:102)

13- وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ... فصّلت:25

ابن عبّاس: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر الآخرة، أن لا جنّة و لا نار و لا بعث و لا حساب، وَ ما خَلْفَهُمْ: من خلفهم من أمر الدّنيا،أن لا تنفقوا و لا تعطوا و أنّ الدّنيا باقية لا تفنى.(402)

نحوه الكلبيّ.(الماورديّ 5:178)

السّدّيّ: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر الدّنيا، وَ ما خَلْفَهُمْ: من أمر الآخرة.(428)

مثله مجاهد(الماورديّ 5:178)،و نحوه الحسن (الطّبرسيّ 5:10).

الكلبيّ: أعمالهم الّتي يشاهدونها، وَ ما خَلْفَهُمْ:

ما هم عاملوه في المستقبل.(الآلوسيّ 24:118)

ابن زيد :زيّنوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة، و ما بقي من أعمالهم الخسيسة.

(الفخر الرّازيّ 27:119)

الفرّاء: [نحو ابن عبّاس و أضاف:]

و قد يكون ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما هم فيه من أمر الدّنيا، وَ ما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة.(3:17)

الطّبريّ: يقول:فزيّن لهؤلاء الكفّار قرناؤهم من الشّياطين ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدّنيا،فحسّنوا

ص: 103

ذلك لهم،و حبّبوه إليهم،حتّى آثروه على أمر الآخرة، وَ ما خَلْفَهُمْ يقول:و حسّنوا لهم أيضا ما بعد مماتهم، بأن دعوهم إلى التّكذيب بالمعاد،و أنّ من هلك منهم فلن يبعث،و أن لا ثواب و لا عقاب حتّى صدّقوهم على ذلك،و سهّل عليهم فعل كلّ ما يشتهونه، و ركوب كلّ ما يلتذّونه من الفواحش،باستحسانهم ذلك لأنفسهم.(11:103)

نحوه ملخّصا الثّعلبيّ(8:292)،و البيضاويّ(2:

347)،و الشّربينيّ(3:514)،و أبو السّعود(5:442)، و الكاشانيّ(4:357)،و شبّر(5:375)،و المراغيّ (24:124).

الزّجّاج: يقول:زيّنوا لهم أعمالهم الّتي يعملونها و يشاهدونها، وَ ما خَلْفَهُمْ: و ما يعزمون أن يعملوه.

(4:384)

الرّمّانيّ: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هو فعل الفساد في زمانهم، وَ ما خَلْفَهُمْ هو ما كان قبلهم.

(الماورديّ 5:178)

الماورديّ: فيه أربعة تأويلات:[إلى أن قال:]

الرّابع: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: ما فعلوه، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما عزموا أن يفعلوه.

و يحتمل خامسا: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من مستقبل الطّاعات أن لا يفعلوها، وَ ما خَلْفَهُمْ: من سالف المعاصي أن لا يتوبوا منها.(5:177)

الزّمخشريّ: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ: ما تقدّم من أعمالهم و ما هم عازمون عليها،أو ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: من أمر الدّنيا و اتّباع الشّهوات، وَ ما خَلْفَهُمْ: من أمر العاقبة،و أن لا بعث و لا حساب.

(3:452)

مثله النّسفيّ(4:93)،و نحوه النّيسابوريّ(25:6)

ابن عطيّة: فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي علّموهم و قرّروا في نفوسهم معتقدات سوء،في الأمور الّتي تقدّمتهم من أمر الرّسل و النّبوّات،و مدح عبادة الأصنام،و اتّباع فعل الآباء إلى غير ذلك ممّا يقال:إنّه بين أيديهم؛و ذلك كلّ ما تقدّمهم في الزّمان و اتّصل إليهم أثره أو خبره،و كذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم،و هو كلّ ما يأتي بعدهم من القيامة و البعث و نحو ذلك،ممّا يقال فيه:إنّه خلف الإنسان، فزيّنوا لهم في هذين كلّ ما يرديهم و يفضي بهم إلى عذاب جهنّم.(5:12)

الطّبرسيّ: ...و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: ما قدّموه من أفعالهم السّيّئة حتّى ارتكبوها، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما سنّوه لغيرهم ممّن يأتي بعدهم.(5:11)

القرطبيّ: ...و ليس قوله: وَ ما خَلْفَهُمْ عطفا على ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بل المعنى و أنسوهم ما خلفهم، ففيه هذا الإضمار...و قيل:المعنى:لهم مثل ما تقدّم من المعاصي، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما يعمل بعدهم.(15:355)

أبو حيّان :[اكتفى بذكر أقوال الآخرين]

(7:494)

البروسويّ: [نحو الطّبريّ ملخّصا و أضاف:]

جعل أمر الدّنيا بين أيديهم،كما يقال:قدّمت المائدة بين أيديهم،و الآخرة لمّا كانت تأتيهم بعد هذا جعلت خلفهم،كما يقال:لمن يجيء بعد الشّخص:إنّه

ص: 104

خلفه،و هذا هو الّذي تقتضيه ملاحظة التّرتيب الوجوديّ.

و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الآخرة،لأنّها قدّامهم و هم متوجّهون إليها، وَ ما خَلْفَهُمْ: الدّنيا،لأنّهم يتركونها خلفهم.

قال الجنيد: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من طول الأمل، وَ ما خَلْفَهُمْ من نسيان الذّنوب.(8:251)

الآلوسيّ: [نقل قول ابن عبّاس و الحسن و الكلبيّ و قال:]

و لعلّ الأحسن ما حكي عن الحسن.(24:118)

ابن عاشور : ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: يستعار للأمور المشاهدة، وَ ما خَلْفَهُمْ: يستعار للأمور المغيبة.

و المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: أمور الدّنيا،أي زيّنوا لهم ما يعملونه في الدّنيا من الفساد،مثل عبادة الأصنام،و قتل النّفس بلا حقّ،و أكل الأموال، و العدول على النّاس باليد و اللّسان،و الميسر، و ارتكاب الفواحش،و الوأد.فعوّدوهم باستحسان ذلك كلّه،لما فيه من موافقة الشّهوات و الرّغبات العارضة القصيرة المدى،و صرفوهم عن النّظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذّاتية الدّائمة.

و المراد ب وَ ما خَلْفَهُمْ: الأمور المغيبة عن الحسّ من صفات اللّه،و أمور الآخرة،من البعث و الجزاء،مثل الشّرك باللّه،و نسبة الولد إليه،و ظنّهم أنّه يخفى عليه مستور أعمالهم،و إحالتهم بعثة الرّسل، و إحالتهم البعث و الجزاء.(25:44)

مغنيّة:المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: الدّنيا و حطامها،و ب ما خَلْفَهُمْ: الآخرة،و هي مجرّد خرافة عند الجاهدين.(6:487)

الطّباطبائيّ: فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: لعلّ المراد:التّمتّعات المادّيّة الّتي هم مكبّون عليها في الحال، و ما تعلّقت به آمالهم و أمانيهم في المستقبل.

و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: ما قدّموه من أعمالهم السّيّئة حتّى ارتكبوها، وَ ما خَلْفَهُمْ: ما سنّوه لغيرهم ممّن يأتي بعدهم،و يمكن إدراج هذا الوجه في سابقه.

و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هو ما يحضرهم من أمر الدّنيا،فيؤثرونه و يقبلون إليه و يعملون له، وَ ما خَلْفَهُمْ هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنّه لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا جنّة و لا نار، و هو وجه بعيد؛إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة:إنّها زيّنت له.(17:385)

عبد الكريم الخطيب : ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أي ما هم فيه من ضلال، وَ ما خَلْفَهُمْ، أي ما كان عليه آباؤهم من منكرات و ضلالات ورثوها عنهم،حتّى لقد كادت تكون طبيعة لازمة لهم.(12:1309)

مكارم الشّيرازيّ: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ: يمكن أن يكون إشارة لإحاطة الشّياطين من كلّ جانب،و تزيين الأمور لهم.

و قد قيل أيضا في معنى قوله تعالى: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ: إنّ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إشارة إلى لذّات الدّنيا و زخارفها، وَ ما خَلْفَهُمْ هو إنكار القيامة و البعث.

ص: 105

و قد يكون ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إشارة إلى وضعهم الدّنيويّ، وَ ما خَلْفَهُمْ إلى المستقبل الّذي سينتظرهم و أبناؤهم،إذ عادة ما يرتكب هذه الجرائم تحت شعار تأمين المستقبل.(15:358)

فضل اللّه : فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ: ممّا يستغرقون فيه من المتع المادّيّة الّتي يعيشون في شهواتها و لذائذها،أو ممّا يتطلّعون إليه في المستقبل من ذلك،في ما تتعلّق به آمالهم و أمانيّهم.

(20:110)

خلفها

فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. البقرة:66

ابن عبّاس: لِما بَيْنَ يَدَيْها: لما قبلها من الذّنوب، وَ ما خَلْفَها و لكي يكونوا عبرة لمن خلفهم،لكي لا يقتدوا بهم.(11)

لِما بَيْنَ يَدَيْها: ليحذر من بعدهم عقوبتي، وَ ما خَلْفَها الّذين كانوا بقوا معهم.

لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها: من الذّنوب الّتي عملوا قبل الحيتان،و ما عملوا بعد الحيتان.

(الطّبريّ 1:376)

لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها: من القرى.

(الماورديّ 1:136)

مجاهد : بَيْنَ يَدَيْها: ما مضى من خطاياهم، وَ ما خَلْفَها: خطاياهم الّتي هلكوا بها.

(الطّبريّ 1:376)

الحسن :المراد أنّه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعل و ما بعده.

(الفخر الرّازيّ 3:113)

الإمام الباقر عليه السّلام: لِما بَيْنَ يَدَيْها، أي لما معها ينظر إليها من القرى، وَ ما خَلْفَها نحن و لنا فيها موعظة.

مثله الإمام الصّادق عليه السّلام.(الطّبرسيّ 1:130)

قتادة :جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدّم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصّيد، وَ ما خَلْفَها: من العصيان بأخذ الحيتان بعد النّهي.(الثّعلبيّ 1:213)

لِما بَيْنَ يَدَيْها: ذنوبها، وَ ما خَلْفَها: عبرة لمن يأتي خلفهم بعدهم من الأمم.(الطّوسيّ 1:292)

السّدّيّ: لِما بَيْنَ يَدَيْها: فما سلف من عملهم، وَ ما خَلْفَها: فمن كان من بعدهم من الأمم أن يعصوا فيصنع بهم مثل ذلك.(119)

الرّبيع: لِما بَيْنَ يَدَيْها: لما خلا لهم من الذّنوب، وَ ما خَلْفَها، أي عبرة لمن بقي من النّاس.

(الطّبريّ 1:376)

مثله أبو العالية.(الثّعلبيّ 1:213)

قطرب: لِما بَيْنَ يَدَيْها: ممّن شاهدها، وَ ما خَلْفَها: ممّن لم يشاهدها.(أبو حيّان 1:246)

ابن قتيبة : لِما بَيْنَ يَدَيْها: من القرى، وَ ما خَلْفَها: ليتّعظوا بها.[ثمّ نقل قول قتادة و قال:]

و الأوّل أعجب إليّ.(52)

الطّبريّ: فتأويل الكلام...فقلنا لهم:كونوا قردة خاسئين،فجعلناها عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السّالفة منهم،بمسخنا إيّاهم و عقوبتنا لهم،و لما

ص: 106

خلف عقوبتنا لهم،من أمثال ذنوبهم أن يعمل بها عامل،فيمسخوا مثل ما مسخوا،و أن يحلّ بهم مثل الّذي حلّ بهم،تحذيرا من اللّه تعالى ذكره عباده أن يأتوا من معاصيه،مثل الّذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم.(1:377)

الزّجّاج: (ما بين يديها:)يحتمل شيئين من التّفسير،يحتمل أن يكون(ما بين يديها:)لما أسلفت من ذنوبها،و يحتمل أن يكون(ما بين يديها:)للأمم الّتي تراها،(ما بين يديها:)ما يكون بعدها.(1:149)

النّحّاس: لمن حضر معهم و لمن يأتي بعدهم،و هو أشبه بالمعنى.(القرطبيّ 1:444)

الثّعلبيّ: [نقل بعض الأقوال و أضاف:]

و قيل:(ما بين يديها:)من عقوبة الآخرة وَ ما خَلْفَها: من نصيحتهم في دنياهم،فيذكّرون بها إلى يوم قيام السّاعة.

و قيل:في الآية تقديم و تأخير،و تقديرها:

فجعلناها و ما خلفها ممّا أعدّ لهم من العذاب في الآخرة نكالا و جزاء لما بين يديها،أي لما تقدّم من ذنوبهم في اعتدائهم يوم السّبت.(1:213)

البغويّ: ...و قيل:جعلناها،أي جعلنا قرية أصحاب السّبت عبرة(ما بين يديها:)أي القرى الّتي كانت مبنيّة في الحال، وَ ما خَلْفَها: ما يحدث من القرى بعد،ليتّعظوا.(1:127)

الزّمخشريّ: (ما بين يديها:)لما قبلها، وَ ما خَلْفَها: و ما بعدها من الأمم و القرون،لأنّ مسخهم ذكرت في كتب الأوّلين فاعتبروا بها،و اعتبر بها من بلغتهم من الآخرين.

أو أريد ب(ما بين يديها:)ما بحضرتها من القرى و الأمم،و قيل: نَكالاً: عقوبة منكلة لما بين يديها، لأجل ما تقدّمها من ذنوبهم،و ما تأخّر منها.(1:286)

نحوه الفخر الرّازيّ(3:113)،و النّسفيّ(1:53) و النّيسابوريّ(1:337)،و الشّربينيّ(1:67)، و أبو السّعود(1:144)،و القاسميّ(2:151) و البروسويّ(1:157)،و شبّر(1:108).

ابن عطيّة: [نقل قول السّدّيّ و قال:]

و هذا قول جيّد.و قال غيره:(ما بين يديها:)أي من حضرها من النّاجين، وَ ما خَلْفَها، أي لمن يجيء بعدها.

و قال ابن عبّاس:(ما بين يديها:)أي من بعدهم من النّاس ليحذر و يتّقي، وَ ما خَلْفَها: لمن بقي منهم عبرة.و ما أراه يصحّ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه،لأنّ دلالة ما بين اليد ليست كما في القول.

و قال ابن عبّاس أيضا: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها، أي من القرى.فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزّمان.(1:161)

البيضاويّ: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها: لما قبلها و ما بعدها من الأمم إذا ذكرت حالهم في زبر الأوّلين و اشتهرت قصّتهم في الآخرين،أو لمعاصريهم و من بعدهم،أو لما بحضرتها من القرى و ما تباعد عنها،أو لأهل تلك القرية و ما حواليها،أو لأجل ما تقدّم عليها من ذنوبهم و ما تأخّر منها.(1:61)

أبو حيّان :[نقل بعض الأقوال و أضاف:]

ص: 107

أو(ما بين يديها:)من حضرها من النّاجين، وَ ما خَلْفَها: ممّن يجيء بعدها،أو(ما بين يديها:) من عقوبة الآخرة، وَ ما خَلْفَها: في دنياهم فيذكّرون بها إلى قيام السّاعة...

فهذه أحد عشر قولا.قال بعضهم:و الأقرب للصّواب قول من قال:(ما بين يديها:)من يأتي من الأمم بعدها، وَ ما خَلْفَها: من بقي منهم و من غيرهم،لم تنلهم العقوبة.(1:246)

الآلوسيّ: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها [ذكر قولين عن ابن عبّاس ثمّ قال:]أو للآتين و الماضين،و هو المختار عند جماعة،فكلّ من ظرفي المكان مستعار للزّمان،و(ما)أقيمت مقام«من»إمّا تحقيرا لهم في مقام العظمة و الكبرياء،أو لاعتبار الوصف،فإنّ(ما)يعبّر بها عن العقلاء تعظيما إذا أريد الوصف،كقوله:

«سبحان ما سخّر كنّ»و صحّح كونها نكالا للماضين أنّها ذكرت في زبر الأوّلين،فاعتبروا بها.[إلى أن قال:]

و حمل الذّنوب الّتي بعد المسخة على السّيّئات الباقية آثارها،ليس بشيء،كما لا يخفى.و قول أبي العالية:«إنّ المراد ب(ما بين يديها:)ما مضى من الذّنوب،و ب ما خَلْفَها: من يأتي بعد،و المعنى:

فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم،و عبرة لمن بعدهم»منحطّ من القول جدّا،لمزيد ما فيه من تفكيك النّظم و التّكلّف.(1:284)

ابن عاشور :و المراد ب لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها: ما قارنها من معاصيهم و ما سبق،يعني أنّ تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه،فنزلت العقوبة عندها،و لما بين يديها من الأمم القريبة منها،و لما خلفها من الأمم البعيدة.(1:528)

خلفك

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً...

يونس:92

ابن عبّاس: لِمَنْ خَلْفَكَ: من الكفّار.(179)

إنّ بني إسرائيل قالوا:ما مات فرعون،فألقاه اللّه تعالى على نجوة من الأرض ليروه.

مثله قتادة.(الطّوسيّ 5:492)

لتكون لمن بعدك في النّكال آية،لئلاّ يقولوا مثل مقالتك،فإنّك لو كنت إلها ما غرقت.

(ابن الجوزيّ 4:61)

أبو عبيدة :مجاز خَلْفَكَ: بعدك.(1:281)

ابن قتيبة :لمن بعدك.(199)

مثله الماورديّ(2:449)،و الشّربينيّ(2:36).

الطّبريّ: يقول:لمن بعدك من النّاس عبرة يعتبرون بك،فينزجرون عن معصية اللّه،و الكفر به، و السّعي في أرضه بالفساد.(6:606)

الثّعلبيّ: و قرأ عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه (لمن خلقك) بالقاف،أي تكون آية لخالقك.(5:148)

الطّوسيّ: قيل:فيه قولان:

أحدها:لمن يأتي بعدك ممّن يراك على تلك الصّفة، و قد كنت تدّعي الرّبوبيّة.

الثّاني:[قول ابن عبّاس و قتادة](5:492)

الزّمخشريّ: لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً: لمن وراءك من

ص: 108

النّاس علامة و هم بنو إسرائيل،و كان في أنفسهم أنّ فرعون أعظم شأنا من أن يغرق...

و قيل: لِمَنْ خَلْفَكَ: لمن يأتي بعدك من القرون.(2:252)

نحوه البيضاويّ(1:457)،و النّسفيّ(2:175)، و البروسويّ(4:77).

ابن عطيّة: قرأت فرقة،هي الجمهور: خَلْفَكَ، أي من أتى بعدك،و قرأت فرقة: (خلفك) المعنى يجعلك اللّه آية له في عباده.(3:142)

ابن الجوزيّ: لمن تخلّف من قومه،لأنّهم أنكروا غرقه.(4:61)

القرطبيّ: أي لبني إسرائيل و لمن بقى من قوم فرعون،ممّن لم يدركه الغرق و لم ينته إليه هذا الخبر...

و قرئ (لمن خلفك) بفتح اللاّم،أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك.(8:381)

نحوه أبو حيّان(5:189)،و أبو السّعود(3:272)، و الآلوسيّ(11:184).

ابن عاشور : لِمَنْ خَلْفَكَ أي من وراءك.

و الوراء هنا مستعمل في معنى المتأخّر و الباقي،أي من ليسوا معك.و المراد بهم من يخلفه من الفراعنة و من معهم من الكهنة و الوزراء،أي لتكون ذاته آية،على أنّ اللّه غالب من أشركوا به،و أنّ اللّه أعظم و أقهر من فرعون و آلهته في اعتقاد القبط؛إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحا على شاطئ البحر غريقا.(11:172)

مكارم الشّيرازيّ: يوجد الآن في متاحف مصر و بريطانيا جثّة أو جثّتين من جثت الفراعنة الّتي بقيت بمحافظة المومياء،فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينها؛حيث حفظوه فيما بعد بالمومياء أم لا؟

لا دليل بين أيدينا،إلاّ أنّ تعبير لِمَنْ خَلْفَكَ يمكن أن يقوّي هذا الاحتمال،في أنّ بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان،ليكون عبرة لكلّ الأجيال القادمة،لأنّ تعبير الآية مطلق،فهو يشمل كلّ الآتين مستقبلا.(6:398)

لاحظ:ب د ن:«ببدنك».

خلفكم

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. يس:45

ابن عبّاس: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: من أمر الآخرة، فآمنوا بها و اعملوا لها، وَ ما خَلْفَكُمْ: من أمر الدّنيا، فلا تغترّوا بها و بزهرتها.(371)

نحوه سعيد بن جبير(النّحّاس 5:500)، و الواحديّ(3:515)،و الطّبرسيّ(4:427)، و الكلبيّ(ابن الجوزيّ 7:23).

مجاهد : ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: ما يأتي من الذّنوب، وَ ما خَلْفَكُمْ: ما مضى من الذّنوب.الثّعلبيّ 8:129)

الحسن : ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: يعني وقائع اللّه فيمن كان قبلكم من الأمم، وَ ما خَلْفَكُمْ: من أمر السّاعة.(الثّعلبيّ 8:129)

نحوه قتادة.(الطّبريّ 10:447)

خوّفوا بما مضى من ذنوبهم و ما يأتي منها.

(أبو حيّان 7:340)

ص: 109

الإمام الصّادق عليه السّلام:اتّقوا ما بين أيديكم من الذّنوب،و ما خلفكم من العقوبة.(الطّبرسيّ 4:427)

مقاتل: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: عذاب الأمم الخالية، وَ ما خَلْفَكُمْ: عذاب الآخرة.(الثّعلبيّ 8:130)

نحوه حكم بن عتيبة(النّحّاس 5:500)، و الشّربينيّ(3:353).

الثّوريّ: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: من الدّنيا، وَ ما خَلْفَكُمْ: من عذاب الآخرة.(الماورديّ 5:21)

الفرّاء: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: من عذاب الآخرة، وَ ما خَلْفَكُمْ: من عذاب الدّنيا،ممّا لا تأمنون من عذاب ثمود و من مضى.(2:379)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و إذا قيل لهؤلاء المشركين باللّه،المكذّبين رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم اللّه و مثلاته،بمن حلّ ذلك به من الأمم قبلكم،أن يحلّ مثله بكم بشر ككم و تكذيبكم رسوله، وَ ما خَلْفَكُمْ يقول:و ما بعد هلاككم ممّا أنتم لاقوه،إن هلكتم على كفركم الّذي أنتم عليه.(10:447)

نحوه المراغيّ.(23:16)

الزّجّاج: ما أسلفتم من ذنوبكم،و ما تعملونه فيما تستقبلون.

و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ على معنى:

اتّقوا أن ينزل بكم من العذاب مثل الّذي نزل بالأمم قبلكم، وَ ما خَلْفَكُمْ، أي اتّقوا عذاب الآخرة.

(4:289)

الماورديّ: فيه ثلاثة تأويلات:[إلى أن قال:]

و يحتمل تأويلا رابعا: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: ما ظهر لكم، وَ ما خَلْفَكُمْ: ما خفي عنكم.(5:21)

ابن عطيّة: [نقل قول مقاتل و قال:]

و هذا هو النّظر.[ثمّ ذكر قول الحسن و قال:]

فجعل التّرتيب كأنّهم يسيرون من شيء إلى شيء،و لم يعتبر وجود الأشياء في الزّمن،و هذا النّظر يكسره عليه قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة و الانجيل المائدة:46،و إنّما المطّرد أن يقاس ما بين اليد و الخلف بما يسوقه الزّمن،فتأمّله.

(4:455)

الفخر الرّازيّ: في قوله تعالى: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ: وجوه:

أحدها: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: الآخرة،فإنّهم مستقبلون لها، وَ ما خَلْفَكُمْ: الدّنيا،فإنّهم تاركون لها.

و ثانيها: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: من أنواع العذاب مثل الغرق و الحرق،و غيرهما،المدلول عليه بقوله تعالى:

وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ يس:43، وَ ما خَلْفَكُمْ: من الموت الطّالب لكم، إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه،يدلّ عليه قوله تعالى: وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ يس:44.

و ثالثها: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: من أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنّه حاضر عندكم، وَ ما خَلْفَكُمْ: من أمر الحشر،فإنّكم إذا اتّقيتم تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و التّكذيب بالحشر رحمكم اللّه.(26:82)

نحوه النّيسابوريّ.(23:23)

ص: 110

ابن عربيّ: اِتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: من أحوال القيامة الكبرى، وَ ما خَلْفَكُمْ: من أحوال القيامة الصّغرى،فإنّ الأولى تأتي من جهة الحقّ،و الثّانية تأتي من جهة النّفس،بالفناء في اللّه في الأولى،و التّجرّد عن الهيئات البدنيّة في الثّانية،و النّجاة منها.(2:331)

البيضاويّ: ...ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ:

الوقائع الّتي خلت و العذاب المعدّ في الآخرة،أو نوازل السّماء و نوائب الأرض،كقوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ سبأ:9،أو عذاب الدّنيا و عذاب الآخرة،أو عكسه،أو ما تقدّم من الذّنوب و ما تأخّر.(2:282)

نحوه النّسفيّ(4:9)،و شبّر(5:230)،و القاسميّ (14:5009).

أبو السّعود :من الآفات و النّوازل،فإنّها محيطة بكم،أو ما يصيبكم من المكاره من حيث تحتسبون و من حيث لا تحتسبون.[ثمّ أدام نحو البيضاويّ]

(5:301)

نحوه الآلوسيّ.(23:29)

البروسويّ: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، أي احذروا من الدّنيا و ما فيها من شهواتها و لذائذها، وَ ما خَلْفَكُمْ: من الآخرة و ما فيها من نعيمها و حورها و قصورها و أشجارها و أثمارها و أنهارها،و فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين منها.(7:406)

ابن عاشور :ما بين الأيدي:يراد منه المستقبل، و ما هو خلف:يراد منه الماضي.قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ آل عمران:50،أي ما تقدّمني؛و ذلك أنّ أصل هذين التّركيبين تمثيلان،فتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف إليه بسائر إلى مكان،فالّذي بين يديه هو ما سيرد هو عليه،و الّذي من ورائه هو ما خلّفه خلفه في سيره، و تارة ينظرون إلى تمثيل المضاف بسائر،فهو إذا كان بين يدي المضاف إليه فقد سبقه في السّير فهو سابق له، و إذا كان خلف المضاف إليه فقد تأخّر عنه،فهو وارد بعده.

و قد فسّرت هذه الآية بالوجهين،فقيل: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: من أمر الآخرة، وَ ما خَلْفَكُمْ: من أحوال الأمم في الدّنيا،و هو عن مجاهد و ابن جبير عن ابن عبّاس.و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: أحوال الأمم في الدّنيا. وَ ما خَلْفَكُمْ: من أحوال الآخرة، و هو عن قتادة و سفيان.

و متى حمل أحد الموصولين على ما سبق من أحوال الأمم،وجب تقدير مضافين قبل(ما)الموصولة هما المفعول،أي اتّقوا مثل أحوال ما بين أيديكم،أو مثل أحوال ما خلفكم،و لا يقدّر مضافان في مقابله، لأنّ ما صدق(ما)الموصولة فيه حينئذ هو عذاب الآخرة،فهو مفعول اِتَّقُوا. (22:239)

مغنيّة:ضمير(لهم)يعود إلى مشركي العرب.

و المراد ب«ما بين أيديهم»:معاصي اللّه و محارمه، و ب«ما خلفهم»:العقاب عليها.و في نهج البلاغة:

«إنّ السّاعة تحدوكم من خلفكم».و المعنى:أنّ رسول اللّه نهاهم عن المعاصي،و أنذرهم بنقمة اللّه و عذابه إن

ص: 111

عصوا،و بشّرهم برحمته و ثوابه إن أطاعوا،و لكنّهم انقلبوا على أعقابهم مدبرين.(6:317)

الطّباطبائيّ: لمّا ذكر الآيات الدّالّة على الرّبوبيّة،ذمّهم على عدم رعايتهم حقّها،و عدم إقبالهم عليها،و عدم ترتيبهم عليها آثارها،فإذا قيل لهم:

«هذه الآيات البيّنات ناطقة أنّ ربّكم اللّه،فاتّقوا معصيته في حالكم الحاضرة،و ما قدّمتم من المعاصي، أو عذاب الشّرك و المعاصي الّتي أنتم مبتلون بها،و ما خلّفتم وراءكم،أو اتّقوا ما بين أيديكم من الشّرك و المعاصي في الحياة الدّنيا،و ما خلفكم من العذاب في الآخرة»أعرضوا عنه،و لم يستجيبوا له،على ما هو دأبهم في جميع الآيات الّتي ذكّروا بها.

و من هنا يظهر أوّلا:أنّ المراد ب«ما بين أيديهم و ما خلفهم»:الشّرك و المعاصي الّتي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة،و ما كانوا مبتلين به قبل،أو العذاب الّذي استوجبوه بذلك-و المآل واحد-أو الشّرك و المعاصي في الدّنيا و العذاب في الآخرة،و هو أوجه الوجوه.

و ثانيا:أنّ حذف جواب(اذا)للدّلالة على أنّ حالهم بلغت من الجرأة على اللّه و الاستهانة بالحقّ مبلغا لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحقّ إذا دعاهم إلى التّقوى،فيجب أن يترك أسفا و لا يذكر، و قد دلّ عليه بقوله: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يس:46.(17:92)

مكارم الشّيرازيّ: للمفسّرين أقوال عديدة حول ما هو معنى قوله: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ و وَ ما خَلْفَكُمْ منها:أنّ المقصود ب ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ:

العقوبات الدّنيويّة الّتي أوردت الآيات السّابقة نماذج منها،و المقصود ب ما خَلْفَكُمْ: عقوبات الآخرة، و كأنّه يراد القول بأنّها خلفهم و لم تأت إليهم، و سوف تصل إليهم في يوم ما و تحيط بهم.

و المقصود بالتّقوى من هذه العقوبات،هو عدم إيجاد العوامل الّتي تؤدّي إلى وقوع هذه العقوبات، و الدّليل على ذلك أنّ التّعبير ب اِتَّقُوا يرد في القرآن إمّا عند ذكر اللّه سبحانه و تعالى،أو عند ذكر يوم القيامة و العقوبات الإلهيّة،و هذان الذّكران وجهان لحقيقة واحدة؛إذ أنّ الاتّقاء من اللّه هو اتّقاء من عقوباته؛و ذلك دليل على أنّ الآية تشير إلى الاتّقاء من عذاب اللّه و مجازاته في الدّنيا و في الآخرة.

و من هذه التّفسيرات أيضا قول البعض بأنّ المعنى هو عكس ما ورد في التّفسير الأوّل،و هو أنّ ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ تعني عقوبات الآخرة،و ما خَلْفَكُمْ تعني عذاب الدّنيا،لأنّ الآخرة أمامنا.و هذا التّفسير لا يختلف كثيرا عن الأوّل من حيث النّتائج.

و لكنّ البعض قالوا:إنّ المقصود من بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: الذّنوب الّتي ارتكبت سابقا،فتكون التّقوى منها بالتّوبة،و جبران ما تلف بواسطتها، و ما خَلْفَكُمْ: الذّنوب الّتي سترتكب لاحقا.

و البعض الآخر قالوا: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إشارة إلى أنواع عذابات الدّنيا،و ما خَلْفَكُمْ إشارة إلى الموت،و الحال أنّ الموت ليس ممّا يتّقى منه.

و البعض كصاحب تفسير«في ظلال القرآن»

ص: 112

اعتبر هذين التّعبيرين كناية عن إحاطة موجبات الغضب و العذاب الإلهيّ الّتي تحيط بالكافر من كلّ جانب.

و الآلوسيّ في«روح المعاني»و الفخر الرّازيّ في «التّفسير الكبير»كلّ منهما ذكر احتمالات متعدّدة، ذكرنا قسما منها.

و العلاّمة الطّباطبائيّ في«الميزان»أنّ ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: الشّرك و المعاصي في الحياة الدّنيا،و ما خَلْفَكُمْ: العذاب في الآخرة.

على أنّ ظاهر الآية هو أنّ كلا الاثنين من جنس واحد،و ليس بينهما التّفاوت الزّمني،لا أنّ إحداهما إشارة إلى الشّرك و الذّنوب،و الأخرى إشارة إلى العقوبات الواقعة نتيجة ذلك.

على كلّ حال،فأحسن تفسير لهذه الجملة هو ما ذكرناه في البدء،و آيات القرآن المختلفة دليل على ذلك أيضا،و هو أنّ المقصود من ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: هو عقوبات الدّنيا،و ما خَلْفَكُمْ: عقوبات الآخرة.

(14:182)

فضل اللّه : وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ من الأعمال السّيّئة الّتي اكتسبتموها، و العقائد الكافرة أو المنحرفة الّتي اعتقدتموها من دون حجّة و لا برهان،ممّا قد تتعرّضون للعذاب من خلاله، لتتوبوا عمّا مضى،و لتؤكّدوا العزم على التّخلّص منه في المستقبل،لتأخذوا الفكرة و العبرة من هذه الآيات الّتي توحي بعظمة اللّه و قدرته،لأنّ اللّه أراد للإنسان أن يجعل من عقله الأساس في سلامة مصيره، و استقامته في موقفه.(19:151)

خلفنا

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ... مريم:64

ابن عبّاس: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا: من أمر الآخرة، وَ ما خَلْفَنا: من أمر الدّنيا، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين النّفختين.(258)

نحوه سعيد بن جبير(النّحّاس 4:344)،و الضّحّاك و قتادة(الطّبريّ 8:360)،و مقاتل(2:

633).

لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا: يريد الدّنيا إلى الأرض، وَ ما خَلْفَنا: يريد السّماوات، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ:

يريد الهواء.(القرطبيّ 11:129) أبو العالية : ما بَيْنَ أَيْدِينا: من الدّنيا، وَ ما خَلْفَنا: من أمر الآخرة، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين النّفختين.(الطّبريّ 8:360)

نحوه مجاهد.(ابن الجوزيّ 5:250)

«ما بين الأيدي»:في الدّنيا بأسرها إلى النّفخة الأولى،«و ما خلف»:الآخرة من وقت البعث وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين النّفختين.(ابن عطيّة 4:24)

نحوه الرّبيع(الطّبريّ 8:360)،و الفرّاء(2:

170).

ابن جريج: ما بَيْنَ أَيْدِينا: ما مضى أمامنا من الدّنيا، وَ ما خَلْفَنا: ما يكون بعدنا من الدّنيا و الآخرة، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين ما مضى أمامهم

ص: 113

و بين ما يكون بعدهم.(الطّبريّ 8:360)

الأخفش: ما بَيْنَ أَيْدِينا: قبل أن نخلق، وَ ما خَلْفَنا: بعد الفناء، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: حين كنّا.

(2:626)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله:

لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ، فقال بعضهم:يعني بقوله: ما بَيْنَ أَيْدِينا: من الدّنيا، و بقوله: وَ ما خَلْفَنا: الآخرة، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ:

النّفختين.

و قال آخرون: ما بَيْنَ أَيْدِينا: الآخرة، وَ ما خَلْفَنا: الدّنيا، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين الدّنيا و الآخرة.[ثمّ ذكر مثل قول الأخفش و أضاف:]

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب،قول من قال:

معناه: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا من أمر الآخرة،لأنّ ذلك لم يجئ و هو جاء،فهو بين أيديهم،فإنّ الأغلب في استعمال النّاس إذا قالوا:هذا الأمر بين يديك،أنّهم يعنون به ما لم يجئ،و أنّه جاء،فلذلك قلنا:ذلك أولى بالصّواب وَ ما خَلْفَنا من أمر الدّنيا؛و ذلك ما قد خلّفوه فمضى،فصار خلفهم بتخليفهم إيّاه،و كذلك تقول العرب لما قد جاوزه المرء و خلّفه:هو خلفه و وراءه. وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين ما لم يمض من أمر الدّنيا إلى الآخرة،لأنّ ذلك هو الّذي بين ذينك الوقتين.

و إنّما قلنا:ذلك أولى التّأويلات به،لأنّ ذلك هو الظّاهر الأغلب،و إنّما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه،ما لم يمنع من ذلك ما يجب التّسليم له.فتأويل الكلام إذا:فلا تستبطئنا يا محمّد في تخلّفنا عنك،فإنّا لا نتنزّل من السّماء إلى الأرض إلاّ بأمر ربّك لنا بالنّزول إليها،للّه ما هو حادث من أمور الآخرة الّتي لم تأت و هي آتية،و ما قد مضى فخلّفناه من أمر الدّنيا،و ما بين وقتنا هذا إلى قيام السّاعة،بيده ذلك كلّه،و هو مالكه و مصرّفه،لا يملك ذلك غيره، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمرا إلاّ بأمره إيّانا به.

(8:360)

الزّجّاج: ما بَيْنَ أَيْدِينا: أمر الآخرة و الثّواب و العقاب، وَ ما خَلْفَنا: جميع ما مضى من أمر الدّنيا، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما يكون منّا من هذا الوقت إلى يوم القيامة.(3:337)

نحوه الشّربينيّ.(2:437)

الثّعلبيّ: قيل:كان له ابتداء خلقنا،و له كان منتهى آجالنا،و له كان مدّة حياتنا.

و يقال: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا قبل أن يخلقنا، وَ ما خَلْفَنا بعد أن يميتنا، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ما هو فيه من الحياة.

و يقال: ما بَيْنَ أَيْدِينا إلى الأرض إذا أردنا النّزول إليها، وَ ما خَلْفَنا أي السّماء إذا نزلنا منها، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ يعني السّماء و الأرض،يريد أنّ كلّ ذلك للّه سبحانه فلا نقدر على فعل إلاّ بأمره.(6:223)

الماورديّ: فيه قولان:[ذكر بعض الأقوال و أضاف:]

و يحتمل ثالثا: ما بَيْنَ أَيْدِينا: السّماء، وَ ما خَلْفَنا: الأرض، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين السّماء

ص: 114

و الأرض.(3:382)

البغويّ: أي له علم ما بين أيدينا و ما خلفنا.[ثمّ نقل الأقوال في ذلك](3:242)

الزّمخشريّ: و المراد:أنّ نزولنا في الأحايين وقتا غبّ وقت ليس إلاّ بأمر اللّه،و على ما يراه صوابا و حكمة،و له ما قدّامنا و ما خلفنا من الجهات و الأماكن، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ و ما نحن فيها،فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة و مكان إلى مكان إلاّ بأمر المليك و مشيئته،و هو الحافظ العالم بكلّ حركة و سكون،و ما يحدث و يتجدّد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة و النّسيان،فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته إلاّ إذا رأى ذلك مصلحة و حكمة،و أطلق لنا الإذن فيه؟

و قيل:ما سلف من أمر الدّنيا و ما يستقبل من أمر الآخرة، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين النّفختين،و هو أربعون سنة.

و قيل:ما مضى من أعمارنا و ما غبر منها،و الحال الّتي نحن فيها.

و قيل:ما قبل وجودنا و ما بعد فنائنا.

و قيل:الأرض الّتي بين أيدينا إذا نزلنا،و السّماء الّتي وراءنا،و ما بين السّماء و الأرض.

و المعنى:أنّه المحيط بكلّ شيء،لا تخفى عليه خافية،و لا يعزب عنه مثقال ذرّة،فكيف نقدم على فعل نحدثه إلاّ صادرا عمّا توجبه حكمته،و يأمرنا به، و يأذن لنا فيه.(2:516)

نحوه البيضاويّ ملخّصا(2:38)،و النّسفيّ(3:

40)،و أبو السّعود(4:249).

ابن عطيّة: ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب،و اختلف المفسّرون فيها.[ذكر بعض الأقوال إلى أن قال:]

و الآية إنّما المقصد بها الإشعار بملك اللّه تعالى الملائكة،و أنّ قليل تصرّفهم و كثيره إنّما هو بأمره، و انتقالهم من مكان إلى مكان إنّما هو بحكمته؛إذ الأمكنة له و هم له،فلو ذهب بالآية إلى أنّ المراد ب «ما بين الأيدي و ما خلف»الأمكنة الّتي فيها تصرّفهم،و المراد ب ما بَيْنَ ذلِكَ هم أنفسهم و مقاماتهم،لكان وجهها،كأنّه قال:نحن مقيّدون بالقدرة لا ننتقل و لا نتنزّل إلاّ بأمر ربّك.

و قال ابن عبّاس و قتادة-فيما روي و ما أراه صحيحا عنهما-:«ما بين الأيدي»هي الآخرة،و«ما خلف»هو الدّنيا،و هذا مختلّ المعنى إلاّ على التّشبيه بالمكان،لأنّ ما بين اليد إنّما هو ما تقدّم وجوده في الزّمن بمثابة التّوراة و الإنجيل من القرآن،و قول أبي العالية إنّما يتصوّر في بني آدم،و هذه المقالة هي للملائكة،فتأمّله.(4:24)

الطّبرسيّ: ...و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِينا: ما بقي من أمر الدّنيا، وَ ما خَلْفَنا: ما مضى من الدّنيا: وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: من حياتنا،أي هو المدبّر لنا في الأوقات الماضية و الآتية و الذّاهبة.و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِينا، أي الأرض عند نزولنا، وَ ما خَلْفَنا: السّماوات إذ نزلنا منها، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: السّماء و الأرض.(3:521)

الفخر الرّازيّ: [نقل خمسة أقوال الّتي مضت في

ص: 115

ذلك،ثمّ قال:]

و على كلّ التّقديرات،فالمقصود أنّه المحيط بكلّ شيء،لا تخفى عليه خافية،و لا يعزب عنه مثقال ذرّة، فكيف نقدم على فعل إلاّ بأمره و حكمه.(21:239)

ابن عربيّ: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا من أطوار الجبروت الّتي فوقنا،و تتقدّم أطوارنا الّتي وجوهنا إليها،و لا يحيط علمنا بها، وَ ما خَلْفَنا من أطوار الملكوت الأرضيّة،الّتي دون أطوارنا، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ من الأطوار الملكوتيّة الّتي نحن فيها،كلّهم في ملكة قهره،و تحت سلطنة أمره،و إحاطة علمه.(2:22)

القرطبيّ: (له)أي للّه ما بَيْنَ أَيْدِينا أي علم ما بين أيدينا.[ذكر الأقوال إلى أن قال:]

و لم يقل:ما بين ذينك،لأنّ المراد ما بين ما ذكرنا، كما قال: لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ البقرة:

68،أي بين ما ذكرنا.(11:129)

البروسويّ: [نحو الزّجّاج و أضاف:]

و في«التّأويلات النّجميّة»: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا من التّقدير الأزليّ، وَ ما خَلْفَنا من التّدبير الأبديّ، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ من أزل إلى الأبد.(5:347)

الآلوسيّ: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا: ما قدّامنا من الزّمان المستقبل، وَ ما خَلْفَنا: من الزّمان الماضي، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: المذكور من الزّمان الحال،فلا ننزل في زمان دون زمان إلاّ بأمره سبحانه و مشيئته عزّ و جلّ.[إلى أن قال:]

و قيل:ما بين الأيدي:المكان الّذي ينتقلون إليه، و ما خلف:المكان الّذي ينتقلون منه، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ: المكان الّذي هم فيه،ف«الماءات»من الأمكنة.و اختار بعضهم تفسيرها بما يعمّ الزّمان و المكان،و المراد أنّه تعالى المالك لكلّ ذلك،فلا ننتقل من مكان إلى مكان،و لا ننزل في زمان دون زمان إلاّ بإذنه عزّ و جلّ.(16:114)

المراغيّ: أي إنّه تعالى هو المدبّر لنا في جميع الأزمنة،مستقبلها و ماضيها و حاضرها.

و قصارى ذلك:أنّ أمرنا موكول إلى اللّه تعالى، يتصرّف فينا بحسب مشيئته و إرادته،لا اعتراض لأحد عليه،فلا ننتقل من مكان إلى مكان،و لا ننزل في زمان دون زمان إلاّ بإذنه عزّ و جلّ.(16:71)

ابن عاشور :المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِينا: ما هو أمامنا،و ب ما خَلْفَنا: ما هو وراءنا،و ب ما بَيْنَ ذلِكَ: ما كان عن أيمانهم و عن شمائلهم،لأنّ ما كان عن اليمين و عن الشّمال هو بين الأمام و الخلف.

و المقصود استيعاب الجهات.

و لمّا كان ذلك مخبرا عنه بأنّه ملك للّه،تعيّن أن يراد به الكائنات الّتي في تلك الجهات،فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول،مثل: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف:

82،فيعمّ جميع الكائنات،و يستتبع عموم أحوالها و تصرّفاتها،مثل التّنزّل بالوحي.

و يستتبع عموم الأزمان المستقبل و الماضي و الحال و قد فسّر بها قوله: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ. (16:63)

مغنيّة: ما بَيْنَ أَيْدِينا: إشارة إلى ما يأتي، و ما خَلْفَنا: إشارة إلى ما مضى،و ما بَيْنَ

ص: 116

ذلِكَ: إشارة إلى الحاضر.(5:191)

الطّباطبائيّ: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ يقال:كذا قدّامه و أمامه و بين يديه، و المعنى واحد،غير أنّ قولنا:«بين يديه»إنّما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه،له فيه نوع من التّصرّف و التّسلّط،فظاهر قوله: ما بَيْنَ أَيْدِينا أنّ المراد به ما نشرّف عليه ممّا هو مكشوف علينا مشهود لنا،و ظاهر قوله: وَ ما خَلْفَنا بالمقابلة ما هو غائب عنّا مستور علينا.

و على هذا فلو أريد بقوله: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ المكان،شمل بعض المكان الّذي أمامهم،و المكان الّذى هم فيه،و جميع المكان الّذي خلفهم،و لم يشمل كلّ مكان،و كذا لو أريد به الزّمان، شمل الماضي كلّه و الحال و المستقبل القريب فقط، و سياق قوله: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ينادي بالإحاطة،و لا يلائم التّبعيض.

فالوجه:حمل ما بَيْنَ أَيْدِينا على الأعمال و الآثار المتفرّعة على وجودهم الّتي هم قائمون بها متسلّطون عليها،و حمل ما خَلْفَنا على ما هو من أسباب وجودهم ممّا تقدّمهم و تحقّق قبلهم،و حمل ما بَيْنَ ذلِكَ على وجودهم أنفسهم،و هو من أبدع التّعبير و ألطفه،و بذلك تتمّ الإحاطة الإلهيّة بهم من كلّ جهة،لرجوع المعنى إلى أنّ اللّه تعالى هو المالك لوجودنا،و ما يتعلّق به وجودنا من قبل و من بعد.

و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة، فقيل:المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِينا: ما هو قدّامنا من الزّمان المستقبل،و ب ما خَلْفَنا: الماضي،و ب ما بَيْنَ ذلِكَ: الحال.

و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِينا: ما قبل الإيجاد من الزّمان،و ما خَلْفَنا: ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة،و ما بَيْنَ ذلِكَ: هو مدّة الحياة.

و قيل:«ما بين الأيدي»:الدّنيا إلى النّفخة الأولى،«و ما خلفهم»:هو ما بعد النّفخة الثّانية، ما بَيْنَ ذلِكَ: ما بين النّفختين،و هو أربعون سنة.

و قيل:ما بين أيديهم:الآخرة،و ما خلفهم:الدّنيا.

و قيل:ما بين أيديهم:ما قبل الخلق،و ما خلفهم:

ما بعد الفناء،و ما بين ذلك:ما بين الدّنيا و الآخرة.

و قيل:ما بين أيديهم:ما بقي من أمر الدّنيا،و ما خلفهم:ما مضى منه،و ما بين ذلك:ما هم فيه.

و قيل:المعنى ابتداء خلقنا،و منتهى آجالنا،و مدّة حياتنا.

و قيل:ما بين أيديهم:السّماء،و ما خلفهم:

الأرض،و ما بين ذلك:ما بينهما.و قيل:بعكس ذلك.

و قيل:ما بين أيديهم:المكان الّذي ينتقلون إليه، و ما خلفهم:المكان الّذي ينتقلون منه،و ما بين ذلك:

المكان الّذي هم فيه.

و تشترك الأقوال الثّلاثة الأخيرة في أنّ«الماءات» عليها مكانيّة،كما يشترك السّبعة في أنّ«الماءات» عليها زمانيّة،و هناك قول بكون الآية تعمّ الزّمان و المكان،فهذه أحد عشر قولا،و لا دليل على شيء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان،و الوجه ما قدّمناه.

ص: 117

فقوله: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيّا، لا يجري فيه تصرّف غيره،و لا إرادة من سواه إلاّ عن إذن منه و مشيئة؛و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلاّ عن أمره و من بعد إذنه،و لا تريد إلاّ ما أراده اللّه،فلا يتنزّل ملك إلاّ بأمر ربّه.

و قد تقرّر بهذا البيان أنّ قوله: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ في مقام التّعليل لقوله:

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. (14:82)

عبد الكريم الخطيب : لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ إقرار من الملائكة بما للّه سبحانه و تعالى من سلطان مطلق،لا يملك أحد معه شيئا،حتّى أقرب المقرّبين إليه و هم الملائكة،إنّ اللّه سبحانه و تعالى يملكهم،و يملك كلّ ما يعملون فيه،في ماضي أمرهم،و مستقبله،و ما بين ماضيه و مستقبله.

(8:752)

مكارم الشّيرازيّ: الخلاصة:فإنّ الماضي و الحاضر و المستقبل،و هنا و هناك و كلّ مكان، و الدّنيا و الآخرة و البرزخ،كلّ ذلك متعلّق بذات اللّه المقدّسة.

و قد ذكر بعض المفسّرين لجملة لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا،إلاّ أنّ ما ذكرناه أعلاه هو أنسبها جميعا،كما يبدو.(9:428)

فضل اللّه : لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ممّا نقدّمه من أعمال،أو ممّا يحيط بنا من أوضاع، وَ ما خَلْفَنا ممّا يتّصل بسرّ الوجود و حركته في الماضي، وَ ما بَيْنَ ذلِكَ فليس هناك فراغ في حياتنا في المكان أو في الزّمان أو في الأفعال،أو في خصائص الوجود،ليملأه غيره،لأنّه يملك كلّ شيء،و يحيط بكلّ شيء،و يهيمن على الوجود كلّه.(15:64)

خلفة

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً الفرقان:62

ابن عبّاس: مختلفة بعضها لبعض.(305)

من فاته شيء من اللّيل أن يعمله أدركه بالنّهار، أو من النّهار أدركه باللّيل.(الطّبريّ 9:405)

نحوه سعيد بن جبير(الآلوسيّ 19:42)، و الكاشانيّ(4:22).

مجاهد :هذا يخلف هذا،و هذا يخلف هذا.

(الطّبريّ 9:406)

مثله ابن عطيّة(4:217)،و نحوه المراغيّ(19:

33).

يعني جعل كلّ واحد منهما مخالفا لصاحبه،فجعل هذا أسود و هذا أبيض.(الثّعلبيّ 7:144)

نحوه قتادة و الكسائيّ.(أبو حيّان 6:511)

الحسن :جعل أحدهما خلفا للآخر،إن فات رجلا من النّهار شيء أدركه من اللّيل،و إن فاته من اللّيل أدركه من النّهار.(الطّبريّ 9:405)

قتادة :يعني عوضا و خلفا يقوم أحدهما مقام صاحبه،فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر، فأروا اللّه من أعمالكم خيرا في هذا اللّيل و النّهار،

ص: 118

فإنّهما مطيّتان تقحمان النّاس إلى آجالهم،و تقرّبان كلّ بعيد،و تبليان كلّ جديد،و تجيئان بكلّ موعود إلى يوم القيامة.(الثّعلبيّ 7:144)

الإمام الصّادق عليه السّلام:في حديث قال له رجل:

جعلت فداك يا ابن رسول اللّه ربّما فاتتني صلاة اللّيل الشّهر و الشّهرين و الثّلاثة فأقضيها بالنّهار أ يجوز ذلك؟قال:«قرّة عين لك و اللّه قرّة عين لك ثلاثا،إنّ اللّه يقول: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً...» .فهو قضاء صلاة النّهار باللّيل و قضاء صلاة اللّيل بالنّهار، و هو من سرّ آل محمّد المكنون.(القمّيّ 2:116)

مقاتل:فجعل النّهار خلفا من اللّيل لمن كانت له حاجة و كان مشغولا.(3:239)

ابن زيد :لو لم يجعلهما خلفة لم يدر كيف يعمل، لو كان الدّهر ليلا كلّه كيف يدري أحد كيف يصوم، أو كان الدّهر نهارا كلّه كيف يدري أحد كيف يصلّي.

و الخلفة:مختلفان،يذهب هذا و يأتي هذا،جعلهما اللّه خلفة للعباد.(الطّبريّ 9:406)

يعني يخلف أحدهما صاحبه،إذا ذهب أحدهما جاء الآخر،فهما يتعاقبان في الضّياء و الظّلام و الزّيادة و النّقصان.[ثمّ استشهد بشعر](الثّعلبيّ 7:144)

الفرّاء: يذهب هذا و يجيء هذا.[ثمّ استشهد بشعر]

و قد ذكر أنّ قوله خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أي من فاته عمل من اللّيل استدركه بالنّهار،فجعل هذا خلفا من هذا.(2:271)

أبو عبيدة :أي يجيء اللّيل بعد النّهار،و يجيء النّهار بعد اللّيل يخلف منه،و جعلهما خلفة و هما اثنان،لأنّ الخلفة مصدر فلفظه من الواحد و الاثنين و الجميع من المذكّر و المؤنّث واحد.[ثمّ استشهد بشعر]

(2:79)

الأخفش: يقول:يختلفان.(2:642)

ابن قتيبة :أي يخلف هذا هذا.[ثمّ استشهد بشعر]

(314)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله:

جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً، فقال بعضهم:معناه أنّ اللّه جعل كلّ واحد منهما خلفا من الآخر،في أنّ ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه للّه أدرك قضاءه في الآخر.

و قال آخرون:بل معناه أنّه جعل كلّ واحد منهما مخالفا صاحبه،فجعل هذا أسود و هذا أبيض.

و قال آخرون:بل معنى ذلك أنّ كل واحد منهما يخلف صاحبه،إذا ذهب هذا جاء هذا،و إذا جاء هذا ذهب هذا.

و الخلفة:مصدر،فلذلك وحّدت،و هي خبر عن اللّيل و النّهار،و العرب تقول:خلف هذا من كذا خلفة؛و ذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله.[ثمّ استشهد بشعر](9:405)

الزّجّاج: قال أهل اللّغة:خلفة:يجيء هذا في إثر هذا.[ثمّ استشهد بشعر]

و جاء أيضا في التّفسير:(خلفة:)مختلفان،كما قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ... آل عمران:190،191.

(4:74)

ص: 119

النّحّاس:[نقل بعض الأقوال ثمّ قال:]

و أولى الأقوال قول مجاهد.[قوله الأوّل]

و المعنى كلّ واحد منهما يخلف صاحبه،مشتقّ من الخلف،و منه خلف فلان فلانا بخير،أو شرّ.[ثمّ استشهد بشعر](5:44)

القشيريّ: الأوقاف متجانسة،و تفضيلها بعضها على بعض على معنى أنّ الطّاعة في البعض أفضل و الثّواب عليها أكثر.و اللّيل خلف النّهار و النّهار خلف اللّيل،فمن وقع له في طاعة اللّيل خلل فإذا حضر بالنّهار فذلك وجود جبرانه،و إن حصل في طاعة النّهار خلل فإذا حضر باللّيل ففي ذلك إتمام لنقصانه.

(4:320)

الزّمخشريّ: الخلفة:من«خلف»كالرّكبة من «ركب»و هي الحالة الّتي يخلف عليها اللّيل و النّهار كلّ واحد منهما الآخر،و المعنى:جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة،أي يعقب هذا ذاك و ذاك هذا.و يقال:

اللّيل و النّهار يختلفان كما يقال:يعتقبان،و منه قوله:

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ. و يقال:بفلان خلفة و اختلاف،إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه.(3:99)

نحوه البيضاويّ(2:150)،و أبو السّعود(5:23).

ابن العربيّ: في تفسير الخلفة ثلاثة أقوال:

الأوّل:أنّه جعل أحدهما مخالفا للآخر،يتضادّان وصفا،و يتعارضان وضعا و وقتا،و بذلك نميّز.

الثّاني:أنّه إذا مضى واحد جاء آخر.[ثمّ استشهد بشعر]

الثّالث:معنى(خلفة)ما فات في هذا خلفه في هذا.

و في الحديث الصّحيح:«ما من امرئ تكون له صلاة بليل،فغلبه عليها نوم،فيصلّي ما بين طلوع الشّمس إلى صلاة الظّهر إلاّ كتب اللّه له أجر صلاته، و كان نومه صدقة عليه».(3:1428)

ابن عربيّ: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ ليل ظلمة النّفس،و نهار نور القلب يعتقبان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ في نهار نور القلب العهد المنسيّ،و ينظر في المعاني و المعارف،و يعتبر،(او اراد)في ليل ظلمة النّفس (شكورا)بأعمال الطّاعات،و اكتساب الأخلاق، و الملكات.(2:166)

القرطبيّ: قال أبو عبيدة:الخلفة:كلّ شيء بعد شيء،و كلّ واحد من اللّيل و النّهار يخلف صاحبه.

و يقال للمبطون:أصابته خلفة،أي قيام و قعود يخلف هذا ذاك.و منه خلفة النّبات،و هو ورق يخرج بعد الورق الأوّل في الصّيف.[ثمّ استشهد بشعر]

قال مجاهد:(خلفة)من الخلاف،هذا أبيض و هذا أسود،و الأوّل أقوى.

و قيل:يتعاقبان في الضّياء و الظّلام،و الزّيادة و النّقصان.

و قيل:هو من باب حذف المضاف،أي جعل اللّيل و النّهار ذوي خلفة،أي اختلاف.(13:65)

النّسفيّ: [نحو الزّمخشريّ ملخّصا و أضاف:]

أو يخلفه في قضاء ما فاته من الورد.(3:173)

أبو حيّان :انتصب(خلفة)على الحال،فقيل:هو

ص: 120

مصدر خلف خلفة،و قيل:هو اسم هيئة كالرّكبة، و وقع حالا اسم الهيئة في قولهم:مررت بماء قعدة رجل.

[ثمّ أدام نحو الزّمخشريّ](6:511)

الشّربينيّ: أي ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك،بضدّ ما له من الأوصاف.

(2:671)

البروسويّ: الخلفة:مصدر للنّوع،فلا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا ل(جعل)و لا حالا من مفعوله، فلا بدّ من تقدير المضاف،و يستعمل بمعنى كان خليفته، أو بمعنى جاء بعده.

فالمعنى على الأوّل:جعلهما ذوي خلفة يخلف كلّ واحد منهما الآخر،بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه،فمن فرط في عمل أحدهما قضاه في الآخر، فيكون توسعة على العباد في نوافل العبادات و الطّاعات.

و على الثّاني:جعلهما ذوي اعتقاب يجيء اللّيل و يذهب النّهار و يجيء النّهار و يذهب اللّيل،و لم يجعل نهارا لا ليل له و ليلا لا نهار له،ليعلم النّاس عدد السّنين و الحساب،و ليكون للانتشار في المعاش وقت معلوم،و للاستقرار و الاستراحة وقت معلوم.ففي الآية تذكير لنعمته و تنبيه على كمال حكمته و قدرته.(6:238)

الآلوسيّ: ...و جعله بعضهم بمعنى اختلافا، و المراد:الاختلاف في الزّيادة و النّقصان كما قيل،أو في السّواد و البياض كما روي عن مجاهد،أو فيما يعمّ ذلك و غيره،كما هو محتمل.و في«البحر»يقال:بفلان خلفة و اختلاف،إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه.[ثمّ استشهد بشعر]

و جوّز عليه أن يكون المراد:يذهب كلّ منهما و يجيء كثيرا،و اعتبار المضاف المقدّر على حاله، و كذا فيما قبله.

و في«القاموس»:«الخلف و الخلفة بالكسر:

المختلف».و عليه لا حاجة إلى تقدير المضاف، و المعنى:جعلهما مختلفين،و الإفراد لكونه مصدرا في الأصل.(19:42)

ابن عاشور :الاستدلال هذا بما في اللّيل و النّهار من اختلاف الحال بين ظلمة و نور،و برد و حرّ،ممّا يكون بعضه أليق ببعض النّاس من بعض ببعض آخر.

و هذا مخالف للاستدلال الّذي في قوله: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً الفرقان:47،فهذه دلالة أخرى و نعمة أخرى،و الحكم في المخلوقات كثيرة.

و القصر هنا قصر حقيقيّ و ليس إضافيّا،فلذلك لا يراد به الرّدّ على المشركين،بخلاف صيغ القصر السّابقة من قوله: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً إلى قوله: وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً الفرقان:47-54.

و الخلفة بكسر الخاء و سكون اللاّم:اسم لما يخلف غيره في بعض ما يصلح له.صيغ هذا الاسم على زنة «فعلة»،لأنّه في الأصل:ذو خلفة،أي صاحب حالة خلف فيها غيره،ثمّ شاع استعماله فصار اسما.[ثمّ استشهد بشعر]

فالمعنى:جعل اللّيل خلفة و النّهار خلفة،أي كلّ

ص: 121

واحد منهما خلفة عن الآخر،أي فيما يعمل فيها من التّدبّر في أدلّة العقيدة و التّعبّد و التّذكّر.(19:85)

مغنيّة:(خلفة)أي أنّ اللّيل و النّهار يتعاقبان، و يخلف أحدهما الآخر،يذهب اللّيل و يأتي النّهار،ثمّ يذهب هذا و يأتي ذاك،و هكذا دواليك.و لا يمكث أحدهما إلى ما لا نهاية،أو طويلا أكثر من حاجة الخلائق.و التّعاقب على هذه الصّورة يدلّ دلالة قاطعة على وجود مدبّر حكيم.و تعاقب اللّيل و النّهار يستند مباشرة إلى حركة الأرض،و حركة الأرض تستند إلى سببها،و لكن سلسلة الأسباب تنتهي بجميع حلقاتها إلى المبدإ الأوّل.أمّا الحكمة من هذا التّعاقب، فلأنّه لو استمرّ وجود الظّلمة أو الضّياء لتعذّرت الحياة على وجه الأرض.

و قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ معناه أنّ من طلب الدّليل على وجود اللّه وجده في جميع الأشياء، و منها تعاقب اللّيل و النّهار،و قوله: أَوْ أَرادَ شُكُوراً معناه أنّ من أراد أن يشكر اللّه على نعمه فليشكره أيضا على تعاقب اللّيل و النّهار،فإنّه من النّعم الكبرى.(5:479)

الطّباطبائيّ: الخلفة:هي الشّيء يسدّ مسدّ شيء آخر و بالعكس،و كأنّه بناء نوع أريد به معنى الوصف،فكون اللّيل و النّهار خلفة أنّ كلاّ منهما يخلف الآخر،و تقييد الخلفة بقوله: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً للدّلالة على نيابة كلّ منهما عن الآخر في التّذكّر و الشّكر...

و على هذا،فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى اللّيل و النّهار بحيث يخلف كلّ صاحبه،فمن فاته الإيمان به في هذه البرهة من الزّمان تداركه في البرهة الأخرى منه،و من لم يوفّق لعبادة أو لأيّ عمل صالح في شيء منهما أتى به في الآخر.

هذا ما تفيده الآية،و لها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة: وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً، ففيه إشارة إلى أنّ اللّه سبحانه و إن دفع أولئك المستكبرين عن الصّعود إلى ساحة قربه،لكنّه لم يمنع عباده عن التّقرّب إليه و الاستضاءة بنوره،فجعل نهارا ذا شمس طالعة،و ليلا ذا قمر منير،و هما ذوا خلفة،من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.(15:236)

مكارم الشّيرازيّ: هذا النّظام البديع الحاكم على اللّيل و النّهار؛حيث يعقب أحدهما الآخر متناوبين متواصلين على هذا النّظم ملايين السّنين...

النّظم الّذي لولاه لانعدمت حياة الإنسان نتيجة لشدّة النّور و الحرارة،أو الظّلمة و العتمة.و هذا دليل رائع للّذين يريدون أن يعرفوا اللّه عزّ و جلّ.

و من المعلوم أنّ نشوء نظام«اللّيل»و«النّهار» نتيجة لدوران الأرض حول الشّمس،و أنّ تغيّراتهما التّدريجيّة و المنظّمة؛حيث ينقص من أحدهما و يزاد في الآخر دائما،بسبب ميل محور الأرض عن مدارها، ممّا يؤدّي لوجود الفصول الأربعة.

فإذا دارت كرتنا الأرضيّة في حركتها الدّورانيّة أسرع أو أبطأ من دورانها الفعليّ،ففي إحدى الصّور تطول اللّيالي إلى درجة أنّها تجمد كلّ شيء،و يطول

ص: 122

النّهار إلى درجة أنّ الشّمس تحرق كلّ شيء.و في صورة أخرى:فإنّ الفاصلة القصيرة بين اللّيل و النّهار كانت ستبطل تأثيرهما و فائدتهما.فضلا عن أنّ القوّة المركزيّة الطّاردة كانت سترتفع؛بحيث ستقذف جميع الموجودات الأرضيّة بعيدا عن الكرة الأرضيّة.

و الخلاصة أنّ التّأمّل في هذا النّظام يوقظ فطرة معرفة اللّه في الإنسان من جهة.و لعلّ التّعبير بالتّذكّر و التّذكير إشارة إلى هذه الحقيقة،و من جهة أخرى يحيي روح الشّكر فيه،و قد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: أَوْ أَرادَ شُكُوراً.

الجدير بالذّكر أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات الّتي نقلت عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو الأئمّة المعصومين عليهم السّلام في تفسير الآية،أنّ تعاقب اللّيل و النّهار من أجل أنّ الإنسان إذا أهمل أداء واجب من واجباته تجاه اللّه سبحانه و تعالى،فإنّه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت الآخر منهما.هذا المعنى من الممكن أن يكون تفسيرا ثانيا للآية،و ممّا سبق من كون الآيات القرآنيّة ذات بطون،فلا منافاة بين هذا المعنى و المعنى الأوّل أيضا.

و في ذلك ورد في حديث عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه قال:«كلّ ما فاتك باللّيل فاقضه بالنّهار،قال اللّه تبارك و تعالى: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً يعني أن يقضي الرّجل ما فاته باللّيل بالنّهار،و ما فاته بالنّهار باللّيل».(11:266)

فضل اللّه :يخلف كلّ منهما صاحبه،في خصائصه الكونيّة الّتي تحتوي حياة الإنسان و الحيوان و النّبات،فتبعث فيها روح التّوازن،حيث جعل اللّيل لباسا و النّهار معاشا،ممّا يفرض على الإنسان أن يفكّر فيه،ليكتشف جوانب الدّقّة في الخلق،و العظمة في الإبداع.(17:71)

اخلفوا

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. التّوبة:77

الطّوسيّ: الإخلاف:نقض ما تقدّم به العقد من وعد أو عزم،و أصله:الخلاف،لأنّه فعل خلاف ما تقدّم به العقد و الوعد،متى كان بأمر واجب أو ندب أو أمر حسن،قبح الإخلاف،و إن كان الوعد وعدا بقبيح،كان إخلافه حسنا.(5:307)

أبو السّعود :أي بسبب إخلافهم ما وعده تعالى من التّصدّق و السّلاح.(3:172)

الطّباطبائيّ: الباء في الموضعين منه للسّببيّة،أي إنّ هذا البخل أورثهم نفاقا بما كان فيه من الخلف في الوعد و الاستمرار على الكذب،الموجبين لمخالفة باطنهم لظاهرهم،و هو النّفاق.

و معنى الآية:فأورثهم البخل و الامتناع عن إيتاء الصّدقات نفاقا في قلوبهم،يدوم لهم ذلك و لا يفارقهم إلى يوم موتهم،و إنّما صار هذا البخل و الامتناع سببا لذلك،لما فيه من خلف الوعد للّه،و الملازمة و الاستمرار على الكذب.(9:350)

ص: 123

فاخلفتم-اخلفنا

...أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي* قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا... طه:86،87

الطّبريّ: كان إخلافهم موعده عكوفهم على العجل،و تركهم السّير على أثر موسى للموعد الّذي كان اللّه وعدهم،و قولهم لهارون،إذ نهاهم عن عبادة العجل،و دعاهم إلى السّير معه في إثر موسى: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى طه:91.

(8:443)

الماورديّ: فيه وجهان:أحدهما:أنّه وعدهم على أثره للميقات فتوقّفوا.[و لم يذكر الثّاني]

(3:418)

الطّباطبائيّ: تركتم ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي.

و ربّما قيل في معنى قوله: فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي بعض معان أخر:

كقول بعضهم:إنّ إخلافهم موعده أنّه أمرهم أن يلحقوا به،فتركوا المسير على أثره،و قول بعضهم:هو أنّه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم، فخالفوه،إلى غير ذلك.(14:191)

فاخلفتكم

وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ... إبراهيم:22

ابن عبّاس: كذبت لكم.(213)

أبو السّعود:(فاخلفتكم،)أي موعدي،على حذف المفعول الثّاني،أي نقضته،جعل خلف وعده كالإخلاف منه،كأنّه كان قادرا على إنجازه،و أنّى له ذلك.(3:481)

الآلوسيّ: أي لم يتحقّق ما أخبرتكم به و ظهر كذبه،و قد استعير الإخلاف لذلك،و لو جعل مشاكلة لصحّ.(13:208)

ابن عاشور :أي كذبت موعدي...

و شمل الخلف جميع ما كان يعدهم الشّيطان على لسان أوليائه،و ما يعدهم إلاّ غرورا.(12:246)

الطّباطبائيّ: و إخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب و عدم الوقوع،من إطلاق الملزوم و إرادة اللاّزم.(12:46)

فضل اللّه : وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ في ما منيّتكم به و دفعتكم إليه،ممّا لم يتحقّق،لأنّ الأمر كان مجرّد خدعة و تضليل،من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم.(13:101)

يخلف

1- ..قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. البقرة:80

الفخر الرّازيّ: فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ يدلّ على أنّه سبحانه و تعالى منزّه عن الكذب،وعده و وعيده.قال أصحابنا:لأنّ الكذب صفة نقص، و النّقص على اللّه محال.

و قالت المعتزلة:لأنّه سبحانه عالم بقبح القبيح

ص: 124

و عالم بكونه غنيّا عنه،و الكذب قبيح،لأنّه كذب، و العالم بقبح القبيح و بكونه غنيّا عنه يستحيل أن يفعله،فدلّ على أنّ الكذب منه محال،فلهذا قال:

فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ.

فإن قيل:العهد هو الوعد و تخصيص الشّيء بالذّكر يدلّ على نفي ما عداه،فلمّا خصّ الوعد بأنّه لا يخلفه،علمنا أنّ الخلف في الوعيد جائز،ثمّ العقل يطابق ذلك،لأنّ الخلف في الوعد لؤم،و في الوعيد كرم.

قلنا:الدّلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب.(3:143)

أبو السّعود :الفاء فصيحة معربة عن شرط محذوف.[ثمّ استشهد بشعر]

أي إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه،و الجملة اعتراضيّة،و إظهار الاسم الجليل للإشعار بعلّة الحكم، فإنّ عدم الإخلاف من قضيّة الألوهيّة.و إظهار العهد مضافا إلى ضميره عزّ و جلّ لما ذكر،أو لأنّ المراد جميع عهوده لعمومه بالإضافة،فيدخل فيه العهد المعهود دخولا أوّليّا،و فيه تجاف عن التّصريح بتحقّق مضمون كلامهم،و إن كان معلّقا بما لم يكد يشمّ رائحة الوجود قطعا،أعني اتّخاذ العهد.(1:156)

نحوه الآلوسيّ.(1:304)

ابن عاشور :الفاء فصيحة دالّة على شرط مقدّر و جزائه،و ما بعد الفاء هو علّة الجزاء،و التّقدير:فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم،لأنّ اللّه لا يخلف عهده، و تقدّم ذلك عند قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً البقرة:60،و لكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط و جزائه،لم يلزم أن يكون ما بعدها مسبّبا عمّا قبلها،و لا مترتّبا عنه،حتّى يشكل عليه عدم صحّة ترتّب الجزاء في الآية على الشّرط المقدّر،لأنّ(لن)للاستقبال.(1:562)

2- رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. آل عمران:9

3- ...حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.

الرّعد:31

4- وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ.... الحجّ:47

5- وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ. الرّوم:6

6- لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ الْمِيعادَ. الزّمر:20

لاحظ:و ع د:«وعد»و«الميعاد».

يخلفه

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ. سبأ:39

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:[في حديث:]«إنّ اللّه عزّ و جلّ قال لي:أنفق أنفق عليك».(الثّعلبيّ 8:91)

[و في حديث آخر:]«ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ و ملكان ينزلان،فيقول أحدهما:اللّهمّ أعط منفقا

ص: 125

خلفا،و يقول الآخر:اللّهمّ أعط ممسكا تلفا».

(الواحديّ 3:497)

ابن عبّاس: فَهُوَ يُخْلِفُهُ في الدّنيا بالمال،و في الآخرة بالحسنات.(362)

سعيد بن جبير: ما أنفقتم من شيء في غير إسراف و لا تقتير فهو يخلفه.(الواحديّ 3:497)

مجاهد :من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد،فإنّ الرّزق مقسوم،و لعلّ ما قسّم له قليل و هو ينفق نفقة الموسّع عليه،فينفق جميع ما في يده،ثمّ يبقى طول عمره في فقر،و لا يتأوّلنّ: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، فإنّ هذا في الآخرة.

(الزّمخشريّ 3:292)

السّدّيّ: يخلفه بالأجر في الآخرة،إذا أنفقه في طاعة.(الماورديّ 4:453)

الكلبيّ: ما تصدّقتم من صدقة و أنفقتم في الخير و البرّ من نفقة،فهو يخلفه:إمّا أن يعجّله في الدّنيا، و إمّا أن يدّخر له في الآخرة.(الثّعلبيّ 8:91)

الرّمّانيّ: فهو يخلفه إن شاء،إذا رأى ذلك صلاحا كإجابة الدّعاء.(الماورديّ 4:453)

الثّعلبيّ: إنّ الانسان قد ينفق ما له في الخير و لا يرى له خلفا أبدا،و إنّما معنى الآية:ما كان من خلف فهو منه.(ابن الجوزيّ 6:462)

الماورديّ: فيه ثلاثة تأويلات:[فذكر قول ابن عيسى و السّدّيّ،ثمّ قال:]

الثّالث:معناه:فهو أخلفه،لأنّ نفقته من خلف اللّه و رزقه،قاله سفيان بن الحسين.

و يحتمل رابعا:فهو يعني عنه.(4:453)

الطّوسيّ: أي يعطيكم عوضه،و ليس المراد أن يخلف في دار الدّنيا على كلّ حال،لأن اللّه يفعل ذلك بحسب المصلحة،و إنّما أراد أنّه يعوّض عليه إمّا في الدّنيا بأن يخلف بدله،أو يثيب عليه.(8:402)

نحوه الطّبرسيّ.(4:394)

الواحديّ: أي يخلفه لكم أو عليكم.يقال:

أخلف اللّه له و عليه،إذا أبدل له ما ذهب عنه.

(3:4097)

البغويّ: يعطي خلفه.(3:683)

الزّمخشريّ: فَهُوَ يُخْلِفُهُ فهو يعوّضه لا معوّض سواه:إمّا عاجلا بالمال أو بالقناعة الّتي هي كنز لا ينفد،و إمّا آجلا بالثّواب الّذي كلّ خلف دونه.

(3:292)

نحوه الشّربينيّ(3:303)،و المراغيّ(22:90)، و ملخّصا النّسفيّ(3:329)،و أبو السّعود(5:263)، و الكاشانيّ(4:223).

ابن العربيّ: فيها مسألتان:

المسألة الأولى:قوله: يُخْلِفُهُ يعني يأتي بثان بعد الأوّل،و منه الخلفة في النّبات.

و قال أعرابيّ لأبي بكر:«يا خليفة رسول اللّه!.

فقال:لا،بل أنا الخالفة بعده».الخالفة:الّذي يستخلفه الرّئيس على أهله و ماله.

المسألة الثّانية:في معنى«الخلف»هاهنا أربعة أوجه:

الأوّل:يخلفه إذا رأى ذلك صلاحا،كما يجيب

ص: 126

الدّعاء إذا شاء.

الثّاني:يخلفه بالثّواب.

الثّالث:معنى(يخلفه:)فهو أخلفه،لأنّ كلّ ما عند العبد من خلف اللّه و رزقه.[و نقل الحديث الأوّل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:]

و هذه إشارة إلى أنّ الخلف في الدّنيا بمثل المنفق بها،إذا كانت النّفقة في طاعة اللّه،و هو كالدّعاء-كما تقدّم-سواء:إمّا أن تقضي حاجته،و كذلك في النّفقة يعوّض مثله و أزيد،و إمّا أن يعوّض،و التّعويض هاهنا بالثّواب،و إمّا أن يدّخر له،و الادّخار هاهنا مثله في الآخرة.[و لم يذكر الرّابع](4:1603)

ابن الجوزيّ: أي يأتي ببدله،يقال:أخلف اللّه له و عليه،إذا أبدل ما ذهب عنه.(6:461)

الفخر الرّازيّ: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ يحقّق معنى قوله عليه الصّلاة و السّلام:«ما من يوم يصبح العباد...»[الحديث]و ذلك لأنّ اللّه تعالى ملك عليّ و هو غنيّ مليّ،فإذا قال أنفق و عليّ بدله، فبحكم الوعد يلزمه،كما إذا قال قائل:«ألق متاعك في البحر و عليّ ضمانه».فمن أنفق فقد أتى بما هو شرط حصول البدل فيحصل البدل،و من لم ينفق فالزّوال لازم للمال،و لم يأت بما يستحقّ عليه من البدل، فيفوت من غير خلف و هو التّلف.

ثمّ إنّ من العجب أنّ التّاجر إذا علم أنّ مالا من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة،و إن كان من الفقراء،و يقول:بأنّ ذلك أولى من الإمهال إلى الهلاك، فإن لم يبع حتّى يهلك ينسب إلى الخطإ.ثمّ إن حصل به كفيل مليء و لا يبيع،ينسب إلى قلّة العقل،فإن حصل به رهن و كتب به وثيقة،و لا يبيعه ينسب إلى الجنون.

ثمّ إنّ كلّ أحد يفعل هذا و لا يعلم أنّ ذلك قريب من الجنون،فإنّ أموالنا كلّها في معرض الزّوال المحقّق.

و الإنفاق على الأهل و الولد إقراض،و قد حصل الضّامن المليء و هو اللّه العليّ،و قال تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ثمّ رهن عند كلّ واحد إمّا أرضا أو بستانا أو طاحونة أو حمّاما أو منفعة،فإنّ الإنسان لا بدّ من أن يكون له صنعة،أو جهة يحصل له منها مال،و كلّ ذلك ملك اللّه و في يد الإنسان بحكم العارية،فكأنّه مرهون بما تكفّل اللّه من رزقه،ليحصل له الوثوق التّامّ،و مع هذا لا ينفق و يترك ماله ليتلف لا مأجورا و لا مشكورا.(25:263)

القرطبيّ: فيه إضمار،أي فهو يخلفه عليكم.

يقال:أخلف له و أخلف عليه،أي يعطيكم خلفه و بدله،و ذلك البدل إمّا في الدّنيا و إمّا في الآخرة.

(14:307)

الآلوسيّ: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن تكون(ما)شرطيّة في موضع نصب ب(انفقتم،) و قوله تعالى: فَهُوَ يُخْلِفُهُ جواب الشّرط.و يحتمل أن تكون بمعنى«الّذي»في موضع رفع بالابتداء، و الجملة بعد خبره،و دخلت الفاء لتضمّن المبتدإ معنى الشّرط.و مِنْ شَيْءٍ تبيين على الاحتمالين،و معنى يُخْلِفُهُ... [فذكر نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و خصّه بعضهم بالآخرة.[ثمّ ذكر قول مجاهد و أضاف:]

ص: 127

و الأوّل أظهر،[القول بالعموم لا التّخصيص بالآخرة]لأنّ الآية في الحثّ على الإنفاق،و أنّ البسط و القدر إذا كانا من عنده عزّ و جلّ فلا ينبغي لمن وسّع عليه أن يخاف الضّيعة بالإنفاق،و لا لمن قدر عليه زيادتها.(22:150)

ابن عاشور : فَهُوَ يُخْلِفُهُ حثّا على الإنفاق، و المراد:الإنفاق فيما أذن فيه الشّرع.

و هذا تعليم للمسلمين بأنّ نعيم الآخرة لا ينافي نعيم الدّنيا،قال تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا البقرة:201،202.

فأمّا نعيم الدّنيا فهو مسبّب عن أحوال دنيويّة رتّبها اللّه تعالى و يسّرها،لمن يسّرها في علمه بغيبه،و أمّا نعيم الآخرة فهو مسبّب عن أعمال مبيّنة في الشّريعة، و كثير من الصّالحين يحصل لهم النّعيم في الدّنيا مع العلم بأنّهم منعّمون في الآخرة،كما أنعم على داود و سليمان و على كثير من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و كثير من أئمّة الدّين،مثل مالك بن أنس و الشّافعيّ و الشّيخ عبد اللّه بن أبي زيد و سحنون.

فأمّا اختيار اللّه لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم حالة الزّهادة في الدّنيا،فلتحصل له غايات الكمال من التّمحّض لتلقّي الوحي و جميل الخصال،و من مساواة جمهور أصحابه في أحوالهم-و قد بسطناه بيانا في رسالة طعام رسول اللّه عليه السّلام.-و أعقب ذلك بترغيب الأغنياء في الإنفاق في سبيل اللّه،فجعل الوعد بإخلاف ما ينفقه المرء كناية عن التّرغيب في الإنفاق،لأنّ وعد اللّه بإخلافه مع تأكيد الوعد،يقتضي أنّه يحبّ ذلك من المنفقين.

و أكّد ذلك الوعد بصيغة الشّرط،و بجعل جملة الجواب اسميّة،و بتقديم المسند إليه على الخبر الفعليّ بقوله: فَهُوَ يُخْلِفُهُ، ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكّدات دالّة على مزيد العناية بتحقيقه،لينتقل من ذلك إلى الكناية عن كونه مرغوبه تعالى.(22:82)

مكارم الشّيرازيّ: جملة فَهُوَ يُخْلِفُهُ تعبير جميل يشير إلى أنّ ما ينفق في سبيل اللّه إنّما هو في الحقيقة تجارة وافرة الرّبح،لأنّ اللّه سبحانه و تعالى تعهّد بأن يخلفه،و نعلم أنّه في الوقت الّذي يتعهّد فيه الكريم بأداء العوض،فإنّه لا يراعي المقدار الّذي يريد تعويضه،بل إنّه يعوّض بأضعاف مضاعفة،بل بمئات الأضعاف.

طبعا،فإنّ هذا الوعد الإلهيّ لا ينحصر بالآخرة، فإنّ ذلك مسلّم به،و لكن في الدّنيا أيضا،فإنّه يخلف ما أنفق بمختلف البركات.(13:426)

فضل اللّه :ليس لكم أن تخافوا من الفقر إذا أنفقتم ممّا رزقكم اللّه من مال،لأنّ المسألة لا تتعلّق بجهدكم الذّاتيّ في تحصيل المال،لتخافوا من الضّياع و فقدان التّعويض إذا أذهبتم ما لديكم منه،فانطلقوا مع العطاء و انتظروا العوض من اللّه في الدّنيا مثل الآخرة.(19:57)

تخلف

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ. آل عمران:194

ص: 128

لاحظ:و ع د:«وعدتنا»و«الميعاد».

نخلفه

...فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. طه:58

ابن عبّاس: لا نجاوزه.(263)

الطّوسيّ: أي عدنا مكانا نجتمع فيه،و وقتا نأتي فيه.(7:180)

البغويّ: قرأ أبو جعفر: (لا نخلفه) جزما، لا نجاوزه.(3:265)

الزّمخشريّ: قرئ نخلفه بالرّفع على الوصف للموعد،و بالجزم على جواب الأمر.

(2:542)

نحوه ابن عطيّة.(4:48)

القرطبيّ: أي لا نخلف ذلك الوعد،و الإخلاف:

أن يعد شيئا و لا ينجزه...و قرأ أبو جعفر ابن القعقاع و شيبة و الأعرج (لا نخلفه) بالجزم،جوابا لقوله:

(اجعل.)و من رفع فهو نعت ل«موعد»و التّقدير:

موعدا غير مخلف.(11:212)

الآلوسيّ: (لا نخلفه)صفة له[للموعد] و الضّمير المنصوب عائد إليه.و متى كان زمانا أو مكانا لزم تعلّق الإخلاف بالزّمان أو المكان،و هو إنّما يتعلّق بالوعد،يقال:أخلف وعده،لا زمان وعده و لا مكانه،أي لا نخلف ذلك الوعد.(16:216)

الطّباطبائيّ: إخلاف الوعد:عدم العمل بمقتضاه.(14:172)

لاحظ:و ع د:«الموعد».

تخلفه

...وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ... طه:97

ابن عبّاس: لن تجاوزه.(265)

قتادة :(لن تخلفه):لن تغيب عنه.

(الطّبريّ 8:453)

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءته،فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة و الكوفة لن تخلفه بضمّ التّاء و فتح اللاّم،بمعنى:و إنّ لك موعدا لعذابك و عقوبتك على ما فعلت من إضلالك قومي حتّى عبدوا العجل من دون اللّه،لن يخلفكه اللّه،و لكن يذيقكه.و قرأ ذلك الحسن و قتادة و أبو نهيك (و انّ لك موعدا لن تخلفه) بضمّ التّاء و كسر اللاّم،بمعنى:و إنّ لك موعدا لن تخلفه أنت يا سامريّ،و تأوّلوه بمعنى لن تغيب عنه.

...عبد المؤمن،قال:سمعت أبا نهيك يقرأ (لن تخلفه انت) يقول:لن تغيب عنه.

و القول في ذلك عندي أنّهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى،لأنّه لا شكّ أنّ اللّه موف وعده لخلقه بحشرهم لموقف الحساب،و أنّ الخلق موافون ذلك اليوم،فلا اللّه مخلفهم ذلك،و لا هم مخلفوه بالتّخلّف عنه،فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب الصّواب في ذلك.

(8:452)

الزّجّاج: ...لَنْ تُخْلَفَهُ و (لن تخلفه) ،فمن قرأ لَنْ تُخْلَفَهُ فالمعنى يكافئك اللّه على ما فعلت في القيامة،و اللّه لا يخلف الميعاد،و من قرأ (لن تخلفه)

ص: 129

فالمعنى إنّك تبعث و توافي يوم القيامة،لا تقدر على غير ذلك،و لن تخلفه.(3:375)

نحوه البغويّ.(3:274)

الثّعلبيّ: قرأ الحسن و قتادة و أبو نهيك و أبو عمرو بكسر اللاّم،بمعنى:لن تغيب عنه بل توافيه،و قرأ الباقون بفتح اللاّم،بمعنى:لن يخلفكه اللّه.(6:259)

الماورديّ: يحتمل وجهين:

أحدهما:في الإمهال لن يقدّم.

الثّاني:في العذاب لن يؤخّر.(3:424)

الطّوسيّ: لَنْ تُخْلَفَهُ من جهتنا،فيمن قرأ بالفتح،و من قرأ بالكسر معناه:لا تخلفه أنت،و هما متقاربان.(7:204)

الواحديّ: أي وعدا لعذابك يعني يوم القيامة، لن تخلف ذلك الموعد و لن يتأخّر عنك.(3:220)

مثله الطّبرسيّ(4:29)،و نحوه المراغيّ(16:

146).

الزّمخشريّ: لَنْ تُخْلَفَهُ أي لن يخلفك اللّه موعده الّذي وعدك على الشّرك و الفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدّنيا، فأنت ممّن خسر الدّنيا و الآخرة،ذلك هو الخسران المبين.

و قرئ: (لن تخلفه) ،و هذا من أخلفت الموعد،إذا وجدته خلفا.[ثمّ استشهد بشعر]

و عن ابن مسعود(نخلفه)بالنّون،أي لن يخلفه اللّه،كأنّه حكى قوله عزّ و جلّ كما مرّ في لِأَهَبَ لَكِ مريم:19.(2:551)

نحوه الفخر الرّازيّ(22:112)،و البيضاويّ(2:

59)،و النّسفيّ(3:64)،و أبو السّعود(4:305)، و الكاشانيّ(3:318).

ابن عطيّة: قرأ الجمهور(تخلفه)بفتح اللاّم، على معنى:لن يقع فيه خلف،و قرأ ابن كثير و أبو عمرو (لن تخلفه) بكسر اللاّم،على معنى:لن تستطيع الرّوغان عنه و الحيدة،فتزول عن موعد العذاب.

و قرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف (لن نخلفه) بالنّون،قال أبو الفتح:المعنى:لن نصادفه مخلفا، و كلّها بمعنى الوعيد و التّهديد.(4:62)

القرطبيّ: قرأ ابن كثير و أبو عمرو (تخلفه) بكسر اللاّم،و له معنيان:

أحدهما:ستأتيه و لن تجده مخلفا؛كما تقول:

أحمدته،أي وجدته محمودا.

و الثّاني:على التّهديد،أي لا بدّ لك من أن تصير إليه.

و الباقون بفتح اللاّم؛بمعنى:إنّ اللّه لن يخلفك إيّاه.(11:242)

أبو حيّان :قرأ الجمهور لَنْ تُخْلَفَهُ بالتّاء المضمومة و فتح اللاّم،على معنى:لن يقع فيه خلف، بل ينجزه لك اللّه في الآخرة على الشّرك و الفساد، بعد ما عاقبك في الدّنيا...

و قرأ ابن كثير و الأعمش و أبو عمرو بضمّ التّاء و كسر اللاّم،أي لن تستطيع الرّوغان عنه و الحيدة، فتزول عن موعد العذاب.

و قرأ أبو نهيك (لن تخلفه) بفتح التّاء و ضمّ اللاّم،

ص: 130

هكذا بالتّاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه.و في«اللّوامح»:أبو نهيك(لن يخلفه)بفتح الياء و ضمّ اللاّم و هو من:خلفه يخلفه،إذا جاء بعده، أي الموعد الّذي لك لا يدفع قولك الّذي تقوله فيما بعد: لا مِساسَ بالفعل،فهو مسند إلى الموعد،أو الموعد لن يختلف ما قدّر لك من العذاب في الآخرة.

و قال سهل-يعني أبا حاتم-:لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهبا،انتهى.

و قرأ ابن مسعود و الحسن بخلاف عنه (نخلفه) بالنّون و كسر اللاّم،أي لا ننقص ممّا وعدنا لك من الزّمان شيئا.و قال ابن جنّيّ:لن يصادفه مخلفا.

(6:275)

الآلوسيّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الأعمش بضمّ التّاء و كسر اللاّم،على البناء للفاعل،على أنّه من أخلفت الموعد،إذا وجدته خلفا كأجبنته،إذا وجدته جبانا، و على ذلك قول الأعشى:

أثوى و قصر ليله ليزودا

فمضى و أخلف من قتيلة موعدا

و جوّز أن يكون التّقدير:لن تخلف الواعد إيّاه، فحذف المفعول الأوّل و ذكر الثّاني،لأنّه المقصود، و المعنى:لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفا لوعده بل سيفعله...

[و ذكر قراءة ابن مسعود و الحسن بالنّون ثمّ قال:]

و قال ابن جنّيّ: أي لن نصادفه خلفا،فيكون من كلام موسى عليه السّلام لا على سبيل الحكاية،و هو ظاهر لو كانت النّون مضمومة.(16:256)

ابن عاشور :قرأ الجمهور: لَنْ تُخْلَفَهُ بفتح اللاّم،مبنيّا للمجهول للعلم بفاعله،و هو اللّه تعالى،أي لا يؤخّره اللّه عنك،فاستعير الإخلاف للتّأخير لمناسبة الموعد.

و قرأ ابن كثير،و أبو عمرو،و يعقوب بكسر اللاّم، مضارع«أخلف»و همزته للوجدان.يقال:أخلف الوعد،إذا وجده مخلفا،و إمّا على جعل السّامريّ هو الّذي بيده إخلاف الوعد و أنّه لا يخلفه،و ذلك على طريق التّهكّم تبعا للتّهكّم الّذي أفاده لام الملك.

(16:176)

مخلف

فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. إبراهيم:47

راجع:و ع د:«وعده».

خلّفوا

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ... التّوبة:118

ابن عبّاس: خلّفوا عن التّوبة.

(ابن الجوزيّ 3:513)

مثله عكرمة و قتادة(الطّبريّ 6:503)، و أبو مالك(النّحّاس 3:264).

مجاهد :خلّفوا عن قبول التّوبة،بعد قبول توبة من قبل توبته من المنافقين.(الطّوسيّ 5:364)

ص: 131

عكرمة:خلّفوا عن بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

(الماورديّ 2:413)

الضّحّاك: خلّفوا عن التّوبة،و أخّرت عليهم حين تاب عليهم،أي على الثّلاثة الّذين لم يربطوا أنفسهم مع أبي لبابة.

مثله أبو مالك.(الماورديّ 2:413)

الحسن :خلّفوا عن غزوة تبوك كما تخلّفوا هم.

مثله قتادة.(الطّوسيّ 5:364)

المبرّد: معنى(خلفوا:)تركوا،لأنّ معنى خلّفت فلانا:فارقته قاعدا عمّا نهضت فيه.

(النّحّاس 3:264)

النّحّاس: ...قرأ عكرمة بن خالد (خلفوا) أي أقاموا بعقب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.و روي عن جعفر بن محمّد أنّه قرأ(خالفوا).(3:265)

الثّعلبيّ: يعني تاب على الثّلاثة الّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا،و قيل:خلّفوا عن توبة أبي لبابة و أصحابه،و أرجئ أمرهم،و قد مضت السّنة...

و قراءة الأعمش: (و على الثّلاثة المخلّفين) ،و هم كعب بن مالك الشّاعر و مرارة بن الرّبيع و هلال بن أميّة،كلّهم من الأنصار.

و روى عبيد عن عبد اللّه بن كعب بن مالك الأنصاريّ عن أبيه عبد اللّه بن كعب،و كان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره.قال:سمعت أنّ كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول اللّه...[و ذكر القصّة بطولها فلاحظ،و قال في آخرها:]

هذا ما انتهى إلينا من حديث الثّلاثة الّذين خلّفوا.(5:105)

نحوه الشّربينيّ.(1:656)

الطّوسيّ: التّخليف:تأخير الشّيء عمّن مضى، فأمّا تأخير الشّيء عنك في المكان،فليس بتخليف.

و هو من الخلف الّذي هو مقابل لجهة الوجه...

و في قراءة أهل البيت عليهم السّلام (خالفوا) ،قالوا:

لأنّهم لو خلّفوا لما توجّه عليهم العتب.(5:364)

نحوه الطّبرسيّ(3:78 و 79)،و الطّباطبائيّ(9:

399).

البغويّ: ...و قيل:خلّفوا،أي أرجئ أمرهم عن توبة أبي لبابة و أصحابه.(2:397)

الزّمخشريّ: معنى(خلفوا:)خلّفوا عن الغزو و قيل:عن أبي لبابة و أصحابه؛حيث تيب عليهم بعدهم.

و قرئ (خلّفوا) ،أي خلّفوا الغازين بالمدينة،أو أفسدوا،من الخالفة و خلوف الفم.و قرأ جعفر الصّادق رضى اللّه عنه (خالفوا) و قرأ الأعمش (على الثّلثة المخلّفين) .

(2:218)

ابن عطيّة: معنى(خلفوا:)أخّروا و ترك أمرهم، و لم تقبل منهم معذرة و لا ردّت عليهم،فكأنّهم خلّفوا عن المعتذرين،و قيل:معنى(خلفوا)أي عن غزوة تبوك،قاله قتادة.و هذا ضعيف،و قد ردّه كعب بن مالك بنفسه،و قال:معنى(خلفوا:)تركوا عن قبول العذر و ليس بتخلّفنا عن الغزو،و يقوّي ذلك من اللّفظة جعله: إِذا ضاقَتْ، غاية للتّخليف،و لم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو،و إنّما ضاقت عليهم

ص: 132

الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر.[ثمّ ذكر القراءات نحو ما سبق](3:94)

ابن الجوزيّ: [ذكر القراءات،ثمّ قال:]

و هؤلاء[الثّلاثة]هم المرادون بقوله: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ التّوبة:106.(3:512)

الفخر الرّازيّ: في الآية مسائل:

المسألة الأولى:هذا معطوف على الآية الأولى، و التّقدير:لقد تاب اللّه على النّبيّ و المهاجرين و الأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة،و على الثّلاثة الّذين خلّفوا.و الفائدة في هذا العطف أنّا بيّنّا أنّ من ضمّ ذكر توبته إلى توبة النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام،كان ذلك دليلا على تعظيمه و إجلاله،و هذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام و توبة المهاجرين و الأنصار في حكم واحد، و ذلك يوجب إعلاء شأنهم و كونهم مستحقّين لذلك.

المسألة الثّانية:إنّ هؤلاء الثّلاثة هم المذكورون في قوله تعالى: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ التّوبة:

106،و اختلفوا في السّبب الّذي لأجله وصفوا بكونهم مخلّفين،و ذكروا وجوها:

أحدها:أنّه ليس المراد أنّ هؤلاء أمروا بالتّخلّف، أو حصل الرّضا من الرّسول عليه الصّلاة و السّلام بذلك،بل هو كقولك لصاحبك:أين خلّفت فلانا؟ فيقول:بموضع كذا،لا يريد به أنّه أمره بالتّخلّف بل لعلّه نهاه عنه،و إنّما يريد أنّه تخلّف عنه.

و ثانيها:لا يمتنع أنّ هؤلاء الثّلاثة كانوا على عزيمة الذّهاب إلى الغزو،فأذن لهم الرّسول عليه الصّلاة و السّلام قدر ما يحصل الآلات و الأدوات،فلمّا بقوا مدّة ظهر التّواني و الكسل،فصحّ أن يقال:خلّفهم الرّسول.

و ثالثها:أنّه حكى قصّة أقوام و هم المرادون بقوله: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ، فالمراد من كون هؤلاء مخلّفين،كونهم مؤخّرين في قبول التّوبة عن الطّائفة الأولى.

قال كعب بن مالك و هو أحد هؤلاء الثّلاثة:قول اللّه تعالى في حقّنا: وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ليس من تخلّفنا،إنّما هو تأخير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمرنا،ليشير به إلى قوله: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ.

المسألة الثّالثة:قال صاحب«الكشّاف»:[و ذكر قوله]

المسألة الرّابعة:هؤلاء الثّلاثة هم كعب بن مالك الشّاعر،و هلال بن أميّة الّذي نزلت فيه آية اللّعان، و مرارة بن الرّبيع،و للنّاس في هذه القصّة قولان:

القول الأوّل:أنّهم ذهبوا خلف الرّسول عليه الصّلاة و السّلام.قال الحسن:كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم،فقال:يا أرضاه ما خلّفني عن رسول اللّه إلاّ أمرك،اذهبي فأنت في سبيل اللّه، فلأكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و فعل، و كان للثّاني أهل فقال:يا أهلاه ما خلّفني عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ أمرك فلأكابدنّ المفاوز حتّى أصل إليه و فعل،و الثّالث:ما كان له مال و لا أهل فقال:ما لي سبب إلاّ الضّنّ بالحياة و اللّه لأكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلحقوا بالرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،فأنزل

ص: 133

اللّه تعالى: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ.

و القول الثّاني،و هو قول الأكثرين:أنّهم ما ذهبوا خلف الرّسول عليه الصّلاة و السّلام.قال كعب:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يحبّ حديثي فلمّا أبطأت عنه في الخروج،قال عليه الصّلاة و السّلام:«ما الّذي حبس كعبا»؟فلمّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذّرهم و أتيته،و قلت:إنّ كراعي و زادي كان حاضرا و احتبست بذنبي فاستغفر لي،فأبى الرّسول ذلك.ثمّ إنّه عليه الصّلاة و السّلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثّلاثة،و أمر بمباينتهم حتّى أمر بذلك نساءهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت،و جاءت امرأة هلال بن أميّة و قالت:يا رسول اللّه لقد بكى هلال حتّى خفت على بصره،حتّى إذا مضى خمسون يوما أنزل اللّه تعالى: لَقَدْ تابَ اللّهُ...عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ التّوبة:117،و أنزل قوله: وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فعند ذلك خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى حجرته و هو عند أمّ سلمة،فقال:«اللّه أكبر قد أنزل اللّه عذر أصحابنا»،فلمّا صلّى الفجر ذكر ذلك لأصحابه،و بشّرهم بأنّ اللّه تاب عليهم،فانطلقوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و تلا عليهم ما نزل فيهم.فقال كعب:

توّبني إلى اللّه تعالى أن أخرج مالي صدقة،فقال:لا، قلت:فنصفه،قال:لا،قلت:فثلثه،قال:نعم.

(16:216)

القرطبيّ: حكي عن محمّد بن زيد معنى (خلفوا:)تركوا،لأنّ معنى:خلّفت فلانا:تركته و فارقته،قاعدا عمّا نهضت فيه...

و قيل:(خلفوا)أي أرجعوا و أخّروا عن المنافقين،فلم يقض فيهم بشيء.و ذلك أنّ المنافقين لم تقبل توبتهم،و اعتذر أقوام فقبل عذرهم،و أخّر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم هؤلاء الثّلاثة حتّى نزل فيهم القرآن.و هذا هو الصّحيح لما رواه مسلم و البخاريّ و غيرهما.

و اللّفظ لمسلم،قال كعب:كنّا خلّفنا أيّها الثّلاثة عن أمر أولئك الّذين قبل منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين حلفوا له،فبايعهم و استغفر لهم،و أرجأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمرنا حتّى قضى اللّه فيه،فبذلك قال اللّه عزّ و جلّ: وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا و ليس الّذي ذكر اللّه ممّا خلّفنا تخلّفنا عن الغزو،و إنّما هو تخليفه إيّانا و إرجاؤه أمرنا،عمّن حلف له و اعتذر إليه فقبل منه.و هذا الحديث فيه طول،هذا آخره.(8:282)

البيضاويّ: تخلّفوا عن الغزو،أو خلّف أمرهم، فإنّهم المرجئون.(1:435)

النّيسابوريّ: (خلفوا)من النّفس و الهوى و الطّبع،و ما تبعوا الرّوح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء.

(11:37)

أبو حيّان :[نقل بعض الأقوال و القراءات و أضاف:]

و قرأ الأعمش: (و على الثّلثة المخلّفين) ،و لعلّه قرأ كذلك على سبيل التّفسير،لأنّها قراءة مخالفة لسواد المصحف.(5:109)

أبو السّعود :أي و تاب اللّه على الثّلاثة الّذين أخّر أمرهم عن أمر أبي لبابة و أصحابه؛حيث لم يقبل معذرتهم مثل أولئك،و لا ردّت و لم يقطع في شأنهم

ص: 134

بشيء إلى أن نزل فيهم الوحي،و هم كعب بن مالك و هلال بن أميّة و مرارة بن الرّبيع.

و قرئ (خلّفوا) ،أي خلّفوا الغازين بالمدينة،أو فسدوا،من الخالفة و خلوف الفم.و قرئ: (على المخلّفين) ،و الأوّل هو الأنسب،لأنّ قوله تعالى:

حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ غاية للتّخليف، و لا يناسبه إلاّ المعنى الأوّل،أي خلّفوا و أخّر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض.(3:199)

نحوه البروسويّ ملخّصا(3:527)،و الآلوسيّ (11:41).

ابن عاشور : وَ عَلَى الثَّلاثَةِ معطوف[على] عَلَى النَّبِيِّ التّوبة:117،بإعادة حرف الجرّ لبعد المعطوف عليه،أي و تاب على الثّلاثة الّذين خلّفوا.

و هؤلاء فريق له حالة خاصّة من بين الّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك،غير الّذين ذكروا في قوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ... التّوبة:81،و الّذين ذكروا في قوله: وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ... التّوبة:90.

و التّعريف في اَلثَّلاثَةِ تعريف العهد،فإنّهم كانوا معروفين بين النّاس،و هم:كعب بن مالك من بني سلمة،و مرارة بن الرّبيع العمري من بني عمرو بن عوف،و هلال بن أميّة الواقفي من بني واقف،كلّهم من الأنصار،تخلّفوا عن غزوة تبوك بدون عذر.و لمّا رجع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من غزوة تبوك سألهم عن تخلّفهم فلم يكذّبوه بالعذر،و لكنّهم اعترفوا بذنبهم و حزنوا.و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم النّاس عن كلامهم،و أمرهم بأن يعتزلوا نساءهم،ثمّ عفا اللّه عنهم بعد خمسين ليلة.و حديث كعب بن مالك في قصّته هذه مع الآخرين في«صحيح البخاري»و«صحيح مسلم»طويل أغرّ،و قد ذكره البغويّ في تفسيره.

و(خلفوا)بتشديد اللاّم مضاعف«خلف» المخفّف الّذي هو فعل قاصر،معناه أنّه وراء غيره، مشتقّ من«الخلف»بسكون اللاّم،و هو الوراء.

و المقصود بقي وراء غيره.يقال:خلف عن أصحابه، إذا تخلّف عنهم في المشي يخلف بضمّ اللاّم في المضارع،فمعنى(خلفوا)خلّفهم مخلّف،أي تركهم وراءه،و هم لم يخلّفهم أحد،و إنّما تخلّفوا بفعل أنفسهم.

فيجوز أن يكون(خلفوا)بمعنى خلّفوا أنفسهم على طريقة التّجريد،و يجوز أن يكون تخليفهم تخليفا مجازيّا استعير لتأخير البتّ في شأنهم،أي الّذين خلّفوا عن القضاء في شأنهم،فلم يعذرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لا آيسهم من التّوبة،كما آيس المنافقين.

فالتّخليف هنا بمعنى الإرجاء،و بهذا التّفسير فسّره كعب بن مالك في حديثه المرويّ في«الصّحيح»،فقال:

و ليس الّذي ذكر اللّه ممّا خلّفنا عن الغزو،و إنّما تخليفه إيّانا و إرجاؤه أمرنا عمّن حلف له و اعتذر إليه،فقبل منه.انتهى.

يعني ليس المعنى أنّهم خلّفوا أنفسهم عن الغزو، و إنّما المعنى خلّفهم أحد،أي جعلهم خلفا و هو تخليف مجازيّ،أي لم يقض فيهم.و فاعل«التّخليف»يجوز أن يراد به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أو اللّه تعالى.

و بناء فعل(خلفوا)للنّائب على ظاهره،فليس المراد أنّهم خلّفوا أنفسهم.و تعليق التّخليف بضمير

ص: 135

(الثلاثة)من باب تعليق الحكم باسم الذّات،و المراد:

تعليقه بحال من أحوالها يعلم من السّياق،مثل:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ المائدة:3.

و هذا الّذي فسّر كعب به هو المناسب للغاية بقوله: حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، لأنّ تخيّل ضيق الأرض عليهم و ضيق أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم،انتهى عندها التّخليف،و ليس غاية لتخلّفهم عن الغزو،لأنّ تخلّفهم لا انتهاء له.(10:220)

مغنيّة:اتّفق المفسّرون و الرّواة على أنّ ثلاثة من مؤمني الأنصار تخلّفوا عن النّبيّ في غزوة تبوك كسلا و تهاونا،لا نفاقا و عنادا و هم...[و نقل القصّة عن طه حسين في كتابه:«مرآة الإسلام»،فلاحظ](4:114)

فضل اللّه :تأخّروا عن السّير مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فبقوا في المدينة،و رجع النّبيّ من غزوته و جاءوا يعتذرون، فهم لم يتأخّروا عنه تمرّدا و عنادا و نفاقا و عصيانا، و لكنّه أراد أن يلقّنهم درسا،و يعلّم الآخرين شيئا منه،فأمر المؤمنين بمقاطعتهم،...القصّة.(11:231)

المخلّفون-خلاف
اشارة

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ... التّوبة:81

ابن عبّاس: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ: رضي المنافقون خِلافَ رَسُولِ اللّهِ: خلف رسول اللّه.(163)

المؤرّج السّدوسيّ: خِلافَ رَسُولِ اللّهِ يعني مخالفة لرسول اللّه حين سار و أقاموا.

مثله قطرب.(الثّعلبيّ 5:78)

أبو عبيدة : خِلافَ رَسُولِ اللّهِ، أي بعده.[ثمّ استشهد بشعر](1:264)

الأخفش: خِلافَ رَسُولِ اللّهِ أي مخالفة.و قال بعضهم: (خلف) .و(خلاف)أصوبهما،لأنّهم خالفوا مثل«قاتلوا قتالا»،و لأنّه مصدر«خالفوا».

(2:558)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:فرح الّذين خلّفهم اللّه عن الغزو مع رسوله و المؤمنين به و جهاد أعدائه بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ، يقول:بجلوسهم في منازلهم خِلافَ رَسُولِ اللّهِ، يقول:على الخلاف لرسول اللّه في جلوسه و مقعده،و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمرهم بالنّفر إلى جهاد أعداء اللّه،فخالفوا أمره و جلسوا في منازلهم.

و قوله: خِلافَ مصدر من قول القائل:

«خالف فلان فلانا فهو يخالفه خلافا»،فلذلك جاء مصدره على تقدير«فعال»،كما يقال:«قاتله فهو يقاتله قتالا»،و لو كان مصدرا من«خلفه»لكانت القراءة: (بمقعدهم خلف رسول اللّه) ،لأنّ مصدر:

«خلفه»،«خلف»لا«خلاف»،و لكنّه على ما بيّنت من أنّه مصدر«خالف»،فقرئ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ، و هي القراءة الّتي عليها قرأة الأمصار،و هي الصّواب عندنا.

و قد تأوّل بعضهم ذلك بمعنى«بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم».

[ثمّ استشهد بشعر]

ص: 136

و ذلك قريب لمعنى ما قلنا،لأنّهم قعدوا بعده على الخلاف له.(6:435)

الزّجّاج: خِلافَ رَسُولِ اللّهِ بمعنى مخالفة رسول اللّه،و هو منصوب لأنّه مفعول له،المعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول اللّه،و يقرأ (خلف رسول اللّه) ، و يكون هاهنا أنّهم تأخّروا عن الجهاد في سبيل اللّه.

(2:463)

النّحّاس: الخلاف:المخالفة،و المعنى:من أجل مخالفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،كما تقول:جئتك ابتغاء العلم.

و من قرأ (خلف رسول اللّه) أراد التّأخّر عن الجهاد.(3:238)

الماورديّ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ، أي المتروكون.

خِلافَ رَسُولِ اللّهِ فيه وجهان:

أحدهما:يعني مخالفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و هذا قول الأكثرين.

و الثّاني:[قول أبي عبيدة](2:386)

الطّوسيّ: أخبر اللّه تعالى بأنّ جماعة من المنافقين الّذين خلّفهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يخرجهم معه إلى تبوك، لمّا استأذنوه في التّأخّر فأذن لهم،فرحوا بقعودهم خلاف رسول اللّه.و المخلّف:المتروك خلف من مضى، و مثله المؤخّر عمّن مضى.تقول:خلّف تخليفا و تخلّف تخلّفا...

و معنى خِلافَ رَسُولِ اللّهِ [نقل قول أبو عبيدة و أضاف:]

و قال غيره:معناه المصدر،من قولك:«خالف خلافا»و هو نصب على المصدر.(5:312)

نحوه الواحديّ(2:515)،و البغويّ(2:374)، و القرطبيّ(9:216).

الزّمخشريّ: (المخلفون)الّذين استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من المنافقين فأذن لهم و خلّفهم في المدينة في غزوة تبوك،أو الّذين خلّفهم كسلهم و نفاقهم و الشّيطان...

خِلافَ رَسُولِ اللّهِ خلفه،يقال:أقام خلاف الحيّ،بمعنى بعدهم ظعنوا و لم يظعن معهم،و تشهد له قراءة أبي حيوة (خلف رسول اللّه) ،و قيل هو بمعنى المخالفة،لأنّهم خالفوه حيث قعدوا و نهض.و انتصابه على أنّه مفعول له أو حال،أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له.(2:205)

نحوه ملخّصا البيضاويّ.(1:426)

ابن عطيّة: هذه آية تتضمّن وصف حالهم على جهة التّوبيخ لهم،و في ضمنها وعيد.و قوله:

(المخلفون)لفظ يقتضي تحقيرهم،و أنّهم الّذين أبعدهم اللّه من رضاه.و هذا أمكن في هذا من أن يقال:

المتخلّفون،...

و قوله:(خلاف)معناه:بعد.[ثمّ استشهد بشعر]

و قال الطّبريّ: «هو مصدر خالف يخالف».

فعلى هذا هو مفعول له،و المعنى فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ لخلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،أو مصدر،و نصبه على القول الأوّل،كأنّه على الظّرف.(3:65)

الطّبرسيّ: خِلافَ رَسُولِ اللّهِ، أي بعده.

و قيل:معناه:لمخالفتهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.(3:56)

ابن الجوزيّ: [نحو الطّوسيّ إلاّ أنّه قال:]

ص: 137

و قرأ ابن مسعود،و ابن يعمر،و الأعمش،و ابن أبي عبلة (خلف رسول اللّه) ،و معناها أنّهم تأخّروا عن الجهاد.(3:478)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين،و هو فرحهم بالقعود و كراهتهم الجهاد.قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:يريد المنافقين الّذين تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في غزوة تبوك، و المخلّف:المتروك ممّن مضى.

فإن قيل:إنّهم احتالوا حتّى تخلّفوا،فكان الأولى أن يقال:فرح المتخلّفون.

و الجواب من وجوه:

الأوّل:أنّ الرّسول عليه السّلام منع أقواما من الخروج معه لعلمه بأنّهم يفسدون و يشوّشون،فهؤلاء كانوا مخلّفين لا متخلّفين.

و الثّاني:أنّ أولئك المتخلّفين صاروا مخلّفين في الآية الّتي تأتي بعد هذه الآية،و هي قوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا التّوبة:

83،فلمّا منعهم اللّه تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السّبب مخلّفين.

الثّالث:أنّ من يتخلّف عن الرّسول عليه السّلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين،يوصف بأنّه مخلّف من حيث لم ينهض،فبقي و أقام...

و قوله: خِلافَ رَسُولِ اللّهِ فيه قولان:

[نقل قول المؤرّج،و أضاف:]

و قال الأخفش:إنّ(خلاف)بمعنى خلف،و إنّ يونس رواه عن عيسى بن عمر،و معناه:بعد رسول اللّه.و يقوّي هذا الوجه قراءة من قرأ (خلف رسول اللّه) و على هذا القول:الخلاف:اسم للجهة المعيّنة كالخلف،و السّبب فيه أنّ الإنسان متوجّه إلى قدّامه، فجهة خلفه مخالفة لجهة قدّامه،في كونها جهة متوجّها إليها،و خلاف:بمعنى خلف مستعمل.[ثمّ استشهد بشعر](16:148)

نحوه النّيسابوريّ(10:139)،و الشّربينيّ(1:

637).

أبو حيّان :لمّا ذكر تعالى ما ظهر من النّفاق و الهزء من الّذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين،ذكر حال المنافقين الّذين لم يخرجوا معه و تخلّفوا عن الجهاد،و اعتذروا بأعذار و علل كاذبة، حتّى أذن لهم،فكشف اللّه للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن أحوالهم، و أعلمه بسوء فعالهم،فأنزل اللّه عليه: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ، أي عن غزوة تبوك.

و كان الرّسول قد خلّفهم بالمدينة لمّا اعتذروا،فأذن لهم.

و هذه الآية تقتضي التّوبيخ و الوعيد،و لفظة (المخلفون)تقتضي الذّمّ و التّحقير،و لذلك جاء:

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، و هي أمكن من لفظة«المتخلّفين»،إذ هم مفعول بهم ذلك،و لم يفرح إلاّ منافق،فخرج من ذلك الثّلاثة و أصحاب العذر...

و انتصب(خلاف)على الظّرف،أي بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.يقال:فلان أقام خلاف الحيّ،أي بعدهم،إذا ظعنوا و لم يظعن معهم،قاله أبو عبيدة،و الأخفش،

ص: 138

و عيسى بن عمرو.[ثمّ استشهد بشعر]

و يؤيّد هذا التّأويل قراءة ابن عبّاس،و أبي حيوة، و عمرو بن ميمون (خلف رسول اللّه) .

و قال قطرب،و مؤرّج،و الزّجّاج،و الطّبريّ:

انتصب(خلاف)على أنّه مفعول لأجله،أي لمخالفة رسول اللّه،لأنّهم خالفوه حيث نهض للجهاد و قعدوا.

و يؤيّد هذا التّأويل قراءة من قرأ (خلف) بضمّ الخاء،و ما تظاهرت به الرّوايات من أنّه أمرهم بالنّفر فغضبوا و خالفوا،و قعدوا مستأذنين و غير مستأذنين.

(5:79)

أبو السّعود : فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الّذين خلّفهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالإذن لهم في القعود عند استئذانهم، أو خلّفهم اللّه بتثبيطه إيّاهم لمّا علم في ذلك من الحكمة الخفيّة،أو خلّفهم كسلهم أو نفاقهم...

خِلافَ رَسُولِ اللّهِ أي خلفه و بعد خروجه؛ حيث خرج و لم يخرجوا،يقال:أقام خلاف الحيّ،أي بعدهم،ظعنوا و لم يظعن.و يؤيّده قراءة من قرأ (خلف رسول اللّه) ،فانتصابه على أنّه ظرف ل(مقعدهم،) إذ لا فائدة في تقييد فرحهم بذلك.

و قيل:هو بمعنى المخالفة،و يعضده قراءة من قرأ (خلف رسول اللّه) بضمّ الخاء،فانتصابه على أنّه مفعول له،و العامل:إمّا(فرح،)أي فرحوا لأجل مخالفته صلّى اللّه عليه و سلّم بالقعود،و إمّا(مقعدهم)،أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته عليه الصّلاة و السّلام.أو على أنّه حال،و العامل أحد المذكورين،أي فرحوا مخالفين له صلّى اللّه عليه و سلّم،أو فرحوا بالقعود مخالفين له صلّى اللّه عليه و سلّم.(3:174)

نحوه البروسويّ(3:474)،و الآلوسيّ(10:

150).

ابن عاشور :استئناف ابتدائيّ.و هذه الآية تشير إلى ما حصل للمنافقين عند الاستنفار لغزوة تبوك، فيكون المراد ب«المخلّفين»خصوص من تخلّف عن غزوة تبوك من المنافقين.

و مناسبة وقوعها في هذا الموضع،أنّ فرحهم بتخلّفهم قد قوي لمّا استغفر لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و ظنّوا أنّهم استغفلوه فقضوا مأربهم،ثمّ حصّلوا الاستغفار ظنّا منهم بأنّ معاملة اللّه إيّاهم تجري على ظواهر الأمور.

ف(المخلفون)هم الّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك،استأذنوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فأذن لهم و كانوا من المنافقين،فلذلك أطلق عليهم في الآية وصف «المخلّفين»بصيغة اسم المفعول،لأنّ النّبيّ خلّفهم.و فيه إيماء إلى أنّه ما أذن لهم في التّخلّف إلاّ لعلمه بفساد قلوبهم،و أنّهم لا يغنون عن المسلمين شيئا كما قال:

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً التّوبة:47.

و ذكر فرحهم دلالة على نفاقهم،لأنّهم لو كانوا مؤمنين لكان التّخلّف نكدا عليهم و نغصا،كما وقع للثّلاثة الّذين خلّفوا فتاب اللّه عليهم...

و(خلاف)لغة في«خلف».يقال:أقام خلاف الحيّ،بمعنى بعدهم،أي ظعنوا و لم يظعن.و من نكتة اختيار لفظ(خلاف)دون«خلف»أنّه يشير إلى أنّ قعودهم كان مخالفة لإرادة رسول اللّه حين استنفر النّاس كلّهم للغزو.و لذلك جعله بعض المفسّرين منصوبا على المفعول له،أي بمقعدهم لمخالفة أمر

ص: 139

الرّسول.(10:167)

الطّباطبائيّ: (المخلفون:)اسم مفعول،من قولهم:خلفه،إذا تركه بعده...

و الخلاف كالمخالفة مصدر خالف يخالف،و ربّما جاء بمعنى«بعد»-كما قيل-و لعلّ منه قوله: وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً الإسراء:76،و كان قياس الكلام أن يقال:«خلافك»لأنّ الخطاب فيه للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و إنّما قيل: خِلافَ رَسُولِ اللّهِ للدّلالة على أنّهم إنّما يفرحون على مخالفة اللّه العظيم،فما على الرّسول إلاّ البلاغ.

و المعنى:فرح المنافقون الّذين تركتهم بعدك بعدم خروجهم معك خلافا لك،أو بعدك.(9:358)

مكارم الشّيرازيّ: إعاقة المنافقين مرّة أخرى.

يستمرّ الحديث في هذه الآيات حول تعريف المنافقين و أساليب عملهم و سلوكهم و أفكارهم، ليعرفهم المسلمون جيّدا،و لا يقعوا تحت تأثير وسائل إعلامهم،و خططهم الخبيثة و سمومهم.

في البداية تتحدّث الآية عن هؤلاء الّذين تخلّفوا عن الجهاد في غزوة تبوك،و تعذّروا بأعذار واهية كبيت العنكبوت،و فرحوا بالسّلامة و الجلوس في البيت بدل المخاطرة بأنفسهم و الاشتراك في الحرب، رغم أنّها مخالفة لأوامر اللّه و رسوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ... [إلى أن قال:]

ملاحظات:

1-لا شكّ أنّ هذه المجموعة من المنافقين لو كانوا قد ندموا على تخلّفهم و تابوا منه،و أرادوا الجهاد في ميدان آخر من أجل غسل ذنبهم السّابق،لقبل اللّه تعالى منهم ذلك،و لم يردّهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،فعلى هذا يتبيّن لنا أنّ طلبهم هذا بنفسه نوع من المراوغة و الشّيطنة و عمل نفاقيّ،أو قل:إنّه كان تكتيكا من أجل إخفاء الوجه القبيح لهم،و الاستمرار في أعمالهم السّابقة.

2-إنّ كلمة«خالف»تأتي بمعنى المتخلّف،و هي إشارة إلى المتخلّفين عن الحضور في ساحات القتال، سواء كان تخلّفهم لعذر أو بدون عذر.

و ذهب البعض قال:إنّ«خالف»بمعنى مخالف، أي اذهبوا أيّها المخالفون و ضمّوا أصواتكم إلى المنافقين،لتكونوا جميعا صوتا واحدا.

و فسّرها البعض بأنّ معناها فاسد،لأنّ الخلوف بمعنى الفساد،و خالف جاء في اللّغة بمعنى فاسد.

و يوجد احتمال آخر،و هو أنّه قد يراد من الكلمة جميع المعاني المذكورة،لأنّ المنافقين و أنصارهم توجد فيهم كلّ هذه الصّفات الرّذيلة.

3-و كذا ينبغي أن نذكر بأنّ المسلمين يجب أن يستفيدوا من طرق مجابهة المنافقين في الأعصار الماضية،و يطبّقوها في مواجهة منافقي محيطهم و مجتمعهم،كما يجب اتّباع نفس أسلوب النّبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله معهم،و يجب الحذر من السّقوط في شباكهم،و أن لا ينخدع المسلم بهم،و لا يرقّ قلبه لدموع التّماسيح الّتي يذرفونها،«فإنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين».(6:136)

2- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا

ص: 140

أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ... الفتح:11

ابن عبّاس: من غزوة الحديبيّة.(432)

يعني أعراب غفار،و مزينة،و جهينة،و أشجع، و أسلم و الدّيل.

مثله مجاهد.(الثّعلبيّ 9:45)

الفرّاء: الّذين تخلّفوا عن الحديبيّة.(3:65)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:

سيقول لك يا محمّد-الّذين خلّفهم اللّه في أهليهم عن صحبتك،و الخروج معك في سفرك الّذي سافرت، و مسيرك الّذي سرت إلى مكّة معتمرا،زائرا بيت اللّه الحرام،إذا انصرفت إليهم،فعاتبتهم على التّخلّف عنك -:شغلتنا عن الخروج...

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيما ذكر عنه حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبيّة معتمرا،استنفر العرب و من حول مدينته من أهل البوادي و الأعراب، ليخرجوا معه حذرا من قومه قريش أن يعرضوا له الحرب،أو يصدّوه عن البيت،و أحرم هو صلّى اللّه عليه و سلّم بالعمرة، و ساق معه الهدي،ليعلم النّاس أنّه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب،و تخلّفوا خلافه،فهم الّذين عنى اللّه تبارك و تعالى بقوله: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ.... (11:339)

الطّوسيّ: المخلّف هو المتروك في المكان خلف الخارجين عن البلد،و هو مشتقّ من«المتخلّف»، و ضدّه المتقدّم.تقول:خلّفته كما تقول:قدّمته تقديما، و إنّما تخلّفوا لتثاقلهم عن الجهاد،و إن اعتذروا بشغل الأموال و الأولاد.(9:321)

الزّمخشريّ: هم الّذين خلّفوا عن الحديبيّة، و هم أعراب غفار و مزينة و جهينة و أشجع و أسلم و الدّيل،و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبيّة معتمرا،استنفر من حول المدينة من الأعراب و أهل البوادي،ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه من البيت، و أحرم هو صلّى اللّه عليه و سلّم،و ساق معه الهدي ليعلم أنّه لا يريد حربا،فتثاقل كثير من الأعراب،و قالوا:يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة و قتلوا أصحابه فيقاتلهم.و ظنّوا أنّه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة، و اعتلّوا بالشّغل بأهاليهم و أموالهم،و أنّه ليس لهم من يقوم بأشغالهم.(3:543)

نحوه ابن عطيّة(5:130)،و الطّبرسيّ(5:114) و القرطبيّ(16:268)،و البيضاويّ(2:400)، و أبو السّعود(6:100)،و البروسويّ(9:26)، و الآلوسيّ(26:97)،و الطّباطبائيّ(18:277).

ابن عاشور :لمّا حذّر من النّكث و رغّب في الوفاء،أتبع ذلك بذكر التّخلّف عن الانضمام إلى جيش النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حين الخروج إلى عمرة الحديبيّة،و هو ما فعله الأعراب الّذين كانوا نازلين حول المدينة، و هم ستّ قبائل:غفار و مزينة و جهينة و أشجع و أسلم و الدّيل،بعد أن بايعوه على الخروج معه،فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لمّا أراد المسير إلى العمرة،استنفر من حول المدينة منهم ليخرجوا معه،فيرهبه أهل مكّة فلا يصدّوه عن عمرته،فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه

ص: 141

و كان من أهل البيعة زيد بن خالد الجهنيّ من جهينة،و خرج مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من أسلم مائة رجل،منهم مرداس بن مالك الأسلميّ والد عبّاس الشّاعر،و عبد اللّه بن أبي أوفى،و زاهر بن الأسود،و أهبان-بضمّ الهمزة-بن أوس،و سلمة بن الأكوع الأسلميّ.و من غفار خفاف-بضمّ الخاء المعجمة-بن أيماء بفتح الهمزة بعدها تحتيّة ساكنة.و من مزينة عائذ بن عمرو.

و تخلّف عن الخروج معه معظمهم،و كانوا يومئذ لم يتمكّن الإيمان من قلوبهم،و لكنّهم لم يكونوا منافقين،و أعدّوا للمعذرة بعد رجوع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّهم شغلتهم أموالهم و أهلوهم،فأخبر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بما بيّتوه في قلوبهم،و فضح أمرهم من قبل أن يعتذروا.

و هذه من معجزات القرآن بالأخبار الّتي قبل وقوعه. (1)

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيّا لمناسبة ذكر الإيفاء و النّكث،فكمل بذكر من تخلّفوا عن الدّاعي للعهد.و المعنى:أنّهم يقولون ذلك عند مرجع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المدينة،معتذرين كاذبين في اعتذارهم.

و(المخلفون)بفتح اللاّم،هم الّذين تخلّفوا.و أطلق عليهم(المخلفون)،أي غيرهم خلّفهم وراءه،أي تركهم خلفه،و ليس ذلك بمقتض أنّهم مأذون لهم،بل المخلّف هو المتروك مطلقا.يقال:خلّفنا فلانا،إذا مرّوا به و تركوه،لأنّهم اعتذروا من قبل خروج النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فعذّرهم،بخلاف الأعراب،فإنّهم تخلّف أكثرهم بعد أن استنفروا،و لم يعتذروا حينئذ.(26:135)

مكارم الشّيرازيّ: اعتذار المخلّفين

ذكرنا-في تفسير الآيات الآنفة-أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله توجّه من المدينة إلى مكّة مع ألف و أربع مائة من صحابته للعمرة.و قد أبلغ عن النّبيّ جميع من في البادية من القبائل أن يحضروا معه في سفره هذا،إلاّ أنّ قسما من ضعيفي الإيمان لوّوا رءوسهم عن هذا الأمر و أعرضوا عنه،و كان تحليلهم هو أنّ المسلمين لا يستطيعون الحفاظ على أرواحهم في هذا السّفر،في حين أنّ كفار قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين،و قاتلوهم في أحد و الأحزاب على مقربة من المدينة،فإذا توجّهت هذه الجماعة القليلة العزلاء من كلّ سلاح نحو مكّة،و عرّضت نفسها إلى العدوّ المدجّج بالسّلاح،فكيف ستعود إلى بيوتها بعدئذ؟!

(16:408)

فضل اللّه :الأعراب يبرّرون تخلّفهم عن الفتح.

كانت واقعة الحديبيّة تجربة مريرة في المجتمع الإسلاميّ،ذلك أنّ بعض أفراده لم يستوعبوا فكر الرّسالة و حركتها و تطلّعاتها و أهدافها بروحيّة الإيمان الصّادق،لأنّهم دخلوه بصفته الشّكليّة دون امتلاك عمق المضمون الرّوحيّ المنفتح على اللّه،و لهذا كانوا يأخذون من انتمائهم إلى الإسلام المكاسب الّتي تمنحهم إيّاها هذه الصّفة،و يبتعدون عن المسئوليّات الصّعبة في مواقع الجهاد و التّضحية و العطاء،كما هو شأن كثير ممّن يندمجون في المجتمعات القائمة على المبادئ التّغييريّة،و يتجمّدون في داخل شئونهمه.

ص: 142


1- كذا و الظّاهر قبل وقوعها.أو بإخبار النّبيّ قبل وقوعه.

الخاصّة فيها،و يعملون على تجميد الحياة من حولهم، و تعطيل المبادرات الحركيّة في ساحتهم،و يثيرون المشاكل في السّاحة العامّة.

فقد تخلّف هؤلاء عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما استنفرهم، فلم يستجيبوا لندائه،بل حاولوا الابتعاد عن المسيرة، و كان ممّا قالوه:إنّ محمّدا و من معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم فقتلوهم قتلا ذريعا، و أنّهم لن يرجعوا من هذه السّفرة،و لن ينقلبوا إلى ديارهم و أهلهم أبدا.

و في هذه الآيات،حديث عن هؤلاء المخلّفين من الأعراب الّذين قيل:إنّهم من الأعراب المقيمين حول المدينة من قبائل جهينة و مزينة و غفار و أشجع و أسلم و دئل،و عن منطقهم التّبريريّ في تخلّفهم عن الخروج مع النّبيّ،بعد رجوعه إلى المدينة،و ظهور الخلل في موقفهم،و الضّعف في إيمانهم.(21:108)

3-و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ. الفتح:15

المخلّفين

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ... الفتح:16

ابن عبّاس: ديل و أشجع و قوم من مزينة و جهينة.(433)

الماورديّ: هؤلاء المخلّفون هم أحد أصناف المنافقين،لأنّ اللّه تعالى صنّف المنافقين من أهل المدينة و من حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف:

منهم:من أعلم أنّه لا يؤمن،و أوعدهم العذاب في الدّنيا مرّتين،ثمّ العذاب العظيم في الآخرة،و ذلك قوله: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ... التّوبة:101.

و منهم:من اعترف بذنبه و تاب،و هم من قال اللّه فيهم: وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً... التّوبة:102.

و منهم:من وقفوا بين الرّجاء لهم و الخوف عليهم، بقوله تعالى: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ التّوبة:106،فهؤلاء المخاطبون بقوله: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ دون الصّنفين المتقدّمين،لتردّدهم بين أمرين.(5:315)

الطّوسيّ: أي لهؤلاء المخلّفين الّذين تخلّفوا عنك في الخروج إلى الحديبيّة.(9:324)

نحوه الزّمخشريّ.(3:545)

الفخر الرّازيّ: كان المخلّفون جمعا كثيرا،من قبائل متشعّبة،دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم، فإنّهم لم يبقوا على ذلك،و لم يكونوا من الّذين مردوا على النّفاق،بل منهم من حسن حاله و صلح باله.

(28:91)

الآلوسيّ: كرّر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذّمّ،و إشعارا بشناعة التّخلّف.(26:102)

ابن عاشور :انتقال إلى طمأنة المخلّفين بأنّهم سينالون مغانم في غزوات آتية،ليعلموا أنّ حرمانهم

ص: 143

من الخروج إلى خيبر مع جيش الإسلام ليس لانسلاخ الإسلام عنهم،و لكنّه لحكمة نوط المسبّبات بأسبابها على طريقة حكمة الشّريعة،فهو حرمان خاصّ بوقعة معيّنة-كما تقدّم آنفا-و أنّهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين،كما تدعى طوائف المسلمين،فذكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرّة بعد الحزن،ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جرّاء الحرمان.

و في هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التّخلّف عن الحديبيّة،و كلّ ذلك دالّ على أنّهم لم ينسلخوا عن الإيمان،أ لا ترى أنّ اللّه لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة،في قوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ التّوبة:83.(26:143)

يخالفون

...فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. النّور:63

أبو عبيدة :مجازه:يخالفون أمره سواء،و(عن) زائدة.(2:69)

القمّيّ: أي يعصون أمره.(2:110)

الطّوسيّ: حذّرهم من مخالفة رسوله بقوله:

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، و إنّما دخلت (عن)في قوله: عَنْ أَمْرِهِ، لأنّ المعنى يعرضون عن أمره.و في ذلك دلالة على أنّ أوامر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على الإيجاب،لأنّها لو لم تكن كذلك لما حذّر من مخالفته.

و ليس المخالف هو أن يفعل خلاف ما أمره فقط،لأنّ ذلك ضرب من المخالفة.و قد يكون مخالفا بألاّ يفعل ما أمره به،و لو كان الأمر على النّدب لجاز تركه، و فعل خلافه.(7:466)

نحوه الطّبرسيّ.(4:158)

الزّمخشريّ: يقال:خالفه إلى الأمر،إذا ذهب إليه دونه،و منه قوله تعالى: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ هود:88،و خالفه عن الأمر،إذا صدّ عنه دونه،و معنى: اَلَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الّذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين و هم المنافقون،فحذف المفعول،لأنّ الغرض ذكر المخالف و المخالف عنه.

(3:79)

الفخر الرّازيّ: ففيه مسائل:المسألة الأولى:قال الأخفش:(عن)صلة،و المعنى يخالفون أمره،و قال غيره:معناه يعرضون عن أمره و يميلون عن سنّته، فدخلت(عن)لتضمين المخالفة معنى الإعراض.

المسألة الثّانية:كما تقدّم ذكر الرّسول فقد تقدّم ذكر اللّه تعالى،لكنّ القصد هو الرّسول،فإليه ترجع الكناية،و قال أبو بكر الرّازي:الأظهر أنّها للّه تعالى، لأنّه يليه،و حكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدّمها.

المسألة الثّالثة:الآية تدلّ على أنّ ظاهر الأمر للوجوب،و وجه الاستدلال به أن نقول:تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر،و مخالف الأمر مستحقّ للعقاب،

ص: 144

فتارك المأمور به مستحقّ للعقاب،و لا معنى للوجوب إلاّ ذلك.إنّما قلنا:إنّ تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر،لأنّ موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، و المخالفة ضدّ الموافقة،فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه،فثبت أنّ تارك المأمور به مخالف و إنّما قلنا:إنّ مخالف الأمر مستحقّ للعقاب،لقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب،و الأمر بالحذر عن العقاب إنّما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العقاب،فثبت أنّ مخالف أمر اللّه تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقّه ما يقتضي نزول العذاب.

فإن قيل:لا نسلّم أنّ تارك المأمور به مخالف للأمر، قوله:موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، و مخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه.

قلنا:لا نسلّم أنّ موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه،فما الدّليل عليه؟ثمّ إنّا نفسّر موافقة الأمر بتفسيرين:

أحدهما:أنّ موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الّذي يقتضيه الأمر،فإنّ الأمر لو اقتضاه على سبيل النّدب و أنت تأتي به على سبيل الوجوب،كان ذلك مخالفة للأمر.

الثّاني:أنّ موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقّا واجب القبول.فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقّا واجب القبول،سلّمنا أنّ ما ذكرته يدلّ على أنّ مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه،لكنّه معارض بوجوه أخر،و هو أنّه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر،لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر اللّه تعالى،و ذلك باطل.و إلاّ لاستحقّ العقاب على ما بيّنتموه في المقدّمة الثّانية.

سلّمنا أنّ تارك المأمور به مخالف للأمر،فلم قلت:

إنّ مخالف الأمر مستحقّ للعقاب،لقوله تعالى:

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ؟

قلنا:لا نسلّم أنّ هذه الآية دالّة على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر،بل هي دالّة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر،فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟سلّمنا ذلك،لكنّها دالّة على أنّ المخالف عن الأمر يلزمه الحذر،فلم قلت:إنّ مخالف الأمر لا يلزمه الحذر؟

فإن قلت:لفظة(عن)صلة زائدة،فنقول:الأصل في الكلام-لا سيّما في كلام اللّه تعالى-أن لا يكون زائدا.سلّمنا دلالة الآية على أنّ مخالف أمر اللّه تعالى مأمور بالحذر عن العذاب،فلم قلت:إنّه يجب عليه الحذر عن العذاب؟أقصى ما في الباب أنّه ورد الأمر به لكن لم قلت:إنّ الأمر للوجوب؟و هذا أول المسألة.

فإن قلت:هب أنّه لا يدلّ على وجوب الحذر، لكن لا بدّ و أن يدلّ على حسن الحذر،و حسن الحذر إنّما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب.

قلت:لا نسلّم أنّ حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب،بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب،و لهذا يحسن الاحتياط.و عندنا مجرّد الاحتمال قائم،لأنّ هذه المسألة احتماليّة لا قطعيّة.

سلّمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول

ص: 145

العقاب،لكن لا في كلّ أمر بل في أمر واحد،لأنّ قوله:

عَنْ أَمْرِهِ لا يفيد إلاّ أمرا واحدا،و عند ما أنّ أمرا واحدا يفيد الوجوب،فلم قلت:إنّ كلّ أمر كذلك؟ سلّمنا أنّ كلّ أمر كذلك،لكنّ الضّمير في قوله: عَنْ أَمْرِهِ يحتمل عوده إلى اللّه تعالى و عوده إلى الرّسول، و الآية لا تدلّ إلاّ على أنّ الأمر للوجوب في حقّ أحدهما،فلم قلتم:إنّه في حقّ الآخر كذلك؟

الجواب:قوله:لم قلتم:إنّ موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه؟

قلنا:الدّليل عليه أنّ العبد إذا امتثل أمر السّيّد، حسن أن يقال:إنّ هذا العبد موافق للسّيّد و يجري على وفق أمره،و لو لم يمتثل أمره يقال:إنّه ما وافقه بل خالفه،و حسن هذا الإطلاق معلوم بالضّرورة من أهل اللّغة،فثبت أنّ موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه.

قوله:الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الّذي يقتضيه الأمر.قلنا:لمّا سلّمتم أنّ موافقة الأمر لا تحصل إلاّ عند الإتيان بمقتضى الأمر، فنقول:لا شكّ أنّ مقتضى الأمر هو الفعل،لأنّ قوله:

افعل،لا يدلّ إلاّ على اقتضاء الفعل،و إذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر،فلا توجد الموافقة، فوجب حصول المخالفة،لأنّه ليس بين الموافقة و المخالفة واسطة.

قوله:الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقّا واجب القبول.

قلنا:هذا لا يكون موافقة للأمر،بل يكون موافقة للدّليل الدّالّ على أنّ ذلك الأمر حقّ،فإنّ موافقة الشّيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه، فإذا دلّ على حقّيّة الشّيء كان الاعتراف بحقّيّته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدّليل.أمّا الأمر فلمّا اقتضى دخول الفعل في الوجود،كانت موافقته عبارة عمّا يقرّر ذلك الدّخول،و إدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود،فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه.

قوله:لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفا، فوجب أن يستحقّ العقاب.

قلنا:هذا الإلزام إنّما يصحّ أن لو كان المندوب مأمورا به و هو ممنوع.

قوله:لم لا يجوز أن يكون قوله:(فليحذر)أمرا بالحذر عن المخالف لا أمرا للمخالف بالحذر؟

قلنا:لو كان كذلك،لصار التّقدير:فليحذر المتسلّلون لواذا عن الّذين يخالفون أمره،و حينئذ يبقى قوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ضائعا،لأنّ الحذر ليس فعلا يتعدّى إلى مفعولين.

قوله:كلمة(عن)ليست بزائدة.

قلنا:ذكرنا اختلاف النّاس فيها في المسألة الأولى.

قوله:لم قلتم:إنّ قوله:(فليحذر)يدلّ على وجوب الحذر عن العقاب؟

قلنا:لا ندّعي وجوب الحذر،و لكن لا أقلّ من جواز الحذر،و ذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب.

قوله:لم قلت:إنّ الآية تدلّ على أنّ كلّ مخالف

ص: 146

للأمر يستحقّ العقاب؟

قلنا:لأنّه تعالى رتّب نزول العقاب على المخالفة، فوجب أن يكون معلّلا به،فيلزم عمومه لعموم العلّة.

قوله:هب أنّ أمر اللّه أو أمر رسوله للوجوب،فلم قلتم:إنّ الأمر كذلك؟

قلنا:لأنّه لا قائل بالفرق،و اللّه أعلم.(24:40)

البيضاويّ: يخالفون أمره بترك مقتضاه، و يذهبون سمتا خلاف سمته.و(عن)لتضمّنه معنى الإعراض أو يصدّون عن أمره دون المؤمنين،من خالفه عن الأمر إذا صدّ عنه دونه.و حذف المفعول، لأنّ المقصود بيان المخالف و المخالف عنه، و الضّمير ل«اللّه»تعالى،فإنّ الأمر له في الحقيقة أو للرّسول،فإنّه المقصود بالذّكر.(2:136)

الآلوسيّ: المخالفة،كما قال الرّاغب:أن يأخذ كلّ واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله.

و الأكثر استعمالها بدون(عن)،فيقال:خالف زيد عمرا.و إذا استعملت ب(عن)فذاك على تضمين معنى الإعراض.و قيل:الخروج،أي يخالفون معرضين أو خارجين عن أمره.

و قال ابن الحاجب:عدّي(يخالفون)ب(عن) لما في المخالفة من معنى التّباعد و الحيد،كأنّه قيل:

الّذين يحيدون عن أمره بالمخالفة،و هو أبلغ من أن يقال:يخالفون أمره.

و قيل:على تضمين معنى الصّدّ.و قيل:إذا عدّي ب(عن)يراد به الصّدّ دون تضمين.و يتعدّى إلى مفعول بنفسه،يقال:خالف زيدا عن الأمر،أي صدّه عنه،و المفعول عليه هنا محذوف،أي يخالفون المؤمنين، أي يصدّونهم عن أمره.و حذف المفعول،لأنّ المراد تقبيح حال المخالف و تعظيم أمر المخالف عنه،فذكر الأهمّ و ترك ما لا اهتمام به.و قد يتعدّى ب«إلى»، فيقال:خالف إليه،إذا أقبل نحوه.

و قال ابن عطيّة:«(عن)هنا بمعنى بعد و المعنى يقع خلافهم بعد أمره،كما تقول:كان المطر عن ريح، و أطعمته عن جوع»و قال أبو عبيدة و الأخفش:هي زائدة،أي يخالفون أمره.و ضمير أمره ل«اللّه»عزّ و جلّ،فإنّ الأمر له سبحانه في الحقيقة،أو للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنّه المقصود بالذّكر.و الأمر له قيل:الطّلب أو الشّأن،أو ما يعمّهما.و لا يخفى أنّ في تجويز كلّ على كلّ من الاحتمالين في الضّمير نظرا فلا تغفل.

و قرئ: (يخلّفون) بالتّشديد،أي يخلفون أنفسهم عن أمره.(18:226)

ابن عاشور :المخالفة:المغايرة في الطّريق الّتي يمشي فيها،بأن يمشي الواحد في طريق غير الطّريق الّذي مشى فيه الآخر،ففعلها متعدّ.و قد حذف مفعوله هنا لظهور أنّ المراد:الّذين يخالفون اللّه.

و تعدية فعل المخالفة بحرف(عن)،لأنّه ضمّن معنى الصّدود،كما عدّي ب«إلى»في قوله تعالى: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ هود:88،لمّا ضمّن معنى الذّهاب.يقال:خالفه إلى الماء،إذا ذهب إليه دونه،و لو تركت تعديته بحرف جرّ لأفاد أصل المخالفة في الغرض المسوق له الكلام.(18:249)

ص: 147

اخالفكم

وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ... هود:88

ابن عبّاس: يقول:ما أريد أن أفعل ما أنهاكم عنه من البخس في الكيل و الوزن.(190)

قتادة :لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه.

(الطّبريّ 7:102)

نحوه الثّعلبيّ(5:186)،و البغويّ(2:462).

الطّبريّ: يقول:و ما أريد أن أنهاكم عن أمر،ثمّ أفعل خلافه،بل لا أفعل إلاّ ما آمركم به،و لا أنتهي إلاّ عمّا أنهاكم عنه.(7:102)

نحوه الماورديّ(2:497)،و القرطبيّ(9:89).

الزّجّاج: أي لست أنهاكم عن شيء و أدخل فيه، و إنّما أختار لكم ما أختار لنفسي،و معنى:«ما أخالفك إليه»،أي ما أقصد بخلافك القصد إلى أن أرتكبه.(3:73)

الطّوسيّ: قيل:في معناه قولان:

أحدهما:ليس نهيي لكم لمنفعة أجرّها إلى نفسي بما تتركون من منع الحقوق.

و الثّاني:إنّي لا أنهى عن القبيح و أفعله،بمثل من ليس بمستبصر في أمره.[ثمّ استشهد بشعر](6:51)

نحوه الطّبرسيّ.(3:188)

القشيريّ: يمكن للواعظ أو النّاصح أن يساهل المأمور في كلّ ما يأمره به،و لكن يجب ألاّ يجيز له ما ينهاه عنه.فإنّ الإتيان بجميع الطّاعات غير ممكن، و لكنّ التّجرّد عن جميع المحرّمات واجب.

و يقال:من لم يكن له حكم على نفسه في المنع عن الهوى،لم يكن له حكم على غيره فيما يرشده إليه من الهدى.(3:152)

الزّمخشريّ: يقال:خالفني فلان إلى كذا،إذا قصده و أنت مولّ عنه،و خالفني عنه،إذا ولّى عنه و أنت قاصده.و يلقاك الرّجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه،فيقول:خالفني إلى الماء،يريد أنّه قد ذهب إليه واردا و أنا ذاهب عنه صادرا.و منه قوله تعالى: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم الّتي نهيتكم عنها،لأستبدّ بها دونكم.(2:287)

نحوه النّسفيّ(2:201)،و الآلوسيّ(12:120).

ابن عطيّة: و لست أريد أن أفعل الشّيء الّذي نهيتكم عنه،من نقص الكيل و الوزن،فأستأثر بالمال لنفسي.(3:201)

الفخر الرّازيّ: [نقل قول الكشّاف و أضاف:]

فهذا بيان اللّغة،و تحقيق الكلام فيه:أنّ القوم اعترفوا بأنّه حليم رشيد؛و ذلك يدلّ على كمال العقل،و كمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطّريق الأصوب الأصلح،فكأنّه عليه السّلام قال لهم:لمّا اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أنّ الّذي اختاره عقلي لنفسي لا بدّ و أن يكون أصوب الطّرق و أصلحها، و الدّعوة إلى توحيد اللّه تعالى و ترك البخس و النّقصان يرجع حاصلهما إلى جزءين:التّعظيم لأمر اللّه تعالى،و الشّفقة على خلق اللّه تعالى،و أنا مواظب

ص: 148

عليهما،غير تارك لهما في شيء من الأحوال البتّة، فلمّا اعترفتم لي بالحلم و الرّشد،و ترون أنّي لا أترك هذه الطّريقة،فاعلموا أنّ هذه الطّريقة خير الطّرق، و أشرف الأديان و الشّرائع.(18:46)

البيضاويّ: أي و ما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبدّ به دونكم،فلو كان صوابا لآثرته و لم أعرض عنه،فضلا عن أن أنهى عنه.يقال:خالفت زيدا إلى كذا،إذا قصدته و هو مولّ عنه،و خالفته عنه،إذا كان الأمر بالعكس.(1:478)

نحوه أبو السّعود(3:343)،و الكاشانيّ(2:469) و البروسويّ(4:174).

أبو حيّان :...و قال صاحب«الغنيان»:ما أريد أن أخالفكم في السّرّ إلى ما أنهاكم عنه في العلانية.[ثمّ ذكر نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

فعلى هذا،الظّاهر أنّ قوله: أَنْ أُخالِفَكُمْ في موضع المفعول ل(اريد،)أي و ما أريد مخالفتكم، و يكون«خالف»بمعنى خلف،نحو:جاوز و جاز،أي و ما أريد أن أخلفكم،أي أكون خلفا منكم.و تتعلّق (الى)ب(اخالفكم،)أو بمحذوف،أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه،و لذلك قال بعضهم:فيه حذف يقتضيه (الى)،تقديره:و أميل إلى،أو يبقى أَنْ أُخالِفَكُمْ على ظاهر ما يفهم من المخالفة،و يكون في موضع المفعول به ب(اريد)،و تقدّر:مائلا إلى،أو يكون أَنْ أُخالِفَكُمْ مفعولا من أجله،و تتعلّق(الى)بقوله:

وَ ما أُرِيدُ، بمعنى:و ما أقصد،أي و ما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه،و لذلك قال الزّجّاج:

و ما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.

(5:254)

ابن عاشور :معنى وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ عند جميع المفسّرين من التّابعين فمن بعدهم:ما أريد ممّا نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالا و أنا أفعلها،أي لم أكن لأنهاكم عن شيء و أنا أفعله.و بيّن في«الكشّاف»إفادة التّركيب هذا المعنى بقوله:«يقال:

خالفني فلان إلى كذا،إذا قصده...».

و بيانه أنّ المخالفة تدلّ على الاتّصاف بضدّ حاله، فإذا ذكرت في غرض دلّت على الاتّصاف بضدّه،ثمّ يبيّن وجه المخالفة بذكر اسم الشّيء الّذي حصل به الخلاف مدخولا لحرف«إلى»الدّالّ على الانتهاء إلى شيء،كما في قولهم:خالفني إلى الماء،لتضمين (اخالفكم)معنى السّعي إلى شيء.و يتعلّق إِلى ما أَنْهاكُمْ بفعل أُخالِفَكُمْ، و يكون أَنْ أُخالِفَكُمْ مفعول(اريد).

فقوله: أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أن أفعل خلاف الأفعال الّتي نهيتكم عنها،بأن أصرفكم عنها و أنا أصير إليها.و المقصود:بيان أنّه مأمور بذلك أمرا يعمّ الأمّة و إيّاه؛و ذلك شأن الشّرائع،كما قال علماؤنا:إنّ خطاب الأمّة يشمل الرّسول عليه الصّلاة و السّلام ما لم يدلّ دليل على تخصيصه بخلاف ذلك.

ففي هذا إظهار أنّ ما نهاهم عنه ينهى أيضا نفسه عنه.

و في هذا تنبيه لهم على ما في النّهي من المصلحة،و على أنّ شأنه ليس شأن الجبابرة الّذين ينهون عن أعمال و هم يأتونها،لأنّ مثل ذلك ينبئ بعدم النّصح فيما

ص: 149

يأمرون و ينهون؛إذ لو كانوا يريدون النّصح و الخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم.و إلى هذا المعنى يرمي التّوبيخ في قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ البقرة:44،أي و أنتم تتلون كتاب الشّريعة العامّة لكم،أ فلا تعقلون،فتعلموا أنّكم أولى بجلب الخير لأنفسكم.

و الّذي يظهر لي في معنى الآية أنّ المراد من المخالفة:المعاكسة و المنازعة:إمّا لأنّه عرف من ملامح تكذيبهم أنّهم توهّموه ساعيا إلى التّملّك عليهم و التّجبّر،و إمّا لأنّه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشّرّ قبل أن تهجس فيها.

و هذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التّركيب و مقاصد الرّسل،و هو أشمل للمعاني من تفسير المتقدّمين،فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه، لأنّه لا يقابل قول قومه: أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا هود:87، إنّهم ظنّوا به أنّه ما قصد إلاّ مخالفتهم و تخطئتهم،و نفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه،فكان مقتضى إبطال ظنّتهم أن ينفي أن يريد مجرّد مخالفتهم،بدليل قوله عقبه: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.

فمعنى قوله: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ أنّه ما يريد مجرّد المخالفة،كشأن المنتقدين المتقعّرين،و لكن يخالفهم لمقصد سام،و هو إرادة إصلاحهم.

فهذا التّفسير له وجه وجيه في هذه الآية.و في هذا ما يدلّ على أنّ المنتقدين قسمان:قسم ينتقد الشّيء و يقف عند حدّ النّقد،دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود.و قسم ينتقد ليبيّن وجه الخطإ،ثمّ يعقبه ببيان ما يصلح خطأه.و على هذا الوجه يتعلّق إِلى ما أَنْهاكُمْ بفعل أُرِيدُ، و كذلك أَنْ أُخالِفَكُمْ، يتعلّق ب أُرِيدُ على حذف حرف لام الجرّ، و التّقدير:ما أريد إلى النّهي لأجل أن أخالفكم،أي لمحبّة خلافكم.(11:314)

الطّباطبائيّ: تعدية المخالفة ب(الى)لتضمينه معنى ما يتعدّى بها كالميل و نحوه،و التّقدير:أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه،أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.

و الجملة جواب عن ما اتّهموه به أنّه يريد أن يسلب عنهم الحرّيّة في أعمالهم،و يستعبدهم و يتحكّم عليهم.و محصّله أنّه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه،و هو لا يريد مخالفتهم،فلا يريد ما اتّهموه به،و إنّما يريد الإصلاح ما استطاع.

توضيحه:إنّ الصّنع الإلهيّ و إن أنشأ الانسان مختارا في فعله حرّا في عمله،له أن يميل في مظانّ العمل إلى كلّ من جانبي الفعل و التّرك،فله بحسب هذه النّشأة حرّيّة تامّة بالقياس إلى بني نوعه الّذين هم أمثاله و أشباهه في الخلقة،لهم ما له،و عليهم ما عليه، فليس لأحد أن يتحكّم على آخر عن هوى من نفسه.

إلاّ أنّه أفطره على الاجتماع،فلا تتمّ له الحياة إلاّ في مجتمع من أفراد النّوع،يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع،ثمّ يختصّ كلّ منهم بما له من نصيب، بمقدار ما له من الزّنة الاجتماعيّة.و من البديهيّ أنّ

ص: 150

الاجتماع لا يقوم على ساق إلاّ بسنن و قوانين تجرى فيها،و حكومة يتولاّها بعضهم تحفظ النّظم و تجري القوانين،كلّ ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.

فلا مناص من أن يفدي المجتمعون بعض حرّيّتهم قبال القانون و السّنّة الجارية بالحرمان من الانطلاق و الاسترسال،ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم، و إحياء البعض الباقي من حرّيّتهم.

فالإنسان الاجتماعيّ لا حرّيّة له قبال المسائل الحيويّة الّتي تدعو إليه مصالح المجتمع و منافعه،و الّذي يتحكّمه الحكومة في ذلك من الأمر و النّهي ليس من الاستعباد و الاستكبار في شيء؛إذ أنّها إنّما يتحكّم فيما لا حرّيّة للإنسان الاجتماعيّ فيه،و كذا الواحد من النّاس المجتمعين-إذا رأى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضرّ بحال المجتمع،أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسيّة فيها،فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتّباع سبيل الرّشد،فأمرهم بما يجب عليهم العمل به،و نهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه-لم يكن هذا الواحد متحكّما عن هوى النّفس،مستعبدا للأحرار المجتمعين من بني نوعه، فإنّه لا حرّيّة لهم قبال المصالح العالية و الأحكام اللاّزمة المراعاة في مجتمعهم،و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر و النّهي في هذا الباب أمرا أو نهيا له في الحقيقة، بل كان أمرا و نهيا ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة، قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيّته الوسيعة،و إنّما الواحد الّذي يلقي إليهم الأمر و النّهي بمنزلة لسان ناطق،لا يزيد على ذلك.

و أمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به،و ينتهي هو نفسه عمّا ينهى عنه،من غير أن يخالف قوله فعله و نظره عمله؛إذ الإنسان مطبوع على التّحفّظ على منافعه و رعاية مصالحه،فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير-و هو مشترك بينهما-لم يخالفه بشخصه،و لم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره،و لذلك قال عليه السّلام فيما ألقاه إليهم من الجواب: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، و قال أيضا-كما حكاه اللّه تتميما للفائدة،و دفعا لأيّ تهمة تتوجّه إليه-:

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ الشّعراء:180.

فهو عليه السّلام يشير بقوله: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ...

إلى أنّ الّذي ينهاهم عنه من الأمور الّتي فيها صلاح مجتمعهم الّذي هو أحد أفراده،و يجب على الجميع مراعاتها و ملازمتها،و ليس اقتراحا استعباديّا عن هوى من نفسه،و لذلك عقّبه بقوله: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.

و ملخّص المقام:أنّهم لمّا سمعوا من شعيب عليه السّلام الدّعوة إلى ترك عبادة الأصنام و التّطفيف،ردّوه بأنّ ذلك اقتراح منه،مخالف لما هم عليه من الحرّيّة الإنسانيّة الّتي تسوّغ لهم أن يعبدوا من شاءوا و يفعلوا في أموالهم ما شاءوا.

فردّ عليهم شعيب عليه السّلام بأنّ الّذي يدعوهم إليه

ص: 151

ليس من قبل نفسه حتّى ينافي مسألتهم ذلك حرّيّتهم، و يبطل به استقلالهم في الشّعور و الإرادة،بل هو رسول من ربّهم إليهم،و له على ذلك آية بيّنة،و الّذي أتاهم به من عند اللّه الّذي يملكهم و يملك كلّ شيء، و هم عباده لا حرّيّة لهم قباله،و لا خيرة لهم فيما يريده منهم.

على أنّ الّذي ألقاه إليهم،من الأمور الّتي فيها صلاح مجتمعهم و سعادة أنفسهم في الدّنيا و الآخرة.

و أمارة ذلك أنّه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، بل هو مثلهم في العمل به،و إنّما يريد الإصلاح ما استطاع،و لا يريد منهم على ذلك أجرا،إن أجره إلاّ على ربّ العالمين.(10:367)

مكارم الشّيرازيّ: لا تتصوّروا أنّني أقول لكم لا تبخسوا النّاس أشياءهم و لا تنقصوا المكيال و أنا أبخس النّاس أو أنقص المكيال،أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان و أنا أفعل ذلك كلّه،كلاّ،فإنّني لا أفعل شيئا من ذلك أبدا.

و يستفاد من هذه الجملة أنّهم كانوا يتّهمون شعيبا بأنّه كان يريد الرّبح لنفسه،و لهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحة،و يقول تعقيبا على ما سبق: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ. (7:39)

فضل اللّه :فلم أنهكم عن شيء إلاّ و قد ألزمت نفسي بتركه،انطلاقا من قناعتي بما يتضمّنه من المفسدة،و ما يؤدّي إليه من الضّرر.و بذلك فإنّ موقفي ينطلق من موقع القناعة و الإيمان،لا من موقع الرّغبة في التّحكّم بكم،و التّضييق عليكم،و التّقييد لحرّيّتكم،كما تزعمون.لأجل ذلك كان لا بدّ لي من إثارة الفكرة أمامكم،لحثّكم على الدّخول معي في نقاش فكري حولها،و لكنّكم واجهتم المسألة باللاّمبالاة،و ابتعدتم عن مسئوليّة ما تحملونه من عقيدة،و ما يلقى عليكم من فكر،فاستسلمتم لعقائد آبائكم الّتي لا ترتكز على أساس،و لحرّيّة الأهواء الّتي لا تخضع لقاعدة،فوقفتم هذا الموقف السّلبيّ السّاخر المتعنّت.إنّ ذلك شأنكم في التّصرّف الّذي سوف تتحمّلون مسئوليّته أمام اللّه في الدّنيا و الآخرة.

أمّا أنا فسأبقى في ساحة الرّسالة من أجلكم،لأقدّم لكم النّصح الّذي يصلح أمر دنياكم و آخرتكم.

(12:119)

خلافك

وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً. الإسراء:76

أبو عبيدة :أي بعدك.[ثمّ استشهد بشعر](1:387)

نحوه ابن قتيبة.(259)

الطّبريّ: يقول:و لو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلاّ قليلا،حتّى أهلكهم بعذاب عاجل.

(8:121)

ابن الأنباريّ: معنى الكلام لا يلبثون على خلافك و مخالفتك،فسقط حرف الخفض

(ابن الجوزيّ 5:70)

النّحّاس: قال أهل التّفسير:(خلافك)أي بعدك.

ص: 152

و حكي عن العرب:جاء فلان خلف فلان و خلافه،أي بعده.و قد يجيء«خلاف»بمعنى مخالفة.

(4:180)

الماورديّ: يعني بعدك.يقال:خلفك و خلافك، و قد قرئا جميعا بمعنى بعدك.[ثمّ استشهد بشعر]

(3:261)

الطّوسيّ: قرأ ابن عامر و أهل الكوفة إلاّ أبا بكر (خلافك،)الباقون (خلفك) ،فمن قرأ (خلفك) فلقوله: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها البقرة:66،و قوله: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ التّوبة:82،أي لمخالفتهم إيّاه.و من قرأ(خلافك) قال:بعدك؛و خلفك و خلافك بمعنى واحد.(6:507)

ابن عطيّة: [نحو الطّوسيّ و أضاف:]

و هذه اللّفظة قد لزم حذف المضاف،لأنّ التّقدير في آياتنا خلاف خروجك.قال أبو عليّ:أصابوا هذه الظّروف تضاف إلى أسماء الأعيان الّتي ليست أحداثا، فلم يستحبّوا إضافتها إلى غير ما جرى عليه كلامهم، كما أنّها لمّا جرت منصوبة في كلامهم تركوها على حالها إذا وقعت في غير موضع النّصب،كقوله تعالى:

وَ أَنّا مِنَّا الصّالِحُونَ وَ مِنّا دُونَ ذلِكَ الجنّ:11، و قوله: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ الممتحنة:3.

(3:476)

ابن الجوزيّ: قرأ ابن كثير،و نافع،و أبو عمرو، و أبو بكر عن عاصم (خلفك) .و قرأ ابن عامر،و حمزة، و الكسائيّ،و حفص عن عاصم(خلافك).قال الأخفش: خِلافَكَ في معنى خلفك،و المعنى:

لا يلبثون بعد خروجك إلاّ قليلا،أي لو أخرجوك لأستأصلناهم بعد خروجك بقليل...

و قرأ أبو رزين،و أبو المتوكّل: «خلاّفك» بضمّ الخاء،و تشديد اللاّم،و رفع الفاء.(5:70)

الآلوسيّ: (خلافك)أي بعدك.و به قرأ عطاء بن رباح،و استحسن أنّها تفسير لا قراءة،لمخالفتها سواد المصحف.[ثمّ استشهد بشعر]

و قرأ أهل الحجاز،و أبو بكر،و أبو عمرو:

(خلفك)بغير ألف،و المعنى واحد،و اللّفظان في الأصل من الظّروف المكانيّة،فتجوّز فيهما و استعملا للزّمان، و قد اطّرد إضافتهما كقبل و بعد إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدلّ عليه ما قبله،أي لا يلبثون خلف استفزازك و خروجك.(15:130)

ابن عاشور :...و(خلفك)أريد به بعدك.و أصل الخلف:الوراء،فاستعمل مجازا في البعديّة،أي لا يلبثون بعدك.(14:141)

اختلف-اختلفوا

1- كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ البقرة:213

ابن مسعود: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ، أي في محمّد.

(ابن الجوزيّ 1:230)

ص: 153

أبو هريرة: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أراد«الجمعة»، لأنّ أهل الكتاب اختلفوا فيها فضلّوا عنها،فجعلها اليهود السّبت،و جعلها النّصارى الأحد،فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا من الحقّ بإذنه،فهدى اللّه الّذين آمنوا إليها.(الماورديّ 1:272)

ابن عبّاس: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ في الدّين...

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ في الدّين و محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم... لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الاختلاف في الدّين.(29)

زيد بن أسلم: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اختلفوا، فاتّخذت اليهود السّبت،و النّصارى الأحد،فهدى اللّه أمّة محمّد للجمعة.(النّحّاس 1:163)

مقاتل: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الدّين.(1:181)

ابن زيد :اختلفوا في الصّلاة:فمنهم من يصلّي إلى المشرق،و منهم من يصلّي إلى المغرب،و منهم من يصلّي إلى بيت المقدس؛فهدانا اللّه للكعبة.

و اختلفوا في الصّيام:فمنهم من يصوم بعض يوم، و منهم من يصوم بعض ليلة،فهدانا اللّه لشهر رمضان.

و اختلفوا في يوم الجمعة:أخذت اليهود السّبت، و أخذت النّصارى الأحد،فهدانا اللّه له.

و اختلفوا في إبراهيم:فقالت اليهود:كان يهوديّا، و قالت النّصارى:كان نصرانيّا،فهدانا اللّه للحقّ من ذاك.

و اختلفوا في عيسى:فجعلته اليهود ابنا،و جعلته النّصارى ربّا،فهدانا اللّه منه للحقّ.(الثّعلبيّ 2:134)

الفرّاء: ففيها معنيان:

أحدهما:أن تجعل اختلافهم كفر بعضهم بكتاب بعض...

و الوجه الآخر:أن تذهب باختلافهم إلى التّبديل كما بدّلت التّورة،ثمّ قال: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا به للحقّ ممّا اختلفوا فيه.و جاز أن تكون«اللاّم»في الاختلاف و(من)في الحقّ،كما قال اللّه تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ البقرة:171،و المعنى- و اللّه أعلم-كمثل المنعوق به،لأنّه وصفهم فقال تبارك و تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ كمثل البهائم.[ثمّ استشهد بشعر](1:131)

أبو زيد : لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ: اختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لفرية[أي أنّه ابن زنى]،و جعلته النّصارى ربّا،فهدى اللّه المؤمنين.(النّحّاس 1:163)

أبو سليمان الدّمشقيّ: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ، أي في الكتاب.(ابن الجوزيّ 1:230)

الزّجّاج: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ أي ما اختلف في أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ الّذين أعطوا علم حقيقته.(1:284)

النّحّاس: أي و ما اختلف في الكتاب إلاّ الّذين أعطوه...

و اختلفوا في القبلة،و اختلفوا في الصّلاة و الصّيام، فمنهم من يصوم عن بعض الطّعام،و منهم من يصوم بعض النّهار.

و اختلفوا في إبراهيم:فهدى اللّه أمّة محمّد للحقّ من ذلك.(1:161)

الماورديّ: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ فيه قولان:

أحدهما:في الحقّ.

ص: 154

و الثّاني:في الكتاب،و هو التّوراة...

لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فيه ثلاثة أقاويل:[إلى أن قال:]

و الثّالث:أنّهم اختلفوا في الكتب المنزلة،فكفر بعضهم بكتاب بعض،فهدانا اللّه للتّصديق بجميعها.

(1:271)

الطّوسيّ: اختلفوا في الدّين الّذي كانوا عليه، فقال ابن عبّاس،و الحسن،و اختاره الجبّائيّ:إنّهم كانوا على الكفر.و قال قتادة،و الضّحّاك:كانوا على الحقّ،فاختلفوا.

فإن قيل:إذا كان الزّمان لا يخلو من حجّة،كيف يجوز أن يجتمعوا كلّهم على الكفر؟

قلنا:يجوز أن يقال ذلك على التّغليب،لأنّ الحجّة إذا كان واحدا أو جماعة يسيرة،لا يظهرون خوفا و تقيّة،فيكون ظاهر النّاس كلّهم الكفر باللّه،فلذلك جاز الإخبار به على الغالب من الحال،و لا يعتدّ بالعدّة القليلة.[إلى أن قال:]

قوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الهاء عائدة على الحقّ،و قيل على الكتاب.و الأوّل أصحّ،لأنّ اختلافهم في الحقّ قبل إنزال الكتاب.

فإن قيل:إذا كانوا مختلفين على إصابة بعضهم له، فكيف يكون الكفر عمّهم به؟

قلنا:لا يمتنع أن يكون الكلّ كفّارا،و بعضهم يكفر من جهة الغلوّ،و بعضهم من جهة التّقصير كما كفرت اليهود،و النّصارى في عيسى عليه السّلام،فقالت النّصارى:

هو ربّ،فغالوا.و قصرت اليهود،فقالوا:كذّاب متخرّص.

فإن قيل:كيف يكون الكلّ كفّارا مع قوله:

فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا؟

قلنا:لا يمتنع أن يكونوا كلّهم كانوا كفّارا،فلمّا بعث اللّه إليهم بالأنبياء مبشّرين،و منذرين اختلفوا، فآمن قوم،و لم يؤمن آخرون.(2:194)

نحوه الطّبرسيّ.(1:306)

الزّمخشريّ: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متّفقين على دين الإسلام فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ يريد:فاختلفوا فبعث اللّه،و إنّما حذف لدلالة قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ عليه.و في قراءة عبد اللّه:

(كان النّاس امّة واحدة فاختلفوا فبعث اللّه) .و الدّليل عليه قوله عزّ و علا: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يونس:19،و قيل:كان النّاس أمّة واحدة كفّارا فبعث اللّه النّبيّين،فاختلفوا عليهم،و الأوّل الوجه.

فإن قلت:متى كان النّاس أمّة واحدة متّفقين على الحقّ؟

قلت:عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:أنّه كان بين آدم و بين نوح عشرة قرون على شريعة من الحقّ فاختلفوا.و قيل:هم نوح و من كان معه في السّفينة... فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ: في الحقّ و دين الإسلام الّذي اختلفوا فيه بعد الاتّفاق، وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ في الحقّ، إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ إلاّ الّذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف،أي ازدادوا في الاختلاف لمّا أنزل عليهم الكتاب،و جعلوا نزول

ص: 155

الكتاب سببا في شدّة الاختلاف...

مِنَ الْحَقِّ: بيان لما اختلفوا فيه،أي فهدى اللّه الّذين آمنوا للحقّ الّذي اختلف فيه من اختلف.

(1:355)

ابن عطيّة: و الضّمير في(فيه)عائد على(ما)من قوله:(فيما)،و الضّمير في(فيه)الثّانية يحتمل العود على الكتاب،و يحتمل على الضّمير الّذي قبله...

و المراد ب اَلَّذِينَ آمَنُوا: من آمن بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالت طائفة:معنى الآية أنّ الأمم كذّب بعضهم كتاب بعض،فهدى اللّه أمّة محمّد التّصديق بجميعها.

و قالت طائفة:إنّ اللّه هدى المؤمنين للحقّ فيما اختلف فيه أهل الكتابين،من قولهم:إنّ إبراهيم كان يهوديّا أو نصرانيّا...

و قال الفرّاء:في الكلام قلب-و اختاره الطّبريّ- قال:و تقديره:فهدى اللّه الّذين آمنوا للحقّ ممّا اختلفوا فيه.و دعاه إلى هذا التّقدير خوف أن يحتمل اللّفظ أنّهم اختلفوا في الحقّ،فهدى اللّه المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه،و عساه غير الحقّ في نفسه،نحا إلى هذا الطّبريّ في حكايته عن الفرّاء.

و ادّعاء القلب على لفظ كتاب اللّه-دون ضرورة تدفع إلى ذلك-عجز و سوء نظر؛و ذلك أنّ الكلام يتخرّج على وجهه و رصفه،لأنّ قول: فَهَدَى يقتضي أنّهم أصابوا الحقّ،و تمّ المعنى في قوله(فيه)، و تبيّن بقوله: مِنَ الْحَقِّ جنس ما وقع الخلاف فيه.

قال المهدويّ: و قدّم لفظ«الخلاف»على لفظ «الحقّ»اهتماما؛إذ العناية إنّما هي بذكر الاختلاف.

و ليس هذا عندي بقويّ.و في قراءة عبد اللّه بن مسعود (لما اختلفوا عنه من الحقّ) ،أي عن الإسلام.

(1:286)

ابن الجوزيّ: ...لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أي لمعرفة ما اختلفوا فيه،أو تصحيح ما اختلفوا فيه.

و في الّذي اختلفوا فيه ستّة أقوال:

أحدها:أنّه الجمعة،جعلها اليهود السّبت، و النّصارى الأحد.فروى البخاريّ و مسلم في الصّحيحين،من حديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة،بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا،و أوتيناه من بعدهم،فهذا يومهم الّذي فرض عليهم،فاختلفوا فيه،فهدانا اللّه له، فاليوم لنا،و غدا لليهود،و بعد غد للنّصارى.

و الثّاني:أنّه الصّلاة،فمنهم من يصلّي إلى المشرق،و منهم من يصلّي إلى المغرب.

و الثّالث:أنّه إبراهيم،قالت اليهود:كان يهوديّا، و قالت النّصارى:كان نصرانيّا.

و الرّابع:أنّه عيسى،جعلته اليهود لفرية.و جعلته النّصارى إلها.

و الخامس:أنّه الكتب،آمنوا ببعضها،و كفروا ببعضها.

و السّادس:أنّه الدّين،-و هو الأصحّ-لأنّ جميع الأقوال داخلة في ذلك.(1:230)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ الهاء في قوله: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يجب أن يكون راجعا إمّا إلى(الكتاب)، و إمّا إلى(الحقّ)،لأنّ ذكرهما جميعا قد تقدّم،لكن

ص: 156

رجوعه إلى(الحقّ)أولى،لأنّ الآية دلّت على أنّه تعالى إنّما أنزل الكتاب،ليكون حاكما فيما اختلفوا فيه.فالكتاب حاكم،و المختلف فيه محكوم عليه، و الحاكم يجب أن يكون مغايرا للمحكوم عليه.

أمّا قوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ فالهاء الأولى راجعة إلى(الحقّ)،و الثّانية إلى (الكتاب)،و التّقدير:و ما اختلف في الحقّ إلاّ الّذين أوتوا الكتاب.ثمّ قال أكثر المفسّرين:المراد بهؤلاء:

اليهود و النّصارى،و اللّه تعالى كثيرا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللّفظ،كقوله: وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ المائدة:5، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ آل عمران:64.

ثمّ المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضا،كقوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ البقرة:113.و يحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم و تبديلهم،فقوله: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ أي و ما اختلف في الحقّ إلاّ الّذين أوتوا الكتاب،مع أنّه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا،و أن يرفعوا المنازعة في الدّين.

و اعلم أنّ هذا يدلّ على أنّ الاختلاف في الحقّ لم يوجد إلاّ بعد بعثة الأنبياء و إنزال الكتب؛و ذلك يوجب أنّ قبل بعثهم ما كان الاختلاف في الحقّ حاصلا،بل كان الاتّفاق في الحقّ حاصلا،و هو يدلّ على أنّ قوله تعالى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً معناه أمّة واحدة في دين الحقّ...(6:16)

البيضاويّ: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ: في الحقّ الّذي اختلفوا فيه،أو فيما التبس عليهم، وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ: في الحقّ أو الكتاب... فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أي للحقّ الّذي اختلف فيه من اختلف، مِنَ الْحَقِّ: بيان لما اختلفوا فيه.(1:113)

نحوه النّسفيّ(1:106)،و النّيسابوريّ(2:214)، و أبو السّعود(1:258)،و البروسويّ(1:329).

أبو حيّان : فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ (فيه)متعلّق ب اِخْتَلَفُوا، و«الهاء»عائدة على(ما)الموصولة، و المراد بها:الدّين و الإسلام،أي ليحكم بين النّاس في الدّين الّذي اختلفوا فيه بعد الاتّفاق.

قيل:و يحتمل أن يكون الّذي اختلفوا فيه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم أو دينه،أو هما،أو كتابه.

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ الضّمير من قوله:

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ يعود على ما عاد عليه في(فيه) الأولى،و قد تقدّم أنّها عائدة على(ما).و شرح ما المعنيّ ب(ما)،أ هو الدّين،أو محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم أم دينه؟أم هما؟ أم كتابه؟

و الضّمير في(اوتوه)عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضّمير في(فيه).و قيل:الضّمير في(فيه)عائد على(الكتاب)،و(اوتوه)عائد أيضا على(الكتاب)، التّقدير:و ما اختلف في الكتاب إلاّ الّذين أوتوه،أي أوتوا الكتاب.

و قال الزّجّاج:الضّمير في(فيه)الثّانية يجوز أن

ص: 157

يعود على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،أي و ما اختلف في النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ الّذين أوتوه،أي أوتوا علم نبوّته،فعلوا ذلك للبغي.

و على هذا يكون(الكتاب):التّوراة،و اَلَّذِينَ أُوتُوهُ: اليهود.

و قيل:الضّمير في(فيه)عائد على(ما اختلفوا فيه)من حكم التّوراة و القبلة و غيرهما.

و قيل:يعود الضّمير في(فيه)على عيسى صلّى اللّه على نبيّنا و عليه.

و قال مقاتل:الضّمير عائد على«الدّين»،أي و ما اختلف في الدّين،انتهى.

و الّذي يظهر من سياق الكلام و حسن التّركيب أنّ الضّمائر كلّها في(اوتوه)و(فيه)الأولى و الثّانية، يعود على(ما)،الموصولة،في قوله: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، و أنّ الّذين اختلفوا فيه مفهومه كلّ شيء اختلفوا فيه،فمرجعه إلى اللّه،بيّنه بما نزّل في الكتاب، أو إلى(الكتاب)،إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلّف،أو إلى النّبيّ يوضّحه بالكتاب على الأقوال الّتي سبقت في الفاعل،في قوله:(ليحكم.)[إلى أن قال:]

فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، اَلَّذِينَ آمَنُوا هم من آمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و الضّمير: فِيمَا اخْتَلَفُوا، عائد على الّذين أوتوه، أي لما اختلف فيه من اختلف،و مِنَ الْحَقِّ تبيين المختلف فيه،و(من)،تتعلّق بمحذوف،لأنّها في موضع الحال من(ما)،فتكون للتّبعيض.و يجوز أن تكون لبيان الجنس،على قول من يرى ذلك،التّقدير:لما اختلفوا فيه،الّذي هو الحقّ.و الأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدّين و الإسلام،و يدلّ عليه قراءة عبد اللّه: (لما اختلفوا فيه من الاسلام) .

و قد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا،و في تعيينه خلاف.[و نقل الأقوال و قول ابن عطيّة،ثمّ قال:]

و هو حسن.و القلب عند أصحابنا يختصّ بضرورة الشّعر،فلا نخرّج كلام اللّه عليه.(2:136)

الآلوسيّ: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحقّ الّذي اختلفوا فيه بناء على أنّ وحدة الأمّة بالاتّفاق على الحقّ،و إذا فسّرت الوحدة بالاتّفاق على الجهالة و الكفر،يكون الاختلاف مجازا عن الالتباس و الاشتباه اللاّزم له،و المعنى:فيما التبس عليهم.

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحقّ،بأن أنكروه و عاندوه،أو في الكتاب المنزل متلبّسا به،بأن حرّفوه و أوّلوه بتأويلات زائغة،و الواو حاليّة.

إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف و إزاحة الشّقاق،أي عكسوا الأمر؛حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه و استحكامه.و بهذا يندفع السّؤال بأنّه لمّا لم يكن الاختلاف إلاّ من الّذين أوتوه،فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة.و حاصله:أنّ المراد هاهنا:استحكام الاختلاف و اشتداده... مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي رسخت في عقولهم الحجج الظّاهرة الدّالّة على الحقّ،و(من)متعلّقة ب(اختلفوا)محذوفا.[ثمّ بحث حول مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إلى أن قال:] فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ

ص: 158

اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي بأمره أو بتوفيقه و تيسيره،و(من) بيان ل(ما)،و المراد:للحقّ الّذي اختلف النّاس فيه، فالضّمير عامّ شامل للمختلفين السّابقين و اللاّحقين، و ليس راجعا إلى اَلَّذِينَ أُوتُوهُ كالضّمائر السّابقة.

و القرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السّابقين على اختلاف أهل الكتاب،و اللاّحقين بعد اختلافهم.[ثمّ أدام الكلام في نقل الأقوال](2:101)

رشيد رضا :الاتيان بهذه القضيّة بعد وصف الأنبياء بالمبشّرين المنذرين،يدلّ على أنّ التّبشير و الإنذار عمل يسبق إنزال الكتب و هو حقّ،لأنّ الأنبياء أوّل ما يبعثون ينبّهون قومهم إلى ما غفلوا عنه، و يحذّرونهم عاقبة ما يكونون فيه،من عادة سيّئة أو خلق قبيح أو عمل غير صالح،فإذا تهيّأت الأذهان لقبول ما بعد ذلك من تشريع الأحكام و تحديد الحدود،أنزل اللّه الكتب لبيان ما يريد حمل النّاس عليه،ممّا هو صالح لهم،على حسب استعدادهم.ثمّ في قوله: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ و عود الضّمير على جميع النّبيّين ما يفيد أنّ اللّه أنزل مع كلّ نبيّ كتابا،معجزا كان أو غير معجز،طويلا كان أم قصيرا،دوّن و حفظ أم لم يدوّن و لم يحفظ،ليؤدّي من سلف إلى خلف

و قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ قرأ يزيد بضمّ الياء و فتح الكاف،و الباقون بفتح الياء و ضمّ الكاف، و هي الرّواية المشهورة المعروفة.

أمّا على رواية يزيد فالمعنى:أنّ اللّه أنزل الكتب مع النّبيّين بالحقّ،أي بيان ما يجب أن يعتقد به ممّا هو منطبق على الواقع،و بيان ما يجب أن يعمل به ممّا هو صالح لا مفسدة فيه،ليقع الحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه من الأمرين.

و الحاكم:هو المتولّي للفصل بين النّاس في الخصومات بالنّسبة إلى الأعمال،و المرشد إلى صحيح العقائد على مقتضى ما جاء في الكتاب النّازل بالحقّ، و المبيّن لما ينطبق على نصوصه من الأعمال الّتي يحكم فيها الحاكمون.

أمّا على القراءة المعروفة،فالحكم مسند إلى الكتاب نفسه،فالكتاب ذاته هو الّذي يفصل بين النّاس فيما اختلفوا فيه.و فيه نداء على الحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه،و أن لا يعدلوا عنه إلى ما تسوّله الأنفس و تزيّنه الأهواء،فإنّ الكتاب نفسه هو الحاكم،و ليس الحاكم في الحقيقة سواه،و لو ساغ للنّاس أن يؤوّلوا نصّا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم،بدون رجوع إلى بقيّة النّصوص و بناء التّأويل على ما يؤخذ من جميعها جملة،لما كان لإنزال الكتب فائدة،و لما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة،بل تتحكّم الأهواء و تذهب النّفوس منازع شتّى،فينضمّ إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر جديد،و هو الاختلاف في ضروب التّأويل،و بناء كلّ واحد حكما على ما نزع إليه،فتعود المصلحة مفسدة، و ينقلب الدّواء علّة،و لهذا ردّ اللّه تعالى الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به،و قال: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لأنّ الاختلاف كان تابعا لتلك الوحدة الّتي بيّنّاها،فكان كأنّه لازم لها،و هو كذلك كما يبيّنه تاريخ البشر و ما توارثوه عن أسلافهم.

ص: 159

و كما يقضي فيما اختلفوا فيه يقضي فيما يختلفون به من بعد،و نسبة الحكم إلى(الكتاب)هي كنسبة النّطق و الهدى و التّبشير إليه في قوله: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ الجاثية:29،و قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الإسراء:9،و كنسبة القضاء إليه في قول الشّاعر:

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

و قضى عليك به الكتاب المنزل

و السّرّ في التّجوّز هو ما ذكرت لك.و قد يعود الضّمير على(اللّه)،أي أنزل اللّه معهم الكتاب بالحقّ، ليحكم سبحانه بين النّاس فيما اختلفوا فيه،و هو يشعر كذلك بأنّ الحاكم يجب أن يكون هو اللّه دون آراء البشر و ظنونهم الّتي لا ترد إليه جلّ شانه.

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.

و قد عرفت فيما سبق أنّ النّاس بحكم اشتراكهم في الأعمال و ضرورة اشتباكهم في المعاملات عرضة للاختلاف في الحقّ،لأنّ عقولهم وحدها ليست كافية في الهداية إليه،على الوجه الّذي يحفظ جامعتهم من الاضطراب،و يؤدّي بهم إلى السّعادة العظمى في المآب،فلا يصحّ بعد ذلك أن يعود الضّمير في(فيه)إلى (الحقّ)،فلا يقال:و ما اختلف في الحقّ إلاّ الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات،فإنّ الحقّ يختلف فيه النّاس قبل مجيء البيّنات الأولى.و لا أعجب ممّا ذكره بعض المفسّرين من أنّ النّصّ في الآية دليل على أنّ النّاس لم يكن منهم اختلاف في الحقّ إلاّ بعد بعثة الأنبياء و إرسال الرّسل و إنزال الكتب،أمّا فيما قبل ذلك فكانوا متّفقين على الحقّ،فكأنّ رذيلة الاختلاف و التّفرّق لم تقع في العالم الإنسانيّ إلاّ ببعثة الرّسل، و القول بمثله من أغرب ما ينسب إلى صاحب دين ما، فما بالك به إذا صدر عن مسلم؟

و الحقّ أنّ الضّمير في قوله: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ يعود إلى(الكتاب)و هو استدراك على ما عساه، يقال:إذا كان النّاس في جامعتهم مستعدّين للتّخالف بمقتضى فطرتهم،إذا تركت وحدها،و لا غنى لهم عن هداية تعليميّة تأتيهم من اللّه تعالى،و لهذا بعث الأنبياء ليكونوا قوّادا للفكرة إلى ما هو خير الدّنيا و الآخرة.

فما بال النّاس بعد إنزال الكتب لا يزالون مختلفين، و لا يرتفع من بينهم ذلك الخلاف الّذي كان يخشى منه إفساد جماعتهم و هلاك خاصّتهم؟!فقد كانوا يختلفون على جلب المنافع و التّوسّع في مطالب الشّهوات، و لم تكن لديهم في ذلك آلة يستعملها كلّ منهم في نيل مطلبه من صاحبه سوى القوّة أو الحيلة.

و بعد إنزال الكتب قد انضمّ إلى تلك الآلات آلة أخرى ربّما كانت أقوى من سواها،و هي آلة الإقناع بالكتاب،فيتّخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثرا ممّا جاء به،وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد،و ذلك بقطع الكلمة أو الأثر عن بقيّة ما جاء بالكتاب و الآثار الأخر،وليّ اللّسان به و تأويله بغير ما قصد منه،و ما همّ المؤوّل أن يعمل بالكتاب،و إنّما كلّ ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته،أو عضد لسطوته،سواء عليه هدمت أحكام اللّه أم قامت،

ص: 160

و اعوجّت السّبيل أم استقامت.

ثمّ يأتي ضالّ آخر يريد أن ينال من هذا ما نال هذا من غيره،فيحرّف فيؤوّل حتّى يجد المخدوعين بقوله، و يتّخذهم عونا على ذلك الخادع الأوّل،فيقع الخلاف و الاضطراب،و آلة المختلفين في ذلك هي الكتاب.

و قد شوهد ذلك في الأزمان الغابرة بين اليهود و بين من سبقهم،و بين النّصاري،و لا يزال الأمر على ما كان عليه عند هاتين الطّائفتين إلى اليوم.و كم حروب وقعت بين المسلمين أنفسهم حتّى قصمت ظهورهم،و دمّرت ما كان قواهم،و ما كان آلة المبطلين في تلك المشاغب إلاّ دعوى الدّين،و حمل النّاس على الحقّ المبين.و اللّه يعلم إنّهم لكاذبون فيما يقولون،و إنّهم لخاطئون فيما يفعلون،و ما كلمة الدّين و دعوى تأييد الكتاب إلاّ وسائل لإرضاء الشّهوة و تمكين الظّالم من السّطوة.

ثمّ هناك داع آخر للخلاف،و هو اختلاف القوم في فهم ما جاء في الكتاب،فكلّ يذهب إلى أنّ الواجب أن يعتقد كذا،و ربّما كان حسن النّيّة فيما يقول،و يعدّ المخالف مخطئا فيما يزعم،و قد يعرض لكلّ منهم التّعصّب لرأيه فيذهب حسن النّيّة و لا يبقى الاّ الميل إلى تأييد المذهب،و تقرير المشرب،بدون رعاية للدّليل،و لا نظر إلى البرهان.فلم يستفد النّوع الإنسانيّ من إرسال الرّسل و نزول الكتب إلاّ حدوث سبب جديد للخلاف لم يكن،و إلاّ موضوعا للشّقاق كان العالم في سلامة منه،فما فائدة إرسال الرّسل، و كيف يمنّ اللّه على النّاس بأمر لم يزدهم إلاّ شقاء، و لم يكسب بصائرهم إلاّ عماء؟

أراد اللّه جلّ شأنه أن يستدرك على هذا الظّنّ و يبيّن وجه الخطإ فيه،فقال: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ....

و حاصل الاستدراك أنّ غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم، فلا بدّ لهم من هداية أخرى تعليميّة تتّفق مع القوّة المميّزة لنوعهم،و هي قوّة الفكر و النّظر،تلك الهداية التّعليميّة هي هداية الرّسل منهم،و الكتب الّتي ينزلها اللّه عليهم،مع الأدلّة القائمة على عصمة الرّسل من الكذب،و عصمة الكتب من الخطإ.فعلى النّاس أن يستعملوا عقولهم في فهم الأدلّة على الرّسالة و العصمة أوّلا،و سطوع الأدلّة يحمل المستعدّين منهم على التّصديق حتما،فإذا عقلوا ما جاءت به الرّسل وجب عليهم أن يقوموا عليه،و لا يعدلوا بعمل من أعمالهم عنه،ذلك كما وهب لهم السّمع و البصر، ليهتدوا بهما إلى ما يوفّر لهم الفوائد،و يدفع عنهم الغوائل،و يتّقوا بهما الوقوع في المكاره،و كما وهب لهم العقل ليهتدوا به فيما يتبع الأعمال من العواقب.

و إنّما عليهم أن ينظروا في فهم الأحكام الإلهيّة إلى جملتها و مجموع ما تفرّق منها،لا يقصرون نظرهم على بعض و يغضّون بصرهم عن بعض آخر،ثمّ عليهم أن يقفوا على حكمة اللّه في تشريع شريعته،و وضع ما قرّره من الأحكام فيها؛بحيث لا يحيدون عن تلك الحكمة الّتي أشارت إليها كتبه،بل صرّحت بها نصوصها،لا يمنة و لا يسرة،حتّى يتمّ لهم الاهتداء بها.

فإنّ الغفلة عن حكمة العمل غفلة عن فائدته،و الغفلة

ص: 161

عن فائدته انصراف عن روحه الّتي لا يقوم إلاّ بها،غير أنّ عامّة الخاطئين لا يمكنهم أن يصلوا إلى كلّ ذلك بأفهامهم على قصرها،و إنّما ذلك فرض على الخاصّة الّذين قدّمهم الرّسل للنّيابة عنهم،و هؤلاء هم الّذين أوتوه،و أعطاهم اللّه الكتاب على أن يقرّروا ما فيه،و يراقبوا انطباق سير العامّة عليه،و لذلك قال: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ.

و في آيات أخرى أنّ اختلافهم من بعد ما جاءهم العلم.(البينات)هي الدّلائل القائمة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف،و على أنّه ما جاء إلاّ لإسعاد النّاس و التّوفيق بينهم،لا لإشقائهم و تمزيق شملهم،و على أنّ الحكمة الإلهيّة فيه راجعة إلى جميع ما جاء به،فلا بدّ أن يكون فهم كلّ جزء منه مرتبطا بفهم بقيّة أجزائه،و على أنّ دعوة الرّسول الّذي جاء به إنّما كانت إلى جملته،لا إلى الأنقاض المتفرّقة منه، و قال:إنّ هذا الاختلاف الّذي وقع منهم لم يكن إلاّ بغيا بينهم،و تعدّيا لحدود الشّريعة الّتي أقامها حواجز بين النّاس و الخلاف داعية البغي.

إنّ الحبر أو الكاهن أو العالم أو الرّئيس أو أيّ واحد ممّن تسمّيه من أهل النّظر في الدّين القائمين عليه،الّذين ينوبون عن الرّسل في حفظه و الدّعوة إلى صيانته،الواحد من هؤلاء يرى الرّأي و يفهم الفهم و يأخذ الحكم من نصّ يقف عنده ذهنه،أو أثر يصل إليه،و ربّما لم يكن وصل إليه ما هو أصحّ منه.و آخر يرى غير ما يرى،و يزعم وصول أثر غير الّذي وصل إلى صاحبه،فكان اتّباع الكتاب يقضي عليهما بالاجتماع و التّمحيص و تخليص النّفس من كلّ هوى،سوى الميل إلى تقرير الحقّ و تطبيق الواقعة عليه،و لو لم يتيسّر لهما ذلك وجب على من يأتي بعدهما ما كان يجب عليهما،حتّى يستمرّ الاتّفاق بين هؤلاء الخاصّة،و يسود بهم بين العامّة.

لكن قد يشوب طلب الحقّ شيء من الرّغبة في عزّة الرّئاسة،أو ميل مع أربابها أو خوف منهم،أو شهوة خفيّة في منفعة أخري،فيلج ذلك بصاحب الرّأي حتّى يكون شقاق،و يحدث افتراق.و لا ريب أنّ هذا الشّوب و إن كان قد يكون غير ملحوظ لصاحبه بل دخل على نفسه من حيث لا يشعر،فهو من البغي على حقّ اللّه في عباده أوّلا،و البغي على حقوق العباد الّذين جاء الكتاب لتعزيز الوفاق بينهم ثانيا.

و أمّا العامّة من النّاس فلا جريمة لهم في هذا، و لذلك جاء بالحصر في قوله: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فإذا كان الرّؤساء قد جنوا هذه الجناية على أنفسهم و على النّاس بسبب البغي الخاصّ بهم،فهل هذا يقدح في هداية الكتاب إلى ما يتّفق النّاس عليه من الحقّ،و يرتفع به النّزاع فيما بينهم؟كلاّ،فقد رأينا كلّ دين في بدء نشأته يقرّب البعيد و يجمع المتشتّت و يلمّ الشّعث و يمحق أسباب الخلاف من النّفوس، و يقرّر بين الآخذين به أخوّة لا تدانيها أخوّة النّسب في شيء.

و هل يؤثر الأخ في النّسب أخاه بماله علي نفسه و هو في أشدّ الحاجة إليه،كما كان يفعل أولئك الّذين

ص: 162

يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة؟و هل يبذل الأخ النّسبيّ روحه دون أخيه و يؤثره بالحياة على نفسه كما آثره بالمال،كما كان يقع من أولئك الأبطال؟هذا شأن الدّين و هو باق على أصله،معروف بحقيقته لأهله،تبيّنه للنّاس رؤساءه،و يمشي بنوره فيهم علماؤه،لا خلاف و لا اعتساف،و لا طرق و لا مشارب،و لا منازعات في الدّين و لا مشاغب.

هذا هو الدّين الإلهيّ الّذي قدّر اللّه أن يكون هداية للبشر فوق الهدايات الّتي وهبها لهم من الحواسّ و العقول،فإذا لم يهتد بها الّذين أوتوها و هم علماء الدّين،و بغوا بالتّأويل،و كثرة القال و القيل،فهل يمسّ ذلك جانبها بعيب؟ما ذا يقول القائل في أولئك الّذين يؤتيهم اللّه العقل ثمّ لا يستعملونه فيما أوتي لأجله؟هل تنقص حالهم هذه من منزلة العقل،و تدلّ على أنّ العقل ليس من نعم اللّه على الإنسان؟ما ذا يقول القائل في أولئك الّذين لهم أبصار و أسماع و لكن يخبط الواحد منهم في سيره،فلا يستعمل بصره في معرفة الطّريق الّتي يسير فيها،أو في وقاية رجليه من الشّوك الواقع عليها،أو التّباعد عن حفرة يتردّى فيها.

و ربّما كانت نظرة واحدة تقيه من التّهلكة لو وجّهها نحوها.و قد يسمع من الأصوات الّتي تنذره بالخطر القريب منه،ثمّ لا يبالي بما يسمع،حتّى يصيبه ما ليس له مدفع.فهل تحطّ حال هؤلاء النّاس من قيمة السّمع و البصر؟(2:283)

ابن عاشور :... وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ...

لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ عطف على جملة أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم،و هو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض،و بين أهل الكتاب الواحد مع تلقّيهم دينا واحدا.و المعنى و أنزل معهم الكتاب بالحقّ فاختلف فيه،كما قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ هود:110.و المعنى:و ما اختلف فيه إلاّ أقوامهم الّذين أوتوا كتبهم،فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى،لتضمّن جملة القصر إثباتا و نفيا.فاللّه بعث الرّسل لإبطال الضّلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم،فجاءت الرّسل بالهدى، اتّبعهم من اتّبعهم فاهتدى،و أعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة،فإرسال الرّسل لإبطال الاختلاف بين الحقّ و الباطل،ثمّ أحدث أتباع الرّسل بعدهم اختلافا آخر،و هو اختلاف كلّ قوم في نفس شريعتهم.و المقصود من هذا بيان:عجيب حال البشر في تسرّعهم إلى الضّلال،و هي حقيقة تاريخيّة من تاريخ الشّرائع، و تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك.

و التّعريض بأهل الكتاب،و هم أشهر أهل الشّرائع يومئذ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، و هذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب و خاصّة اليهود،و هي طريقة عربيّة بليغة.[و استشهد بشعر زهير و فرزدق ثمّ قال:

و الضّمير من قوله:(فيه)يجوز أن يعود إلى (الكتاب)و أن يعود إلى(الحقّ)الّذي تضمّنه الكتاب.

و المعنى على التّقديرين واحد،لأنّ الكتاب أنزل ملابسا للحقّ و مصاحبا له،فإذا اختلف في الكتاب

ص: 163

اختلف في الحقّ الّذي فيه،و بالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.

و الاختلاف في الكتاب:ذهاب كلّ فريق في تحريف المراد منه مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشّرع لا في الفروع،فإنّ الاختلاف في أصوله يعطّل المقصود منه.

و جيء بالموصول دون غيره من المعرّفات لما في الصّلة من الأمر العجيب،و هو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الّذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين النّاس،فأصبحوا هم سبب خلاف فيه، و لا شكّ أنّ ذلك يبطل المراد منه.

و المعنى:تشنيع حال الّذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالا من المختلفين في الحقّ قبل مجيء الشّرائع،لأنّ أولئك لهم بعض العذر بخلاف الّذين اختلفوا،بعد كون الكتاب بأيديهم.[إلى أن قال:]

و الضّمير في(اختلفوا)عائد للمختلفين كلّهم، سواء الّذين اختلفوا في الحقّ قبل مجيء الرّسل، و الّذين اختلفوا في الشّرائع بعد مجيء الرّسل و البيّنات،و لذلك بيّنه بقوله: مِنَ الْحَقِّ، و هو الحقّ الّذي تقدّم ذكره في قوله: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحقّ:إمّا عن جهل،أو عن حسد و بغي.

(2:292-295)

الطّباطبائيّ: الآية تبيّن السّبب في تشريع أصل الدّين،و تكليف النّوع الإنسانيّ به،و سبب وقوع الاختلاف فيه،ببيان أنّ الإنسان و هو نوع مفطور على الاجتماع و التّعاون،كان في أوّل اجتماعه أمّة واحدة، ثمّ ظهر فيه-بحسب الفطرة-الاختلاف في اقتناء المزايا الحيويّة،فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطّارئة،و المشاجرات في لوازم الحياة، فألبست القوانين الموضوعة لباس الدّين،و شفّعت بالتّبشير و الإنذار-بالثّواب و العقاب-و أصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النّبيّين،و إرسال المرسلين.

ثمّ اختلفوا في معارف الدّين أو أمور المبدإ و المعاد، فاختلّ بذلك أمر الوحدة الدّينيّة،و ظهرت الشّعوب و الأحزاب،و تبع ذلك الاختلاف في غيره،و لم يكن هذا الاختلاف الثّاني إلاّ بغيا من الّذين أوتوا الكتاب، و ظلما و عتوّا منهم بعد ما تبيّن لهم أصوله و معارفه، و تمّت عليهم الحجّة.فالاختلاف اختلافان:اختلاف في أمر الدّين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم و غريزتهم،و اختلاف في أمر الدّنيا،و هو فطريّ و سبب لتشريع الدّين،ثمّ هدى اللّه سبحانه المؤمنين إلى الحقّ المختلف فيه بإذنه،و اللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(2:111)

مكارم الشّيرازيّ: تبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشريّة،و كيفيّة ظهور الدّين لإصلاح المجتمع بواسطة الأنبياء؛و ذلك على مراحل:

المرحلة الأولى:مرحلة حياة الإنسان الابتدائيّة؛ حيث لم يكن الإنسان قد ألف الحياة الاجتماعيّة، و لم تبرز في حياته التّناقضات و الاختلافات،و كان يعبد اللّه تعالى استجابة لنداء الفطرة،و يؤدّي له

ص: 164

فرائضه البسيطة.و هذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم و نوح عليهما السّلام.

المرحلة الثّانية:و فيها اتّخذت حياة الإنسان شكلا اجتماعيّا،و لا بدّ أن يحدث ذلك،لأنّه مفطور على التّكامل.و هذا لا يتحقّق إلاّ في الحياة الاجتماعيّة.

المرحلة الثّالثة:هي مرحلة التّناقضات و الاصطدامات الحتميّة بين أفراد المجتمع البشريّ،بعد استحكام و ظهور الحياة الاجتماعيّة.و هذه الاختلافات سواء كانت من حيث الإيمان و العقيدة، أو من حيث العمل و تعيين حقوق الأفراد و الجماعات.تحتّم وجود قوانين لرعاية و حلّ هذه الاختلافات،و من هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء و هدايتهم.

المرحلة الرّابعة:و تتميّز ببعث اللّه تعالى الأنبياء لإنقاذ النّاس؛حيث تقول الآية: فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ.

فمع الالتفات إلى تبشير الأنبياء و إنذارهم يتوجّه الإنسان إلى المبدإ و المعاد،و يشعر أنّ وراءه جزاء على أعماله،فيحسّ أنّ مصيره مرتبط مباشرة بتعاليم الأنبياء،و ما ورد في الكتب السّماويّة من الأحكام و القوانين الإلهيّة،لحلّ التّناقضات و النّزاعات المختلفة بين أفراد البشر،لذلك تقول الآية: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

المرحلة الخامسة:هي التّمسّك بتعاليم الأنبياء، و ما ورد في كتبهم السّماويّة لإطفاء نار الخلافات و النّزاعات المتنوّعة«الاختلافات الفكريّة و العقائديّة و الاجتماعيّة و الأخلاقيّة».

المرحلة السّادسة:و استمرّ الوضع على هذا الحال حتّى نفذت فيهم الوساوس الشّيطانيّة،و تحرّكت في أنفسهم الأهواء النّفسانيّة،فأخذت طائفة منهم بتفسير تعليمات الأنبياء و الكتب السّماويّة بشكل خاطئ و تطبيقها على مرادهم،و بذلك رفعوا علم الاختلاف مرّة ثانية.و لكن هذا الاختلاف يختلف عن الاختلاف السّابق،لأنّ الأوّل كان ناشئا عن الجهل و عدم الاطّلاع؛حيث زال و انتهى ببعث الأنبياء و نزول الكتب السّماويّة،في حين أنّ منبع الاختلافات الثّانية هو العناد و الانحراف عن الحقّ،مع سبق الإصرار و العلم،و بكلمة:«البغي».و بهذا تقول الآية بعد ذلك:

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.

المرحلة السّابعة:الآية الكريمة بعد ذلك تقسّم النّاس إلى قسمين:القسم الأوّل:المؤمنون الّذين ينتهجون طريق الحقّ و الهداية،و يتغلّبون على كلّ الاختلافات بالاستنارة بالكتب السّماويّة و تعليم الأنبياء،فتقول الآية: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ في حين أنّ الفاسقين و المعاندين ماكثون في الضّلالة و الاختلاف.(2:56)

فضل اللّه :[نقل كلام الطّباطبائيّ و قال:]

و يفسّر السّيّد الطّباطبائيّ الاختلاف الأوّل على أنّه كان في شئون الدّنيا،على أساس اقتناء المزايا الحيويّة في ذاته،من خلال حركة القوّة و الضّعف الّتي

ص: 165

تقود إلى الاختلاف و الانحراف،عمّا يقتضيه الاجتماع الصّالح من العدل الاجتماعيّ،فيستفيد القويّ من الضّعيف أكثر ممّا يفيده،و ينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه.و يقابله الضّعيف المغلوب- ما دام ضعيفا مغلوبا-بالحيلة و المكيدة و الخديعة،فإذا قوي و غلب قابل ظالمه بأشدّ الانتقام،فكان بروز الاختلاف مؤدّيا إلى الهرج و المرج،و داعيا إلى هلاك الإنسانيّة،و فناء النّظرة،و بطلان السّعادة.

و خلاصة ذلك:أنّ المراد من الاختلاف الأوّل هو الاختلاف الواقعيّ،بينما يمثّل الاختلاف الثّاني الاختلاف الفكريّ،أو ما يشبه ذلك،و أنّ الأوّل تفرضه طبيعة حركة الفطرة في انفتاح الإنسان على ذاتيّاته،بينما ينطلق الثّاني من البغي الّذي يختلف فيه النّاس حول الكتاب.

و نلاحظ على ذلك،أنّ اختلاف النّاس في الواقع في موازين القوّة و الضّعف لم يكن منطلقا من الغريزة العمياء،بل من القيم المتّفق عليها فيما بينهم،و المفاهيم المزروعة في داخلهم،النّاشئة من الضّبابيّة الفكريّة في إيحاءات الفطرة،و من التّنوّع في التّجربة الإنسانيّة في هذا الموقع أو ذاك.

فهناك فريق من النّاس يتحرّك في حياته من ناحية القيمة الأخلاقيّة القائمة على احترام الإنسان و حقّه في الحياة،و في الحصول على النّتائج الإيجابيّة من خلال جهده،و هناك فريق آخر يرى ضرورة حصول النّاس على النّتائج الإيجابيّة أو السّلبيّة بشكل متساو، و إن كان جهدهم مختلفا،و هناك النّاس الّذين لا يؤمنون باللّه أو يشركون بعبادته غيره،و هناك النّاس الّذين يلتزمون الخطّ الإيمانيّ التّوحيديّ.

(4:148)

و لاحظ أم م«امّة واحدة»فهناك بحث طويل في كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً.

2- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.

آل عمران:19

الرّبيع:إنّ موسى عليه السّلام لمّا حضرته الوفاة دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل،و استودعهم التّوراة،و جعلهم أمناء عليها،و استخلف يوشع بن نون.فلمّا مضى القرن الأوّل و الثّاني و الثّالث وقعت الفرقة بينهم،و هم الّذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السّبعين،حتّى أوقعوا بينهم الدّماء،و وقع الشّرّ و الاختلاف.(الثّعلبيّ 3:34)

الكلبيّ: نزلت في يهوديّين،تركوا اسم الإسلام و تسمّوا باليهوديّة و النّصرانيّة،قال اللّه تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.... (الثّعلبيّ 3:35)

الزّبير:نزلت هذه الآية في نصارى نجران، و معناها: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هو الإنجيل في أمر عيسى عليه السّلام،و[ما]فرّقوا القول فيه إلاّ من بعد ما جاءهم العلم،بأنّ اللّه واحد،و أنّ عيسى عبده و رسوله.(الثّعلبيّ 3:35)

الثّعلبيّ: ..و قال بعضهم:أراد وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ

ص: 166

أُوتُوا الْكِتابَ: في نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ من بعد ما جاءهم العلم،يعني بيان نعته و صفته في كتبهم.(3:35)

الماورديّ: فيما اختلفوا ثلاثة أقاويل:

أحدها:في أديانهم بعد العلم بصحّتها.

و الثّاني:في عيسى و ما قالوه فيه من غلوّ و إسراف.

و الثّالث:في دين الإسلام.(1:380)

الواحديّ: لم تختلف اليهود في صدق نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم لما كانوا يجدونه في كتابهم من نعته، إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، يعني النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و سمّي علما،لأنّه كان معلوما عندهم.

و المعنى:أنّهم كانوا يصدّقونه بنعته و صفته قبل بعثه،فلمّا جاءهم اختلفوا،فآمن بعضهم و كفر آخرون،فقالوا:لست الّذي وعدنا به،كقوله: فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ البقرة:89.(1:423)

نحوه الطّبرسيّ.(1:421)

الزّمخشريّ: اختلافهم أنّهم تركوا الإسلام، و هو التّوحيد و العدل مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أنّه الحقّ الّذي لا محيد عنه،فثلّثت النّصارى،و قالت اليهود:عزير ابن اللّه،و قالوا كنّا أحقّ بأن تكون النّبوّة فينا من قريش،لأنّهم أمّيّون و نحن أهل الكتاب، و هذا تجويز للّه...

و قيل:هو اختلافهم في نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،حيث آمن به بعض و كفر به بعض.

و قيل:هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء،فمنهم من آمن بموسى،و منهم من آمن بعيسى...

و قيل:هم النّصارى،و اختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنّه عبد اللّه و رسوله.(1:419)

نحوه النّسفيّ ملخّصا.(1:149)

ابن الجوزيّ: [نحو الماورديّ إلاّ أنّه قال:]

و الرّابع:نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد عرفوا صفته.

(1:363)

نحوه الفخر الرّازيّ(7:223)،و النّيسابوريّ(3:

153).

البيضاويّ: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النّصارى،أو من أرباب الكتب المتقدّمة في دين الإسلام،فقال قوم:إنّه حقّ،و قال قوم:إنّه مخصوص بالعرب،و نفاه آخرون مطلقا،أو في التّوحيد،فثلّثت النّصارى،و قالت اليهود:عزير ابن اللّه،و قيل:هم قوم موسى اختلفوا بعده،و قيل:هم النّصارى اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام.(1:153)

نحوه الشّربينيّ(1:203)،و شبّر(1:304).

أبو حيّان :[نقل الأقوال في ذلك ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و قال:]

و الّذي يظهر أنّ اللّفظ عامّ في الّذين أوتوا الكتاب،و أنّ المختلف فيه هو الإسلام،لأنّه تعالى قرّر أنّ الدّين هو الإسلام،ثمّ قال: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي في الإسلام،حتّى تنكّبوه إلى غيره من الأديان.(2:410)

نحوه الآلوسيّ.(3:107)

أبو السّعود :نزلت في اليهود و النّصارى حين تركوا الإسلام الّذي جاء به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و أنكروا نبوّته.

ص: 167

و التّعبير عنهم بالموصول و جعل إيتاء الكتاب صلة، لزيادة تقبيح حالهم،فإنّ الاختلاف ممّن أوتي ما يزيله و يقطع شأفته في غاية القبح و السّماجة.(1:348)

المراغيّ: أي ما خرج أهل الكتاب من الإسلام الّذي جاء به أنبياؤهم،و صاروا مذاهب و شيعا يقتتلون في الدّين،و الدّين واحد لا مجال فيه للاختلاف و الاقتتال،إلاّ بسبب البغي و تجاوز الحدود من الرّؤساء،و لو لا بغيهم و نصرهم مذهبا على مذهب،و تضليلهم من خالفهم،بتفسيرهم نصوص الدّين بالرّأي و الهوى،و تأويل بعضه أو تحريفه،لما حدث هذا الاختلاف.(3:120)

ابن عاشور :عطف وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ على قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام،و من سوء فهمهم في دينهم.

و جيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال؛إذ قد جيء بصيغة الحصر،لبيان سبب اختلافهم،و كأنّ اختلافهم أمر معلوم للسّامع.و هذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخبارا يتضمّن بيان سببه،و إبطال ما يتراءى من الأسباب غير ذلك، مع إظهار المقابلة بين حال الدّين الّذي هم عليه يومئذ من الاختلاف،و بين سلامة الإسلام من ذلك...

و قد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معان:

منها:التّحذير من الاختلاف في الدّين،أي في أصوله،و وجوب تطلّب المعاني الّتي لا تناقض مقصد الدّين،عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف.

و منها:التّنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحقّ،فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدّين.

و منها:الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان:

أحدهما:اختلاف كلّ أمّة مع الأخرى في صحّة دينها،كما قال تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ البقرة:113.

و ثانيهما:اختلاف كلّ أمّة منهما فيما بينها، و افتراقها فرقا متباينة المنازع،كما جاء في الحديث:

«اختلفت اليهود على اثنتين و سبعين فرقة»،يحذّر المسلمين ممّا صنعوا.

و منها:أنّ اختلافهم ناشئ عن بغي بعضهم على بعض.

و منها:أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام و الإعراض عنه بغيا منهم و حسدا،مع ظهور أحقّيّته عند علمائهم و أحبارهم،كما قال تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ* اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ البقرة:146،147، و قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ البقرة:109،أي أعرضوا عن

ص: 168

الإسلام،و صمّموا على البقاء على دينهم،و ودّوا لو يردّونكم إلى الشّرك أو إلى متابعة دينهم،حسدا على ما جاءكم من الهدى،بعد أن تبيّن لهم أنّه الحقّ.

و لأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني،حذف متعلّق الاختلاف في قوله: اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ليشمل كلّ اختلاف منهم:من مخالفة بعضهم بعضا في الدّين الواحد،و مخالفة أهل كلّ دين لأهل الدّين الآخر،و مخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدّين.

و حذف متعلّق(العلم)في قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ لذلك.

و جعل(بغيا)عقب قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ليتنازعه كلّ من فعل(اختلف)و من لفظ (العلم.)

و أخّر(بينهم)عن جميع ما يصلح للتّعليق به، ليتنازعه كلّ من فعل(اختلف)و فعل(جاءهم) و لفظ(العلم)و لفظ(بغيا.)

و بذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معاني من معاني قوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ في سورة البقرة:213،و قوله: وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ في سورة البيّنة:4،كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين.

فاختلاف اَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يشمل اختلافهم فيما بينهم،أي اختلاف أهل كلّ ملّة في أمور دينها،و هذا هو الّذي تشعر بها صيغة(اختلف) كاختلاف اليهود بعد موسى غير مرّة،و اختلافهم بعد سليمان إلى مملكتين:مملكة إسرائيل،و مملكة يهوذا، و كيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديّن يخالف تديّن الأخرى.و كذلك اختلاف النّصارى في شأن المسيح،و في رسوم الدّين.و يكون قوله:(بينهم) حالا ل(بغيا:)أي بغيا متفشّيا بينهم،بأن بغى كلّ فريق على الآخر.

و يشمل أيضا الاختلاف بينهم في أمر الإسلام؛إذ قال قائل منهم:هو حقّ،و قال فريق:هو مرسل إلى الأمّيّين،و كفر فريق،و نافق فريق.و هذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ، و يكون قوله:(بينهم)على هذا وصفا ل(بغيا،) أي بغيا واقعا بينهم.

و مجيء العلم هو الوحي الّذي جاءت به رسلهم و أنبياؤهم،لأنّ كلمة(جاء)مؤذنة بعلم متلقّى من اللّه تعالى،يعني أنّ العلم الّذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد،إلاّ أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد اللّه من إرسال الهدى.(3:53)

مغنيّة:قيل:المراد بأهل الكتاب هنا:اليهود، و قيل:بل النّصارى،و قيل:هما معا،و هو الصّواب، لأنّ اللّفظ عامّ،و لا دليل على التّخصيص.و يؤيّد العموم أنّ اللّه سبحانه أشار إلى اختلاف النّصارى بعضهم مع بعض في الآية:14،من سورة المائدة:

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. و أشار إلى اختلاف اليهود في الآية:64،

ص: 169

من السّورة المذكورة: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ - إلى قوله - وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. (2:28)

3- فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مريم:37

ابن عبّاس: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ: الكفّار، مِنْ بَيْنِهِمْ: فيما بينهم،فقال بعضهم:هو اللّه،و قال بعضهم:هو ابن اللّه،و قال بعضهم:هو شريكه.(256)

قتادة :إنّ بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعة أحبار غاية في المكانة و الجلالة عندهم،و طلبوهم بأن يبيّنوا أمر عيسى،فقال أحدهم:عيسى هو اللّه نزل إلى الأرض،فأحيا من أحيا و أمات ثمّ صعد،فقال له الثّلاثة:كذبت،و أتبعه اليعقوبيّة،ثمّ قيل للثّلاثة،فقال أحدهم:عيسى ابن اللّه،فقال له الاثنان:كذبت، و أتبعه النّسطوريّة،ثمّ قيل للاثنين،فقال أحدهم:

عيسى أحد ثلاثة:اللّه إله،و مريم إله،و عيسى إله، فقال له الرّابع:كذبت،و أتبعه الإسرائيليّة،فقيل للرّابع،فقال:عيسى عبد اللّه و كلمته ألقاها إلى مريم، فاتّبع كلّ واحد من الأربعة فريق من بني إسرائيل،ثمّ اقتتلوا،فغلب المؤمنون و قتلوا،و ظهرت اليعقوبيّة على الجميع.(ابن عطيّة 4:16)

نحوه النّسفيّ(3:35)،و المراغيّ(16:51).

الثّعلبيّ: يعني النّصارى،و إنّما سمّوا أحزابا، لأنّهم تجزّءوا ثلاث فرق في أمر عيسى:النّسطوريّة، و الملكانيّة،و اليعقوبيّة.(6:216)

مثله البغويّ.(3:233)

الطّوسيّ: و قوله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فالاختلاف في المذهب،هو أن يعتقد كلّ قوم خلاف ما يعتقده الآخرون...

و المعنى في الآية:اختلف الأحزاب من أهل الكتاب في عيسى عليه السّلام.فقال قتادة و مجاهد:قال قوم:

هو اللّه،و هم اليعقوبيّة.و قال آخرون:هو ابن اللّه،و هم النّسطوريّة.و قال قوم:هو ثالث ثلاثة،و هم الإسرائيليّة.و قال قوم:هو عبد اللّه،و هم المسلمون.

(7:126)

ابن عطيّة: هذا ابتداء خبر من اللّه تعالى لمحمّد عليه السّلام بأنّ بني إسرائيل اختلفوا أحزابا،أي فرقا.

و قوله: مِنْ بَيْنِهِمْ معناه:أنّ الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين.(4:16)

الطّبرسيّ: [مثل الطّوسيّ و أضاف:]

و إنّما قال: مِنْ بَيْنِهِمْ لأنّ منهم من ثبت على الحقّ،و قيل:إنّ(من)زائدة،و المعنى:اختلفوا بينهم.

(3:514)

البيضاويّ: اليهود و النّصارى،أو فرق النّصارى نسطوريّة قالوا:إنّه ابن اللّه،و يعقوبيّة قالوا:هو اللّه هبط إلى الأرض ثمّ صعد إلى السّماء،و ملكانيّة قالوا:

هو عبد اللّه و نبيّه.(2:34)

الشّربينيّ: قيل:هم النّصارى،و اختلافهم في عيسى أ هو ابن اللّه،أو إله معه،أو ثالث ثلاثة؟و سمّوا أحزابا،لأنّهم تحزّبوا ثلاث فرق في أمر عيسى:

النّسطوريّة،و الملكانيّة،و اليعقوبيّة.

ص: 170

و قيل:هم اليهود و النّصارى،فجعله بعضهم ولدا،و بعضهم كذّابا.

و قيل:هم الكفّار الشّامل لليهود و النّصارى، و غيرهم من الّذين كانوا في عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.قال ابن عادل:و هذا هو الظّاهر،لأنّه لا تخصيص فيه،و يؤيّده قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا. (2:426)

نحوه أبو السّعود.(4:240)

الآلوسيّ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها،تنبيها على سوء صنيعهم،بجعلهم ما يوجب الاتّفاق منشأ للاختلاف، فإنّ ما حكي من مقالات عيسى عليه السّلام مع كونها نصوصا قاطعة،في كونه عبد اللّه تعالى و رسوله،قد اختلف اليهود و النّصارى بالتّفريط و الإفراط،فالمراد بالأحزاب:اليهود و النّصارى،و هو المرويّ عن الكلبيّ.و معنى مِنْ بَيْنِهِمْ أنّ الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين،و(بين)ظرف استعمل اسما بدخول(من)عليه.

و نقل في«البحر»القول بزيادة(من)،و حكي أيضا القول بأنّ«البين»هنا بمعنى البعد،أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحقّ،فتكون سببيّة،و لا يخفى بعده.

و قيل:المراد ب(الاحزاب)فرق النّصارى،فإنّهم اختلفوا بعد رفعه عليه السّلام فيه،فقال نسطور:هو ابن اللّه، تعالى عن ذلك،أظهره ثمّ رفعه.و قال يعقوب:هو اللّه تعالى،هبط ثمّ صعد.و قال ملكا:هو عبد اللّه تعالى و نبيّه.و في«الملل و النّحل»:أنّ الملكانيّة قالوا:إنّ الكلمة يعني أقنوم العلم اتّحدت بالمسيح عليه السّلام

و تدرّعت بناسوته.

و قال أيضا:إنّ المسيح عليه السّلام ناسوت كلّيّ لا جزئيّ، و هو قديم،و قد ولدت مريم إلها قديما أزليّا،و القتل و الصّلب وقع على النّاسوت و اللاّهوت معا...

و قيل:المراد بهم:المسلمون و اليهود و النّصارى.

و عن الحسن أنّهم الّذين تحزّبوا على الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام،لمّا قصّ عليهم قصّة عيسى عليه السّلام اختلفوا فيه من بين النّاس،قيل:إنّهم مطلق الكفّار،فيشمل اليهود و النّصارى و المشركين الّذين كانوا في زمن نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم و غيرهم،و رجّحه الإمام بأنّه لا مخصّص فيه،و رجّح القول بأنّهم أهل الكتاب،بأنّ ذكر الاختلاف عقيب قصّة عيسى عليه السّلام يقضي ذلك، و يؤيّده قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فالمراد بهم:

الأحزاب المختلفون.(16:92)

ابن عاشور :الفاء لتفريع الإخبار بحصول الاختلاف على الإخبار بأنّ هذا صراط مستقيم،أي حاد عن الصّراط المستقيم الأحزاب،فاختلفوا بينهم في الطّرائق الّتي سلكوها،أي هذا صراط مستقيم لا يختلف سالكوه اختلافا أصليّا،فسلك الأحزاب طرقا أخرى هي حائدة عن الصّراط المستقيم،فلم يتّفقوا على شيء.و قوله: مِنْ بَيْنِهِمْ متعلّق ب (اختلف،)و(من)حرف توكيد،أي اختلفوا بينهم.

و المراد ب(الاحزاب:)أحزاب النّصارى،لأنّ الاختلاف مؤذن بأنّهم كانوا متّفقين،و لم يكن اليهود موافقين النّصارى في شيء من الدّين.و قد كان النّصارى على قول واحد على التّوحيد في حياة

ص: 171

الحواريّين،ثمّ حدث الاختلاف في تلاميذهم.و قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ النّساء:171،أنّ الاختلاف انحلّ إلى ثلاثة مذاهب:الملكانيّة و تسمّى الجاثليقيّة؛ و اليعقوبيّة،و النّسطوريّة.

و انشعبت من هذه الفرق عدّة فرق ذكرها الشّهرستانيّ؛و منها:الاليانية،و البليارسيّة، و المقدانوسيّة،و السّباليّة،و البوطينوسيّة،و البوليّة، إلى فرق أخرى.منها:فرقة كانت في العرب تسمّى الرّكوسيّة ورد ذكرها في الحديث:أنّ النّبيّ قال لعديّ ابن حاتم:«إنّك ركوسيّ».قال أهل اللّغة:هي نصرانيّة مشوبة بعقائد الصّابئة.و حدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضيّة البروتستان أتباع لوثير.و أشهر الفرق اليوم هي الملكانيّة كاتوليك،و اليعقوبيّة أرثودوكس،و الاعتراضيّة بروتستان.

و لمّا كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهيّة عيسى،اغترارا و سوء فهم في معنى لفظ(ابن)الّذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل،مع أنّه قد وصف بذلك فيها أيضا أصحابه.و قد جاء في التّوراة أيضا:أنتم أبناء اللّه.و في إنجيل متّى الحواريّ و إنجيل يوحنّا الحواريّ كلمات صريحة في أنّ المسيح ابن إنسان،و أنّ اللّه إلهه و ربّه،فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر باللّه،فلذلك ذيّل بقوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فشمل قوله:(الذين كفروا) هؤلاء المخبر عنهم من النّصارى،و شمل المشركين غيرهم.(16:39)

الطّباطبائيّ: اختلاف الأحزاب،هو قول كلّ منهم فيه عليه السّلام خلاف ما يقوله الآخرون.و إنّما قال:

مِنْ بَيْنِهِمْ لأنّ فيهم من ثبت على الحقّ،و ربّما قيل:

(من)زائدة،و الأصل:اختلف الأحزاب بينهم،و هو كما ترى.(14:49)

مكارم الشّيرازيّ: إنّ تاريخ المسيحيّة يشهد بوضوح على مدى الاختلاف الّذي حصل بعد المسيح عليه السّلام في شأنه،و حول مسألة التّوحيد،هذه الاختلافات الّتي ازدادت حدّتها،فشكّل«قسطنطين» إمبراطور الرّوم مجمعا للأساقفة-علماء النّصارى الكبار-و كان واحدا من المجامع التّاريخيّة المعروفة، و وصل عدد أعضاء هذا المجمع إلى ألفين و مائة و سبعين عضوا،و عند ما طرحت مسألة المسيح للبحث أظهر العلماء الحاضرون و جهات نظر مختلفة تماما،و كان لكلّ مجموعة عقيدتها.

فذهب البعض:أنّ المسيح هو اللّه الّذي نزل إلى الأرض!فأحيا جماعة،و أمات أخرى،ثمّ صعد إلى السّماء!

و قال البعض الآخر:إنّه ابن اللّه!

و رأى آخرون:إنّه أحد الأقانيم الثّلاثة-الذّوات الثّلاثة المقدّسة-:الأب و الابن و روح القدس:اللّه الأب،و اللّه الابن و روح القدس.

و آخرون:قالوا:إنّه ثالث ثلاثة:فاللّه معبود،و هو معبود،و أمّه معبودة!

و أخيرا قال البعض:إنّه عبد اللّه و رسوله.

و قال آخرون:أقوالا أخرى،و لم تتّفق الآراء

ص: 172

على أيّ من هذه العقائد،و كان أكبر عدد حازت عليه عقيدة المذكورات هو«308»فرد،و قبله الإمبراطور كرأي حصل على أكثريّة نسبيّة،و دافع عنه باعتباره الدّين الرّسميّ،و طرح الباقي جانبا.أمّا عقيدة التّوحيد فقد بقيت في الأقلّيّة،لقلّة ناصريها مع الأسف.

و لمّا كان الانحراف عن أصل التّوحيد يعتبر أكبر انحراف للمسيحيّين،فقد رأينا كيف أنّ اللّه قد هدّد هؤلاء في ذيل الآية،بأنّهم سيكون لهم مصير مؤلم مشئوم في يوم القيامة،في ذلك المشهد العامّ،و أمام محكمة اللّه العادلة.(9:400)

فضل اللّه : فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ في أمر عيسى،هل هو إله متجسّد،أو هو ابن اللّه،أو هو ابن نبيّ مرسل،أو هو شخص مزيّف؟فلكلّ واحد مقال يختلف فيه عن الآخر.و هكذا كان منهم المحقّ، و المبطل،و المؤمن،و الكافر.(15:44)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

4- فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ. الزّخرف:65

اختلفوا

1- ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. البقرة:176

ابن عبّاس: خالفوا ما في الكتاب من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و نعته و كتموا.(24)

السّدّيّ: هم اليهود و النّصارى.(138)

الطّبريّ: يعني بذلك اليهود و النّصارى.اختلفوا في كتاب اللّه،فكفرت اليهود بما قصّ اللّه فيه من قصص عيسى ابن مريم و أمّه.و صدقت النّصارى ببعض ذلك،و كفروا ببعضه.و كفروا جميعا بما أنزل اللّه فيه من الأمر بتصديق محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(2:98)

أبو مسلم:قوله:(اختلفوا)من باب«افتعل» الّذي يكون مكان«فعل»،كما يقال:كسب و اكتسب، و عمل و اعتمل،و كتب و اكتتب،و فعل و افتعل، و يكون معنى قوله: اَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ الّذين خلفوا فيه،أي توارثوه و صاروا خلفاء فيه، كقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الأعراف:169، و قوله: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ يونس:6،أي كلّ واحد يأتي خلف الآخر،و قوله: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ الفرقان:

62،أي كلّ واحد منهما يخلف الآخر.

(الفخر الرّازيّ 5:37)

الثّعلبيّ: آمنوا ببعض و كفروا ببعض.(2:48)

مثله البغويّ.(1:203)

الطّوسيّ: معنى«الاختلاف»هاهنا يحتمل أمرين:

أحدهما:قول الكفّار في القرآن،فمنهم من قال:

هو كلام السّحرة،و منهم من قال:كلام تعلّمه،و منهم من قال:كلام تقوّله (1).

الثّاني:اختلاف اليهود و النّصارى في التّأويل

ص: 173


1- في الأصل:يعلمه و يقوله.

و التّنزيل من التّوراة و الإنجيل،لأنّهم حرّفوا الكتاب، و كتموا صفة محمّد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و جحدت اليهود الإنجيل و القرآن.(2:93)

نحوه الطّبرسيّ(1:260)،و شبّر:(1:177).

الزّمخشريّ: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في كتب اللّه، فقالوا في بعضها:حقّ،و في بعضها:باطل،و هم أهل الكتاب.(1:329)

ابن عطيّة: اَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا: كفّار العرب، لقول بعضهم:هو سحر،و بعضهم:هو أساطير، و بعضهم:هو مفترى،إلى غير ذلك.(1:242)

ابن الجوزيّ: فيه قولان:

أحدهما:أنّه التّوراة،ثمّ في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال:

أحدها:أنّ اليهود و النّصارى اختلفوا فيها، فادّعى النّصارى فيها صفة عيسى،و أنكر اليهود ذلك.

و الثّاني:أنّهم خالفوا ما في التّوراة من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.

و الثّالث:أنّهم خالفوا سلفهم في التّمسّك بها.

و الثّاني:أنّه القرآن،فمنهم من قال:شعر،و منهم من قال:إنّما يعلّمه بشر.(1:177)

نحوه القرطبيّ.(2:237)

الفخر الرّازيّ: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فيه مسألتان:

المسألة الأولى: إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا قيل:هم الكفّار أجمع اختلفوا في القرآن.و الأقرب حمله على التّوراة و الإنجيل اللّذين ذكرت البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم فيهما،لأنّ القوم قد عرفوا ذلك و كتموه،و حرّفوا تأويله.فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلّة في إنزال العقوبة بهم،فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الّذي هو الأصل عندهم،دون القرآن الّذي إذا عرفوه،فعلى وجه التّبع لصحّة كتابهم.

و أمّا قوله: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فاعلم أنّا و إن قلنا:المراد من(الكتاب)هو القرآن، كان اختلافهم فيه أنّ بعضهم قال:إنّه كهانة،و آخرون قالوا:إنّه سحر،و ثالث قال:رجز،و رابع قال:إنّه أساطير الأولين،و خامس قال:إنّه كلام منقول مختلق.و إن قلنا:المراد من(الكتاب):التّوراة و الإنجيل،فالمراد باختلافهم يحتمل وجوها:

أحدها:أنّهم مختلفون في دلالة التّوراة على نبوّة المسيح،فاليهود قالوا:إنّها دالّة على القدح في عيسى، و النّصارى قالوا:إنّها دالّة على نبوّته.

و ثانيها:أنّ القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدّالّة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فذكر كلّ واحد منهم له تأويلا آخر فاسدا،لأنّ الشّيء إذا لم يكن حقّا واجب القبول بل كان متكلّفا،كان كلّ أحد يذكر شيئا آخر على خلاف قول صاحبه،فكان هذا هو الاختلاف...

و في الآية تأويل ثالث،و هو أن يكون المراد ب(الكتاب):جنس ما أنزل اللّه،و المراد ب اَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ: الّذين اختلف قولهم في الكتاب،فقبلوا بعض كتب اللّه و ردّوا البعض،و هم اليهود و النّصارى،حيث قبلوا بعض كتب اللّه و هو التّوراة و الإنجيل،و ردّوا الباقي و هو القرآن.(5:36)

ص: 174

نحوه النّيسابوريّ.(2:76)

البيضاويّ: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اللاّم فيه:إمّا للجنس،و اختلافهم:إيمانهم ببعض كتب اللّه تعالى و كفرهم ببعض،أو للعهد.و الإشارة:

إمّا إلى التّوراة،و(اختلفوا)بمعنى:تخلّفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها،أو خلفوا خلاف ما أنزل اللّه تعالى مكانه،أي حرّفوا ما فيها.و إمّا إلى القرآن،و اختلافهم فيه:قولهم:سحر،و تقوّل،و كلام علّمه بشر، و أساطير الأوّلين.(1:97)

نحوه أبو السّعود(1:234)،و الشّربينيّ(1:114) و البروسويّ(1:279)،و الآلوسيّ(2:44).

أبو حيّان :قيل:هم اليهود،و(الكتاب):التّوراة، و اختلافهم:كتمانهم بعث عيسى،ثمّ بعث محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، آمنوا ببعض:و هو ما أظهروه،و كفروا ببعض:و هو ما كتموه.

و قيل:هم اليهود و النّصارى،قاله السّدّيّ؛ و اختلاف كفرهم بما قصّه اللّه تعالى من قصص عيسى و أمّه عليهما السّلام،و بإنكار الإنجيل،و وقع الاختلاف بينهم حتّى تلاعنوا و تقاتلوا.

و قيل:كفّار العرب،و(الكتاب):القرآن.قال بعضهم:هو سحر،و بعضهم:هو أساطير الأوّلين، و بعضهم:هو مفترى إلى غير ذلك.

و قيل:أهل الكتاب و المشركون.قال أهل الكتاب:إنّه من كلام محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و ليس هو من كلام اللّه.و قالوا: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ النّحل:103،و قالوا:

(درست)الأنعام:105،و قالوا: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ص:7،إلى غير ذلك.و قال المشركون:

بعضهم قال:سحر،و بعضهم:شعر،و بعضهم:كهانة، و بعضهم:أساطير،و بعضهم:افتراء،إلى غير ذلك.

و الظّاهر الإخبار عمّن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل اللّه من الكتاب،بأنّهم في معاداة و تنافر،لأنّ الاختلاف مظنّة التّباغض و التّباين،كما أنّ الائتلاف مظنّة التّحابّ و الاجتماع.

و في«المنتخب»:الأقرب،حمل الكتاب على التّوراة و الإنجيل اللّذين ذكرت البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، فيهما،لأنّ القوم قد عرفوا ذلك و كتموه،و عرفوا تأويله.فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلّة في إنزال العقوبة به،فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الّذي هو الأصل عندهم،دون القرآن.انتهى كلامه.(1:495)

القاسميّ: [نحو البيضاويّ و أضاف:]

و قيل:(اختلفوا:)أتوا بخلاف ما أنزل اللّه.و قيل:

(اختلفوا:)بمعنى خلفوا،نحو اكتسبوا و كسبوا، و عملوا و اعتملوا،أي صاروا خلفاء فيه،نحو: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الأعراف:69.(3:386)

ابن عاشور :قوله: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا...

تذييل،و لكنّه عطف بالواو،لأنّه يتضمّن تكملة وصف الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى و وعيدهم، و المراد ب اَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا عين المراد من قوله:

اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ البقرة:174،و اَلَّذِينَ اشْتَرَوُا البقرة:175،فالموصولات كلّها على نسق واحد.

و المراد من(الكتاب)المجرور ب(في)،يحتمل أنّه المراد من(الكتاب)في قوله: نَزَّلَ الْكِتابَ فهو

ص: 175

القرآن،فيكون من الإظهار في مقام الإضمار،ليناسب استقلال جملة التّذييل بذاتها،و يكون المراد ب (اختلفوا)على هذا الوجه:أنّهم اختلفوا مع الّذين آمنوا منهم،أو اختلفوا فيما يصفون به القرآن من تكذيب به كلّه،أو تكذيب ما لا يوافق هواهم، و تصديق ما يؤيّد كتبهم.

و يحتمل أنّ المراد من(الكتاب)المجرور ب(في)هو المراد من المنصوب في قوله: ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ البقرة:174،يعني التّوراة و الإنجيل،أي اختلفوا في الّذي يقرّونه و الّذي يغيّرونه،و في الإيمان بالإنجيل و الإيمان بالتّوراة.

و من المحتمل أن يكون المراد ب اَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ ما يشمل المشركين،و أن يكون الاختلاف هو اختلاف معاذيرهم عن القرآن،إذ قالوا:سحر،أو شعر،أو كهانة،أو أساطير الأوّلين.لكنّه خروج عن سياق الكلام على أهل الكتاب.

و من المحتمل أيضا أن يكون المراد ب(الكتاب):

الجنس،أي الّذين اختلفوا في كتب اللّه،فآمنوا ببعضها و كفروا بالقرآن.(2:125)

مغنيّة:اختلف المفسّرون في المراد بقوله تعالى:

اَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ، فذهب أكثرهم-على ما في مجمع البيان-إلى أنّهم الكفّار،و وجه الاختلاف أنّ منهم من قال:إنّ القرآن سحر،و منهم من قال:هو رجز،و قال آخرون:أساطير الأوّلين.

و قال بعض المفسّرين:بل المراد:المسلمون،فإنّهم بعد أن اتّفقوا على أنّ القرآن من عند اللّه اختلفوا في تفسيره و تأويله،و تشعّبوا إلى فرق و شيع،و كان عليهم أن تكون كلمتهم واحدة بعد أن كان قرآنهم واحدا.

و يجوز أن يكون المراد الكفّار،و لكن،لا لأنّ بعضهم قال:إنّ القرآن سحر،و آخر قال:إنّه رجز،بل لأنّهم السّبب الوحيد للخلاف و الشّقاق،و عدم جمع الكلمة على الحقّ بينهم و بين من آمن بالقرآن.

(1:268)

فضل اللّه :في تحريفه و تأويله و تحريكه في الواقع تبعا لأهوائهم الّتي لا تنطلق بهم من موقع وحدة و لا تسير بهم إلى قاعدة من اللّقاء.(3:199)

2،3- كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. البقرة:213

لاحظ:«اختلف».

4- ...وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.

البقرة:253

ابن عبّاس: وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا في الدّين.(36)

لاحظ:ق ت ل:«اقتتلوا».

ص: 176

5- وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.

آل عمران:105

ابن عبّاس: وَ اخْتَلَفُوا في الدّين،كتفرّق اليهود و النّصارى في الدّين.(53)

نحوه شبّر.(1:357)

هي إشارة إلى كلّ من افترق في الأمم في الدّين، فأهلكهم الافتراق.(ابن عطيّة 1:486)

أبو أمامة رضى اللّه عنه:هم الحروريّة بالشّام.

(البغويّ 1:489)

الحسن :هم اليهود و النّصارى.

(الطّبريّ 3:386)

قتادة :هم أصحاب البدع من هذه الأمّة.

(أبو حيّان 3:21)

الرّبيع:هم أهل الكتاب،نهى اللّه أهل الإسلام أن يتفرّقوا و يختلفوا،كما تفرّق و اختلف أهل الكتاب.

(الطّبريّ 3:386)

الطّبريّ: وَ اخْتَلَفُوا في دين اللّه و أمره و نهيه.(3:385)

الزّجّاج: أي لا تكونوا كأهل الكتاب،يعني به اليهود و النّصارى و كتابهم جميعا التّوراة،و هم مختلفون،كلّ فرقة منهم-و إن اتّفقت في باب النّصرانيّة أو اليهوديّة-مختلفة أيضا،كالنّصارى الّذين هم نسطوريّة و يعقوبيّة و ملكانيّة،فأمر اللّه بالاجتماع على كتابه.و أعلم أنّ التّفرّق فيه يخرج أهله إلى مثل ما خرج إليه أهل الكتاب في كفرهم.(1:453)

الثّعلبيّ: قال أكثر المفسّرين:هم اليهود و النّصارى.و قال بعضهم:هم المبتدعة من هذه الأمّة.

(3:123)

مثله البغويّ(1:489)،و نحوه القرطبيّ(4:

166).

الطّوسيّ: قال الحسن،و الرّبيع:المعنيّ بهذا التّفرّق في الآية:اليهود و النّصارى،فكأنّه قال:يا أيّها المؤمنون وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا يعني اليهود و النّصارى.

و قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ معناه:من بعد ما نصبت لهم الأدلّة،و لا يدلّ ذلك على عناد الجميع،لأنّ قيام البيّنات إنّما يعلم بها الحقّ إذا نظر فيها،و استدلّ بها على الحقّ.

فإن قيل:إذا كان التّفرّق في الدّين هو الاختلاف فيه،فلم ذكر الوصفان؟

قلنا:لأنّ معنى(تفرقوا)يعني بالعداوة و اختلفوا في الدّيانة،فمعنى الصّفة الأولى مخالف لمعنى الصّفة الثّانية.

و فيمن نفى القياس و الاجتهاد،من استدلّ بهذه الآية على المنع من الاختلاف جملة في الأصول و الفروع.

و اعترض من خالف في ذلك بأن قال:لا يدلّ ذلك على فساد الاختلاف في مسائل الاجتهاد،كما لا يدلّ على فساد الاختلاف في المسائل المنصوص عليها، كاختلاف حكم المسافر و المقيم في الصّلاة و الصّيام،

ص: 177

و غير ذلك من الأحكام،لأنّ جميعه مدلول على صحّته:إمّا بالنّصّ عليه،و إمّا بالرّضى به.

و هذا ليس بشيء،لأنّ لمن خالف في ذلك أن يقول:الظّاهر يمنع من الاختلاف على كلّ حال إلاّ ما أخرجه الدّليل،و ما ذكره أخرجناه بالإجماع.

فالأجود في الطّعن أن يقال:و قد دلّ الدّليل على وجوب التّعبّد بالقياس و الاجتهاد!

قلنا:إن يخصّ ذلك أيضا و يصير الكلام في صحّة ذلك أو فساده،فالاستدلال بالآية إذا صحيح على نفي الاجتهاد.(2:550)

الطّبرسيّ: قيل:معناه تفرّقوا أيضا،و ذكرهما- تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا -للتّأكيد و اختلاف اللّفظين كقول الشّاعر:

*متى أدن منه ينأ عنّي و يبعد*

و قيل:معناه كالّذين تفرّقوا بالعداوة و اختلفوا في الدّيانة.(1:484)

الواحديّ: يعني صاروا فرقا مختلفين و كتابهم واحد.(1:475)

الزّمخشريّ: هم اليهود و النّصارى...و قيل:

هم مبتدعو هذه الأمّة،و هم المشبّهة و المجبّرة و الحشويّة و أشباههم.(1:453)

نحوه الشّربينيّ.(1:238)

الفخر الرّازيّ: المسألة الثّانية:قوله: تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا فيه وجوه:

الأوّل:تفرّقوا و اختلفوا بسبب اتّباع الهوى و طاعة النّفس و الحسد،كما أنّ إبليس ترك نصّ اللّه تعالى بسبب حسده لآدم.

الثّاني:تفرّقوا حتّى صار كلّ فريق منهم يصدّق من الأنبياء بعضا دون بعض،فصاروا بذلك إلى العداوة و الفرقة.

الثّالث:صاروا مثل مبتدعة هذه الأمّة،مثل المشبّهة و القدريّة و الحشويّة.

المسألة الثّالثة:قال بعضهم: تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا معناهما واحد،و ذكرهما للتّأكيد.

و قيل:بل معناهما مختلف،ثمّ اختلفوا،فقيل:

تفرّقوا بالعداوة و اختلفوا في الدّين.و قيل:تفرّقوا بسبب استخراج التّأويلات الفاسدة من تلك النّصوص،ثمّ اختلفوا بأن حاول كلّ واحد منهم نصرة قوله و مذهبه.و الثّالث:تفرّقوا بأبدانهم بأن صار كلّ واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد،ثمّ اختلفوا بأن صار كلّ واحد منهم يدّعي أنّه على الحقّ و أنّ صاحبه على الباطل.

و أقول:إنّك إذا أنصفت علمت أنّ أكثر علماء هذا الزّمان صاروا موصوفين بهذه الصّفة،فنسأل اللّه العفو و الرّحمة.(8:180)

نحوه النّيسابوريّ.(4:31)

البيضاويّ: كاليهود و النّصارى،اختلفوا في التّوحيد و التّنزيه و أحوال الآخرة.(1:176)

مثله الكاشانيّ.(1:340)

النّسفيّ: (تفرقوا)بالعداوة(و اختلفوا)في الدّيانة،و هم اليهود و النّصارى،فإنّهم اختلفوا و كفّر بعضهم بعضا.(1:174)

ص: 178

أبو حيّان:[حكى قول قتادة و أبي أمامة ثمّ قال:]

قال بعض معاصرينا:في قول قتادة و أبي أمامة نظر،فإنّ مبتدعة هذه الأمّة و الحروريّة لم يكونوا إلاّ بعد موت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بزمان،و كيف نهى اللّه المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرّقهم و لا بدعهم إلاّ بعد انقطاع الوحي و موت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؟فإنّك لا تنهى زيدا أن يكون مثل عمرو إلاّ بعد تقدّم أمر مكروه جرى من عمرو.و ليس لقوليهما وجه إلاّ أن يكون تفرّقوا و اختلفوا من الماضي الّذي أريد به المستقبل،فيكون المعنى:و لا تكونوا كالّذين يتفرّقون و يختلفون،فيكون ذلك من إعجاز القرآن و إخباره بما لم يقع ثمّ وقع، انتهى كلامه.(3:21)

أبو السّعود :هم أهل الكتابين؛حيث تفرّقت اليهود فرقا و النّصارى فرقا،(و اختلفوا)باستخراج التّأويلات الزّائغة،و كتم الآيات النّاطقة و تحريفها،بما أخلدوا إليه من حطام الدّنيا الدّنيئة. مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي الآيات الواضحة المبيّنة للحقّ [الموجبة]للاتّفاق عليه و اتّحاد الكلمة،فالنّهي متوجّه إلى المتصدّين للدّعوة أصالة،و إلى أعقابهم تبعا.

و يجوز تعميم الموصول للمختلفين من الأمم السّالفة،المشار إليهم بقوله عزّ و جلّ: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ البقرة:213،و قيل:هم المبتدعة من هذه الأمّة،و قيل:

هم الحروريّة

و على كلّ تقدير فالمنهيّ عنه إنّما هو الاختلاف في الأصول دون الفروع،إلاّ أن يكون مخالفا للنّصوص البيّنة أو الإجماع،لقوله عليه الصّلاة و السّلام:«اختلاف أمّتي رحمة»،و قوله عليه السّلام:«من اجتهد فأصاب فله أجران،و من أخطأ فله أجر واحد».

(2:14)

نحوه البروسويّ.(2:75)

الآلوسيّ: (و اختلفوا)في التّوحيد و التّنزيه و أحوال المعاد.قيل:و هذا معنى(تفرقوا)و كرّره للتّأكيد.و قيل:التّفرّق بالعداوة،و الاختلاف بالدّيانة...

ثمّ إنّ هذا الاختلاف المذموم محمول-كما قيل- على الاختلاف في الأصول دون الفروع،و يؤخذ هذا التّخصيص من التّشبيه.و قيل:إنّه شامل للأصول و الفروع،لما نرى من اختلاف أهل السّنّة فيها، كالماتريديّ و الأشعريّ.فالمراد حينئذ بالنّهي عن الاختلاف:النّهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نصّ من الشّارع أو أجمع عليه،و ليس بالبعيد.[ثم أدام البحث في عدم المنع عن الاختلاف بحديث«اختلاف أمّتي رحمة»،فلاحظ](4:23)

ابن عاشور :و قوله: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا معطوف على قوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ آل عمران:104،و هو يرجع إلى قوله قبل: وَ لا تَفَرَّقُوا آل عمران:103،لما فيه من تمثيل حال التّفرّق في أبشع صوره المعروفة لديهم،من مطالعة أحوال اليهود.و فيه إشارة إلى أنّ ترك الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر يفضي إلى التّفرّق و الاختلاف؛

ص: 179

إذ تكثر النّزعات و النّزغات و تنشقّ الأمّة بذلك انشقاقا شديدا.

و المخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ مع أنّه لا شكّ في أنّ حكم هذه الآية يعمّ سائر المسلمين:إمّا بطريق اللّفظ،و إمّا بطريق لحن الخطاب،لأنّ المنهيّ عنه هو الحالة الشّبيهة بحال الّذين تفرّقوا و اختلفوا.

و أريد ب(الذين تفرقوا و اختلفوا)،الّذين اختلفوا في أصول الدّين،من اليهود و النّصارى،من بعد ما جاءهم من الدّلائل المانعة من الاختلاف و الافتراق.و قدّم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأنّ الاختلاف علّة التّفرّق،و هذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام،و ذكر الأشياء مع مقارناتها و في عكسه قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ البقرة:282.

و فيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم و الّذي يؤدّي إلى الافتراق،هو الاختلاف في أصول الدّيانة الّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمّة بعضا،أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمّة في الأقطار و الأعصار،و هو المعبّر عنه بالاجتهاد.

و نحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميّة،لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلاّ عن اختلاف في العقائد و الأصول،دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشّريعة.(3:183)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا...

لا يبعد أن يكون قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ متعلّقا بقوله:(و اختلفوا)فقط،و حينئذ كان المراد بالاختلاف:التّفرّق من حيث الاعتقاد،و بالتّفرّق:

الاختلاف و التّشتّت من حيث الأبدان.و قدّم التّفرّق على الاختلاف،لأنّه كالمقدّمة المؤدّية إليه،لأنّ القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتّصلت عقائد بعضهم ببعض،و اتّحدت بالتّماسّ و التّفاعل،و حفظهم ذلك من الاختلاف،فإذا تفرّقوا و انقطع بعضهم عن بعض، أدّاهم ذلك إلى اختلاف المشارب و المسالك، و لم يلبثوا دون أن يستقلّ أفكارهم و آراؤهم بعضها عن بعض،و برز فيهم الفرقة،و انشقّ عصا الوحدة، فكأنّه تعالى يقول:و لا تكونوا كالّذين تفرّقوا بالأبدان أوّلا،و خرجوا من الجماعة،و أفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد و الآراء أخيرا.

و قد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي،قال تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ البقرة:213،مع أنّ ظهور الاختلاف في العقائد و الآراء ضروريّ بين الأفراد لاختلاف الأفهام،لكن كما أنّ ظهور هذا الاختلاف ضروريّ،كذلك دفع الاجتماع لذلك و ردّه المختلفين إلى ساحة الاتّحاد أيضا ضروريّ،فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة،و إعراض الأمّة عن ذلك بغي منهم،و إلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.

و قد أكّد القرآن الدّعوة إلى الاتّحاد،و بالغ في النّهي عن الاختلاف،و ليس ذلك إلاّ لما كان يتفرّس من أمر هذه الأمّة أنّهم سيختلفون كالّذين من قبلهم، بل يزيدون عليهم في ذلك.

ص: 180

و قد تقدّم مرارا أنّ من دأب القرآن أنّه إذا بالغ في التّحذير عن شيء و النّهي عن اقترافه،كان ذلك آية وقوعه و ارتكابه.و هذا أمر أخبر به النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا، كما أخبر به القرآن،و أنّ الاختلاف سيدبّ في أمّته،ثمّ يظهر في صورة الفرق المتنوّعة،و أنّ أمّته ستختلف كما اختلفت اليهود و النّصارى من قبل...

و قد صدّق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنيّة فلم تلبث الأمّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دون أن تفرّقوا شذر مدر،و اختلفوا في مذاهب شتّى،بعضهم يكفّر بعضا من لدن عصر الصّحابة إلى يومنا هذا،و كلّما رام أحد أن يوفّق بين مختلفين منها،أولد ذلك مذهبا ثالثا.

و الّذي يهدينا إليه البحث بالتّحليل و التّجزئة:

أنّ أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الّذين يغلظ القرآن القول فيهم و عليهم،و يستعظم مكرهم و كيدهم،فإنّك لو تدبّرت ما يذكره اللّه تعالى في حقّهم في سور البقرة و التّوبة و الأحزاب و المنافقين و غيرها، لرأيت عجبا،و كان هذا حالهم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا ينقطع الوحي،ثمّ لمّا توفّاه اللّه غاب ذكرهم، و سكنت أجراسهم دفعة:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا

أنيس و لم يسمر بمكّة سامر

و لم يلبث النّاس دون أن وجدوا أنفسهم،و قد تفرّقوا أيادي سبا،و باعدت بينهم شتّى المذاهب، و استعبدتهم حكومات التّحكّم و الاستبداد، و أبدلوا سعادة الحياة بشقاء الضّلال و الغيّ،و اللّه المستعان.(3:373)

6- ...وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً. النّساء:157

الحسن :معنى اختلافهم قول بعضهم:إنّه إله، و بعضهم:هو ابن اللّه.(القرطبيّ 6:9)

الطّبريّ: اليهود الّذين أحاطوا بعيسى و أصحابه حين أرادوا قتله؛و ذلك أنّهم كانوا قد عرفوا عدّة من في البيت قبل دخولهم-فيما ذكر-فلمّا دخلوا عليهم،فقدوا واحدا منهم،فالتبس أمر عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدّة الّتي كانوا قد أحصوها، و قتلوا من قتلوا على شكّ منهم في أمر عيسى.

و هذا التّأويل على قول من قال:لم يفارق الحواريّون عيسى حتّى رفع و دخل عليهم اليهود.

و أمّا تأويله على قول من قال:تفرّقوا عنه من اللّيل،فإنّه وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في عيسى،هل هو الّذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدّة الّتي كانت فيه،أم لا؟(4:355)

نحوه الطّوسيّ.(3:384)

الزّجّاج: أي الّذين اختلفوا في قتله شاكّون،لأنّ بعضهم زعم أنّه إله،و ما قتل،و بعضهم ذكر أنّه قتل، و هم في ذلك شاكّون.(2:128)

الماورديّ: فيه قولان:

أحدهما:أنّهم اختلفوا فيه قبل قتله،فقال بعضهم:

هو إله،و قال بعضهم:هو ولد،و قال بعضهم:هو ساحر،فشكّوا، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ الشّكّ الّذي حدث فيهم بالاختلاف.

ص: 181

و الثّاني:ما لهم بحاله من علم-هل كان رسولا أو غير رسول؟-إلاّ اتّباع الظّنّ.(1:543)

الزّمخشريّ: اختلفوا،فقال بعضهم:إنّه إله لا يصحّ قتله،و قال بعضهم:إنّه قد قتل و صلب،و قال بعضهم:إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟و إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟و قال بعضهم:رفع إلى السّماء،و قال بعضهم:الوجه وجه عيسى،و البدن بدن صاحبنا.(1:580)

ابن الجوزيّ: في«المختلفين»قولان:

أحدهما:أنّهم اليهود،فعلى هذا في هاء(فيه) قولان:

أحدهما:أنّها كناية عن قتله،فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟

و في سبب اختلافهم في ذلك قولان:

أحدهما:أنّهم لمّا قتلوا الشّخص المشبّه كان الشّبه قد ألقي على وجهه دون جسده،فقالوا:الوجه وجه عيسى،و الجسد جسد غيره،ذكره ابن السّائب.

و الثّاني:أنّهم قالوا:إن كان هذا عيسى،فأين صاحبنا؟و إن كان هذا صاحبنا،فأين عيسى؟يعنون الّذي دخل في طلبه،هذا قول السّدّيّ.

و الثّاني:أنّ«الهاء»كناية عن عيسى،و اختلافهم فيه قول بعضهم:هو ولد زنى،و قول بعضهم:هو ساحر.

و الثّاني:أنّ المختلفين النّصارى،فعلى هذا في هاء (فيه)قولان:

أحدهما:أنّها ترجع إلى قتله،هل قتل أم لا؟

و الثّاني:أنّها ترجع إليه،هل هو إله أم لا؟

و في هاء(منه)قولان:

أحدهما:أنّها ترجع إلى قتله.

و الثّاني:إلى نفسه هل هو إله،أم لغير رشدة،أم هو ساحر؟(2:245)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ في قوله: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ قولين:

الأوّل:أنّهم هم النّصارى؛و ذلك لأنّهم بأسرهم متّفقون على أنّ اليهود قتلوه،إلاّ أنّ كبار فرق النّصارى ثلاثة:النّسطوريّة،و الملكانيّة،و اليعقوبيّة.

أمّا النّسطوريّة فقد زعموا:أنّ المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته،و أكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول.قالوا:لأنّه ثبت أنّ الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل،بل هو إمّا جسم شريف منساب في هذا البدن،و إمّا جوهر روحانيّ مجرّد في ذاته،و هو مدبر في هذا البدن،فالقتل إنّما ورد على هذا الهيكل،و أمّا النّفس الّتي هي في الحقيقة عيسى عليه السّلام،فالقتل ما ورد عليه.لا يقال:فكلّ إنسان كذلك، فما الوجه لهذا التّخصيص؟

لأنّا نقول:إنّ نفسه كانت قدسيّة علويّة سماويّة، شديدة الإشراق بالأنوار الإلهيّة،عظيمة القرب من أرواح الملائكة.و النّفس متى كانت كذلك،لم يعظم تألّمها بسبب القتل و تخريب البدن.ثمّ إنّها بعد الانفصال عن ظلمة البدن،تتخلّص إلى فسحة السّماوات و أنوار عالم الجلال،فيعظم بهجتها و سعادتها هناك.و معلوم أنّ هذه الأحوال غير حاصلة لكلّ النّاس،بل هي غير حاصلة من مبدإ

ص: 182

خلقة آدم عليه السّلام إلى قيام القيامة إلاّ لأشخاص قليلين.

فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى عليه السّلام بهذه الحالة.

و أمّا الملكانيّة فقالوا:القتل و الصّلب وصلا إلى اللاّهوت بالإحساس و الشّعور لا بالمباشرة.

و قالت اليعقوبيّة:القتل و الصّلب وقعا بالمسيح الّذي هو جوهر متولّد من جوهرين.فهذا هو شرح مذاهب النّصارى في هذا الباب،و هو المراد من قوله:

وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ.

القول الثّاني:أنّ المراد بالّذين اختلفوا هم اليهود، و فيه وجهان:

الأوّل:أنّهم لمّا قتلوا الشّخص المشبّه به كان الشّبه قد ألقى على وجهه و لم يلق عليه شبه جسد عيسى عليه السّلام،فلمّا قتلوه و نظروا إلى بدنه قالوا:الوجه وجه عيسى و الجسد جسد غيره.

الثّاني:قال السّدّيّ: إنّ اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من الحواريّين في بيت،فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه و يقتله،فألقى اللّه شبه عيسى عليه و رفع إلى السّماء،فأخذوا ذلك الرّجل و قتلوه على أنّه عيسى عليه السّلام،ثمّ قالوا:إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا و إن كان صاحبنا فأين عيسى؟فذلك اختلافهم فيه.(11:101)

نحوه النّيسابوريّ(6:14)،و القرطبيّ(6:9)، و أبو حيّان(3:390)،و البروسويّ(2:318).

البيضاويّ: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في شأن عيسى عليه الصّلاة و السّلام،فإنّه لمّا وقعت تلك الواقعة اختلف النّاس،فقال بعض اليهود:إنّه كان كاذبا فقتلناه حقّا،و تردّد آخرون،فقال بعضهم:إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟و قال بعضهم:الوجه وجه عيسى و البدن بدن صاحبنا.و قال من سمع منه أنّ اللّه سبحانه و تعالى يرفعني إلى السّماء:أنّه رفع إلى السّماء.و قال بعضهم:صلب النّاسوت و صعد اللاّهوت.(1:255)

مثله الكاشانيّ(1:479)،و نحوه الشّربينيّ(1:

343)،و أبو السّعود(2:217).

النّسفيّ: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في عيسى، يعني اليهود،قالوا:إنّ الوجه وجه عيسى و البدن بدن صاحبنا.أو اختلف النّصارى،قالوا:إله،و ابن إله، و ثالث ثلاثة.(1:262)

الآلوسيّ: [نحو البيضاويّ و أضاف:]

و قالت النّصارى الّذين يدّعون ربوبيّته عليه السّلام:

صلب النّاسوت و صعد اللاّهوت،و لهذا لا يعدّون القتل نقيصة؛حيث لم يضيفوه إلى اللاّهوت.و يردّ هؤلاء أنّ ذلك يمتنع عند اليعقوبيّة القائلين:إنّ المسيح قد صار بالاتّحاد طبيعة واحدة،إذ الطّبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميّز عن لاهوت،و الشّىء الواحد لا يقال:مات و لم يمت،و أهين و لم يهن.

و أمّا الرّوم القائلون:بأنّ المسيح بعد الاتّحاد باق على طبيعتين،فيقال لهم:فهل فارق اللاّهوت ناسوته عند القتل؟فإن قالوا:فارقه فقد أبطلوا دينهم،فلم يستحقّ المسيح الرّبوبيّة عندهم إلاّ بالاتّحاد.و إن قالوا:لم يفارقه،فقد التزموا ما ورد على اليعقوبيّة، و هو قتل اللاّهوت مع النّاسوت.و إن فسّروا الاتّحاد

ص: 183

بالتّدرّع،و هو أنّ الإله جعله مسكنا و بيتا ثمّ فارقه عند ورود ما ورد على النّاسوت،أبطلوا إلهيّته فى تلك الحالة،و قلنا لهم:أ ليس قد أهين؟

و هذا القدر يكفي في إثبات النّقيصة،إذ لم يأنف اللاّهوت لمسكنه أن تناله هذه النّقائص،فإن كان قادرا على نفيها،فقد أساء مجاورته و رضي بنقيصته؛ و ذلك عائد بالنّقص عليه في نفسه،و إن لم يكن قادرا، فذلك أبعد له عن عزّ الرّبوبيّة.

و هؤلاء ينكرون إلقاء الشّبه،و يقولون:لا يجوز ذلك،لأنّه إضلال.و ردّه أظهر من أن يخفى.

و يكفي في إثباته:أنّه لو لم يكن ثابتا لزم تكذيب المسيح و إبطال نبوّته،بل و سائر النّبوّات،على أنّ قولهم في الفصل:إنّ المصلوب قال:إلهي إلهي لم تركتني و خذلتني؟!و هو ينافي الرّضا بمرّ القضاء، و يناقض التّسليم لأحكام الحكيم،و أنّه شكى العطش و طلب الماء.و الإنجيل مصرّح بأنّ المسيح كان يطوي أربعين يوما و ليلة،إلى غير ذلك ممّا لهم فيه،إن صحّ ممّا ينادي على أنّ المصلوب هو الشّبه،كما لا يخفى

فالمراد من الموصول:ما يعمّ اليهود و النّصارى جميعا.(6:10)

ابن عاشور :يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح،و الخلاف فيه موجود بين المسيحيّين، فجمهورهم يقولون:قتلته اليهود،و بعضهم يقول:

لم يقتله اليهود،و لكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الّذي شبّه لهم بالمسيح،و هذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابى الّذي تعتبره الكنيسيّة اليوم كتابا محرّفا، فالمعنى:أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه،بل يخالج أنفسهم الشّكّ،و يتظاهرون باليقين،و ما هو باليقين.(4:307)

مغنيّة:اختلف اليهود و النّصارى في السّيّد المسيح عليه السّلام،و وقفوا منه موقفين متناقضين،فقال اليهود:هو ابن زنى،و قال النّصارى:هو ابن اللّه.

و أيضا قال اليهود:صلبناه،و دفن تحت الأرض إلى غير رجعة،و قال النّصارى:إنّه صلب و دفن،و لكنّه قام من تحت التّراب،و رجع إلى الدّنيا بعد ثلاثة أيّام.

(2:485)

مكارم الشّيرازيّ: قد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية،فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة و مقام المسيح عليه السّلام،حيث اعتبره جمع من المسيحيّين ابنا للّه،و رفض البعض الآخر-كاليهود-كونه نبيّا،و إنّ كلّ هؤلاء كانوا على خطإ من أمرهم.

و قد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفيّة قتل المسيح عليه السّلام،حيث قال البعض:بأنّه قتل،و قال آخرون:بأنّه لم يقتل،و لم يكن أيّ من هاتين الطّائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعلّ الّذين ادّعوا قتل المسيح وقعوا في شكّ من هذا الأمر،لعدم معرفتهم بالمسيح عليه السّلام،فاختلفوا في الّذي قتلوه هل كان هو المسيح،أو هو شخص غيره...؟!(3:463)

7- وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ

ص: 184

يَخْتَلِفُونَ. يونس:19

أبيّ بن كعب:فاختلفوا في الدّين،فمؤمن و كافر.

(الماورديّ 2:428)

ابن عبّاس: فصاروا مؤمنين و كافرين.(171)

مجاهد :هو اختلاف بني آدم حين قتل قابيل أخاه هابيل.(الماورديّ 2:429)

الكلبيّ: (فاختلفوا:)فتفرّقوا،مؤمن و كافر.

(الثّعلبيّ 5:125)

الزّجّاج: آمن بعض و كفر بعض.(3:12)

البيضاويّ: (فاختلفوا)باتّباع الهوى و الأباطيل،أو ببعثة الرّسل عليهم الصّلاة و السّلام، فتبعتهم طائفة و أصرّت أخرى.(1:443)

النّسفيّ: (فاختلفوا)فصاروا مللا.(2:157)

الشّربينيّ: بأن ثبت بعض و كفر بعض.(2:12)

أبو السّعود :(فاختلفوا)بأن كفر بعضهم و ثبت آخرون على ما هم عليه،فخالف كلّ من الفريقين الآخر،لا أنّ كلاّ منهما أحدث ملّة على حدّة من ملل الكفر مخالفة لملّة الآخر،فإنّ الكلام ليس في ذلك الاختلاف؛إذ كلّ منهما مبطل حينئذ،فلا يتصوّر أن يقضى بينهما بإبقاء المحقّ و إهلاك المبطل.و«الفاء» التّعقيبيّة لا تنافي امتداد زمان الاتّفاق؛إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدّة الاتّفاق،لا عقيب حدوث الاتّفاق.(3:225)

نحوه الآلوسيّ.(11:90)

البروسويّ: أي تفرّقوا إلى مؤمن و كافر...

و يحتمل أن يكون المعنى:أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة في بدء الخلقة،موجودين على أصل الفطرة الّتي فطر النّاس عليها،فاختلفوا بحسب تربية الوالدين،كما قال عليه السّلام:«كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه»،ثمّ اختلفوا بعد البلوغ بحسب المعاملات الطّبيعيّة و الشّرعيّة.ثمّ هذا الاختلاف كما كان بين الأمم السّالفة،كذلك كان بين هذه الأمّة،فمن مؤمن و من كافر و من مبتدع.و في اختلافهم فائدة جليلة و حكمة عظيمة؛حيث إنّ الكمال الإلهيّ إنّما يظهر بمظاهر جماله و جلاله،لكن ينبغي للنّاس أن يكونوا على التّآلف و التّوافق دون التّباغض و التّفرّق،لأنّ يد اللّه مع الجماعة،و إنّما يأكل الذّئب الشّاة المنفردة...(4:26)

الطّباطبائيّ: قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً... البقرة:213،أنّ الآية تكشف عن نوعين من الاختلاف بين النّاس:

أحدهما:الاختلاف من حيث المعاش،و هو الّذي يرجع إلى الدّعاوي و ينقسم به النّاس إلى مدّع و مدّعى عليه،و ظالم و مظلوم،و متعدّ و متعدّى عليه، و آخذ بحقّه و ضائع حقّه،و هذا هو الّذي رفعه اللّه سبحانه بوضع الدّين،و بعث النّبيّين و إنزال الكتاب معهم،ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه،و يعلّمهم معارف الدّين،و يواجههم بالإنذار و التّبشير.

و ثانيهما:الاختلاف في نفس الدّين،و ما تضمّنه الكتاب الإلهيّ من المعارف الحقّة من الأصول و الفروع،و قد صرّح القرآن في مواضع من آياته أنّ هذا النّوع من الاختلاف ينتهي إلى علماء الكتاب بغيا

ص: 185

بينهم،و ليس ممّا يقتضيه طباع الإنسان كالقسم الأوّل،و بذلك ينقسم الطّريق إلى طريقي الهداية و الضّلال،فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ.

و قد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه بعد ذكر هذا القسم من الاختلاف،أنّه لو لا قضاء من اللّه سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه،و لكن يؤخّرهم إلى أجل،قال تعالى: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ الشّورى:14،إلى غير ذلك من الآيات.

و سياق الآية السّابقة-أعني قوله تعالى:

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ...، يونس:18-لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلاّ الاختلاف الثّاني،و هو الاختلاف في نفس الدّين، لأنّها تذكر ركوب النّاس طريق الضّلال بعبادتهم ما لا يضرّهم و لا ينفعهم،و اتّخاذهم شفعاء عند اللّه.

و مقتضى ذلك أن يكون المراد من كون النّاس سابقا أمّة واحدة كونهم على دين واحد و هو دين التّوحيد، ثمّ اختلفوا فتفرّقوا فريقين:موحّد،و مشرك.

(10:31)

8- وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. يونس:93

ابن عبّاس: فَمَا اخْتَلَفُوا اليهود و النّصارى في محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن....(179)

الفرّاء: فَمَا اخْتَلَفُوا، يعني بني إسرائيل،إنّهم كانوا مجتمعين على الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم قبل أن يبعث، فلمّا بعث كذّبه بعض و آمن به بعض،فذلك اختلافهم.(1:478)

الطّبريّ: يقول جلّ ثناؤه:فما اختلف هؤلاء الّذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل،حتّى جاءهم ما كانوا به عالمين؛و ذلك أنّهم كانوا قبل أن يبعث محمّد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مجمعين على نبوّة محمّد،و الإقرار به و بمبعثه،غير مختلفين فيه بالنّعت الّذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم،فلمّا جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم و آمن به بعضهم،و المؤمنون به منهم كانوا عددا قليلا...(6:608)

نحوه الشّربينيّ.(2:37)

الثّعلبيّ: يعني اليهود الّذين كانوا على عهد النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم...

و معنى الآية:فما اختلفوا في محمّد حتّى جاءهم المعلوم،و هو كون محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم نبيّا،لأنّهم كانوا يعلمونه قبل خروجه.(...يختلفون)من الدّين.(5:148)

نحوه البغويّ.(2:433)

الماورديّ: يعني أنّ بني إسرائيل ما اختلفوا أنّ محمّدا نبيّ.(2:450)

الزّمخشريّ: فَمَا اخْتَلَفُوا في دينهم و ما تشعّبوا فيه شعبا،إلاّ من بعد ما قرءوا التّوراة...

و قيل:هو العلم بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و اختلاف بني إسرائيل

ص: 186

-و هم أهل الكتاب-اختلافهم في صفته و نعته،و أنّه هو أم ليس،بعد ما جاءهم العلم...(2:252)

نحوه البيضاويّ(1:457)،و النّسفيّ(2:175)، و النّيسابوريّ(11:117).

ابن عطيّة: يحتمل معنيين:

أحدهما:فما اختلفوا في نبوّة محمّد و انتظاره حتّى جاءهم و بان علمه و أمره،فاختلفوا حينئذ.و هذا التّخصيص هو الّذي وقع في كتب المتأوّلين،و هذا التّأويل يحتاج إلى سند.

و التّأويل الآخر الّذي يحتمله اللّفظ:أنّ بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أوّل حاله، فلمّا جاءهم العلم و الأوامر و غرق فرعون،اختلفوا.

فمعنى الآية:مذمّة ذلك الصّدر من بني إسرائيل.

(3:142)

الفخر الرّازيّ: هاهنا بحثان:..

البحث الثّاني:اختلفوا في أنّ المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الّذين كانوا في زمن موسى عليه السّلام،أم الّذين كانوا في زمن محمّد عليه السّلام؟

أمّا القول الأوّل:فقد قال به قوم،و دليلهم أنّه تعالى لمّا ذكر هذه الآية عقيب قصّة موسى عليه السّلام،كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى،...

ثمّ قال تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ و المراد أنّ قوم موسى عليه السّلام بقوا على ملّة واحدة و مقالة واحدة من غير اختلاف حتّى قرءوا التّوراة، فحينئذ تنبّهوا للمسائل و المطالب،و وقع الاختلاف بينهم.

ثمّ بيّن تعالى أنّ هذا النّوع من الاختلاف لا بدّ و أن يبقى في دار الدّنيا،و أنّه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة.

و أمّا القول الثّاني:و هو أنّ المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الّذين كانوا في زمان محمّد عليه الصّلاة و السّلام،فهذا قال به قوم عظيم من المفسّرين.

قال ابن عبّاس:و هم قريظة و النّضير و بنو قينقاع،أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة و الشّام، و رزقناهم من الطّيّبات.و المراد ما في تلك البلاد من الرّطب و التّمر الّتي ليس مثلها طيّبا في البلاد،ثمّ إنّهم بقوا على دينهم،و لم يظهر فيهم الاختلاف حتّى جاءهم العلم،و المراد من العلم:القرآن النّازل على محمّد عليه الصّلاة و السّلام،و إنّما سمّاه علما،لأنّه سبب العلم،و تسمية السّبب باسم المسبّب مجاز مشهور.

و في كون القرآن سببا لحدوث الاختلاف وجهان:

الأوّل:أنّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمّد عليه الصّلاة و السّلام،و يفتخرون به على سائر النّاس، فلمّا بعثه اللّه تعالى كذّبوه حسدا و بغيا و إيثارا لبقاء الرّئاسة،و آمن به طائفة منهم،فبهذا الطّريق صار نزول القرآن سببا لحدوث الاختلاف فيهم.

الثّاني:أن يقال:إنّ هذه الطّائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفّارا محضا بالكلّيّة،و بقوا على هذه الحالة حتّى جاءهم العلم،فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم و بقي أقوام آخرون على كفرهم.

و أمّا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فالمراد منه أنّ هذا النّوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدّنيا،

ص: 187

و أنّه تعالى في الآخرة يقضي بينهم،فيتميّز المحقّ من المبطل،و الصّدّيق من الزّنديق.(17:158)

القرطبيّ: فَمَا اخْتَلَفُوا أي في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم...

...يَخْتَلِفُونَ في الدّنيا.(8:381)

أبو حيّان : فَمَا اخْتَلَفُوا، أي كانوا على ملّة واحدة و طريقة واحدة مع موسى عليه السّلام في أوّل حاله، حتّى جاءهم العلم،أي علم التّوراة فاختلفوا.و هذا ذمّ لهم،أي إنّ سبب الإيقاف هو العلم،فصار عندهم سبب الاختلاف،فتشعّبوا شعبا بعد ما قرءوا التّوراة.

و قيل:(العلم)بمعنى المعلوم،و هو محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّ رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التّوراة، و كانوا يستفتحون به،أي يستنصرون،و كانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوّته،يستنصرون به في الحروب،يقولون:اللّهمّ بحرمة النّبيّ المبعوث في آخر الزّمان انصرنا،فينصرون.فلمّا جاء قالوا:النّبيّ الموعود به من ولد يعقوب،و هذا من ولد إسماعيل، فليس هو ذاك،فآمن به بعضهم كعبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و قيل(العلم):القرآن،و اختلافهم قول بعضهم:

هو من كلام محمّد،و قول بعضهم:من كلام اللّه،و ليس لنا إنّما هو للعرب،و صدّق به قوم فآمنوا.و هذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدّنيا،و أنّه تعالى يقضي فيه في الآخرة،فيميّز المحقّ من المبطل.(5:190)

الآلوسيّ: فَمَا اخْتَلَفُوا في أمور دينهم،بل كانوا متّبعين أمر رسولهم عليه السّلام، حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي إلاّ بعد ما علموا بقراءة التّوراة،و الوقوف على أحكامها.

و قيل:المعنى ما اختلفوا في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ بعد ما علموا صدق نبوّته بنعوته المذكورة في كتابهم،و تظاهر معجزاته،و هو ظاهر على القول الأخير في المراد من بني إسرائيل المبوّئين و أمّا على القول الأوّل ففيه خفاء،لأنّ أولئك المبوّئين،الّذين كانوا في عصر موسى عليه السّلام لم يختلفوا في أمر نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم ضرورة،لينسب إليهم ذلك الاختلاف حقيقة،و ليس هذا نظير قوله تعالى: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ... الأعراف:

141،و لا قوله سبحانه: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ البقرة:91،ليعتبر المجاز.(11:189)

ابن عاشور :الاختلاف:«افتعال»أريد به شدّة التّخالف،و لا يعرف لمادّة هذا المعنى فعل مجرّد.و هي مشتقّة من الاسم الجامد و هو«الخلف»لمعنى الوراء.

فتعيّن أنّ زيادة التّاء للمبالغة،مثل«اكتسب»مبالغة في«كسب»،فيحمل على خلاف شديد،و هو مضادّة ما جاء به الدّين،و ما دعا إليه الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم و هو المناسب للسّياق.فإنّ الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أنّ ما بعد الغاية نهاية للثّناء و إثبات للّوم؛إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية،فالّذين لم يختلفوا هم الّذين بوّأهم اللّه مبوّأ صدق.

و قد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الّذين اختلفوا على الأنبياء،و هؤلاء ما صدق ضمير الرّفع في قوله:

جاءَهُمُ الْعِلْمُ آل عمران:19،و ما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع اللّه،

ص: 188

فلم يعملوا بما جاءوهم به.و أعظم ذلك تكذيبهم بمحمّد عليه الصّلاة و السّلام.

فعن ابن عبّاس:هم اليهود الّذين كانوا في زمن النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،كانوا قبل مبعثه مقرّين بنبيّ يأتي،فلمّا جاءهم العلم و هو القرآن،اختلفوا في تصديق محمّد عليه الصّلاة و السّلام.قال ابن عبّاس:هم قريظة و النّضير و بنو قينقاع.

و يجوز أن يكون(العلم)هو القرآن،و على هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ آل عمران:19،و قوله:

وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ البيّنة:4،فإنّ البيّنة هي محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّ قبل هذا قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ* رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً البيّنة:1،2.و قال تعالى:

فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ البقرة:89.

و هذا المحمل هو المناسب لحرف(حتّى)في قوله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ و تعقيب فَمَا اخْتَلَفُوا بالغاية يؤذن بأنّ ما بعد الغاية منتهى حالة الشّكر،أي فبقوا في ذلك المبوّأ،و في تلك النّعمة، حتّى اختلفوا فسلبت نعمتهم،فإنّ اللّه سلبهم أوطانهم.

(11:175)

9- وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. النّحل:64

ابن عبّاس: اِخْتَلَفُوا: خالفوا.(226)

الثّعلبيّ: اِخْتَلَفُوا فِيهِ: من الدّين و الأحكام.

(6:25)

مثله البغويّ(3:85)،و القرطبيّ(10:122).

الطّوسيّ: اَلَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من دلالة التّوحيد و العدل و صدق الرّسل و ما أوجبت فيه من الحلال و الحرام.(6:398)

نحوه الطّبرسيّ.(3:369)

الواحديّ: إلاّ لتبيّن لهؤلاء الكفّار ما اختلف فيه الأمم من الدّين و الأحكام،فذهبوا فيه إلى خلاف ما ذهب إليه المسلمون،فتقوم الحجّة عليهم بدعائك و بيانك.(3:69)

ابن عطيّة: اَلَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ لفظ عامّ لأنواع كفر الكفرة من الجحد باللّه تعالى،أو بالقيامة،أو بالنّبوات،أو غير ذلك،و لكنّ الإشارة في هذه الآية إنّما هي لجحدهم الرّبوبيّة،و تشريكهم الأصنام في الألوهيّة،يدلّ على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدّالّة على أنّ الأنعم و سائر الأفعال إنّما هي من اللّه تعالى،لا من الأصنام.(3:404)

الزّمخشريّ: الّذي اختلفوا فيه البعث-لأنّه كان فيهم من يؤمن به و منهم عبد المطّلب-و أشياء من التّحريم و التّحليل،و الإنكار و الإقرار.(1:416)

ابن الجوزيّ: أي ما خالفوا فيه المؤمنين من التّوحيد و البعث و الجزاء.(4:462)

الفخر الرّازيّ: المختلفون:هم أهل الملل و الأهواء،و ما اختلفوا فيه:هو الدّين،مثل التّوحيد

ص: 189

و الشّرك،و الجبر و القدر،و إثبات المعاد و نفيه،و مثل الأحكام،مثل أنّهم حرّموا أشياء تحلّ كالبحيرة و السّائبة و غيرهما،و حلّلوا أشياء تحرم كالميتة.

(20:62)

نحوه البيضاويّ(1:560)،و النّيسابوري(14:

85)،و أبو حيّان(5:507)،و الشّربينيّ(2:241)، و أبو السّعود(4:73)،و الكاشانيّ(3:142)، و البروسويّ(5:46).

الآلوسيّ: مقتضى رجوع الضّمائر السّابقة إلى الأمم السّالفة أن يرجع ضمير(لهم) (1)و(اختلفوا)إليهم أيضا،لكن منع عنه عدم تأتّي تبيين الّذي اختلفوا فيه لهم،فمنهم من جعله راجعا إلى قريش،لأنّ البحث فيهم،و منهم من جعله راجعا إلى النّاس مطلقا،لعدم اختصاص ذلك بقريش، و يدخلون فيه دخولا أوّليّا.(14:174)

ابن عاشور :عبّر عن الضّلال بطريقة الموصوليّة اَلَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ للإيماء إلى أنّ سبب الضّلال هو اختلافهم على أنبيائهم.فالعرب اختلفت ضلالتهم في عبادة الأصنام،عبدت كلّ قبيلة منهم صنما،و عبد بعضهم الشّمس و الكواكب،و اتّخذت كلّ قبيلة لنفسها أعمالا يزعمونها دينا صحيحا،و اختلفوا مع المسلمين في جميع ذلك الدّين.(13:157)

الطّباطبائيّ: المراد ب اَلَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، هو الحقّ،من اعتقاد و عمل...و المعنى هذا حال النّاس في الاختلاف في المعارف الحقّة و الأحكام الإلهيّة...

(12:284)

فضل اللّه : اِخْتَلَفُوا فِيهِ ممّا أثارته الأفكار المريضة من شكوك و شبهات و خلافات.(13:252)

10- وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. الجاثية:17

ابن عبّاس: فَمَا اخْتَلَفُوا في محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن و الإسلام.(421)

الطّوسيّ: فَمَا اخْتَلَفُوا، أي لم يختلفوا...

فالاختلاف اعتقاد كلّ واحد من النّفسين ضدّ ما يعتقده الآخر إذا كان اختلافا في المذهب،و قد يكون اختلافا في الطّريق بأن يذهب أحدهما يمنة و الآخر يسرة،و قد يكون الاختلاف في المعاني بأن لا يسدّ أحدهما مسدّ الآخر في ما يرجع إلى ذاته؛و اختلاف بني إسرائيل كان في ما يرجع إلى المذاهب.(9:255)

اختلفتم

1- إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ... الأنفال:42

لاحظ:و ع د:«تواعدتم».

2- وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ. الشّورى:10

ص: 190


1- في الأصل(اليهم)و هو سهو.

الطّوسيّ: معناه:إنّ الّذي تختلفون فيه من أمر دينكم و دنياكم و تتنازعون فيه.(9:146)

الزّمخشريّ: حكاية قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم للمؤمنين،أي ما خالفكم فيه الكفّار من أهل الكتاب و المشركين،فاختلفتم أنتم،و هم فيه من أمر من أمور الدّين.(3:461)

نحوه القرطبيّ(16:7)،و النّسفيّ(4:101)، و أبو السّعود(6:10)،و البروسويّ(8:292)، و الآلوسيّ(25:16).

ابن عطيّة: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أيّها النّاس من تكذيب و تصديق و إيمان و كفر،و غير ذلك.

(5:28)

ابن الجوزيّ: أي من أمر الدّين،و قيل:بل هو عامّ.(7:275)

الفخر الرّازيّ: ...و قيل:و ما وقع بينكم فيه من خلاف من الأمور الّتي لا تصل بتكليفكم،و لا طريق لكم إلى علمه كحقيقة الرّوح،فقولوا:اللّه أعلم به.

(27:149)

البيضاويّ: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ أنتم و الكفّار فِيهِ مِنْ شَيْءٍ من أمر من أمور الدّنيا أو الدّين.(2:354)

ابن عاشور :الجملة معطوفة على الجمل الّتي قبلها،لأنّ الكلام موجّه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و إلى المسلمين، و الواو عاطفة فعل أمر بالقول،و حذف القول شائع في القرآن بدلالة القرائن،لأنّ مادّة الاختلاف مشعرة بأنّه بين فريقين،و حالة الفريقين مشعرة بأنّه اختلاف في أمور الاعتقاد الّتي أنكرها الكافرون من التّوحيد و البعث و النّفع و الإضرار.

و(من شىء)بيان لإبهام(ما)،أي أيّ شيء اختلفتم فيه،و المراد:من أشياء الدّين و شئون اللّه تعالى.(25:111)

الطّباطبائيّ: الاختلاف ربّما كان في عقيدة كالاختلاف في أنّ الإله واحد أو كثير،و ربّما كان في عمل أو ما يرجع إليه كالاختلاف في امور المعيشة و شئون الحياة،فهو أعني الحكم يساوق القضاء مصداقا و إن اختلفا مفهوما.(18:22)

مكارم الشّيرازيّ: لقد حاول بعض المفسّرين حصر مفهوم«الاختلاف»الّذي تشير إليه الآية،في قوله تعالى: مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ في الاختلاف الوارد في الآيات المتشابهة،أو في الاختلافات و المخاصمات الحقوقيّة فقط،إلاّ أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك؛إذ هي تشمل الاختلاف سواء كان في المعارف الإلهيّة و العقائد،أم الأحكام الشّرعيّة،أم القضايا الحقوقيّة و القضائيّة،أم غير ذلك ممّا يحدث بين النّاس،لقلّة معلوماتهم و محدوديّتها،إنّ كلّ ذلك ينبغي أن يحلّ عن طريق الوحي،و بالرّجوع إلى علم اللّه و ولايته.(15:437)

اختلف

1- وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. هود:110

ابن عبّاس: (فيه)في كتاب موسى،آمن به بعض

ص: 191

و كفر به بعض.(192)

نحوه الطّبريّ(7:120)،و الزّمخشريّ(2:295).

أبو السّعود :أي في شأنه و كونه من عند اللّه تعالى،فآمن به قوم و كفر به آخرون،فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن.(3:354)

مثله الآلوسيّ.(12:148)

ابن عاشور : فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في الكتاب، و هو التّوراة.و معنى الاختلاف فيه:اختلاف أهل التّوراة في تقرير بعضها و إبطال بعض،و في إظهار بعضها و إخفاء بعض مثل حكم الرّجم.و في تأويل البعض على هواهم،و في إلحاق أشياء بالكتاب على أنّها منه،كما قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ البقرة:

79،فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم، فيقتضي الاختلاف بينهم بين مثبت و ناف.

و هذا الاختلاف بأنواعه و أحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب.فجمعت هذه المعاني جمعا بديعا في تعدية الاختلاف بحرف«في»الدّالّة على الظّرفيّة المجازيّة،و هي كالملابسة،أي فاختلف اختلافا يلابسه،أي يلابس الكتاب.

و لأنّ الغرض لم يكن متعلّقا ببيان المختلفين و لا بذمّهم،لأنّ منهم المذموم،و هم الّذين أقدموا على إدخال الاختلاف،و منهم المحمود و هم المنكرون على المبدّلين كما قال تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ المائدة:66،و سيجيء قوله:

وَ إِنَّ كُلاًّ لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ هود:111،بل كان للتّحذير من الوقوع في مثله.

بني فعل(اختلف)للمجهول؛إذ لا غرض إلاّ في ذكر الفعل لا في فاعله.(11:335)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

2- وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. فصّلت:45

يختلفون

1- لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ. النّحل:39

ابن عبّاس: يخالفون في الدّين.(224)

الطّبريّ: الّذي يختلفون فيه من إحياء اللّه خلقه بعد فنائهم.(7:584)

الزّمخشريّ: الّذي اختلفوا فيه هو الحقّ.

(2:410)

ابن عاشور :الّذي يختلفون فيه من الحقّ و الباطل،فيظهر حقّ المحقّ و يظهر باطل المبطل في العقائد و نحوها،من أصول الدّين و ما ألحق بها.

و شمل قوله:(يختلفون)كلّ معاني المحاسبة على الحقوق،لأنّ تمييز الحقوق من المظالم كلّه محلّ اختلاف النّاس و تنازعهم.(13:124)

ص: 192

2- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. النّمل:76

ابن عبّاس: كلّ الّذي هم فيه في الدّين يخالفون.

(321)

الطّبريّ: الّذي اختلفوا فيه من أمر عيسى، فقالت اليهود فيه ما قالت،و قالت النّصارى فيه ما قالت،و تبرّأ لاختلافهم فيه هؤلاء من هؤلاء،و هؤلاء من هؤلاء،و غير ذلك من الأمور الّتي اختلفوا فيها.

(10:12)

الثّعلبيّ: (يختلفون)من أمر الدّين.(7:222)

الطّوسيّ: اختلاف بني اسرائيل نحو اختلافهم في المسيح حتّى قالت اليهود فيه ما قالت،و كذّبت بنبوّته،و قالت النّصارى ما قالته من نبوّته،و وجوب إلهيّته.و كاختلاف اليهود في نسخ الشّريعة،فأجازه قوم في غير التّوراة و أباه آخرون،فلم يجيزوا النّسخ أصلا،و اعتقدوا أنّه بداء.

و كاختلافهم في المعجز،فقال بعضهم:لا يكون إلاّ بما لا يدخل تحت مقدور العباد،و قال آخرون:قد يكون إلاّ أنّه ما يعلم أنّه لا يمكن العباد الإتيان به.

و كاختلافهم في صفة المبشّر به في التّوراة،فقال بعضهم:هو يوشع بن نون،و قال آخرون:بل هو منتظر لم يأت بعد.و كلّ ذلك قد دلّ القرآن على الحقّ فيه.

و قيل:قد بيّن القرآن اختلافهم في من سلف من الأنبياء.و قيل:إنّ بني اسرائيل اختلفوا حتّى لعن بعضهم بعضا كالإسماعيليّة و العنانيّة و السّامرة.

(8:116)

الزّمخشريّ: قد اختلفوا في المسيح،فتحزّبوا فيه أحزابا،و وقع بينهم التّناكر في أشياء كثيرة حتّى لعن بعضهم بعضا.(3:159)

البيضاويّ: اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كالتّشبيه و التّنزيه،و أحوال الجنّة و النّار،و عزير و المسيح.(2:183)

أبو السّعود :من جملته ما اختلفوا في شأن المسيح و تحزّبوا فيه أحزابا،و ركبوا متن العتوّ و الغلوّ في الإفراط و التّفريط،و التّشبيه و التّنزيه،و وقع بينهم التّناكد في أشياء،حتّى بلغ المشاقّة إلى حيث لعن بعضهم بعضا.(5:101)

الآلوسيّ: ممّا اختلفوا فيه أمر المسيح عليه السّلام،فمن قائل:هو اللّه تعالى،و من قائل:ابن اللّه سبحانه،و من قائل:ثالث ثلاثة،و من قائل:هو نبيّ كغيره من الأنبياء عليهم السّلام،و من قائل:هو-و حاشاه-كاذب في دعواه النّبوّة.و ينسب مريم فيه إلى ما هي منزّهة عنه رضي اللّه تعالى عنها،و هم اليهود الّذين كذّبوه.و أمر النّبيّ المبشّر به في التّوراة،فمن قائل:هو يوشع عليه السّلام، و من قائل:هو عيسى عليه السّلام،و من قائل:إنّه لم يأت إلى الآن،و سيأتي في آخر الزّمان.و ممّا اختلفوا فيه أمر الخنزير،فقالت اليهود:بحرمة أكله،و قالت النّصارى:

بحلّه،إلى غير ذلك.(20:18)

3- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. السّجدة:25

الطّبريّ: يختلفون من أمور الدّين و البعث

ص: 193

و الثّواب و العقاب،و غير ذلك من أسباب دينهم.

(10:251)

نحوه الطّوسيّ(8:308)،و البيضاويّ(2:236).

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى:

4- وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ... فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. البقرة:113

5- ...إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ...

الزّمر:3

الطّبريّ: يختلفون في الدّنيا من عبادتهم ما كانوا يعبدون فيها.(10:612)

الزّمخشريّ: اختلافهم أنّ الّذين يعبدون موحّدون و هم مشركون و أولئك يعادونهم و يلعنونهم،و هم يرجون شفاعتهم و تقريبهم إلى اللّه زلفى.(3:386)

أبو السّعود : فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدّين الّذي اختلفوا فيه بالتّوحيد و الإشراك،و ادّعى كلّ فريق منهم صحّة ما انتحله.(5:378)

نحوه الآلوسيّ.(23:235)

ابن عاشور :أفاد نظم هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أمرين:أنّ الاختلاف ثابت لهم،و أنّه متكرّر متجدّد؛ فالأوّل من تقديم المسند إليه على الخبر الفعليّ، و الثّاني من كون المسند فعلا مضارعا.(24:14)

6- قُلِ اللّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. الزّمر:46

الطّبريّ: (يختلفون)من القول فيك،و في عظمتك و سلطانك،و غير ذلك من اختلافهم بينهم.

(11:11)

ابن عاشور :الإتيان بفعل الكون صلة ل(ما) الموصولة،ليدلّ على تحقّق الاختلاف،و كون خبر «كان»مضارعا تعريض بأنّه اختلاف متجدّد؛إذ لا طماعيّة في ارعواء المشركين عن باطلهم.و تقديم (فيه)على(يختلفون)للرّعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلف فيه.(24:106)

تختلفون

1- إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ.... ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. آل عمران:55

ابن عبّاس: (تختلفون:)تخاصمون.(48)

الطّبريّ: (تختلفون)من أمره.(3:291)

الواحديّ: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدّين و أمر عيسى.(1:442)

مثله البغويّ(1:448)،و نحوه الآلوسيّ(3:

184).

2- ...ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. الأنعام:164

ابن عبّاس: تَخْتَلِفُونَ: تخالفون.(123)

ص: 194

الطّبريّ: (تختلفون)من الأديان و الملل؛إذ كان بعضكم يدين باليهوديّة،و بعض بالنّصرانيّة، و بعض بالمجوسيّة،و بعض بعبادة الأصنام و ادّعاء الشّركاء مع اللّه و الأنداد،ثمّ يجازي جميعكم...

(5:422)

ابن عطيّة: يريد-على ما حكى بعض المتأوّلين -من أمري في قول بعضكم:هو ساحر،و بعضكم هو شاعر،و بعضكم افتراه،و بعضكم اكتتبه و نحو هذا.

و هذا التّأويل يحسن في هذا الموضع،و إن كان اللّفظ يعمّ جميع أنواع الاختلافات،من الأديان و الملل و المذاهب و غير ذلك.(2:370)

النّسفيّ: (...تختلفون)من الأديان الّتي فرّقتموها.(2:43)

ابن عاشور :المعنى:بما كنتم فيه تختلفون مع المسلمين،لأنّ الاختلاف واقع بينهم و بين المسلمين،و ليس بين المشركين في أنفسهم اختلاف.فأدمج الوعيد بالوعيد.(7:155)

3- إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. النّحل:92

الطّبريّ: الّذي كانوا فيه يختلفون في الدّنيا،أنّ المؤمن باللّه كان يقرّ بوحدانيّة اللّه و نبوّة نبيّه،و يصدّق بما ابتعث به أنبياءه،و كان يكذّب بذلك كلّه الكافر، فذلك كان اختلافهم في الدّنيا الّذي وعد اللّه تعالى ذكره عباده أن يبيّنه لهم عند ورودهم عليه بما وصفنا من البيان.(7:639)

4- وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ. الزّخرف:63

ابن عبّاس: تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: تخالفون في الدّين.

(415)

مجاهد : تَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أحكام التّوراة.

(الطّبريّ 11:207)

مثله الطّبريّ(11:206)،و الثّعلبيّ(8:342).

من تبديل التّوراة.(الطّبريّ 11:207)

قتادة :و لأبيّن لكم اختلاف القرون الّذين تحزّبوا في أمر عيسى،في قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، و هم قومه المبعوث إليهم،أي من تلقائهم و من أنفسهم بان شرّهم،و لم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم.

(أبو حيّان 8:26)

مقاتل: تَخْتَلِفُونَ فِيهِ من الحلال و الحرام، فبيّن لهم ما كان حرّم عليهم من الشّحوم و اللّحوم و كلّ ذي ظفر،فأخبرهم أنّه لهم حلال في الإنجيل، غير أنّهم يقيمون على السّبت.(3:800)

الأخفش: أي كلّ الّذي تختلفون فيه،فكان «البعض»هنا بمعنى الكلّ،لأنّه ما اقتصر على بيان بعض دون الكلّ.(الماورديّ 5:236)

الزّجّاج: أي كلّ الّذي تختلفون فيه.[ثمّ استشهد بشعر]

و هذا مذهب أبي عبيدة.و الصّحيح أنّ«البعض» لا يكون في معنى الكلّ،و هذا ليس في الكلام،و الّذي جاء به عيسى في الإنجيل إنّما هو بعض الّذي اختلفوا

ص: 195

فيه،و بيّن اللّه سبحانه لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.(4:417)

الرّمّانيّ: ما تختلفون فيه من أمر دينكم لا من أمر دنياكم.(الماورديّ 5:236)

نحوه النّسفيّ(4:123)،و أبو السّعود(6:41).

الماورديّ: في قوله: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [قولان:أوّلهما قول مجاهد]

الثّاني:أنّه بيّن لهم بعضه دون جميعه،و يكون معناه:أبيّن لكم بعض ذلك أيضا،و أكلكم في بعضه إلى الاجتهاد،و أضمر ذلك لدلالة الحال عليه.

(5:236)

الزّمخشريّ: إن قلت:هلاّ بيّن لهم كلّ الّذي يختلفون فيه و لكن بعضه؟

قلت:كانوا يختلفون في الدّيانات و ما يتعلّق بالتّكليف،و فيما سوى ذلك ممّا لم يتعبّدوا بمعرفته و السّؤال عنه،و إنّما بعث ليبيّن لهم ما اختلفوا فيه،ممّا يعنيهم من أمر دينهم.(3:495)

نحوه البيضاويّ(2:370)،و مغنيّة(6:557).

ابن عطيّة: قوله: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال أبو عبيدة:(بعض)بمعنى كلّ.

و هذا ضعيف تردّه اللّغة،و لا حجّة له من قول لبيد:

*أو يعتلق بعض النّفوس حمامها*

لأنّه أراد نفسه و نفس من معه؛و ذلك بعض النّفوس.

و إنّما المعنى الّذي ذهب إليه الجمهور:أنّ الاختلاف بين النّاس هو في أمور كثيرة لا تحصى عددا،منها:أمور أخرويّة و دينيّة.و منها:ما لا مدخل له في الدّين،فكلّ نبيّ فإنّما يبعث ليبيّن أمر الأديان و الآخرة،فذلك بعض ما يختلف فيه.(5:62)

ابن الجوزيّ: ...بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي من أمر دينكم.[إلى أن قال:]

و قد قال ابن جرير:كان بينهم اختلاف في أمر دينهم و دنياهم،فبيّن لهم أمر دينهم فقط.(7:326)

الفخر الرّازيّ: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ يعني أنّ قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التّكاليف،و اتّفقوا على أشياء، فجاء عيسى ليبيّن لهم الحقّ في تلك المسائل الخلافيّة.

و بالجملة:ف(الحكمة:)معناها أصول الدّين، و بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: معناه:فروع الدّين.

فإن قيل:لم لم يبيّن لهم كلّ الّذي يختلفون فيه؟

قلنا:لأنّ النّاس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها،فلا يجب على الرّسول بيانها.(27:223)

القرطبيّ: ...و قيل:بيّن لهم بعض الّذي اختلفوا فيه من أحكام التّوراة على قدر ما سألوه.و يجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عنها.

و قيل:إنّ بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم،و أشياء من أمر دنياهم،فبيّن لهم أمر دينهم...(16:108)

الشّربينيّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و يحتمل أن يكون المراد أنّه يبيّن لهم بعض المتشابه،و هو ما يكون بيانه كافيا في ردّ بقيّة المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه.(3:571)

ص: 196

البروسويّ: ...بَعْضَ الَّذِي... و هو ما يتعلّق بأمور الدّين،و أمّا ما يتعلّق بأمور الدّنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء،كما قال عليه السّلام:«أنتم أعلم بأمور دنياكم».

و فى«الأسئلة المقحمة»:كيف قال(بعض)،و إنّما بعث ليبيّن الكلّ؟

و الجواب:قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:إنّ «البعض»هاهنا بمعنى الكلّ،و كذا قال فى«عين المعاني»:الأصحّ أنّ«البعض»يراد به الكلّ،كعكسه فى قوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً البقرة:

260.

و قال بعض أهل المعاني:كانوا يسألون عن أشياء لا فائدة فيها،فقال: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ...، يعني أجيبكم عن الأسئلة الّتي لكم فيها فوائد.

و في الآية إشارة إلى أنّ الأنبياء كما يجيئون بالكتاب من عند اللّه،يجيئون بالحكمة ممّا آتاهم،كما قال: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ الجمعة:2،و لذا قال: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ... ،لأنّ البيان عمّا يختلفون فيه، هو الحكمة.(8:385)

الآلوسيّ: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ و هو أمر الدّيانات و ما يتعلّق بالتّكليف،دون الأمور الّتي لم يتعبّدوا بمعرفتها،ككيفيّة نضد الأفلاك،و أسباب اختلاف تشكّلات القمر مثلا،فإنّ الأنبياء عليهم السّلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك،و مثلها ما يتعلّق بأمر الدّنيا،ككيفيّة الزّراعة،و ما يصلح الزّرع و ما يفسده مثلا،فإنّ الأنبياء عليهم السّلام لم يبعثوا لبيانه أيضا، كما يشير إليه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم في قصّة تأبير النّخل:«أنتم أعلم بأمور دنياكم».

و جوّز أن يراد بهذا«البعض»:بعض أمور الدّين المكلّف بها،و أريد ب«البيان»البيان على سبيل التّفصيل،و هي لا يمكن بيان جميعها تفصيلا،و بعضها مفوّض للاجتهاد.(25:96)

نحوه المراغيّ.(25:105)

ابن عاشور :إنّما قال: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: إمّا لأنّ اللّه أعلمه بأنّ المصلحة لم تتعلّق ببيان كلّ ما اختلفوا فيه،بل يقتصر على البعض،ثمّ يكمّل بيان الباقي على لسان رسول يأتي من بعده يبيّن جميع ما يحتاج إلى البيان.و إمّا لأنّ ما أوحي إليه من البيان غير شامل لجميع ما هم مختلفون في حكمه،و هو ينتظر بيانه من بعد تدريجا في التّشريع،كما وقع في تدريج تحريم الخمر في الإسلام.

و قيل:المراد ب بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: ما كان الاختلاف فيه راجعا إلى أحكام الدّين دون ما كان من الاختلاف في أمور الدّنيا.

و في قوله: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ تهيئة لهم لقبول ما سيبيّن لهم حينئذ أو من بعد.(25:282)

الطّباطبائيّ: ...بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، أي في حكمه من الحوادث و الأفعال.و الّذي يختلفون فيه و إن كان أعمّ من الاعتقادات الّتي يختلف في كونها حقّة أو باطلة،و الحوادث و الأفعال الّتي يختلف في مشروع حكمها،لكنّ المناسب لسبق قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أن يختصّ ما اختلفوا فيه:بالحوادث

ص: 197

و الأفعال؛و اللّه أعلم.

و قيل:المراد بقوله: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ:

كلّ الّذي تختلفون فيه،و هو كما ترى.

و قيل:المراد لأبيّن لكم أمور دينكم دون أمور دنياكم.و لا دليل عليه من لفظ الآية،و لا من المقام.

(18:119)

مكارم الشّيرازيّ: هنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين،و هو:لما ذا يقول: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ و لم لا يبيّن الجميع؟

و قد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السّؤال،و أنسبها هو:

أنّ الاختلافات الّتي بين النّاس نوعان:منها:ما يكون مؤثّرا في مصيرهم من النّاحية العقائديّة و العمليّة،و منها:ما يكون في الأمور غير المصيريّة، كالنّظريّات المختلفة حول نشأة المنظومة الشّمسيّة و السّماوات،و كيفيّة الأفلاك و النّجوم،و ماهيّة روح الإنسان،و حقيقة الحياة،و أمثال ذلك.

و من الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الاختلافات من النّوع الأوّل،و يقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق،و لكنّهم غير مكلّفين برفع أيّ اختلاف كان،حتّى و إن لم يكن له تأثير في مصير الإنسان مطلقا.

و يحتمل أيضا أنّ تبيان بعض الاختلافات نتيجة و غاية لدعوة الأنبياء،أي إنّهم سيوفّقون أخيرا في حلّ بعض هذه الاختلافات،أمّا حلّ جميع الاختلافات في الدّنيا فإنّه أمر غير ممكن،و لذلك تبيّن آيات متعدّدة من القرآن المجيد أنّ إحدى خصائص القيامة هو ارتفاع كلّ الاختلافات و انتهاؤها،فنقرأ في الآية:92،من سورة النّحل: وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

و قد جاء هذا المعنى في الآيات:55،آل عمران، و،48:المائدة،و،164:الأنعام،و،69:الحجّ، و غيرها.(16:83)

فضل اللّه : وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ من قضايا العقيدة،و من أحداث الحياة،ممّا تحتاجون فيه إلى القاعدة الثّابتة القويّة الّتي تكون أساسا للتّفكير،و منهجا للحركة،لأنّ مشكلة كثير من النّاس عند ما يختلفون،هي افتقارهم إلى اللّغة المشتركة في دائرة الفكر،الّتي يتفاهمون بها،و يلتقون عليها،و كلّ واحد منهم يتحدّث بطريقة لا يفهمها الآخر،نتيجة المؤثّرات الذّاتيّة الّتي لا يملكون-معها- حكما يحكم بينهم،في الحيثيّات الفكريّة،أو في القوّة المهيمنة الّتي يخضع لها الجميع.(20:259)

مختلف

1- ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ... النّحل:69

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:يخرج من بطون النّحل شراب و هو العسل،مختلف ألوانه،لأنّ فيها أبيض و أحمر و أسحر،و غير ذلك من الألوان.-أسحر:

ص: 198

ألوان مختلفة مثل أبيض يضرب إلى الحمرة-.

(7:614)

ابن عطيّة: اختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النّحل و المراعي،و قد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي.(3:406)

الفخر الرّازيّ: المعنى:أنّ منه أحمر و أبيض و أسود.و نظيره قوله تعالى: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ فاطر:27، و المقصود منه:إبطال القول بالطّبع،لأنّ هذا الجسم مع كونه متساوي الطّبيعة،لمّا حدث على ألوان مختلفة، دلّ ذلك على أنّ حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار،لا لأجل إيجاد الطّبيعة.(20:72)

أبو السّعود :أبيض و أسود و أصفر و أحمر، حسب اختلاف سنّ النّحل أو الفصل،أو الّذي أخذت منه العسل.(4:75)

الآلوسيّ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بالبياض و الصّفرة و الحمرة و السّواد:إمّا لمحض إرادة الصّانع الحكيم جلّ جلاله،و إمّا لاختلاف المرعى،أو لاختلاف الفصل، أو لاختلاف سنّ النّحل.فالأبيض لفتيّها،و الأصفر لكهلها،و الأحمر لمسنّها،و الأسود للطّاعن في ذلك جدّا.

و تعقّب بأنّه ممّا لا دليل عليه،و قد سألت جمعا ممّن أثق بهم قد اختبروا أحوالها،فذكروا أنّهم قد استقرءوا و سبروا،فرأوا أقوى الأسباب الظّاهرة لاختلاف الألوان،اختلاف السّنّ،بل قال بعضهم:ما علمنا لذلك سببا إلاّ هذا بالاستقراء،و حينئذ يكون ما ذكر مؤيّدا للقول المشهور في تكوّن العسل،كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.(14:184)

ابن عاشور :و وصفه ب مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، لأنّ له مدخلا في العبرة،كقوله تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ الرّعد:4، فذلك من الآيات على عظيم القدرة،و دقيق الحكمة.

(13:168)

مكارم الشّيرازيّ: تتفاوت ألوان العسل وفقا لتنوّع الأوراد الّتي يؤخذ رحيقها منها.فيبدو أحيانا بلون اللّبن القاتم،و أحيانا أخرى يكون أصفر اللّون، أو أبيض فضّيّ،أو ليس له لون،و تارة تراه شفّافا، و تارة أخرى ذهبيّ أو تمريّ،و قد تراه مائلا إلى السّواد!و لهذا التّفاوت في اللّون حكمة بالغة قد تبيّنت أخيرا،مفادها:أنّ للون الغذاء أثرا بالغا في تحريك رغبة الإنسان إليه.

و هذه الحقيقة ما كانت خافية على القدماء أيضا، فكانوا يعتنون بإظهار لون الغذاء المشهّي لدرجة كانوا يضيفون إليه بعض الموادّ تحصيلا لما يريدون،كإضافة الزّعفران و ما شابهه.

و لهذا الموضوع بحوث مفصّلة في كتب التّغذية، لا يسمح لنا المجال بعرضها كاملة،خوفا من الابتعاد عن مجال التّفسير.(8:220)

2 و 3- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ* وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى

ص: 199

اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.

فاطر:27،28

ابن عبّاس: مُخْتَلِفاً أَلْوانُها: أجناسها الحلو و الحامض و غير ذلك... مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها كألوان الثّمار...

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ: أجناسه مقدّم و مؤخّر.(366)

قتادة : مُخْتَلِفاً أَلْوانُها: أحمر و أخضر و أصفر... مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، أي جبال حمر و بيض.(الطّبريّ 10:409)

الطّبريّ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها: مختلف ألوان الجدد مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كما من الثّمرات و الجبال مختلف ألوانه بالحمرة و البياض و السّواد و الصّفرة، و غير ذلك.(10:409)

الماورديّ: وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ فيه وجهان:

أحدهما:كذلك مختلف ألوانه أبيض و أحمر و أسود.

الثّاني:يعني بقوله:(كذلك،)أي كما اختلف ألوان الثّمار و الجبال و النّاس و الدّوابّ و الأنعام، كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.(4:471)

الطّوسيّ: مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، لأنّ فيها الأحمر و الأبيض و الأصفر و الأخضر و غير ذلك،و لم يذكر اختلاف طعومها و روائحها،لدلالة الكلام عليه.

و الاختلاف،هو امتناع الشّيء من أن يسدّ مسدّ صاحبه في ما يرجع إلى ذاته.أ لا ترى أنّ السّواد لا يسدّ مسدّ البياض؛و ذلك لا يقدر عليه سواه تعالى من جميع المخلوقين.[إلى أن قال:]

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أيضا مثل ذلك ممّا في الجبال و الثّمار.(8:426)

نحوه الطّبرسيّ.(4:406)

الفخر الرّازيّ: قال تعالى: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ.... كأنّ قائلا قال:اختلاف الثّمرات لاختلاف البقاع.أ لا ترى أنّ بعض النّباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزّعفران و غيره،فقال تعالى:اختلاف البقاع ليس إلاّ بإرادة اللّه،و إلاّ فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر و مواضع بيض.[إلى أن قال:]

ثمّ زاد عليه بيانا،و قال:(مختلفا)كذلك في الجبال في نفسها دليل للقدرة و الإرادة،لأنّ كون الجبال في بعض نواحي الأرض دون بعضها، و الاختلاف الّذي في هيئة الجبل،فإنّ بعضها يكون أخفض و بعضها أرفع،دليل القدرة و الاختيار.ثمّ زاده بيانا و قال: جُدَدٌ بِيضٌ، أي مع دلالتها بنفسها هي دالّة باختلاف ألوانها،كما أنّ إخراج الثّمرات في نفسها دلائل،و اختلاف ألوانها دلائل.

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها الظّاهر أنّ الاختلاف راجع إلى كلّ لون،أي بيض مختلف ألوانها،و حمر مختلف ألوانها،لأنّ الأبيض قد يكون على لون الجصّ،و قد يكون على لون التّراب الأبيض دون بياض الجصّ، و كذلك الأحمر.و لو كان المراد أنّ البيض و الحمر مختلف الألوان،لكان مجرّد تأكيد؛و الأوّل أولى.

و على هذا فنقول:لم يذكر مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بعد

ص: 200

البيض و الحمر و السّود،بل ذكره بعد البيض و الحمر، و أخّر السّود الغرابيب،لأنّ الأسود لمّا ذكره مع المؤكّد و هو«الغرابيب»يكون بالغا غاية السّواد، فلا يكون فيه اختلاف.(26:20)

البيضاويّ: مُخْتَلِفاً أَلْوانُها: أجناسها و أصنافها،على أنّ كلاّ منهما ذو أصناف مختلفة،أو هيئاتها من الصّفرة و الخضرة و نحوهما....

بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشّدّة و الضّعف...

...مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ كاختلاف الثّمار و الجبال.(2:271)

نحوه أبو السّعود.(5:280)

الآلوسيّ: ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، أي أنواعها من التّفّاح و الرّمّان و العنب و التّين و غيرها ممّا لا يحصر،و هذا كما يقال:فلان أتى بألوان من الأحاديث،و قدّم كذا لونا من الطّعام.

و اختلاف كلّ نوع بتعدّد أصنافه كما في التّفّاح، فإنّ له أصنافا متغايرة لذّة و هيئة،و كذا في سائر الثّمرات.و لا يكاد يوجد نوع منها إلاّ و هو ذو أصناف متغايرة.و يجوز أن يراد اختلاف كلّ نوع باختلاف أفراده.

و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة:أنّه حمل الألوان على معناها المعروف،و اختلافها:

بالصّفرة و الحمرة و الخضرة و غيرها،و روي ذلك عن ابن عبّاس أيضا،و هو الأوفق لما في قوله تعالى...

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، أي أصنافها بالشّدّة و الضّعف،لأنّها مقولة بالتّشكيك،ف(مختلف) صفة(بيض)و(حمر)و(الوانها)فاعل له، و ليس بمبتدإ،و(مختلف)خبره،لوجوب مختلفة حينئذ،.[إلى أن قال:]

وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي و منهم بعض مختلف ألوانه،أو بعضهم مختلف ألوانه،على ما ذكروا في قوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ البقرة:8،و الجملة عطف على الجملة الّتي قبلها،و حكمها حكمها.(22:189)

ابن عاشور :استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال النّاس في قبول الهدى،و رفضه، بسبب ما تهيّأت خلقة النّفوس إليه،ليظهر به أنّ الاختلاف بين أفراد الأصناف و الأنواع ناموس جبلّيّ فطر اللّه عليه مخلوقات هذا العالم الأرضيّ.

و الخطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن.

و ضرب اختلاف الظّواهر في أفراد الصّنف الواحد مثلا،لاختلاف البواطن تقريبا للأفهام،فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البيانيّ،لأنّ مثل هذا التّقريب ممّا تشرئبّ إليه الأفهام عند سماع قوله: إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ فاطر:22.[إلى أن قال:]

و المقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النّوع الواحد،كاختلاف ألوان التّفّاح مع ألوان السّفرجل،و ألوان العنب مع ألوان التّين، و اختلاف ألوان الأفراد من الصّنف الواحد تارات، كاختلاف ألوان التّمور و الزّيتون و الأعناب و التّفّاح و الرّمّان.[إلى أن قال:]

ص: 201

و قدّم الاعتبار باختلاف أحوال الثّمرات،لأنّ في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف النّاس في المنافع و المدارك و العقائد.و في الحديث:«مثل المؤمن الّذي يقرأ القرآن كمثل الأترجّة،ريحها طيّب و طعمها طيّب.و مثل المؤمن الّذي لا يقرأ القرآن كمثل التّمرة طعمها طيّب و لا ريح لها.و مثل المنافق الّذي يقرأ القرآن كمثل الرّيحانة ريحها طيّب و طعمها مرّ.و مثل المنافق الّذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ و لا ريح لها».

و جرّد(مختلفا)من علامة التّأنيث مع أنّ فاعله جمع،و شأن النّعت السّببيّ أن يوافق مرفوعه في التّذكير و ضدّه،و الإفراد و ضدّه،و لا يوافق في ذلك منعوته،لأنّه لمّا كان الفاعل جمعا لما لا يعقل و هو الألوان،كان حذف التّاء في مثله جائزا في الاستعمال، و آثره القرآن إيثارا للإيجاز.

و المراد ب«الثّمرات»:ثمرات النّخيل و الأعناب و غيرها،فثمرات النّخيل أكثر الثّمرات ألوانا،فإنّ ألوانها تختلف باختلاف أطوارها،فمنها الأخضر و الأصفر و الأحمر و الأسود.[إلى أن قال:]

...مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ موقعه كموقع قوله:

وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ، و لا يلزم أن يكون مسوّغ الابتداء بالنّكرة غير مفيد معنى آخر،فإنّ تقديم الخبر هنا سوّغ الابتداء بالنّكرة.

و اختلاف ألوان النّاس منه اختلاف عامّ،و هو ألوان أصناف البشر،و هي الأبيض و الأسود و الأصفر و الأحمر،حسب الاصطلاح الجغرافيّ.

و للعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر،و قد تقدّم عند قوله: وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ في سورة الرّوم:22.

و(من)تبعيضيّة،و المعنى:أنّ المختلف ألوانه بعض من النّاس،و مجموع المختلفات كلّه هو النّاس كلّهم، و كذلك الدّوابّ و الأنعام.و هو نظم دقيق دعا إليه الإيجاز.

و جيء في جملة وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ و وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بالاسميّة دون الفعليّة،كما في الجملة السّابقة،لأنّ اختلاف ألوان الجبال و الحيوان الدّالّ على اختلاف أحوال الإيجاد دائما لا يتغيّر،و إنّما يحصل مرّة واحدة عند الخلق و عند تولّد النّسل.(22:154)

الطّباطبائيّ: ...مُخْتَلِفاً أَلْوانُها... حجّة أخرى على التّوحيد،و هو أنّ اللّه سبحانه ينزّل الماء من السّماء بالأمطار،و هو أقوى العوامل المعيّنة لخروج الثّمرات،و لو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل و هو واحد،لكان جميعها ذا لون واحد، فاختلاف الألوان يدلّ على وقوع التّدبير الإلهيّ.

و القول بأنّ اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثّرة فيها،و منها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعا و قدرا و خصوصيّة التّأليف،مدفوع بأنّ الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر،و هي منتهية إلى المادّة المشتركة الّتي لا اختلاف فيها،فاختلاف العناصر المكوّنة منها يدلّ على عامل آخر وراء المادّة يدبّر أمرها،و يسوقها إلى غايات مختلفة.

ص: 202

و الظّاهر أنّ المراد باختلاف ألوان الثّمرات:

اختلاف نفس ألوانها،و يلزمه اختلافات أخر من حيث الطّعم و الرّائحة و الخواصّ.

و قيل:المراد باختلاف الألوان:اختلاف الأنواع، فكثيرا ما يطلق اللّون في الفواكه و الأطعمة على النّوع،كما يقال:قدّم فلان ألوانا من الطّعام و الفاكهة، فهو من الكناية،و قوله بعد: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ لا يخلو من تأييد للوجه الأوّل.[إلى أن قال:]

وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي و من النّاس و الدّوابّ الّتي تدبّ في الأرض،و الأنعام كالإبل و الغنم و البقر،بعض مختلف ألوانه بالبياض و الحمرة و السّواد،كاختلاف الثّمرات و الجبال في ألوانها.

و قيل:قوله:(كذلك)خبر لمبتدإ محذوف، و التّقدير:الأمر كذلك،فهو تقرير إجماليّ للتّفصيل المتقدّم من اختلاف الثّمرات و الجبال و النّاس و الدّوابّ و الأنعام...(17:41)

مكارم الشّيرازيّ: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها.

شروع هذه الجملة بالاستفهام التّقريريّ، و بتحريك حسّ التّساؤل لدى البشر،إشارة إلى أنّ هذا الموضوع جليّ إلى درجة أنّ أيّ شخص إذا نظر أبصر،نعم يبصر هذه الفواكه و الزّهور الجميلة و الأوراق و البراعم المختلفة بأشكال مختلفة، تتولّد من ماء و تراب واحد.

«ألوان»:قد يكون المراد:«الألوان الظّاهريّة للفواكه»،و الّتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد، كالتّفّاح الّذي يتلوّن بألوان متنوّعة،ناهيك عن الفواكه المختلفة.و قد يكون كناية عن التّفاوت في المذاق و التّركيب و الخواصّ المتنوّعة لها،إلى حدّ أنّه حتّى في النّوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة،كما في العنب مثلا حيث إنّه أكثر من 50 نوعا و التّمر أكثر من سبعين نوعا.

و الملفت للنّظر هو استخدام صيغة الغائب في الحديث عنه عزّ و جلّ،ثمّ الانتقال إلى صيغة المتكلّم.

و هذا النّوع من التّعابير غير منحصر في هذه الآية فقط،بل يلاحظ في مواضع أخرى من القرآن المجيد أيضا،و كأنّ الجملة الأولى تعطي للمخاطب إدراكا و معرفة جديدة،و تستحضره بهذا الإدراك و المعرفة بين يدي الباري عزّ و جلّ،ثمّ عند حضوره يلقى عليه الحديث مباشرة.

ثمّ تشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال و الطّرق الملوّنة الّتي تمرّ من خلالها،و تؤدّي إلى تشخيصها و تفريقها الواحدة عن الأخرى،فتقول: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ.

هذا التّفاوت اللّونيّ يضفي على الجبال جمالا خاصّا من جهة،و من جهة أخرى يكون سببا لتشخيص الطّرق و عدم الضّياع فيما بين طرقها المليئة بالالتواءات و الانحدارات.و أخيرا فهو دليل على أنّ اللّه على كلّ شيء قدير.[إلى أن قال:]

و احتمل أيضا أن يكون التّفسير:أ لم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضا و حمرا و سودا مختلفا ألوانها،

ص: 203

خطّت على سطح الأرض،و خاصّة إذا نظر إليها الشّخص من فاصلة بعيدة،فإنّها ترى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض:بيض و حمر و سود،مختلف ألوانها.

على كلّ حال،فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة،و تلوين الطّرق الجبليّة بألوان متفاوتة من جهة اخرى،دليل آخر على عظمة و قدرة و حكمة اللّه سبحانه و تعالى،و الّتي تتجلّى و تتزيّن كلّ آن بشكل جديد.

و في الآية التّالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر و الأحياء الأخرى،فيقول تعالى: وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.

أجل،فالبشر مع كونهم جميعا لأب و امّ واحدين، إلاّ أنّهم عناصر و ألوان متفاوتة تماما،فالبعض أبيض البشرة كالوفر (1)،و البعض الآخر أسود كالحبر.

و حتّى في العنصر الواحد،فإنّ التّفاوت في اللّون شديد أيضا،بل إنّ التّوأمين اللّذين يطويان المراحل الجنينيّة معا،و اللّذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء،إذا دقّقنا النّظر نجدهما ليسا من لون واحد،مع أنّهما من نفس الأبوين،و تمّ انعقاد نطفتيهما في وقت واحد،و تغذّيا من غذاء واحد.

ناهيك عن التّفاوت و الاختلاف الكامل في بواطنهم عدا أشكالهم الظّاهريّة،و في خلقهم و رغباتهم و خصوصيّات شخصيّاتهم،و استعداداتهم و ذوقهم؛بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقلّ منسجم، بكلّ احتياجاته الخاصّة.

في عالم الكائنات الحيّة أيضا يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات،الطّيور،الزّواحف،الحيوانات البحريّة،الوحوش الصّحراويّة،بكلّ خصائصها النّوعيّة و عجائب خلقتها،كدلالة على قدرة و عظمة و علم خالقها.(14:68)

فضل اللّه : ...فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها فمن أين جاء اختلاف ألوان الثّمرات ما دام العنصر المائيّ-الّذي هو أقوى العوامل في نموّها و تكوّنها-واحدا؟و كيف حدث التّنوّع من موقع الوحدة؟و إذا كانت العوامل الأخرى المؤثّرة فيها مختلفة في العناصر الكامنة في ذاتها،فيبقى السّؤال عن السّرّ الكامن وراء اختلاف تلك العناصر.لكن الجواب الّذي يلاحق السّؤال في كلّ مواقعه،لا يمكن أن يقتصر في ردّ السّبب إلى الوحدة الكامنة في أعماق المادّة،فردّ الاختلاف في الألوان إلى جانب الاختلاف في الأشكال و غيرها،يتمحور حول اللّه الّذي أبدع ذلك كلّه بقدرته،فهي الّتي تفسّر الحقيقة في عمق أسبابها.

فالأسباب المباشرة تلامس السّطح،و تبقى تبحث عن العمق وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ فها نحن نجد الجبال في أشكالها و ألوانها أو في طرائقها تتنوّع بين ألوان بيض و حمر و سود شديدة السّواد،و هذا هو معنىء.

ص: 204


1- اصطلاح عراقيّ عاميّ؛و هو الثّلج المتساقط من السّماء.

الغرابيب، وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ من اللّون الأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر،كما هي الثّمرات و الجبال،فكيف تنوّعت هذه الألوان؟!و من أين جاء هذا التّنوّع؟!

(كذلك)خلق اللّه التّنوّع الّذي يدلّ على عظمته و سرّ إبداعه و امتداد قدرته،ما يفرض على النّاس أن يفكّروا فيه و يتأمّلوه،و يختزنوه في عقولهم فكرا،و في قلوبهم شعورا،و حركة في العبادة،تعبّر عن الالتزام العمليّ بالإيمان باللّه،فإنّ النّفس لا تعيش الخوف و الرّهبة و الانقياد إلاّ من خلال شعورها بالعظمة لمن تخافه،أو تنقاد له.(19:104)

4- إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. الذّاريات:8

ابن عبّاس: مصدّق بمحمّد عليه الصّلاة و السّلام و القرآن،و مكذّب بهما.(441)

نحوه الفرّاء.(3:83)

الضّحّاك: قول الكفرة لا يكون مستويا،إنّما هو متناقض مختلف.(الزّمخشريّ 4:14)

قتادة :قال فريق منكم:آمنّا بمحمّد و كتابه،و قال فريق آخر:كفرنا.(ابن عطيّة 5:173)

مصدّق بهذا القرآن و مكذّب.(الطّبريّ 11:446)

السّدّيّ: يعني في أمر مختلف،فمطيع و عاص، و مؤمن و كافر.(الماورديّ 5:363)

ابن جريج:إنّهم أهل الشّرك مختلف عليهم بالباطل.(الماورديّ 5:363)

ابن زيد :يتخرّصون،يقولون:هذا سحر، و يقولون:هذا أساطير،فبأيّ قولهم يؤخذ،قتل الخرّاصون.هذا الرّجل لا بدّ له من أن يكون فيه أحد هؤلاء،فما لكم لا تأخذون أحد هؤلاء،و قد رميتموه بأقاويل شتّى؟فبأيّ هذا القول تأخذون،فهو قول مختلف؟فذكر أنّه تخرّص منهم ليس لهم بذلك علم.

قالوا:فما منع هذا القرآن أن ينزل باللّسان الّذي نزلت به الكتب من قبلك،فقال اللّه:أعجميّ و عربيّ؟ لو جعلنا هذا القرآن أعجميّا لقلتم نحن عرب و هذا القرآن أعجميّ،فكيف يجتمعان.(الطّبريّ 11:446)

أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه،قوم منكم يقولون:ساحر،و قوم:كاهن،و قوم:شاعر، و قوم:مجنون،إلى غير ذلك.(ابن عطيّة 5:173)

الطّبريّ: يقول:إنّكم أيّها النّاس لفي قول مختلف في هذا القرآن،فمن مصدّق به و مكذّب.

(11:446)

الزّجّاج: أي في أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.(5:52)

القمّيّ: يعني مختلف في عليّ عليه السّلام،يعني اختلفت هذه الأمّة في ولايته،فمن استقام على ولاية عليّ عليه السّلام دخل الجنّة،و من خالف ولاية عليّ دخل النّار.[و هذا تأويل](2:329)

الثّعلبيّ: (مختلف)في القرآن و محمّد عليه السّلام،فمن مصدّق و مكذّب،و مقرّ و منكر.(9:110)

الماورديّ: فيه ثلاثة أوجه:[نقل الأقوال و أضاف:]

و يحتمل رابعا:إنّهم عبدة الأوثان و الأصنام، يقرّون بأنّ اللّه خالقهم و يعبدون غيره.(5:363)

ص: 205

الطّوسيّ: معناه:أنّكم في الحقّ لفي قول مختلف، لا يصحّ إلاّ واحد منه،و هو أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما دعا إليه،و هو تكذيب فريق به و تصديق فريق،و دليل الحقّ ظاهر.و فائدته أنّ أحد الفريقين في هذا الاختلاف مبطل،لأنّه اختلاف تناقض،فاطلبوا الحقّ منه بدليله،و إلاّ هلكتم.(9:380)

القشيريّ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يعني في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فأحدهم يقول:إنّه ساحر،و آخر يقول:

مجنون،و ثالث يقول:شاعر،و غير ذلك.

و الإشارة فيه إلى القسم بسماء التّوحيد ذات الزّينة بشمس العرفان،و قمر المحبّة،و نجوم القرب، إنّكم في باب هذه الطّريقة لفي قول مختلف؛فمن منكر يجحد الطّريقة،و من معترض يعترض على أهلها، يتوهّم نقصانهم في القيام بحقّ الشّريعة،و من متعسّف لا يخرج من ضيق حدود العبوديّة،و لا يعرف خبرا عن تخصيص الحقّ أولياءه بالأحوال السّنيّة.قال قائلهم:

قد سحب النّاس أذيال الظّنون بنا

و فرّق النّاس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالظّنّ غيرتكم

و صادق ليس يدري أنّه صدقا

(6:28)

الواحديّ: في محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،بعضكم يقول:شاعر، و بعضكم يقول:مجنون.و في القرآن تقولون:إنّه سحر و كهانة و رجز و ما سطره الأوّلون.(4:174)

نحوه البغويّ(4:281)،و ابن الجوزيّ(8:29)

الزّمخشريّ: قولهم في الرّسول:ساحر و شاعر و مجنون،و في القرآن:شعر و سحر،و أساطير الأوّلين.

(4:14)

مثله النّسفيّ(4:183)،و نحوه الشّربينيّ(4:95)، و المراغيّ(26:176).

الطّبرسيّ: أي إنّكم يا أهل مكّة في قول مختلف في قول محمّد صلّى اللّه عليه و آله،فبعضكم يقول:شاعر،و بعضكم يقول:مجنون؛و في القرآن يقولون:إنّه سحر و كهانة و رجز،و ما سطره الأوّلون.

و قيل:معناه:منكم مكذّب بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله،و منكم مصدّق به،و منكم شاكّ فيه.و فائدته أنّ دليل الحقّ ظاهر فاطلبوا الحقّ بدليله،و إلاّ هلكتم.(5:153)

الفخر الرّازي:في تفسيره أقوال مختلفة كلّها محكمة:

الأوّل: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،تارة تقولون:إنّه أمين و أخرى إنّه كاذب،و تارة تنسبونه إلى الجنون،و تارة تقولون:إنّه كاهن و شاعر و ساحر.و هذا محتمل،لكنّه ضعيف؛إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا،لأنّهم كانوا يقولون ذلك،من غير إنكار،حتّى يؤكّد بيمين.

الثّاني: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي غير ثابتين على أمر،و من لا يثبت على قول لا يكون متيقّنا في اعتقاده،فيكون كأنّه قال تعالى:و السّماء إنّكم غير جازمين في اعتقادكم،و إنّما تظهرون الجزم لشدّة عنادكم.و على هذا القول فيه فائدة،و هي أنّهم لمّا قالوا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:إنّك تعلم أنّك غير صادق في قولك، و إنّما تجادل و نحن نعجز عن الجدل،قال:

ص: 206

وَ الذّارِياتِ ذَرْواً، أي إنّك صادق و لست معاندا، ثمّ قال تعالى:بل أنتم و اللّه جازمون بأنّي صادق، فعكس الأمر عليهم.

الثّالث: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متناقض.

أمّا في الحشر فلأنّكم تقولون:لا حشر و لا حياة بعد الموت،ثمّ تقولون:إنّا وجدنا آباءنا على أمّة.فإذا كان لا حياة بعد الموت و لا شعور للميّت،فما ذا يصيب آباءكم إذا خالفتموهم؟و إنّما يصحّ هذا ممّن يقولون:

بأنّ بعد الموت عذابا.فلو علمنا شيئا يكرهه الميّت يبدي فلا معنى لقولكم:إنّا لا ننسب آباءنا بعد موتهم إلى الضّلال.و كيف و أنتم تربطون الرّكائب على قبور الأكابر؟!و أمّا في التّوحيد فتقولون:خالق السّماوات و الأرض هو اللّه تعالى لا غيره،ثمّ تقولون:هو إله الآلهة،و ترجعون إلى الشّرك.و أمّا في قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فتقولون:إنّه مجنون،ثمّ تقولون له:إنّك تغلبنا بقوّة جدلك،و المجنون كيف يقدر على الكلام المنتظم المعجز،إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة.(28:197)

القرطبيّ: أي إنّكم يا أهل مكّة(فى قول مختلف)في محمّد و القرآن،فمن مصدّق و مكذّب.

و قيل:نزلت في المقتسمين.

و قيل:اختلافهم قولهم:ساحر،بل شاعر،بل افتراه،بل هو مجنون،بل هو كاهن،بل هو أساطير الأوّلين.و قيل:اختلافهم أنّ منهم من نفى الحشر، و منهم من شكّ فيه.

و قيل:المراد عبدة الأوثان و الأصنام يقرّون بأنّ اللّه خالقهم و يعبدون غيره.(17:33)

البيضاويّ: في الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم و هو قولهم تارة:إنّه شاعر،و تارة إنّه ساحر،و تارة إنّه مجنون،أو في القرآن،أو القيامة،أو أمر الدّيانة.و لعلّ النّكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها و تنافي أغراضها بطرائق السّماوات في تباعدها،و اختلاف غاياتها.

(2:419)

أبو حيّان :الظّاهر أنّه خطاب عامّ للمسلم و الكافر،كما أنّ جواب القسم السّابق يشملهما.[ثمّ نقل الأقوال في اختلافهم](8:134)

أبو السّعود :أي متخالف متناقض،و هو قولهم في حقّه عليه الصّلاة و السّلام تارة:شاعر،و أخرى ساحر،و أخرى مجنون؛و في شأن القرآن الكريم تارة:

شعر،و أخرى سحر،و أخرى أساطير.و في هذا الجواب تأييد ليكون الحبك عبارة عن الاستواء،كما يلوح به ما نقل عن الضّحّاك:من أنّ قول الكفرة لا يكون مستويا،إنّما هو متناقض مختلف.

و قيل:النّكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها و تنافي أغراضها بطرائق السّماوات في تباعدها،و اختلاف غاياتها،و ليس بذاك.(6:134)

البروسويّ: (انكم)يا أهل مكّة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في القرآن،أي متخالف متناقض،و هو قولهم:إنّه شعر و سحر و افتراء و أساطير الأوّلين،و في الرّسول:شاعر و ساحر و مفتر و مجنون.و في القيامة:

فإنّ من النّاس من يقطع القول بإقرار،و منهم من يقطع القول بإنكار،و منهم من يقول:إن نظنّ إلاّ ظنّا،و هذا من التّحيّر و الجهل الغليظ فيكم.و في هذا الجواب

ص: 207

تأييد لكون الحبك عبارة عن الاستواء،كما يلوح به ما نقل عن الضّحّاك:أنّ قول الكفرة لا يكون مستويا، إنّما هو مناقض مختلف.

يقول الفقير:لعلّ الوجه في هذا القسم أنّ القرآن نازل من السّماء و أنّ النّبوّة أمر سماويّ،فهم اختلفوا في هذا الأمر السّماويّ،و ظنّوا أنّه أمر أرضيّ مختلف، و ليس كذلك.

و في الآية إشارة إلى سماء القلب ذات الطّريق إلى اللّه،إنّكم أيّها الطّالبون الصّادقون لفي قول مختلف في الطّلب،فمنكم من يطلب منّا ما عندنا من كمالات القربات،و منكم من يطلب منّا ما لدينا من العلوم و المعارف،و منكم من يطلبنا بجميع صفاتنا،فلو استقمتم على الطّريقة و ثبتّم ملازمين في طلبه،لبلغ كلّ قاصد مقصده.(9:150)

الآلوسيّ: أي متخالف متناقض في أمر اللّه عزّ و جلّ؛حيث تقولون:إنّه جلّ شأنه خالق السّماوات و الأرض،و تقولون:بصحّة عبادة الأصنام معه سبحانه.

و في أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم فتقولون تارة:إنّه مجنون، و أخرى:إنّه ساحر،و لا يكون السّاحر إلاّ عاقلا.

و في أمر الحشر،فتقولون تارة:لا حشر و لا حياة بعد الموت أصلا،و تزعمون أخرى:أنّ أصنامكم شفعاؤكم عند اللّه تعالى يوم القيامة،إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة،فيما كلّفوا بالإيمان به.

و اقتصر بعضهم على كون القول المختلف:في أمره صلّى اللّه عليه و سلّم،و الجملة جواب القسم.و لعلّ النّكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها و تنافي أغراضها بطرائق السّماوات في تباعدها،و اختلاف هيآتها،أو الإشارة إلى أنّها ليست مستوية جيّدة،أو ليست قويّة محكمة،أو ليس فيها ما يزيّنها،بل فيها ما يشينها من التّناقض.(27:5)

ابن عاشور :و القول المختلف:المتناقض الّذي يخالف بعضه بعضا،فيقتضي بعضه إبطال بعض الّذي هم فيه،هو جميع أقوالهم و القرآن و الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و كذلك أقوالهم في دين الإشراك،فإنّها مختلفة مضطربة متناقضة،فقالوا:القرآن سحر و شعر،و قالوا:

أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها الفرقان:5،و قالوا: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ص:7،و قالوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا الأنفال:31،و قالوا مرّة: فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فصّلت:5،و غير ذلك،و قالوا:

وحي الشّياطين.

و قالوا في الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،أقوالا:شاعر،ساحر، مجنون،كاهن،يعلّمه بشر بعد أن كانوا يلقّبونه الأمين.

و قالوا في أصول شركهم:بتعدّد الآلهة مع اعترافهم بأنّ اللّه خالق كلّ شيء،و قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ الزّمر:3، وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها الأعراف:

28.

و(في)للظّرفيّة المجازيّة،و هي شدّة الملابسة الشّبيهة بملابسة الظّرف للمظروف،مثل: وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ البقرة:15.

و المقصود بقوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ

ص: 208

الكناية عن لازم الاختلاف،و هو التّردّد في الاعتقاد، و يلزمه بطلان قولهم؛و ذلك مصبّ التّأكيد بالقسم و حرف(انّ)و اللاّم.(27:10)

الطّباطبائيّ: القول المختلف:ما يتناقض و يدفع بعضه بعضا؛و حيث إنّ الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدّعوة أو النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما وعدهم من أمر البعث و الجزاء،فالمراد بالقول المختلف-على الأقرب-:

قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته، فتارة يقولون:إنّه سحر و الجائي به ساحر،و تارة يقولون:رجز و الجائي به مجنون،و تارة يقولون:إلقاء شياطين الجنّ و الجائي به كاهن،و تارة يقولون:شعر و الجائي به شاعر،و تارة:إنّه افتراء،و تارة يقولون:

إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، و تارة يقولون: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها الفرقان:5.(18:366)

مكارم الشّيرازيّ: دائما أنتم تتناقضون في الكلام،و كأنّ هذا التّناقض في كلامكم دليل على أنّه لا أساس لكلامكم أبدا.

ففي مسألة المعاد تقولون أحيانا:لا نصدّق أبدا أن نعود أحياء بعد أن تصير عظامنا رميما.

و تارة تقولون:نحن نشكّ في هذه القضيّة و نتردّد!و تارة تضيفون:أن هاتوا آباءنا و أسلافنا من قبورهم،ليشهدوا أنّ بعد الموت قيامة و نشورا،لنقبل بما تقولون!

و تقولون في شأن النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله تارة:بأنّه شاعر،أو بأنّه ساحر،و تارة تقولون:إنّه لمجنون، و تارة تقولون:إنّما يعلّمه بشر فهو معلّم!!

كما تقولون في شأن القرآن بأنّه:أساطير الأوّلين تارة،أو تقولون:بأنّه شعر،و تارة تسمّونه سحرا، و حينا آخر تقولون:إنّه كذب افتراه،و أعانه عليه قوم آخرون!

فقسما بحبك السّماء و تجاعيدها إنّ كلامكم مختلف و مليء بالتّناقض،و لو كان لكلامكم أساس لكنتم على الأقلّ تقفون عند موضوع خاصّ و مطلب معيّن،و لما تحوّلتم منه كلّ يوم إلى موضوع آخر!

و هذا التّعبير في الحقيقة إنّما هو استدلال على بطلان إدّعاء المخالفين في شأن التّوحيد و المعاد و النّبيّ و القرآن،و إن كان اعتماد هذه الآيات في الأساس على مسألة المعاد،كما تدلّ عليه القرينة في الآيات التّالية!

و نعرف أنّه يستند دائما لكشف كذب المدّعين الكذبة سواء في المسائل القضائيّة أو المسائل الأخرى، على تناقض كلامهم و تضادّه،فكذلك القرآن يعوّل على هذا الموضوع تماما!.(17:75)

فضل اللّه :هذا هو جواب القسم بالسّماء،الّذي يريد أن يؤكّد واقع القول المختلف في مضمونه و أبعاده،فلا يرجع إلى قاعدة واحدة،لأنّ الرّأي عندهم يخضع للظّنّ و التّخمين،دون اعتماد الأسس العلميّة الّتي تؤدّي إلى اليقين في مواقع الحوار،ممّا يمكن أن يلتقي عليه الجميع.

و لعلّ مكمن التّناسب بين السّماء ذات الحبك و التّأكيد على القول المختلف،هو أنّ التّناسق في السّماء ينبغي أن يوحي لهم باتّخاذ موقف متناسق،

ص: 209

يقوم على قاعدة ثابتة،خلافا لما هم عليه من اختلاف في مواقفهم و مواقعهم.(21:199)

مختلفا

1- وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ... الأنعام:141

ابن عبّاس: مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في الحلاوة و الحموضة.(120)

الثّعلبيّ: ثمره و طعمه الحامض و المرّ و الحلو و الجيّد و الرّديء،و ارتفع معنى«الأكل»، و(مختلفا)نعته،إلاّ أنّه لمّا تقدّم النّعت على الاسم و ولي منصوبا نصب،كما تقول:عندي طبّاخا غلام.

[ثمّ استشهد بشعر](4:197)

الطّوسيّ: نصب(مختلفا)على الحال،و إنّما نصبه على الحال و هو يؤكل بعد ذلك بزمان،لأمرين:

أحدهما:إنّ معناه مقدّرا اختلاف أكله،كقولهم:

مررت برجل معه صقر صائدا به غدا،أي مقدّرا الصّيد به غدا.

الثّاني:أن يكون معنى(اكله:)ثمره الّذي يصلح أن يؤكل منه.(4:319)

نحوه الفخر الرّازيّ.(13:212)

الواحديّ: يعني ثمر النّخل و حبّ الزّرع،لكلّ واحد منهما طعم غير طعم الآخر،فمن ثمر النّخل:

الحامض و المرّ و الحلو و الجيّد و الرّديء،و كلّ حبّ من الحبوب له طعم آخر.(2:329)

نحوه البغويّ.(2:164)

الزّمخشريّ: مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في اللّون و الطّعم و الحجم و الرّائحة...و(مختلفا)حال مقدّرة،لأنّه لم يكن وقت الإنشاء،كذلك كقوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ. (2:56)

مثله النّسفيّ(2:36)،و نحوه البيضاويّ(1:334) و البروسويّ(3:112).

ابن عطيّة: (مختلفا)نصب على الحال،على تقدير:حصول الاختلاف في ثمرها،لأنّها حين الإنشاء لا ثمرة فيها،فهي حال مقدّرة تجيء بعد الإنشاء.

(2:353)

الطّبرسيّ: [مثل الطّوسيّ إلى أن قال:]

مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ... قيل:هذا وصف للنّخل و الزّرع جميعا،فخلق سبحانه بعضها مختلف اللّون و الطّعم و الرّائحة و الصّورة،و بعضها مختلفا في الصّورة متّفقا في الطّعم،و بعضها مختلفا في الطّعم متّفقا في الصّورة.

و كلّ ذلك يدلّ على توحيده،و على أنّه قادر على ما يشاء،عالم بكلّ شيء.(2:374)

أبو حيّان :اختلاف أكله و هو المأكول،هو بأنّ لكلّ نوع من أنواع النّخل و الزّرع طعما و لونا و حجما و رائحة،يخالف به النّوع الآخر،و المعنى:

مختلفا أكل ثمره،و انتصب(مختلفا)على أنّه حال مقدّرة،لأنّه لم يكن وقت الإنشاء مختلفا.و قيل:هي حال مقارنة؛و ذلك بتقدير حذف مضاف قبله، تقديره:و ثمر النّخل و حبّ الزّرع.و الضّمير في (اكله)عائد على اَلنَّخْلَ وَ الزَّرْعَ، و أفرد

ص: 210

لدخوله في حكمه بالعطفيّة.قال معناه الزّمخشريّ:

و ليس بجيّد،لأنّ العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين.

و قال الحوفيّ: و الهاء في(اكله)عائدة على ما تقدّم من ذكر هذه الأشياء المنشآت،انتهى.و على هذا لا يكون ذو الحال اَلنَّخْلَ وَ الزَّرْعَ فقط،بل جميع ما أنشأ،لاشتراكها كلّها في اختلاف المأكول،و لو كان كما زعم لكان التّركيب:«مختلفا أكلها»،إلاّ إن أخذ ذلك على حذف مضاف،أي ثمر جنّات،و روعي هذا المحذوف فقيل:(اكله)بالإفراد على مراعاته،فيكون ذلك نحو قوله: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ أو كذي ظلمات،و لذلك أعاد الضّمير في (يغشيه)عليه،و الظّاهر عوده على أقرب مذكور و هو(الزرع.)و يكون قد حذفت حال(النخل) لدلالة هذه الحال عليها،التّقدير:و النّخل مختلفا أكله و الزّرع مختلفا أكله،كما تأوّل بعضهم في قولهم:زيد و عمرو قائم،أي زيد قائم،و عمرو قائم.

و يحتمل أن يكون الحال مختصّة بالزّرع،لأنّ أنواعه مختلفة الشّكل جدّا كالقمح و الشّعير و الذّرّة و القطينة و السّلت و العدس و الجلبان و الأرزّ و غير ذلك،بخلاف النّخل،فإنّ الثّمر لا يختلف شكله إلاّ بالصّغر و الكبر.(4:236)

2- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ. فاطر:27

لاحظ:«مختلف».

3- ...ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. الزّمر:21

الطّبريّ: يعني أنواعا مختلفة من بين حنطة و شعير و سمسم و أرزّ،و نحو ذلك من الأنواع المختلفة.(10:626)

الزّمخشريّ: هيئاته من خضرة و حمرة و صفرة و بياض،و غير ذلك،أو أصنافه من برّ و شعير و سمسم و غيرها.(3:394)

نحوه الفخر الرّازيّ(26:264)،و أبو السّعود(5:

388)،و الآلوسيّ(23:256).

مختلفون

اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. النّبأ:3

ابن عبّاس: مكذّبون بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن، و مصدّقون بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن؛و ذلك إذا نزل جبريل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بشيء من القرآن فقرأه عليه،فيتحدّثون فيما بينهم عن ذلك،فمنهم من صدّق به،و منهم من كذّب به.(498)

قتادة :البعث بعد الموت،فصار النّاس فيه فريقين:

مصدّق و مكذّب،فأمّا الموت فقد أقرّوا به لمعاينتهم إيّاه،و اختلفوا في البعث بعد الموت.

(الطّبريّ 12:396)

يحيى بن سلاّم:اختلف فيه المسلمون و المشركون،

ص: 211

فصدّق به المسلمون،و كذّب به المشركون.

(الماورديّ 6:183)

الفرّاء: بين مصدّق و مكذّب،فذلك اختلافهم.

(3:227)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:الّذي صاروا هم فيه مختلفون فريقين:فريق به مصدّق،و فريق به مكذّب.

(12:396)

القشيريّ: مختلفون بشدّة إنكارهم أمر البعث، و لالتباس ذلك عليهم،و كثرة مساءلتهم عنه،و كثرة مراجعتهم إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في معناه.(6:243)

الواحديّ: ذلك أنّهم اختلفوا في القرآن،فجعله بعضهم سحرا،و بعضهم كهانة و شعرا،و بعضهم أساطير الأوّلين.(4:411)

الزّمخشريّ: إن قلت:قد زعمت أنّ الضّمير في (يتساءلون)للكفّار فما تصنع بقوله: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ؟

قلت:كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث، و منهم من يشكّ.و قيل:الضّمير للمسلمين و الكافرين جميعا،و كانوا جميعا يسألون عنه.أمّا المسلم فليزداد خشية و استعدادا،و أمّا الكافر فليزداد استهزاء.و قيل:المتساءل عنه القرآن،و قيل:نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(4:207)

نحوه النّسفيّ(4:325)،و المراغيّ(30:6).

ابن الجوزيّ: من قال:إنّه القرآن،فإنّ المشركين اختلفوا فيه،فقال بعضهم:هو سحر،و قال بعضهم:هو شعر،و قال بعضهم:أساطير الأوّلين،إلى غير ذلك.

و كذلك من قال:هو أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.فأمّا من قال:إنّه البعث و القيامة،ففي اختلافهم فيه قولان:[قول قتادة و يحيى بن سلاّم](9:4)

القرطبيّ: أي يخالف فيه بعضهم بعضا،فيصدّق واحد و يكذّب آخر.فروى أبو صالح عن ابن عبّاس قال:هو القرآن،دليله قوله: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ.* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ص:67،68،فالقرآن نبأ و خبر و قصص،و هو نبأ عظيم الشّأن...

و قيل:أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.و روى الضّحّاك عن ابن عبّاس قال:و ذلك أنّ اليهود سألوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن أشياء كثيرة،فأخبره اللّه جلّ ثناؤه باختلافهم.

(19:168)

البيضاويّ: (مختلفون)بجزم النّفي و الشّكّ فيه،أو بالإقرار و الإنكار.(2:532)

الشّربينيّ: إن قيل:إذا كان الضّمير يرجع إلى الكفّار،فكيف يكون قوله تعالى: اَلَّذِي هُمْ أي بضمائرهم مع ادّعائهم أنّها أقوى الضّمائر فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مع أنّ الكفّار كانوا متّفقين على إنكار البعث؟

أجيب:بأنّا لا نسلّم اتّفاقهم على ذلك،بل كان فيهم من يثبت المعاد الرّوحانيّ،و هم جمهور النّصارى، و أمّا المعاد الجسمانيّ فمنهم من يقطع القول بإنكاره، و منهم من يشكّ.و أمّا إذا كان المتساءل عنه القرآن، فقد اختلفوا فيه كثيرا،و قيل:المتساءل عنه نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(4:469)

أبو السّعود :بعد وصفه ب(العظيم)تأكيدا

ص: 212

لخطره إثر تأكيد،و إشعارا بمدار التّساؤل عنه،و(فيه) متعلّق ب(مختلفون)قدّم عليه اهتماما به و رعاية للفواصل.و جعل الصّلة جملة اسميّة للدّلالة على الثّبات،أي هم راسخون في الاختلاف فيه:فمن جازم باستحالته يقول: ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ الجاثية:24،و شاكّ يقول: ما نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ الجاثية:32،و قيل:منهم من ينكر المعادين معا كهؤلاء،و منهم من ينكر المعاد الجسمانيّ فقط كجمهور النّصارى.و قد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفيّة الإنكار:فمنهم من ينكره لإنكاره الصّانع المختار،و منهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه،و حمله على الاختلاف بالنّفي و الإثبات،بناء على تعميم التّساؤل لفريقي المسلمين و الكافرين.على أنّ سؤال الأوّلين ليزدادوا خشية و استعدادا،و سؤال الآخرين ليزدادوا كفرا و عنادا، يردّه قوله تعالى: كَلاّ سَيَعْلَمُونَ... ،فإنّه صريح في أنّ المراد:اختلاف الجاهلين به المنكرين له؛إذ عليه يدور الرّدع و الوعيد،لا على خلاف المؤمنين لهم.

و تخصيصهما بالكفرة بناء على تخصيص ضمير (سيعلمون)بهم،مع عموم الضّميرين السّابقين للكلّ،ممّا ينبغي تنزيه التّنزيل عن أمثاله.

هذا ما أدّى إليه جليل النّظر،و الّذي يقتضيه التّحقيق و يستدعيه النّظر الدّقيق،أن يحمل اختلافهم على مخالفتهم للنّبيّ عليه الصّلاة و السّلام،بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدّد،حسبما ذكر في التّساؤل،فإنّ«الافتعال»و«التّفاعل»صيغتان متآخيتان كالاستباق و التّسابق،و الانتضال و التّناضل،الى غير ذلك،يجري في كلّ منهما ما يجري في الأخرى،لا على مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين، لأنّ الكلّ و إن استحقّ الرّدع و الوعيد،لكن استحقاق كلّ جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر؛إذ لا حقّيّة في شيء منها حتّى يستحقّ من يخالفه المؤاخذة،بل لمخالفته له عليه الصّلاة و السّلام، ف(كلاّ)ردع لهم عن التّساؤل و الاختلاف بالمعنيين المذكورين،و(سيعلمون)وعيد لهم بطريق الاستئناف و تعليل للرّدع،و«السّين»للتّقريب و التّأكيد،و ليس مفعوله ما ينبئ عنه المقام من وقوع ما يتساءلون عنه،و وقوع ما يختلفون فيه،كما في قوله تعالى: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ إلى قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ النّحل:38،39،فإنّ ذلك عار عن صريح الوعيد،بل هو عبارة عمّا يلاقونه من فنون الدّواهي و العقوبات.و التّعبير عن لقائها بالعلم،لوقوعه في معرض التّساؤل و الاختلاف.و المعنى:ليرتدعوا عمّا هم عليه،فإنّهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب و النّكال.(6:353)

نحوه البروسويّ.(10:292)

الآلوسيّ: [نقل كلام أبي السّعود و أضاف:] و فيه:أنّه خلاف الظّاهر،و ما ذكره من التّعليل لا يخلو عن شيء.(30:4)

ابن عاشور :اختلافهم في النّبإ اختلافهم فيما

ص: 213

يصفونه به،كقول بعضهم: إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام:25،و قول بعضهم:هذا كلام مجنون، و قول بعضهم:هذا كذب،و بعضهم:هذا سحر،و هم أيضا مختلفون في مراتب إنكاره.فمنهم من يقطع بإنكار البعث،مثل الّذين حكى اللّه عنهم بقوله:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ... سبأ:7،8،و منهم من يشكّون فيه كالّذين حكى اللّه عنهم بقوله: ما نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ الجاثية:32،على أحد التّفسيرين.

و جيء بالجملة الاسميّة في صلة الموصول دون أن يقول:الّذي يختلفون فيه،أو نحو ذلك،لتفيد الجملة الاسميّة أنّ الاختلاف في أمر هذا النّبإ متمكّن منهم و دائم فيهم،لدلالة الجملة الاسميّة على الدّوام و الثّبات.(30:10)

الطّباطبائيّ: ...و قيل: اَلنَّبَإِ الْعَظِيمِ ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصّانع و صفاته،و الملائكة و الرّسل و البعث و الجنّة و النّار و غيرها،و كأنّ القائل به اعتبر فيه ما في السّورة من الإشارة إلى حقّيّة جميع ذلك،ممّا تتضمّنه الدّعوة الحقّة الإسلاميّة.

و يدفعه أنّ الإشارة إلى ذلك كلّه من لوازم صفة البعث،المتضمّنة لجزاء الاعتقاد الحقّ،و العمل الصّالح و الكفر و الإجرام،و قد دخل فيما في السّورة من صفة يوم الفصل تبعا و بالقصد الثّاني.

على أنّ المراد بهؤلاء المتسائلين-كما تقدّم-:

المشركون،و هم يثبتون الصّانع و الملائكة،و ينفون ما وراء ذلك ممّا ذكر.

و قوله: اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ إنّما اختلفوا في نحو إنكاره،و هم متّفقون في نفيه،فمنهم من كان يرى استحالته فينكره،كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه اللّه: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ سبأ:7،و منهم من كان يستبعده فينكره،و هو قوله: أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ* هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ المؤمنون:35،36،و منهم من كان يشكّ فيه فينكره،قال تعالى: بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ النّمل:

66،و منهم من كان يوقن به لكنّه لا يؤمن عنادا فينكره،كما كان لا يؤمن بالتّوحيد و النّبوّة و سائر فروع الدّين بعد تمام الحجّة عنادا،قال تعالى: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ الملك:21.[إلى أن قال:]

و للمفسّرين في مفردات الآيات الثّلاث و تقرير معانيها وجوه كثيرة،تركناها لعدم ملائمتها السّياق، و الّذي أوردناها هو الّذي يعطيه السّياق.

(20:159)

مكارم الشّيرازيّ: و قد يتساءل أنّه إذا كان اَلنَّبَإِ الْعَظِيمِ هو يوم القيامة،فلما ذا يقول القرآن الكريم: اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، و في علمنا أنّ الكفّار مجمعون على إنكاره؟

و الجواب:أنّ المشركين لا يقطعون في إنكارهم للمعاد بشكل جازم،و الكثير منهم يعتقدون بصورة إجماليّة ببقاء الرّوح بعد البدن،و هو ما يسمّى ب «المعاد الرّوحانيّ».

ص: 214

أمّا بخصوص«المعاد الجسمانيّ»،فالمشركون ليسوا على وتيرة واحدة في إنكاره،فهناك من يظهر الشّكّ و التّردّد،كما تشير إلى ذلك الآية:66،من سورة النّحل،و هناك من ينكر المعاد الجسمانيّ بشدّة، حتّى دفعهم جهلهم و عنادهم،لأن ينعتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله-و العياذ باللّه-بالجنون،لقوله بالمعاد الجسمانيّ، و قد عرّفوه تارة أخرى بالكاذب على اللّه!كما أخبرت بذلك سورة سبأ في الآيتين:7،8،و عليه، فاختلاف المشركين في المعاد أمر واقع و لا يمكن إنكاره.(19:280)

فضل اللّه :في طريقة مواجهته المتداولة بين وضعه في دائرة الاستحالة أو الاستبعاد أو الشّكّ؟هل هناك جهل به يريدون الخروج عنه،أو هو رفض في صورة السّؤال،لأنّهم يريدون إثارة الضّباب حوله،و الإيحاء الخفيّ بأنّه لا يمثّل وضوح الحقيقة في ذاته،حتّى إذا جاء الجواب بالإيجاب وقفوا أمامه موقف السّخريّة منه؟

(24:10)

مختلفين

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. هود:118

ابن عبّاس: (مختلفين)في الدّين و الباطل.

(192)

أهل الباطل.مثله مجاهد.(الطّبريّ 7:138)

إنّهم أهل الحقّ و أهل الباطل.

(ابن الجوزيّ 4:172)

مثله مجاهد.(الطّبريّ 7:138)

إنّهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين.

(ابن الجوزيّ 4:172)

عكرمة :اليهود و النّصارى.لا يزالون مختلفين في الهوى.(الطّبريّ 7:138)

الحسن :النّاس مختلفون على أديان شتّى،إلاّ من رحم ربّك،فمن رحم غير مختلفين.(الطّبريّ 7:138) مختلفين في الرّزق،سخّر بعضهم لبعض.

(الطّبريّ 7:139)

عطاء:اليهود و النّصارى و المجوس و الحنيفيّة، هم الّذين رحم ربّك.(الطّبريّ 7:137)

قتادة :أهل رحمة اللّه:أهل جماعة،و إن تفرّقت دورهم و أبدانهم.و أهل معصيته:أهل فرقة،و إن اجتمعت دورهم و أبدانهم.(الطّبريّ 7:139)

ابن قتيبة :(مختلفين)في دينهم.(211)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في«الاختلاف» الّذي وصف اللّه النّاس أنّهم لا يزالون به.

فقال بعضهم:هو الاختلاف في الأديان،فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء:و لا يزال النّاس مختلفين على أديان شتّى،من بين يهوديّ و نصرانيّ،و مجوسيّ،و نحو ذلك.

و قال قائلو هذه المقالة:استثنى اللّه من ذلك من رحمهم،و هم أهل الإيمان.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:و لا يزالون مختلفين في الرّزق،فهذا فقير و هذا غنيّ.

و قال بعضهم:مختلفين في المغفرة و الرّحمة،

ص: 215

أو كما قال.

و أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصّواب قول من قال:معنى ذلك:و لا يزال النّاس مختلفين في أديانهم و أهوائهم،على أديان و ملل و أهواء شتّى،إلاّ من رحم ربّك،فآمن باللّه و صدّق رسله،فإنّهم لا يختلفون في توحيد اللّه،و تصديق رسله،و ما جاءهم من عند اللّه.

و إنّما قلت:ذلك أولى بالصّواب في تأويل ذلك، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ، ففي ذلك دليل واضح أنّ الّذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف النّاس،إنّما هو خبر عن اختلاف مذموم يوجب لهم النّار،و لو كان خبرا عن اختلافهم في الرّزق،لم يعقّب ذلك بالخبر عن عقابهم و عذابهم.(7:137)

أبو مسلم الأصفهانيّ: يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا من غير نظر،فإنّ قولك:«خلف بعضهم بعضا»،و قولك:«اختلفوا»سواء،كما أنّ قولك:«قتل بعضهم بعضا»،و قولك:«اقتتلوا»،سواء.

(الطّبرسيّ 3:203)

الثّعلبيّ: (مختلفين)على أديان شتّى،من يهوديّ و نصرانيّ و مجوسيّ،و نحو ذلك.(5:194)

نحوه الواحديّ(2:597)،و البغويّ(2:472).

الماورديّ: فيه ستّة أقاويل:[إلى أن قال:]

الرّابع:مختلفين بالشّقاء و السّعادة إلاّ من رحم ربّك بالتّوفيق.

الخامس:مختلفين في المغفرة و العذاب إلاّ من رحم ربّك بالجنّة.

السّادس:[قول أبي مسلم و قد تقدّم](2:511)

الطّوسيّ: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ معناه في الأديان كاليهود و قول النّصارى و المجوس،و غير ذلك من اختلاف المذاهب الباطلة،في قول مجاهد و قتادة و عطاء و الأعمش و الحسن في رواية،و في رواية أخرى عن الحسن:أنّهم يختلفون بالأرزاق و الأحوال،و يتحيّز بعضهم لبعض.و الأوّل أقوى.

و الاختلاف،هو اعتقاد كلّ واحد نقيض ما يعتقده الآخر،و هو ما لا يمكن أن يجتمعا في الصّحّة و إن أمكن أن يجتمعا في الفساد.أ لا ترى أنّ اليهوديّة و النّصرانيّة لا يجوز أن يكونا صحيحين مع اتّفاقهما في الفساد،و يجوز أن يكون في اختلاف أهل الملل المخالفة للإسلام حقّ،لأنّ باعتقاد اليهوديّ أنّ النّصرانيّة باطلة،و اعتقاد النّصرانيّ أنّ اليهوديّة فاسدة،حقّ.(6:83)

الزّمخشريّ: اختار بعضهم الحقّ و بعضهم الباطل،فاختلفوا.(2:298)

ابن عطيّة: هم لا يزالون مختلفين في الأديان و الآراء و الملل،هذا تأويل الجمهور.قال الحسن و عطاء و مجاهد و غيرهم:المرحومون المستثنون هم المؤمنون،ليس عندهم اختلاف.

و قالت فرقة: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في السّعادة و الشّقاوة.و هذا قريب المعنى من الأوّل؛إذ هي ثمرة الأديان و الاختلاف فيها،و يكون الاختلاف-على هذا التّأويل-يدخل فيه المؤمنون؛إذ هم مخالفون للكفرة.و قال الحسن أيضا:لا يزالون مختلفين في الغنى

ص: 216

و الفقر،و هذا قول بعيد معناه من معنى الآية.

(3:215)

الفخر الرّازيّ: المراد:افتراق النّاس في الأديان و الأخلاق و الأفعال.

و اعلم أنّه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع،و من أراد ذلك فليطالع كتابنا الّذي سمّيناه«بالرّياض المونقة»إلاّ أنّا نذكر هاهنا تقسيما جامعا للمذاهب،فنقول:

النّاس فريقان:منهم من أقرّ بالعلوم الحسّيّة كعلمنا بأنّ النّار حارّة و الشّمس مضيئة،و العلوم البديهيّة كعلمنا بأن النّفي و الإثبات لا يجتمعان.و منهم من أنكرهما،و المنكرون هم السّوفسطائيّة،و المقرّون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم،و هم فريقان:منهم من سلم أنّه يمكن تركيب تلك العلوم البديهيّة؛بحيث يستنتج منها نتائج علميّة نظريّة،و منهم من أنكره، و هم الّذين ينكرون أيضا النّظر إلى العلوم،و هم قليلون.

و الأوّلون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم، و هم فريقان:منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسمانيّ مبدأ أصلا و هم الأقلّون،و منهم من يثبت له مبدأ، و هؤلاء فريقان:منهم من يقول:ذلك المبدأ موجب بالذّات،و هم جمهور الفلاسفة في هذا الزّمان،و منهم من يقول:إنّه فاعل مختار،و هم أكثر أهل العالم،ثمّ هؤلاء فريقان:منهم من يقول:إنّه ما أرسل رسولا إلى العباد،و منهم من يقول:إنّه أرسل الرّسول، فالأوّلون هم البراهمة.

و القسم الثّاني:أرباب الشّرائع و الأديان،و هم المسلمون و النّصارى و اليهود و المجوس.و في كلّ واحد من هذه الطّوائف اختلافات لا حدّ لها و لا حصر،و العقول مضطربة،و المطالب غامضة، و منازعات الوهم و الخيال غير منقطعة.و لمّا حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطّبّ:العمر قصير، و الصّناعة طويلة،و القضاء عسر،و التّجربة خطر، فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية و المباحث الغامضة،كان ذلك أولى.

فإن قيل:إنّكم حملتم قوله تعالى: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ على الاختلاف في الأديان،فما الدّليل عليه؟و لم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان و الألسنة و الأرزاق و الأعمال؟

قلنا:الدّليل عليه أنّ ما قبل هذه الآية هو قوله:

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمّة واحدة،و ما بعد هذه الآية هو قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصحّ أن يستثنى منه قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و ذلك ليس إلاّ ما قلنا.(18:76)

نحوه النّيسابوريّ.(12:72)

ابن عربيّ: (مختلفين)في الوجهة،و الاستعداد.

(1:585)

البيضاويّ: بعضهم على الحقّ و بعضهم على الباطل،لا تكاد تجد اثنين يتّفقان مطلقا.(1:485)

نحوه الكاشانيّ.(2:477)

ص: 217

النّسفيّ: (مختلفين)في الكفر و الإيمان.

(2:209)

الشّربينيّ: أي على أديان شتّى ما بين يهوديّ و نصرانيّ و مجوسيّ و مشرك و مسلم،فكلّ أهل دين من هذه الأديان اختلفوا في دينهم أيضا اختلافا كثيرا لا ينضبط...(2:85)

أبو السّعود :(مختلفين)في الحقّ،أي مخالفين له،كقوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ البقرة:213.

(3:359)

البروسويّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

أو على أنبيائهم،كما قال عليه السّلام:«إنّ اللّه بعثني رحمة للعالمين كافّة فأدّوا عنّي رحمكم اللّه و لا تختلفوا،كما اختلف الحواريّون على عيسى،فإنّه دعاهم إلى اللّه مثل ما أدعوكم إليه».(4:202)

الآلوسيّ: لعلّ المراد:الاختلاف في الحقّ و الباطل من العقائد الّتي هي أصول الدّين بقرينة المقام.و قيل:المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد و الفروع و غيرهما من أمور الدّين،لعدم ما يدلّ على الخصوص في النّظم.فالاستثناء في قوله سبحانه:

إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ متّصل على الأوّل...،و على الثّاني منقطع؛حيث لم يخرج من رحمة اللّه تعالى من المختلفين،كأئمّة أهل الحقّ،فإنّهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدّين من الفروع،و إلى هذا ذهب الحوفيّ و من تبعه.(12:164)

المراغيّ: أي و لا يزالون مختلفين في شئونهم الدّنيويّة و الدّينيّة بحسب استعدادهم الفطريّ.

(12:98)

ابن عاشور :لمّا أشعر الاختلاف بأنّه اختلاف في الدّين،و أنّ معناه العدول عن الحقّ إلى الباطل،لأنّ الحقّ لا يقبل التّعدّد و الاختلاف،عقّب عموم وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ باستثناء من ثبتوا على الدّين الحقّ و لم يخالفوه،بقوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، أي فعصمهم من الاختلاف.

و فهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الّذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدّين،و إن كان يزعم أنّه من متّبعيه،فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه،و بذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ و العدل،بالإرشاد و المجادلة الحسنة و المناظرة،فإن لم ينجع ذلك فبالقتال،كما فعل أبو بكر في قتال العرب الّذين جحدوا وجوب الزّكاة،و كما فعل عليّ كرّم اللّه وجهه في قتال الحروريّة الّذين كفّروا المسلمين.و هذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف.

(11:350)

مغنيّة:أي إنّ النّاس اختلفوا فيما مضى، و سيستمرّون على هذا الاختلاف إلى الأبد،لأنّه نتيجة حتميّة لجعل الإنسان مخيّرا غير مسيّر،يتّجه إلى حيث شاء و أراد.(4:279)

الطّباطبائيّ: الخلف:خلاف القدّام،و هو الأصل فيما اشتقّ من هذه المادّة من المشتقّات.يقال:خلف أباه،أي سدّ مسدّه لوقوعه بعده،و أخلف وعده،أي

ص: 218

لم يف به،كأنّه جعله خلفه،و مات و خلّف ابنا،أي تركه خلفه،و استخلف فلانا،أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أو موته،أو بنوع من العناية كاستخلاف اللّه تعالى آدم و ذرّيّته في الأرض،و خالف فلان فلانا و تخالفا،إذا تفرّقا في رأي أو عمل،كأنّ كلاّ منهما يجعل الآخر خلفه،و تخلّف عن أمره،إذا أدبر و لم يأتمر به،و اختلف القوم في كذا،إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه،و اختلف القوم إلى فلان،إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد،و اختلف فلان إلى فلان،إذا دخل عليه مرّات كلّ واحدة بعد أخرى.

ثمّ الاختلاف،و يقابله الاتّفاق من الأمور الّتي لا يرتضيها الطّبع السّليم لما فيه من تشتيت القوى و تضعيفها،و آثار أخرى غير محمودة من نزاع و مشاجرة و جدال و قتال و شقاق،كلّ ذلك يذهب بالأمن و السّلام،غير أنّ نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنسانيّ،و هو الاختلاف من حيث الطّبائع المنتهية إلى اختلاف البنى،فإنّ التّركيبات البدنيّة مختلفة في الأفراد،و هو يؤدّي إلى اختلاف الاستعدادات البدنيّة و الرّوحيّة،و بانضمام اختلاف الاجواء و الظّروف إلى ذلك،يظهر اختلاف السّلائق و السّنن و الآداب و المقاصد و الأعمال النّوعيّة و الشّخصيّة في المجتمعات الإنسانيّة،و قد أوضحت الأبحاث الاجتماعيّة أن لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنسانيّ،و لا طرفة عين.

و قد ذكره اللّه تعالى في كتابه و نسبه إلى نفسه؛ حيث قال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا الزّخرف:32،و لم يذمّه تعالى في شيء من كلامه إلاّ إذا صحب هوى النّفس، و خالف هدى العقل.

و ليس منه الاختلاف في الدّين،فإنّ اللّه سبحانه يذكر أنّه فطر النّاس على معرفته و توحيده،و سوّى نفس الإنسان فألهمها فجورها و تقواها،و إنّ الدّين الحنيف هو من الفطرة الّتي فطر النّاس عليها،لا تبديل لخلق اللّه،و لذلك نسب الاختلاف في الدّين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه و ظلمهم فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.

و قد جمع اللّه الاختلافين في قوله: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، و هذا هو الاختلاف الأوّل في الحياة و المعيشة، وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ، و هذا هو الاختلاف الثّاني في الدّين إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ البقرة:312،فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.

و الّذي ذكره بقوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً يريد به رفع الاختلاف من بينهم، و توحيدهم على كلمة واحدة يتّفقون فيه.و من المعلوم أنّه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السّابقة على هذه الآية،من اختلافهم في أمر الدّين، و انقسامهم إلى طائفة أنجاهم اللّه،-و هم قليل-

ص: 219

و طائفة أخرى و هم الّذين ظلموا.

فالمعنى:أنّهم و إن اختلفوا في الدّين فإنّهم لم يعجزوا اللّه بذلك،و لو شاء اللّه لجعل النّاس أمة واحدة لا يختلفون في الدّين،فهو نظير قوله: وَ عَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ النّحل:9،و قوله: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً الرّعد:31.

و على هذا فقوله: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إنّما يعني به الاختلاف في الدّين فحسب،فإنّ ذلك هو الّذي يذكر لنا أن لو شاء لرفعه من بينهم،و الكلام في تقدير:لو شاء اللّه لرفع الاختلاف من بينهم،لكنّه لم يشأ ذلك،فهم مختلفون دائما.

على أنّ قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يصرّح أنّه رفعه عن طائفة رحمهم،و الاختلاف في غير الدّين لم يرفعه اللّه تعالى حتّى عن الطّائفة المرحومة،و إنّما رفع عنهم الاختلاف الدّينيّ الّذي يذمّه،و ينسبه إلى البغي بعد العلم بالحقّ.

و قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ استثناء من قوله:

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي النّاس يخالف بعضهم بعضا في الحقّ أبدا،إلاّ الّذين رحمهم اللّه،فإنّهم لا يختلفون في الحقّ و لا يتفرّقون عنه،و الرّحمة:هي الهداية الإلهيّة،كما يفيده قوله: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ البقرة:213.

فإن قلت:معنى اختلاف النّاس أن يقابل بعضهم بعضا بالنّفي و الإثبات،فيصير معنى قوله:

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أنّهم منقسمون دائما إلى محقّ و مبطل،و لا يصحّ حينئذ ورود الاستثناء عليه إلاّ بحسب الأزمان دون الأفراد؛و ذلك أنّ انضمام قوله:

إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إليه يؤوّل المعنى إلى مثل قولنا:

إنّهم منقسمون دائما إلى مبطلين و محقّين إلاّ من رحم ربّك منهم،فإنّهم لا ينقسمون إلى قسمين،بل يكونون محقّين فقط.و من المعلوم أنّ المستثنين منهم هم المحقّون، فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا:إنّ منهم مبطلين و محقّين،و المحقّون محقّون لا مبطل فيهم،و هذا كلام لا فائدة فيه.

على أنّه لا معنى لاستثناء المحقّين من حكم الاختلاف أصلا،و هم من النّاس المختلفين، و الاختلاف قائم بهم و بالمبطلين معا.

قلت:الاختلاف المذكور في هذه الآية و سائر الآيات المتعرّضة له الذّامّة لأهله،إنّما هو الاختلاف في الحقّ،و مخالفة البعض للبعض في الحقّ،و إن كانت توجب كون بعض منهم على الحقّ و على بصيرة من الأمر،لكنّه إذا نسب إلى المجموع و هو المجتمع،كان لازمه ارتياب المجتمع و تفرّقهم عن الحقّ،و عدم اجتماعهم عليه،و تركهم إيّاه بحياله،و مقتضاه اختفاء الحقّ عنهم،و ارتيابهم فيه.

و اللّه سبحانه إنّما يذمّ الاختلاف من جهة لازمه هذا،و هو التّفرّق و الإعراض عن الحقّ،و الآيات تشهد بذلك،فإنّه تعالى يذمّ فيها جميع المختلفين باختلافهم،لا المبطلين من بينهم.فلو لا أنّ المراد ب «المختلفين»:أهل الآراء أو الأعمال المختلفة الّتي تفرّقهم عن الحقّ،لم يصحّ ذلك.(11:60)

ص: 220

فضل اللّه: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في ما اقتضته سنّة اللّه في وجود الإنسان،من اختلاف في مستوى التّفكير و طريقته،و تنوّع في التّجربة،و طبيعة النّتائج الّتي ينتهي إليها كلّ منهم،ممّا يوجب كثيرا من التّنازع و الارتباك،في شئون الحياة الخاصّة و العامّة للنّاس، و يؤدّي إلى الانحراف عن الخطّ المستقيم،و البعد عن خطّ الإيمان،و الاقتراب من خطوط الكفر و الضّلال.

لما ذا يحدث الخلاف بين النّاس؟

و تلك هي طبيعة الحرّيّة الّتي جعلها اللّه للإنسان في إرادته،في ما تتحرّك به في الخطوط المتوازية للفكر و العمل،لما يراه اللّه من الحكمة في ذلك،بعيدا عن أيّ محذور عقليّ،لأنّ اللّه جعل من الضّوابط الذّاتيّة الّتي تحدّد للإنسان خطّ السّير في مناهج الفكر و أساليبه، و طبيعة المضمون ممّا لو اختاره و سار عليه لاستطاع أن يصل إلى نتيجة واحدة،و لكنّ مشكلته أنّ نوازعه الذّاتيّة تتدخّل في نهج تفكيره،و في عمليّة الاختيار، كما أنّ أوضاعه العاطفيّة و الانفعاليّة،قد تؤثّر على قراراته الفكريّة،فتختلط عليه الأمور،و تتشابك القضايا،و يفقد وضوح الرّؤية لما يحيط به،و بذلك يحدث الخلاف بين النّاس الّذي يؤدّي إلى أكثر من نتيجة سلبيّة،على مستوى الواقع الإنسانيّ العامّ.

(12:149)

اختلاف

1- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ... البقرة:164

ابن عبّاس: في تقليب اللّيل و النّهار و زيادتهما و نقصانهما.(22)

عطاء:أراد في اختلاف اللّيل و النّهار في اللّون و الطّول و القصر و النّور و الظّلمة و الزّيادة و النّقصان،يكون أحدهما على الآخر.

مثله ابن كيسان.(الثّعلبيّ 2:32)

الطّبريّ: يعني تعالى ذكره بقوله: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ، و تعاقب اللّيل و النّهار عليكم أيّها النّاس.

و إنّما الاختلاف في هذا الموضع،«الافتعال»من خلوف كلّ واحد منهما الآخر،كما قال تعالى ذكره:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً الفرقان:62.

بمعنى أنّ كلّ واحد منهما يخلف مكان صاحبه،إذا ذهب اللّيل جاء النّهار بعده،و إذا ذهب النّهار جاء اللّيل خلفه.و من ذلك قيل:«خلف فلان فلانا في أهله بسوء».[ثمّ استشهد بشعر](2:67)

الثّعلبيّ: أي تعاقبهما في الذّهاب و المجيء.

و الاختلاف«الافتعال»من خلف يخلف خلوفا،يعني أنّ كلّ واحد منهما إذا ذهب أحدهما جاء آخر خلافه، أي بعده،نظير قوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62.(2:32)

نحوه الشّربينيّ.(1:109)

الماورديّ: آية اللّيل و النّهار:اختلافهما بإقبال أحدهما و إدبار الآخر،فيقبل اللّيل من حيث

ص: 221

لا يعلم،و يدبر النّهار إلى حيث لا يعلم،فهذا اختلافهما.(1:216)

الواحديّ: يريد تعاقبهما في الذّهاب و المجيء.

و منه يقال:فلان يختلف إلى فلان،إذا كان يذهب إليه و يجيء من عنده.فذهابه يخلف مجيئه،و مجيئه يخلف ذهابه،أي يأتي أحدهما خلاف الآخر،أي بعده.

و كلّ شيء يجيء بعد شيء فهو خلفه،و بهذا فسّر قوله تعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62.

(1:246)

نحوه البغويّ.(1:195)

الزّمخشريّ: اختلاف اللّيل و النّهار:اعتقابهما، لأنّ كلّ واحد منهما يعقب الآخر،كقوله: جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62.(1:325)

نحوه أبو السّعود(1:225)،و البيضاويّ(1:93)، و البروسويّ(1:267)،و الآلوسيّ(2:31).

الطّبرسيّ: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ: كلّ واحد منهما يخلف صاحبه،إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة،و اختلافهما في الجنس و اللّون و الطّول و القصر.(1:246)

نحوه النّسفيّ(1:86)،و المراغيّ(2:35).

ابن الجوزيّ: كلّ واحد منهما حادث بعد أن لم يكن،و زائل بعد أن كان.(1:168)

الفخر الرّازيّ: ذكروا للاختلاف تفسيرين:

أحدهما:أنّه«افتعال»من قولهم:خلفه يخلفه،إذا ذهب الأوّل و جاء الثّاني،فاختلاف اللّيل و النّهار:

تعاقبهما في الذّهاب و المجيء.و منه يقال:فلان يختلف إلى فلان،إذا كان يذهب إليه و يجيء من عنده، فذهابه يخلف مجيئه،و مجيئه يخلف ذهابه.و كلّ شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه،و بهذا فسّر قوله تعالى:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62.

و الثّاني:أراد اختلاف اللّيل و النّهار:في الطّول و القصر و النّور و الظّلمة و الزّيادة و النّقصان.قال الكسائيّ: يقال لكلّ شيئين اختلفا:هما خلفان.

و عندي فيه وجه ثالث:و هو أنّ اللّيل و النّهار كما يختلفان بالطّول و القصر في الأزمنة،فهما يختلفان بالأمكنة،فإنّ عند من يقول:الأرض كرة،فكلّ ساعة عيّنتها فتلك السّاعة في موضع من الأرض صبح،و في موضع آخر ظهر،و في موضع ثالث عصر،و في رابع مغرب،و في خامس عشاء،و هلمّ جرّا،هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال.

أمّا البلاد المختلفة بالعرض،فكلّ بلد تكون عرضه الشّماليّ أكثر كانت أيّامه الصّيفيّة أطول، و لياليه الصّيفيّة أقصر،و أيّامه الشّتويّة بالضّدّ من ذلك،فهذه الأحوال المختلفة في الأيّام و اللّيالي بحسب اختلاف أطوال البلدان و عروضها أمر مختلف عجيب.

و لقد ذكر اللّه تعالى أمر اللّيل و النّهار في كتابه في عدّة مواضع.[ثمّ ذكر الآيات الّتي جاء فيها كلمة اللّيل و النّهار](4:218)

القرطبيّ: قيل:اختلافهما بإقبال أحدهما و إدبار الآخر من حيث لا يعلم.و قيل:اختلافهما في الأوصاف من النّور و الظّلمة و الطّول و القصر.

(2:192)

ص: 222

الكاشانيّ: المتتابعين الكارّين عليكم بالعجائب الّتي يحدثها ربّكم في عالمه:من إسعاد و إشقاء و إعزاز و إذلال و إغناء و إفقار و صيف و شتاء و خريف و ربيع و خصب و قحط و خوف و أمن.

(1:190)

ابن عاشور :تذكير بآية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد من العقلاء،و هي اختلاف اللّيل و النّهار، أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء و ظلمة،و ما في الضّياء من الفوائد للنّاس،و ما في الظّلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم و استرجاع قواهم المنهوكة بالعمل.

و في ذلك آية لخاصّة العقلاء؛إذ يعلمون أسباب اختلاف اللّيل و النّهار على الأرض،و أنّه من آثار دوران الأرض حول الشّمس في كلّ يوم،و لهذا جعلت الآية في اختلافهما،و ذلك يقتضي أنّ كلاّ منهما آية.

و الاختلاف«افتعال»من الخلف،و هو أن يجىء شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه في مكانه،و الخلفة بكسر الخاء:الخلف.[ثمّ استشهد بشعر]

و قد أضيف الاختلاف لكلّ من اللّيل و النّهار، لأنّ كلّ واحد منهما يخلف الآخر،فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر،بحيث لو دام أحدهما لانقلب النّفع ضررا قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ. القصص:71،72.

و للاختلاف معنى آخر هو مراد أيضا،و هو تفاوتهما في الطّول و القصر،فمرّة يعتدلان،و مرّة يزيد أحدهما على الآخر؛و ذلك بحسب أزمنة الفصول، و بحسب أمكنة الأرض في أطوال البلاد و أعراضها، كما هو مقرّر في علم الهيئة.و هذا أيضا من مواضع العبرة،لأنّه آثار الصّنع البديع في شكل الأرض و مساحتها للشّمس قربا و بعدا.ففي اختيار التّعبير بالاختلاف هنا سرّ بديع،لتكون العبارة صالحة للعبرتين.[إلى أن قال:]

فهذا هو المراد باختلاف اللّيل و النّهار،أي تعاقبهما،و خلف أحدهما الآخر.و من بلاغة علم القرآن أن سمّى ذلك اختلافا تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجوهر،لأنّه شيء غير ذاتيّ،فإنّ ما بالذّات لا يختلف،فأومأ إلى أنّ اللّيل و النّهار ليسا ذاتين،و لكنّهما عرضان،خلاف معتقد الأمم الجاهلة:

أنّ اللّيل جسم أسود،كما صوّره المصريّون القدماء على بعض الهياكل.و كما قال امرؤ القيس في اللّيل:

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

و أردف أعجازا و ناء بكلكل

و قال تعالى في سورة الشّمس: وَ النَّهارِ إِذا جَلاّها * وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها الشّمس:3،4.(2:77)

الطّباطبائيّ: اختلاف اللّيل و النّهار،و هو النّقيصة و الزّيادة و الطّول و القصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطّبيعيّة،و هي الحركة اليوميّة الّتي للأرض على مركزها،و هي

ص: 223

ترسم اللّيل و النّهار بمواجهة نصف الكرة،و أزيد بقليل دائما مع الشّمس،فتكتسب النّور و تمصّ الحرارة،و يسمّى النّهار،و استتار الشّمس عن النّصف الآخر و أنقص بقليل،فيدخل تحت الظّلّ المخروطيّ و تبقى مظلما،و تسمّى اللّيل،و لا يزالان يدوران حول الأرض.

و العامل الآخر ميل سطح الدّائرة الاستوائيّة أو المعدل عن سطح المدار الأرضيّ في الحركة الانتقاليّة إلى الشّمال و الجنوب،و هو الّذي يوجب ميل الشّمس من المعدل إلى الشّمال أو الجنوب الرّاسم للفصول.و هذا يوجب استواء اللّيل و النّهار في منطقة خطّ الاستواء و في القطبين،أمّا القطبان فلهما في كلّ سنة شمسيّة تامّة يوم و ليلة واحدة كلّ منهما يعدل نصف السّنة.و اللّيل في قطب الشّمال نهار في قطب الجنوب،و بالعكس.و أمّا النّقطة الاستوائيّة فلها في كلّ سنة شمسيّة ثلاثمائة و خمس و ستّون ليلا و نهارا تقريبا،و النّهار و اللّيل فيها متساويان.و أمّا بقيّة المناطق فيختلف النّهار و اللّيل فيها عددا،و في الطّول و القصر بحسب القرب من النّقطة الاستوائيّة و من القطبين،و هذا كلّه مشروح مبيّن في العلوم المربوطة بها.

و هذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضّوء و الحرارة،و هو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التّراكيب الأرضيّة، و التّحوّلات في كينونتها،ممّا ينتفع باختلافها الإنسان انتفاعات مختلفة.(1:398)

2- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. آل عمران:190

3- إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ. يونس:6

[مثل ما قبلهما]

4- وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ. المؤمنون:80

الماورديّ: فيه قولان:

أحدهما:بالزّيادة و النّقصان.

الثّاني:تكرّرهما يوما بعد ليلة و ليلة بعد يوم.

و يحتمل ثالثا:اختلاف ما مضى فيهما،من سعادة و شقاء و ضلال و هدى.(4:64)

أبو السّعود :أي هو المؤثّر في اختلافهما،أي تعاقبهما،أو اختلافهما ازديادا و انتقاصا،أو لأمره و قضائه اختلافهما.(4:428)

نحوه الآلوسيّ.(18:57)

الطّباطبائيّ: وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ مترتّب على ما قبله،فإنّ الحياة ثمّ الموت لا تتمّ إلاّ بمرور الزّمان و ورود اللّيل بعد النّهار و النّهار بعد اللّيل،حتّى ينقضي العمر و يحلّ الأجل المكتوب.هذا لو أريد باختلاف اللّيل و النّهار ورود الواحد منها بعد الواحد،و لو أريد به اختلافهما في الطّول و القصر، كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول السّنة الأربعة المتفرّعة على طول اللّيل و النّهار و قصرهما،و بذلك

ص: 224

يتمّ أمر أرزاق الحيوان و تدبير معاشها،كما قال:

وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ فصّلت:10.(15:54)

5- وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. الرّوم:22

لاحظ:ل س ن:«السنتكم».

6- وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. الجاثية:5

ابن عبّاس: في تقليب اللّيل و النّهار و زيادتهما و نقصانهما و ذهابهما و مجيئهما.(419)

الطّبريّ: يقول تبارك و تعالى:و في اختلاف اللّيل و النّهار أيّها النّاس،و تعاقبهما عليكم،هذا بظلمته و سواده،و هذا بنوره و ضيائه.(11:253)

الماورديّ: يحتمل وجهين:

أحدهما:يعني اختلافهما بالطّول و القصر.

الثّاني:اختلافهما بذهاب أحدهما و مجيء الآخر.

(5:260)

ابن عطيّة: إمّا بالنّور و الظّلام،و إمّا بكونهما خلفة.(5:80)

الفخر الرّازيّ: هذا الاختلاف يقع على وجوه:

أحدها:تبدّل النّهار باللّيل و بالضّدّ منه.

و ثانيها:أنّه تارة يزداد طول النّهار على طول اللّيل،و تارة بالعكس،و بمقدار ما يزداد في النّهار الصّيفيّ يزداد في اللّيل الشّتويّ.

و ثالثها:اختلاف مطالع الشّمس في أيّام السّنة.

(27:259)

الشّربينيّ: بذهاب أحدهما و وجود الآخر بعد ذهابه على التّعاقب آية متكرّرة،للدّلالة على القدرة على الإيجاد،بعد الإعدام بالبعث و غيره.(3:593)

أبو السّعود : وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ بالجرّ على إضمار الجارّ المذكور في الآيتين قبله.و قد قرئ بذكره-و باختلاف-و المراد باختلافهما:إمّا تعاقبهما أو تفاوتهما طولا و قصرا.(6:56)

نحوه الآلوسيّ.(25:139)

البروسويّ: أي و في اختلافهما بتعاقبهما أو بتفاوتهما طولا و قصرا،أو بسواد اللّيل و بياض النّهار.

(8:436)

الطّباطبائيّ: يريد به اختلافهما في الطّول و القصر اختلافا منظّما باختلاف الفصول الأربعة بحسب بقاع الأرض المختلفة،و يتكرّر بتكرّر السّنين، يدبّر سبحانه بذلك أقوات أهل الأرض،و يربّيهم بذلك تربية صالحة.قال تعالى: وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ فصّلت:10.(18:156)

مكارم الشّيرازيّ: إنّ نظام«النّور و الظّلمة»، و حدوث اللّيل و النّهار،حيث يخلف كلّ منهما الآخر،نظام موزون دقيق جدّا،و هو عجيب في وضعه و سنّته و قانونه،فإذا كان النّهار دائميّا،أو أطول من اللاّزم،فسترتفع الحرارة حتّى تحترق الكائنات الحيّة،

ص: 225

و لو كان اللّيل سرمدا أو طويلا جدّا.لانجمدت الموجودات من شدّة البرد.

و يحتمل في تفسير الآية أن لا يكون المراد من اختلاف اللّيل و النّهار تعاقبهما،بل هو إشارة إلى اختلاف المدّة و تفاوت اللّيل و النّهار،في فصول السّنة،فيعود نفعه على الإنسان،من خلال ما ينتج عن هذا الاختلاف من المحاصيل الزّراعيّة المختلفة و النّباتات و الفواكه،و نزول الثّلوج و هطول الأمطار و البركات الأخرى.

و الطّريف أنّ العلماء يقولون:بالرّغم من التّفاوت الشّديد بين مناطق الأرض المختلفة،من ناحية طول اللّيل و النّهار و قصرهما،فإنّنا إذا حسبنا مجموع أيّام السّنة،فسنرى أنّ كلّ المناطق تستقبل نفس النّسبة من أشعّة الشّمس تماما.(16:177)

فضل اللّه : وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ المتأتّي عن دورة الأرض حول نفسها أمام الشّمس مرّة في كلّ يوم،فإذا باللّيل و النّهار ظاهرتان كونيّتان تنظّمان للإنسان حياته،كما تحتفظان للحياة و للأحياء بالعناصر الضّروريّة،لامتدادها في رحلة الوجود...

(20:303)

اختلافا

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. النّساء:82

راجع:ق ر أ:«القرآن».

يتخلّفوا

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ... التّوبة:120

الطّوسيّ: أن يتأخّروا.(5:367)

ابن عاشور :خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة؛إذ جعل التّخلّف ليس ممّا ثبت لهم،فهم برآء منه،فيثبت لهم ضدّه،و هو الخروج مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إذا غزا...

و التّخلّف:البقاء في المكان بعد الغير ممّن كان معه فيه،و قد تقدّم عند قوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ التّوبة:81.(10:224)

فضل اللّه : أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ في نداء المعركة و حركتها،لأنّ ذلك يعطّل الخطّة،و يعقّد الموقف،لأنّ المعركة قد تحتاج إلى سرعة في التّحرّك،ما يفرض أن يكون الجيش جاهزا عند أوّل انطلاقة للتّحدّي،و قد لا يتيسّر ذلك لدى الأفراد البعيدين عن المدينة،إذا تخلّف أهل المدينة و من حولهم عن الاستجابة للنّداء.(11:239)

استخلف-ليستخلفنّهم

وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... النّور:55

ابن عبّاس: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ... بعضهم على إثر بعض، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من بني

ص: 226

إسرائيل يوشع بن نون،و كالب بن يوقنا.(298)

الإمام الصّادق عليه السّلام:[في]قول اللّه جلّ جلاله:

وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ... هم الأئمّة عليهم السّلام.

(البحرانيّ 7:112)

نزلت في القائم و أصحابه.(البحرانيّ 7:112)

[و كلاهما تأويل]

مقاتل: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: من بني إسرائيل و غيرهم،وعده أن يستخلفهم بعد هلاك كفّار مكّة.(3:206)

الجبّائيّ: اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يعني في زمن داود و سليمان.(الطّوسيّ 7:455)

الطّبريّ: يقول:ليورّثنّهم اللّه أرض المشركين من العرب و العجم،فيجعلهم ملوكها و ساستها، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يقول:كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل،إذ أهلك الجبابرة بالشّام،و جعلهم ملوكها و سكّانها.[إلى أن قال:]

و اختلف القرّاء في قراءة قوله: كَمَا اسْتَخْلَفَ، فقرأته عامّة القرّاء كَمَا اسْتَخْلَفَ بفتح التّاء و اللاّم، بمعنى كما استخلف اللّه الّذين من قبلهم من الأمم.

و قرأ ذلك عاصم (كما استخلف) بضمّ التّاء و كسر اللاّم،على مذهب ما لم يسمّ فاعله.(9:342)

نحوه الثّعلبيّ(7:114)،و الطّوسيّ(7:454)، و الواحديّ(3:326)،و البغويّ(3:425)، و الطّبرسيّ(4:152)،و ابن الجوزيّ(6:58)، و البيضاويّ(2:133)،و أبو حيّان(6:469).

الزّجّاج: معنى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، أي ليجعلنّهم يخلفون من بعدهم من المؤمنين،فاستخلف الّذين من قبلهم،و قرئت (كما استخلف الّذين من قبلهم) .(4:51)

الماورديّ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيه قولان:

أحدهما:يعني بني إسرائيل في أرض الشّام.

الثّاني:داود و سليمان.(4:118)

الزّمخشريّ: الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لمن معه، و(منكم)للبيان كالّتي في آخر سورة الفتح.وعدهم اللّه أن ينصر الإسلام على الكفر و يورّثهم الأرض و يجعلهم فيها خلفاء،كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر و الشّام بعد إهلاك الجبابرة.[إلى أن قال:]

و قرئ (كما استخلف) على البناء للمفعول (و ليبدلنهم)بالتّشديد.

فإن قلت:أين القسم المتلقّى باللاّم و النّون في (ليستخلفنهم؟)

قلت:هو محذوف تقديره:وعدهم اللّه و أقسم ليستخلفنّهم،أو نزل وعد اللّه في تحقّقه منزلة القسم، فتلقّى بما يتلقّى به القسم،كأنّه قيل:أقسم اللّه ليستخلفنّهم.(3:73)

نحوه الفخر الرّازيّ.(24:24-26)

الشّربينيّ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي أرض العرب و العجم،بأن يمدّ زمانهم و ينفّذ أحكامهم، فيجعلهم متصرّفين في الأرض تصرّف الملوك في مماليكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي من

ص: 227

الأمم من بني إسرائيل و غيرهم،من كلّ من حصلت له مكنة و ظفر على الأعداء بعد الضّعف الشّديد،كما كتب في الزّبور أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ الأنبياء:105،و كما قال موسى عليه السّلام: إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الأعراف:128،و قرأ أبو بكر بضمّ التّاء الفوقيّة و كسر اللاّم،و الباقون بفتح التّاء و اللاّم.(2:636)

أبو السّعود : لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ جواب للقسم:إمّا بالإضمار،أو بتنزيل وعده تعالى منزلة القسم لتحقّق إنجازه لا محالة،أي ليجعلهم خلفاء متصرّفين فيها تصرّف الملوك في ممالكهم،أو خلفا من الّذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان و الأعمال الصّالحة،كما استخلف الّذين من قبلهم هم بنو إسرائيل،استخلفهم اللّه عزّ و جلّ في مصر و الشّام بعد إهلاك فرعون و الجبابرة،أو هم و من قبلهم من الأمم المؤمنة الّتي أشير إليهم في قوله تعالى: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، إلى قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ إبراهيم:9-13،و محلّ الكاف النّصب على أنّه مصدر تشبيهيّ مؤكّد للفعل بعد تأكيده بالقسم،و(ما) مصدريّة،أي ليستخلفنّهم استخلافا كائنا،كاستخلافه تعالى للّذين من قبلهم.

و قرئ (كما استخلف) على البناء للمفعول، فليس العامل في الكاف حينئذ الفعل المذكور،بل ما يدلّ هو عليه من فعل مبنيّ هو للمفعول جار منه مجرى المطاوع.فإنّ استخلافه تعالى إيّاهم مستلزم لكونهم مستخلفين لا محالة،كأنّه قيل:ليستخلفنّهم في الأرض فيستخلفنّ فيها استخلافا،أي مستخلفيّة كائنة كمستخلفيّة من قبلهم.(4:478)

نحوه الآلوسيّ.(18:203)

شبّر: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ: يجعلهم خلفاء بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله متصرّفين فيها،و هو جواب الوعد،لأنّه كالقسم في تحقّقه،أو بتقدير:و أقسم ليستخلفنّهم.

كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني وصاة الأنبياء بعدهم.(4:330)

ابن عاشور :الاستخلاف:جعلهم خلفاء،أي عن اللّه في تدبير شئون عباده،كما قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و قد تقدّم في سورة البقرة:30، و السّين و التّاء للتّأكيد.و أصله:ليخلفنّهم في الأرض.

و تعليق فعل الاستخلاف بمجموع الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات-و إن كان تدبير شئون الأمّة منوطا بولاة الأمور لا بمجموع الأمّة-من حيث إنّ لمجموع الأمّة انتفاعا بذلك و إعانة عليه،كلّ بحسب مقامه في المجتمع،كما حكى تعالى قول موسى لبني إسرائيل: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً كما تقدّم في سورة المائدة:20.

و لهذا فالوجه أنّ المراد من الأرض:جميعها،و أنّ الظّرفيّة المدلولة بحرف(فى)ظاهرة في جزء من الأرض،و هو موطن حكومة الأمّة،و حيث تنال أحكامها سكّانه.و الأصل في الظّرفيّة عدم استيعاب المظروف الظّرف،كقوله تعالى: وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها

ص: 228

هود:61.

و إنّما صيغ الكلام في هذا النّظم،و لم يقتصر على قوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ دون تقييد بقوله: فِي الْأَرْضِ ل لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ للإيماء إلى أنّ الاستخلاف يحصل في معظم الأرض؛و ذلك يقبل الامتداد و الانقباض، كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام.

و لكن حرمة الأمّة و اتّقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلّها؛بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض الّتي لم تدخل تحت حكمهم،و يسعون الجهد في مرضاتهم و مسالمتهم.و هذا استخلاف كامل،و لذلك نظّر بتشبيهه باستخلاف الّذين من قبلهم،يعني الأمم الّتي حكمت معظم العالم و أخافت جميعه،مثل الآشوريّين و المصريّين و الفنيقيّين و اليهود زمن سليمان،و الفرس،و اليونان،و الرّومان.(18:228)

مغنيّة:ظاهر الآية يدلّ على أنّ أيّة أمّة تؤمن باللّه و رسوله،و تلتزم العمل بشريعته،فإنّ اللّه يستخلفها و يمكّن لها في الأرض،كان على ربّك حتما مقضيّا.و قد أخذ بعض المفسّرين بهذا الظّاهر،ثمّ شرع يشرح و يفسّر معنى الإيمان و العمل الصّالح،و حدودهما و قيودهما.

أمّا نحن فمع الّذين قالوا:إنّ المقصود بالآية هم النّبيّ و الصّحابة خاصّة،فإنّهم لاقوا الكثير من الأذى و العناء في ذات اللّه،قبل الهجرة و بعدها،و رماهم المشركون و اليهود عن قوس واحدة،و كانوا-و هم في المدينة إلى عام الفتح-لا يصبحون و لا يمسون إلاّ مع السّلاح،حتّى قال قائلهم-كما في تفسير الطّبريّ- ما يأتي علينا يوم نأمن فيه،و نضع عنّا السّلاح،فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:لا تعبرون يسيرا حتّى يجلس الرّجل ليس معه سلاح.و تحقّق وعد اللّه و رسوله،فما مضت الأيّام حتّى عاشوا آمنين على أنفسهم و أموالهم، و حكموا البلاد العربيّة كلّها،و فتحوا الكثير من بلاد المشرق و المغرب.(5:436)

الطّباطبائيّ: إن كان المراد بالاستخلاف:إعطاء الخلافة الإلهيّة،كما ورد في آدم و داود و سليمان عليهم السّلام قال تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30،و قال: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ص:26،و قال: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النّمل:16،فالمراد ب اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ:

خلفاء اللّه من أنبيائه و أوليائه،و لا يخلو من بعد كما سيأتي.

و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم،كما قال: إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الأعراف:128، و قال: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ الأنبياء:105،فالمراد ب اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الّذين أهلك اللّه الكافرين و الفاسقين منهم،و نجّى الخلّص من مؤمنيهم،كقوم نوح و هود و صالح و شعيب،كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ

ص: 229

ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ إبراهيم:14، فهؤلاء الّذين أخلصوا للّه فنجّاهم،فعقدوا مجتمعا صالحا و عاشوا فيه حتّى طال عليهم الأمد،فقست قلوبهم.

و أمّا قول من قال:إنّ المراد ب«الّذين استخلفوا من قبلهم»:بنو إسرائيل لمّا أهلك اللّه فرعون و جنوده،فأورثهم أرض مصر و الشّام،و مكّنهم فيها، كما قال تعالى فيهم: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ القصص:5،6.

ففيه أنّ المجتمع الإسرائيليّ المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده،لم يصف من الكفر و النّفاق و الفسق، و لم يخلص للّذين آمنوا و عملوا الصّالحات،و لا حينا على ما ينصّ عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة.

و لا وجه لتشبيه استخلاف الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات باستخلافهم،و فيهم الكافر و المنافق و الطّالح و الصّالح.

و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ -و هم بنو إسرائيل- كيفما كان،لم يحتج إلى أشخاص المجتمع الإسرائيليّ للتّشبيه به،و في زمن نزول الآية و قبل ذلك أمم أشدّ قوّة و أكثر جمعا منهم،كالرّوم و الفارس و كلدة و غيرهم،و قد قال تعالى في عاد الأولى و ثمود: إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ الأعراف:69،و قال:

إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ الأعراف:74،و قد خاطب بذلك الكفّار من هذه الأمّة فقال: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ الأنعام:165،و قال:

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فاطر:39.

فإن قلت:لم لا يجوز أن يكون التّشبيه ببني إسرائيل،ثمّ يؤدّي حقّ هذا المجتمع الصّالح بما يعقبه من قوله: وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ... إلى آخر الوعد؟

قلت:نعم،و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل،لأن يشبّه به،و أن يكون المراد ب اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بني إسرائيل فقط،كما تقدّم.

(15:151)

مكارم الشّيرازيّ: بحوث:

1-تفسير جملة كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

هناك اختلاف بين المفسّرين حول الّذين أشارت إليهم الآية الشّريفة من الّذين استخلفوا في الأرض قبل المسلمين.

البعض من المفسّرين يرى أنّهم آدم و داود و سليمان عليهم السّلام،حيث قالت الآية:30،من سورة «البقرة»حول آدم عليه السّلام إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، و في الآية:26،من سورة«ص»جاء بصدد داود عليه السّلام قال: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.

و بما أنّ سليمان عليه السّلام ورث حكم داود عليه السّلام بمقتضى الآية:16،من سورة«النّمل»فإنّه قد استخلف في الأرض.لكن بعض المفسّرين-كالعلاّمة الطّباطبائيّ في«الميزان»-استبعد هذا المعنى و رأى أنّ عبارة اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لا تناسب مقام الأنبياء؛إذ أنّ القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص الأنبياء.

ص: 230

و إنّما هي إشارة إلى أمم خلت،و كانت على درجة من الإيمان و العمل الصّالح؛بحيث استخلفها اللّه في الأرض.

و يرى مفسّرون آخرون أنّ هذه الآية إشارة إلى بني إسرائيل،لأنّهم استخلفوا في الحكم في الأرض بعد ظهور موسى عليه السّلام،و تدمير حكم فرعون و الفراعنة؛ حيث يقول القرآن المجيد في الآية:137،من سورة «الأعراف» وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، و يضيف وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ القصص:6،أي جعلناهم حكّاما بعد أن استضعفوا في الأرض.

و لا شكّ في أنّه كان في بني إسرائيل-حتّى في زمن موسى عليه السّلام-أشخاص عرفوا بفسقهم و كفرهم،لكنّ الحكم كان بيد المؤمنين الصّالحين.و بهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض على هذا التّفسير؛و يظهر أنّ التّفسير الثّالث أقرب إلى الصّواب.

2-الّذين وعدهم اللّه باستخلاف الأرض:

لقد وعد اللّه المؤمنين ذوي الأعمال الصّالحة بالاستخلاف في الأرض،و تمكينهم من نشر دينهم، و تمتّعهم بالأمن الكامل،فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالاستخلاف؟

هناك اختلاف بهذا الصّدد بين المفسّرين:يرى البعض من المفسّرين أنّ الوعد بالاستخلاف خاصّ بأصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الّذين استخلفهم اللّه في الأرض في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.و لا يقصد ب(الارض:)جميعها، بل هو مفهوم يطلق على الجزء و الكلّ.

و يرى آخرون:أنّه خاصّ بالخلفاء الأربعة الّذين خلّفوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و يرى البعض:أنّ مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الّذين اتّصفوا بهذه الصّفات.

و يرى آخرون:أنّه إشارة إلى حكومة المهدي «عج»الّذي يخضع له الشّرق و الغرب في العالم، و يجري حكم الحقّ في عهده في جميع أرجاء العالم، و يزول الاضطراب و الخوف و الحرب،و تتحقّق للبشريّة عبادة اللّه النّقيّة من كلّ أنواع الشّرك.

و لا ريب في أنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل كما أنّ حكومة المهديّ«عج»مصداق لها؛إذ يتّفق المسلمون كافّة من شيعة و سنّة على أنّ المهديّ«عج» يملأ الأرض عدلا و قسطا بعد أن ملئت جورا و ظلما.

و مع كلّ هذا لا مانع من تعميمها،و ينتج من ذلك تثبيت أسس الإيمان و العمل الصّالح بين المسلمين،في كلّ عصر و زمان،و أنّ لهم الغلبة و الحكم ذا الأسس الثّابتة.

أمّا قول البعض:إنّ كلمة(الارض)مطلقة و غير محدّدة،و تشمل كلّ الأرض،و بذلك تنحصر بحكومة المهديّ أرواحنا له الفداء،لا ينسجم مع عبارة كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لأنّ خلافة و حكومة السّابقين بالتّأكيد لم تشمل الأرض كلّها.

و إضافة إلى ذلك،فإنّ سبب نزول هذه الآية يبيّن لنا-على أقلّ تقدير-وقوع مثل هذا الحكم في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله رغم حدوثه في أواخر حياته صلّى اللّه عليه و آله.

و نقولها ثانية:إنّ نتيجة جهود جميع الأنبياء و المرسلين،حصول حكم يسوده التّوحيد و الأمن

ص: 231

الكامل،و العبادة الخالية من أيّ نوع من الشّرك؛ و ذلك حين ظهور المهديّ«عج»،و هو من سلالة الأنبياء عليهم السّلام،و حفيد النّبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله،و هو المقصود في هذا الحديث الّذي تناقله جميع المسلمين عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله:«لو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يلي رجل من عترتي،اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا».

و ممّا يجدر ذكره هنا قول العلاّمة الطّبرسيّ في تفسير هذه الآية:روي عن أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حول هذه الآية:«إنّها في المهديّ من آل محمّد».

و ذكر تفسير«روح المعاني»و تفاسير عديدة لمؤلّفين شيعة عن الإمام السّجّاد عليه السّلام،في تفسير الآية موضع البحث أنّه قال:«هم و اللّه شيعتنا-أهل البيت- يفعل اللّه ذلك بهم على يدي رجل منّا،و هو مهديّ هذه الأمّة،يملأ الأرض عدلا و قسطا،كما ملئت ظلما و جورا»،و هو الّذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيه:«لو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم...».

و كما قلنا،لا تعني هذه التّفاسير حصر معنى هذه الآية،بل بيان مصداقها التّامّ.و ممّا يؤسف له عدم انتباه بعض المفسّرين-كالآلوسيّ في«روح المعانيّ»- إلى هذه المسألة،فرفضوا هذه الأحاديث.

و روى القرطبيّ المفسّر المشهور من أهل السّنّة، عن المقداد بن الأسود عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«ما على ظهر الأرض بيت حجر و لا مدر إلاّ أدخله اللّه كلمة الإسلام».(11:129)

فضل اللّه : وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ... لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ فيجعل لهم القوّة و السّيطرة و الخلافة،بحيث يصبحون الأمناء على إدارة شئون الأرض الّتي يسيطرون عليها كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السّابقة الّتي عاشت الاضطهاد و القهر و الإذلال و لكن اللّه جعلها في موقع الانتصار و القوّة،فاستطاعت تكوين مجتمعاتها الصّالحة،كما حدّثنا اللّه عن بعض هؤلاء في قوله تعالى: وَ ما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ* وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ إبراهيم:12،13،و بذلك تكون الإشارة إلى القوم الصّالحين الّذين سبقوهم من أتباع الأنبياء.

و ذكر بعضهم:«أنّ المراد ب«الّذين استخلفوا من قبلهم»:بنو إسرائيل،لمّا أهلك اللّه فرعون و جنوده، فأورثهم أرض مصر و الشّام،و مكّنهم فيها،كما قال تعالى فيهم: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ القصص:5،6.

و قد ردّ عليهم صاحب تفسير«الميزان»بقوله:

«إنّ المجتمع الإسرائيليّ المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده،[إلى قوله:و كلدة و غيرهم].

و نلاحظ على هذه المناقشة،أنّ المراد بالآية- و اللّه العالم-هو المجتمع المؤمن الصّالح من خلال الواجهة العامّة الّتي تحكم مسيرته،و هي الإيمان و العمل الصّالح،كعنوانين للخطّ الّذي كان هو

ص: 232

الأساس في اضطهادهم،و ليس من الضّروريّ أن يكون كلّ أفراد المجتمع ملتزمين بالإيمان،تماما كما هو حال كلّ مجتمع يتحرّك من أجل التّخلّص من وضع ظالم،أو من حكم كافر،أو من خطّ منحرف.فإنّ المسألة الّتي تحكم قضيّة الاستخلاف فيه،هي القيادة الّتي تتحرّك معها الجماعات الكبيرة في المجتمع،مع وجود أفراد قليلين أو كثيرين،يخالفون توجّه القيادة، أو الجماعات الملتزمة.

و هكذا رأينا أنّ الآية الّتي تحدّث عنها هذا البعض،كانت تتحدّث عن الّذين استضعفوا من بني إسرائيل في مقابل فرعون و هامان،كما أشارت إليه فيما بعد: وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ القصص:6،و ذلك على أساس أنّ واجهة المجتمع الإسرائيليّ هي الدّعوة إلى الإيمان بقيادة النّبيّ موسى عليه السّلام مع الّذين اتّبعوه،في الوقت الّذي بقيت فيه جماعات كثيرة من بني إسرائيل تعيش عقليّة العبوديّة على أساس قيم المجتمع الفرعونيّ، و لكنّ ذلك لا يمنع أنّ السّلطة قد تغيّرت من سلطة يحكمها الكفر إلى سلطة يحكمها الإيمان و العمل الصّالح.

و قد يكون الاحتمال الّذي ذكره هذا البعض،في أنّ المراد ب اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بنو إسرائيل،قريبا إلى الذّهن،باعتبار أنّ المرحلة التّاريخيّة الّتي استطاعت فيها حركة الأنبياء إسقاط الطّغاة،و الحصول على القوّة و تكوين المجتمع المؤمن المنفصل عن ضغط الطّغاة،هي مرحلة النّبيّ موسى عليه السّلام بعد مواجهته للطّاغية فرعون.و لم نجد في القرآن أيّ تلميح لمرحلة يتحرّك فيها المؤمنون من موقع التّمكين لهم في الأرض إلاّ هذه المرحلة،ما يبعث على اعتبار هذا التّطبيق مقبولا قرآنيّا.(16:350)

يستخلف

1- وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ. الأنعام:133

الطّبريّ: يقول:و يأت بخلق غيركم و أمم سواكم،يخلفونكم في الأرض.(5:348)

الثّعلبيّ: وَ يَسْتَخْلِفْ: يخلق.(4:192)

الواحديّ: و ينشئ من بعدكم خلقا آخر.

(2:324)

البغويّ: و يخلف و ينشئ.(2:161)

الفخر الرّازيّ: يعني من بعد إذهابكم،لأنّ الاستخلاف لا يكون إلاّ على طريق البدل من فائت.

(13:202)

الآلوسيّ: أي و ينشئ من بعد إذهابكم.(8:30)

ابن عاشور :الاستخلاف:جعل الخلف عن الشّيء،و الخلف:العوض عن شيء فائت،فالسّين و التّاء فيه للتّأكيد.(7:65)

مغنيّة:فيبدّل بكم غيركم،يكونون أطوع إليه منكم.(3:266)

فضل اللّه :و يأتي بآخرين من بعدكم.(9:332)

ص: 233

2- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ. هود:57

[نحو ما قبلها]

يستخلفكم

قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. الأعراف:129

ابن عبّاس: يجعلكم سكّان الأرض أرض مصر.

(135)

نحوه أبو السّعود.(3:19)

الطّبريّ: يقول:يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم،لا تخافونهم،و لا أحدا من النّاس غيرهم.

(6:29)

الفارسيّ: استخلفوا في مصر بعد موت موسى عليه السّلام في التّيه،ثمّ فتح اللّه لهم بيت المقدّس مع يوشع بن نون،ثمّ فتح اللّه لهم مصر و غيرها في زمن داود و سليمان،فملكوها في ذلك الزّمان،على ما وعدوا به من الاستخلاف.(الطّوسيّ 4:547)

نحوه القرطبيّ.(7:263)

الثّعلبيّ: و يسكنكم مصر من بعدهم بالتّسخير و الاستعباد،و هم بنو إسرائيل.(4:272)

نحوه البغويّ.(2:222)

الواحديّ: يملّككم ما كان يملك فرعون و قومه.

(2:397)

الآلوسيّ: أي يجعلكم خلفاء.(9:30)

ابن عاشور:المراد بالاستخلاف:الاستخلاف عن اللّه في ملك الأرض،و الاستخلاف:إقامة الخليفة، فالسّين و التّاء لتأكيد الفعل،مثل استجاب له،أي جعلهم أحرارا غالبين و مؤسّسين ملكا في الأرض المقدّسة.(8:247)

الطّباطبائيّ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ و يشير سبحانه إليه في قوله: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ القصص:

5،و تمام الكلمة خروجها من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعليّة،و علّل ذلك بصبرهم.(8:229)

مستخلفين

آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ. الحديد:7

ابن عبّاس: مالكين عليه.(456)

مجاهد :المعمّرين فيه بالرّزق.

(الطّبريّ 11:671)

الحسن :ممّا جعلكم مستخلفين فيه بوراثتكم له عمّن قبلكم.(الماورديّ 5:471)

الفرّاء: مملّكين فيه.(3:132)

الطّبريّ: يقول جلّ ثناؤه:و أنفقوا ممّا خوّلكم اللّه من المال الّذي أورثكم عمّن كان قبلكم،فجعلكم خلفاءهم فيه في سبيل اللّه.(11:671)

الزّجّاج: ممّا ملّككم.(5:122)

ص: 234

الثّعلبيّ: مملّكين،معمّرين فيه.(9:231)

الماورديّ: فيه قولان:[نقل قول مجاهد و الحسن و أضاف:]

و يحتمل ثالثا:ممّا جعلكم مستخلفين على القيام بأداء حقوقه.(5:471)

القشيريّ: بتمليككم ذلك،و تصييره إليكم.

(6:102)

الواحديّ: يعني المال الّذي كان بيد غيرهم فأهلكهم اللّه،و أعطى قريشا ذلك المال،و كانوا فيه خلفاء عمّن مضوا.(4:245)

نحوه البغويّ.(5:27)

الزّمخشريّ: يعني أنّ الأموال الّتي في أيديكم إنّما هي أموال اللّه بخلقه و إنشائه لها،و إنّما موّلكم إيّاها و خوّلكم الاستمتاع بها،و جعلكم خلفاء في التّصرّف فيها،فليست هي بأموالكم في الحقيقة،و ما أنتم فيها إلاّ بمنزلة الوكلاء و النّوّاب،فأنفقوا منها في حقوق اللّه و ليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرّجل النّفقة من مال غيره إذا أذن له فيه.

أو جعلكم مستخلفين ممّن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إيّاكم،فاعتبروا بحالهم؛حيث انتقل منهم إليكم،و سينقل منكم إلى من بعدكم،فلا تبخلوا به،و انفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.(4:61)

مثله الشّربينيّ(4:203)،و نحوه الفخر الرّازيّ (29:216)،و القرطبيّ(17:238)،و البيضاويّ(2:

452)،و النّسفيّ(4:223)،و أبو حيّان(8:218)، و أبو السّعود(6:200)،و الكاشانيّ(5:133)، و البروسويّ(9:353)،و الآلوسيّ(27:169)، و المراغيّ(27:163).

ابن عطيّة: تزهيد و تنبيه على أنّ الأموال إنّما تصير إلى الإنسان من غيره و يتركها لغيره،و ليس له من ذلك إلاّ ما تضمّنه قول الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«يقول:ابن آدم مالي مالي،و هل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت،أو لبست فأبليت،أو تصدّقت فأمضيت».

و يروى أنّ رجلا مرّ بأعرابيّ له إبل،فقال له:يا أعرابيّ لمن هذه الإبل؟فقال:هي للّه عندي.فهذا موقف مصيب إن كان ممّن صحب قوله عمله.

(5:258)

الطّبرسيّ: نبّه سبحانه بهذا على أنّ ما في أيدينا يصير لغيرنا،كما صار إلينا من قبلنا،و حثّنا على استيفاء الحظّ منه قبل أن يصير لغيرنا.(5:232)

النّيسابوريّ: أراد أنّ المال مال اللّه،و العباد عباد اللّه،إلاّ أنّه قد جعل أرزاقهم متداولة بيد حكمته، متعلّقة بالوسائط و الرّوابط،فالسّعيد من وفّقه اللّه تعالى لرعاية حقّ الاستخلاف،فيتصرّف فيما آتاه اللّه على وفق ما أمره اللّه من الإنفاق في سبيل اللّه،قبل أن ينتقل منه إلى غيره بإرث أو حادث،كما انتقل من غيره إليه بأحد السّببين.(27:94)

ابن عاشور :جيء بالموصول في قوله: مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دون أن يقول:و أنفقوا من أموالكم أو ممّا رزقكم اللّه،لما في صلة الموصول من التّنبيه على غفلة السّامعين عن كون المال للّه،جعل النّاس كالخلائف عنه في التّصرّف فيه مدّة ما،فلمّا

ص: 235

أمرهم بالإنفاق منها على عباده،كان حقّا عليهم أن يمتثلوا لذلك،كما يمتثل الخازن أمر صاحب المال إذا أمره بإنفاذ شيء منه إلى من يعيّنه.

و السّين و التّاء في(مستخلفين)للمبالغة في حصول الفعل،لا للطّلب،لاستفادة الطّلب من فعل (جعلكم.)و يجوز أن تكون لتأكيد الطّلب.

(27:334)

الطّباطبائيّ: استخلاف الإنسان:جعله خليفة، و المراد به:إمّا خلافتهم عن اللّه سبحانه،يخلفونه في الأرض،كما يشير إليه قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30،و التّعبير عمّا بأيديهم من المال بهذا التّعبير،لبيان الواقع و لترغيبهم في الإنفاق،فإنّهم إذا أيقنوا أنّ المال للّه و هم مستخلفون عليه،وكلاء من ناحيته،يتصرّفون فيه كما أذن لهم،سهل عليهم إنفاقه، و لم تتحرّج نفوسهم من ذلك.

و إمّا خلافتهم عمّن سبقهم من الأجيال،كما يخلف كلّ جيل سابقه.و في التّعبير به أيضا ترغيب في الإنفاق،فإنّهم إذا تذكّروا أنّ هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم،علموا أنّه كذلك لا يدوم لهم و سيتركونه لغيرهم،و هان عليهم إنفاقه،و سخت بذلك نفوسهم.

(19:151)

نحوه مكارم الشّيرازيّ.(18:27)

فضل اللّه :ليس المال الّذي تملكونه فيما بين أيديكم من النّوع الثّابت و المتحرّك،ممّا تملكون فيه حرّيّة التّحرّك من ناحية ذاتيّة،على أساس أنّه شأنكم الذّاتيّ الّذي لا يحمل أيّة مسئوليّة،في حسابات العطاء الإنسانيّ،بل هو ملك اللّه الّذي يملك منكم ما لا تملكونه من أنفسكم،فهو من موقع خلقه للوجود كلّه، يملككم و يملك ما تملكون.و قد حدّد لكم الوظيفة في تصرّفكم فيه،فحلّل بعض الأشياء و حرّم بعضها، و أراد لكم أن تنفقوا منه على كثير من موارد الإنفاق في سبيله،في ما يحتاجه المحرومون بجميع فئاتهم، و يحتاجه الجهاد بجميع مواقعه،و تحتاجه الحياة العامّة بكلّ جوانبها.و ذلك من صفة خلافتكم على المال، و وكالتكم بالتّصرّف فيه ضمن الحدود الّتي حدّدها لكم،ما يجعل من الملكيّة وظيفة شرعيّة،لا حالة ذاتيّة مطلقة في ما يملكه الإنسان من امتيازات.

و إذا كانت المسألة في هذا النّطاق الشّرعيّ، فليس لكم حرّيّة الامتناع عن الإنفاق في ما يريده اللّه لكم من موارده،لأنّ ذلك يعني خيانة الوكيل للموكّل في ما حدّده له من الحرّيّة في التّصرّف بماله،فكيف إذا كان اللّه هو الموكّل،و كان الإنسان الّذي هو عبد اللّه، هو الوكيل؟(22:16)

الوجوه و النّظائر

الحيريّ: الخلاف على وجهين:

أحدهما:الخلاف بعينه كقوله: وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ المائدة:33،نظيرها في الأعراف:124، و طه:71.

و الثّاني:بمعنى«بعد»كقوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ التّوبة:81،أي فرح المخلّفون بتخلّفهم بعد ذهاب رسول اللّه.(239)

ص: 236

الدّامغانيّ: خلف على وجهين:بقيّة السّوء، و بعد الشّيء.

فوجه منها:خلف يعني بقيّة السّوء،قوله في سورة الأعراف:169،و مريم:59، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ يعني خلف السّوء.

و الوجه الثّاني:خلفك،أي بعدك،قوله في بني إسرائيل:76، وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً أي بعدك إلاّ قليلا،كقوله في سورة مريم:64 لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا أي قبلنا و بعدنا.(309)

نحوه حبيش تفليسيّ.(89)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة:الخلفة،و هو نبت ينبت بعد النّبات الّذي يتهشّم.يقال:أخلف النّبات،أي أخرج الخلفة،و قد استخلفت الأرض:أنبتت الخلفة، ثمّ أطلق على كلّ ما يجيء بعد الشّيء.

و خلفة الشّجر:ثمر يخرج بعد الثّمر الكثير.يقال:

أخلف الشّجر،أي خرجت له ثمرة بعد ثمرة،و أخلف الشّجر يخلف إخلافا:أخرج ورقا بعد ورق قد تناثر، و خلفت الفاكهة بعضها بعضا خلفا و خلفة:صارت خلفا من الأولى،و أخلف الطّائر:خلف له ريش بعد ريش،على التّشبيه.

و الخلفة:اختلاف اللّيل و النّهار،أي مجيء أحدهما بعد الآخر.يقال:علينا خلفة من نهار،أي بقيّة،و بقي في الحوض خلفة من ماء،و رجلان خلفة:

يخلف أحدهما الآخر.

و الخلفة:الدّوابّ الّتي تختلف.يقال:هنّ يمشين خلفة،أي تذهب هذه و تجيء هذه.و ما علّق خلف الرّاكب على الدّوابّ.

و الخلفة:اسم من الإخلاف،أي الاستقاء.يقال:

من أين خلفتكم؟أي من أين تستقون؟و الخالف و المستخلف:المستقي،و هو الخلف أيضا.يقال:هو خالفتي،أي وارد بعدي،يريد أنّه ورد الماء و أنا صادر عنه،و خلفة الورد:أن يورد الرّجل إبله بالعشيّ بعد ما يذهب النّاس.و سمّي الاستقاء خلفة لأنّ المستقيين- كما قال ابن فارس-يتخالفان،هذا بعد ذا،و ذاك بعد هذا.

و الخلف:الحيّ الّذين ذهبوا يستقون و خلّفوا أثقالهم.يقال:أخلف و استخلف:استقى،و استخلف و اختلف و أخلف:سقاه،و استخلف الرّجل:استعذب الماء،و أخلفت القوم:حملت إليهم الماء العذب،و هم في ربيع ليس معهم ماء عذب،أو يكونون على ماء ملح.و لا يكون الإخلاف إلاّ في الرّبيع،و هو في غيره مستعار منه.

و الخلفة:الهيضة.يقال:أخذته خلفة،إذا اختلف إلى المتوضّإ،و به خلفة بطن،و هو الاختلاف،و قد اختلف الرّجل و أخلفه الدّواء،و المخلوف:الّذي أصابته خلفة و رقّة بطن،و أصبح خالفا:ضعيفا لا يشتهي الطّعام،و خلف عن الطّعام يخلف خلوفا؛ و لا يكون إلاّ عن مرض.

و الخلاف:كمّ القميص،لأنّه موضع اختلاف اليد.

يقال:اجعله في متن خلافك،أو في وسط كمّك.

ص: 237

و المخلوف:الثّوب المفلوق،لأنّه يتكوّن من شقق مختلفة.يقال:خلف الثّوب يخلفه خلفا و أخلفه،أي أصلحه،فلفق أطرافه و ضمّ بعضها إلى بعض.

و خلاف الشّيء:بعده.يقال:جاء خلافه،أي بعده،و سررت بمقعدي خلاف أصحابي و خلفهم:

سررت بمقامي بعدهم و بعد ذهابهم،فأنا خالف و خالفة.

و الخلف:القرن يأتي بعد القرن،و قد خلفوا بعدهم يخلفون.يقال:هؤلاء خلف سوء،و الجمع:أخلاف و خلوف،و الباقي بعد الهالك و التّابع له،من قولهم:

خلف يخلف خلفا،و بقينا في خلف سوء:بقيّة سوء، و مضى خلف من النّاس،و جاء خلف من النّاس، و جاء خلف لا خير فيه،و خلف صالح،و خلف قوم بعد قوم،و سلطان بعد سلطان يخلفون خلفا،فهم خالفون.و الخلف:الرّديء و الطّالح،يقال:هذا خلف من القول،أي رديء،و هو خالفة أيضا:طالح.

و الخلف:كالخلف،غير أنّ الخلف يجيء بمعنى البدل و الخلافة أيضا.يقال:خلف صدق،و خلف سوء،أي القرن من النّاس،و الفاعل من الأوّل خليف و خليفة،و من الثّاني خالف و خالفة؛و جمع الخلف:

أخلاف و خلوف أيضا.

و الخلف:الولد الصّالح يبقى بعد الإنسان.يقال:

في فلان خلف من فلان،أي صالح،و بئس الخلف هم:

بئس البدل،و خلفته خلفا:كنت بعده خلفا منه و بدلا، و هؤلاء القوم خلف ممّن مضى،أي يقومون مقامهم، و أخلف فلان لنفسه،إذا كان قد ذهب له شيء فجعل مكانه آخر.

و يقال لمن هلك له من لا يعتاض منه،كالأب و الأمّ و العمّ:خلف اللّه عليك،أي كان اللّه عليك خليفة،و خلف عليك خيرا و بخير،و أخلف اللّه عليك خيرا،و أخلف لك خيرا،أي كان اللّه خليفة والدك أو من فقدته عليك.

و يقال لمن هلك له ما يعتاض منه،أو ذهب من ولد أو مال:أخلف اللّه لك و عليك،و خلف لك،أي ردّ عليك مثل ما ذهب.

و الخلافة:الإمارة،و هي الخلّيفى.يقال:خلف فلان مكان أبيه يخلف خلافة،إذا كان في مكانه و لم يصر فيه غيره،و خلف ربّه في أهله و ولده:أحسن الخلافة،و خلف فلان على فلانة خلافة:تزوّجها بعد زوج،و استخلف فلانا من فلان:جعله مكانه.

و الخليفة:من يقوم مقام الذّاهب و يسدّ مسدّه، و الهاء فيه للمبالغة؛و الجمع:خلفاء.يقال:خلف فلان فلانا،إذا كان خليفته،و خلفه في أهله و ولده و مكانه يخلفه خلافة حسنة:كان خليفة عليهم منه-يكون في الخير و الشّرّ-و خلّفته أخلّفه تخليفا،و استخلفته أنا:

جعلته خليفتي،و إنّه لخليفة بيّن الخلافة و الخلّيفى، و هو الخليف أيضا.

و الخليف:الحلب بعد اللّبأ،يقال:حلب النّاقة خليف لبئها،أي الحلبة الّتي بعد ذهاب اللّبأ.

و الخلفة:النّاقة الحامل؛و الجمع:خلف،لأنّها تلد خلفا لها.يقال:خلفت النّاقة تخلف خلفا،أي حملت.

و المخلاف:الطّرف و النّاحية و الكورة.يقال:

ص: 238

فلان من مخلاف كذا و كذا؛و الجمع:مخاليف،سمّي بذلك لأنّ النّاس يختلفون إليه.

و المخالفة:الاختلاف،أي التّردّد.يقال:هو يخالف إلى امرأة فلان،أي يأتيها إذا غاب عنها،و إنّ امرأة فلان تخلف زوجها بالنّزاع إلى غيره إذا غاب عنها،و خلف فلان بعقب فلان:خالفه إلى أهله، و خلف فلان بعقبي،إذا فارقه على أمر فصنع شيئا آخر.

و المخالفة:المضادّة،و قد خالفه مخالفة و خلافا، خالفه إلى الشّيء،أي عصاه إليه،أو قصده بعد ما نهاه عنه،و تخالف الأمران و اختلفا:لم يتّفقا،و رجل خالف و خالفة:كثير الخلاف،و هو بيّن الخلافة.

و التّخاليف:الألوان المختلفة،و فرس ذو شكال من خلاف:في يده اليمنى و رجله اليسرى بياض،و له خدمتان من خلاف:بيده اليمنى بياض و بيده اليسرى غيره.

و الخلاف:شجر الصّفصاف؛الواحدة خلافة،سمّي خلافا لأنّ الماء جاء ببزره سبيّا،فنبت مخالفا لأصله.

و الخلف و الخلف:نقيض الوعاء بالوعد.يقال:

أخلفه ما وعده،و هو أن يقول شيئا و لا يفعله على الاستقبال،و هو الخلوف أيضا،و أخلفه:وجد موعده خلفا،و رجل مخلف:كثير الإخلاف لوعده،و يقال للّذي لا يكاد يفي إذا وعد:إنّه لمخلاف،و رجل مخالف:لا يكاد يوفي،و الخليف:المتخلّف عن الميعاد.

و الإخلاف في النّخلة،إذا لم تحمل سنة،و أخلفت النّجوم:أمحلت و لم تمطر و لم يكن لنوئها مطر، و أخلفت عن أنوائها كذلك.

و الخلفة:الاختلاف و التّضادّ،لأنّ كلّ واحد من المختلفين-كما قال ابن فارس-ينحّي قول صاحبه، و يقيم نفسه مقام الّذي نحّاه.يقال:القوم خلفة،أي مختلفون،و هما خلفان:مختلفان،و كذلك الأنثى،و له عبدان خلفان:أحدهما طويل و الآخر قصير،أو أحدهما أبيض و الآخر أسود،و له أمّتان؛و الجمع:

أخلاف و خلفة،و نتاج فلان خلفة:عام ذكر و عام أنثى،و ولدت النّاقة خلفين:عام ذكر و عام أنثى، و بنو فلان خلفة:نصف ذكور و نصف إناث،و في خلقه خلفة و خلفة و خالفة و خلفناة و خلفنة،أي خلاف، و ذلك إذا كان مخالفا،و رجل خلفناة:مخالف.يقال:

هذا رجل خلفناة و امرأة خلفناة،و كذلك الاثنان و الجمع.

و الخلفة أيضا:تغيّر ريح الفم،و أصلها في النّبات أن ينبت الشّيء بعد الشّيء،لأنّها رائحة حديثة بعد الرّائحة الأولى.يقال:خلف الطّعام و الفم و ما أشبههما يخلف خلوفا و خلوفة و أخلف،أي تغيّر، و أكل طعاما فبقيت في فيه خلفة فتغيّر فوه،و هو الّذي يبقى بين الأسنان

و خلف اللّبن و خلف يخلف خلوفا:تغيّر طعمه و ريحه،و خلف النّبيذ:فسد،و أخلف:حمض،إنّه لطيّب الخلفة:طيّب آخر الطّعم،و الخالف:اللّحم الّذي تجد منه رويحة،و لا بأس بمضغه.

و الخلفة:الفساد و التّغيّر.يقال:أبيعك هذا العبد و أبرأ إليك من خلفته،أي فساده،و رجل ذو خلفة:

ذو فساد،و خلف الرّجل عن خلق أبيه يخلف خلوفا:

ص: 239

تغيّر عنه،و الخلف و الخالف و الخالفة:الفاسد من النّاس،و الهاء للمبالغة،و امرأة خالفة:فاسدة.

و الخلفة:الحمق و العته،و الخالف و الخالفة:

الأحمق القليل العقل،و الّذي لا غناء عنده و لا خير فيه.يقال:خلف فلان عن كلّ خير،أي لم يظلم، و امرأة خالفة و خلفاء و خلففة و خلفف:حمقاء.يقال:

فلان خالف أهل بيته و خالفتهم:أحمقهم،أو لا خير فيه، و قد خلف يخلف خلافة و خلوفا.

و الأخلف:المخالف العسر الّذي كأنّه يمشي على أحد شقّيه،و بعير أخلف بيّن الخلف،إذا كان مائلا على شقّ.

و الخلوف:الحيّ إذا خرج الرّجال و بقي النّساء، و الخوالف:النّساء المخلّفات في البيوت؛واحده:

خالف و خالفة،لأنّ الرّجل يغيب في الغزو و التّجارة فتخلفه في البيت،و الخالف:المتخلّف عن القوم في الغزو و غيره،كأنّه يخلفهم،يقال:خلف فلان عن أصحابه،أي لم يخرج معهم،و مثله:قعد خلاف أصحابه.

و الخلف:المربد يكون وراء البيت،لأنّه يخلف ما كان قدّامه.يقال:وراء بيتك خلف جيّد،أي مربد، و هو محبس الإبل.

و الخالفة:العمود الّذي في مؤخّر البيت،و هو الخالف أيضا؛و الجمع:خوالف،يقال:خلف بيته يخلفه خلفا،أي جعل له خالفة،و بيت ذو خالفتين، و خالفة البيت:زاويته،و هو من ذلك أيضا.

و الخلف:رأس الفأس و الموسى؛و الجمع:خلوف سمّي بذلك لأنّه خلف الحدّ.يقال:فأس ذات خلفين، أي لها رأسان،و فأس ذات خلف.

و الخلف:الضّرع،لأنّه خلف ما بعده-كما قال ابن فارس-و الجمع:أخلاف و خلوف.يقال:خلّف بناقته تخليفا،أي صرّ خلفا واحدا من أخلافها.

و الخلف أيضا:القصيرى من الأضلاع،لأنّها آخرها و أقصاها.

و الإخلاف:آخر الأسنان من جميع الدّوابّ، و بعير مخلف:جاز البازل،لتأخّره عن البزول،و هو طلوع نابه.

و الإخلاف:أن يحمل على النّاقة فلا تلقح،و هي مخلفة،لأنّها تتأخّر عن سائر النّوق.

و الإخلاف:أن يصيّر الحقب وراء ثيل البعير لئلاّ يقطعه.يقال:أخلف عن بعيرك،و قد أخلفه و أخلف عنه،و أخلفت عن البعير،إذا أصاب حقبه ثيله فيحقب،أي يحتبس بوله،فتحوّل الحقب فتجعله ممّا يلي خصيي البعير،و بعير مخلوف:قد شقّ عن ثيله من خلفه إذا حقب،و الأخلف من الإبل:المشقوق الثّيل الّذي لا يستقرّ وجعا.

و الخليف من الجسد:ما تحت الإبط،لأنّه يخلف مقاديمه،و الخليفان من الإبل كالإبطين من الإنسان، و خليفا النّاقة:إبطاها.

و الخليف:تدافع الأودية،و إنّما ينتهي المدفع إلى خليف ليفضي إلى سعة،لأنّه خلف ما بعده،و هو أيضا الطّريق وراء الجبل،أو وراء الوادي،و الجمع:خلف، و هو المخلف و المخلفة،يقال:عليك المخلفة الوسطى، أي الطّريق الوسطى.

ص: 240

و منه الخلف:ضدّ القدّام.يقال:جلست خلف فلان،أي بعده،و ألححت على فلان في الاتّباع حتّى اختلفته،أي جعلته خلفي،و خلفه يخلفه خلفا:صار خلفه،و اختلفه و خلّفه و أخلفه:جعله خلفه.

و خلف له بالسّيف:جاءه من ورائه فضربه، و اختلفه:أخذه من خلفه،و أخلف الرّجل،و أخلف بيده،و أخلف يده:ضرب يده إلى قراب سيفه،ليأخذ سيفه إذا رأى عدوّا.

2-و ظهر اصطلاح«أهل الخلاف»في أواخر القرن الأوّل الهجريّ،و كان يطلق على المعتزلة، لانفصالهم عن جمهور المسلمين بعقائد و آراء انفردوا بها،و ظلّت هذه التّسمية تلازمهم حتّى بادت جماعتهم،و اندرست طريقتهم.

و ظهر بعد ذلك علم يعرف ب«علم الخلاف»،و هو -كما ذكر حاجي خليفة-:«علم يعرف به كيفيّة إيراد الحجج الشّرعيّة،و دفع الشّبه و قوادح الأدلّة الخلافيّة،بإيراد البراهين القطعيّة،و هو الجدل الّذي هو قسم من المنطق،إلاّ أنّه خصّ بالمقاصد الدّينيّة». (1)

و الخلافيّات:المسائل الفقهيّة المختلف فيها بين أتباع أبي حنيفة و أتباع الشّافعيّ،فألّف علماء كلا الفريقين كتبا حوت حججهم و ردودهم.قال ابن خلدون:«جاءوا منها بعلم مستظرف و أنظار غريبة، و هي بين أيدي النّاس». (2)

و للشّيخ الطّوسيّ«385-460»من الإماميّة كتاب«مسائل الخلاف»في المسائل الفقهيّة الّتي اختلفت فيها آراء المذاهب الإسلاميّة عامّة.و للعلاّمة الحلّيّ«648-726»كتاب«مختلف الشّيعة»في المسائل الّتي اختلف فيها فقهاء الشّيعة.

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

جاء منها مجرّدا«الماضي»3 مرّات،و«المضارع و الأمر»كلّ منهما مرّة،و اسم الفاعل جمعا(الخوالف) -جمع خالفة-مرّة أيضا،و المصدر(خلف)22 مرّة، و(خلفة)مرّة،و الصّفة(خليفة)مفردا مرّتين،و جمعا (خلائف)4 مرّات،و(خلفاء)3 مرّات.

و مزيدا من الإفعال«الماضي»4 مرّات، و«المضارع»9 مرّات،و«الأمر»مرّة.و من التّفعيل «الماضي»مجهولا مرّة أيضا.و من المفاعلة«المضارع» معلوما مرّتين.و من الافتعال«الماضي»معلوما 17 مرّة و مجهولا مرّة،و«المضارع»معلوما 16 مرّة.و من الاستفعال«الماضي»مرّة،و«المضارع»4 مرّات كلّها معلومات،و«اسم المفعول»جمعا(مستخلفين)مرّة،في 116 آية:

1-مخالفة الأمر

1- ...فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ النّور:63

2- ...وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ... هود:88

ص: 241


1- كشف الظّنون(1:721).
2- تاريخ ابن خلدون(1:374).
2-إخلاف الوعد و العهد

3- وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ...

إبراهيم:22

4- ...أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي طه:86

5- قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ... طه:87

6- فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ التّوبة:77

7- ...فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً طه:58

8- وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ... الحجّ:47

9- ...قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ البقرة:80

10- وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ الرّوم:6

11- رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ

آل عمران:194

12- رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ آل عمران:9

13- ...حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ الرّعد:31

14- لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ الْمِيعادَ الزّمر:20

15- فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ إبراهيم:47

16- ...وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ...

الأنفال:42

17- قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ... طه:97

3-التّخلّف عن الرّسول و عن الجهاد

18- ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ... التّوبة:120

19- وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ... التّوبة:118

20- ...إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ التّوبة:83

21- فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ... التّوبة:81

22- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا... الفتح:11

23- سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ... الفتح:15

24- قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... الفتح:16

25- رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ التّوبة:87

26- ...رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ

ص: 242

اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ التّوبة:93

4-الاختلاف في الدّين و في الكتاب و في السّاعة

27- وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ الجاثية:17

28- وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يونس:93

29 و 30- وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ هود:110 و فصّلت:45

31- إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ النّحل:124

32- ...وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ...

النّساء:157

33- ...وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ... البقرة:253

34- ...وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ البقرة:176

35- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ... آل عمران:19

36- وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ

آل عمران:105

37- وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يونس:19

38- وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ... البقرة:213

39- وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ... الشّورى:10

40- ...قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ... الزّخرف:63

41- لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ...

النّحل:39

42- عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ* اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ النّبأ:1-3

43- وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ الذّاريات:7،8

44- ...وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ... هود:118،119

5-رفع الاختلاف بالكتاب و عدم الاختلاف

في القرآن

45- أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً النّساء:82

46- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ النّمل:76

47- وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ

ص: 243

اَلَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

النّحل:64

6-القضاء فيما اختلفوا فيه في الدّنيا و الآخرة

48- ...إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ... الزّمر:3

49- ...أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ الزّمر:46

50- وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ* اَللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

الحجّ:68،69

51- ...فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ البقرة:113

52- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ السّجدة:25

53- ...ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ آل عمران:55

54- ...إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ المائدة:48

55- ...ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ الأنعام:164

56- ...وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ النّحل:92

7-اختلاف الأحزاب

57- فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ مريم:37

58- فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ الزّخرف:65

8-اختلاف المخلوقات

59- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ... لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة:164

60- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ آل عمران:190

61- إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ

يونس:6

62- وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ المؤمنون:80

63- وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ... آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الجاثية:5

64- وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ... الرّوم:22

65- وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ... الأنعام:141

66- وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ...

النّحل:13

67- ...يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ... النّحل:69

68- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ فاطر:27

69- وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ

ص: 244

أَلْوانُهُ... فاطر:28

70- ...ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا... الزّمر:21

9-قطع الأيدي و الأرجل من خلاف

71- ...أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ...

المائدة:33

72 و 73- لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ

الأعراف:124،و الشّعراء:49

74- ...فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ... طه:71

10-الإخلاف و الخلف

75- وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً

الإسراء:76

76- ...وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ سبأ:39

77- فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ...

الأعراف:169

78- فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا مريم:59

79- فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً... يونس:92

80- وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يس:45

81- ...لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ... مريم:64

82- لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ... الرّعد:11

83- لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فصّلت:42

84- ...وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ... الأحقاف:21

85- إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً الجنّ:27

86- فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:66

87- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ... البقرة:255

88- ...وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ

آل عمران:170

89- وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً

النّساء:9

90- ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ الأعراف:17

91- فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ الأنفال:57

92- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً طه:110

ص: 245

93- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ الأنبياء:28

94- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الحجّ:76

95- أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ... سبأ:9

96- وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يس:9

97- إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ... فصّلت:14

98- وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ... فصّلت:25

11-الخلافة و الخلفة و الاستخلاف

99- وَ لَمّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي... الأعراف:150

100- وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ الزّخرف:60

101- ...وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ

الأعراف:142

102- وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30

103- يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ... ص:26

104- وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ...

الأنعام:165

105- ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يونس:14

106- ...وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا... يونس:73

107- هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ... فاطر:39

108- ...وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ... الأعراف:69

109- وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ... الأعراف:74

110- أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ... النّمل:62

111- وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً الفرقان:62

112- وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ الأنعام:133

113- ...وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً... هود:57

114- ...قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ الأعراف:129

115- وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... النّور:55

116- ...وَ أَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ

ص: 246

فِيهِ... الحديد:7

و يلاحظ أوّلا:أنّها-على اختلاف صيغها- ترجع إلى معنيين:الخلاف:ضدّ الوفاق،و البدل و الخلف:ضدّ السّلف،ففيها محوران:

المحور الأوّل:الخلاف،74 آية،و هي أصناف:

الصّنف الأوّل:مخالفة الأمر في آيتين مكّيّة و مدنيّة:

(1): فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

(2): قالَ -شعيب - يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ....

و فيهما بحوث:

1-مخالفة الأمر في الأولى مصرّحة،و في الثّانية مقدّرة،أي أن أخالف أمركم.

2-المخالفة متعدّ بنفسه.يقال:خالفه أو خالف أمره،و لكنّه تعدّى في الأولى ب(عن)،و في الثّانية ب(الى)فقالوا في الأولى:تضمّن(يخالفون)معنى «يعرضون»أو«يميلون عن»أو«يصدّون»:أي يخالفون معرضا،أو مائلا،أو صادّا عن أمره.و في الثّانية:تضمّن(اخالفكم)معنى الميل إليه،أي أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه.

و قيل:(الى)متعلّقة ب(اريد،)أي ما قصدت- لأجل مخالفتكم-إلى ما أنهاكم عنه.و هو بعيد.

و على كلّ حال،فمعنى قولهم:(عن)أو(الى) زائدة،أنّ المعنى تمام بدونهما،لا أنّه لا معنى لهما أصلا.

و هذا هو الحقّ في كلّ حرف حكموا بأنّها زائدة في القرآن.

و قال الزّمخشريّ: «يقال:خالفه إلى الأمر،إذا ذهب إليه دونه»و منه(2): وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، و خالفه عن الأمر،إذا صدّ عنه دونه، و معنى«الّذين يصدّون عن أمره»:الّذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين و هم المنافقون،فحذف المفعول،لأنّ الغرض ذكر المخالف و المخالف عنه»و عليه فالزّيادة منفيّة رأسا.

و قال ابن عطيّة:«(عن)هنا بمعنى«بعد»و المعنى يقع خلافهم بعد أمره،كما تقول:كان المطر عن ريح، و أطعمته عن جوع...»،و هذا وجه وجيه.

3-احتجّ الأصوليّون ب فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ على أنّ«الأمر»يدلّ على الوجوب، لترتّب إصابة الفتنة،أو عذاب أليم على مخالفته.لكن هذا موقوف على كون(فليحذر)-و هو أمر أيضا- للوجوب،ففيه نحو مصادرة بالمطلوب.و للفخر الرّازيّ بحث طويل في ذلك،فلاحظ.

4-قالوا في معنى أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ:

ما أريد أن أفعل ما أنهاكم عنه من البخس في الكيل و الوزن،لم أكن لأنهاكم عن أمر أرتكبه أو آتيه،ما أريد أن أنهاكم عن أمر ثمّ أفعل خلافه،بل لا أفعل إلاّ ما آمركم به،و لا أنتهي إلاّ عمّا أنهاكم عنه،لست أنهاكم عن شيء و أدخل فيه،و إنّما أختار لكم ما أختار لنفسي.و معنى«ما أخالفكم إليه»أي ما أقصد بخلافك القصد إلى أن أرتكبه.

ص: 247

و قال الطّوسيّ: «في معناه قولان:

أحدهما:ليس نهيي لكم لمنفعة أجرّها إلى نفسي بما تتركون من منع الحقوق.

و الثّاني:إنّي لا أنهى عن القبيح و أفعله بمثل من ليس بمستبصر في أمره...».و للقشيريّ و الزّمخشريّ و الفخر الرّازيّ و غيرهم آراء في الآية أيضا،فلاحظ.

5-و للطّباطبائيّ بحث طويل في حدود حرّيّة النّاس في قبال المسائل الحيويّة،فلاحظ.

الصّنف الثّاني:إخلاف الوعد و العهد 15 آية:(3 -17):خمس مدنيّة،و ثمان مكّيّة،و اثنتان-و هما الحجّ و الرّعد-مختلفة فيهما،و فيها بحوث:

1-جاءت في ناحية الأمر-كما سبق-صيغة «المفاعلة»و في ناحية«الوعد و العهد»صيغة «الإفعال»و لم يتعرّضوا لوجه الفرق بينهما.و لعلّ وجهه أنّ«الأمر»يقتضي مقابلة الآمر للمأمور بمنعه عن الخلاف،فتوجد مفاعلة بينهما دون الوعد و العهد.

2-جاء إخلاف الوعد بصيغة الماضي،في أربع منها(3-6)و أكثرها إخلاف وعد غير اللّه.و جاء بصيغة المضارع في غيرها،و أكثرها إخلاف غير اللّه وعد اللّه،أو نفي إخلاف اللّه وعده.و جاء في واحدة منها(15)بصيغة اسم الفاعل فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، و في واحدة(16)بصيغة الافتعال وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ -و سنبحثهما-و لا بدّ من دراسة وجه التّفاوت بين هذه الصّيغ الأربع للدّارس المحقّق في مواردها.

3-ثمّ إنّ الإخلاف جاء مرّة بمعنى جعل الخلف (76): وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ -و سيأتي بحثها-فعدّ المصطفويّ-و مثله غيره-إخلاف الوعد من باب جعل شيء ذا خلف،و لا يصحّ،فإنّ إخلاف الوعد بمعنى خلفه،لا جعل شيء خلفا عنه.

هذا في ناحية«الإخلاف».و أمّا في ناحية «الوعد»فجاء أربع مرّات بصيغة الماضي:مرّة كرّرت مرّتين:مرّة منسوبة إلى اللّه مع صلة،و مرّة إلى إبليس بغير صلة(3): إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، فجاء فيها«وعد اللّه»بالإضافة إلى (الحق)مبالغة،و مقابلا ل(اخلفتكم)منسوبة إلى إبليس.

و مرّة منسوبة إلى اللّه أيضا ما وعده على لسان رسله(11): رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.

و جاء مرّة ماضيا من«التّفاعل»منسوبا إلى المؤمنين(16): وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ -و سنبحثها-.

و جاء مصدرا بلفظ(وعد)7 مرّات،منسوبا إلى اللّه في 6 آيات:فجاء في(3)صلة للفعل و مضافا إلى (الحق)مبالغة إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ. و في (10)مكرّرا مبالغة أيضا وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ، و جاء مصدرا،أو اسم زمان و مكان بلفظ «الموعد»4 مرّات:(4 و 5 و 7 و 17)،و بلفظ(الميعاد) 5 مرّات:(11-14 و 16).

و جاء(وعد)في(13 و 14)مع(الميعاد): حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، و وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ الْمِيعادَ. و في(8)بدون(الميعاد): (وَ لَنْ)

ص: 248

يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ بتقدير الفعل،أي وعد اللّه وعدا، فجاء مكانه:«وعد اللّه بالنّصب و الإضافة،أو خبرا لمبتدإ محذوف،لو قرئت رفعا.

4-و هذه الآيات قسمان،فسبعة منها(3-9) خلف وعد من قبل غير اللّه،و ثمانية منها نفي خلف الوعد من قبل اللّه تعالى.

أمّا القسم الأوّل:فواحدة منها جاءت في إخلاف الشّيطان ما وعد النّاس(3): وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

أ-قد اعترف الشّيطان بأنّ وعد اللّه حقّ،و وعده غير حقّ فيخلفه،ففيه نحو مقابلة أو مشاكلة.و كأنّ الآلوسيّ أراد ذلك؛حيث قال:«و لو جعل مشاكلة لصحّ».

ب-فسّر أكثرهم فَأَخْلَفْتُكُمْ بظهور كذبه و عدم وقوعه.

و قال أبو السّعود:«أي نقضته،جعل خلف وعده كالإخلاف منه...».و معناه أنّه جعل الخلف مكان الإخلاف منه،كما سبق في معنى«الإخلاف».

و قال الآلوسيّ: «لم يتحقّق ما أخبرتكم به،و ظهر كذبه،و قد استعير الإخلاف كذلك».

و قال الطّباطبائيّ: «و إخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب و عدم الوقوع،من إطلاق الملزوم و إرادة اللاّزم».فعدّه استعارة أو كناية،مع أنّ إخلاف الوعد هو نفس خلف الوعد من دون كناية،فلاحظ.

ج-قال ابن عاشور:«شمل الخلف جميع ما كان يعدهم الشّيطان على لسان أوليائه،و ما يعدهم إلاّ غرورا».

و قال فضل اللّه:«فيما منّيتكم به و دفعتكم إليه ممّا لم يتحقّق،لأنّ الأمر كان مجرّد خدعة و تضليل،من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم».

د-يبدو من ذيل الآية أنّ الشّيطان كان يعترف بقبح خلف الوعد،إلاّ أنّه دافع عن نفسه و برّأها، و يوكل المسئوليّة على عاتقهم بألوان من الحجج،من أهمّها:أنّه لم يجبرهم على ذلك،بل دعاهم إليه،و أنّه لم يشاركهم فيها،لأنّه ظلم يستوجب العذاب الأليم.

و جاءت أربع منها:(4 و 5 و 7 و 17)بشأن موسى عليه السّلام و فرعون و بني إسرائيل،نرتّبها حسب الوقوع:

أولاها:(7)قول فرعون لموسى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً* قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى.

1-زعم فرعون معلنا و مطمئنّا أنّ ما يأتي به موسى من الآيات كلّها سحر،فأراد أن يقابله بسحر مثله،و فوّض الأمر إلى موسى بأن يجعل بينهما موعدا معيّنا،زمانا و مكانا سويّا بينهما لا يخالفانه،تأكيدا منه لنجاحه و فشل موسى،فعيّن موسى-تأكيدا أيضا لنجاحه هو و فشل فرعون-يوم الزّينة،و هو يوم

ص: 249

اجتماع النّاس كلّهم عيدا لهم،ليسجّل نجاحه على النّاس جميعا معاينة.

2-و قد كبّر فرعون نفسه و قبيله بلفظ الجمع، و صغّر موسى بلفظ الفرد،كلّ منهما أربع مرّات في ضمائر راجعة إليهم.و هذا هو آية الاستكبار و الغرور.

3-أطلق فرعون موعدا،و لم ينسبه إليه و لا إلى موسى،زعما منه أنّه مطمئنّ بنجاحه مهما كان الموعد،لكنّ موسى عليه السّلام أضاف الموعد إليهم،و قال:

مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ تلاؤما معهم في تعظيم أنفسهم، و جعل يوم الزّينة-و هو يوم فرح و تبجيل و فخر لهم -موعدهم تكريما لتقاليدهم القوميّة،و تسكينا لعواطفهم حذاءها،و رفضا لما نسبه فرعون إليه مرّات من أنّ موسى جاء ليخرجهم من أرضهم:منها قوله: قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى طه:57،قاله إشعالا لعواطف قومه تجاه وطنهم.

4-قرئت (لا نخلفه) جزما جوابا للأمر(فاجعل) و رفعا وصفا ل(موعدا)أي موعدا لا نخلفه.و ضمير المفعول راجع إليه،و المراد به«الوعد»لأنّ الإخلاف يتعلّق بالوعد،دون مكان الوعد أو زمانه-كذا قال الآلوسيّ-و لكنّ الطّوسيّ قال:«أي عدنا مكانا نجتمع فيه و وقتا نأتي فيه»،و فيه مسامحة لا بأس بها.

5-قالوا في تفسير(لا نخلفه:)لا نجاوزه، لا نخلف ذلك الوعد.و الإخلاف أن يعد شيئا و لا ينجّزه،و خلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه.

ثانيتها:قول موسى عليه السّلام لبني إسرائيل(4):

قالَ -موسى - يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي.

ثالثتها:جواب بني إسرائيل لموسى عليه السّلام(5):

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السّامِرِيُّ.

فبعد أن أضلّ السّامريّ قوم موسى في غيابه عنهم إلى الطّور،و رجوعه إليهم في موعده،وبّخهم على ما فعلوا بثلاث: أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟ أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي؟

فأجابه القوم بثلاث أيضا: قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا، و وَ لكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، فَقَذَفْناها. ثمّ أتى بفذلكة لهذه المكالمة بينهم،فقال: فَكَذلِكَ أَلْقَى السّامِرِيُّ، ثمّ وضّحه:

...فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً... طه:86-88.

رابعتها:(17)قول موسى للسّامريّ: قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ* قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ....

1-قد جاء في(4)و(5)إخلاف الموعد إيجابا في قول موسى عليه السّلام و نفيا في قول بني إسرائيل،كلّ منهما مرّة،و جاء في(17): لَنْ تُخْلَفَهُ منفيّا و مجهولا مرّة، في قول موسى للسّامريّ.

ص: 250

2-قالوا في«إخلافهم موعده»في(5):عكوفهم على العجل،أو تركهم المسير خلفه،أو تركهم طاعة هارون،و الكلّ محتمل،لأنّه أمرهم بجميع ذلك فخالفوه.

3-و هذه القصّة جاءت مفصّلة في الآيات(83- 99)من سورة طه،فلاحظ.

4-قصّة السّامريّ كانت ابتلاء من اللّه لبني إسرائيل كما قال: قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ طه:85.

5-و إخلافهم كان عن وعد حسن وعدهم ربّهم، كما قال: يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً، فهذا يعدّ أسوء الإخلاف و أشدّه.

و جاءت واحدة منها ذمّا في إخلاف المنافقين ما وعدوا اللّه من إعطاء الصّدقة،ممّا آتاهم من فضله، و من كونهم صالحين(6): وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ* فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ التّوبة:75-77.

1-عبّر صدرها بالعهد وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ، و في ذيلها بالوعد بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ، و العهد للّه حيث يقول:«عليّ عهد اللّه»و لهذا جاء بصيغة المفاعلة.لاحظ الطّبرسيّ(5:52)]،و لاحظ ع ه د:

«عاهد».و الوعد له أيضا،فيبدو أنّ هؤلاء عهدوا اللّه و وعدوه فأخلفوهما.و هذا من أسوإ الإخلاف و أشدّه أيضا،لأنّه إخلاف العهد و الوعد معا.

2-و إخلاف اللّه في عهدهم و وعدهم-كما جاء في الآية-قد ألزمهم مآسي:البخل،و التّولّي، و الإعراض عن أمر اللّه،كما أعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم القيامة.

3-أضاف إلى إخلافهم كذبهم وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ، لأنّهم عاهدوا و وعدوا كذبا،و لم ينووا الوفاء بهما من أوّل الأمر،و هذا ممّا يضاعف عقابهم.

4-عظم العقاب أوجب السّكوت عنه و الاكتفاء بقوله بعدها: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللّهَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ.

5-قال الطّبرسيّ: «قيل نزلت في ثعلبة بن حاطب و كان رجلا من الأنصار...».

6-هذه نموذج من كثير ما جاء في المنافقين.

لاحظ:ن ف ق:«المنافقين».

و جاءت واحدة منها(16)في غزوة بدر: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً....

1-أخبر اللّه تعالى عن موضع المؤمنين و المشركين في ساحة بدر بأنّ المؤمنين كانوا في العدوة القريبة من بدر،و أنّ المشركين كانوا في العدوة البعيدة عنها، و لعلّها كانت أقرب إلى ساحل البحر الّذي كان فيه ركب أبي سفيان؛حيث تخلّف عن الطّريق إلى ساحل البحر خوفا من المؤمنين.و لو تواعدوا قبل ذلك ليجتمعوا بهذه الحالة في هذه المواضع لاختلفوا فيه و لم يقفوا فيها،و لكنّ اللّه قد قضى أمرا لنصرة المؤمنين

ص: 251

على أعدائهم المشركين.

2-جاء في الآيات قبلها«إخلاف الوعد أو الموعد»،و في هذه الآية مكانه«التّواعد و الاختلاف في الميعاد»: وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ.

و التّواعد أن يعد بعضهم بعضا بموعد واحد و اتّفقوا عليه.

قال الطّبرسيّ(2:546):«معناه لو تواعدتم أيّها المسلمون للاجتماع في الموضع الّذي اجتمعتم فيه،ثمّ بلغكم كثرة عددهم مع قلّة عددكم،لتأخّرتم فنقضتم الميعاد-عن ابن إسحاق-و قيل:بما يعرض من العوائق و القواطع،فذكر(الميعاد)لتأكيد أمره في الاتّفاق،و لو لا لطف اللّه مع ذلك لوقع الاختلاف...

و لكن قدر اللّه تعالى التقاءكم،و جمع بينكم و بينهم على غير ميعاد منكم،ليقضي اللّه أمرا كان كائنا لا محالة،و هو إعزاز الدّين...».

3-ليس الاختلاف هنا بمعنى الإخلاف،بل بمعناه الشّائع،لكن اختلافهم-سواء كان عمدا أو قهرا-في الميعاد يستوجب إخلاف الوعد كذلك.

4-هذه الآية و الآيتان بعدها إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً -إلى - وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تبيّن كيف نصر اللّه المؤمنين-مع قلّة عددهم و عدم تجهيزهم للحرب-على المشركين-مع كثرتهم و تجهيزهم.

لاحظ:ف ر ق:«يوم الفرقان».

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل،و هو إخلاف الوعد من قبل غير اللّه.أمّا القسم الثّاني و هو نفي إخلاف اللّه وعده و عهده،فجاء في ثمان آيات،و جميعها نفي صريح:إمّا إطلاقا في مثل:«لا يخلف الميعاد»،أو تأبيدا في:«لن يخلف اللّه وعده».

أمّا النّفي المطلق ففي ستّ آيات(10-15):

(10): بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ.

(11): ...رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ* رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ* فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى...

(12): رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ* رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.

(13): ...وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.

(14): لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ الْمِيعادَ.

(15): فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ* يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ.

و فيها بحوث:

1-ما وعد اللّه في(10)هو نصره للمؤمنين الّذي وعدهم في الآيات،من صدر سورة الرّوم في مكّة،قبل هذه الآية بقوله: غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ

ص: 252

وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ، و قد أنجز اللّه وعده بعد سنين في المدينة-و يقال:إنّ غلبة الرّوم على عدوّهم وقعت وقت نزول هذه الآية-ابتداء بنصره الرّائع و البالغ في غزوة بدر ثمّ سائر الغزوات.

و تعمّ النّصر أيضا الآية(15): فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، و إن كانت ذيلها راجعة إلى عذاب الكفّار في الآخرة.

أمّا سائر الآيات(11-14)فكلّها وعد الآخرة:

إمّا ثوابا و عقابا معا في(12)أو ثوابا فقط في(14)،أو عقابا فقط في(13).و لكن قوله: إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ يعمّ جميع ما وعده حتّى النّصر،و هو تبشير و ترهيب في الدّنيا و الآخرة جميعا.

2-و قد أكّد في(11)و(15)أنّه لا يخلف ما وعد رسله: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، و فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ و هذا يحطّم وفاءه تعالى بوعده،و عدم إخلافه ما وعد رسله، لأنّهم رسله،و الرّسول لا يكذّب و لا يخلّف.و سياق (15)أبلغ تأكيدا،من أجل فَلا تَحْسَبَنَّ النّاهي عن الحسبان مؤكّدا بنون التّأكيد،و كذا مُخْلِفَ وَعْدِهِ:

بصيغة الفاعل الدّالّة على الدّوام دون لا يُخْلِفُ.

3-قد جاء هذا الوعد في(11 و 12)بلسان الدّعاء،و المسألة من قبل العباد،و في الباقي بلسان الخبر من اللّه تعالى،تفضّلا منه عليهم من دون مسألة من قبلهم.

هذا كلّه في نفي الإخلاف إطلاقا،أمّا نفيه تأبيدا فجاء في آيتين:إحداهما:في الوعد،و الأخرى:في العهد،و كلاهما ذمّ و توبيخ و إنكار:

(8): وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ.

(9): وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.

1-الأولى حكاية عن المشركين في مكّة-بناء على كون سورة الحجّ مكّيّة-و الثّانية حكاية عن اليهود في المدينة،مع تفاوت بيّن بينهما،فإنّ المشركين كانوا يستعجلون النّبيّ عليه السّلام بالعذاب،إنكارا و استهزاء منهم،و احتجاجا على كذبه،فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ....

أمّا اليهود فكانوا على اعتقاد راسخ و جازم بأنّهم ليسوا مخلّدين في النّار،فادّعوه مفخرة لبني إسرائيل عامّة،و تحقيرا لغيرهم من الأقوام،و منهم العرب- و هم باقون على هذا الزّعم الباطل إلى اليوم-فأنكره اللّه تعالى عليهم بقوله: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ تأكيدا أنّ دعواهم كذب،و أنّه لا عهد عند اللّه لأحد في ذلك حتّى يفي بعهده و لن يخلفه.

2-يبدو منهما أنّ المشركين و اليهود يمارسون الإفراط و التّفريط في جزاء الآخرة،فالمشركون كذّبوه تفريطا،و اليهود ارتكبوا فيه الإفراط باعتقاد مزيّة لطائفتهم من دون النّاس.

3-التّأبيد في الأولى ردّ فعل لاستعجالهم فهم

ص: 253

يستعجلون العذاب،و اللّه يعدهم بعهد لن يخلفه أبدا، ففيهما نوع تشاكل بين الصّدر و الذّيل،و كذا في الثّانية التّأبيد من اللّه في فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ يشاكل أَيّاماً مَعْدُودَةً في قولهم.

4-المشركون كانوا يستعجلون النّبيّ بالعذاب، إظهارا منهم أنّ العذاب تحت يده،و مزيدا في الاستهزاء!!فأبطل اللّه زعمهم الباطل بأنّه من اللّه، و هو الّذي وعدهم به،و أنّ يوم العذاب عند ربّك- لا عندك-كألف سنة ممّا يعدّون.

أمّا اليهود فقالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ من دون نسبة العذاب إلى اللّه،كأنّ اللّه أجنبيّ عنه،و ليست النّار تحت أمره و نهيه،فأبطل اللّه هذا الوهم الخاسر خلال إبطال أصل ادّعائهم-بأنّ النّار لن تمسّهم إلاّ أيّاما معدودة-بأنّ العذاب من اللّه،و أنّ هذا الدّعوى لو كانت حقّا فلا يتحقّق إلاّ بعهد من اللّه تعالى فنسبه إلى اللّه مرّتين تأكيدا قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ.

فظهر التّشابه بين المشركين و اليهود مرّة أخرى في مصدر العذاب؛حيث ادّعى المشركون-و لو استهزاء- أنّ مصدره هو النّبيّ،و أبهمه اليهود إبهاما،فلم يعترفوا بأنّه عهد من اللّه تعالى،و قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ.

5-ركّز اللّه على عهده في(9)مرّتين:«عهدا- عهده»،و في(4)مرّة: أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ.

و ركّز على وعده بصيغ مختلفة في هذه الآيات 14 مرّة، و كرّره في:(3)و(10)و(11)و(13)و(14).و هذا إن دلّ على شيء دلّ على أنّ وعد اللّه عباده أكبر و ألزم من عهده إيّاهم،مع اشتراك المادّتين في حرفين (ع د)و اختلافهما في حرف واحد:(ه و).لاحظ:«ع ه د»و«و ع د».

الصّنف الثّالث:التّخلّف في تسع آيات:(18- 26)،يتبع كلمات كما يأتي و كلّها من سورتين مدنيّتين:ثلاث منها في سورة«الفتح»،و ستّ في سورة «التّوبة».

و كلّها نزلت في التّخلّف عن الجهاد.فقد تخلّف الأعراب القاطنين حول المدينة عن النّبيّ عليه السّلام عام الحديبيّة سنة ستّ من الهجرة،فنزلت سورة الفتح خلال رجوعه عليه السّلام عنها بشأن من تخلّف عنها و من بايعه بها.

ثمّ تخلّف المنافقون القاطنون بالمدينة عن صفّ المجاهدين في غزوة تبوك سنة تسع،فنزلت آيات كثيرة من سورة التّوبة بشأن المؤمنين المجاهدين و المنافقين المتخلّفين،ابتداء من الآية:38، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ إلى آخر السّورة-و قد نزلت آيات من أوّلها في فكّ عهد الحديبيّة،قرئت عليهم أيّام الحجّ-سنة تسع من الهجرة-.

أمّا آيات سورة الفتح فهي:

(22): سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا....

(23): سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ.

(24): قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى

ص: 254

قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ....

و قد جاءت فيها صيغة واحدة(المخلفون) و(المخلفين)اسم مفعول من«التّفعيل»ثلاث مرّات،و جاءت مرّة أخرى في(21): فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ... الآية:81،من سورة التّوبة- و سنبحثها-و وحدة السّياق في الآيات الأربع تستدعي وحدة المعنى فيها.

لكن اختلفت أقوالهم،فأكثرهم فسّروها بالمتخلّفين عن الحديبيّة في آيات الفتح،و عن غزوة تبوك في آية التّوبة،من غير أن يبيّنوا وجه التّعبير عن «المتخلّفين»ب(المخلفين،)كما قال الآلوسيّ:«كرّر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذّمّ و إشعارا بشناعة التّخلّف».لكنّ بعضهم فسّروها بمن خلّفهم النّبيّ في أهلهم.

قال الطّبريّ: «سيقول لك يا محمّد الّذين خلّفهم اللّه في أهليهم عن صحبتك و الخروج معك في سفرك الّذي سافرت...».فقد أرجع(المخلفين)إلى اللّه، لتقديره أنّهم يتخلّفون.

و قال الطّوسيّ: «المخلّف هو المتروك في المكان خلف الخارجين عن البلد،و هو مشتقّ من المتخلّف، و ضدّه المتقدّم،تقول:خلّفته كما تقول قدّمته تقديما، و إنّما تخلّفوا لتثاقلهم عن الجهاد،و إن اعتذروا بشغل الأموال و الأولاد».فيبدو أنّه تبع الطّبريّ في أنّ منشأ تخليف اللّه إيّاهم هو تخلّفهم بأنفسهم،فهذا من قبيل نسبة الإضلال إلى اللّه في كثير من الآيات.

و قال الماورديّ: «هؤلاء المخلّفون هم أحد أصناف المنافقين،لأنّ اللّه تعالى صنّف المنافقين...ثلاثة أصناف»،فذكر من وصفوا في الآيات،و هم من أوعدهم العذاب،و من اعترف بذنبه و تاب،و من وقفوا بين الرّجاء و الخوف،و هؤلاء غير المؤمنين الصّادقين.

و نقول:يظهر من الآيات أنّ هناك صنفا رابعا من المنافقين،و هم الّذين استأذنوا النّبيّ فأذن لهم في القعود و تركهم،كما قال: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ...

التّوبة:43،فربّما يحمل أحد(المخلفين)على هؤلاء، و لكنّه في غير محلّه،لأنّ(المخلفون)أطلق أربع مرّات ذمّا على من تخلّف بلا إذن و عذر مقبول:منها ثلاث مرّات فيمن تخلّف عن الحديبيّة.

فالمخلص:إمّا ما قاله الطّبريّ من أنّ(المخلفين) هم الّذين خلّفهم اللّه عن فضيلة الجهاد خذلانا لهم، و إمّا جاء(المخلفين)بدل«المتخلّفين»تعاطفا معهم، كأنّهم لم يتخلّفوا عن الجهاد عصيانا و عمدا،بل أحيلوا عنه قهرا.

و ليس لأحد أن يحملها على الآية(19): وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حيث جاء الفعل فيها من التّفعيل أيضا مجهولا،لأنّها-كما سبق-فيمن خلّفوا عن قبول توبتهم،لا عن الجهاد،فلاحظ.

الآية(22): سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ.

1-قال ابن عبّاس-و مثله مجاهد و غيره-:

«يعني أعراب غفار و مزينة و جهينة و أشجع و أسلم و الدّيل».

ص: 255

و قال الطّبريّ: «...و ساق معه الهدي ليعلم النّاس أنّه لا يريد حربا،فتثاقل عنه كثير من الأعراب و تخلّفوا خلافه».

و زاد الزّمخشريّ«و قالوا:يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة-و أرادوا به غزوة أحد- و قتلوا أصحابه فيقاتلهم!!و ظنّوا أنّه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة،و اعتلّوا بالشّغل بأهاليهم و أموالهم،و أنّه ليس لهم من يقوم بأشغالهم».

و زاد ابن عاشور:«...بعد أن بايعوه على الخروج معه...فتثاقل أكثرهم عنه»،ثمّ استثنى عديدا من كلّ قبيلة شاركوا فيها و قد سمّاهم،فلاحظ.

و قال فضل اللّه:«كانت واقعة الحديبيّة تجربة مريرة في المجتمع الإسلاميّ،و ذلك أنّ بعض أفراده لم يستوعب فكر الرّسالة و حركتها و تطلّعاتها و أهدافها بروحيّة الإيمان الصّادق»،و أطال الكلام فيها.

فإن أراد بهم من تخلّف عنها فالأولى أن يعبّر عنهم بالمنافقين،كما عبّر القرآن عنهم قبل الخوض في قضيّتهم قبالا للمؤمنين،في آيتين 5 و 6 منها: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ...* وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ.... و إن أراد بهم بعض من اشترك فيها و استنكر الخروج عن الإحرام-كما جاء في الأحاديث-فهو حقّ،لأنّهم كانوا في زمرة المؤمنين.

2-و الجدير بالذّكر أنّ القرآن قدّم في هاتين الآيتين المؤمنين تبشيرا على المنافقين ترهيبا،كما قدّم بعدها فضيلة المبايعين على رذيلة المخلّفين في آيتين (10 و 11): إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ...، و سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا....

و قد تحدّث خلال توصيف الفريقين في ثلاث آيات(7-9)عن جنود اللّه في السّماوات و الأرض، و عن إرسال النّبيّ شاهدا و مبشّرا و نذيرا،و عن إيمان المؤمنين و تعزيزهم اللّه و توقيره و تسبيحه: وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ -إلى - وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً.

3-ثمّ إنّ القرآن اكتفى في الحديث عن فضيلة المبايعين ب إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، و لا فضيلة فوقهما،أمّا في ناحية الحديث عن رذيلة المخلّفين فقد فصّل حالهم و مقالهم في سبع آيات مفصّلات من السّورة(11-17): سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ -إلى - يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً، مصرّحا خلالها بكفرهم و عدم إيمانهم: وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً، و بقدرة اللّه على تعذيبهم مذيّلا برجاء غفرانهم: وَ لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً.

4-ثمّ عاد في خمس آيات(18-21 و 26)إلى تبشير المؤمنين المبايعين بالرّضى عنهم،و إنزال السّكينة عليهم،و إلزامهم كلمة التّقوى،و إثابتهم فتحا قريبا و هو صلح الحديبيّة.و قد عبّر عنه ب«فتح» مرّتين في ابتدائها: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً متّصفا ب (مبينا،)و مرّتين في خلالها في الآيتين(18 و 27):

وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، و فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً

ص: 256

(قريبا)متّصفا فيهما ب:(قريبا)إكبارا لمنزلة هذا الفتح العظيم،و من أجله سمّيت السّورة باسم«سورة الفتح».كما وعدهم بمغانم كثيرة-و هي مغانم خيبر- و أخرى لم يقدروا عليها-و لعلّها غنائم حنين أو غيرها-.

ثم أدام اللّه هذه السّورة إلى آخرها تبيانا لفضله على المؤمنين المبايعين،و ذمّا للمخلّفين،فذكر «المبايعين»مدحا و إكراما لهم ثلاث مرّات في(10):

إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ، و(18): لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، و بهذه الآية سمّيت هذه البيعة ب«بيعة الرّضوان» و ب«بيعة الشّجرة».

و ذكر(المخلفين)ذمّا و إهانة لهم ثلاث مرّات أيضا في(11): سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ، و(15): سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ، و 16: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ و حصرهم في الأعراب مرّتين، و أطلقهم مرّة،و المراد منهم الأعراب أيضا بقرينة السّياق،أو للتّعميم لكلّ من اتّصف بصفتهم.

5-فلاحظ هذا النّظم الرّائع في الحديث عن صلح الحديبيّة،و في التّأكيد البليغ لمدح المبايعين،و قدح المخلّفين.

و قد تحدّث في ابتدائها-في الآيات(2-4)بعد تبشيره بالفتح المبين في(1)عن غفران ذنوب النّبيّ تماما-و هي ما لعلّه صدر منه لا عن قصد من القصور أحيانا أو ذنوب أمّته-و عن إتمام نعمته عليه، و هدايته الصّراط المستقيم،و عن نصره نصرا عزيزا، و عن إنزال السّكينة في قلوب المؤمنين،ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم.ثمّ بدأ بتبشير المؤمنين،و ترهيب المنافقين.

6-و قد جاء ذكر«الإيمان»نفيا و إثباتا بصيغ مختلفة-فعلا و مصدرا و اسم فاعل-في هذه السّورة:

12،مرّة إضافة إلى ضمائر كثيرة ترجع إلى المؤمنين، و إلى ذكر«المؤمنين و المؤمنات»معا مرّتين في آيتين (5 و 25): لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ، و وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ. كما جاء ذكر الكفر و الشّرك و النّفاق و التّولّي عن اللّه بصيغ مختلفة أيضا 14 مرّة،إضافة إلى ذكر المنافقين و المنافقات مع المشركين و المشركات مرّة،و إلى ظنّهم السّوء باللّه مرّتين،في(6): وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظّانِّينَ بِاللّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.

7-و قد جاء التّبشير فيها بذكر«الفتح»-كما سبق-4 مرّات،و«النّصر»مرّتين في أوّل السّورة:

وَ يَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً، و«الظّفر»مرّة،و كفّ الأيدي:(3)،مرّات في الآيتين:(20 و 24): وَ كَفَّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ، و وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، و إنزال السّكينة:3،مرّات أيضا على المؤمنين أو على الرّسول في(4): هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، و(18): فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، و(26): فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

ص: 257

و جاءت غلبة الإسلام على الأديان مرّتين في آيتين:(19)و(28)مرّة تصريحا: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، و مرّة تمثيلا: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ.

و جاء الفوز العظيم مرّة في(5): وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزاً عَظِيماً.

و هذه كلّها وعد و تبشير للمؤمنين تلويحا.و جاء وعده تصريحا مرّتين:مرّة لأجر الدّنيا،و مرّة لأجر الآخرة في(20)و(29)-و هي الآية الأخيرة من السّورة كفذلكة.لها-: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، و وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.

8-و جاء ذكر جنود اللّه،و ملكه في السّماوات و الأرض،و قدرته،و عزّته،و حكومته،و سنّته الّتي لا تبديل لها،و كذا بشّره بعلمه و خبرته و إحاطته بما يعلمون في عشر آيات:

(4): وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً، و(7): وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، و(11): بَلْ كانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، و(19): وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، و(21): قَدْ أَحاطَ اللّهُ بِها وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً، و(23): سُنَّةَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً، و 24: وَ كانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، و(27): وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، و(27): فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، و(28):

وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً.

9-و جاء في ناحية المبايعين ذكر نعمة اللّه، و رحمته،و هدايته إلى دين الحقّ،و إلى الصّراط المستقيم،و شهادته،و أجره،و غفرانه،و تكفيره الذّنوب،و رضاه،و صدقه،و فضله،و طاعته،و أمنه في اثنتي عشرة آية:

(2): لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، و(5):

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، و(10): فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً، و(14): وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً، و(16): فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً، و(17): وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، و(18): لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، و(20):

وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً، و(25): لِيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، و(27): لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ، و(28): هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ، و(29): يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً -إلى - مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.

10-كما جاء بإزائها في ناحية المنافقين:إردافهم للمشركين رجالا و نساء،و ترهيبهم بستّ عقوبات ابتداء بالعذاب و انتهاء ب ساءَتْ مَصِيراً في(6):

وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظّانِّينَ بِاللّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً، و بهلاكهم في(12): وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، و بإعداد السّعير لهم في(13): فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً، و بتعذيب من يشاء منهم في(14)، قبالا لغفران من يشاء: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، و بأنّهم لا يفقهون في(15): بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً، و بالعذاب الأليم في(16):

ص: 258

وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظّانِّينَ بِاللّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً، و بهلاكهم في(12): وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، و بإعداد السّعير لهم في(13): فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً، و بتعذيب من يشاء منهم في(14)، قبالا لغفران من يشاء: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، و بأنّهم لا يفقهون في(15): بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً، و بالعذاب الأليم في(16):

يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، و(17): وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً، و(25): لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً، و بأنّهم لا يجدون وليّا و لا نصيرا في(22): ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً.

11-و من طريف التّبشير و التّرهيب في السّورة في صعيد الآخرة،ذكر الإطالة و التّولّي معا،إجمالا و تفصيلا في آيتين متتاليتين(16 و 17)،تسجيلا للأجر و العقوبة معا: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً* وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً.

و في صعيد الدّنيا إضافة إلى وعد النّصر و الغلبة مرّات-كما سبق-ذكر«المغانم»ثلاث مرّات بلفظها، و مرّة بلفظ(اخرى)في أربع آيات:

(15): سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها، و(19): وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، و(20): وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، و(21): وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللّهُ بِها. فقد وصف«المغانم»ب كَثِيرَةً مرّتين و ب تَأْخُذُونَها ثلاث مرّات،و ب لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللّهُ بِها مرّة،إكبارا لها، و تطميعا إليها.

هذه البحوث بطولها تخصّ آيات سورة الفتح الثّلاث،و أمّا آيات سورة التّوبة السّتّ فهي:

(18): ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ...

(19): وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ....

(20): إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ.

(21): فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ....

(25): رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ.

(26): رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

و قبل الخوض في البحث عن هذه الآيات،نوجز القول حول ما نزلت من هذه السّورة بشأن غزوة تبوك،فقد سبق أنّ آيات من أوّلها نزلت بشأن فكّ عهد الحديبيّة بعد أن نقض المشركون عهدهم.و هذه الآيات مع ما لحقها بشأن أهل الكتاب و أحكام في الحجّ،انتهت بآية(37): إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ثمّ بدأت ما يرتبط بهذه الغزوة، من الآية(38): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ...، و تلتها آيات في التّرغيب الأكيد إلى

ص: 259

النّفر و التّحذير عن التّخلّف عنه،و عن نصرة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في توبيخهم بالآية(46): لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ....

و قد استأذن بعضهم فأذن لهم الرّسول،فعاتبه اللّه بقوله:(43) عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ و عاتبهم بقوله(44-46): لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ...* إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ...* وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، و تلتها آيات بشأن ضعفاء الإيمان و المنافقين،و بسط القول فيهم.و قد نزلت هذه الآيات أثناء الغزوة،لقوله في الآية(94)منها:

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ...، و(95):

سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ.... و ضمّ إليهم الأعراب الّذين كانوا حول المدينة و الّذين اعترفوا بذنوبهم،و قال في(101 و 102): وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ...* وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً...، و في(106): وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ....

ثمّ أعلنه باتّخاذ المنافقين مسجدا،و منعه عن الصّلاة فيه(107): وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى...

إلى أن أتى بأبلغ مدح للمجاهدين في(111): إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ....

ثمّ أعلن اللّه توبته على النّبيّ و المهاجرين و الأنصار في(117): لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ... و(118) وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا... - إلى أن قال في(120)- ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ...، فصنّف الأعراب صنفين:من يؤمن باللّه و من لا يؤمن.

و قد ذكر فضل السّابقين من المهاجرين و الأنصار في(100): وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ.

فقد شرح اللّه فيها حال فرق المؤمنين و المنافقين و المتخلّفين،عن عذر و بغير عذر،و قد صنّفهم الفخر الرّازيّ أربعة أصناف،فلاحظ.

و هذه الآيات كلّها في التّخلّف عن الجهاد-أو القيام به-سوى قول نادر يأتي في واحدة منها (الخالفين.)

و قد جاءت هذه المادّة«خ ل ف»فيها بخمس صيغ:اثنتان منها فعل(يتخلفوا)من التّفعّل، و(خلفوا)من التّفعيل،و واحدة اسم مفعول جمعا من التّفعيل أيضا:(المخلفون،)و ثلاث منها اسم فاعل من المجرّد جمعا:(الخالفين)جمع«خالف»،

ص: 260

و(الخوالف)جمع«الخالفة»و واحدة مصدر:

(خلاف.)و التّنوّع في التّعبير عن هذا العمل مجرّدا و مزيدا و فعلا و وصفا و مصدرا،دليل على ذمّه و قبحه و حرمته بأيّ نحو صدر عن أهل العصيان و النّفاق.

و في كلّ واحدة من هذه الآيات بحوث:

الآية(18): ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ.وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ..

1-قالوا في(يتخلفوا:)يتأخّروا،التّخلّف:البقاء في المكان بعد الغير ممّن كان معه فيه.

2-و قال ابن عاشور:«خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة؛إذ جعل التّخلّف ليس ممّا ثبت لهم،فهم براء منه فيثبت لهم ضدّه،و هو الخروج مع النّبيّ إذا غزا».

مراده:أنّ الآية تقول:ما كان ينبغي لهم أن يتخلّفوا.و هذا ظاهر في عدم تخلّفهم،و ليس إخبارا عن تخلّفهم،لكنّها إيماء إلى أن كادوا أن يتخلّفوا،كما قال في الآية(117)منها: اَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ.

3-و قال فضل اللّه: «أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ في نداء المعركة و حركتها،لأنّ ذلك يعطّل الخطّة، و يعقّد الموقف،لأنّ المعركة قد تحتاج إلى سرعة في التّحرّك،ممّا يفرض أن يكون الجيش جاهزا عند أوّل انطلاقة للتّحدّي،و قد لا يتيسّر ذلك لدى الأفراد البعيدين عن المدينة،إذا تخلّف أهل المدينة و من حولهم عن الاستجابة للنّداء».

و نقول:كأنّه أراد توجيه اختصاص هذا الخطاب بأهل المدينة و من حولهم،لأنّهم الحاضرون في السّاحة دون البعيدين عنها.

4-من معاني«التّفعّل»التّكلّف،فكأنّ اللّه يبرّئ المؤمنين عن ارتكاب القعود عن الجهاد بالطّوع و الرّغبة،و أنّهم إنّما يتكلّفون و يحملون أنفسهم عليه من دون ميل إليه،لحاجة ماسّة و عذر مقبول و نحوهما،و مع ذلك فلا دلالة في الآية-كما سبق- على ارتكابهم الخلاف،نعم دلّت الآية قبلها: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ على أنّ فريقا منهم كاد أن يزيغ قلوبهم فيتخلّفوا عن الجهاد

الآية(19): وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا

1-قالوا:إنّهم كعب بن مالك الشّاعر،و مرارة الرّبيع،و هلال بن أميّة،و كلّهم من الأنصار.و قد روى عبد اللّه بن كعب بن مالك-و كان قائد أبيه حين أصيب بصره-عن أبيه تفصيل هذه القصّة-كما حكاها الثّعلبيّ(5:105)و غيره.-و خلاصتها:أنّه لم يتخلّف عن غزوة غزاها النّبيّ حتّى كانت غزوة تبوك-قائلا:غير بدر-و لم يعاتب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحدا تخلّف عن بدر،إنّما خرج يريد العير،فصادف ركب قريش من غير موعدة،و كان أشرف مشاهد رسول اللّه-فأعلن النّبيّ مسيره إلى تبوك ليتهيّأ النّاس لها، و كان يستره في غيرها،و يقول:«الحرب خدعة».

قال:و قد تهيّأت للخروج معه لكنّي أخّرته يوما بيوم حتّى تخلّفت عنه-و كان جملة من تخلّف عنه بضعا و ثمانين رجلا-و لم يذكرني النّبيّ حتّى بلغ تبوك،فقال:

«ما فعل كعب بن مالك؟»فلمّا قفل إلى المدينة جلس

ص: 261

في المسجد للنّاس،و جاءه المخلّفون يعتذرون إليه فيستغفر لهم،فدخلت المسجد،فلمّا رآني تبسّم تبسّم المغضب فجلست بين يديه،فقلت له:و اللّه يا نبيّ اللّه ما كنت قطّ أيسر و لا أخفّ حالا منّي حين تخلّفت.فقال:

«أمّا هذا فقد صدقكم الحديث،قم حتّى يقضي اللّه فيك»فذكر القصّة حتّى نزلت توبة هؤلاء الثّلاثة في هذه الآية.

2-القراءة المشهورة(خلفوا)مجهولا مشدّدا و قرئت أيضا(خلفوا)مخفّفا و مشدّدا،و(خالفوا) و(على الثّلاثة المخلّفين).

3-قالوا في صلة(خلفوا)وجهين:خلّفوا عن تلك الغزوة فلم يشاركوا فيها،أو خلّفوا عن التّوبة فلم تقبل توبتهم كما قبلت توبة«أبي لبابة» و المعذّرين،و لم تردّ،بل أرجئ أمرهم،كما قال النّبيّ لكعب:«قم حتّى يقضي اللّه فيك».قال ابن عطيّة:

«أخّروا و ترك أمرهم،و لم تقبل منهم معذرة،و لا ردّت عليهم،فكأنّهم خلّفوا عن المعتذرين».ثمّ حكى الوجه الأوّل عن قتادة و ضعّفه،و حكى عن كعب نفسه ردّه أيضا و قبول الثّاني-و هو الأقرب-و أيّده بما بعده:

حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ.

و وجه التّعبير بالمجهول أنّ النّبيّ أبهم أمرهم إبهاما،و لم يحكم فيهم بأمر واضح،كما أنّ وجهه بناء على الأوّل أنّ تخلّفهم-كما سبق-لم يكن عن عزم منهم بل كان كسلا و تهاونا،لا نفاقا و عنادا،كأنّهم خلّفوا من غير قصد،و لم يخلّفوا.

الآية(20)و هي تامّة: فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ.

1-هذه صريحة في الّذين استأذنوا النّبيّ للخروج إلى غزوة أخرى بعد رجوعه عن غزوة تبوك،أمّا بقيّة هذه الآيات السّتّ فكلّها في القاعدين عن هذه الغزوة بالذّات.فالمراد بها منعهم من الخروج إلى غزوة بعدها، و محو أساميهم من دفتر المجاهدين-كما قال أبو السّعود-عقوبة لهم،و المراد ب إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ قعودهم عن غزوة تبوك.

2-قال القرطبيّ: «و هذا يدلّ على أنّ استصحاب المخذّل في الغزوات لا يجوز».

و قال أبو حيّان-و نحوه الفخر الرّازيّ-:«دلّت على توقّي صحبة من يظهر منه مكر و خداع و كيد و قطع العلقة بينهما و الاحتراز منه».

3-و قد نقض«البروسويّ»هذا الحكم بأنّ أعمال المنافقين كانت مقبولة عند النّبيّ عليه السّلام و كان يحكم فيها بالظّاهر-و إن لم تكن مقبولة عند اللّه تعالى -فما الحكمة في عدم قبول أعمالهم في الخروج معه و القتال مع العدوّ؟

و أجاب بأنّهم كانوا يظهرون الإسلام و الائتمار بأوامر النّبيّ،فكانت أعمالهم مقبولة عنده ظاهرا، و سرائرهم موكولة إلى اللّه،فلمّا أظهروا ما أضمرت قلوبهم ردّت إليهم أعمالهم ظاهرا أيضا.

و نقول:مشاركتهم في القتال-و هم منافقون- كانت موضع خطر من جانبهم للمجاهدين خلال

ص: 262

الحرب و موافقة منهم للعدوّ،كما جاء في الآية(47) منها: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ... فهذا هو الفارق بين القتال و سائر الأعمال.

4-و القراءة المشهورة:(مع الخالفين،)و قرئت (مع الخلفين) و هو مقصور من(الخالفين،)أو صفة مشبّهة منه،و لم تثبت.

5-في(الخالفين)ثلاثة أقوال:مع النّساء،أو النّساء و الصّبيان و المرضى،و الرّجال الّذين تخلّفوا الجهاد بعذر،و من تأخّر من المنافقين بلا عذر.و رجّح الطّبريّ الثّاني-أي من له عذر من الرّجال-بحجّة أنّه لو أريد به النّساء لقيل:«الخالفات أو الخوالف»،أمّا لو أريد به الرّجال و النّساء معا،فيقال لهم:

«الخالفون»تغليبا.و احتمل الفخر الرّازيّ كلّ واحد منها.ثمّ إنّ المعنى يختلف بحسب هذه الوجوه الثّلاثة، فإنّه بناء على إرادة النّساء وحدهنّ أو هنّ مع الصّبيان و المرضى،كان من«الخلف في البيت».قال الفرّاء:

«من الرّجال خلوف و خالفون،و النّساء خوالف اللاّتي يخلفن في البيت فلا يبرحن»،و أيضا:«الخالف من يخلف الرّجل في ماله و بيته».و عليه فهو من المحور الثّاني في«الخلف».

و إن كان من«الخلاف»من قولهم:«عبد خالف و صاحب خالف،و فلان خالفة أهل بيته»أي مخالفهم إذا كان لا خير فيه،و كذا بناء على الوجه الأخير:

«التّخلّف»فهو من المحور الأوّل.

و هناك قول رابع فيها،ذكره الطّبريّ:«أي فاقعدوا مع أهل الفساد»من قولهم:«هو خلف سوء»، و قولهم:«خلف الرّجل عن أهله يخلف خلوفا،إذا فسد»و أصله عند الطّبريّ من قولهم:«خلف اللّبن يخلف خلوفا»إذا خبث من طول وضعه في السّقاء حتّى يفسد،و من قولهم:«خلف فم الصّائم»إذا تغيّر.

و عليه فهو خارج عن المحورين جميعا.

و عندنا أنّ سياق الآية هو الذّمّ الأكيد لهم، مصرّحا بأنّه صدر عن رضى منهم إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ، كما قال الآلوسيّ:«و الفاء في(فاقعدوا) لتفريع الأمر بالقعود،بطريق العقوبة،على ما صدر منهم من الرّضا بالقعود،أي إذا رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا من بعد».

و عليه فيناسب ضمّهم إلى المتخلّفين بلا عذر،دون من له عذر،أو من يخلف أهله و ماله،أو يخلف في البيت كالنّساء و الصّبيان،فإنّه لا قدح فيه،و إن كان فيه وهن لهم؛حيث عدوّا من زمرة النّساء و الصّبيان، ممّن لا طاقة لهم بالقتال لضعفهم،فليسوا أهلا للتّكليف بالقتال.

و نعم ما قال الطّبريّ فيهم:«فاقعدوا مع الّذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول اللّه،لأنّكم منهم، فاقتدوا بهداهم،و اعملوا مثل الّذي عملوا من معصية اللّه،فإنّ اللّه قد سخط عليكم-إلى أن قال-:ذكر لنا أنّهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين قيل فيهم ما قيل».لكنّه مع ذلك رجّح قول ابن عبّاس-كما سبق و هو أحد ما حكي عنه-أنّهم النّساء و الصّبيان، فلاحظ.

ص: 263

6-و قد رجّح مكارم أنّ طلبهم هذا بنفسه كان نوعا من المراوغة و الشّيطنة و عمل نفاقيّ،أو كان تكتيكا من أجل إخفاء الوجه القبيح لهم،و الاستمرار في أعمالهم السّابقة،و إلاّ لو كان عن ندم و توبة منهم لقبل اللّه ذلك منهم.و هذا محتمل،و قد احتمل أيضا إرادة جميع المعاني معا،و هو بعيد.

الآية(21)و تمامها: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا....

1-هذه إحدى الآيات الأربع الّتي جاء فيها (المخلفون)و قد بحثناها فيما سبق خلال آيات سورة الفتح.

و قال الماورديّ هنا: «أي المتروكون»،و قال الطّوسيّ:«إنّهم جماعة من المنافقين الّذين خلّفهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يخرجهم معه إلى تبوك،لمّا استأذنوه في التّأخّر،فأذن لهم ففرحوا بقعودهم خلاف رسول اللّه، و المخلّف:المتروك خلف من مضى،و مثله المؤخّر عمّن مضى...».

و قال الزّمخشريّ: «...خلّفهم النّبيّ في المدينة،أو خلّفهم كسلهم و نفاقهم و الشّيطان».

و قال الفخر الرّازيّ: «إن قيل:إنّهم احتالوا حتّى تخلّفوا فكان الأولى أن يقال:(فرح المتخلّفون)؟

و أجاب بوجوه:مثل«أنّه عليه السّلام منع أقواما لعلمه بفسادهم فهم المخلّفون دون المتخلّفين،أو أنّ هؤلاء المتخلّفين صاروا مخلّفين في الآية الّتي بعدها: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، أو خلّفوا أنفسهم عن الجهاد».

2-و هي حكاية حال الّذين تخلّفوا عن«تبوك» حكاها اللّه للنّبيّ و المؤمنين خلال هذه الغزوة،و قبل رجوعهم عنها؛إذ جاء بعدها: فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ...، و قد سبق بحثها.

3-ذكر فيها عذرهم الّذي ينهون به النّاس عن الخروج،بقولهم: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، و قد ردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا، و ندّد بهم بعقوبات كبيرة بعدها بدء بقوله: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً - إلى - رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ... التّوبة:82- 87.

4-جاء فيها من هذه المادّة كلمتان:(المخلفون) -و قد سبق بحثها-و«الخلاف»و قد اختلفوا فيها بوجوه ثلاثة:خلف رسول اللّه،مخالفة لرسول اللّه حين سار و أقاموا،بعده.و قال بعضهم:«(خلف) و(خلاف)أصوبهما،لأنّهم خالفوا مثل:«قاتلوا قتالا»و لأنّه مصدر«خالفوا»،على الخلاف لرسول اللّه في جلوسه و مقعده،و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرهم بالنّفر إلى جهاد أعداء اللّه،فخالفوا أمره و جلسوا في منازلهم».

و بناء على هذا الوجه،فهو من المحور الأوّل.أمّا على الوجهين الآخرين:«خلف و بعد»فمن المحور الثّاني،و«بعد»تعبير آخر عن(خلف)،لكنّ الطّبريّ عدّه قريبا من الأوّل،و قال:«و ذلك قريب لمعنى ما قلنا،لأنّهم قعدوا بعده على الخلاف له».

5-القراءة المشهورة(خلاف)،و قرئ (خلف) ،

ص: 264

و(خلاف)أصوبهما سياقا و لفظا-كما سبق-قال الطّبريّ:«و هي القراءة الّتي عليها قرّاء الأمصار،و هي الصّواب عندنا».

6-ذكروا في نصب(خلاف)وجهين:كونه مفعولا له أو مفعولا مطلقا مصدرا ل(المخلفون،) و الظّاهر أنّه منصوب ب(مقعدهم)الّذي هو علّة فرحهم،أي إنّهم فرحوا من أجل قعودهم خلاف رسول اللّه،فإن كان بمعنى«الخلف»فهو ظرف لقعودهم،و إن كان بمعنى«المخالفة»فهو حال منه،أي قعودهم حال كونهم مخالفين له.

الآيتان(25)و(26): رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ، أو لا يَعْلَمُونَ.

1-جاءت الثّانية تلو الأولى تأكيدا-بفصل آيات-بشأن الّذين استأذنوه،-و هم أُولُوا الطَّوْلِ -في الآية قبلها: وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ، و«القاعدون»هم النّساء و المرضى و ذوو الأعذار،و هم الّذين عبّر عنهم في(20)ب(الخالفين،)كما سبق.

و قد جاء الاستئذان في صدر الثّانية أيضا: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ...، فعبّر عنهم في الأولى ب أُولُوا الطَّوْلِ، و في الثّانية ب وَ هُمْ أَغْنِياءُ قبالا لمن جاء ذكرهم قبلها: وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ التّوبة:92.

2-و هذه المقابلة بين الفريقين تصوير تامّ عن مقدار إيمانهم و التزامهم،أو عدم التزامهم بدينهم:

فطائفة رضوا بأن يكونوا مع الخوالف-و هم فرحون بها-و هم أغنياء أولو الطّول.

و طائفة فقراء لا يجدون محملا إلى الجهاد،و لم يجد النّبيّ أيضا ما يحملهم عليه،فتولّوا و أعينهم تفيض من الدّمع.

و أين هؤلاء الرّاضون الفرحون بخلاف اللّه و رسوله،من الّذين جاء وصفهم و فضلهم في الآية (100)منها: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ فأكّد رضى الطّرفين قبالا لرضا هؤلاء المخلّفين الّذين كرّر رضاهم مع الخوالف في الآيتين.

3-و قد كرّر اللّه فرحهم أو رضاهم في هذه الآيات-بدء بالآية(81)منها: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ، و انتهاء بالآيتين(87 و 93): رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ -أربع مرّات،منها في الآية(83): إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ و كلّها بصيغة الماضي.

و أين هؤلاء الرّاضون و الفرحون بمخالفة اللّه و رسوله-و الّذين جاء في ذمّهم في الآية(96):

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ -من الّذين جاء فضلهم في الآية(100)منها: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ فقابل اللّه بين الطّائفتين مرّة أخرى بالرّضى و عدم الرّضى عنهما،كما قابل بينهما في هذه

ص: 265

السّورة بالرّجس و الطّهارة في الآية(95):

فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ، و الآية(108): فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.

4-كما كرّر رضاهم و فرحهم أربع مرّات تنديدا بهم،كرّر قعودهم بصيغ مختلفة أربع مرّات أيضا في الآيات(82 و 84 و 88): فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ، و إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ، و وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ.

و كذا كرّر خلافهم بصيغ مختلفة أربع مرّات أيضا في الآيات(82 و 84 و 89 و 95): فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ، و مَعَ الْخالِفِينَ، و مَعَ الْخَوالِفِ مرّتين.

5-بدأ عصيانهم بعمل قلبيّ و هو الرّضا بأن يكونوا مع الخوالف،فعاقبهم اللّه بعقوبة نفسيّة أيضا:

وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ، أو لا يَعْلَمُونَ.

6-جاءت في(25)و(26)(الخوالف)في سياق واحد،و هي جمع خالفة،و أريد بها الجماعة أو الطّائفة،و قد عبّر عنهم في(20)ب(الخالفين:) فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ.

و قالوا في الخوالف:النّساء-و هو قول أكثرهم- أو هم مع الصّبيان و المرضى،من لا خير فيه،خساس النّاس و أدناهم من قولهم:«فلان خالفة أهله»إذا كان دونهم،المقعدون،المنافقون،الّذين تخلّفوا عن الجهاد، جمع خالفة.و أطلق على المرأة لتخلّفها عن أعمال الرّجال كالجهاد و غيره،المرأة الّتي تتخلّف في البيت بعد سفر زوجها،فإن سافرت معه فهي الظّعينة.

و نقول:هؤلاء كانوا هم المتخلّفون من غير عذر، و كان أكثرهم منافقون،فألحقهم اللّه في الآيتين بالنّساء و نحوهنّ من ذوي الأعذار تحقيرا و تشبيها،و كان يصعب عليهم تشبيههم بالنّساء،لا أنّ(الخوالف) بمعنى المتخلّفين،تمّ الكلام في الصّنف الثّالث.

الصّنف الرّابع:قطع الأيدي و الأرجل من خلاف (4)آيات و هي:

(72 و 73): لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.

(74): ...فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ....

(71): إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.

الثّلاث الأولى مكّيّة جاءت في وعيد فرعون للسّحرة الّذين آمنوا بموسى بعد أن عاينوا منه معجزة العصا.و الأخيرة مدنيّة تشريع لحكم المحارب و المفسد في الأرض.

فيبدو أنّ هذا النّوع من المجازات كانت له سابقة في الأمم الغابرة،و منهم قوم فرعون في مصر.و في كلّ منها بحوث:

1-بين الآيتين الأوليين و الثّالثة اختلاف لفظا لا معنى: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، و وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، كما أنّ فيما قبلهما اختلاف أيضا في

ص: 266

السّورتين:الأعراف و طه،و هذا النّوع من الاختلاف يوجد في كثير من قصص القرآن المكرّرة،فهي نقل بالمعنى دون اللّفظ،تفنّنا في التّعبير،و تنوّعا في الحكاية.

2-المراد من«قطع الأيدي و الأرجل من خلاف» -كما قال الطّبرسيّ(4:21)و غيره-:قطع الأيدي اليمنى و الأرجل اليسرى.و قال في(2:464):

«و قيل:إنّ أوّل من قطع الرّجل و صلب فرعون، صلبهم في جذوع النّخل على شاطئ نهر مصر».

3-فالمراد ب(من خلاف)كون المقطوع من اليد مخالفا للمقطوع من الرّجل.قال الفخر الرّازيّ(13:

208):«و هو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين:إمّا من اليد اليمنى و الرّجل اليسرى،أو من اليد اليسرى و الرّجل اليمنى».و الظّاهر أنّ هذا العمل أشنع من الوفاق بين الجهتين في اليدين و الرّجلين،فإنّه يشوّش هيئة من عوقب به.

4-و قال أيضا:«و اختلفوا في أنّه هل وقع ذلك منه؟و ليس في الآية ما يدلّ على أحد الأمرين، و احتجّ بعضهم على صدوره بوجوه»و ذكرها و لا فائدة فيها.

الآية(71)موضوعها جزاء المحاربين و المفسدين في الأرض،و البحث فيهما موكول إلى«ح ر ب» و«ف س د»فلاحظ.

1-ظاهر الآية التّخيير بين أربعة أمور:القتل، و الصّلب،و القطع،و النّفي من الأرض،و به حكم كثير من فقهاء المذاهب.و لكنّ الطّبرسيّ حكى عن الإمامين الباقر و الصّادق عليهما السّلام أنّ جزاء المحارب على قدر استحقاقه-و ذكرها،كما حكاه الفخر الرّازيّ (11:215)عن ابن عبّاس برواية عطاء-ثمّ قال الطّبرسيّ:«و على هذا فإنّ(او)ليست للإباحة هنا، و إنّما هي لرتبة الحكم باختلاف الجناية».ثمّ ذكر آراء الفقهاء في القطع و الصّلب،فلاحظ.

2-جاءت ثلاث من العقوبات الأربع،و هي القتل و الصّلب و القطع مشدّدة،و واحدة و هي النّفي من الأرض مخفّفة،لعدم الشّدّة و الخفّة فيها،كما توجد في تلك الثّلاث.

3-و قد طرح الفخر الرّازيّ في هذه الآية مسائل، و بحثها من جميع الجوانب،كما هو دأبه في تفسيره.

الصّنف الخامس:الاختلاف في أمور الدّين 31 آية،و هي أقسام:

الأوّل:اختلاف بني إسرائيل في دينهم ستّ آيات (27-30)و(40)و(46)،و كلّها مكّيّة:

(27): وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

(28): وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

(29 و 30): وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ

ص: 267

فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ.

(40): وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ.

(46): إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و فيها بحوث:

1-مع أنّها جميعا مكّيّة،و المخاطب بها المشركون في مكّة،ثمّ تعمّ غيرهم،و مع وفاقها موضوعا و مضمونا،لكنّ بينها فروقا:

أ-فجاء في الأوليين و الأخيرة بَنِي إِسْرائِيلَ، و في الثّالثة و الرّابعة(موسى.)

ب-و جاء في ثلاث منها:هاتين و الأولى(آتينا الكتاب)،و في الثّانية: وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ.

ج-و جاء في الأولى فقط اَلْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ و وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ، و جاء في الأوليين فقط: رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، و فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، أو حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ، و إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

د:و جاء في الثّالثة و الرّابعة: فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. فعقّب في الأوليين بالوعيد يوم القيامة،و في هاتين بالوعيد في الدّنيا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.

و نظيرهما قوله: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ الشّورى:14،إلاّ أنّ فيها ما تَفَرَّقُوا بدل و ما (اختلفوا.)و هذا دليل على أنّ المراد بالاختلاف في الآيات:ما ينتهي إلى التّفرقة،كما يأتي بحثه هنا،و في«ف ر ق».

2-و هذه الآية جاءت عقيب آية أخرى ذكر فيها «أهل الكتاب»أيضا: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً... «و ما وصيناه ابراهيم و موسى و عيسى...»

3-الآيات الأربع الأولى و الأخيرة كلّها في اختلاف بني إسرائيل و تنديدهم به،تحذيرا للمؤمنين أن يختلفوا في كتابهم مثلهم.أمّا الآية(40)فجاءت عن قول عيسى عليه السّلام لبني إسرائيل:إنّه قد جاءهم بالحكمة،و ليبيّن لهم بعض ما فيه اختلفوا سواء الكتاب،أو العقيدة و الأعمال.و قد أمرهم بالتّقوى و بالطّاعة خلاصا من الاختلاف،كما بدأ اللّه آية الاعتصام عن التّفرقة و الاختلاف بالأمر بالتّقوى أيضا قبلها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ... آل عمران:102،لاحظ:و ق ي«التّقوى».

4-قالوا في(46)المراد بها اختلاف بني إسرائيل في أمر الدّين و في المسيح إنكارا أو غلوّا.و في المعجز هل يختصّ بما لا يدخل تحت القدرة،أو يعمّ ما يدخل تحتها؟و اختلاف اليهود في جواز نسخ الشّريعة،و في صفة المبشّر به في التّوراة،و في حكم أكل الخنزير، و غيرها،و قد بيّن اللّه أكثرها في القرآن.و على الجملة فالدّين الحقّ دائما رافع للخلاف القائم بين النّاس.

ص: 268

الثّاني:اختلاف بني إسرائيل في السّبت آية واحدة مكّيّة.

(31): إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لاحظ:س ب ت:«السّبت».

الثّالث:اختلاف اليهود و النّصارى في المسيح آيتان مدنيّتان:

(32): وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.

(33): ...وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ...، و فيهما بحثان:

1-اختلف المفسّرون في الأولى أنّ المختلفين هم اليهود أو النّصارى-فلاحظ النّصوص-مع أنّ صدر الآية و ذيلها صريحان في أنّهم هم اليهود،و كذا الآيات قبلها ابتداء من الآية(53)من سورة النّساء إلى الآيات بعدها،فكلّها جاءت بشأن اليهود و ذمّهم و التّنديد بهم،و لا سيّما قوله في الآية(155-157):

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ -إلى - وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً* وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ....

أمّا ذيلها فدلّ على أنّ اليهود هم الّذين شكّوا فيه، لأنّ عيسى اشتبه بواحد منهم اسمه«طيطانوس»-كما قال الطّبرسيّ(2:135)-فقتلوه و رفع اللّه عيسى عليه السّلام،ثمّ لمّا فقد عنهم ذلك الرّجل شكّوا هل قتل عيسى أم لم يقتل؟

و العجب من المفسّرين كيف غفلوا عن سياق الآيات،و احتملوا أنّ المختلفين هم النّصارى،مع أنّهم لم يقتلوا المسيح يقينا.

2-و اختلوا أيضا في الثّانية،فذكر بعضهم ما اشتهر من اختلافهم بشأن عيسى و أنّه إله أم لا.و قد قال الفخر الرّازيّ هنا-و كرّره في الآية الأولى أيضا-:

«إنّ كبار فرق النّصارى ثلاثة:النّسطوريّة، و الملكانيّة،و اليعقوبيّة،و ذكر قول النّسطوريّة:«إنّ المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته» و شرحه.و ذكر قول الملكانيّة:«القتل و الصّلب وصلا إلى اللاّهوت».و قول اليعقوبيّة:«القتل و الصّلب وقعا بالمسيح الّذي هو جوهر متولّد من جوهرين»، فلاحظ.

و اختلاف النّصارى في المسيح مسلّم،و بقي إلى عصرنا،إلاّ أنّ ظاهر الآية اختلاف اليهود فيه بالإيمان أو الكفر به وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، و الّذين اقتتلوا هم اليهود من بعدهم أو النّصارى كما يؤيّده: مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ.

الرّابع:الاختلاف و التّفرّق في الدّين و في الكتاب عامّة،ثلاث آيات مدنيّة:

(34): ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.

ص: 269

(35): إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.

(36): وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و فيها بحوث:

1-جاء الاختلاف في(الكتاب)في الأوليين:

تصريحا في الأولى: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ، و إيحاء في الثّانية وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ و جاء بدل(الكتاب)(البينات)في الأخيرة:

وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، و الكتاب من أظهر و أتقن البيّنات.

2-سياق الآيات تحذير للمؤمنين بالإسلام،من أن يتفرّقوا في دينهم و كتابهم،كما فعل الّذين قبلهم.

و المراد بهم:أهل الكتاب من اليهود و النّصارى حسب السّياق،و المعهود من تعبير اَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في القرآن.و الأخيرة كالصّريح فيه:

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا.

3-و قد جاء فيها الإنذار و التّنديد ب(شقاق بعيد)في الأولى،و ب«الكفر»في الثّانية،و ب(عذاب عظيم)في الثّالثة،شمولا لضلال الدّنيا و عذاب الآخرة.

4-و جاء التّنديد بالاختلاف مقيّدا ب مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، أو ب مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ في الأخيرتين،و في غيرها من الآيات في أمور الدّين،نحيل بحثه على مادّتي:«ع ل م» و«ب غ ي».و هذا القيد عذر للّذين يجتهدون و يتفقّهون في الدّين،فيما لم يقم عندهم دليل واضح به، فيخطّئون أو يختلفون،لاحظ:ف ق ه:«ليتفقّهوا».

5-أضيف التّفرّق إلى الاختلاف في الثّالثة:

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا فدلّت على أنّ الاختلاف المذموم ما انتهى إلى التّفرقة،دون ما كان مجرّد اختلاف في الرّأي و لم ينته إلى التّفرقة،كاختلاف المجتهدين في ما لا نصّ فيه استنباطا من عموم أو إطلاق أو مفهوم،أو أصل من الأصول المقرّرة في علم الأصول.فالممنوع هو التّفرقة،كما جاء في آية الاعتصام: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا آل عمران:103.

و نظيرها قوله: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ الشّورى:14،و قد سبقت في القسم الأوّل،فلاحظ.

الخامس:اختلاف النّاس بعد وحدتهم، و وحدتهم بعد اختلافهم،ثلاث آيات:آية مدنيّة، و آيتان مكّيّتان:

(37): وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

(38): كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ

ص: 270

بِإِذْنِهِ....

(44): وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.

و فيها بحوث:

1-قد سبق البحث حول هذه الآيات في:أم م:

«أمّة»(3:423)توضيحا للمراد من كونهم أمّة واحدة،و من كونهم مختلفين.

2-بين الآيتين الأوليين في منشإ الاختلاف تفاوت:ففي الثّانية تصريح بأنّ بعثة الأنبياء و إنزال الكتاب معهم كانت هي مثار الاختلاف؛إذ قبل بعثهم لم يكن دين حتّى يختلفوا فيه.أمّا الأولى فليس فيها سوى كونهم أمّة واحدة فاختلفوا من دون ذكر الموجب للاختلاف،فهي مجملة نزلت أوّلا في مكّة، و نزلت الثّانية في المدينة تفسيرا للمجمل،فهما ككثير من المجملات و المفصّلات مترتّبتين زمانا،و المجمل مقدّم على المفصّل طبعا.

3-كرّر الاختلاف في الأولى مرّتين ماضيا و مضارعا إثباتا:(فاختلفوا)و(يختلفون،)و كرّر في الثّانية ثلاث مرّات ماضيا مثبتا مرّتين و منفيّا مرّة تأكيدا لاختلافهم.

4-جاء الاختلاف في الأولى و كذا في ذيل الثّانية مرّتين ذمّا،و جاء في صدرها علاجا للاختلاف، مصرّحا بأنّ:الكتاب يحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي يحكم بينهم سواء فيما اختلفوا فيه قبل نزول الكتاب و بعده،ف(الكتاب)مثير الاختلاف أوّلا بين المؤمنين و الكافرين به،و رافع للاختلاف بين المؤمنين به لو تدبّروه بعد الاختلاف فيه.بدوا.

5-جاء في الأولى مثل ما تقدّم في(29)و(30) من الوعيد في الدّنيا،لو لا كلمة سبقت منه تعالى:

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، فهذا الوعيد كرّر ثلاث مرّات في هذه الثّلاث.

6-المراد ب وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الأخيرة هو الاختلاف في أديانهم-كما نصّ عليه أكثرهم-بين محقّ و مبطل.و استشهد بعضهم عليه بأنّ اللّه استثنى من بين المختلفين المؤمنين،بقوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ؛ حيث إنّ اللّه يرحم أهل الإيمان من بين المختلفين-دون غيرهم-و المؤمنون لا يختلفون في دينهم اختلافا مذموما.

و قال بعضهم:«مختلفين في الرّحمة و المغفرة»، و هذا مخالف لصريح الآية؛حيث إنّ اللّه استثنى أهل الرّحمة من بين المختلفين،فليس جميعهم من أهلها حتّى يكونوا مختلفين فيها.

و شذّ من قال:«اختلافهم في الرّزق»فهذا أجنبيّ عن سياق الآية،لأنّها جاءت فيما فيه الرّحمة و العذاب معا،كما قال بعدها: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ، و الرّزق ليس فيه غفران و عذاب.

السّادس:الاختلاف في الحكم،آية واحدة

ص: 271

مكّيّة:

(39): وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ.

و يخطر بالبال بدوا أنّها راجعة إلى التّشريع،و أنّه للّه تعالى وحده،و-هذا حقّ-إلاّ أنّ الآية مكّيّة، و الاختلاف فيها كان في أصول الدّين من التّوحيد و الرّسالة و المعاد و ما إليها،و بهذا فسّروها،أو بالأعمّ منها و من أمور الدّنيا.

قال الطوسيّ: «الّذي تختلفون فيه من أمر دينكم و دنياكم و تتنازعون فيه».

و قال الزّمخشريّ-و تبعه غيره-:«ما خالفكم فيه الكفّار من أهل الكتاب و المشركين فاختلفتم أنتم، و هم فيه من أمر من أمور الدّين».فقد خصّها بالاختلاف بين المسلمين و الكفّار في أمور الدّين.

و قال ابن عطيّة:«من تكذيب و تصديق و أيمان و كفر و غير ذلك».

و قال الفخر الرّازيّ: «و قيل ما وقع بينكم فيه من خلاف من الأمور الّتي لا تصل بتكليفكم،و لا طريق لكم إلى علمه كحقيقة الرّوح،فقولوا اللّه أعلم به».فقد خصّها بالاختلاف بين المسلمين أنفسهم،فيما لا اتّصال له بالتّشريع و الدّين.

و قال ابن عاشور-و قد خصّها بالعقيدة بعد أن عطفها على ما قبلها،و هي راجعة إلى العقيدة أيضا، و قدّر القول فيها أي قال اللّه-:«لأنّ مادّة الاختلاف مشعرة بأنّه اختلاف في أمور الاعتقاد الّتي أنكرها الكافرون،من التّوحيد و البعث و النّفع و الإضرار».

و قال الطّباطبائيّ: «الاختلاف ربّما كان في عقيدة كالاختلاف في أنّ الإله واحد أو كثير،و ربّما كان في عمل،أو ما يرجع إليه كالاختلاف في أمور المعيشة و شئون الحياة،فهو أعني«الحكم»يساوق القضاء مصداقا و إن اختلفا حكما».

أمّا مكارم الشّيرازيّ فعمّمها أيضا لما يحدث بين النّاس من الاختلاف،و قال:«إنّ كلّ ذلك ينبغي أن يحلّ عن طريق الوحي،و بالرّجوع إلى علم اللّه و ولايته.و بهذا المعنى قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ... فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ البقرة:113،لكن هذه الآية جاءت في سبيل القضاء بين المختلفين يوم القيامة عقوبة لهم،و الكلام هنا في الحكم و القضاء بين المختلفين في الحياة الدّنيا حلاّ للاختلاف،فلاحظ.

السّابع:الاختلاف في المعاد ثلاث آيات مكّيّات.

(41): وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.

(42): عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ* اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ.

(43): وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ.

و في كلّ منها بحوث:

الآية(41)

1-اختلف المفسّرون في بيان«الّذي اختلفوا فيه»

ص: 272

فهم بين معمّم له إلى كلّ حقّ،و باطل من العقائد و أصول الدّين،و ما ألحق بها،أو كلّ معاني المحاسبة على الحقوق بحجّة أنّ تمييز الحقوق من المظالم كلّه،محلّ اختلاف النّاس و تنازعهم.و بين مخصّص له بخصوص المعاد،و إحياء اللّه خلقه بعد فنائهم.

و هو الظّاهر من السّياق،فإنّ هذه من تتمّة الآية السّابقة الّتي دلّت على أنّ المشركين أقسموا باللّه جهد أيمانهم أنّ اللّه لا يبعث من يموت،و أنّ اللّه وعد به حقّا، و أنّ أكثر النّاس لا يعلمون هذا الأمر الحقّ.

نعم لا يبعد أنّ يعمّم اللّه اختلافهم،و كذا علم اللّه و بيانه للحقّ،ليشمل ما هو محلّ الكلام من أمر المعاد.

كأنّه تعالى قال:ليس إحياء الموت الأمر الوحيد ممّا اختلفوا فيه،فكم من أمور يختلفون فيه و اللّه يبيّنها لهم، كما هو المستفاد من وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي إنّ أكثر النّاس لا يعلمون كثيرا من الحقائق.

2-هذه دلّت على أنّهم أيقنوا بأنّ اللّه لا يبعث من يموت،حتّى أنّهم أقسموا عليه جهد أيمانهم.و لكن لا عن علم بل عن جهل و قد غلب على أكثر النّاس.

و هذا هو الفارق بين هذه و بين الآيتين الأخيرتين الدّالّتين على أنّهم مختلفون في إنكار المعاد،كما يأتي.

3-و قد أبطل اللّه دعواهم:

أوّلا:بأنّ بعث الأموات قد وعد اللّه به،وعد اللّه حقّ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا.

و ثانيا:بأنّ أكثر النّاس-و من جملتهم هؤلاء المنكرون-لا يعلمون هذا،و لا أيّ حقّ من حقائق العلم و الدّين.

و ثالثا:بأنّ اللّه يبيّن لهم هذا الحقّ و كلّ حقّ مثله، ليعلموا أنّهم كانوا كاذبين في إنكارهم الحقّ،و في ادّعائهم اليقين به حتّى أقسموا عليه جهد أيمانهم، فليس عندهم هذا اليقين،و هم قد أقسموا عليه كذبا.

الآية(42)1-اختلف المفسّرون في اَلنَّبَإِ الْعَظِيمِ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فقالوا:اختلفوا في القرآن فجعله بعضهم سحرا،و بعضهم كهانة و شعرا،و بعضهم أساطير الأوّلين.و استشهد ابن عبّاس له بقوله: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ص:67 و 68، و قال:«فالقرآن نبأ و خبر و قصص و هو نبأ عظيم».

و اختلفوا في البعث بعد الموت،لالتباس ذلك عليهم و كثرة مساءلتهم عنه و مراجعتهم إلى الرّسول، و منه من يقطع القول بإنكار البعث،و منهم من يشكّ فيه،و منهم من يثبت المعاد الرّوحانيّ،و هم جمهور النّصارى.

اختلفوا في أمر النّبيّ و نبوّته،قال ابن عبّاس:

«و ذلك أنّ اليهود سألوا النّبيّ عن أشياء كثيرة، فأخبره اللّه جلّ ثناؤه باختلافهم».

قال الطّباطبائيّ: «و قيل: اَلنَّبَإِ الْعَظِيمِ ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصّانع و صفاته،و الملائكة و الرّسل و البعث و الجنّة و النّار و غيرها.و كأنّ القائل به اعتبر فيه ما في السّورة من الإشارة إلى حقّيّة جميع ذلك ممّا تضمّنته الدّعوة الحقّة.

و يدفعه أنّ الإشارة إلى ذلك كلّه من لوازم صفة البعث المتضمّنة لجزاء الاعتقاد الحقّ و العمل الصّالح و جزاء الكفر و الإجرام،و قد جاءت في السّورة صفة

ص: 273

ليوم الفصل تبعا.

على أنّ المراد بهؤلاء المتسائلين-كما تقدّم- المشركون،و هم يعتقدون الصّانع و الملائكة و ينفون ما وراء ذلك ممّا ذكر».

و عندنا أنّ السّورة مكّيّة،و المتساءلون هم المشركون،و ما اختلفوا فيه هو البعث بعد الموت،فإنّ اللّه تعالى-بعد نقل تساؤلهم-قال: كَلاّ سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ، إنكارا لقولهم و تثبيتا صدق البعث،ثمّ تصدّى لقدرته عليه بعظيم خلقه في(12) آية ابتداء من أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً و انتهاء ب لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً* وَ جَنّاتٍ أَلْفافاً، ثمّ رجع إلى إثبات ما اختلفوا فيه من البعث،و أطال في عقوبة المنكرين له و ثواب المؤمنين به،في(24)آية،ابتداء من إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً و عبّر عنه ب«يوم الفصل»،لأنّه يوم الفصل بين الكافرين و المؤمنين في جزائهم بما بيّنه بعدها،و انتهاء ب ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ، و ب يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ...، و هي آخر السّورة.

فالسّورة كلّها في إثبات البعث و يوم الفصل،و ما جاءت فيها من آيات القدرة تمهيد لقدرته تعالى على بعث الأموات.

2-و قد استشهدوا لاختلاف المشركين في البعث بأنّ بعضهم جازم باستحالته،كما قال: إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ المؤمنون:37،و قال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ سبأ:7،و قال: أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ* هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ المؤمنون:35،36.

و بعضهم شاكّ فيه،كما قال: ما نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ الجاثية:

32،و قال: بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ النّمل:66.

و منهم من كان يوقن به لكنّه لا يؤمن به عنادا، كما قال: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ الملك:21.

3-و قد فسّر الاختلاف بعضهم بالاختلاف بين المحقّ و المنكر؛حيث صدّق به المسلمون و كذّبه المشركون،و اختاره يحيى بن سلاّم و الطّبريّ و غيرهما.و هذا خلاف سياق الآيات،فإنّ اللّه يدين المختلفين المتساءلين جميعا،و هم الكفّار،و قد بيّنه تفصيلا أبو السّعود و الطّباطبائيّ،فلاحظ.

4-قال أبو السّعود:«بعد وصفه ب(العظيم) تأكيدا لخطره إثر تأكيد،و إشعارا بمدار التّساؤل عنه.

و(فيه)متعلّق ب(مختلفون)قدّم عليه اهتماما به، و رعاية للفواصل.و جعل الصّلة جملة اسميّة للدّلالة على الثّبات،أي هم راسخون في الاختلاف فيه...».

5-و قد جعل ابن عاشور اختلافهم فيما يختلفون فيه،و في مراتب إنكارهم جميعا-كما سبق-.

الآية(43)و نكرّرها مع ما قبلها و ما بعدها:

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ* وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ* وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ* قُتِلَ الْخَرّاصُونَ* اَلَّذِينَ هُمْ فِي

ص: 274

غَمْرَةٍ ساهُونَ* يَسْئَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ* ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ الذّاريات:5-14.

1-اختلفوا فيها-مثل ما قبلها-في أنّ اختلافهم كان في محمّد،و القرآن،و الكفر و الإيمان،و الطّاعة و العصيان،و في أنّ بعضهم متيقّن،و بعضهم شاكّ، و بعضهم معاند،إلى غير ذلك،مع أنّ الآيات صدرها و ذيلها صريحة في يوم الدّين،و أنّهم مختلفون فيه تصديقا و تكذيبا و تشكيكا.و قد ذيّلها بذكر عقاب المكذّبين و ثواب المؤمنين.فلا وجه لحملها على غير المعاد،بما أطالوا الكلام فيها،فلاحظ النّصوص، و لا سيّما نصّ الفخر الرّازيّ.

كيف؟و إنّ الأقسام الأربعة في صدر السّورة لإثبات المعاد أيضا،و جوابها: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ * وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ، فإنّ الدّين هو الجزاء يوم القيامة كما في: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

2-قالوا في وجه القسم على اختلافهم بقوله:

وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ:

إنّه لتشبيه أقوالهم في اختلافها،و تنافي أغراضها بطرائق السّماوات في تباعدها و اختلاف غاياتها.

و قيل:إنّ الحبك عبارة عن الاستواء،فالمراد أنّ السّماء مع عظمها مستو،و أنتم في أقوالكم مختلفون!! و اختاره أبو السّعود،و ردّ الوجه الأوّل.ثمّ قال في وجهه-بعد فرض الاختلاف في القرآن و النّبوّة-:

«إنّ القرآن نازل من السّماء،و إنّ النّبوّة أمر سماويّ، فهم اختلفوا في هذا الأمر السّماويّ،و ظنّوا أنّه أمر أرضيّ مختلف،و ليس كذلك».

و قال فضل اللّه:«و لعلّ مكمن التّناسب بين السّماء ذات الحبك و تأكيد القول المختلف،هو أنّ التّناسق في السّماء ينبغي أن يوحي لهم باتّخاذ موقف متناسق يقوم على قاعدة ثابتة،خلافا لما هم عليه من اختلاف في مواقفهم و مواقعهم».

3-و الآلوسيّ-و تبعه ابن عاشور و من بعده- جعل الاختلاف بمعنى التّناقض،و عمّمه في غير المعاد أيضا:فتناقضهم في اللّه أنّهم يقولون:إنّه خالق السّماوات و الأرض و يعبدون الأصنام.و في الرّسول يقولون:إنّه مجنون و إنّه ساحر و لا يكون السّاحر إلاّ عاقلا.و في الحشر يقولون:لا حشر و لا حياة بعد الموت أصلا،و يزعمون أنّ أصنامهم شفعاؤهم يوم القيامة،إلى غيرها من الأقوال المتناقضة.

و عندنا أنّه لا وجه لاختصاص الاختلاف بالتّناقض،كما سبق أنّه لا وجه لتعميمه في غير المعاد.

4-قال ابن عاشور:«و(فى) لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ للظّرفيّة المجازيّة،و هي شدّة الملابسة الشّبيهة بملابسة الظّرف للمظروف،مثل: وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ البقرة:15».

و قال أيضا:«المقصود بقوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ الكناية عن لازم الاختلاف،و هو التّردّد في الاعتقاد،و يلزمه بطلان قولهم،و ذلك مصبّ التّأكيد بالقسم و حرف(انّ)و اللاّم».

و قال فضل اللّه:«هذا هو جواب القسم بالسّماء الّذي يريد أن يؤكّد واقع القول المختلف في مضمونه

ص: 275

و أبعاده،فلا يرجع إلى قاعدة واحدة،لأنّ الرّأي عندهم يخضع للظّنّ و التّخمين،دون اعتماد الأسس العلميّة الّتي تؤدّي إلى اليقين في مواقع الحوار ممّا يمكن أن يلتقي عليه الجميع».

5-و أمّا تفسيرها بالإشارة،فقد قال القشيريّ:

«و الإشارة فيه إلى القسم بسماء التّوحيد ذات الزّينة بشمس العرفان و قمر المحبّة و نجوم القرب،إنّكم في باب هذه الطّريقة لفي قول مختلف:فمن منكر بجحد الطّريقة،و من معترض يعترض على أهلها بتوهّم نقصانهم في القيام بحقّ الشّريعة،و من متعسّف لا يخرج من ضيق حدود العبوديّة،و لا يعرف خبرا عن تخصيص الحقّ أولياءه بالأحوال السّنيّة.قال قائلهم

قد سحب النّاس أذيال الظّنون بنا

و فرّق النّاس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالظّنّ غيرتكم

و صادق ليس يدري أنّه صدقا».

و قال البروسويّ:«و في الآية إشارة إلى سماء القلب ذات الطّريق إلى اللّه،إنّكم أيّها الطّالبون الصّادقون لفي قول مختلف في الطّلب:فمنكم من يطلب منّا ما عندنا من كمالات القربات،و منكم من يطلب منّا ما لدينا من العلوم و المعارف،و منكم من يطلبنا بجميع صفاتنا،فلو استقمتم على الطّريقة و ثبّتّم ملازمين في طلبه،لبلغ كلّ قاصد مقصده».

الثّامن:أنّه لا اختلاف في القرآن،و به يرتفع الخلاف:ثلاث آيات:واحدة مدنيّة و آيتان مكّيّتان:

(45): أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.

(46): إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

(47): وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

الآية(45)و قد تكلّموا فيها طويلا،مختلفين في المراد بقوله: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً و كلّها بصدد إثبات إعجاز القرآن.

لاحظ:ق ر ء:«القرآن».

و الآية(46)تقدّم الكلام فيها خلال آيات اختلاف بني إسرائيل في أمور دينهم.

أمّا الآية(47)ففيها بحوث:

1-هي مكّيّة ناظرة إلى ما اختلف فيه المشركون من أصول الدّين و أركانه،من التّوحيد و النّبوّة و المعاد،و ما ألحق بها،و هكذا فسّروها.

قال الطّوسيّ: «من دلالة التّوحيد و العدل و صدق الرّسل و ما أوجبت من الحلال و الحرام».

و قال ابن عطيّة:«لفظ عامّ لأنواع كفر الكفرة،من الجحد باللّه تعالى،أو بالقيامة،أو بالنّبوات،أو غير ذلك.و لكنّ الإشارة في هذه الآية إنّما هي لجحدهم الرّبوبيّة و تشريكهم الأصنام في الألوهيّة.يدلّ على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدّالّة على أنّ الأنعم و سائر الأفعال،إنّما هي من اللّه تعالى،لا من الأصنام».

و قد خصّ الزّمخشريّ ما اختلفوا فيه بالبعث،

ص: 276

فقال:«لأنّه كان فيهم من يؤمن به و منهم عبد المطّلب»و أضاف:«و أشياء من التّحريم و الإنكار و الإقرار».

و عمّمها الفخر الرّازيّ-و تبعه كثير منهم-لكلّ أهل الملل،فقال:«المختلفون هم أهل الملل و الأهواء، و ما اختلفوا فيه هو الدّين،مثل التّوحيد و الشّرك و الجبر و القدر،و إثبات المعاد و نفيه.و مثل الأحكام:

مثل أنّهم حرّموا أشياء تحلّ،كالبحيرة و السّائبة و غيرهما،و حلّلوا أشياء تحرم كالميتة».

و قد ذكر الآلوسيّ في وجه تعميمها لكلّ الملل رجوع ضمير(لهم)و(اختلفوا)في الآية إلى ما قبلها، من قوله: تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، ثمّ قال رادّا له:«لكن منع عنه عدم تأتّي تبيين الّذي اختلفوا فيه لهم.فمنهم من جعله راجعا إلى قريش-أي المشركين و هو الظّاهر-لأنّ البحث فيهم، و منهم من جعله راجعا إلى النّاس مطلقا،لعدم اختصاص ذلك بقريش،و يدخلون فيه دخولا أوّليّا».

و عمّمه الطّباطبائيّ لكلّ حقّ،فقال:«المراد بالّذي اختلفوا فيه هو الحقّ من اعتقاد و عمل...

و المعنى هذا حال النّاس في الاختلاف في المعارف الحقّة و الأحكام الإلهيّة...».

و قال فضل اللّه:«ما أثارته الأفكار المريضة من شكوك و شبهات و خلافات».

و نقول:تعميمها لكلّ ما اختلفت فيه الملل غير المشركين في مكّة و حواليها،من باب تعميم الغاية و الغرض،فإنّ الإسلام و الكتاب و الأحكام للنّاس عامّة إلى يوم القيامة،باعتبارها شريعة شاملة و خاتمة.أمّا الخطاب فيها فموجّه إلى المشركين و ما اختلفوا فيه،و قد ذكر في الآيات قبلها و بعدها من أقوالهم الباطلة،ما يرجع إلى التّوحيد و النّبوّة و البعث،و بعض التّشريعات الباطلة،فلاحظ السّورة، و تأمّلها.بكاملها.

2-جاء عن ابن عبّاس أنّه فسّر(اختلفوا) ب«خالفوا»و هذا تفسير باللاّزم،لأنّ المختلفين في أمر حقّ مخالفون له كلّهم أو بعضهم،و إلاّ لم يختلفوا فيه.

3-و قال ابن عاشور:«عبّر عن الضّلال بطريقة الموصوليّة،للإيماء إلى أنّ سبب الضّلال هو اختلافهم على أنبيائهم،فالعرب اختلفت ضلالتهم في عبادة الأصنام،عبدت كلّ قبيلة منهم صنما،و عبد بعضهم الشّمس و الكواكب،و اتّخذت كلّ قبيلة لنفسها أعمالا يزعمونها دينا صحيحا،و اختلفوا مع المسلمين في جميع ذلك الدّين»فيلوح منه الميل إلى تعميم الآية للأمم السّابقة أيضا،و الحقّ ما سبق.

أمّا ما ذكره من كون الاختلاف سبب الضّلال فهو محتمل،و أقرب منه أنّ الأمر بالعكس،فإنّ الضّلال هو سبب الاختلاف،و إنّ المختلفين لمّا لم يهتدوا إلى الحقّ اختلفوا،و الّذين اهتدوا إلى الحقّ لا يختلفون اختلافا جوهريّا.

4-و الحصر و الاستثناء في وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ إضافيّ ذكر اهتماما به.لاحظ:ن ز ل:«أنزلنا»و ك ت ب:

ص: 277

«الكتاب»،و ب ي ن:«لتبيّن».

5-و هناك آيات أخرى في قائمة الآيات:إمّا في اختلاف مشركي العرب،أو في اختلاف الملل و الأقوام،فلاحظ.

التّاسع:القضاء فيما اختلفوا فيه في الدّنيا أو الآخرة في آيات مكّيّة و مدنيّة،منها:هذه:

(48): أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ.

(49): قُلِ اللّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

(50): وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ* اَللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

(51): وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ... كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

(52): وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ...* إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

(53): إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ... ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

(54): وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ... فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

(55): قُلْ أَ غَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا... ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

(56): وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها... إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

فيحكم اللّه يوم القيامة-حسب هذه الآيات و أمثالها-فيما اختلف النّاس فيه،و هي على خمسة أقسام:

1-و هو الغالب عليها ما جاء بلفظ«الحكم» بينهم يوم القيامة فيما فيه يختلفون مثل:(48-52).

2-ما جاء بلفظ«القضاء»بينهم كذلك،مثل الآية(27 و 28): إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، و قد سبق البحث فيهما.

3-ما جاء بلفظ«الفصل»بينهم،مثل(52): إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ....

4-ما جاء بلفظ«التّنبئة»مثل(54)و(55):

فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

5-ما جاء بلفظ«التّبيين»مثل(56): وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

و اختلاف الألفاظ مع وحدة المضمون يكشف عن الاهتمام به؛بحيث لا يكفي فيه لفظ واحد،بل يحتاج أداء حقّه من الأهمّيّة إلى تعابير متعدّدة أو ألفاظ مكرّرة.و هذا هو سرّ التّكرار في القرآن في الأغلب.

و لا يخفى أنّ التّعبير بالقضاء و الفصل بينهم،أوفى برفع الاختلاف من غيرهما،إلاّ أنّ المراد بالجميع الجزاء،دون مجرّد القضاء و بيان الحكم،فهذا خاصّ بالدّنيا دون الآخرة.

ص: 278

و لعلّ التّعبير عن الجزاء،بالحكم و القضاء و الفصل و نحوها،للتّأكيد أنّ الجزاء إنّما يكون بالعدل بعد القضاء بالعدل بينهم.هذا تمام الكلام في الاختلاف في أمور الدّين.

الصّنف السّادس:اختلاف الأحزاب،آيتان مكّيّتان:

(57): فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

(58): فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ.

جاءتا في اختلاف بني إسرائيل بشأن عيسى عليه السّلام كما يشهد به الآيات قبلهما:فقد سبقت الآية الأولى في سورة مريم آيات في قصّة مريم و عيسى،ابتداء من (16): وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ و انتهاء ب(36):

وَ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ...، ثمّ قال: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ....

و سبقت الثّانية الآيتان(62)و(64)من سورة الزّخرف: وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ...، و إِنَّ اللّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ.... فالمراد بالأحزاب فيهما فرق النّصاري وحدهم،أو اليهود و النّصارى جميعا الّذين اختلفوا في عيسى،و قد سبق الكلام فيهما في القسم الثّالث من الصّنف الخامس،من آيات الاختلاف،فلاحظ النّصوص هنا و هناك.كما سبق البحث في الأحزاب عموما في«ح ز ب»فراجع.

الصّنف السّابع:اختلاف المخلوقات 12 آية،من (59-70):فخمس منها(59-63)في اختلاف اللّيل و النّهار،و سبع منها:(64-70)في اختلاف الألسنة،و الألوان،و الثّمرات.و البحث فيها تفصيلا موكول إلى موادّها،و نكتفي هنا بعدّة بحوث:

1-ذكروا لاختلاف اللّيل و النّهار معنيين:

أحدهما:اختلافهما في اللّون و الطّول و القصر و النّور و الظّلمة،و الزّيادة و النّقيصة،بحسب أزمنة الفصول،و بحسب أمكنة الأرض طولا و عرضا.

قال الكسائيّ: «يقال لكلّ شيئين اختلفا:هما خلفان».

ثانيهما:تعاقبهما في الذّهاب و المجيء،فالاختلاف هنا«افتعال»من خلف يخلف خلوفا،كما قال: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً الفرقان:62، و سنبحثه في المحور الثّاني.و هو المراد بقولهم:«اختلافهما :إقبال أحدهما و إدبار الآخر»و ذيّله ابن عاشور بقوله:«و من بلاغة القرآن أن سمّى ذلك اختلافا، تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجواهر،لأنّه شيء غير ذاتيّ،فإنّ ما بالذّات لا يختلف...».

و عندنا أنّ المعنى الأوّل هو المناسب لذكر اختلاف اللّيل و النّهار،مع خلق السّماوات و الأرض أو الحيات و الموت في الآيات الخمس الأولى،مثل ذكر اختلاف الألسن و الألوان بعد ذكر اختلافهما،في (64)،و إن كان المعنيان متلازمين،فاختلافهما و تعاقبهما كلاهما ناشئ عن حركتهما حول الشّمس.

و قد ذكر الفخر الرّازيّ-و تبعه غيره-لاختلافهما معنى ثالثا،و هو اختلافهما بحسب الأمكنة،فكلّ ساعة عيّنتها فهي صبح في موضع من الأرض،و ظهر

ص: 279

أو عصر أو مغرب أو عشاء في مواضع أخرى.

و الظّاهر أنّ هذا من باب أقسام الاختلاف بالمعنى الأوّل،و ليس معنى ثالثا له،فلاحظ.

2-و بعضهم كالكاشانيّ اعتبر ما ترتّب على اختلاف اللّيل و النّهار من جملة اختلافهما،فقال:

«المتتابعين الكارّين عليكم بالعجائب الّتي يحدثها ربّكم في عالمه،من إسعاد و إشقاء و إعزاز و إذلال و إغناء و إفقار و صيف و شتاء و خريف و ربيع و خصب و قحط و خوف و أمن».

و تبعه ابن عاشور،فقال:«أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء و ظلمة،و ما في الضّياء من الفوائد للنّاس،و ما في الظّلمة من الفوائد لهم،لحصول سكونهم،و استرجاع قواهم المنهوكة بالعمل».

و أضاف:«و قد أضيف الاختلاف لكلّ من اللّيل و النّهار،لأنّ كلّ واحد منهما يخلف الآخر،فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر؛بحيث لو دام أحدهما لانقلب النّفع ضررا: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ القصص:71 و 72».

3-و قد شرح الطّباطبائيّ كيف توجب الحركة اليوميّة للكرة الأرضيّة ظهور اللّيل و النّهار، و اختلافهما زيادة و نقيصة و ظلمة و ضياء بما ثبت في علم الهيئة،فلاحظ.

4-اختلاف الألوان-و كذا الطّعوم-في العسل، في(67)بحسب اختلاف المراعي،أو اختلاف فصول السّنة،أو سنّ النّحل،لاحظ النّصوص.

هذا انتهاء البحث في المحور الأوّل،و هو الخلاف:

ضدّ.الوفاق.

المحور الثّاني:«البدل»و منه الإخلاف و الخلف و الخلافة و الخلفة و الاستخلاف:41 آية:7 مدنيّة، و 34 مكّيّة،و فيها بحوث:

1-جاء منها«يخلف»مرّة في(76):(فهو يخلفه،)و«خلف»مرّتين:في(77 و 78):(فخلف من بعدهم،)و(خلفتمونى،)و(يخلفون) و(اخلفنى)كلّ منها مرّة:في(99 و 100 و 101)، و(خليفة)مرّتين:في(102 و 103)،و(خلائف) أربع مرّات:(104-107)و(خلفاء)ثلاث مرّات:

(108-110)،و(خلفة)مرّة:في(111): وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً و(خلف)22 مرّة:

(77-98).

و جاء من الاستخلاف(استخلف)مرّة:في(115) : كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، و(يستخلف) أربع مرّات:(112-115)،و(مستخلفين)مرّة:في (116): جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ.

2-و كلّها من«خلف»بمعنى:البدل من الشّيء؛ فالخلف و الخلف و الخلفة و الخليفة و الخلائف كلّها بمعنى من كان بدلا عن غيره،و نائبا عنه.و بعضهم فرّق مدحا و ذمّا بين«الخلف و الخلف»بالسّكون و التّحريك،فخصّ السّكون بالسّيّئ و الفاسد،

ص: 280

و التّحريك بالصّالح،و قد يعكس.و الظّاهر أنّ التّفاوت بينهما إنّما يفهم من السّياق،مثل(78):

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، و إلاّ فهما بمعنى واحد مثل«أثر و أثر».

و يقال للواحد و الاثنين و الجمع و المذكّر و المؤنّث بلفظ واحد؛و الجمع:«خلوف».

و قد يطلق«خلف»على القرن الّذي يجيء في أثر قرن.و قيل:إنّه جمع«خالف»-أي في بعض الآيات لا في كلّها.

3-و إذا جاء(خلف)مع(بعد)مثل(78):

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فمعناه«البدل»،و قد يأتي مكان«بعد»مثل(88): وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أي من بعدهم.

و أمّا إذا جاء مع أيديهم،مثل(90): ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ فهو بمعنى«العقب»،و المراد ب بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أمامهم.فالآية تشمل الجهات الأربع للإنسان.

4-المراد ب(خليفة)في(102 و 103)من يخلف اللّه في الأرض،فالإنسان في(102): إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً خليفة اللّه في عمران الأرض و إصلاحها،و داود في(103) يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ و الأنبياء كلّهم خلفاء اللّه في التّشريع،و إدارة شئون البشر و تربيتهم.

و احتمل أنّ اللّه جعله خليفة لمن سبقه من الأنبياء.

و يبعّده ما بعده: فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ، فإنّه من شئون اللّه أوّلا،و لهذا فسّرها بعضهم ب:«إنّا جعلناك مالكا للنّاس و نافذ الحكم فيهم».

و هذه الآية حجّة لمن يرى أنّ الحكومة حقّ الأنبياء و الأوصياء،و العلماء من بعدهم،فيجب على اللّه نصب الإمام نصّا كما تقول به الإماميّة.

و للبروسويّ بحث طويل حول خلافة اللّه، فلاحظ.

5-قالوا في«الخلائف»و«الخلفاء»-و كلاهما جمع«الخليفة»-في الآيات(104-110)-و كلّها مكّيّة-مثل(104): وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ... ،و(110): وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ:

خلفاء الأمم الماضية،خلفا من الجانّ،سكّانا للأرض يخلف بعضكم بعضا،أمّة محمّد،لأنّ النّبيّ خاتم النّبيّين فأمّته قد خلفت سائر الأمم،و هو بعيد لأنّ المخاطبين بها نوع الإنسان دون أمّة محمّد.

قال الطّوسيّ: «أخبر اللّه تعالى أنّه الّذي جعل الخلق خلائف الأرض،و معناه:أنّ أهل كلّ عصر يخلفون أهل العصر الّذي قبله...».

و قال الطّباطبائيّ: «الّذي يعطيه السّياق أن يكون المراد بالخلافة:الخلافة الأرضيّة الّتي جعلها اللّه للإنسان،يتصرّف بها في الأرض و ما فيها من الخليقة كيف يشاء...».

6-و قد فسّروا(خلفة)في(111): وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً... بالبدل،أي إنّ اللّيل يخلف النّهار و النّهار يخلف اللّيل،سوى ابن عبّاس في

ص: 281

أحد قوليه-و تبعه بعضهم-فأخذها بمعنى الاختلاف، عطفا على آيات اختلاف اللّيل و النّهار،و الأوّل هو المناسب لما بعدها: خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً.

قال الحسن:«إن فات رجلا من النّهار شيء أدركه من اللّيل،و إن فاته من اللّيل أدركه من النّهار».

و قال قتادة:«فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر...».

و قد استشهد الإمام الصّادق عليه السّلام بالآية-فيما رواه القمّيّ-على قضاء صلاة اللّيل بالنّهار و بالعكس.

7-و قال الزّمخشريّ: «الخلفة من«خلف» كالرّكبة من«ركب»و هي الحالة الّتي يخلف عليها اللّيل و النّهار كلّ منهما الآخر،و المعنى:جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة أي يعقب هذا ذاك،و ذاك هذا...».

و قال أبو حيّان:«انتصب(خلفة)على الحال، فقيل:هو مصدر«خلف خلفة»،و قيل:هو اسم هيئة كالرّكبة،و وقع حالا اسم الهيئة في قولهم:مررت بماء قعدة رجل».

و قال البروسويّ: «الخلفة مصدر للنّوع، فلا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا ل(جعل،)و لا حالا من مفعوله،فلا بدّ من تقدير المضاف،و يستعمل بمعنى «كان خليفته»،أو بمعنى«جاء بعده...».و جعل الأوّل بمعنى ذوي خلفة،و الثّاني بمعنى ذوي اعتقاب،فلاحظ.

8-و قد أوّلها ابن عربيّ ب:«ليل ظلمة النّفس، و نهار نور القلب يعقبان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ في نهار نور القلب العهد المنسيّ،و ينظر في المعاني و المعارف، و يعتبر«أو أراد»في ليل ظلمة النّفس شكورا بأعمال الطّاعات،و اكتساب الأخلاق،و الملكات».

تمّت الملاحظة الأولى في الآيات،من مادّة «خ ل ف»و هي:116،آية.

و يلاحظ ثانيا:أنّ 72 آية منها مكّيّة،و 39 مدنيّة،و 5 آيات مختلف فيها،فلو ألحقت بالمكّيّات تصير المكّيّات أكثر من ضعف المدنيّات.فيبدو أنّ القرآن اهتمّ باختلاف المشركين فيما بينهم أكثر من اختلاف أهل الكتاب،بداهة أنّ المشركين لم يكن لهم كتاب،و لا دين حقّ حتّى يحدّد اختلافهم في محور كتابهم و دينهم،بخلاف أهل الكتاب،فاختلافهم يتمحور حول كتابهم.هذا مع أنّ كثيرا من المدنيّات لا تخصّ أهل الكتاب و كذلك العكس،كما سبق.

ثالثا:من نظائر مشتقّات هذه المادّة في القرآن:

الخلف:دون

العقب: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ

الزّخرف:28

الوراء: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ هود:71

الخلف:النّائب

الوارث: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ البقرة:233

البديل: وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً

الدّهر:28

ص: 282

القائم مقام: فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما

المائدة:107

الوليّ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا

المائدة:55

الوكيل: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ الزّمر:62

التّخليف:التّأخير

التّأخير: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ

القيمة:13

الإرجاء: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ الأحزاب:51

التّأجيل: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ المرسلات:12

النّسيء: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ

التّوبة:37

النّظرة: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ

البقرة:280

الإرواد: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً

الطّارق:17

التّمهيل: وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً المزّمّل:11

الإملاء: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها الحجّ:48

الاختلاف:المباينة

الشّقاق: وَ مَنْ يُشَاقِّ اللّهَ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ

الحشر:4

الضّدّ: كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا مريم:82

ص: 283

ص: 284

خ ل ق

اشارة

51 لفظا،261 مرّة:211 مكّيّة،50 مدنيّة

في 72 سورة:59 مكّيّة،13 مدنيّة

خلق 64:52-12 خلقناه 4:4

خلقه 4:3-1 خلقناهما 1:1

خلقهم 4:4 خلقناهم 3:2-1

خلقها 1:1 خلقناكم 9:7-2

خلقهنّ 2:2 خلق 5:4-1

خلقك 2:2 خلقوا 1:1

خلقكم 16:13-3 خلقت 1:1

خلقنى 1:1 يخلق 14:11-3

خلقوا 4:3-1 يخلقكم 1:1

خلقت 2:1-1 يخلقون 2:2

خلقته 3:3 يخلقوا 1:-1

خلقتنى 2:2 تخلق 1:-1

خلقت 3:3 تخلقون 1:1

خلقتك 1:1 تخلقونه 1:1

خلقنا 24:22-2 اخلق 1:-1

نخلقكم 1:1 خلقه 3:2-1

يخلق 1:1 خلقهم 1:1

يخلقون 3:3 بخلقهنّ 1:1

خالق 7:6-1 خلقكم 2:1-1

الخالق 1:-1 خلاق 3:-3

الخالقون 2:2 بخلاقهم 2:-2

الخالقين 2:2 بخلاقكم 1:-1

الخلاّق 2:2 خلق 2:2

خلق 23:16-7 مخلّقة 2:-2

الخلق 15:14-1 اختلاق 1:1

خلقا 2937:7

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الخليقة:الخلق،و الخليقة:الطّبيعة؛ و الجميع:الخلائق.و الخلائق:نقر في الصّفا.و الخليقة:

ص: 285

الخلق،و الخالق:الصّانع.

و خلقت الأديم:قدّرته.

و إنّ هذا لمخلقة للخير،أي جدير به،و قد خلق لهذا الأمر فهو خليق له،أي جدير به.

و إنّه لخليق لذاك،أي شبيه،و ما أخلقه،أي ما أشبهه!

و امرأة خليقة:ذات جسم و خلق،و قد يقال:

رجل خليق،أي تمّ خلقه،و خلقت المرأة خلاقة،أي تمّ خلقها و حسن.

و المختلق من كلّ شيء:ما اعتدل و ترّ.

و الخلاق:النّصيب من الحظّ الصّالح.و هذا رجل ليس له خلاق،أي ليس له رغبة في الخير،و لا في الآخرة،و لا صلاح في الدّين.

و الخلق:الكذب في قراءة من قرأ (إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) الشّعراء:137.

و خلق الثّوب يخلق خلوقة،أي بلي،و أخلق إخلاقا.

و يقال للسّائل:أخلقت وجهك.

و أخلقني فلان ثوبه،أي أعطاني خلقا من الثّياب.

و ثوب أخلاق:ممزّق من جوانبه.

و الأخلق:الأملس.و هضبة أو صخرة خلقاء،أي مصمتة.

و خليقاء الجبهة:مستواها،و هي الخلقاء أيضا.

و يقال في الكلام:سحبوهم على خلقاوات جباههم.

و خليقاء الغار الأعلى:باطنه،و خلقاء الغار أيضا.

و اخلولق السّحاب،أي استوى،كأنّه ملّس تمليسا،و قد خلق يخلق خلقا.و الخلق:السّحاب.

و الخلوق:من الطّيب،و فعله:التّخليق و التّخلّق.

و امرأة خلقاء:رتقاء،لأنّها مصمتة كالصّفاة الخلقاء.يقال منه:خلق يخلق خلقا.(4:151)

سيبويه :و اخلولقت السّماء أن تمطر،أي قاربت و شابهت،و اخلولق أن تمطر،على أنّ الفعل لأن.[هكذا في المتن](ابن سيده 4:539)

اللّيث:رجل خالق:أي صانع،و هنّ الخالقات للنّساء.(الأزهريّ 7:27)

الكسائيّ: أخلقت الرّجل ثوبا،أي كسوته خلقا.(الأزهريّ 7:29)

أصبحت ثيابهم خلقانا و خلقهم جددا،فوضع الواحد موضع الجمع الّذي هو الخلقان.

(ابن سيده 4:537)

إنّ أخلق بك أن تفعل ذاك،أرادوا:إنّ أخلق الأشياء بك أن تفعل ذاك.و العرب تقول:يا خليق بذاك،فترفع،و يا خليق بذاك،فتنصب،و لا أعرف وجه ذلك.(ابن سيده 4:539)

ابن شميّل: في حديث أبي هريرة:«هم شرّ الخلق و الخليقة».الخلق:النّاس،و الخليقة:الدّوابّ.

(الأزهريّ 7:27)

أبو عمرو الشّيبانيّ: إنّ فلانا لمختلق،إذا كان حسنا جميلا،و لكلّ شيء.(1:22)

هذه قبّة خلقتها فلانة،أي قدّرتها و خرزتها.

قال العذريّ و الوادعيّ: الخلق:خلق العياب

ص: 286

و القباب و الأنطاع.(1:228)

أخلقي أديمك،أي قدّريه،إمّا مزادة و إمّا قربة أو ما أرادت.فالخلق:التّقدير،و الفري:الخرز.

(1:233)

قال الأكوعيّ: قد أخلقت السّماء،إذا رجوت أن تمطر،و هي مخلقة.و قال:الخليقة:البئر.(1:236)

الخوالق:العمد الّتي تكون فى جانبي البيت، و هما كسراه.(1:237)

خلق الأديم،عركه و دهنه،تقول:أخلقي أديمك.

(1:238)

قد رتب على هذا الخلق،قد رتب على خير أو شرّ،إذا أقام عليه.(1:308)

الخليقة:البئر ساعة تحفر.

و الخلق:كلّ شيء مملّس،مستو.

و سهم مخلّق:أملس مستو.

و الخلقة:السّحابة المستوية المخيلة للمطر.

(الأزهريّ 7:30)

أبو زيد :إنّه لكريم الطّبيعة و الخليقة و السّليقة:

بمعنى واحد.(الأزهريّ 7:25)

الأصمعيّ: المختلق:التّامّ الخلق و الجمال.

(الأزهريّ 7:28)

اللّحيانيّ: لا و الّذي خلق الخلوق ما فعلت ذاك، يريد جمع الخلق.(ابن سيده 4:535)

هذه خليقته الّتي خلق عليها،و خلقها،و الّتي خلق،أراد الّتي خلق صاحبها.

و رجل خليق و مختلق:حسن الخلق؛و الأنثى:

خليقة و خليق و مختلقة.(ابن سيده 4:536)

و هذا الأمر مخلقة لذلك،أي مجدرة،و إنّه مخلقة من ذاك،و كذلك الاثنان و الجميع و المؤنّث.

و إنّه لخليق أن يفعل ذاك،و بأن يفعل ذاك،و لأن يفعل ذاك،و من أن يفعل ذاك،و كذلك إنّه لمخلقة، يقال بهذه الحروف كلّها.(ابن سيده 4:539)

أبو عبيد: في حديث عمر رضى اللّه عنه:«ليس الفقير الّذي لا مال له،إنّما الفقير الأخلق الكسب».

و قد تأوّله بعضهم على ضعف الكسب،و لست أرى هذا شيئا من جهتين:

إحداهما:أنّه ذهب إلى مثل خلوقة الثّوب،و لو أراد ذلك لقال:الخلق الكسب،لأنّه إنّما يقال:ثوب خلق،و لا يقال:ثوب أخلق،إلاّ أن تريد أنّ الثّوب قد فعل ذلك،فإنّه قد يقال:قد خلق الثّوب و أخلق، و لا يقال:هذا ثوب أخلق

و الجهة الأخرى:أنّه إذا حمله على هذا فقد ردّ المعنى إلى الفقر أيضا،فكيف يقول:الفقير الّذي لا مال له و الّذي لا يكتسب المال.

و لكن وجهه عندي أنّه جعله مثلا للرّجل الّذي لا يرزأ في ماله،و لا يصاب بالمصائب.

و أصل هذا أنّه يقال للجبل المصمت الّذي لا يؤثّر فيه شيء:أخلق،و الصّخرة خلقاء،إذا كانت كذلك.

[ثمّ استشهد بشعر]

فأراد عمر أنّ الفقر الأكبر إنّما هو فقر الآخرة لمن لم يقدّم لنفسه شيئا يثاب عليه هناك،و هذا كنحو حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس الرّقوب الّذي لا يبقى له ولد،

ص: 287

إنّما الرّقوب الّذي لم يقدّم من ولده شيئا».(2:115)

في حديث عمر بن عبد العزيز:«أنّه كتب إليه في امرأة خلقاء تزوّجها رجل...».

الخلقاء:هي مثل الرّتقاء،و إنّما سمّيت خلقاء لأنّه مصمت،و لهذا قيل:للصّخرة الملساء:خلقاء،أي ليس فيها وسم و لا كسر.[ثمّ استشهد بشعر](2:415)

ابن الأعرابيّ: الخلق:الآبار الحديثات الحفر، و الخلق:الدّين،و الخلق:المروءة.(الأزهريّ 7:31)

ابن السّكّيت: و المختلق:الحسن الكامل في وجهه و جسمه و لونه.(205)

و إنّ فلانا لخليق و فلانة خليقة،أي تامّة الخلق.

(208)

قال:قد تخلّق كذبا و خلق كذبا،قال اللّه تعالى:

وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17.(259)

يقال:امرأة خليق و مختلقة (1)،إذا كانت حسنة الخلق.(327)

يقال:إنّه لخليق أن يفعل كذا و كذا،و قد خلق خلاقة.و مخلقة منه كذا و كذا،و هو بيّن الخلاقة.

(511)

يقال:أخلق الثّوب و خلق:محّ و أمحّ.[ثمّ استشهد بشعر](520)

ابن أبي اليمان :الخلاق:النّصيب،قال اللّه تعالى:

وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ البقرة:200، و الخلاق أيضا:متاع الدّنيا،من قولهم: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ التّوبة:69،أي بدنياهم.(806)

الحربيّ: في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم...«و إن كان لخليقا للإمارة»أي شبيه يشبهها و تشبهه.و ما أخلقه:ما أشبهه!

في حديث عنه...«خياركم أحاسنكم أخلاقا» الخلق:الطّبيعة،يقال:تخلّق بخلق حسن.

في حديث آخر منه:«إنّ معاوية أخلق المال» الأخلق:الضّعيف المال،و الخلاق:النّصيب من الحظّ الصّالح،و رجل ليس فيه خلاق:رغبة في الخير.قال اللّه تعالى: وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ البقرة:

200.

في حديث عنه:«من عمد إلى الثّوب الّذي أخلق فتصدّق به،كان في حفظ اللّه و في كنف اللّه،و ستره، حيّا و ميتا».الخلق:الثّوب البالي،خلق خلوقة، و أخلق إخلاقا.

و الأخلق:الأملس،و هضبة خلقاء:ملساء.

في حديث:«قدمت على أهلي فخلّقوني بزعفران ...»الخلوق:طيب معروف من الزّعفران و غيره يخلّق به الرّجل.

و الخلق:الكذب.[و استشهد بالشّعر مرّتين]

(1:22)

المبرّد: في حديث عمر«من تخلّق للنّاس...»أي أظهر في خلقه خلاف نيّته.(الهرويّ 2:591)

ابن دريد :الخلق:مصدر خلق اللّه الخلق يخلقهم خلقا،ثمّ سمّوا بالمصدر.ة.

ص: 288


1- هكذا في الأصل و البناء للفاعل..و الظّاهر:«مختلقة» البناء للمفعول،كما في جميع كتب اللّغة.

و الخلق:خلق الإنسان الّذي طبع عليه.و فلان حسن الخلق و الخلق و كريم الخليقة؛و الجمع:

الخلائق.و الخلق أيضا:يسمّون الخليقة؛و الجمع:

الخلائق أيضا.

و خلّقت الحبل و الوتر تخليقا:إذا ملسته.

و الخليقة:نقرة يجتمع فيها ماء السّماء؛و الجمع:

الخلائق.

و صخرة خلقاء،أي ملساء،و جبل أخلق:كذلك.

و الخليقاء من الفرس:كالعرنين من الإنسان، و هو بين عينيه.

و يقال:أخلق الثّوب إخلاقا،و خلق خلوقة و خلوقا فهو خلق.

و الخلاق:النّصيب،و فلان لا خلاق له،أي لا نصيب له في الخير؛و جمع الثّوب الخلق:خلقان و أخلاق.

و قالوا:ثوب أخلاق للواحد،فوصفوه بصفة الجمع،كما قالوا:حبل أرماث،و نحو ذلك.

و اختلق فلان كلاما،إذا زوّره،و كذلك اخترقه.

و في التّنزيل: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17، و فيه: وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ الأنعام:100.

و خلقت الشّيء،إذا قدّرته.

و يقال:ضرب فلان فلانا على خلقاء متنه،أي على صفحته.

و قال أبو حاتم عن الرّزاحيّ،الخلّق:المرأة الرّتقاء.[و استشهد بالشّعر 4 مرّات](2:240)

الخليقاء:و هو من الفرس كموضع العرنين من الإنسان.(3:447)

و ثوب أخلاق و ثياب أخلاق و ماء أسدام،و مياه أسدام،إذا تغيّرت من طول القدم.(3:429)

و يقال:فلان حجّ بكذا و كذا،و خليق به:و جدير به.(3:450)

و خلق بيّن الخلوقة،و خليق للخير بيّن الخلاقة، و خليق في الجسم بيّن الخلق.(3:467)

القاليّ: و يقال في هذا كلّه:ما أخلقه و أجدره و أحراه و أعساه و أقمنه و أجحاه و ما أقرفه!(1:96)

الأخلق:الأملس،و منه قيل:صخرة خلقاء.

(1:191)

و الخليقاء:حيث التقى عظم أعلى الأنف و عظم الحاجب.(2:257)

قال أبو الحسن:يقال:خلق و اختلق و خرق،إذا كذب.(ذيل الأمالي:68)

الأزهريّ: [نقل قول أبي زيد ثمّ قال:]

قلت:و رأيت بذروة الصّمان قلاتا تمسك ماء السّحاب في صفاة خلقها اللّه فيها،تسمّيها العرب:

الخلائق؛الواحدة:خليقة.

و رأيت بالخلصاء من جبال الدّهناء دحلانا خلقها اللّه في بطون الأرض،أفواهها ضيّقة،فإذا دخلها الدّاخل وجدها تضيق مرّة و تتّسع أخرى،ثمّ يفضي الممرّ فيها إلى قرار للماء واسع لا يوقف على أقصاء، و العرب إذا تربعوا الدّهناء و لم يقع ربيع بالأرض يملأ الغدران،استقوا لخيلهم و شفاههم من هذه الدّحلان.

و من صفات اللّه:الخالق و الخلاّق.و لا تجوز هذه

ص: 289

الصّفة بالألف و اللاّم لغير اللّه جلّ و عزّ.

و الخلق في كلام العرب:ابتداع الشّيء على مثال لم يسبق إليه.

و قال أبو بكر ابن الأنباريّ: الخلق في كلام العرب على ضربين:أحدهما:الإنشاء على مثال أبدعه، و الآخر:التّقدير.[بعد ذكر آيتي:14،من سورة المؤمنين،و 17،من العنكبوت قال:]

قلت:و العرب تقول:خلقت الأديم،إذا قدّرته و قسته،لتقطع منه مزادة أو قربة أو خفّا.

يقال:خلق الثّوب يخلق خلوقة و أخلق إخلاقا، بمعنى واحد.

و يقال للسّائل:قد أخلق وجهه،و أخلق فلان فلانا،أي أعطاه ثوبا خلقا.

و يقال:جبّة خلق بغير هاء،و جديد بغير هاء.

و يقال:فلان مخلقة للخير،كقولك:مجدرة و محراة و مقمنة.(7:25-31)

الصّاحب:الخليقة:الخلق؛و الجمع:الخلائق.

و الخلق:تقديرك الأديم لما أردت.و في المثل«إنّي إذا خلقت فريت».

و رجل خالق:صانع.

و الخلق:الطّبيعة،و هو الخليقة و الخلاق.

و إنّه لخليق لذاك،أي شبيه.و ما أخلقه!

و سحابة خلقاء و خلقة:مخيلة للمطر.

و الخلقة من السّحاب:الملساء.

و هو من الشّيء الأخلق:الأملس المحكم.

و امرأة خليقة و خليق:ذات جسم و خلق حسن، و رجل خليق.و خلقت المرأة خلاقة حسنة.

و المختلق من كلّ شيء:ما اعتدل.

و الخلاق:النّصيب و الحظّ الصّالح.

و الخلق:الكذب.و يقال الدّين،من قوله عزّ ذكره: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ الرّوم:30.

و الخلق:البالي،خلق خلوقة و خلوقا و خلاقة، و أخلق إخلاقا.

و أخلقني فلان ثوبه:أعطاني خلقا.و ثوب أخلاق.

و رجل مخلق:ذو خلقان.

و قدح مخلّق:مليّن.

و الأخلق:الأملس،هضبة خلقاء،و خلق يخلق خلقا.

و اخلولق السّحاب:استوى.

و امرأة خلقاء:مثل الرّتقاء،و خلّق مثله.و كذلك الخلقاء من الفراسن:الّتي لا شقّ بها.

و الأخلق:ظاهر حافر الفرس.

و فلان أخلق الكسب:قليله.

و المخلق:المعدم.

و حوض بادي الخلائق،أي النّصائب.

و خليقاء الجبهة:مستواها،و هي الخلقاء أيضا.

و خليقاء الغار الأعلى:باطنه.

و الخلوق:من الطّيب،و فعله التّخلّق و التّخليق.

(4:194)

الخطّابيّ: في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«...و أمّا معاوية فرجل أخلق من المال»و قوله:«أخلق من المال»،

ص: 290

معناه خلو عار منه،و أصله في الشّيء الأملس الّذي لا يمسك شيئا.يقال:حجر أخلق،أي أملس زلال، و صخرة خلقاء.[و استشهد بشعر](1:98)

فى حديث ابن الزّبير:«و اخلولق بعد تفرّق».

و قوله:اخلولق،أي اجتمع و تهيّأ للمطر،و خلاقة المطر فى السّحاب:علامته.(2:567)

الجوهريّ: [ذكر نحو ما تقدّم مع إضافات، و استشهد بالشّعر خمس مرّات](4:1470)

ابن فارس: الخاء و اللاّم و القاف أصلان:

أحدهما:تقدير الشّيء،و الآخر:ملاسة الشّيء.

فأمّا الأوّل فقولهم:خلقت الأديم للسّقاء،إذا قدّرته.و قال زهير:

و لأنت تفري ما خلقت و بع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري

و من ذلك الخلق،و هي السّجيّة،لأنّ صاحبه قد قدّر عليه.و فلان خليق بكذا،و أخلق به،أي ما أخلقه!أي هو ممّن يقدّر فيه ذلك.

و الخلاق:النّصيب،لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه.

و من الباب:رجل مختلق:تامّ الخلق.

و الخلق:خلق الكذب،و هو اختلاقه و اختراعه و تقديره في النّفس.قال اللّه تعالى: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17.

و أمّا الأصل الثّاني:فصخرة خلقاء،أي ملساء.

و يقال:اخلولق السّحاب:استوى.و رسم مخلولق،إذا استوى بالأرض.و المخلّق:السّهم المصلح.

و من هذا الباب:أخلق الشّيء و خلق،إذا بلي.

و أخلقته أنا:أبليته؛و ذلك أنّه إذا أخلق املاسّ و ذهب زئبره.

و يقال:المختلق من كلّ شيء:ما اعتدل.

و الخلوق:معروف،و هو الخلاق أيضا؛و ذلك أنّ الشّيء إذا خلّق ملس.

و يقال:ثوب خلق و ملحفة خلق،يستوي فيه المذكّر و المؤنّث.

و إنّما قيل للسّهم المصلح:مخلّق،لأنّه يصير أملس.

و أمّا الخليقاء في الفرس فكالعرنين من الإنسان.

[و استشهد بالشّعر 3 مرّات](2:213)

أبو هلال :الفرق بين الفعل و الخلق و التّغيير:أنّ الخلق في اللّغة:التّقدير،يقال:خلقت الأديم،إذا قدّرته خفّا أو غيره،و خلق الثّوب و أخلق:لم يبق منه إلاّ تقديره.

و الخلقاء:الصّخرة الملساء لاستواء أجزائها في التّقدير،و اخلولق السّحاب:استوى،و أنّه لخليق بكذا،أي شبيه به،كأنّ ذلك مقدّر فيه.

و الخلق:العادة الّتي يعتادها الإنسان و يأخذ نفسه بها على مقدار بعينه،فإن زال عنه إلى غيره قيل:

تخلّق بغير خلقه،و في القرآن: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ الشّعراء:137.

و المخلق:التّامّ الحسن،لأنّه قدّر تقديرا حسنا، و المتخلّق:المعتدل في طباعه.و سمع بعض الفصحاء كلاما حسنا،فقال:هذا كلام مخلوق،و جميع ذلك

ص: 291

يرجع إلى التّقدير.

و الخلوق من الطّيب:أجزاء خلطت على تقدير.

و النّاس يقولون:لا خالق إلاّ اللّه،و المراد أنّ هذا اللّفظ لا يطلق إلاّ للّه؛إذ ليس أحد إلاّ و في فعله سهو أو غلط يجري منه على غير تقدير اللّه تعالى،كما تقول:

لا قديم إلاّ اللّه و إن كنّا نقول:هذا قديم،لأنّه ليس يصحّ قول:لم يزل موجودا إلاّ اللّه.

الفرق بين الخلق و الاختلاق:أنّ الاختلاق:اسم خصّ به الكذب؛و ذلك إذا هو قدّر تقديرا يوهم أنّه صدق.و يقال:خلق الكلام،إذا قدّره صدقا أو كذبا، و اختلقه إذا جعله كذبا لا غير،فلا يكون الاختلاق إلاّ كذبا،و الخلق:يكون كذبا و صدقا،كما أنّ«الافتعال» لا يكون إلاّ كذبا،فالقول يكون صدقا و كذبا.(111)

الفرق بين الخلق و الكسب[راجع:«ك س ب»]

الفرق بين الذّرء و الخلق[راجع:«ذ ر ء»]

الفرق بين البرء و الخلق[راجع:«ب ر ء»](112)

الهرويّ: [ذكر حديث عمر و قول المبرّد فيه، و قال:]

و قوله:«تخلّق»مثل تجمّل،أي أظهر جمالا و تصنّع و تجبّر،و إنّما تأويله الإظهار.(2:591)

أبو سهل الهرويّ: و خلق:ضدّ الجديد،و هي البليّة.(التّلويح:74)

ابن سيده: [ذكر نحوا ممّا سبق مع إضافات]

و هو خليق له،أي شبيه.

و الخلاق:الحظّ و النّصيب من الخير و الصّلاح.

و رجل لا خلاق له،أي لا رغبة له في الخير.(4:535)

الخلقاء و الخليقاء:باطن الغار الأعلى.

(الإفصاح 1:65)

الخلق:خلق الشّيء خلاقة،و خلق يخلق خلقا:

املاسّ و لان،فهو أخلق و هي خلقاء.

و الأخلق:المصمت لا يؤثّر فيه شيء.

و الخلقاء:الرّتقاء.(الإفصاح 1:92)

ثوب خلق:بال للمذكّر و المؤنّث؛الجمع:خلقان و أخلاق،و قد خلق كنصر و ضرب و سمع خلوقة و خلوقا و أخلق.

و ثوب أخلاق،إذا كانت الخلوقة فيه كلّه.

و أخلقت فلانا ثوبا:أعطيته إيّاه خلقا.

(الإفصاح 1:383)

خلق الأديم يخلقه خلقا:قدّره لما يريد قبل أن يقطعه،فإذا قطعه فقد فراه.(الإفصاح 2:813)

الخلق:المخلوق،و النّاس،مصدر خلق اللّه الأشياء يخلقها خلقا:أوجدها على تقدير أوجبته حكمته.

و يقال:هم خلق اللّه و خليقة اللّه.

و الخليقة:الطّبيعة الّتي يخلق المرء عليها،و كلّ مخلوق؛الجمع:خليق و خلائق.و اللّه ربّ الخليقة و الخلائق.(الإفصاح 2:1338)

الرّاغب: الخلق:أصله:التّقدير المستقيم، و يستعمل في إبداع الشّيء من غير أصل و لا احتذاء، قال: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الأنعام:1،أي أبدعهما بدلالة قوله: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ البقرة:117.

و يستعمل في إيجاد الشّيء من الشّيء،نحو:

ص: 292

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ النّساء:1، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ النّحل:4، وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ المؤمنون:12، خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الرّحمن:15.

و ليس الخلق الّذي هو الإبداع إلاّ للّه تعالى،و لهذا قال في الفصل بينه و بين غيره: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ النّحل:17،و أمّا الّذي يكون بالاستحالة فقد جعله اللّه تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى؛حيث قال: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي المائدة:110.

و الخلق لا يستعمل في كافّة النّاس إلاّ على وجهين:

أحدهما:في معنى التّقدير.[ثمّ استشهد بشعر]

و الثّاني:في الكذب،نحو قوله: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17.

إن قيل:قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المؤمنون:14،يدلّ على أنّه يصحّ أن يوصف غيره بالخلق.

قيل:إنّ ذلك معناه:أحسن المقدّرين،أو يكون على تقدير ما كانوا يعتقدون و يزعمون أنّ غير اللّه يبدع،فكأنّه قيل:فأحسب أنّ هاهنا مبدعين و موجدين،فاللّه أحسنهم إيجادا على ما يعتقدون،كما قال: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ الرّعد:

16، وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ النّساء:119، فقد قيل:إشارة إلى ما يشوّهونه من الخلقة بالخصاء و نتف اللّحية و ما يجري مجراه،و قيل معناه:يغيّرون حكمه.[ثمّ ذكر الآيات و قال:]

و كلّ موضع استعمل«الخلق»في وصف الكلام فالمراد به:الكذب،و من هذا الوجه امتنع كثير من النّاس من إطلاق لفظ الخلق على القرآن،و على هذا قوله تعالى: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ الشّعراء:

137.(157)

نحوه الفيروزآباديّ.(بصائر ذوي التّمييز 2:566)

الزّمخشريّ: خلق الخرّاز الأديم،و الخيّاط الثّوب:قدّره قبل القطع،و اخلق لي هذا الثّوب.

و صخرة خلقاء:ملساء.

و خلق الثّوب خلوقة و اخلولق،و أخلق.

و أخلقت الثّوب:لبسته حتّى بلي،و ثوب خلق، و ملاءة خلق،و جاء في أخلاق الثّياب و خلقانها.

و خلّق القدح:ملّسه،يكون نضيّا أوّلا فإذا بري و ملّس فهو مخلّق.

و هذا رجل ليس له خلاق،أي حظّ من الخير.

و خلّقه بالخلوق فتخلّق.

و من المجاز:خلق اللّه الخلق:أوجده على تقدير أوجبته الحكمة،و هو ربّ الخليقة و الخلائق.

و امرأة خليقة:ذات خلق و جسم.و رجل مختلق:

حسن الخلقة،و امرأة مختلقة.و يقال للفرس ربّما أجاد الأحذّ من الحضر،و ليس بمختلق.

و له خلق حسن و خليقة،و هي ما خلق عليه من طبيعته و تخلّق بكذا.

و خالق النّاس:و لا تخالفهم.

و هو خليق لكذا:كأنّما خلق له و طبع عليه،و هم

ص: 293

خلقاء لذلك،و قد خلق خلاقة.

و خلق الإفك و اختلقه.

و يقال للسّائل:أخلقت وجهك.و أخلق شبابه:

ولّى.

و ضربه على خلقاء جبهته،أي على مستواها، و سحبوا على خلقاوات جباههم.

(أساس البلاغة:119)

في حديث عمر«...إنّما الفقير الأخلق الكسب» هو الأملس المصمت الّذي لا يؤثّر فيه شيء،من قولهم:

حجر أخلق،و صخرة خلقاء.

و معنى وصف الكسب بذلك أنّه وافر منتظم،لا يقع فيه وكس و لا يتحيّفه نقصان.أراد أنّ عادة اللّه في المؤمن أن تلمّ به المرازئ فيما يملكه،فيثاب على صبره فيها،فإذا لم يزل معافى منها موفورا كان فقيرا من الثّواب،و هو الفقر الأعظم.(الفائق 1:392)

المدينيّ: في حديث عمّار رضى اللّه عنه:«خلّقوني بزعفران»أي لطّخوني بالخلوق،و هو طيب معروف من الزّعفران و غيره يتضمّخ به الرّجل.يقال:خلّقته به فتخلّق،أي تلطّخ.

و في حديث عمر بن عبد العزيز:«في امرأة خلقاء» أي رتقاء،سمّيت به،لأنّ ما معها مصمت منسدّ المسلك، و الأخلق:الأملس،و قد خلق.و يقال للسّماء:

الخلقاء لملاستها،كما يقال لها:الجرباء لكواكبها، و الأخلق من الفراسين:ما لا شقّ فيه.

قوله عليه الصّلاة و السّلام:«إنّ العبد ليدرك بحسن خلقه»أي دينه،و ليس شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق.

«و أكثر ما يدخل النّاس الجنّة تقوى اللّه و حسن الخلق»أي الدّين.

فأمّا قوله:«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» أي سجيّة.

في حديث ابن مسعود و قتله أبا جهل:«بفخذه حلقة كحلقة الجمل المخلّق»أي تامّ الخلق،من قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ الحجّ:5.(1:611)

ابن الأثير: في أسماء اللّه تعالى:«الخالق»و هو الّذي أوجد الأشياء جميعها بعد أن لم تكن موجودة.

و أصل الخلق:التّقدير،فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها،و باعتبار الإيجاد على وفق التّقدير خالق.

و في حديث الخوارج«هم شرّ الخلق و الخليقة».

الخلق:النّاس،و الخليقة:البهائم.و قيل:هما بمعنى واحد،و يريد بهما جميع الخلائق.

و فيه:«ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق».الخلق-بضمّ اللاّم و سكونها-:الدّين و الطّبع و السّجيّة،و حقيقته أنّه لصورة الإنسان الباطنة و هي نفسه،و أوصافها و معانيها المختصّة بها بمنزلة الخلق، لصورته الظّاهرة و أوصافها و معانيها،و لهما أوصاف حسنة و قبيحة،و الثّواب و العقاب ممّا يتعلّقان بأوصاف الصّورة الباطنة أكثر ممّا يتعلّقان بأوصاف الصّورة الظّاهرة،و لهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع.

و قوله:«بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» و أحاديث من هذا النّوع كثيرة،و كذلك جاء في ذمّ

ص: 294

سوء الخلق أحاديث كثيرة.

و في الحديث:«ليس لهم في الآخرة من خلاق» الخلاق بالفتح:الحظّ و النّصيب.

و منه حديث أبيّ: «و أمّا طعام لم يصنع إلا لك فإنّك إن أكلته إنّما تأكل منه بخلاقك»أي بحظّك و نصيبك من الدّين.قال له ذلك في طعام من أقرأه القرآن،و قد تكرّر ذكره في الحديث.

و في حديث أبي طالب:«إن هذا إلاّ اختلاق»أي كذب،و هو«افتعال»من الخلق و الإبداع،كأنّ الكاذب يخلق قوله.و أصل الخلق:التّقدير قبل القطع.

و منه حديث أخت أميّة بن أبي الصّلت:«قالت:

فدخل عليّ و أنا أخلق أديما»أي أقدّره لأقطعه.

و في حديث أمّ خالد:«قال لها أبلي و أخلقي» يروى بالقاف و الفاء،فبالقاف من إخلاق الثّوب:

تقطيعه،و قد خلق الثّوب و أخلق.و أمّا الفاء فبمعنى العوض و البدل،و هو الأشبه.و قد تكرّر الإخلاق بالقاف في الحديث.

[ثمّ ذكر جملة من الأحاديث المتقدّمة إلى أن قال:]

يقال:خلق بالضّمّ،و هو أخلق به،و هذا مخلقة لذلك،أي هو أجدر،و جدير به.

و منه خطبة ابن الزّبير:«إنّ الموت قد تغشّاكم سحابه،و أحدق بكم ربابه،و اخلولق بعد تفرّق» و هذا البناء للمبالغة،و هو افعوعل،كاغدودن و اعشوشب.(2:70)

الفيّوميّ: خلق اللّه الأشياء خلقا،و هو الخالق و الخلاّق.و قال الأزهريّ:و لا تجوز هذه الصّفة بالألف و اللاّم لغير اللّه تعالى.

و أصل الخلق:التّقدير،يقال:خلقت الأديم للسّقاء،إذا قدّرته له.

و خلق الرّجل القول خلقا:افتراه،و اختلقه مثله.

و الخلق:المخلوق،«فعل»بمعنى مفعول،مثل ضرب الأمير.

و الخلق بضمّتين:السّجيّة.

و الخلاق مثل سلام:النّصيب.

و خلق الثّوب بالضّمّ:إذا بلي،فهو خلق بفتحتين.

و أخلق الثّوب بالألف:لغة،و أخلقته،يكون الرّباعيّ لازما و متعدّيا.

و الخلوق مثل رسول:ما يتخلّق به من الطّيب.

قال بعض الفقهاء:و هو مائع فيه صفرة.و الخلاق مثل كتاب:بمعناه.و خلّقت المرأة بالخلوق تخليقا فتخلّقت هي به.

و الخلقة:الفطرة،و ينسب إليها على لفظها، فيقال:عيب خلقيّ،و معناه:موجود من أصل الخلقة، و ليس بعارض.(1:180)

الجرجانيّ: الخلق:عبارة عن هيئة للنّفس راسخة،تصدر عنها الأفعال بسهولة و يسر،من غير حاجة إلى فكر و رويّة.

فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا و شرعا بسهولة،سمّيت الهيئة خلقا حسنا،و إن كان الصّادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة الّتي هي المصدر خلقا سيّئا.

و إنّما قلنا:إنّه هيئة راسخة،لأنّ من يصدر منه

ص: 295

بذل المال على النّدور بحالة عارضة،لا يقال:خلقه السّخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه،و كذلك من تكلّف السّكوت عند الغضب بجهد أو رويّة،لا يقال:خلقه الحلم.

و ليس الخلق عبارة عن الفعل فربّ شخص خلقه السّخاء و لا يبذل إمّا لفقد المال أو لمانع،و ربّما يكون خلقه البخل و هو يبذل لباعث أو رياء.

الخلق:هو أن يجمع بين ماء التّمر و الزّبيب، و يطبخ بأدنى طبخة،و يترك إلى أن يغلي و يشتدّ.(45)

الفيروزآباديّ: الخلق:التّقدير.

و الخالق في صفاته تعالى:المبدع للشّيء المخترع على غير مثال سبق،و صانع الأديم و نحوه.

و خلق الإفك:افتراه كاختلقه و تخلّقه.

و الشّيء ملّسه و ليّنه.

و الكلأ و غيره:صنعه و الأديم و النّطع خلقا.

و خلقة بفتحهما:قدّره و حزره،أو قدّره قبل أن يقطعه؛فإذا قطعه،قيل:فراه،و العود:سوّاه كخلّقه.

و خلق كفرح و كرم:املاسّ؛حجر أخلق و صخرة خلقاء.

و ككرم:صار خليقا،أي جديرا،و المرأة خلاقة:

حسن خلقها.

و قصيدة مخلوقة:منحولة.

و خوالقها-في قول لبيد-أي جبالها الملس.

و الخليقة:الطّبيعة و النّاس كالخلق و البهائم، و البئر ساعة تحفر.

و الخلائق:قلات بذروة الصّمان تمسك ماء السّماء.

و كسفينة:موضع بالحجاز،و ماء بين مكّة و يمامة، و امرأة الحجّاج بن مقلاص محدّثة.

و خلق الثّوب كنصر و كرم و سمع خلوقة و خلقا محرّكة:بلي.و مخلقة بذلك كمرحلة مجدرة.و سحابة خلقة كفرحة،و سفينة فيها أثر المطر.

و الخلق محرّكة:البالي للمذكّر و المؤنّث؛جمعه:

خلقان.

و ملحفة خليق كزبير،صغّروه بلا هاء،لأنّ الهاء لا تلحق تصغير الصّفات كنصيف في امرأة نصف، و ثوب أخلاق،إذا كانت الخلوقة فيه كلّه.

و كصبور و كتاب:ضرب من الطّيب.

و كسحاب:النّصيب الوافر من الخير.

و الخلق بالضّمّ و بضمّتين:السّجيّة و الطّبع، و المروءة و الدّين.

و الأخلق:الأملس المصمت و الفقير.

و الخلقة بالكسر:الفطرة كالخلق،و بالضّمّ:

الملاسة كالخلوقة و الخلاقة،و بالتّحريك:السّحابة المستوية المخيلة للمطر.

و الخلقاء:من الفراسن:الّتي لا شقّ فيها،و الرّتقاء كالخلّق كركّع،و الصّخرة ليس فيها وصم و لا كسر، و هي بيّنة الخلق محرّكة.و من البعير و غيره:جنبه، و يقال:ضربت على خلقاء جنبه أيضا.و من الغار:

باطنه،و من الجبهة:مستواها كالخليقاء فيهما.

و الخليقاء من الفرس:كالعرنين منّا.

و أخلقه:كساه ثوبا خلقا.

ص: 296

و مضغة مخلّقة كمعظّمة:تامّة الخلق.

و كمعظّم:القدح إذا ليّن.

و خلّقه تخليقا طيّبة،فتخلّق به.

و المختلق:التّامّ الخلق المعتدلة،و تخلّق بغير خلقه:

تكلّفه.

و اخلولق السّحاب:استوى،و صار خليقا للمطر،و الرّسم استوى للأرض،و متن الفرس امّلس، و خالقهم:عاشرهم بخلق حسن.(3:236)

الطّريحيّ: و في الحديث ذكر«الخلوق»كرسول على ما قيل:طيب مركّب يتّخذ من الزّعفران و غيره من أنواع الطّيب،و الغالب عليه الصّفرة أو الحمرة.

و منه الحديث:«و تحشوها القابلة بالخلوق».

و فيه:«قيام اللّيل تمسّك بأخلاق النّبيّين»أي بسجاياهم و عاداتهم.

و الخلق:السّجيّة،و منه:«و أكره أن أتّخذ ذلك خلقا»أي عادة و طبعا.

و الخلق:كيفيّة نفسانيّة تصدر عنها الأفعال بسهولة،و فيه:«من صفات أهل الدّين حسن الخلق».

و فيه:«ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق».هو بضمّ لام و سكونها:الدّين و الطّبع و السّجيّة.

و فسّر في الحديث:بأن تليّن جناحك و تطيّب كلامك،و تلقى أخاك ببشر.

و بعض الشّارحين:حقيقة حسن الخلق أنّه لصورة الإنسان الباطنة و هي نفسه،و أوصافها و معانيها المختصّة بها،بمنزلة الخلق لصورته الظّاهرة و أوصافها و معانيها،و لها أوصاف حسنة و قبيحة، و الثّواب و العقاب يتعلّقان بأوصاف الصّورة الباطنة أكثر ممّا يتعلّقان بأوصاف الصّورة الظّاهرة،و لهذا تكرّر مدح حسن الخلق و ذمّ سوئه في الأحاديث.

و في الحديث:«من سعادة الرّجل أن يكون له ولد يعرف فيه شبه خلقه و خلقه»و فلان يتخلّق بغير خلقه،أي يتكلّفه.و الخلقة:الفطرة.

و الخليقة:الطّبيعة؛و الجمع:الخلائق.[إلى أن قال:]

و قوله عليه السّلام:«ما أخلقك أن تمرض سنة!»كأنّ المعنى:ما أليق بك و أجدر بك ذلك!

و خلق الثّوب بالضّمّ:إذا بلي،فهو خلق بفتحتين.

و أخلق الثّوب مثله.و ثوب أخلاق،إذا كان الخلوقة فيه كلّه.

و اخلولق الأجل،إذا تقادم عهده.

و في الحديث:«خلقت الخير و أجريته على يدي من أحبّ،و خلقت الشّرّ و أجريته على يدي من أريده».

المراد بخلق الخير و الشّرّ:تقدير،لا خلق تكوين.

و معنى خلق التّقدير:نقوش في اللّوح المحفوظ.و معنى خلق التّكوين:وجود الخير و الشّرّ في الخارج،و هو من فعلنا.

و مثله:«إنّ اللّه خلق السّعادة و الشّقاوة»و بهذا يندفع ما يقال:إنّه ورد في النّقل الصّحيح:أنّه خالق الخير و الشّرّ.

و كذا قوله تعالى بعد ذكر الحسنة و السّيّئة:(قل)

ص: 297

كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ النّساء:77،على أنّه ممكن أن يراد بالخير:ما كان ملائما للطّباع كالمستلذّ من المدركات، و بالشّرّ ما يلائم كخلق الحيّات و العقارب و المؤذيات، فإنّها تشتمل على حكمة لا نعلم تفصيلها.

و في أوّل ما خلقه اللّه تعالى:«و لو كان أوّل ما خلقه الشّيء من الشّيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا، و لم يزل اللّه و معه شيء ليس هو يتقدّمه».

قال بعض الشّارحين:فيه ردّ على ما زعمته الفلاسفة و من تابعهم:أنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة، و لو صحّ ذلك للزم محالان:أحدهما:التّسلسل في جانب المبدإ،و الثّاني:خلاف ما أجمعت عليه البراهين القطعيّة.(5:157)

العدنانيّ: حسن الأخلاق أو حميدها لا خلوق.

و يقولون:فلان خلوق،أي ذو أخلاق سامية.

و الصّواب:فلان حسن الأخلاق أو حميدها،لأنّ «الخلوق»هو:ضرب من الطّيب،يتّخذ من الزّعفران و غيره،و تغلب عليه الحمرة و الصّفرة،كما يقول:

جامع الكرمانيّ،و الصّحاح،و الأساس،و المغرب للمطرّزيّ،و المختار،و اللّسان،و المصباح،و القاموس ،و التّاج،و مدّ القاموس،و محيط المحيط،و المتن، و الوسيط.

و هنالك الخلاق بمعنى الخلوق،كما يقول:

اللّحيانيّ،و اللّسان،و المصباح،و القاموس،و التّاج، و المدّ،و محيط المحيط،و المتن،و الوسيط.

و جاء في اللّسان:

1-تخلّق:تطيّب بالخلوق.

2-خلّقته:طيّبته بالخلوق،أو طليته به.

3-خلّقت المرأة جسمها:طلته بالخلوق.

و هنالك:خلق فلان:حسن خلقه و تمّ،فهو و هي خليق.و قال اللّيث:امرأة خليقة:ذات جسم و خلق، و لا ينعت به الرّجل.

أمّا الخلوق فهو:

أ-أحد مصادر الفعل خلق الثّوب:بلي.

ب-جمع نادر ل(الخلق):بمعنى المخلوق،حكاه اللّحيانيّ.

خلق الثّوب،أخلق الثّوب و أخلق الثّوب.

و يخطّئون من يقول:أخلق الثّوب،أي:بلي،لأنّ القاموس اكتفى بذكر خلق الثّوب،و عند ما ذكر «أخلقه»قال:كساه ثوبا خلقا،أي باليا.و لأنّ الهمزة إذا وضعت في أوّل الثّلاثيّ اللاّزم جعلته متعدّيا قياسا.

و لكنّ:الفعل«أخلق»هنا من الأفعال الشّاذّة، الّتي تكون لازمة و متعدّية،كما جاء في أدب الكاتب «باب أبنية الأفعال»و الألفاظ الكتابيّة للهمذانيّ «باب الإخلاق»،و جامع الكرمانيّ،و الصّحاح، و معجم مقاييس اللّغة،و مفردات الرّاغب الأصفهانيّ، و الأساس،و المختار،و اللّسان،و المصباح،و التّاج، و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن و الوسيط.

و شاهد أخلق الثّوب قول أبي الأسود الدّوليّ.

[ثمّ استشهد بشعر]

و يجوز أن نقول:أخلق الثّوب.و يأتي الفعل «اخلولق»بمعنى:بلي.أمّا فعله فهو:خلق يخلق،

ص: 298

و خلق يخلق،و خلق يخلق خلوقة،و خلقا،و خلاقة، و خلوقا.و نقول:خلق الثّوب فهو:خلق.

[و قد استشهد بأشعار]

رشاد خليق بالاحترام،و له،و منه

و يخطّئون من يقول:رشاد خليق للاحترام، و يقولون:إنّ الصّواب هو رشاد خليق بالاحترام.

و الحقيقة هي أنّنا نستطيع أن نقول:

أ-هو خليق بالاحترام:الكسائيّ،و اللّحيانيّ، و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و النّهاية، و المختار،و اللّسان،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط، و أقرب الموارد،و المتن،و الوسيط.

ب-أو هو خليق للاحترام:اللّحيانيّ،و الصّحاح، و الأساس مجاز،و اللّسان،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و المتن،و الوسيط.

ج-أو هو خليق من الاحترام:اللّحيانيّ،و ابن السّكّيت في«باب المقاربة في الشّيء و الخلاقة»و قد ورد في كتابه الألفاظ:«مخلقة منه كذا و كذا» و اللّسان،و التّاج،و المدّ،و المتن.

و نستطيع أن نقول أيضا:

1-إنّه لخليق أن يفعل ذلك.

2-إنّه لخليق بأن يفعل ذلك.

3-إنّه لخليق لأن يفعل ذلك.

4-إنّه لخليق من أن يفعل ذلك.

و نستطيع أن نضع«خلق»أو«مخلقة»بدلا من «خليق»في الجمل الأربع الأخيرة.

أمّا جملة:«هو خليق للخير»فمعناها:هو مطبوع على الخير.و فعله هو:خلق يخلق خلاقة:جدر.

(203)

مجمع اللّغة :1-خلق الشّيء يخلقه خلقا:

أبدعه من غير أصل و لا احتذاء؛و ذلك لا يكون إلاّ للّه عزّ و جلّ،فهو الّذي أبدع الأشياء على غير مثال،بعد أن لم تكن.

و قد ورد الفعل بهذا المعنى في الكتاب العزيز مثبتا للّه عزّ و جلّ و منفيّا عمّا سواه.

2-خلق الشّيء يخلقه:صوّره.يقال:خلق الأديم،إذا قدّره لما يريد قبل القطع،أي قاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو نحو ذلك.

3-خلق الكلام:افتعله و كذب فيه.يقال:فلان يخلق الكذب و الإفك،و فلان يحدّث بأحاديث الخلق و هي الخرافات من الأحاديث المفتعلة.

4-الخلق:استعمل في القرآن على أوجه ثلاثة:

أ-بالمعنى المصدريّ.

ب-بمعنى المخلوق.

ج-صالح للمعنى المصدريّ و لمعنى المخلوق.

خلق:بالمعنى المصدريّ،في قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ الكهف:51.

خلق:بمعنى المخلوق في قوله تعالى: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ النّساء:119.

خلق:ما صلح للمعنى المصدريّ و لمعنى المخلوق في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ...

البقرة:164.

ص: 299

الخلق:بالمعنى المصدريّ في قوله تعالى: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ق:15.

الخلق:بمعنى المخلوق في قوله تعالى: وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً الأعراف:69.

الخلق:ما صلح للمعنى المصدريّ و لمعنى المخلوق في قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الأعراف:54.

خلقا:بالمعنى المصدريّ في قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ الزّمر:6.

خلقا:بمعنى المخلوق في قوله تعالى: وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً الإسراء:49.

خلقا:ما يصلح للمعنى المصدريّ و لمعنى المخلوق، في قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا الصّافّات:11.

5-و الخالق:الموجد؛و جمعه:خالقون.

و الخالق:من صفات اللّه تعالى،و الخلاّق:أيضا من صفات اللّه.

6-و خلّق العود تخليقا:سوّاه،فالعود مخلّق و هي مخلّقة.

7-اختلق القول اختلاقا:افتراه،و هو«افتعال» من خلق بمعنى كذب.

8-الخلق:السّجيّة و الطّبع،و ما يجري عليه المرء من عادة لازمة.

9-الخلاق:الحظّ و النّصيب من الخير.(1:356)

محمّد إسماعيل إبراهيم:خلق الشّيء:أوجده و أبدعه عن تقدير و حكمة،و من غير أصل و لا قدوة.

خلق الإفك و اختلقه اختلاقا:افتراه و اخترعه.

و الخالق:اسم من أسماء اللّه الحسنى،بمعنى الّذي خلق المخلوقات كلّها بذاتها و نوعها،على مقتضى إرادته و حكمته،على غير مثال سابق.مضغة مخلّقة، تامّة الخلق،و التّكوين.

و الخلاق:الحظّ و النّصيب من الخير،نتيجة ما تخلّق به الإنسان من الفضائل.

و الخلق:السّجيّة و الطّبع و المروءة،أعطى كلّ شيء خلقه:منحهم كلّ شيء،أو خلقه على صورة تحقّق المنفعة المنوطة به.و خلق الأوّلين:دينهم و اعتقادهم.استمتعوا بخلاقهم:تمتّعوا بنصيبهم.

(1:172)

المصطفويّ: و التّحقيق أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة:هو إيجاد شيء على كيفيّة مخصوصة،و بما أوجبته إرادته و اقتضته الحكمة.راجع:«ب د ع».

و الفرق بين الخلق و الإيجاد و الإحداث و الإبداع و الجعل و الاختراع و التّكوين:أنّ النّظر في الإيجاد إلى جهة إبداع الوجود فقط،و في الإحداث إلى الإيجاد من جهة الحدوث و كونه حادثا،و في الإبداع إلى الإيجاد على كيفيّة لم يسبقها غيرها،و في الخلق إلى كون الإيجاد على كيفيّة مخصوصة،و في الاختراع إلى جهة الاشتقاق بسهولة،و في التّقدير إلى جهة التّحديد و تعيين الحدود فقط،و في التّكوين إلى الإيجاد و من جهة حالة الكون و البقاء إجمالا،و في الجعل إلى جهة إحداث تعلّق و ارتباط.

ص: 300

فهذه الخصوصيّة ملحوظة في موارد استعمال المادّة،و ليس مفهوم التّقدير و الملاسة و البلي و التّماميّة و الطّبيعة و النّصيب و الاستواء من حيث هو من مصاديق الأصل الواحد،بل بلحاظ تحقّق الإيجاد على خصوصيّة معيّنة،و إنّما يعبّر في هذه الموارد بالمادّة المزبورة:للإشارة إلى التّأكيد أو المبالغة أو لطيفة أخرى.

و يدلّ على أنّ الخلق غير التّقدير و التّسوية و التّصوير:قوله تعالى: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2، اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى البقرة:

87، خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ هود:7،فإنّ التّقدير قد تحقّق بعد الخلق،و كذلك التّسوية و التّصوير.

و يدلّ على كونه غير الإيجاد و الإبداع:قوله تعالى: خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً الفرقان:54، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ النّحل:4،...ممّا يدلّ على صدق مفهوم الخلق إذا كان من مادّة و سابقة.

و على هذا يجوز إطلاق«الخالق»على غير اللّه المتعال،فإنّ إحداث شيء على خصوصيّة و صورة معيّنة من مادّة موجودة،ممكن لغيره تعالى.و بهذا اللّحاظ صحّ التّعبير.[ثمّ ذكر الآيات راجع النّصوص التّفسيريّة](3:115)

النّصوص التّفسيريّة

خلق
اشارة

1- هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ... البقرة:29

الإمام عليّ عليه السّلام:خلق لكم لتعتبروا به و تتوصّلوا به إلى رضوانه،و تتوقّوا من عذاب نيرانه.

(الكاشانيّ 1:92)

ابن عبّاس: سخّر لكم.(6)

نحوه قتادة.(الطّبريّ 1:227)

مجاهد :سخّر لكم ما في الأرض جميعا.خلق اللّه الأرض قبل السّماء،فلمّا خلق الأرض ثار منها دخان،فذلك قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ يقول:خلق سبع سماوات بعضهنّ فوق بعض،و سبع أرضين بعضهنّ تحت بعض.

(الدّرّ المنثور 1:106)

ابن عطاء: خَلَقَ لَكُمْ ليكون الكون كلّه لك و تكون للّه،فلا تشتغل بما لك عمّا أنت له.

(أبو حيّان 1:134)

الثّوريّ: أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق،و العطف ب(ثمّ)يقتضي التّراخي في الزّمان،و لا زمان إذ ذاك.(أبو حيّان 1:134)

الزّجّاج: موضع(ما)مفعول به،و تأويله أنّ جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم.و فيه قول آخر:

إنّ ذلكم دليل توحيد اللّه عزّ و جلّ.(1:107)

الثّعلبيّ: لأجلكم.(1:73)

الطّوسيّ: يعني الّذي في الأرض.و(ما)في موضع نصب،لأنّ الأرض و جميع ما فيها نعمة من اللّه لخلقه:

إمّا دينيّة فيستدلّون بها على معرفته،و إمّا دنيويّة فينتفعون بها بضروب النّفع عاجلا.(1:124)

نحوه الطّبرسيّ.(1:71)

ص: 301

القشيريّ: سخّر لهم جميع المخلوقات،على معنى حصول انتفاعهم بكلّ شيء منها،فعلى الأرض يستقرّون،و تحت السّماء يسكنون،و بالنّجم يهتدون، و بكلّ مخلوق بوجه آخر ينتفعون.لا،بل ما من عين و أثر فكّروا فيه إلاّ و كمال قدرته و ظهور ربوبيّته به يعرفون.

و يقال:مهّد لهم سبيل العرفان،و نبّههم إلى ما خصّهم به من الإحسان،ثمّ علّمهم علوّ الهمّة؛حيث استخلص لنفسه أعمالهم و أحوالهم،فقال: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ فصّلت:37.(1:86)

الواحديّ: أي لأجلكم،فما في الأرض كلّه مخلوق للآدميّين،بعضه للانتفاع و بعضه للاعتبار، كالسّباع و العقارب و الحيّات،فإنّ فيها عبرة و تخويفا،لأنّه إذا رؤي طرف من المتوعّد به كان ذلك أبلغ في الزّجر عن المعصية.(1:111)

نحوه ملخّصا ابن الجوزيّ.(1:58)

البغويّ: لكي تعتبروا و تستدلّوا،و قيل:لكي تنتفعوا.(1:101)

الميبديّ: لمّا سمع مشركوا العرب حديث إحياء الموتى،أنكروه،و قالوا:من يعيدنا إذا متنا و كنّا ترابا و عظاما؟فأجابهم اللّه بقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي من خلق كلّ ما في الأرض من الإنسان و غيره،قادر على أن يخلقكم بعد أن صرتم ترابا.[إلى أن قال:]

و(خلق)إشارة إلى الفعل،يقول:خلقت لكم كلّ ما في الأرض من الجبال و البحار و ما فيها من الجواهر و المعادن و العيون و الأنهار و النّبات،و من الحيوان صامت و ناطق،و الطّيور و الحيّ و البهائم، و الحرّ و البرد،و النّور و الظّلمة،و السّكون و الحركة، خلقت لكم هذه النّعم كلّها،و لا طاقة لكم على عدّها؛ حيث قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها إبراهيم:34،فقد خلقتكم و هذه النّعم لأمرين:

الأوّل:تعيشون في الدّنيا بنعمتي،و تقضون أيّامكم بمنّتي،و تنتفعون بعطيّتي.

و الثّاني:تعرفون المنعم بها،و تهتدون إلى وحدانيّة الصّانع بصنائعه.

و قيل:إنّ هذه الآية ردّ على القدريّة،الّذين يفسّرون قوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً على الإطلاق دون تقييد،أي إنّ الكفر و الفساد و المعاصي داخلة تحتها لا محالة.و ليس كما قال القدريّون:إنّها تختصّ الأجسام و لا تختصّ الأفعال و الأعراض؛إذ ليس في الآية تغيير و تخصيص،و ما مقتضى لفظ الإطلاق إلاّ العموم و الاستغراق.

و قال بعض المتكلّمين:إنّ قوله: خَلَقَ لَكُمْ دليل على الإباحة لا الحظر.

و الجواب:أنّ هذه اللاّم ليست لام التّمليك و لا الإضافة،بل هي لام التّعريف و البيان،فكأنّه يعرّفنا أنّه خلقها لأجل منافعنا و موقع حاجاتنا؛بعضها لانتفاع و بعضها لاعتبار،فكيف لا يكون الحظر و المنع في هذه الآية،و هو موجود في الأخبار و السّنن؟!فقد بيّن بعد هذه الآية الأخبار و الآثار،و فصّل في ذلك، فحرّم بعضها و حلّل بعضها.(1:124)

ص: 302

الزّمخشريّ: لأجلكم و لانتفاعكم به في دنياكم و دينكم،أمّا الانتفاع الدّنيويّ فظاهر،و أمّا الانتفاع الدّينيّ فالنّظر فيه و ما فيه من عجائب الصّنع الدّالّة على الصّانع القادر الحكيم،و ما فيه من التّذكير بالآخرة و بثوابها و عقابها،لاشتماله على أسباب الأنس و اللّذّة،من فنون المطاعم و المشارب و الفواكه و المناكح و المراكب و المناظر الحسنة البهيّة،و على أسباب الوحشة و المشقّة من أنواع المكاره،كالنّيران و الصّواعق و السّباع و الأحناش و السّموم و الغموم و المخاوف.و قد استدلّ بقوله: خَلَقَ لَكُمْ على أنّ الأشياء الّتي يصحّ أن ينتفع بها و لم تجر مجرى المحظورات في العقل،خلقت في الأصل مباحة مطلقا لكلّ أحد أن يتناولها و يستنفع بها.

فإن قلت:هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض و ما فيها وجه صحّة؟

قلت:إن أراد ب(الارض:)الجهات السّفليّة دون الغبراء كما تذكر السّماء و تراد الجهات العلويّة جاز ذلك،فإنّ الغبراء و ما فيها واقعة في الجهات السّفليّة.(1:270)

نحوه ملخّصا النّسفيّ(1:39)و النّيسابوريّ(1:

224).

ابن عطيّة: معناه:اخترع و أوجد بعد العدم،و قد يقال في الإنسان:«خلق»بعد إنشائه شيئا.

(لكم)معناه:للاعتبار،و يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده من نصب العبر:الإحياء و الإماتة،و الخلق، و الاستواء إلى السّماء و تسويتها.

و قال قوم:بل معنى(لكم)إباحة الأشياء و تمليكها،و هذا قول من يقول:إنّ الأشياء قبل ورود السّمع على الإباحة بيّنته هذه الآية،و خالفهم في هذا التّأويل القائلون بالحظر،و القائلون بالوقف،و أكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتّنفّس و الحركة،و يردّ على القائلين بالحظر كلّ حظر في القرآن و على القائلين بالإباحة كلّ تحليل في القرآن و إباحة،و يترجّح الوقف إذا قدّرنا نازلة لا يوجد فيها سمع و لا تتعلّق به.

(1:115)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ هذا هو النّعمة الثّانية الّتي عمّت المكلّفين بأسرهم و ما أحسن ما رعى اللّه سبحانه و تعالى هذا التّرتيب!فإنّ الارتفاع بالأرض و السّماء إنّما يكون بعد حصول الحياة،فلهذا ذكر اللّه أمر الحياة أوّلا،ثمّ أتبعه بذكر السّماء و الأرض.

أمّا قوله:(خلق)فقد مرّ تفسيره في قوله:

يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ... البقرة:

21،و أمّا قوله:(لكم)فهو يدلّ على أنّ المذكور بعد قوله:(خلق)لأجل انتفاعنا في الدّين و الدّنيا،أمّا في الدّنيا فليصلح أبداننا و لنتقوّى به على الطّاعات،و أمّا في الدّين فللاستدلال بهذه الأشياء و الاعتبار بها، و جمع بقوله: ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً جميع المنافع، فمنها ما يتّصل بالحيوان و النّبات و المعادن و الجبال، و منها ما يتّصل بضروب الحرف و الأمور الّتي استنبطها العقلاء،و بيّن تعالى:أنّ كلّ ذلك إنّما خلقها كي ينتفع بها،كما قال: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ

ص: 303

وَ ما فِي الْأَرْضِ الجاثية:13،فكأنّه سبحانه و تعالى قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ البقرة:28،و كيف تكفرون باللّه و قد خلق لكم ما في السّماوات و ما في الأرض جميعا،أو يقال:كيف تكفرون بقدرة اللّه على الإعادة و قد أحياكم بعد موتكم،و لأنّه خلق لكم ما في الأرض جميعا فكيف يعجز عن إعادتكم؟ثمّ إنّه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سور مختلفة،كما قال: أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا عبس:25،و قال في أوّل سورة:«أتى أمر اللّه»: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ النّحل:5،إلى آخره،و هاهنا مسائل:

المسألة الأولى:قال أصحابنا:إنّه سبحانه و تعالى لا يفعل فعلا لغرض،لأنّه لو كان كذلك كان مستكملا بذلك الغرض،و المستكمل بغيره ناقص بذاته،و ذلك على اللّه تعالى محال.فإن قيل:فعله تعالى معلّل بغرض غير عائد إليه بل إلى غيره.قلنا:عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى للّه تعالى من عود ذلك الغرض إليه أو ليس أولى؟فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور،و إن كان الثّاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضا للّه تعالى،فلا يكون مؤثّرا فيه.

و ثانيها:أنّ من فعل فعلا لغرض كان عاجزا عن تحصيل ذلك الغرض إلاّ بواسطة ذلك الفعل،و العجز على اللّه تعالى محال.

و ثالثها:أنّه تعالى لو فعل فعلا لغرض،لكان ذلك الغرض إن كان قديما لزم قدم الفعل،و إن كان محدثا كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر،و يلزم التّسلسل و هو محال.

و رابعها:أنّه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلّفين،و لو توقّفت فاعليّته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقّهم،لكنّه قد فعل ذلك حيث كلّف من علم أنّه لا يؤمن.ثمّ إنّهم تكلّموا في اللاّم في قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً و في قوله: إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:

56،فقالوا:إنّه تعالى لمّا فعل ما لو فعله غيره،لكان فعله لذلك الشّيء لأجل الغرض،لا جرم أطلق اللّه عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة.

المسألة الثّانية:احتجّ أهل الإباحة بقوله تعالى:

خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أنّه تعالى خلق الكلّ للكلّ،فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا و هو ضعيف،لأنّه تعالى قابل الكلّ بالكلّ،فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد،و التّعيين يستفاد من دليل منفصل، و الفقهاء رحمهم اللّه استدلّوا به على أنّ الأصل في المنافع الإباحة،و قد بيّنّاه في أصول الفقه.

المسألة الثّالثة:قيل:إنّها تدلّ على حرمة أكل الطّين،لأنّه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.و لقائل أن يقول:في جملة الأرض ما يطلق عليه أنّه في الأرض فيكون جمعا للموضعين،و لا شكّ أنّ المعادن داخلة في ذلك،و كذلك عروق الأرض و ما يجري مجرى بعض لها،و لأنّ تخصيص الشّيء بالذّكر لا يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه.

المسألة الرّابعة:قوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً تقتضي أنّه لا تصحّ الحاجة على اللّه تعالى،

ص: 304

و إلاّ لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضا لا لغيره.

(2:154)

ابن عربيّ: أي الجهة السّفليّة الّتي هي العالم العنصريّ جميعا،لكونها مبادئ خلقكم،و موادّ وجودكم و بقاءكم.(1:35)

القرطبيّ: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فيه عشر مسائل:

الأولى:(خلق)معناه:اخترع و أوجد من العدم، و قد يقال في الإنسان:«خلق»عند إنشائه شيئا.

و قال ابن كيسان: خَلَقَ لَكُمْ أي من أجلكم.

و قيل:المعنى أنّ جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم.و قيل:إنّه دليل على التّوحيد و الاعتبار.قلت:

و هذا هو الصّحيح على ما نبيّنه.و يجوز أن يكون عنى به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء.

الثّانية:استدلّ من قال:إنّ أصل الأشياء الّتي ينتفع بها الإباحة،بهذه الآية و ما كان مثلها،كقوله:

وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ الجاثية:13،حتّى يقوم الدّليل على الحظر.

و عضدوا هذا بأن قالوا:إنّ المآكل الشّهيّة خلقت مع إمكان ألاّ تخلق فلم تخلق عبثا،فلا بدّ لها من منفعة، و تلك المنفعة لا يصحّ رجوعها إلى اللّه تعالى لاستغنائه بذاته،فهي راجعة إلينا،و منفعتنا إمّا في نيل لذّتها أو في اجتنابها لنختبر بذلك أو في اعتبارنا بها،و لا يحصل شيء في تلك الأمور إلاّ بذوقها،فلزم أن تكون مباحة.

و هذا فاسد،لأنّا لا نسلّم لزوم العبث من خلقها إلاّ لمنفعة بل خلقها كذلك،لأنّه لا يجب عليه أصل المنفعة،بل هو الموجب،و لا نسلّم حصر المنفعة فيما ذكروه،و لا حصول بعض تلك المنافع إلاّ بالذّوق،بل قد يستدلّ على الطّعوم بأمور أخر،كما هو معروف عند الطّبائعيّين.ثمّ هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة،و معارضون بشبهات أصحاب الحظر.

و توقّف آخرون و قالوا:ما من فعل لا ندرك منه حسنا و لا قبحا إلاّ و يمكن أن يكون حسنا في نفسه و لا معيّن قبل ورود الشّرع،فتعيّن الوقوف إلى ورود الشّرع.و هذه الأقاويل الثّلاثة للمعتزلة،و قد أطلق الشّيخ أبو الحسن و أصحابه و أكثر المالكيّة و الصّيرفيّ في هذه المسألة القول بالوقف.و معناه عندهم:أنّه لا حكم فيها في تلك الحال،و أنّ للشّرع إذا جاء أن يحكم بما شاء،و أنّ العقل لا يحكم بوجوب و لا غيره، و إنّما حظّه تعرّف الأمور على ما هي عليه.

الثّالثة:الصّحيح في معنى قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ الاعتبار.يدلّ عليه ما قبله و ما بعده من نصب العبر:الإحياء و الإماتة و الخلق و الاستواء إلى السّماء و تسويتها،أي الّذي قدر على إحيائكم و خلقكم و خلق السّماوات و الأرض،لا تبعد منه القدرة على الإعادة.

فإن قيل:إنّ معنى(لكم)الانتفاع،أي لتنتفعوا بجميع ذلك.

قلنا:المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا.

فإن قيل:و أيّ اعتبار في العقارب و الحيّات.

قلنا:قد يتذكّر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعدّ اللّه للكفّار في النّار من العقوبات،

ص: 305

فيكون سببا للإيمان و ترك المعاصي،و ذلك أعظم الاعتبار.

و قال أرباب المعاني في قوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لتتقوّوا به على طاعته،لا لتصرفوه في وجوه معصيته.

و قال أبو عثمان:وهب لك الكلّ و سخّره لك، لتستدلّ به على سعة جوده،و تسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد،و لا تستكثر كثير برّه على قليل عملك،فقد ابتدأك بعظيم النّعم قبل العمل،و هو التّوحيد.(1:251)

البيضاويّ: بيان نعمة أخرى مرتّبة على الأولى، فإنّها خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد أخرى،و هذه خلق ما يتوقّف عليه بقاؤهم و يتمّ به معاشهم.و معنى (لكم)لأجلكم و انتفاعكم في دنياكم،باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط،و دينكم بالاستدلال و الاعتبار و التّعرّف لما يلائمها من لذّات الآخرة و آلامها،لا على وجه الغرض،فإنّ الفاعل لغرض مستكمل به،بل على أنّه كالغرض من حيث إنّه عاقبة الفعل و مؤدّاه،و هو يقتضي إباحة الأشياء النّافعة،و لا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة،فإنّه يدلّ على أنّ الكلّ للكلّ لا أنّ كلّ واحد لكلّ واحد،و ما يعمّ كلّ ما في الأرض لا الأرض إلاّ إذا أريد بها جهة السّفل،كما يراد بالسّماء جهة العلوّ.

(1:43)

الخازن :يعني من المعادن و النّبات و الحيوان و الجبال و البحار،و المعنى:كيف تكفرون باللّه و قد خلق لكم ما في الأرض جميعا لتنتفعوا به في مصالح الدّين و الدّنيا؟أمّا مصالح الدّين فهو الاعتبار و التّفكّر في عجائب مخلوقات اللّه تعالى الدّالّة على وحدانيّته، و أمّا مصالح الدّنيا فهو الانتفاع بما خلق فيها.(1:37)

أبو حيّان :مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة،و هو أنّه لمّا ذكر أنّ من كان منشئا لكم بعد العدم و مفنيا لكم بعد الوجود و موجدا لكم ثانية،إمّا في جنّة و إمّا إلى نار،كان جديرا أن يعبد و لا يجحد،و يشكر و لا يكفر،ثمّ أخذ يذكّرهم عظيم إحسانه و جزيل امتنانه،من خلق جميع ما في الأرض لهم،و عظيم قدرته و تصرّفه في العالم العلويّ،و إنّ العالم العلويّ و العالم السّفليّ بالنّسبة إلى قدرته على السّواء،و أنّه عليم بكلّ شيء.

و لفظة(هو)من المضمرات وضع للمفرد المذكّر الغائب،و هو كلّيّ في الوضع كسائر المضمرات،جرى في النّسبة المخصوصة حالة الاستعمال،فما من مفرد مذكّر غائب إلاّ يصحّ أن يطلق عليه«هو»لكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعيّن،و مشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة؛و شدّدتها«همدان»و سكّنتها «أسد»و«قيس»و حذف«الواو»مختصّ بالشّعر.

و لهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق و إلى التّصوّف، كلام غريب بالنّسبة لمعقولنا،رأيت أن أذكره هنا ليقع الذّكر فيه.

قالوا:أسماء اللّه تعالى على ثلاثة أقسام:مظهرات و مضمرات و مستترات،فالمظهرات:أسماء و أسماء صفات و هذه كلّها مشتقّة،و أسماء الذّات مشتقّة و هي

ص: 306

كثيرة،و غير المشتقّ واحد و هو اللّه،و قد قيل:إنّه مشتقّ،و الّذي ينبغي اعتقاده أنّه غير مشتقّ بل اسم مرتجل دالّ على الذّات.

و أمّا المضمرات فأربعة:«أنا»في مثل:«اللّه لا إله إلاّ أنا»،و«أنت»في مثل:«لا إله إلاّ أنت سبحانك»، و«هو»في مثل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ، و«نحن»في مثل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ يوسف:3.

قالوا:«فإذا تقرّر هذا ف«اللّه»أعظم أسمائه المظهرات الدّالّة على الذّات،و لفظة«هو»من أعظم أسمائه المظهرات و المضمرات للدّلالة على ذاته،لأنّ أسماءه المشتقّة كلّها لفظها متضمّن جواز الاشتراك، لاجتماعها في الوصف الخاصّ،و لا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة و الآخر مجازا من الاشتراك،و هو اسم من أسماء اللّه تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرّأة عن جميع جهات الكثرة،من حيث هو هو، فلفظة«هو»توصلك إلى الحقّ و تقطعك عمّا سواه، فإنّك لا بدّ أن يشرك مع النّظر في معرفة ما يدلّ عليه الاسم المشتقّ،النّظر في معرفة المعنى الّذي يشتقّ منه، و هذا الاسم لأجل دلالته على الذّات ينقطع معه النّظر إلى ما سواه،اختاره الجلّة من المقرّبين مدارا لذكرهم و منارا لكلّ أمرهم،فقالوا:«يا هو»لأنّ لفظة«هو» إشارة بعين المشار إليه،بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد،و المقرّبون لا يحضر في عقولهم و أرواحهم موجود آخر سوى الّذي دلّت عليه إشارته.و«هو»اسم مركّب من حرفين،و هما«الهاء» و«الواو»،و«الهاء»أصل،و«الواو»زائدة بدليل سقوطها في التّثنية و الجمع في«هما»و«هم»، و الأصل حرف واحد يدلّ على الواحد الفرد»انتهى.

ما نقل عن بعض من عاصرناه في«هو»بالنّسبة إلى اللّه تعالى مقرّرا لما ذكروه و معتقدا لما حبروه،و لهم في لفظة«أنا»و«أنت»و هو كلام غريب جدّا بعيد عمّا تكلّم عليها به أهل اللّغة و العربيّة...

و(لكم)متعلّق ب(خلق)و اللاّم فيه قيل:

للسّبب،أي لأجلكم و لانتفاعكم،و قدّر بعضهم لاعتباركم،و قيل:للتّمليك و الإباحة،فيكون التّمليك خاصّا،و هو تمليك ما ينتفع الخلق به و تدعو الضّرورة إليه،و قيل:للاختصاص،و هو أعمّ من التّمليك.

و الأحسن حملها على السّبب،فيكون مفعولا من أجله،لأنّه بما في الأرض يحصل الانتفاع الدّينيّ و الدّنيويّ:

فالدّينيّ النّظر فيه و فيما فيه من عجائب الصّنع و لطائف الخلق الدّالّة على قدرة الصّانع و حكمته، و من التّذكير بالآخرة و الجزاء.

و أمّا الدّنيويّ فظاهر،و هو ما فيه من المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و المركب و المناظر البهيّة و غير ذلك.

و قد استدلّ بقوله: خَلَقَ لَكُمْ من ذهب إلى أنّ الأشياء قبل ورود الشّرع على الإباحة،فلكلّ أحد أن ينتفع بها،و إذا احتمل أن يكون اللاّم لغير التّمليك و الإباحة لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه.و قد ذهب قوم إلى أنّ الأشياء قبل ورود الشّرع على الحظر فلا يقدّم على شيء إلاّ بإذن،و ذهب قوم إلى أنّ

ص: 307

الوقف لما تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة و دليل القائلين بالحظر قالوا:بالوقف.

و إذا جعلنا اللاّم للسّبب فليس المعنى أنّ اللّه فعل شيئا لسبب،لكنّه لمّا فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب أطلق عليه لفظ السّبب،و اندرج تحت قوله:

ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً جميع ما كانت الأرض مستقرّا له من الحيوان و النّبات و المعدن و الجبال و جميع ما كان بواسطة من الحرف و الأمور المستنبطة، و استدلّ بعضهم بذلك على تحريم الطّين،لأنّه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.

و قد تقدّم قبل هذا الامتنان بجعل الأرض لنا فراشا،و هنا امتنّ بخلق ما فيها لنا،و انتصب(جميعا) على الحال من المخلوق و هي حال مؤكّدة،لأنّ لفظة ما فِي الْأَرْضِ عامّ،و معنى(جميعا)العموم،فهو مرادف من حيث المعنى للفظة«كلّ»لأنّه قيل:«ما في الأرض كلّه»و لا تدلّ على الاجتماع في الزّمان.

و هذا هو الفارق بين«معا»و«جميعا»و قد تقدّم شيء من ذلك عند الكلام على«مع».

و من زعم أنّ المعنيّ بقوله: ما فِي الْأَرْضِ:

الأرض و ما فيها،فهو بعيد من مدلول اللّفظ،لكنّه تفسير المعنيّ من هذا اللّفظ و من قوله تعالى: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً البقرة:22،فانتظم من هذين الأرض و ما فيها خلق اللّه ذلك لنا.[و نقل قول الزّمخشريّ ثمّ قال:]

و قال بعض المنسوبين للحقائق:خلق لكم ليعدّ نعمه عليكم فتقتضي الشّكر من نفسك لتطلب المزيد منه.[و نقل قول أبي عثمان و ابن عطاء ثمّ قال:]

و قال بعض البغداديّين:أنعم عليك بها،فإنّ الخلق عبدة النّعم لاستيلاء النّعم عليهم،فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النّعم.[و بعد نقل قول الثّوريّ قال:]

فقيل:أشار ب(ثمّ)إلى التّفاوت الحاصل بين خلق السّماء و الأرض في القدر،و قيل:لمّا كان بين خلق الأرض و السّماء أعمال من جعل الرّواسيّ و البركة فيها،و تقدير الأقوات عطف ب(ثمّ)إذ بين خلق الأرض،و الاستواء تراخ يدلّ على ذلك قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فصّلت:9.

(1:132)

السّمين: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ (هو)مبتدأ، و هو ضمير مرفوع منفصل للغائب المذكّر،و المشهور تخفيف واوه و فتحها[إلى أن قال:]

الموصول بعده خبر عنه.و(لكم)متعلّق ب(خلق،)و معناها السّببيّة،أي لأجلكم،و قيل:

للملك و الإباحة فيكون تمليكا خاصّا بما ينتفع منه، و قيل:للاختصاص،و(ما)موصولة و فِي الْأَرْضِ صلتها،و هي في محلّ نصب مفعول بها،و(جميعا)حال من المفعول بمعنى كلّ،و لا دلالة لها على الاجتماع في الزّمان،و هذا هو الفارق بين قولك:جاءوا جميعا و جاءوا معا،فإنّ«مع»تقتضي المصاحبة في الزّمان بخلاف«جميع»قيل:و هي هنا حال مؤكّدة،لأنّ قوله:

ما فِي الْأَرْضِ عامّ.(1:171)

الشّربينيّ: أي لأجلكم و انتفاعكم في دنياكم

ص: 308

باستنفاعكم بها،في مصالح أبدانكم بوسط،كالأدوية المركّبة،أو غير وسط كالثّمرة و الأدوية المفردة،و في دينكم بالاستدلال على ما يوجدكم،و في ذلك نعمة على عباده سبحانه و تعالى،و ما تعمّ كلّ ما في الأرض لا الأرض،إلاّ أن أريد ب(الارض)جهة السّفل، كما يراد بالسّماء جهة العلو.(1:43)

أبو السّعود :تقرير للإنكار و تأكيد له من الحيثيّتين المذكورتين،غيّر سبكه عن سبك ما قبله من اتّحادهما في المقصود،إبانة لما بينهما من التّفاوت.فإنّ ما يتعلّق بذواتهم من الإحياء و الإماتة و الحشر أدخل في الحثّ على الإيمان و الكفّ عن الكفر ممّا يتعلّق بمعايشهم،و ما يجري مجراها،و في جعل الضّمير مبتدأ و الموصول خبرا من الدّلالة على الجلالة ما لا يخفى، و تقديم الظّرف على المفعول الصّريح لتعجيل المسرّة ببيان كونه نافعا للمخاطبين،و للتّشويق إليه كما سلف،أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض من الموجودات،لتنتفعوا بها في أمور دنياكم بالذّات أو بالواسطة،و أمور دينكم بالاستدلال بها على شئون الصّانع تعالى شأنه،و الاستشهاد بكلّ واحد منها على ما يلائمه من لذّات الآخرة و آلامها،و ما يعمّ جميع ما في الأرض لانفسها،إلاّ أن يراد بها جهة السّفل كما يراد بالسّماء جهة العلو.

نعم يعمّ كلّ جزء من أجزائها،فإنّه من جملة ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكلّ،و(جميعا)حال من الموصول الثّاني مؤكّدة لما فيه من العموم،فإنّ كلّ فرد من أفراد ما في الأرض بل كلّ جزء من أجزاء العالم،له مدخل في استمراره على ما هو عليه من النّظام اللاّئق الّذي عليه يدور انتظام مصالح النّاس.

أمّا من جهة المعاش فظاهر،و أمّا من جهة الدّين فلمّا أنّه ليس في العالم شيء ممّا يتعلّق به النّظر،و ما لا يتعلّق به إلاّ و هو دليل على القادر الحكيم جلّ جلاله،كما مرّ في تفسير قوله تعالى:(رب العالمين) الفاتحة:2،و إن لم يستدلّ به أحد بالفعل.(1:105)

المشهديّ: بيان نعمة ثانية مترتّبة على النّعمة الأولى،فإنّ الانتفاع بالأرض و السّماء و ما فيها إنّما يكون بعد موهبة الحياة.

و الخلق في الأصل:التّقدير،و يراد منه الإيجاد، فإن أريد المعنى الأوّل عمّ الأرض و ما فيه،و إن أريد الثّاني احتيج في شموله لما سوى العناصر إلى ارتكاب تجوّز.

و اللاّم للانتفاع،و المعنى خلق لانتفاعكم في الدّنيا و الآخرة ما في الأرض جميعا.

فعند الأشاعرة:مدخوله غاية،و عند الحكيم:

عناية،و عند المعتزلة و أهل الذّوق:غرض.[إلى أن قال:]

و كلمة(ما)للعموم،خصوصا إذا قيّد بالحال الّذي وقع بعده،و قد صرّح به أئمّة الأصول،فدلّت الآية على إباحة جميع الأشياء،على أيّ وجه إلاّ ما أخرجه الدّليل،و اندفع ما قاله العلاّمة السّبزواريّ:

من أنّها لمّا كانت مجملة غير ظاهرة في العموم،لا يتمّ الاستدلال بها على ذلك.(1:213)

البروسويّ: هذا بيان نعمة أخرى،أي قدّر

ص: 309

خلقها لأجلكم و لانتفاعكم بها في دنياكم و دينكم،لأنّ الأشياء كلّها لم تخلق في ذلك الوقت.(1:90)

الشّوكانيّ: أي من أجلكم،و فيه دليل على أنّ الأصل في الأشياء المخلوقة:الإباحة حتّى يقوم دليل يدلّ على النّقل عن هذا الأصل،و لا فرق بين الحيوانات،و غيرها ممّا ينتفع به من غير ضرر،و في التّأكيد بقوله:(جميعا)أقوى دلالة على هذا.و قد استدلّ بهذه الآية على تحريم أكل الطّين،لأنّه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.[و نقل قول الرّازيّ ثمّ قال:]

و أمّا التّراب،فقد ورد في السّنّة تحريمه،و هو أيضا ضارّ،فليس ممّا ينتفع به أكلا،و لكنّه ينتفع به في منافع أخرى،و ليس المراد منفعة خاصّة كمنفعة الأكل،بل كلّ ما يصدق عليه أنّه ينتفع به بوجه من الوجوه.

(1:78)

الآلوسيّ: و(هو)لغير المتكلّم و المخاطب، و فيه لغات:تخفيف الواو مفتوحة و حذفها في الشّعر و تشديدها ل«همدان»و تسكينها ل«أسد»و«قيس» و هو عند أهل اللّه تعالى اسم من أسمائه تعالى،ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرّأة عن جميع جهات الكثرة،و هو اسم مركّب من حرفين:«الهاء» و«الواو»،و«الهاء»أصل و«الواو»زائدة بدليل سقوطها في التّثنية و الجمع،فليس في الحقيقة إلاّ حرف واحد دالّ على الواحد الفرد الّذي لا موجود سواه، و كلّ شيء هالك إلاّ وجهه.

و لمزيد ما فيه من الأسرار اتّخذه الأجلّة مدارا لذكرهم و سراجا لسرّهم،و هو جار مع الأنفاس، و مسمّاه غائب عن الحدس و القياس،و في جعل الضّمير مبتدأ و الموصول خبرا من الدّلالة على الجلالة ما لا يخفى،و تقديم الظّرف على المفعول الصّريح لتعجيل المسرّة،و اللاّم للتّعليل و الانتفاع، أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض،لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذّات أو بالواسطة،و في أمور دينكم بالاستدلال و الاعتبار.و استدلّ كثير من أهل السّنّة الحنفيّة و الشّافعيّة بالآية على إباحة الأشياء النّافعة قبل ورود الشّرع،و عليه أكثر المعتزلة،و اختاره الإمام في«المحصول»و البيضاويّ في«المنهاج».

و اعترض بأنّ اللاّم تجيء لغير النّفع،ك إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها الإسراء:7،و أجيب بأنّها مجاز لاتّفاق أئمّة اللّغة على أنّها للملك،و معناه الاختصاص النّافع،و بأنّ المراد النّفع بالاستدلال،و أجيب بأنّ التّخصيص خلاف الظّاهر مع أنّ ذلك حاصل لكلّ مكلّف من نفسه،فيحمل على غيره،و ذهب قوم إلى أنّ الأصل في الأشياء قبل الحظر.

و قال قوم:بالوقف لتعارض الأدلّة عندهم، و استدلّت الإباحيّة بالآية على مدّعاهم قائلين:إنّها تدلّ على أنّ ما في الأرض جميعا خلق للكلّ فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا،و يردّه أنّها تدلّ على أنّ الكلّ للكلّ و لا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب،فهناك شبه التّوزيع و التّعيين يستفاد من دليل منفصل،و لا يلزم اختصاص كلّ شخص بشيء واحد، كما ظنّه«السّاليكوتيّ»و ما تعمّ جميع ما في الأرض

ص: 310

لأنفسها؛إذ لا يكون الشّيء ظرفا لنفسه إلاّ أن يراد بها جهة السّفل،كما يراد بالسّماء جهة العلو،و يكفي في التّحدّر العرش المحيط،أو تجعل الجهة اعتباريّة.

نعم قيل:تعمّ كلّ جزء من أجزاء الأرض،فإنّه من جملة ضروراتها ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكلّ و المغايرة اعتباريّة.و القول بأنّ الكلام على تقدير معطوف،أي خلق ما في الأرض و الأرض،لا أرضى به،و بعضهم لم يتكلّف شيئا من ذلك،و استغنى بتقدّم الامتنان بالأرض،في قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً البقرة:22،و(جميعا)حال مؤكّدة من كلمة(ما)و لا دلالة لهما كما ذكره البعض على الاجتماع الزّمانيّ،و هذا بخلاف«معا»،و جعله حالا من ضمير(لكم)يضعفه السّياق،لأنّه لتعداد النّعم دون المنعم عليه،مع أنّ مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النّعم،و لاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من (الارض)أيضا.(1:214)

القاسميّ: بيان نعمة أخرى مرتّبة على الأولى، فإنّها خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد أخرى.و هذه خلق ما يتوقّف عليه بقاؤهم،و يتمّ به معاشهم.و معنى (لكم)لأجلكم،و لانتفاعكم.و فيه دليل على أنّ الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة،حتّى يقوم دليل يدلّ على النّقل عن هذا الأصل.و لا فرق بين الحيوانات و غيرها،ممّا ينتفع به من غير ضرر.و في التّأكيد بقوله:(جميعا)أقوى دلالة على هذا.

(2:90)

رشيد رضا :بعد بيان بعض آياته في أنفسهم بذكر المبدإ و المنتهى ذكّرهم بآياته في الآفاق،فقال:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فالكلام على اتّصاله و ترتيبه و انتظام جواهره في سلك أسلوبه،فليس في قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ... البقرة:

28،انتقال لإثبات البعث كما قال بعض المفسّرين، غفلة عن هذا الاتّصال المتين،و لعمري إنّ وجوه الاتّصال بين الآيات،و ما فيها من دقائق المناسبات، لهي ضرب من ضروب البلاغة،و فنّ من فنون الإعجاز،إذا أمكن للبشر الإشراف عليه،فلا يمكنهم البلوغ إليه،و الكلام في البعث في القرآن كثير جدّا، فلا حاجة إلى الإسراع إيه هنا،يصوّر لنا قوله تعالى:

خَلَقَ لَكُمْ قدرته الكاملة،و نعمه الشّاملة،و أيّ قدرة أكبر من قدرة الخالق؟و أيّ نعمة أكمل من جعل كلّ ما في الأرض مهيّئا لنا،و معدّا لمنافعنا؟و للانتفاع بالأرض طريقان:

أحدهما:الانتفاع بأعيانها في الحياة الجسديّة.

و ثانيهما:النّظر و الاعتبار بها في الحياة العقليّة، و الأرض هي ما في الجهة السّفلى،أي ما تحت أرجلنا، كما أنّ المراد بالسّماء كلّ ما في الجهة العليا،أي فوق رءوسنا،و إنّنا ننتفع بكلّ ما في الأرض برّها و بحرها من حيوان و نبات و جماد،و ما لا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه و حكمته.و التّعبير ب(فى)يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنّصّ الصّريح.

و أقول هنا:إنّ هذه الجملة نصّ الدّليل القطعيّ على القاعدة المعروفة عند الفقهاء«إنّ الأصل في

ص: 311

الأشياء المخلوقة الإباحة»و المراد:إباحة الانتفاع بها أكلا و شربا و لباسا و تداويا و ركوبا و زينة،و بهذا التّفصيل تدخل الأشياء الّتي يضرّ استعمالها في بعض الأشياء و ينتفع في بعض،كالسّموم الّتي يضرّ أكلها و شربها و ينفع التّداوي بها،و ليس لمخلوق حقّ في تحريم شيء أباحه الرّبّ لعباده تديّنا به إلاّ بوحيه و إذنه قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ يونس:59،و ما يحظره الطّبيب على المريض من طعام حلال في نفسه،و ما يمنع الحاكم العادل النّاس من التّصرّف فيه من المباحات لدفع مفسدة أو رعاية مصلحة،فليس من التّحريم الدّينيّ للشّيء و لا يكون دائما،و إنّما يتبعان في ذلك كما يأمران به بحقّ و عدل ما دامت علّته قائمة.(1:246)

المراغيّ: و هذا الانتفاع يكون بإحدى وسيلتين:

1-إمّا بالانتفاع بأعيانه في الحياة الجسديّة، ليكون غذاء للأجسام أو متعة لها في الحياة المعيشيّة.

2-و إمّا بالنّظر و الاعتبار فيما لا تصل إليه الأيدي،فيستدلّ به على قدرة مبدعه،و يكون غذاء للأرواح.(1:76)

سيّد قطب :و يكثر المفسّرون و المتكلّمون هنا من الكلام عن خلق الأرض و السّماء،يتحدّثون عن القبليّة و البعديّة،و يتحدّثون عن الاستواء و التّسوية.

و ينسون أنّ«قبل»و«بعد»اصطلاحان بشريّان لا مدلول لهما بالقياس إلى اللّه تعالى،و ينسون أنّ الاستواء و التّسوية اصطلاحان لغويّان يقرّبان إلى التّصوّر البشريّ المحدود صورة غير المحدود، و لا يزيدان.و ما كان الجدل الكلاميّ الّذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التّعبيرات القرآنيّة،إلاّ آفة من آفات الفلسفة الإغريقيّة و المباحث اللاّهوتيّة عند اليهود و النّصارى،عند مخالطتها للعقليّة العربيّة الصّافية،و للعقليّة الإسلاميّة النّاصعة.و ما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة،فنفسد جمال العقيدة و جمال القرآن بقضايا علم الكلام؟

فلنخلّص إذن إلى ما وراء هذه التّعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما فى الأرض جميعا للإنسان، و دلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنسانيّ، و على دوره العظيم في الأرض،و على قيمته في ميزان اللّه،و ما وراء هذا كلّه من تقرير قيمة الإنسان في التّصوّر الإسلاميّ،و في نظام المجتمع الإسلاميّ.

إنّ كلمة(لكم)هنا ذات مدلول عميق و ذات إيحاء كذلك عميق،إنّها قاطعة في أنّ اللّه خلق هذا الإنسان لأمر عظيم،خلقه ليكون مستخلفا في الأرض،مالكا لما فيها،فاعلا مؤثّرا فيها.إنّه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض،و السّيّد الأوّل في هذا الميراث الواسع،و دوره في الأرض إذن و في أحداثها و تطوّراتها هو الدّور الأوّل،إنّه سيّد الأرض و سيّد الآلة،إنّه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادّيّ اليوم،و ليس تابعا للتّطوّرات الّتي تحدثها الآلة في علاقات البشر و أوضاعهم،كما يدّعي أنصار المادّيّة المطموسون،الّذين يحقّرون دور الإنسان و وضعه، فيجعلونه تابعا للآلة الصّمّاء و هو السّيّد الكريم،و كلّ

ص: 312

قيمة من القيم المادّيّة لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان،و لا أن تستذلّه أو تخضعه أو تستعلي عليه، و كلّ هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان-مهما يتحقّق من مزايا مادّيّة-هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنسانيّ.فكرامة الإنسان أوّلا،و استعلاء الإنسان أوّلا،ثمّ تجيء القيم المادّيّة تابعة مسخّرة.

و النّعمة الّتي يمتنّ اللّه بها على النّاس هنا-و هو يستنكر كفرهم به-ليست مجرّد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا،و لكنّها-إلى ذلك-سيادتهم على ما في الأرض جميعا،و منحهم قيمة أعلى من قيم المادّيّات الّتي تحويها الأرض جميعا.هي نعمة الاستخلاف و التّكريم فوق نعمة الملك و الانتفاع العظيم.(1:53)

ابن عاشور :هذا إمّا استدلال ثان على شناعة كفرهم باللّه تعالى،و على أنّه ممّا يقتضي منه العجب، فإنّ دلائل ربوبيّة اللّه و وحدانيّته ظاهرة في خلق الإنسان و في خلق جميع ما في الأرض،فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات.و فصل الجملة السّابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتّصال بين الجملتين، لأنّ هذه كالنّتيجة للدّليل الأوّل،لأنّ في خلق الأرض و جميع ما فيها و في كون ذلك لمنفعة البشر إكمالا لإيجادهم،المشار إليه بقوله: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ البقرة:28،لأنّ فائدة الإيجاد لا تكمل إلاّ بإمداد الموجود،بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقوّمات وجوده.و يجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أنّ الدّليل هو مجموع الأمرين،فبترك العطف يعلم أنّ الدّليل الأوّل مستقلّ بنفسه،و في الأوّل بعد،و في الثّاني مخالفة الأصل،لأنّ أصل الفصل أن لا يكون قطعا على أنّه توهّم لا يضير.و إمّا أن يكون قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ امتنانا عليهم بالنّعم لتسجيل أنّ إشراكهم كفران بالنّعمة،أدمج فيه الاستدلال على أنّه خالق لما في الأرض من حيوان و نبات و معادن استدلالا بما هو نعمة مشاهدة،كما أشار إليه قوله:(لكم،)فيكون الفصل بين الجملتين كما قرّر آنفا،و لم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان،لأنّ ما أدمج فيها من الاستدلال رجّح اعتبار الفصل.

و«الخلق»تقدّم تفسيره عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ البقرة:21.

و الأرض:اسم للعالم الكرويّ المشتمل على البرّ و البحر الّذي يعمره الإنسان و الحيوان و النّبات و المعادن،و هي المواليد الثّلاثة.و هذه الأرض هي موجود كائن،هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات؛ و حيث إنّ العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثّلاثة،علّق الخلق هنا بما في الأرض ممّا يحتويه ظرفها من ظاهره و باطنه،و لم يعلّق بذات الأرض لغفلة جلّ النّاس عن الاعتبار ببديع خلقها، إلاّ أنّ خالق المظروف جدير بخلق الظّرف؛إذا الظّرف إنّما يقصد لأجل المظروف.فلو كان الظّرف من غير صنع خالق المظروف للزم إمّا تأخّر الظّرف عن مظروفه،و في ذلك إتلاف المظروف،و المشاهدة تنفي ذلك.و إمّا تقدّم الظّرف و ذلك عبث.فاستفادة أنّه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى.فمن البعيد أن

ص: 313

يجوّز صاحب«الكشّاف»أن يراد بالأرض:الجهة السّفليّة كما يراد بالسّماء الجهة العلويّة،و بعده من وجهين:

أحدهما:أنّ الأرض لم تطلق قطّ على غير الكرة الأرضيّة إلاّ مجازا.[ثمّ استشهد بشعر]

بخلاف السّماء أطلقت على كلّ ما علا فأظلّ.

و الفرق بينهما أنّ الأرض شيء مشاهد،و السّماء لا يتعقّل إلاّ بكونه شيئا مرتفعا.

الثّاني:على تسليم القياس،فإنّ السّماء لم تطلق على الجهة العليا حتّى يصحّ إطلاق الأرض على الجهة السّفلى،بل إنّما تطلق السّماء على شيء عال لا على نفس الجهة.

و جملة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ صيغة قصر،و هو قصر حقيقيّ سيق للمخاطبين من المشركين الّذين لا شكّ عندهم في أنّ اللّه خالق ما في الأرض،و لكنّهم نزلوا منزلة الجاهل بذلك فسيق لهم الخبر المحصور، لأنّهم في كفرهم و انصرافهم عن شكره و النّظر في دعوته و عبادته كحال من يجهل أنّ اللّه خالق جميع الموجودات.و نظير هذا قوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ النّحل:17، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الحجّ:73،فإنّ المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق،و إنّما جعلوها شفعاء و وسائط و عبدوها،و أعرضوا عن عبادة اللّه حقّ عبادته، و نسوا الخلق الملتصق بهم و بما حولهم من الأحياء.

و المقصود من الكلام فيما أراه موافقا للبلاغة:

التّذكير بأنّ اللّه هو خالق الأرض و ما عليها و ما في داخلها،و أنّ ذلك كلّه خلقه بقدر انتفاعنا بها و بما فيها في مختلف الأزمان و الأحوال،فأوجز الكلام إيجازا بديعا بإقحام قوله:(لكم)فأغنى عن جملة كاملة، فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة و إظهار عظيم المنّة على البشر،و إظهار عظيم منزلة الإنسان عند اللّه تعالى،و كلّ أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم.

و في هذه الآية فائدتان:

الأولى:أنّ لام التّعليل دلّت على أنّ خلق ما في الأرض كان لأجل النّاس،و في هذا تعليل للخلق و بيان لثمرته و فائدته،فتثار عنه مسألة تعليل أفعال اللّه تعالى و تعلّقها بالأغراض.و المسألة مختلف فيها بين المتكلّمين اختلافا يشبه أن يكون لفظيّا،فإنّ جميع المسلمين اتّفقوا على أنّ أفعال اللّه تعالى ناشئة عن إرادة و اختيار و على وفق علمه،و أنّ جميعها مشتمل على حكم و مصالح،و أنّ تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل،فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات.هذا كلّه لا خلاف فيه،و إنّما الخلاف في أنّها أ توصف بكونها أغراضا و عللا غائيّة أم لا؟فأثبت ذلك جماعة استدلالا بما ورد من نحو قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:56،و منع من ذلك أصحاب الأشعريّ فيما عزاه إليهم«الفخر»في«التّفسير» مستدلّين بأنّ الّذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيدا من غرضه ذلك،ضرورة أنّ وجود ذلك

ص: 314

الغرض أولى بالقياس إليه من عدمه،فيكون مستفيدا من تلك الأولويّة،و يلزم من كون ذلك الغرض سببا في فعله،أن يكون هو ناقصا في فاعليّته محتاجا إلى حصول السّبب.[ثمّ نقل الجواب عن قول الفخر و بسط الكلام في هذا المقال و نقل النّزاع بين المعتزلة و الأشاعرة الّذي لا جدوى فيه]

الفائدة الثّانية:أخذوا من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أنّ استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتّى يدلّ دليل على عدمها،و أنّه جعل ما في الأرض مخلوقا لأجلنا و امتنّ بذلك علينا،و بذلك قال الإمام الرّازيّ و البيضاويّ و صاحب«الكشّاف»و نسب إلى المعتزلة و جماعة من الشّافعيّة و الحنفيّة منهم الكرخيّ و نسب إلى الشّافعيّ.و ذهب المالكيّة و جمهور الحنفيّة و المعتزلة في نقل ابن عرفة إلى أنّ الأصل في الأشياء الوقف،و لم يروا الآية دليلا.قال ابن العربيّ في «أحكامه»:ذكر اللّه تعالى هذه الآية في معرض الدّلالة و التّنبيه على طريق العلم و القدرة و تصريف المخلوقات بمقتضى التّقدير و الإتقان بالعلم.

و الحقّ أنّ الآية مجملة قصد منها التّنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض،و أنّه خلق لأجلنا،إلاّ أنّ خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كلّ ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة،على أنّ الامتنان يصدق إذا كان لكلّ من النّاس بعض ممّا في العالم،بمعنى أنّ الآية ذكرت أنّ المجموع للمجموع لا كلّ واحد لكلّ واحد، كما أشار إليه البيضاويّ،لا سيّما و قد خاطب اللّه بها قوما كافرين منكرا عليهم كفرهم،فكيف يعلمون إباحة أو منعا،و إنّما محلّ الموعظة هو ما خلقه اللّه من الأشياء الّتي لم يزل النّاس ينتفعون بها من وجوه متعدّدة.

و ذهب جماعة إلى أنّ أصل الأشياء الحظر،و نقل عن بعض أهل الحديث و بعض المعتزلة،فللمعتزلة الأقوال الثّلاثة،كما قال القرطبيّ.قال الحمويّ في«شرح كتاب الأشياء»:لابن نجيم نقلا عن الإمام الرّازيّ و إنّما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيّام الفترة قبل النّبوّة،أي فيما ارتكبه النّاس من تناول الشّهوات و نحوها،و لذلك كان الأصحّ أنّ الأمر موقوف و أنّه لا وصف للأشياء يترتّب من أجله عليها الثّواب و العقاب.

و عندي أنّ هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه،لأنّ أهل الفترة لا شرع لهم،و ليس لأفعالهم أحكام إلاّ في وجوب التّوحيد عند قوم،و أمّا بعد ورود الشّرع فقد أغنى الشّرع عن ذلك،فإن وجد فعل لم يدلّ عليه دليل من نصّ أو قياس أو استدلال صحيح،فالصّحيح أنّ أصل المضارّ التّحريم و المنافع الحلّ.و هذا الّذي اختاره الإمام في«المحصول»فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النّوع من الحوادث في الإسلام.(1:372)

مغنيّة:و استدلّ الفقهاء بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً على أنّ الأشياء قبل ورود الشّرع على الإباحة،و أنّه ليس لمخلوق أن يحرم شيئا إلاّ بدليل: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ

ص: 315

تَفْتَرُونَ يونس:59.

و ربّما يستدلّ بهذه الآية الكريمة على أنّ الأرض لا تملك،و أنّ الّذي يجوز تملّكه هو ما تنتجه الأرض، لأنّه قال عزّ من قائل:خلق لكم ما في الأرض، و لم يقل:خلق لكم الأرض.(1:78)

عبد الكريم الخطيب :و من ألطاف الخالق العظيم و رحمته بالنّاس،أن أقام الإنسان على هذه الأرض،و مكّن له من أسباب الحياة فيها،و السّيادة عليها،فجعل يده مبسوطة على كلّ شيء فيها،بما وهبه اللّه من قوّة عاقلة،انفرد بها من بين ما على الأرض من مخلوقات؛و ذلك من شأنه ألاّ يجعل سبيلا لعاقل أن يعطي ولاءه لغير اللّه ربّ العالمين.

و قد يفهم من قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ بعد قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً قد يفهم من هذا أنّ خلق السّماوات جاء تاليا لخلق الأرض.

لكن،مع قليل من النّظر،يتّضح أنّ ذلك كان بعد خلق السّماوات و الأرض.فالأرض كانت مخلوقة،ثمّ خلق اللّه بعد ذلك ما فيها من مخلوقات.و كذلك السّماء كانت قائمة،فجعلها اللّه سبحانه سبع سماوات.

و هذا ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فصّلت:11.

و هذا لا يصادم ما يقول به العلم الحديث:من أنّ الأرض وليدة انفجار في الشّمس،تسبّب عنه انفصال أجرام منها،و كانت الأرض واحدة من تلك الأجرام، فعوالم السّماء مخلوقة قبل الأرض،و الأرض مولود من مواليدها.

و أمر آخر نحبّ أن نشير إليه هنا،و هو أنّ ما جاء في القرآن الكريم عن خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما في ستّة أيّام،لا مدخل له في تكييف قدرة اللّه سبحانه و تعالى،و أنّ ذلك الخلق قد احتاج إلى عمل هذه القدرة ستّة أيّام،فذلك تحديد لقدرة اللّه الّتي لا يحدّها شيء و لا يعلق بها قيد من قيود الزّمان و المكان إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82.

و أمّا الأيّام السّتّة الّتي ذكرها القرآن الكريم في أكثر من موضع زمنا لخلق السّماوات و الأرض،فهي الوعاء الزّمنيّ الّذي استكملت فيه السّماوات و الأرض تمام خلقهما،شأنهما في ذلك شأن كلّ مخلوق،من حيوان أو نبات أو جماد...الإنسان. حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً الأحقاف:15،و بعض الحيوانات يتخلّق في ساعة أو ما دون السّاعة،و بعضها يتخلّق في عام،و الحبّة تكون نبتة في كذا،من الزّمن، و هكذا.

فقوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ الأعراف:54،يشير إلى أنّ الوعاء الزّمنيّ الّذي تمّ فيه خلق السّماوات و الأرض هو ستّة أيّام،فقد تخلّقا في هذه الأيّام السّتّة كما تتخلّق الكائنات، و تستكمل وجودها في زمن مقدور لها،تعيش فيه منتقلة من طور إلى طور،و من حال إلى حال،حتّى تأخذ الوضع الّذى تبلغ به تمامها.(1:48)

مكارم الشّيرازيّ: بعد ذكر نعمة الحياة

ص: 316

و الإشارة إلى مسألة المبدإ و المعاد،تشير الآية إلى واحدة أخرى من النّعم الإلهيّة السّابقة،و تقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.

و بهذا تعيّن الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض، و سيادته على ما فيها من موجودات.و منها نستطيع أن نفهم المهمّة العظيمة الثّقيلة الموكولة إلى هذا المخلوق،في ساحة الوجود.

و في القرآن آيات أخرى تؤكّد مكانة الإنسان السّامية،و توضّح أنّ هذا الكائن هو الهدف النّهائيّ من خلق كلّ موجودات الكون وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الجاثية:13.

و ثمّة آيات أخرى تحدّثت عن هذا المفهوم بالتّفصيل،كقوله تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ...، وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ... إبراهيم:32.[ثمّ ذكر الآيات]

(1:131)

فضل اللّه :في الآية لفتة إلى جانب النّعمة الّتي لا تجعل عظمة الخلق بعيدة عن حياة الإنسان و حاجاته؛و ذلك من خلال ما توجبه كلمة(لكم) من تسخير الأرض للإنسان بكلّ ما فيها من طاقات ظاهرة أو باطنة،ممّا يجعل من توجيهه إليها و إلى التّفكير فيها عند التّفكير في طبيعة الخلق،حافزا للارتباط باللّه،من خلال شعوره بحاجته المطلقة إليه، إلى جانب الشّعور بعظمته المبدعة.و قد يكون في هذا الأسلوب القرآنيّ الرّائع لفتة قرآنيّة تعطي قضيّة الإيمان باللّه حيويّة نابضة،تتفجّر بالحياة الإنسانيّة في كلّ مظاهرها و حاجاتها،الأمر الّذي يبعدها عن الجفاف و الجمود الّذي يتمثّل في أساليب البحث في العقيدة،كشيء تجريديّ خارج نطاق الحياة العمليّة للإنسان.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فقد أراد اللّه للإنسان أن يعيش على هذه الأرض،و هيّأ له الوسائل المتنوّعة الّتي تتّصل بحاجاته الخاصّة و العامّة في أعماق الأرض و سطوحها،و آفاق الفضاء المحيط بها،ليستطيع الإنسان الحياة عليها من خلال قدرته على إدارته لها في تسخير كلّ طاقاتها له،و في تسخير الكون المطلّ عليها و المحيط بها،لرعاية كلّ أوضاعه.

و هكذا،يؤكّد اللّه أنّه أبدع ما في الأرض لأجل الإنسان،تكريما له،و تأكيدا لقيمته المميّزة لديه من بين مخلوقاته.(1:208)

2- وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ. البقرة:228

ابن عبّاس: من ولد.(31)

نحوه قتادة و مقاتل.(الثّعلبيّ 2:172)

ابن عمر:من الحيض و الحمل،لا يحلّ لها إن كانت حائضا أن تكتم حيضها،و لا يحلّ لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها.(الطّبريّ 2:460)

النّخعيّ: أكبر ذلك الحيض.(الطّبريّ 2:460)

مجاهد :من الحيض و الولد.(الطّبريّ 2:461)

و الحيض و الحبل،تفسيره أن لا تقول:إنّي حائض و ليست بحائض،و لا لست بحائض،و هي حائض.

و لا إنّي حبلى،و ليست بحبلى،و لا لست بحبلى،

ص: 317

و هي حبلى.(الطّبريّ 2:461)

نحوه زيد بن عليّ.(148)

عكرمة :الحيض.(الطّبريّ 2:260)

الضّحّاك: الحيض و الولد هو الّذي ائتمن عليه النّساء.(الطّبريّ 2:461)

قتادة :كانت المرأة إذا طلّقت كتمت ما في بطنها و حملها لتذهب بالولد إلى غير أبيه،فكره اللّه ذلك لهنّ.

(الطّبريّ 2:462)

السّدّيّ: فالرّجل يريد أن يطلّق امرأته فيسألها:

هل بك حمل؟فتكتمه،إرادة أن تفارقه،فيطلّقها و قد كتمته حتّى تضع.و إذا علم بذلك فإنّها تردّ إليه، عقوبة لما كتمته،و زوجها أحقّ برجعتها صاغرة.

(الطّبريّ 2:463)

الرّبيع:يقول:لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ من الحيض و الحبل،لا يحلّ لها أن تقول:إنّي قد حضت،و لم تحض،و لا يحلّ أن تقول:إنّي لم أحض و قد حاضت،و لا يحلّ لها أن تقول:إنّي حبلى، و ليست بحبلى،و لا أن تقول:لست بحبلى،و هي حبلى.(الطّبريّ 2:461)

ابن زيد :لا يكتمن الحيض و لا الولد.و لا يحلّ لها أن تكتمه و هو لا يعلم متى تحلّ،لئلاّ يرتجعها تضارّه.

(الطّبريّ 2:461)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم:تأويله: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ يعني للمطلّقات أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الحيض إذا طلّقن،حرّم عليهنّ أن يكتمن أزواجهنّ الّذين طلّقوهنّ،في الطّلاق الّذي عليهنّ فيه رجعة، يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرّجعة عليهنّ.

و قال آخرون:هو الحيض،غير أنّ الّذي حرّم اللّه تعالى ذكره عليها كتمانه فيما خلق في رحمها من ذلك، هو أن تقول لزوجها المطلّق،و قد أراد رجعتها قبل الحيضة الثّالثة:قد حضت الحيضة الثّالثة كاذبة، لتبطل حقّه بقيلها الباطل في ذلك.

و قال آخرون:بل المعنى الّذي نهيت عن كتمانه زوجها المطلّق:الحبل و الحيض جميعا.

و قال آخرون:بل عني بذلك الحبل.

ثمّ اختلف قائلو ذلك في السّبب الّذي من أجله نهيت عن كتمان ذلك الرّجل:

فقال بعضهم:نهيت عن ذلك لئلاّ تبطل حقّ الزّوج من الرّجعة،إذا أراد رجعتها قبل وضعها حملها.

و قال آخرون:السّبب الّذي من أجله نهين عن كتمان ذلك:أنّهنّ في الجاهليّة كنّ يكتمنه أزواجهنّ، خوف مراجعتهم إيّاهنّ،حتّى يتزوّجن غيرهم، فيلحق نسب الحمل-الّذي هو من الزّوج المطلّق-بمن تزوّجته.فحرّم اللّه ذلك عليهنّ.

و قال آخرون:بل السّبب الّذي من أجله نهين عن كتمان ذلك،هو أنّ الرّجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها:هل بها حمل؟كيلا يطلّقها و هي حامل منه، للضّرر الّذي يلحقه و ولده في فراقها إن فارقها،فأمرن بالصّدق في ذلك و نهين عن الكذب.

و أولى هذه الأقوال بتأويل الآية،قول من قال:

الّذي نهيت المرأة المطلّقة عن كتمانه زوجها المطلّقها

ص: 318

تطليقة أو تطليقتين ممّا خلق اللّه في رحمها-الحيض و الحبل-لأنّه لا خلاف بين الجميع أنّ العدّة تنقضي بوضع الولد الّذي خلق اللّه في رحمها،كما تنقضي بالدّم إذا رأته بعد الطّهر الثّالث،في قول من قال:

القرء:الطّهر،و في قول من قال:هو الحيض،إذا انقطع من الحيضة الثّالثة،فتطهّرت بالاغتسال.

فإذا كان ذلك كذلك،و كان اللّه تعالى ذكره إنّما حرّم عليهنّ كتمان المطلّق الّذي وصفنا أمره،ما يكون بكتمانهنّ إيّاه بطول حقّه الّذي جعله اللّه له بعد الطّلاق عليهنّ إلى انقضاء عدّتهنّ،و كان ذلك الحقّ يبطل بوضعهنّ ما في بطونهنّ إن كنّ حوامل، و بانقضاء الأقراء الثّلاثة إن كنّ غير حوامل،علم أنّهنّ منهيّات عن كتمان أزواجهنّ المطلّقيهنّ من كلّ واحد منهما-أعني من الحيض و الحبل-مثل الّذي هنّ منهيّات عنه من الآخر،و أن لا معنى لخصوص من خصّ بأنّ المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر، إذ كانا جميعا ممّا خلق اللّه في أرحامهنّ،و أنّ في كلّ واحد منهما من معنى بطول حقّ الزّوج بانتهائه إلى غاية،مثل ما في الآخر.

و يسأل من خصّ ذلك-فجعله لأحد المعنيين دون الآخر-عن البرهان على صحّة دعواه من أصل أو حجّة يجب التّسليم لها.ثمّ يعكس عليه القول في ذلك،فلن يقول في أحدهما قولا إلاّ ألزم في الآخر مثله.

و أمّا الّذي قاله السّدّيّ: من أنّه معنيّ به نهي النّساء كتمان أزواجهنّ الحبل عند إرادتهم طلاقهنّ، فقول لما يدلّ عليه ظاهر التّنزيل مخالف و ذلك أنّ اللّه تعالى ذكره قال: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ بمعنى و لا يحلّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ من الثّلاثة القروء،إن كنّ يؤمنّ باللّه و اليوم الآخر.

و ذلك أنّ اللّه تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهنّ، بعد وصفه إيّاهنّ بما وصفهنّ به،من فراق أزواجهنّ بالطّلاق،و إعلامهنّ ما يلزمهنّ من التّربّص،معرّفا لهنّ بذلك ما يحرّم عليهنّ و ما يحلّ،و ما يلزمهنّ من العدّة و يجب عليهنّ فيها.فكان ممّا عرّفهنّ:أنّ من الواجب عليهنّ أن لا يكتمن أزواجهنّ الحيض و الحبل،الّذي يكون بوضع هذا و انقضاء هذا إلى نهاية محدودة،انقطاع حقوق أزواجهنّ،ضرارا منهنّ لهم.فكان نهيه عمّا نهاهنّ عنه من ذلك،بأن يكون من صفة ما يليه قبله و يتلوه بعده،أولى من أن يكون من صفة ما لم يجر له ذكر قبله.

فإن قال قائل:ما معنى قوله: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ؟ أو يحلّ لهنّ كتمان ذلك أزواجهنّ إن كنّ لا يؤمنّ باللّه و لا باليوم الآخر،حتّى خصّ النّهي عن ذلك المؤمنات باللّه و اليوم الآخر؟

قيل:معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه.و إنّما معناه:أنّ كتمان المرأة المطلّقة زوجها المطلّقها ما خلق اللّه في رحمها من حيض و ولد في أيّام عدّتها من طلاقه ضرارا له،ليس من فعل من يؤمن باللّه و اليوم الآخر و لا من أخلاقه،و إنّما من فعل من لا يؤمن باللّه و لا باليوم الآخر،و أخلاقهنّ من النّساء الكوافر،

ص: 319

فلا تتخلّقن أيّتها المؤمنات بأخلاقهنّ،فإنّ ذلك لا يحلّ.لكن إن كنتنّ تؤمن باللّه و اليوم الآخر،و كنتنّ من المسلمات لا أنّ المؤمنات هنّ المخصوصات بتحريم ذلك عليهنّ دون الكوافر،بل الواجب على كلّ من لزمته فرائض اللّه من النّساء اللّواتي لهنّ أقراء-إذا طلّقت بعد الدّخول بها في عدّتها-أن لا تكتم زوجها ما خلق اللّه في رحمها من الحيض و الحبل.(2:459)

الزّجّاج: قيل فيه:لا يحلّ لهنّ أن يكتمن أمر الولد،لأنّهنّ إن فعلن ذلك فإنّما يقصدن إلى إلزامه غير أبيه.

و قد قال قوم:هو الحيض،و هو بالولد أشبه،لأنّ ما خلق اللّه في أرحامهنّ أدلّ على الولد،لأنّ اللّه جلّ و عزّ قال: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ آل عمران:6،و قال: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً المؤمنون:

14،فوصف خلق الولد.(1:305)

الثّعلبيّ: [بعد نقل أقوال قتادة و مقاتل قال:]

فمعنى الآية:لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ من الحيض و الحمل،ليبطلن حقّ الزّوج في الرّجعة و الولد فإنّ المرأة أمينة على فرجها.(2:172)

نحوه البغويّ(1:300)،و الميبديّ(1:610).

الطّوسيّ: قيل في معناه ثلاثة أقوال:أحدها:قال إبراهيم:الحيض،و ثانيها:قال قتادة:الحبل،و ثالثها:

قال ابن عمرو الحسن:هو الحبل و الحيض؛و هو الأقوى لأنّه أعمّ.و إنّما لم يحلّ لهنّ الكتمان،لظلم الزّوج بمنعه المراجعة-في قول ابن عبّاس-و قال قتادة:لنسبة الولد إلى غيره،كفعل الجاهليّة.(2:239)

القشيريّ: يعني إن انقطع بينكما السّبب فلا تقطعوا ما أثبت اللّه من النّسب.(1:192)

الواحديّ: و معنى الآية:لا يحلّ لهنّ أن يكتمن الحمل ليبطلن حقّ الزّوج من الرّجعة.قال ابن عبّاس:

و ذلك أنّ المرأة السّوء تكتم الحمل شوقا منها إلى الزّوج و تستبطئ العدّة،لأنّ عدّة ذات الحمل أن تضع حملها،فيجب عليهنّ إظهار ما يخلق اللّه في أرحامهنّ من الولد؛إذ لا مرجع إلى غيرهنّ فيه.(1:333)

الزّمخشريّ: من الولد أو من دم الحيض؛و ذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلاّ ينتظر بطلاقها أن تضع،و لئلاّ يشفق على الولد فيترك تسريحها،أو كتمت حيضها و قالت:و هي حائض قد طهرت استعجالا للطّلاق.و يجوز أن يراد اللاّتي يبغين إسقاط ما في بطونهنّ من الأجنّة فلا يعترفن به و يجحدنه لذلك،فجعل كتمان ما في أرحامهنّ كناية عن إسقاطه.(1:366)

نحوه النّسفيّ.(1:114)

ابن العربيّ: فيها ثلاثة أقوال:

الأوّل:الحيض،الثّاني:الحمل،الثّالث:مجموعهما.

و هو الصّحيح،لأنّ اللّه تعالى جعلها أمينة على رحمها، فقولها فيه مقبول؛إذ لا سبيل إلى علمه إلاّ بخبرها.

و قد شكّ في ذلك بعض النّاس لقصور فهمه،و لا خلاف بين الأمّة أنّ العمل على قولها في دعوى الشّغل للرّحم أو البراءة،ما لم يظهر كذبها.

و قد اختلفوا فيمن قال لامرأته:إذا حضت

ص: 320

أو حملت فأنت طالق،فقالت:حضت أو حملت،هل يعتبر قولها في ذلك أم لا؟فمن قال من علمائنا:

بوقوف الطّلاق عليه اختلف قوله:هل يعتبر قولها في ذلك أم لا؟و العدّة لا خلاف فيها،و هو المراد هاهنا.

(1:186)

ابن عطيّة: و اختلف المتأوّلون في المراد بقوله:

(ما خلق)فقال ابن عمر و مجاهد و الرّبيع و ابن زيد و الضّحّاك:هو الحيض و الحبل جميعا،و معنى النّهي عن الكتمان:النّهي عن الإضرار بالزّوج و إذهاب حقّه،فإذا قالت المطلّقة حضت و هي لم تحض ذهبت بحقّه من الارتجاع،و إذا قالت:لم أحض و هي قد حاضت ألزمته من النّفقة ما لم يلزمه فأضرّت به،أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا ترجع حتّى تتمّ العدّة و يقطع الشّرع حقّه،و كذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقّه من الارتجاع.[بعد نقل قول قتادة و السّدّيّ قال:]

و قال إبراهيم النّخعيّ و عكرمة:المراد ب(ما خلق)الحيض،و روي عن عمر و ابن عبّاس:أنّ المراد الحبل،و العموم راجح.(1:305)

الطّبرسيّ: قيل:أراد به الحيض،عن إبراهيم و عكرمة.و قيل:أراد به الحبل عن ابن عبّاس و قتادة.

و قيل:أراد الحيض و الحبل،عن ابن عمر و الحسن، و هو المرويّ عن الصّادق عليه السّلام قال:قد فوّض اللّه إلى النّساء ثلاثة أشياء:الحيض و الطّهر و الحمل.و هذا القول أعمّ و الأخذ به أولى.[ثمّ أدام نحو الطّوسيّ]

(1:326)

الفخر الرّازيّ: و اعلم أنّ للمفسّرين في قوله:

ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ثلاثة أقوال:

الأوّل:أنّه الحبل و الحيض معا؛و ذلك لأنّ المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما:أمّا كتمان الحبل،فإنّ غرضها فيه أنّ انقضاء عدّتها بالقروء أقلّ زمانا من انقضاء عدّتها بوضع الحمل،فإذا كتمت الحبل قصرت مدّة عدّتها فتزوّج بسرعة،و ربّما كرهت مراجعة الزّوج الأوّل،و ربّما أحبّت التّزوّج بزوج آخر،أو أحبّت أن يلتحق ولدها بالزّوج الثّاني،فلهذه الأغراض تكتم الحبل.

و أمّا كتمان الحيض فغرضها فيه أنّ المرأة إذا طلّقها الزّوج و هي من ذوات الأقراء،فقد تحبّ تطويل عدّتها لكي يراجعها الزّوج الأوّل،و قد تحبّ تقصير عدّتها لتبطيل رجعته،و لا يتمّ لها ذلك إلاّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات،لأنّها إذا حاضت أوّلا فكتمته،ثمّ أظهرت عند الحيضة الثّانية أنّ ذلك أوّل حيضها فقد طوّلت العدّة،و إذا كتمت أنّ الحيضة الثّالثة وجدت فكمثل،و إذا كتمت أنّ حيضها باق فقد قطعت الرّجعة على زوجها،فثبت أنّه كما أنّ لها غرضا في كتمان الحبل،فكذلك في كتمان الحيض، فوجب حمل النّهي على مجموع الأمرين.

القول الثّاني:أنّ المراد هو النّهي عن كتمان الحمل فقط،و احتجّوا عليه بوجوه:

أحدها:قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ آل عمران:6.

و ثانيها:أنّ الحيض خارج عن الرّحم،لا أنّه

ص: 321

مخلوق في الرّحم.

و ثالثها:أنّ حمل قوله تعالى: ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ على الولد الّذي هو جوهر شريف،أولى من حمله على الحيض الّذي هو شيء في غاية الخساسة و القذر.

و اعلم أنّ هذه الوجوه ضعيفة،لأنّه لمّا كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الّتي لا اطّلاع لغيرها عليها،و بسببها تختلف أحوال الحرمة و الحلّ في النّكاح،فوجب حمل اللّفظ على الكلّ.

القول الثّالث:أنّ المراد هو النّهي عن كتمان الحيض،لأنّ هذه الآية وردت عقيب ذكر الأقراء، و لم يتقدّم ذكر الحمل.و هذا أيضا ضعيف،لأنّ قوله:

...أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ... كلام مستأنف مستقلّ بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدّم،فيجب حمله على كلّ ما يخلق في الرّحم.(6:98)

نحوه النّيسابوريّ.(2:262)

القرطبيّ: [اكتفى بنقل أقوال السّابقين]

(3:118)

البيضاويّ: من الولد و الحيض استعجالا في العدّة و إبطالا لحقّ الرّجعة.و فيه دليل على أنّ قولها مقبول في ذلك.(1:120)

نحوه أبو السّعود(1:271)،و الكاشانيّ(1:236) و القاسميّ(3:583).

أبو حيّان :[نقل قول المفسّرين ثمّ قال:]

و أجمع أهل العلم على أنّه لا يجوز أن تكتم المرأة ما خلق اللّه في رحمها من حمل و لا حيض،و فيه تغليط و إنكار.[و نقل كلام الزّمخشريّ ثمّ قال:]

و الآية تحتمله.[إلى أن قال:]

و(ما)في(ما خلق)الأظهر أنّها موصولة بمعنى«الّذي»و العائد محذوف.و جوّز أن تكون نكرة موصوفة و العائد محذوف أيضا،التّقدير:خلقه،«و فى ارحامهن»متعلّق بخلقه.و جوّز أن تكون فِي أَرْحامِهِنَّ حالا من المحذوف،قيل:و هي حال مقدّرة،لأنّه وقت خلقه ليس بشيء حتّى يتمّ خلقه.

(2:187)

نحوه السّمين.(1:555)

الآلوسيّ: [نقل قول ابن عمر ثمّ قال:]

أي لا يحلّ لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها،و لا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها،فتقول و هي حائض:قد طهرت.و كنّ يفعلن الأوّل لئلاّ ينتظر لأجل طلاقها أن تضع،و لئلاّ يشفق الرّجل على الولد فيترك تسريحا،و الثّاني:استعجالا لمضيّ العدّة و إبطالا لحقّ الرّجعة.و هذا القول هو المرويّ عن الصّادق و الحسن،و مجاهد،و غيرهم.

و القول بأنّ الحيض غير مخلوق في الرّحم بل هو خارج عنه،فلا يصحّ حمل(ما)على عمومها بل يتعيّن حملها على الولد،و هو المرويّ عن ابن عبّاس و قتادة، مدفوع،بأنّ ذات الدّم و إن كان غير مخلوق في الرّحم لكنّ الاتّصاف بكونه حيضا إنّما يحصل له فيه.

و ما قيل:إنّ الكلام في المطلّقات ذوات الأقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهنّ،فيجب حمل(ما) على الحيض كما حكي عن عكرمة،فمدفوع أيضا،

ص: 322

بأنّ تخصيص العامّ و تقييده بدليل خارجيّ لا يقتضي اعتبار ذلك التّخصيص أو التّقييد في الرّاجع،و استدلّ بالآية على أنّ قولها يقبل فيما خلق اللّه تعالى في أرحامهنّ؛إذ لو لا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهنّ.

قال ابن الفرس (1):و عندي أنّ الآية عامّة في ما يتعلّق بالفرج من بكارة،و ثيوبة،و عيب،لأنّ كلّ ذلك ممّا خلق اللّه تعالى،في أرحامهنّ،فيجب أن يصدّقن فيه،و فيه تأمّل.(2:133)

رشيد رضا :كما كنّ يفعلن أحبال في الجاهليّة؛ إذ كانت المرأة تتزوّج بعد فراق رجل بآخر،و يظهر لها أنّها حبلى من الأوّل فتلحق الولد بالثّاني.فهذا محرّم في الإسلام،لأنّه شرّ ضروب الغشّ و الزّور و البهتان، ينفى عن قوم من هو منهم،و يلحق بآخرين من ليس منهم.و في ذلك من المضارّ ما لا يجهل،و قد حرّمه اللّه في الإسلام،و أمر بأن تعتدّ المرأة بعد فراق زوجها، ليظهر أنّها بريئة من الحمل،و نهى أن تكتم الحمل إذا علمت به.

و اختار كثير من المفسّرين أنّ ما خلق اللّه في أرحامهنّ يشمل الولد و الحيض،و هو المرويّ عن ابن عمر،فقد تكتم المرأة حيضتها،لتطيل أجل عدّتها؛ و ذلك محرّم أيضا،و قد فشا في مطلّقات هذا الزّمان اللّواتي لا يطمعن في الزّواج،لأنّ الحكّام يفرضون لهنّ نفقة ما دمن في العدّة فيرغبن في استدامة هذه النّفقة بكتمان الحيض،و ادّعاء عدم مرور القروء الثّلاثة عليهنّ،و ما يأخذنه بعد انقضاء العدّة حرام،و ما هنّ ممّن يتفكّر في ذلك؛إذ لا علم لهنّ بأحكام الحلال و الحرام،و لا يبالين ما عساهنّ يعرفنه منها،لأنّهنّ لم يتربّين على آداب الدّين و أعماله،و لم يلقن عقائده و لم يذكرن بآياته،حتّى صار أكثرهنّ أقرب إلى أهل الإباحة منهنّ إلى أهل الدّين،و إنّما يجتنب الحرام و يتحرّى الوقوف عند حدود الحلال أهل الإيمان الصّحيح.(2:372)

نحوه ملخّصا المراغيّ.(2:164)

سيّد قطب :لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ من حمل أو من حيض،و يلمس قلوبهنّ بذكر اللّه الّذي يخلق في أرحامهنّ،و يستجيش كذلك شعور الإيمان باللّه و اليوم الآخر.فشرط هذا الإيمان ألاّ يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ.و ذكر(اليوم الآخر)بصفة خاصّة له وزنه هنا،فهناك الجزاء،هناك العوض عمّا قد يفوت بالتّربّص،و هناك العقاب لو كتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ،و هو يعلمه،لأنّه هو الّذي خلقه،فلا يخفى عليه شيء منه.فلا يجوز كتمانه عليه-سبحانه-تحت تأثير أيّ رغبة أو هوى أو غرض من شتّى الأغراض الّتي تعرض لنفوسهنّ.

[ثمّ أدام الكلام في فائدة التّربّص فلاحظ]

(1:246)

ابن عاشور :إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان، و ذلك مقتضى الإعلام بأنّ كتمانهنّ منهيّ عنه محرّم، فهو خبر عن التّشريع،فهو إعلام لهنّ بذلك،و ما خلقس.

ص: 323


1- هكذا في الأصل:و الظّاهر:ابن فارس.

اللّه في أرحامهنّ هو الدّم،و معناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته.[ثمّ استشهد بشعر]

و ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ موصول،فيجوز حمله على العهد،أي ما خلق من الحيض بقرينة السّياق.و يجوز حمله على معنى المعرّف بلام الجنس،فيعمّ الحيض و الحمل،و هو الظّاهر،و هو من العامّ الوارد على سبب خاصّ،لأنّ اللّفظ العامّ الوارد في القرآن عقب ذكر بعض أفراده،قد ألحقوه بالعامّ الوارد على سبب خاصّ،فأمّا من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذكر قبله،فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس،لأنّ الحكم نيط بكتمان ما خلق اللّه في أرحامهنّ.و هذا محمل اختلاف المفسّرين، فقال عكرمة و الزّهريّ و النّخعيّ: ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ الحيض،و قال ابن عبّاس و ابن عمر:

الحمل،و قال مجاهد:الحمل و الحيض،و هو أظهر، و قال قتادة:كانت عادة نساء الجاهليّة أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزّوج الجديد،أي لئلاّ يبقى بين المطلّقة و مطلّقها صلة و لا تنازع في الأولاد،و في ذلك نزلت.و هذا يقتضي أنّ العدّة لم تكن موجودة فيهم، و أمّا مع مشروعيّة العدّة فلا يتصوّر كتمان الحمل؛لأنّ الحمل لا يكون إلاّ مع انقطاع الحيض،و إذا مضت مدّة الأقراء تبيّن أنّ الحمل من الزّوج الجديد.(2:372)

مغنيّة:و فهم هذه الجملة على حقيقتها يتوقّف على التّمهيد بما يلي:

قسّم فقهاء السّنّة الطّلاق إلى قسمين:[إلى أن قال:]

و على هذا يكون طلاق الزّوجة في حال الحيض، أو في طهر واقعها الزّوج فيه،طلاقا غير شرعيّ،بل هو بدعة،و كلّ بدعة ضلالة،و كلّ ضلالة في النّار.أمّا طلاقها في طهر لم يواقعها فيه،فهو على سنّة اللّه و رسوله،و بهذا يتّضح السّرّ في قوله تعالى: ...ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الطّهر و الحيض،لأنّ معرفة وقوع الطّلاق على سنّة اللّه و رسوله،أو على البدعة و الضّلالة تتوقّف على معرفة حال المطلّقة،و أنّها هل هي طاهر أو حائض.و بديهة أنّ السّبيل إلى معرفة هذين الوصفين،و هما الطّهر و الحيض منحصر بالمرأة، و لا وسيلة للمعرفة بالوصفين إلاّ هي بالذّات،و لذا تصدّق فيهما ما لم يعلم كذبها.قال الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام:فوّض اللّه إلى النّساء ثلاثة أشياء:الطّهر و الحيض و الحمل،و في رواية ثانية:و العدّة.

و الشّيعة يتّفقون مع السّنّة على أنّ الطّلاق إذا وقع في الحيض،أو في طهر واقعها فيه يكون بدعة،و إذا وقع في طهر لم يواقعها فيه يكون على سنّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.[ثمّ أدام البحث](1:341)

الطّباطبائيّ: [قال نظير أقوال السّابقين]

(2:231)

عبد الكريم الخطيب :أي يحرم على المرأة المطلّقة المعتدّة بالقروء أن تكتم ما خلق اللّه في رحمها من الولد،فتقرّ بالواقع؛إذ القول هنا قولها،و ما تعلمه هو أمانة حملتها،فإذا لم تؤدّ الأمانة على وجهها فقد أصبحت في الخائنات الآثمات.(1:259)

مكارم الشّيرازيّ: عبارة أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ

ص: 324

اَللّهُ يمكن أن يكون معناها كتمان الجنين،و يمكن أيضا أن يكون كتمان العادة الشّهريّة،أي يجب على المرأة الحامل أن لا تكتم حملها و تدّعي العادة الشّهريّة، بهدف تقليل مدّة العدّة،لأنّ عدّة الحامل وضع حملها.

و هكذا يجب عليها أن لا تخفي وضع حيضها.(2:97)

3- يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها... النّساء:1

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:إنّ اللّه تبارك و تعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه و كلتا يديه يمين،فخلق منها آدم، و فضل فضلة من الطّين فخلق منها حوّاء.

(الكاشانيّ 1:383)

ابن مسعود:خلقت بعد دخوله الجنّة.

مثله ابن عبّاس.(ابن الجوزيّ 2:2)

الإمام عليّ عليه السّلام:خلقت حوّاء من قصيرى جنب آدم.(العيّاشيّ 1:361)

ابن عبّاس: من نفس آدم.(64)

خلقت من ضلع آدم.

مثله مجاهد و الحسن.(الماورديّ 1:446)

خلقت المرأة من الرّجل فجعلت نهمتها في الرّجل، و خلق الرّجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم.(ابن كثير 2:196)

مجاهد :حوّاء،من قصيرى آدم و هو نائم، فاستيقظ،فقال:«أثا»بالنّبطيّة،امرأة.

(الطّبريّ 3:566)

نحوه ابن كثير.(2:196)

الضّحّاك:خلق حوّاء من آدم من ضلع الخلف و هو أسفل الأضلاع.(الدّرّ المنثور 2:423)

الإمام الباقر عليه السّلام:خلقها من فضل الطّينة الّتي خلق منها آدم.(الطّوسيّ 3:99)

[و في رواية أخرى]خلقت من باطنه و من شماله، و من الطّينة الّتي فضلت من ضلعه الأيسر.

(الكاشانيّ 1:383)

قتادة :يعني حوّاء،خلقت من ضلع من أضلاعه.

(الطّبريّ 3:566)

نحوه الزّجّاج(2:5)و القمّيّ(1:130)و الطّوسيّ (3:99)،و الواحديّ(2:4)،و الطّبرسيّ(2:2)

السّدّيّ: أسكن آدم الجنّة،فكان يمشي فيها وحشا،ليس له زوج يسكن إليها،فنام نومة، فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة،خلقها اللّه من ضلعه،فسألها:ما أنت؟قالت:امرأة.قال:و لم خلقت؟ قالت:تسكن إليّ.(195)

نحوه الخازن.(1:395)

جعل من آدم حوّاء.(الطّبريّ 3:556)

الإمام الصّادق عليه السّلام:إنّ اللّه خلق آدم من الماء و الطّين فهمّة ابن آدم في الماء و الطّين،و إنّ اللّه خلق حوّاء من آدم فهمّة النّساء بالرّجال،فحصّنوهنّ في البيوت.(الكاشانيّ 1:382)

ابن إسحاق :ألقى على آدم عليه السّلام السّنة،فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التّوراة و غيرهم من أهل العلم،عن عبد اللّه بن عبّاس و غيره،ثمّ أخذ ضلعا من أضلاعه،من شقّه الأيسر،و لأم مكانه،و آدم نائم

ص: 325

لم يهبّ من نومته،حتّى خلق اللّه تبارك و تعالى من ضلعه تلك زوجته حوّاء،فسوّاها امرأة ليسكن إليها، فلمّا كشفت عنه السّنة و هبّ من نومته،رآها إلى جنبه،فقال:فيما يزعمون و اللّه أعلم:لحمي و دمي و زوجتي!فسكن إليها.(الطّبريّ 3:566)

[خلقت]قبل دخوله الجنّة.(ابن الجوزيّ 2:2)

الطّبريّ: و خلق من النّفس الواحدة زوجها، يعني ب«الزّوج»الثّاني لها،و هو فيما قال أهل التّأويل:امرأتها حوّاء.(3:566)

الثّعلبيّ: يعني حوّاء.(3:241)

مثله البغويّ.(1:561)

الماورديّ: [نقل أقوال ابن عبّاس و الحسن ثمّ قال:]

و قيل:الأيسر،و لذلك قيل للمرأة:ضلع أعوج.

(1:446)

القشيريّ: حكم الحقّ سبحانه،بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النّسل،و لردّ المثل إلى المثل،فربط الشّكل بالشّكل.(2:7)

نحوه الميبديّ.(2:418)

الزّمخشريّ: إن قلت:علام عطف قوله:

وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها؟

قلت:فيه وجهان:

أحدهما:أن يعطف على محذوف،كأنّه قيل:من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها،و خلق منها زوجها، و إنّما حذف لدلالة المعنى عليه،و المعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها،و هي أنّه أنشأها من تراب و خلق زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها، وَ بَثَّ مِنْهُما نوعي جنس الإنس و هما الذّكور و الإناث، فوصفها بصفة هي بيان و تفصيل بكيفيّة خلقهم منها.

و الثّاني:خلقكم من نفس آدم،لأنّهم من جملة الجنس المفرّع منه،و خلق منها أمّكم حوّاء و بثّ منهما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً غيركم من الأمم الفائتة للحصر.[إلى أن قال:]

و قرئ (و خالق زوجها) و (باثّ منهما) بلفظ اسم الفاعل،و هو خبر مبتدإ محذوف،تقديره:و هو خالق.

(1:492)

نحوه ملخّصا النّسفيّ(1:204)،و الشّربينيّ(1:

278).

ابن عطيّة: و الخلق في الآية:بمعنى الاختراع، و يعني بقوله:(زوجها)حوّاء،و الزّوج في كلام العرب:امرأة الرّجل،و يقال:زوجة.[ثمّ استشهد بشعر]

و قوله:(منها)[و نقل أقوال ابن عبّاس و مجاهد و قتادة و السّدّيّ ثمّ قال:]

و قيل:من يمينه،فخلق منه حوّاء،و يعضد هذا القول الحديث الصّحيح في قوله عليه السّلام:«إنّ المرأة خلقت من ضلع،فإن ذهبت تقيمها كسرتها»و كسرها طلاقها.

و قال بعضهم:معنى:(منها)من جنسها،و اللّفظ يتناول المعنيين،أو يكون لحمها و جواهرها من ضلعه، و نفسها من جنس نفسه.(2:4)

ابن الجوزيّ: و(من)في قوله: وَ خَلَقَ مِنْها للتّبعيض في قول الجمهور.و قال ابن بحر:(منها)أي

ص: 326

من جنسها.

و اختلفوا أيّ وقت خلقت له،على قولين:

أحدهما:[قول ابن مسعود و ابن عبّاس المتقدّم]

و الثّاني:قول ابن إسحاق المتقدّم](2:1)

الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها فيه مسائل:

المسألة الأولى:المراد من هذا الزّوج هو حوّاء، و في كون حوّاء مخلوقة من آدم قولان:

الأوّل:و هو الّذي عليه الأكثرون أنّه لمّا خلق اللّه آدم ألقى عليه النّوم،ثمّ خلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليسرى،فلمّا استيقظ رآها و مال إليها و ألفها،لأنّها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه، و احتجّوا بقول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج،فإن ذهبت تقيمها كسرتها،و إن تركتها و فيها عوج استمتعت بها».

و القول الثّاني:و هو اختيار أبي مسلم الأصفهانيّ:

أنّ المراد من قوله: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها أي من جنسها،و هو كقوله تعالى: وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً النّحل:72،و كقوله: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ آل عمران:164،و قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ التّوبة:128.

قال القاضي:و القول الأوّل أقوى،لكي يصحّ قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إذ لو كانت حوّاء مخلوقة ابتداء لكان النّاس مخلوقين من نفسين،لا من نفس واحدة.و يمكن أن يجاب عنه بأنّ كلمة(من) لابتداء الغاية،فلمّا كان ابتداء التّخليق و الإيجاد وقع بآدم عليه السّلام صحّ أن يقال: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و أيضا فلمّا ثبت أنّه تعالى قادر على خلق آدم من التّراب،كان قادرا أيضا على خلق حوّاء من التّراب، و إذا كان الأمر كذلك،فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم.

المسألة الثّانية:قال ابن عبّاس:إنّما سمّي آدم بهذا الاسم،لأنّه تعالى خلقه من أديم الأرض كلّها أحمرها و أسودها و طيّبها و خبيثها؛فلذلك كان في ولده الأحمر و الأسود و الطّيّب و الخبيث.و المرأة إنّما سمّيت بحوّاء لأنّها خلقت من ضلع من أضلاع آدم،فكانت مخلوقة من شيء حيّ،فلا جرم سمّيت بحوّاء.

المسألة الثّالثة:احتجّ جمع من الطّبائعيّين بهذه الآية،فقالوا:قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يدلّ على أنّ الخلق كلّهم مخلوقون من النّفس الواحدة،و قوله: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها يدلّ على أنّ زوجها مخلوقة منها،ثمّ قال في صفة آدم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ آل عمران:59،فدلّ على أنّ آدم مخلوق من التّراب،ثمّ قال في حقّ الخلائق: مِنْها خَلَقْناكُمْ طه:

55،و هذه الآيات كلّها دالّة على أنّ الحادث لا يحدث إلاّ عن مادّة سابقة يصير الشّيء مخلوقا منها،و أنّ خلق الشّيء عن العدم المحض و النّفي الصّرف محال.

أجاب المتكلّمون فقالوا:خلق الشّيء من الشّيء محال في العقول،لأنّ هذا المخلوق إن كان عين ذلك الشّيء الّذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا البتّة،و إذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر.و إن قلنا:إنّ هذا المخلوق مغاير للّذي كان

ص: 327

موجودا قبل ذلك،فحينئذ هذا المخلوق و هذا المحدث إنّما حدث و حصل عن العدم المحض،فثبت أنّ كون الشّيء مخلوقا من غيره محال في العقول.و أمّا كلمة (من)في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية،على معنى أنّ ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة و الافتقار،بل على وجه الوقوع فقط.

(9:160)

ابن عربيّ: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها و جعل منها زوجها،أي النّفس الحيوانيّة النّاشئة منها،و قيل:إنّها خلقت من ضلعه الأيسر من الجهة الّتي تلي العالم الكون،فإنّها أضعف من الجهة الّتي تلي الحقّ،و لو لا زوجها لما أهبط إلى الدّنيا،كما اشتهر أنّ إبليس سوّل لها أوّلا،فتوسّل بإغوائها إلى إغواء آدم،و لا شك في أنّ التّعلّق البدنيّ لا يتهيّأ إلاّ بواسطتها.(1:247)

البيضاويّ: عطف على(خلقكم)أي خلقكم من شخص واحد و خلق منه أمّكم حوّاء من ضلع من أضلاعه،أو محذوف تقديره:من نفس واحدة خلقها و خلق منها زوجها،و هو تقرير لخلقهم من نفس واحدة.(1:201)

النّيسابوريّ: حوّاء من ضلع من أضلاعها.و قال أبو مسلم الأصفهانيّ:المراد:و خلق من جنسها زوجها لقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً النّحل:72، لأنّه تعالى قادر على خلق حوّاء من التّراب،فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم؟

و الجواب:أنّ الأمر لو كان كما ذكره أبو مسلم، لكان النّاس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة، و هو خلاف النّصّ،و خلاف ما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.

احتجّ جمع من الطّبائعيّين بالآية على أنّ الحادث لا يحدث إلاّ عن مادّة سابقة،و أنّ خلق الشّيء من العدم المحض،و النّفي الصّرف،محال.

و الجواب:أنّه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادّة،لحكمة أن يتوقّف الإحداث على المادّة في جميع الصّور.[و نقل قول الزّمخشريّ ثمّ قال:]

أقول:و إنّما التزم الإضمار في الأوّل و التّخصيص في الثّاني،دفعا للتّكرار،و لا تكرار بالحقيقة؛إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منه،و لا خلق الرّجال و النّساء من الأصلين جميعا،نعم لو كان المراد بقوله: وَ خَلَقَ مِنْها إلى آخره بيان الخلق الأوّل و تفصيله،لكان الأولى عدم دخول الواو،إلاّ أنّ المراد وصف ذاته تعالى بالأوصاف الثّلاثة جميعا،من غير ترتيب يستفاد من النّسق،و إلاّ كان الأنسب أن يقال:

فبثّ بالفاء،فدلّ العطف بالواو في الجميع،على أنّ المراد هو ما ذكرنا،و أنّ التّفصيل و التّرتيب موكول إلى قضيّة العقل،فافهم و اللّه تعالى أعلم.(4:164

أبو حيّان :و معنى الخلق هنا:الاختراع بطريق التّفريع،و الرّجوع إلى أصل واحد،كما قال الشّاعر:

إلى عرق الثّرى و شجت عروقي

و هذا الموت يسلبني شبابي

قال في«ريّ الظّمآن»:و دلّت الإضافة على جواز إضافة الشّيء إلى الأصل الّذي يرجع إليه،و أن يعد ذلك الرّاجع إلى التّوالد و التّعاقب و التّتابع،و على أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدّهريّة،و إلاّ لقال:

ص: 328

أخرجكم من نفس واحدة،فأضاف خلقنا إلى آدم، و إن لم نكن من نفسه بل كنّا من نطفة واحدة حصلت بمن اتّصل به من أولاده،و لكنّه الأصل،انتهى.

و قال الأصمّ:لا يدلّ العقل على أنّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة،بل السّمع.و لمّا كان صلّى اللّه عليه و سلّم أمّيّا ما قرأ كتابا،كان معنى(خلقكم)دليلا على التّوحيد، و مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دليلا على النّبوّة.انتهى.

(3:154)

السّمين:قوله:(و خلق)فيه ثلاثة أوجه:

أحدها:أنّه عطف على معنى(واحدة)لما فيه من معنى الفعل،كأنّه قيل:«من نفس وحدت»أي انفردت...

الثّاني:أنّه عطف على محذوف.[و نقل قول الزّمخشريّ ثمّ قال:]

و إنّما حمل الزّمخشريّ و القائل الّذي قبله على ذلك مراعاة التّرتيب الوجوديّ،لأنّ خلق حوّاء- و هي المعبّر عنها بالزّواج-قبل خلقنا،و لا حاجة إلى ذلك،لأنّ«الواو»لا تقتضي ترتيبا على الصّحيح.

الثّالث:أنّه عطف على(خلقكم)فهو داخل في حيّز الصّلة،و«الواو»لا يبالى بها؛إذ لا تقتضي ترتيبا.

إلاّ أنّ الزّمخشريّ خصّ هذا الوجه بكون الخطاب في (يا أيّها الناس)لمعاصري الرّسول عليه السّلام،فإنّه قال:

[ذكر القول الثّاني من قولي الزّمخشريّ و قال:]

فظاهر هذا خصوصيّة الوجه الثّاني بكون الخطاب للمعاصرين،و فيه نظر.و قدّر بعضهم مضافا في(منها) أي«من جنسها زوجها»و هذا عند من يرى أنّ حوّاء لم تخلق من آدم،و إنّما خلقت من طينة فضلت من طينة آدم،و هذا قول مرغوب عنه.(2:295)

أبو السّعود : وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها فإنّه مع ما عطف عليه صريح في ذلك،و هو معطوف:إمّا على مقدّر ينبئ عنه سوق الكلام،لأنّ تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة،كأنّه قيل:خلقكم من نفس واحدة خلقها أوّلا و خلق منها زوجها إلخ،و هو استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدإ، و بيان كيفيّة خلقهم منه،و تفصيل ما أجمل أوّلا،أو صفة ل(نفس)مفيدة لذلك.

و إمّا على(خلقكم)داخل معه في حيّز الصّلة مقرّر و مبيّن لما ذكر،و إعادة الفعل مع جواز عطف مفعوله على مفعول الفعل الأوّل كما في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة:21،لإظهار ما بين الخلقين من التّفاوت،فإنّ الأوّل بطريق التّفريع من الأصل، و الثّاني بطريق الإنشاء من المادّة،فإنّه تعالى خلق حوّاء من ضلع آدم عليه السّلام.

روي أنّه عزّ و جلّ لمّا خلقه عليه السّلام و أسكنه الجنّة ألقى عليه النّوم،فبينما هو بين النّائم و اليقظان خلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليسرى،فلمّا انتبه وجدها عنده.و تأخير ذكر«خلقها»عن ذكر«خلقهم»لما أنّ تذكير«خلقهم»أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على الامتثال بالأمر بالتّقوى من تذكير«خلقها»،و تقديم الجارّ و المجرور للاعتناء ببيان مبدئيّته عليه السّلام لها مع ما فيه من التّشويق إلى

ص: 329

المؤخّر كما مرّ مرارا،و إيرادها بعنوان الزّوجيّة تمهيد لما بعده من التّناسل.(2:92)

نحوه ملخّصا البروسويّ.(2:159)

الكاشانيّ: [نقل أقوال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الصّادقين عليهما السّلام ثمّ قال:]

قال في«الفقيه:...،و الخبر الّذي روى أنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم الأيسر صحيح،و معناه:من الطّينة الّتي فضلت من ضلعه الأيسر،فلذلك صارت أضلاع الرّجال أنقص من أضلاع النّساء».

أقول:فما ورد أنّها خلقت من ضلعه الأيسر إشارة إلى أنّ الجهة الجسمانيّة الحيوانيّة في النّساء أقوى منها في الرّجال،و الجهة الرّوحانيّة الملكيّة بالعكس من ذلك،لأنّ اليمين ممّا يكنّى به عن عالم الملكوت الرّوحانيّ،و الشّمال ممّا يكنّى به عن عالم الملك الجسمانيّ،فالطّين عبارة عن مادّة الرّوح و لا ملك إلاّ بملكوت،و هذا هو المعنيّ بقوله[الرّسول]:

و كلتا يديه يمين،فالضّلع الأيسر المنقوص من آدم كناية عن بعض الشّهوات الّتي تنشأ من غلبة الجسميّة الّتي هي من عالم الخلق،و هي فضلة طينه المستنبط من باطنه الّتي صارت من مادّة لخلق حوّاء،فنبّه في الحديث على أنّ جهة الملكوت و الأمر في الرّجال أقوى من جهة الملك و الخلق،و بالعكس منهما في النّساء،فإنّ الظّاهر عنوان الباطن،و هذا هو السّرّ في هذا النّقص في أبدان الرّجال،بالإضافة إلى النّساء، و أسرار اللّه لا ينالها إلاّ أهل السّرّ،فالتّكذيب في كلام المعصومين إنّما يرجع إلى ما فهمه العامّة من حمله على الظّاهر دون أصل الحديث.(1:383)

الآلوسيّ: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها و هو عطف على(خلقكم)داخل معه في حيّز الصّلة،و أعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التّفاوت،لأنّ الأوّل بطريق التّفريع من الأصل،و الثّاني بطريق الإنشاء من المادّة.فإنّ المراد من الزّوج:حوّاء و هي قد خلقت من ضلع آدم عليه السّلام الأيسر،كما روي ذلك عن ابن عمر و غيره.و روى الشّيخان:«استوصوا بالنّساء خيرا فإنّهنّ خلقن من ضلع،و إنّ أعوج شيء من الضّلع أعلاه،فإن ذهبت تقيمه كسرته،و إن تركته لم يزل أعوج».

و أنكر أبو مسلم خلقها من الضّلع،لأنّه سبحانه قادر على خلقها من التّراب،فأيّ فائدة في خلقها من ذلك.و زعم أنّ معنى(منها)من جنسها،و الآية على حدّ قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً النّحل:74،و وافقه على ذلك بعضهم مدّعيا أنّ القول بما ذكر يجرّ إلى القول:بأنّ آدم عليه السّلام كان ينكح بعضه بعضا،و فيه من الاستهجان ما لا يخفى.و زعم بعض أنّ حوّاء كانت حورية خلقت ممّا خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنّة.

و كلا القولين باطل.أمّا الثّاني فلأنّه ليس في الآيات و لا الأحاديث ما يتوهّم منه الإشارة إليه أصلا فضلا عن التّصريح به،و مع هذا يقال عليه:إنّ الحور خلقن من زعفران الجنّة كما ورد في بعض الآثار،فإن كانت حوّاء مخلوقة ممّا خلقن منه-كما هو نصّ كلام الزّاعم-فبينها و بين آدم عليه السّلام المخلوق من

ص: 330

تراب الدّنيا بعد كلّىّ يكاد يكون افتراقا في الجنسيّة الّتي ربّما توهمها الآية،و يستدعي بعد وقوع التّناسل بينهما في هذه النّشأة.

و إن كانت مخلوقة ممّا خلق منه آدم،فهو مع كونه خلاف نصّ كلامه يردّ عليه أنّ هذا قول بما قاله أبو مسلم،و إلاّ يكنه فهو قريب منه.

و أمّا الأوّل فلأنّه لو كان الأمر كما ذكر فيه،لكان النّاس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة و هو خلاف النّصّ،و أيضا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصّحيحة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هذا يردّ على الثّاني أيضا.

و القول بأنّه:أيّ فائدة في خلقها من ضلع و اللّه تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟

يقال عليه:إنّ فائدة ذلك سوى الحكمة الّتي خفيت عنّا،إظهار أنّه سبحانه قادر على أن يخلق حيّا من حيّ لا على سبيل التّوالد-كما أنّه قادر على أن يخلق حيّا من جماد كذلك-و لو كانت القدرة على الخلق من التّراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة،لخلق الجميع من التّراب بلا واسطة،لأنّه سبحانه-كما أنّه قادر على خلق آدم من التّراب-هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا،فما هو جوابكم عن خلق النّاس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السّلام؟فهو جوابنا عن خلق حوّاء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب.

و القول:بأنّ ذلك يجرّ إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه،لأنّ هذا التّشخّص الخاصّ الحاصل لذلك الجزء؛بحيث لم يبق من تشخّصه الأصليّ شيء ظاهر، يدفع الاستهجان الّذي لا مقتضى له إلاّ الوهم الخالص،لا سيّما و الحكمة تقتضي ذلك التّناكح الكذائيّ.

فقد ذكر الشّيخ الأكبر قدّس سرّه:أنّ حوّاء لمّا انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشّهوة النّكاحيّة الّتي بها وقع الغشيان لظهور التّوالد و التّناسل،و كان الهواء الخارج الّذي عمر موضعه جسم حوّاء عند خروجها؛إذ لا خلاء في العالم،فطلب ذلك الجزء الهوائيّ موضعه الّذي أخذته حوّاء بشخصيّتها،فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحوّاء،فوقع عليها، فلمّا تغشّاها حملت منه فجاءت بالذّرّيّة،فبقى بعد ذلك سنّة جارية في الحيوان من بني آدم و غيره بالطّبع.

لكنّ الإنسان هو الكلمة الجامعة و نسخة العالم،فكلّ ما في العالم جزء منه،و ليس الإنسان بجزء لواحد من العالم.و كان سبب الفصل و إيجاد هذا المنفصل الأوّل:

طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الّذي هو النّوع الأخصّ،و ليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطّبيعيّ للإنسان الكامل بالصّورة الّتي أرادها اللّه تعالى،ما يشبه القلم الأعلى و اللّوح المحفوظ الّذي يعبّر عنه بالعقل الأوّل و النّفس الكلّيّة،انتهى.

و يفهم من كلامهم أنّ هذا الخلق لم يقع هكذا إلاّ بين هذين الزّوجين دون سائر أزواج الحيوانات، و لم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل،نعم أخرج عبد بن حميد،و ابن المنذر عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما:

أنّ زوج إبليس عليهما اللّعنة،خلقت من خلفه

ص: 331

الأيسر،و الخلف-كما في الصّحاح-أقصر أضلاع الجنب،و بذلك فسّره الضّحّاك في هذا المقام،و إنّما أخّر بيان خلق الزّوج عن بيان خلق المخاطبين،لما أنّ تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها،و قدّم الجارّ للاعتناء ببيان مبدئيّة آدم عليه السّلام لها مع ما في التّقديم من التّشويق إلى المؤخّر،و اختير عنوان الزّوجيّة تمهيدا لما بعده من التّناسل.

و ذهب بعض المحقّقين:إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدّر ينبئ عنه السّوق،لأنّ تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة، كأنّه قيل: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلقها أوّلا وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها إلخ،و هذا المقدّر إمّا استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدإ و بيان كيفيّة خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أوّلا،و إمّا صفة ل(نفس)مفيدة لذلك.و أوجب بعضهم هذا التّقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدّم عامّا في الجنس و لعلّ ذلك،لأنّه لو لا التّقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى: وَ بَثَّ مِنْهُما أي نشر و فرّق من تلك النّفس و زوجها،على وجه التّناسل و التّوالد.(4:181)

القاسميّ: أي من نفسها،يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التّآلف و التّضامّ،فإنّ الجنسيّة علّة الضّمّ.و قد أوضح هذا بقوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها...

الرّوم:21.(5:1095)

رشيد رضا :قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها فمعناه على الوجه الّذي قرّرناه،يظهر بطريق الاستخدام،بحمل النّفس على الجنس.و إعادة الضّمير عليه بمعنى أحد الزّوجين،أو بجعل العطف على محذوف يناسب ذلك-كما قال الجمهور-أي وحّد تلك الحقيقة أوّلا ثمّ خلق لها زوجها من جنسها.

و معناه المراد عند الجمهور:أنّ اللّه تعالى خلق لتلك النّفس الّتي هي آدم،زوجها منها و هي حوّاء.قالوا:

إنّه خلقها من ضلعه الأيسر و هو نائم،و ذلك ما صرّح به في الفصل الثّاني من سفر التّكوين،و ورد في بعض الأحاديث،و لو لا ذلك لم يخطر على بال قارئ القرآن.

و هناك قول آخر اختاره أبو مسلم كما قال الرّازيّ:

و هو أنّ معنى وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها: خلقه من جنسها فكان مثلها،فهو كقوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً... الرّوم:21،[ثمّ ذكر الآيات:النّحل:72،و الشّورى:11،و التّوبة:

128،و آل عمران:164]

فلا فرق بين عبارة الآية الّتي نفسّرها و عبارة هذه الآيات،فالمعنى في الجميع واحد،و من ثبت عنده أنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم فهو غير ملجإ إلى إلصاق ذلك بالآية،و جعله تفسيرا لها و إخراجها عن أسلوب أمثالها من الآيات.

هذا و إنّ في«النّفس الواحدة»وجها آخر و هو أنّها الأنثى،و لذلك أنّثها حيث وردت و ذكر زوجها الّذي خلق منها في آية الأعراف،فقال: لِيَسْكُنَ إِلَيْها الأعراف:189،و عليه يظهر افتتاح السّورة بها و وجه تسميتها ب«النّساء»أكثر.و أصحاب هذا

ص: 332

الرّأي يقولون:إنّه من قبيل ما هو ثابت إلى اليوم عند العلماء من التّوالد البكريّ،و هو أنّ إناث بعض الحيوانات الدّنيا تلد عدّة بطون بدون تلقيح من الذّكور.و لكن لا بدّ أن يكون قد سبق تلقيح لبعض أصولها.

و خلق زوجها منها على هذا الوجه يحتمل أن يكون منها ذاتها و أن يكون من جنسها.و ثمّ وجه آخر قريب من هذا،و هو أنّ«النّفس الواحدة»كانت جامعة لأعضاء الذّكورة و الأنوثة كالدّودة الوحيدة، ثمّ ارتقت فصار أفرادها زوجين،قال بهذا و ذاك بعض الباحثين العصريّين،و محلّ تحقيقه تفسير آية أخرى.

[ثمّ ذكر قول الزّمخشريّ في عطف(خلق)]

(4:330)

نحوه ملخّصا المراغيّ.(4:177)

ابن عاشور :و النّفس الواحدة هي آدم و الزّوج:

حوّاء،فإنّ حوّاء أخرجت من آدم،من ضلعه،كما يقتضيه ظاهر قوله:(منها)،و(من)تبعيضيّة.و معنى التّبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم.قيل:من بقيّة الطّينة الّتي خلق منها آدم،و قيل:فصلت قطعة من ضلعه،و هو ظاهر الحديث الوارد في«الصّحيحين».

و من قال:إنّ المعنى و خلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل،لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان،فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه.

و عطف قوله: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها على خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فهو صلة ثانية،و قوّاه:

وَ بَثَّ مِنْهُما صلة ثالثة،لأنّ الّذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى،و لأنّ في معاني هذه الصّلات زيادة تحقيق اتّصال النّاس بعضهم ببعض؛إذا لكلّ من أصل واحد،و إن كان خلقهم ما حصل إلاّ من زوجين،فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه.

و قد حصل من ذكر هذه الصّلات تفصيل لكيفيّة خلق اللّه النّاس من نفس واحدة.و جاء الكلام على هذا النّظم توفية بمقتضى الحال الدّاعي للإتيان باسم الموصول،و مقتضى الحال الدّاعي لتفصيل حالة الخلق العجيب.و لو غيّر هذا الأسلوب فجيء بالصّورة المفصّلة دون سبق إجمال،فقيل:الّذي خلقكم من نفس واحدة و بثّ منها رجالا كثيرا و نساء،لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة.و قد ورد في الحديث:أنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم،فلذلك يكون حرف(من)في قوله: وَ خَلَقَ مِنْها للابتداء، أي أخرج خلق حوّاء من ضلع آدم.و الزّوج هنا أريد به الأنثى الأولى الّتي تناسل منها البشر،و هي حوّاء.

و أطلق عليها اسم الزّوج،لأنّ الرّجل يكون منفردا، فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجا في بيت،فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار،و إن كان أصل لفظ الزّوج أن يطلق على مجموع الفردين،فإطلاق الزّوج على كلّ واحد من الرّجل و المرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفيّة،و لذلك استوى فيه الرّجل و المرأة،لأنّه من الوصف بالجامد،فلا يقال للمرأة:

زوجة،و لم يسمع في فصيح الكلام،و لذلك عدّه بعض أهل اللّغة لحنا.و كان الأصمعيّ ينكره أشدّ الإنكار.

[ثمّ استشهد بشعر]

ص: 333

و قد شمل وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها العبرة بهذا الخلق العجيب الّذي أصله واحدة،و يخرج هو مختلف الشّكل و الخصائص،و المنّة على الذّكران بخلق النّساء لهم،و المنّة على النّساء بخلق الرّجال لهنّ،ثمّ منّ على النّوع بنعمة النّسل في قوله: وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التّكوين العجيب.(4:9)

مغنيّة:قيل:إنّ«من»في(منها)للتّبعيض،و إنّ المراد ب(زوجها)حوّاء،و أنّ اللّه تعالى خلقها من ضلع آدم،و قيل:بل خلقها من فضل طينته،كما في بعض الرّوايات.

و يلاحظ بأنّه لا دليل على أنّ«من»في(منها) للتّبعيض،بل يجوز أن تكون للبيان،مثل قوله تعالى:

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً الرّوم:21،و عليه يكون المعنى أنّ كلاّ من النّفس الواحدة و زوجها خلق من أصل واحد،و هذا الأصل هو التّراب،لقوله تعالى: ...أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ...

الرّوم:20.

أمّا قول من قال:إنّ المراد ب(زوجها:)حوّاء، فلا دليل عليه من القرآن؛حيث لم يرد لها ذكر فيه على الإطلاق.(2:244)

الطّباطبائيّ: و ظاهر الجملة،أعني قوله:

وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها أنّها بيان لكون زوجها من نوعها بالتّماثل،و أنّ هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين،فلفظة(من) نشوئيّة،و الآية في مساق قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً الرّوم:21.[ثمّ ذكر الآيات:النّحل:72،الشّورى:11،و الذّاريات:49]

فما في بعض التّفاسير:أنّ المراد بالآية كون زوج هذه النّفس مشتقّة منها و خلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الأخبار:أنّ اللّه خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه،ممّا لا دليل عليه من الآية.(4:136)

عبد الكريم الخطيب :أي و خلق من هذه النّفس،و من مادّتها و طبيعتها زوجا لهذه النّفس، مقابلا لها،و مكمّلا لوجودها.

و القصّة الّتي تقول:إنّ«حوّاء»خلقت من ضلع آدم،هي من واردات الأساطير،و قد أخذ بها معظم المفسّرين،و فهموا هذه الآية الكريمة عليها.

و الآية الكريمة لا تعين على هذا الفهم،و لا تسانده و إنّا إذ ننظر في قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها لنجد الضّمير في(منها)الّذي يشير إلى النّفس الواحدة،لا يقصدها باعتبارها كائنا بشريّا هو«آدم» و إنّما يشير إليها باعتبارها مادّة مهيّأة لخلق البشر.

و من هذه المادّة كان خلق آدم،و من هذه المادّة أيضا كان خلق زوجه،الّتي يكتمل بها وجوده،كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في آية أخرى: وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً النّبأ:8،و ليس هذا في خلق الإنسان وحده، بل هو التّدبير الّذي قدّره اللّه لخلق الكائنات الحيّة كلّها،من حيوان و نبات.

و من يدري فربّما كان ذلك في عالم الجماد،و في هذا يقول الحقّ جلّ و علا: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الذّاريات:49،و يقول

ص: 334

سبحانه: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ق:7،فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصّورة الّتي خلق عليها آدم و حوّاء كما تحدّث الأساطير عنها؟الذّكر أوّلا،ثمّ كان من ضلع الذّكر خلق الأنثى؟.ذلك ما لا مفهوم له في علم،و لا معقول له في عقل!إنّ آيات القرآن الكريم الّتي تتحدّث عن الذّكر و الأنثى، لا تفرق بينهما في أصل الخلقة،بل تجعلهما طبيعة واحدة،كان منها الذّكر و الأنثى،و هذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: ...أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى.. آل عمران:195،و هذا ما نفهم عليه قوله تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى* ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى القيمة:

36-39،ففي قوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى، إشارة صريحة إلى أنّ الإنسان يحمل في كيانه طبيعة الذّكر و الأنثى،أي المادّة المخلّق منها الذّكر و الأنثى،ففي الذّكر،ذكر و أنثى،و في الأنثى، أنثى و ذكر؛و ذلك ما يقرّره العلم الحديث و يزكّيه القرآن العظيم.

و لو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة و نقول في خلق آدم و حوّاء بما تقول به الأساطير،لكان علينا أن نرتفع بخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء في «الإميبيا»حيث يقوم التّوالد و التّكاثر فيها على الانقسام في الجرثومة الواحدة!فهل إلى هذه الجرثومة الإيميبيّة تمتدّ أنظار المفسّرين الّذين قالوا:إنّ حوّاء و آدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أوّلا،ثمّ انقسمت على نفسها فكانت آدم و حوّاء ثانيا؟إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا،و هو الّذي نقول به،و هو أنّ آدم وليد دورة طويلة في سلسلة التّطوّر،و أنّ أوّل سلسلة للحياة الّتي تطوّر منها كانت«الإيميبيا»الّتي تتوالد بالانقسام!(2:682)

مكارم الشّيرازيّ: قد فهم منها بعض المفسّرين أنّ«حوّاء»قد خلقت من جسم آدم و أخذت منه أخذا،و استشهدوا لذلك بروايات و أحاديث غير معتبرة،تقول:إنّ حوّاء خلقت من أضلاع آدم،و هو أمر قد صرّح به في سفر التّكوين من التّوراة أيضا.

لكن مع ملاحظة سائر الآيات القرآنيّة يرتفع كلّ إبهام حول تفسير هذه الآية،و يتّضح أنّ المراد منها هو أنّ اللّه سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه-أي من جنس البشر-ففي الآية:21،من سورة الرّوم نقرأ وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً كما نقرأ في الآية:72،من سورة النّحل وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً.

و من الواضح أنّ معنى قوله تعالى:[ذكر الآية] هو أنّه خلقهم من جنسكم لا أنّه خلقهنّ من أعضاء جسمكم.

و وفقا لرواية منقولة عن الإمام محمّد الباقر عليه السّلام كما-في تفسير العيّاشيّ-أنّه كذّب بشدّة فكرة خلق حوّاء من ضلع آدم،و صرّح عليه السّلام بأنّها خلقت من فضل الطّينة الّتي خلق منها آدم.(3:75)

فضل اللّه :كيف نتصوّر عمليّة الخلق هذه؟

ص: 335

جاء في بعض الآثار المرويّة:أنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم،و يدخل البعض في حساب أضلع المرأة و أضلع الرّجل،بعد أن أكّد البعض الفكرة بهذه الآية، على أساس أنّ المراد من كلمة(زوجها)حوّاء، و يذهب آخرون إلى أنّ كلمة الزّوج لا يراد منها ذلك، لأنّها تطلق على الذّكر و الأنثى،فيقال:فلان زوج فلانة،كما يقال:فلانة زوج فلان.و لكنّنا استظهرنا من الآية ذلك،باعتبار أنّها واردة في مقام تسلسل الخلق،دون أن يتمّ الخلق من ضلع آدم،فإنّ الآية لا تدلّ عليه،بل يمكن أن يتّجه النّظر نحو الجزء المتبقّي من الطّينة الّتي خلق منها آدم.و قد ورد ذلك في حديث عن الإمام محمّد الباقر عليه السّلام في ما رواه في تفسير «الميزان»،عن«نهج البيان»للشّيبانيّ،عن عمرو بن أبي المقدام،عن أبيه قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام:من أيّ شيء خلق اللّه حوّاء؟فقال عليه السّلام:أيّ شيء يقولون هذا الخلق؟قلت:يقولون:إنّ اللّه خلقها من ضلع من أضلاع آدم.فقال:كذبوا،أ كان اللّه يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟فقلت:جعلت فداك،من أيّ شيء خلقها؟ فقال:أخبرني أبي عن آبائه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

إنّ اللّه تبارك و تعالى قبض قبضة من طين،فخلطها بيمينه،و كلتا يديه يمين،فخلق منها آدم و فضلت فضلة من الطّين،فخلق منها حوّاء.

و ممّا يؤكّد ذلك أنّ اللّه تحدّث في آيات أخرى عن الموضوع بطريقة الجمع،ممّا يدلّ على أنّ المراد من خلق الزّوج من نوعه و من عنصره الأصليّ،و ذلك في قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً الرّوم:21.[و ذكر آية:72،من سورة النّحل فقال:]

فإنّ من المعلوم من خلال طبيعة التّعبير،أنّ المراد منه أنّ اللّه خلق لكلّ إنسان من داخل نوعه زوجا، لا من بعض أعضاء جسده.و اللّه العالم.

هذا في جانب،و في جانب آخر فإنّنا قد نستوحي من عنوان«النّفس الواحدة»الرّفض القرآنيّ لكلّ جوانب التّمييز العنصريّ و العرقيّ و اللّونيّ و اللّغويّ و الجغرافيّ،فإنّ هذه العناصر المتنوّعة لا تمثّل عمقا في إنسانيّة الإنسان المتمثّلة في نفس واحدة،بل هي من الأمور الطّارئة في حركة وجوده في خطّ التّنوّع الّذي يمثّل قدرة اللّه على تنويع الشّيء الواحد بألوان و خصائص متعدّدة،و من دون أن يفقد في تنوّعه هذا طبيعته الأصليّة.

جاء في تفسير المنار-كما نقله صاحب تفسير الكاشف-أنّه نقل عن أستاذه الشّيخ محمّد عبده،أنّ اللّه تعالى قد أبهم أمر النّفس الّتي خلق النّاس منها، و جاء بها نكرة،فندعها نحن على إبهامها.و ما ورد في آيات أخرى من مخاطبته النّاس بقوله: يا بَنِي آدَمَ الأعراف:27،لا ينافي هذا؟رأي لا يرفع الإبهام و لا يعدّ نصّا قاطعا في كون جميع البشر من أبناء آدم؛ إذ يكفي في صحّة الخطاب أن يكون من وجّهه إليهم في زمن التّنزيل،هم من أولاد آدم،و قد تقدّم في تفسير قصّة آدم في أوائل سورة البقرة أنّه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس،فسدوا فيها و سفكوا الدّماء.

و لكنّنا نلاحظ على هذا الرّأي،أنّ الحديث

ص: 336

القرآنيّ عن«بني آدم»لم يكن مختصّا بزمن التّنزيل،بل هو شامل للإنسان كلّه،كما في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الأعراف:

172،و قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ...

الإسراء:70،و قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ الأعراف:27،فإنّ هذه الخطابات أو الأحاديث لم تتوجّه إلى النّاس في زمن الدّعوة،بل هي موجّهة للإنسان كلّه،الأمر الّذي يوحي أنّ هذا الإنسان الّذي يعيش في هذه الأرض هو ابن آدم، و ليس ابن نفس أخرى.

و لا ينافي ذلك ورود بعض الرّوايات الدّالّة على وجود مخلوقات مشابهة لهذا الإنسان قبل وجود آدم، لأنّ الظّاهر-على تقدير صحّة الرّواية-أنّ هذا النّوع انقرض و لم يعدله دور في الأرض،و لذلك جعل اللّه الإنسان الجديد الّذي بدأه بآدم خليفة له في الأرض.

و قد تحدّثنا في تفسير سورة البقرة أنّ حديث الملائكة عن مخلوق أرضيّ يفسد في الأرض و يسفك الدّماء لا يدلّ على تجربة إنسانيّة سابقة،فهناك احتمال آخر في التّفسير.(7:24)

4- وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ. الشّعراء:166

لاحظ ابن عبّاس(313)،و الفرّاء(2:282)، و الزّمخشريّ(3:124)،و القرطبيّ(13:132)، و البيضاويّ(2:165)،و النّسفيّ(3:193)، و النّيسابوريّ(19:67)،و أبو السّعود(5:56)، و البروسويّ(6:301)،و الآلوسيّ(19:115)، و ابن عاشور(19:186)،و مغنيّة(5:513)، و الطّباطبائيّ(15:309).

5- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها. الرّوم:21

لاحظ:الفخر الرّازيّ.(25:110)

6- سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ. يس:36

لاحظ:الطّبريّ(10:440)،و الطّوسيّ(8:

458)،و القشيريّ(5:216)،و الميبديّ(8:226)،و الطّبرسيّ(4:424)،و الفخر الرّازيّ(26:69)،و الطّباطبائيّ(17:87).

7- وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. الأنعام:101

ابن عبّاس: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بائن منه.(116)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و اللّه خلق كلّ شيء، و لا خالق سواه.و كلّ ما تدعون أيّها العادلون باللّه الأوثان من دونه،خلقه و عبيده،ملكا كان الّذي تدعونه ربّا،و تزعمون أنّه له ولد،أو جنّيّا أو إنسيّا.

(5:293)

الطّوسيّ: قوله: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ يحتمل أمرين:

أحدهما:أن يكون أراد ب(خلق)قدّر،فعلى هذا

ص: 337

تكون الآية عامّة،لأنّه تعالى مقدّر كلّ شيء.

و يحتمل أن يكون أحدث كلّ شيء،فعلى هذا يكون مخصوصا،لأنّه لم يحدث أشياء كثيرة من مقدورات غيره،و ما هو معدوم لم يوجد على مذهب من يسمّيها أشياء،و كقديم آخر،لأنّه يستحيل.

(4:238)

الميبديّ: قوله تعالى: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ دليل على أنّ كلّ حادث في العالم من فعل اللّه و خلقه و اختراعه و وضعه،ليس خالقا سواه،و لا محدث و لا قادر دونه،فالعباد و ما سواهم كلّهم خلقه، و كذلك أفعالهم و أعمالهم و صنائعهم،و حركاتهم و سكناتهم،أ في خير كانت أو في شرّ،كلّها من خلقه و صنعه،و متعلّقة بقدرته،لأنّ اللّه جلّ جلاله يقول:

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ و اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الرّعد:

16،و وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ الصّافّات:96، و أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الملك:14.

نعم فعمل العبد مضاف إليه من جهة الاكتساب، و عليه يدور الثّواب و العقاب،كما أنّ حركة العبد خلق اللّه من ناحية و وصف للعبد و كسبه من ناحية أخرى،فليس هذا جبرا محضا،لأنّ الفرق بين الحركة المقدورة و الرّعدة الضّروريّة بيّن،و ليس فعل العبد خلق العبد و اختراعه؛لأنّه عاجز عن إدراك الأجزاء المكتسبة و إعدادها.فالاعتقاد السّليم و الطّريق القويم أن نقول:إنّ فعل العبد مقدور بقدرة اللّه من جهة الخلق و الاختراع،و مقدور بقدرة العبد من جهة الاكتساب،و هي القدرة الّتي خلقها اللّه فيه،و جعلها وصفه؛فهذه القدرة وصف العبد و خلق اللّه،و ليس من كسب العبد،فالحركة خلق اللّه و وصف للعبد و كسبه.

(3:445)

الطّبرسيّ: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ في هذا نفي للصّاحبة و الوالد،فإنّ من خلق الأشياء لا يكون شيء من خلقه صاحبة له و لا ولدا له،إنّ الأشياء كلّها مخلوقة له،فكيف يتعزّز بالولد و يتكثّر به.(2:343)

القرطبيّ: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عموم معناه الخصوص،أي خلق العالم،و لا يدخل في ذلك كلامه و لا غيره من صفات ذاته،و مثله وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ الأعراف:156،و لم تسع إبليس و لا من مات كافرا،و مثله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ الأحقاف:25، و لم تدمّر السّماوات و الأرض.(7:54)

نحوه أبو حيّان.(4:195)

الخازن :يعني أنّ الصّاحبة و الولد في جملة من خلق،لأنّه خالق كلّ شيء،ليس كمثله شيء،فكيف يكون الولد لمن لا مثل له،و إذا نسب الولد و الصّاحبة إليه فقد جعل له مثل،و اللّه تعالى:منزّه عن المثليّة،و هذه الآية حجّة قاطعة على فساد قول النّصارى.(2:137)

السّمين:هذه جملة إخباريّة مستأنفة،و يجوز أن يكون حالا لازمة.(3:148)

الشّربينيّ: أي من شأنه أن يخلق.(1:441)

أبو السّعود :إمّا جملة مستأنفة أخرى سيقت لتحقيق ما ذكر من الاستحالة،أو حال أخرى مقرّرة لها،أي أنّى له ولد و الحال أنّه خلق كلّ شيء انتظمه

ص: 338

التّكوين و الإيجاد من الموجودات الّتي من جملتها ما سمّوه ولدا له تعالى،فكيف يتصوّر أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟(2:423)

نحوه ملخّصا البروسويّ(3:76)،و شبّر(2:

296)،و القاسميّ(6:2445).

الآلوسيّ: [نحو أبي السّعود ثمّ أضاف:]

و يفهم من«التّفسير الكبير»أنّ من زعم أنّ للّه تعالى شأنه ولدا،إن أراد أنّه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدّم نطفة مثلا،ردّ بأن خلقه للسّماوات و الأرض كذلك،فيلزم كونهما ولدا له تعالى،و هو باطل بالاتّفاق.و إن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات،ردّ أوّلا:بأنّه لا صاحبة له، و هي أمر لازم في المعروف،و ثانيا:بأنّ تحصيل الولد بذلك الطّريق إنّما يصحّ في حق من لا يكون قادرا على الخلق و الإيجاد و التّكوين دفعة واحدة.أمّا من كان خالقا لكلّ الممكنات و كان قادرا على كلّ المحدثات فإذا أراد شيئا قال له:كن فيكون،فيمتنع منه من إحداث شخص بطريق الولادة،و أن أراد مفهوما ثالثا فهو غير متصوّر.(7:243)

رشيد رضا : وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ خلقا و لم يلد ولادة،فما خرقتم له من الولد مخلوق له مولود،فإن خرجتم عن وضع اللّغات و سمّيتم صدور المخلوقات عنه ولادة،فكلّ ما في السّماوات و الأرض يكون من ولده،و حينئذ يفوتكم ما أردتم من تخصيص بعض المخلوقات بهذه المرتبة،تفضيلا لها على غيرها،و لا يقول أحد منهم بهذا.و هذه الجملة استئنافيّة مقرّرة لإنكار نفي الولد،أو حال بعد حال،و استدلال بعد استدلال.(7:650)

ابن عاشور :و قوله: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عطف على جملة: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ باعتبار ظاهرها،و هو التّوصيف بصفات العظمة و القدرة، فبعد أن أخبر بأنّه تعالى مبدع السّماوات و الأرض، أخبر أنّه خالق كلّ شيء،أي كلّ موجود،فيشمل ذوات السّماوات و الأرض،و شمل ما فيهما،و الملائكة من جملة ما تحويه السّماوات،و الجنّ من جملة ما تحويه الأرض عندهم،فهو خالق هذين الجنسين.

الخالق لا يكون أبا كما علمت،ففي هذه الجملة إبطال الولد (1)أيضا،و هذا إبطال ثالث بطريق كلّيّة بعد أن أبطل إبطالا جزئيّا،و المعنى أنّ الموجودات كلّها متساوية في وصف المخلوقيّة،و لو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين.(6:249)

مغنيّة:و المخلوق لا يكون شريكا للخالق.

(3:238)

عبد الكريم الخطيب :تقرير لهذا الحكم-أي ليس له ولد-و توكيد له؛إذ أنّ الخالق لكلّ شيء، لا يناسبه و لا يماثله شيء من مخلوقاته،و إذا فلا يكون له من تلك المخلوقات صاحبة و لا ولد.(4:253)

8- وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. الفرقان:2

لاحظ:ابن عبّاس(300)،و الطّبريّ(9:364)،!!

ص: 339


1- في الأصل:إبطال و الولد!!

و الثّعلبيّ(7:123)،و الطّوسيّ(7:470)،و الواحديّ (3:333)،و الميبديّ(7:5)،و الزّمخشريّ(3:81)، و ابن عطيّة(4:199)،و الطّبرسيّ(4:160)، و الفخر الرّازيّ(24:46)،و القرطبيّ(13:3)، و البيضاويّ(2:137)،و النّسفيّ(3:158)، و النّيسابوريّ(18:140)،و الخازن(5:77)، و أبو حيّان(6:480)،و السّمين(5:241)،و ابن كثير(5:134)و الشّربينيّ(2:647،و أبو السّعود (4:492)،و البروسويّ(6:188)،و الآلوسيّ(18:

233)،و ابن عاشور(19:10)،و الطّباطبائيّ(15:

176)،و عبد الكريم الخطيب(9:1349)،و مكارم الشّيرازيّ(11:168)،و فضل اللّه(17:11).

9- اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ* وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ* وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ.

إبراهيم:32-34

الطّبريّ: اللّه الّذي أنشأ السّماوات و الأرض من غير شيء أيّها النّاس.(7:457)

الطّوسيّ: أخبر اللّه تعالى أنّه جلّ و عزّ:اخترع السّماوات و الأرض و أنشأهما بلا معين و لا مشير.

(6:296)

القشيريّ: في الظّاهر رفع السّماء فأعلاها، و الأرض من تحتها دحاها،و خلق فيها بحارا،و أجرى أنهارا،و أنبت أشجارا،و أثبت لها أنوارا و أزهارا، و أمطر من السّماء ماء مدرارا.و أخرج من الثّمرات أصنافا،و نوّع لها أوصافا،و أفرد لكلّ منها طعما مخصوصا،و لإدراكه وقتا معلوما.

و أمّا في الباطن فسماء القلوب زيّنها بمصابيح العقول،و أطلع فيها شمس التّوحيد،و قمر العرفان، و مرج في القلوب بحري الخوف و الرّجاء،و جعل بينها برزخا لا يبغيان،فلا الخوف يغلب الرّجاء و لا الرّجاء يغلب الخوف،كما جاء في الخبر:«لو وزنا لاعتدلا» هذا لعوام المؤمنين،فأمّا للخواصّ فالقبض و البسط، و لخاصّ الخاصّ فالهيبة و الأنس و البقاء و الفناء.

(3:252)

ابن عطيّة: تذكير بآلاء اللّه،و تنبيه على القدرة الّتي فيها إحسان إلى البشر،لتقوم الحجّة من جهتين.

(3:339)

الطّبرسيّ: أي أنشأهما من غير شيء،و بدأ بذكرهما لعظم شأنهما في القدرة و النّعمة.(3:316)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه لمّا أطال الكلام في وصف أحوال السّعداء و أحوال الأشقياء،و كانت العمدة العظمى و المنزلة الكبرى في حصول السّعادات معرفة اللّه تعالى بذاته و بصفاته،و في حصول الشّقاوة فقدان هذه المعرفة،لا جرم ختم اللّه تعالى وصف أحوال السّعداء و الأشقياء بالدّلائل الدّالّة على وجود الصّانع و كمال علمه و قدرته،و ذكر هاهنا عشرة أنواع من الدّلائل:

ص: 340

أوّلها:خلق السّماوات.و ثانيها:خلق الأرض، و إليهما الإشارة بقوله تعالى: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ.... و ثالثها: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ....

و رابعها:قوله: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ... و خامسها:

قوله: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. و سادسها و سابعها:

قوله: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ.

و ثامنها و تاسعها:قوله: وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ.

و عاشرها:قوله: وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ.

و هذه الدّلائل العشرة قد مرّ ذكرها في هذا الكتاب، و تقريرها و تفسيرها مرارا و أطوارا،و لا بأس بأن نذكر هاهنا بعض الفوائد.

فاعلم أنّ قوله تعالى:(اللّه)مبتدأ،و قوله: اَلَّذِي خَلَقَ خبره.ثمّ إنّه تعالى بدأ بذكر خلق السّماوات و الأرض،و قد ذكرنا في هذا الكتاب أنّ السّماء و الأرض من كم وجه تدلّ على وجود الصّانع الحكيم،و إنّما بدأ بذكرهما هاهنا لأنّهما هما الأصلان اللّذان يتفرّع عليهما سائر الأدلّة المذكورة بعد ذلك.(19:126)

نحوه أبو حيّان.(5:427)

القرطبيّ: أي أبدعهما و اخترعهما على غير مثال سبق.(9:366)

نحوه الشّوكانيّ.(3:138)

الخازن :إنّما بدأ بذكر خلق السّماوات و الأرض لأنّها أعظم المخلوقات الشّاهدة الدّالّة على وجود الصّانع الخالق القادر المختار.(4:37)

أبو السّعود :(اللّه)مبتدأ،خبره اَلَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ و ما فيها من الأجرام العلويّة(و الارض) و ما فيها من أنواع المخلوقات.لمّا ذكر أحوال الكافرين لنعم اللّه تعالى و أمر المؤمنين بإقامة مراسم الطّاعة شكرا لنعمه،شرع في تفصيل ما يستوجب على كافّة الأنام،و المثابرة على الشّكر و الطّاعة من النّعم العظام و المنن الجسام،حثّا للمؤمنين عليها، و تقريعا للكفرة المخلّين بها الواضعين موضعها:الكفر و المعاصي،و في جعل المبتدإ الاسم الجليل و الخبر الاسم الموصول بتلك الأفاعيل العظيمة من خلق هذه الأجرام العظام،و إنزال الأمطار و إخراج الثّمرات و ما يتلوها من الآثار العجيبة،ما لا يخفى من تربية المهابة و الدّلالة على قوّة السّلطان.(3:488)

البروسويّ: و ما فيها من الأجرام العلويّة، (و الارض)و ما فيها من أنواع المخلوقات.و قدّم (السماوات)لأنّها بمنزلة الذّكر من الأنثى وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من السّحاب،فإنّ كلّ ما علاك سماء أو من الفلك،فإنّ المطر منه يبتدئ إلى السّحاب و منه إلى الأرض على ما دلّت عليه ظواهر النّصوص.يقول الفقير:هو الأرجح عندي،لأنّ اللّه تعالى زاد بيان نعمه على عباده،فبيّن أوّلا خلق السّماوات و الأرض،ثمّ أشار إلى ما فيها من كلّيّات المنافع،لكنّه قدّم و أخّر كتأخير تسخير الشّمس و القمر،ليدلّ على أنّ كلاّ من هذه النّعم نعمة على حدة،و لو أريد السّحاب لم يوجد التّقابل التّامّ.(4:421)

الآلوسيّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

فقال عزّ قائلا: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ... و هذا أولى ممّا

ص: 341

قيل:أنّه تعالى لمّا أطال الكلام في وصف أحوال السّعداء و الأشقياء،و كان حصول السّعادة بمعرفة اللّه تعالى و صفاته،و الشّقاوة بالجهل بذلك،ختم الوصف بالدّلائل الدّالّة على وجوده جلّ شأنه و كمال علمه و قدرته،فقال سبحانه:ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيّز الصّلة نعما لا دلائل.و الاسم الجليل مبتدأ و الموصول خبره،و لا يخفى ما في الكلام من تربية المهابة و الدّلالة على قوّة السّلطان،و المراد خلق السّماوات و ما فيها من الأجرام العلويّة، و الأرض و ما فيها من أنواع المخلوقات.(13:223)

المراغيّ: أي اللّه الّذي خلق لكم السّماوات و الأرض،هما أكبر خلقا منكم،و فيهما من المنافع لكم ما تعلمون و ما لا تعلمون.و تقدّم تفصيل هذا في مواضع متعدّدة من كتابه الكريم.(13:156)

عبد الكريم الخطيب :مناسبة هذه الآية لما قبلها،هي أنّ الآيات السّابقة توعّدت المشركين الّذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا،و جعلوا للّه أندادا،على حين نوّهت بشأن المؤمنين،و إضافتهم إلى اللّه،و شرّفتهم بالعبوديّة للّه،فجاءت هذه الآية،و الآيات الّتي بعدها لتحدّث عن قدرة اللّه،و جلاله،و علمه،و فضله على عباده من المؤمنين،و الكافرين جميعا.و في هذا العرض مجال لأن يراجع الكافرون أنفسهم،و أن يرجعوا إلى ربّهم،بعد أن يعاينوا آثار رحمته و بدائع قدرته.على حين يزداد المؤمنون إقبالا على اللّه،و اجتهادا في العبادة،فاللّه سبحانه،هو الّذي خلق السّماوات و الأرض و ما فيهنّ...(7:185)

فضل اللّه:بما فيها من أكوان و خلائق و نظم و أوضاع،تنطلق فيها النّعمة من مواقع القدرة.

(13:112)

[و جاءت بهذه المعاني ما بعدها من الآيات الّتي اكتفينا بذكر مصادر نصوصها:]

10- اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ.... الأنعام:1

لاحظ:ابن عبّاس(105)،و قتادة (الطّبريّ 5:143)،و الطّبريّ(5:143)،و الزّجّاج( 2:227)،و الثّعلبيّ(4:134)و الماورديّ(2:92)،و الطّوسيّ(4:79)،و القشيريّ(2:154)،و الميبديّ(3:

287)،و الزّمخشريّ(2:3)،و الطّبرسيّ(2:272)، و الفخر الرّازيّ(12:145)،و القرطبيّ(6:384)، و النّيسابوريّ(7:65)،و أبو حيّان(4:67) و أبو السّعود(2:347)،و شبّر(2:234)، و القاسميّ(6:2234)،و رشيد رضا(7:292)، و مغنيّة(3:158)،و الطّباطبائيّ(7:7)،و عبد الكريم الخطيب(4:117)،و مكارم الشّيرازيّ(4:193).

11- وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ.

... الأنعام:73

لاحظ:الحسن و الجبّائيّ،و الطّبريّ،و الزّجّاج

ص: 342

و البلخيّ(الطّوسيّ: 4:185)،و الطّوسيّ(4:185)، و الواحديّ(2:287)،و الزّمخشريّ(2:29)،و ابن عطيّة(2:308)،و الفخر الرّازيّ(13:31)،و أبو السّعود (2:401)،و البروسويّ(3:52)،و القاسميّ(6:

2366)،و ابن عاشور(6:166)،و الطّباطبائيّ(7:

143)،و عبد الكريم الخطيب(4:217)،و مكارم الشّيرازيّ(4:318).

12- إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ... الأعراف:54

راجع:س ت ت:«ستّة».

13- إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ. يونس:6

لاحظ:ابن عبّاس(170)،و الطّبريّ(6:533)، و الطّوسيّ(5:392)،و الميبديّ(4:252)،و ابن عطيّة (3:106)،و الطّبرسيّ(3:92)،و الفخر الرّازيّ(17:

37)،و أبو حيّان(5:126)،و أبو السّعود(3:214)، و البروسويّ(4:17)،و الآلوسيّ(11:72)، و القاسميّ(9:3325)،و المراغيّ(11:69)،و سيّد قطب(3:1766).

14- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

لقمان:25

لاحظ:ابن عبّاس(346)،و الطّبريّ(10:220)، و الطّوسيّ(8:283)،و الميبديّ(7:506)،و الفخر الرّازيّ(25:155)،و القرطبيّ(14:75)،و البيضاويّ (2:230)،و ابن كثير(5:394)،و الآلوسيّ(21:96) و سيّد قطب(5:2794)،و ابن عاشور(21:121)، و الطّباطبائيّ(16:231)،و عبد الكريم الخطيب (11:581)،و مكارم الشّيرازيّ(13:57).

15- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ. الزّمر:38

لاحظ:الفخر الرّازيّ(26:282)،و القرطبيّ(15:

258)،و البيضاويّ(2:323)،و الآلوسيّ(24:6)، و الطّباطبائيّ(17:266)،و مكارم الشّيرازيّ(15:

92).

16- أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً... النّمل:60

لاحظ:الطّوسيّ(8:108)،و الواحديّ(3:382)، و البغويّ(3:510)،و الزّمخشريّ(3:154)، و الطّبرسيّ(4:229)،و ابن عربيّ(2:211)، و القرطبيّ(13:221)،و البيضاويّ(2:180)، و النّسفيّ(3:218)،و النّيسابوريّ(20:12)، و أبو حيّان(7:89)،و السّمين(5:321)،و ابن كثير (5:245)،و الشّربينيّ(3:69)،و أبو السّعود(5:95)، و البروسويّ(6:361)،و الآلوسيّ(20:4)،و ابن عاشور(19:285)،و المراغيّ(20:7)،و عبد الكريم الخطيب(10:63)،و فضل اللّه(17:224).

ص: 343

17- أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ.

يس:81

لاحظ:ابن عبّاس(373)،و الطّبريّ(10:465)، و الزّجّاج(4:295)،و الطّوسيّ(8:479)،و الواحديّ (3:502)،و الزّمخشريّ(3:332)،و الطّبرسيّ(4:

435)،و الفخر الرّازيّ(26:110)،و القرطبيّ(15:

60)،و النّيسابوريّ(23:34)،و أبو حيّان(7:348)، و الشّربينيّ(3:367)،و أبو السّعود(5:315)، و البروسويّ(7:440)،و الآلوسيّ(23:56)،و سيّد قطب(5:2978)،و ابن عاشور(22:280)،و مغنيّة (6:327)،و الطّباطبائيّ(17:112)،و عبد الكريم الخطيب(12:958)،و مكارم الشّيرازيّ(14:229) و فضل اللّه(19:166).

18- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الزّخرف:9

لاحظ:ابن عبّاس(411)،و الطّبريّ(169:11)، و القشيريّ(5:362)،و الميبديّ(9:53)،و الزّمخشريّ (3:479)،و ابن عطيّة(5:46)،و الطّبرسيّ(5:40)، و الفخر الرّازيّ(27:196)،و البيضاويّ(2:363)، و أبو حيّان(8:6)،و السّمين(6:92)،و الشّربينيّ (3:554)،و أبو السّعود(6:27)،و البروسويّ (8:353)،و الآلوسيّ(25:66)،و سيّد قطب (5:3177)،و الطّباطبائيّ(18:86)،و عبد الكريم الخطيب(13:109)،و مكارم الشّيرازيّ(16:18).

19- وَ خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.

الجاثية:22

لاحظ:الطّبريّ(11:261)،و الطّوسيّ(9:259) و ابن عطيّة(5:86)و الطّبرسيّ(5:78)،و الفخر الرّازيّ (27:268)،و البيضاويّ(2:382)،و الخازن (6:128)،و أبو السّعود(6:61)،و البروسويّ(8:

447)،و الآلوسيّ(25:151)،و المراغيّ(25:155) ،و ابن عاشور(25:372)،و مغنيّة(7:28).

20- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة:164.

لاحظ:ابن عبّاس(22)،و الطّبريّ(2:67)، و الطّوسيّ(2:56)،و ابن عطيّة(1:222)، و الطّبرسيّ(1:245)،و الفخر الرّازيّ(4:200)، و أبو حيّان(1:464)،و أبو السّعود(1:225)، و البروسويّ(1:267)،و ابن عاشور(2:76).

21- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.

النّحل:4

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و من حججه عليكم أيضا أيّها النّاس،أنّه خلق الإنسان من نطفة،فأحدث من ماء مهين خلقا عجيبا،قلبه تارات خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث،ثمّ أخرجه إلى ضياء الدّنيا بعد ما تمّ خلقه،و نفخ فيه الرّوح،فغذّاه و رزقه القوت و نمّاه، حتّى إذا استوى على سوقه،كفر بنعمة ربّه،و جحد

ص: 344

مدبّره،و عبد من لا يضرّ و لا ينفع،و خاصم إلهه،فقال:

مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ يس:78،و نسي الّذي خلقه،فسوّاه خلقا سويّا من ماء مهين.

(7:559)

الزّجّاج: و قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ...

اختصر هاهنا،و ذكر تقلّب أحوال الإنسان في غير مكان من القرآن.(3:190)

لاحظ:ن ط ف:«نطفة».

22- وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً... النّحل:81

لاحظ:ظ ل ل:«ظلالا».

23- وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ... النّور:45

السّدّيّ: إنّه خالق كلّ دابّة من ماء النّطفة.

(الماورديّ 4:114)

الفرّاء: أصحاب عبد اللّه قرءوا (خالق) ذكر عن أبي إسحاق السّبيعيّ-قال الفرّاء و هو الهمدانيّ-أنّه قال:صلّيت إلى جنب عبد اللّه بن معقل فسمعته يقول:

(و اللّه خالق كلّ دابّة)و العوامّ بعد(خلق كل.)

(2:257)

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فقرأته عامّة قرّاء الكوفة غير عاصم (و اللّه خالق كلّ دابّة) ،و قرأته عامّة قرّاء المدينة و البصرة و عاصم: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ بنصب كلّ،و(خلق)على مثال«فعل»،و هما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى،و ذلك أنّ الإضافة في قراءة من قرأ ذلك (خالق) تدلّ على أنّ معنى ذلك المضيّ، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.(9:339)

الرّمّانيّ: إنّ أصل الخلق من ماء،ثمّ قلّب إلى النّار فخلق منها الجنّ،و إلى النّور فخلق منها الملائكة، و إلى الطّين فخلق منه من خلق و ما خلق.

(الماورديّ 4:114)

نحوه الثّعلبيّ.(7:113)

أبو زرعة: قرأ حمزة و الكسائيّ:( و اللّه خالق كلّ دابّة من ماء )على فاعل،و هو مضاف إلى ما بعده.

و قرأ الباقون: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ و حجّتهم أنّ المقصود من ذلك هو التّنبيه على الاعتبار بما بعد الفعل من المخلوقات،و إذا كان ذلك كذلك فأكثر ما يأتي فيه الفعل على«فعل»و هذا الموضع موضعه،كما قال:

اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها النّساء:1،و قال: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2،فنبّههم بذلك أن يعتبروا و يتفكّروا في قدرته،فكذلك قوله: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.

و حجّة من قرأ (خالق كلّ دابّة) فلفظ قوله:

(خالق)أعمّ و أجمع،لأنّه يشتمل على ما مضى و ما يحدث ممّا هو كائن،و يدلّ عليه قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ الأنعام 102.(502)

نحوه الطّوسيّ.(7:448)

القشيريّ: يريد خلق كلّ حيوان من ماء،يخرج من صلب الأب و تريبة الأمّ،ثمّ أجزاء الماء متساوية متماثلة،ثمّ ينقسم إلى جوارح في الظّاهر و جوارح في

ص: 345

الباطن،فيختصّ كلّ عضو و ينفرد كلّ شلو بنوع من الهيئة و الصّورة،و ضرب من الشّكل و البنية.ثمّ اختلاف هيئات الحيوانات في الرّيش و الصّوف و الوبر و الظّفر و الحافر و المخلب،ثمّ في القامة و المنظر،ثمّ انقسام ذلك إلى لحم و شحم و جلد و عظم و سنّ و مخّ و عصب و عرق و شعر.

فالنّظر في هذا-مع العبرة-يوجب سجود البصيرة و قوّة التّحصيل.(4:290)

الواحديّ: يعني كلّ حيوان يشاهد في الدّنيا، و لا يدخل الجنّ و الملائكة لأنّا لا نشاهدهم.(3:324)

نحوه البغويّ.(3:423)

الميبديّ: [نحو الواحديّ و أضاف:]

و قيل:يريد به جميع المخلوقات،و أصل جميع الخلق من الماء،و ذلك أنّ اللّه تعالى خلق ماء،ثمّ جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة،و بعضه نارا فخلق منها الجنّ،و بعضه طينا فخلق منه آدم.(6:556)

الفخر الرّازيّ: لم قال اللّه تعالى: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ مع أنّ كثيرا من الحيوانات غير مخلوقة من الماء؟أمّا الملائكة فهم أعظم الحيوانات عددا و هم مخلوقون من النّور،و أمّا الجنّ فهم مخلوقون من النّار،و خلق اللّه آدم من التّراب لقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ آل عمران:59،و خلق عيسى من الرّيح لقوله: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا الأنبياء:91،و أيضا نرى أنّ كثيرا من الحيوانات متولّد لا عن النّطفة؟.

و الجواب من وجوه:

أحدها:و هو الأحسن ما قاله القفّال،و هو أنّ قوله: مِنْ ماءٍ صلة كُلَّ دَابَّةٍ و ليس هو من صلة(خلق)و المعنى أنّ كلّ دابّة متولّدة من الماء فهي مخلوقة للّه تعالى.

و ثانيها:أنّ أصل جميع المخلوقات:الماء،على ما يروى أوّل ما خلق اللّه تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء،ثمّ من ذلك الماء خلق النّار و الهواء و النّور،و لمّا كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة و كان الأصل الأوّل هو الماء،لا جرم ذكره على الوجه.

و ثالثها:أنّ المراد من الدّابّة الّتي تدبّ على وجه الأرض و مسكنهم هناك،فيخرج عنه الملائكة و الجنّ، و لمّا كان الغالب جدّا من الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء:إمّا لأنّها متولّدة من النّطفة،و إمّا لأنّها لا تعيش إلاّ بالماء،لا جرم أطلق لفظ«الكلّ»تنزيلا للغالب منزلة الكلّ.(24:16)

القرطبيّ: قرأ يحيى بن وثّاب و الأعمش و حمزة و الكسائيّ:( و اللّه خالق كلّ )بالإضافة،الباقون (خلق)على الفعل.قيل:إنّ المعنيين في القراءتين صحيحان.أخبر اللّه عزّ و جلّ بخبرين،و لا ينبغي أن يقال في هذا:إحدى القراءتين أصحّ من الأخرى.

و قد قيل:إنّ(خلق)لشيء مخصوص،و إنّما يقال:(خالق)على العموم،كما قال اللّه عزّ و جلّ:

اَلْخالِقُ الْبارِئُ الحشر:24،و في الخصوص اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الأنعام:

1،و كذا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ الأعراف:189،فكذا يجب أن يكون: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ

ص: 346

دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. (12:291)

الشّربينيّ: [نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]

رابعها:لمّا كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء:إمّا لأنّها متولّدة من النّطفة،و إمّا لأنّها لا تعيش إلاّ بالماء،أطلق عليها لفظ(كلّ)تنزيلا للغالب منزلة الكلّ.(2:633)

البروسويّ: و المعنى:خلق كلّ حيوان يدبّ على الأرض(من ماء)هو جزء مادّته،أي أحد العناصر الأربعة،على أن يكون التّنوين للوحدة الجنسيّة،فدخل فيه آدم المخلوق من تراب،و عيسى المخلوق من روح أو من ماء مخصوص هو النّطفة،أي ماء الذّكر و الأنثى،على أن يكون التّنوين للوحدة النّوعيّة،فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكلّ؛إذ من الحيوان ما يتولّد لا عن نطفة[إلى أن قال:]

و فى«التّأويلات النّجميّة»:يشير إلى أنّ كلّ ذي روح خلق من نور محمّد عليه السّلام،لأنّ روحه أوّل شيء تعلّقت به القدرة،كما قال:«أوّل ما خلق اللّه روحي» و لمّا كان هو درّة صدف الموجودات عبّر عن روحه بدرّة و جوهرة فقال:«لمّا أراد اللّه أن يخلق العالم خلق درّة»و في رواية جوهرة«ثمّ نظر إليها بنظر الهيبة فصارت ماء»الحديث،فخلقت الأرواح من ذلك الماء انتهى.

فإن قيل:ما الحكمة في خلق كلّ شيء من الماء؟

قيل:لأنّ الخلق من الماء أعجب،لأنّه ليس شيء من الأشياء أشدّ طوعا من الماء،لأنّ الإنسان لو أراد أن يمسكه بيده أو أراد أن يبني عليه أو يتّخذ منه شيئا لا يمكنه،و النّاس يتّخذون من سائر الأشياء أنواع الأشياء،قيل:فاللّه تعالى أخبر أنّه يخلق من الماء ألوانا من الخلق،و هو قادر على كلّ شيء،كذا في تفسير أبي اللّيث عليه الرّحمة.(6:167)

الآلوسيّ: [لاحظ:د ب ب«دابّة»](18:192)

سيّد قطب :و هذه الحقيقة الضّخمة الّتي عرضها القرآن بهذه البساطة،حقيقة أنّ كلّ دابّة خلقت من ماء،قد تعني وحدة العنصر الأساسيّ في تركيب الأحياء جميعا،و هو الماء،و قد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أنّ الحياة خرجت من البحر و نشأت أصلا في الماء،ثمّ تنوّعت الأنواع،و تفرّعت الأجناس.

و لكنّنا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنيّة،الثّابتة على النّظريّات العلميّة القابلة للتّعديل و التّبديل،لا نزيد على هذه الإشارة شيئا، مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنيّة،و هي أنّ اللّه خلق الأحياء كلّها من الماء.(4:2523)

ابن عاشور :لمّا كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التّكوين من ماء التّناسل،مع الاختلاف في أوّل أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة و هو حال المشي،إنّما هو باستمرار ذلك النّظام بدون تخلّف،و كان ذلك محقّقا،كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعليّ مفيدا لأمرين:التّحقيق بالتّقديم على الخبر الفعليّ،و التّجدّد بكون الخبر فعليّا.

و إظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتّنويه بهذا

ص: 347

الخلق العجيب.

و اختير فعل المضيّ للدّلالة على تقرير التّقوّي بأنّ هذا شأن متقرّر منذ القدم،مع عدم فوات الدّلالة على التّكرير؛حيث عقّب الكلام بقوله: يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ.

و قرأ الجمهور وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ بصيغة فعل المضيّ و نصب(كلّ)و قرأه الكسائيّ (و اللّه خالق كلّ دابّة) بصيغة اسم الفاعل و جرّ(كلّ)بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.(18:212)

مغنيّة:إنّ لقدرة اللّه و وحدانيّته شواهد و بيّنات لا يبلغها الإحصاء،منها ما يتجلّى في خلق الجماد،و منها ما نشاهده في خلق النّبات،و منها في خلق الحيوان،و ما يدبّ على الأرض.و إليه الإشارة في هذه الآية،و محلّ الشّاهد في الدّابّة على قدرة اللّه و عظمته أنّ الماء عنصر أساسيّ في تكوين الدّابّة و تركيبها،و حقيقة الماء واحدة مع أنّ الدّابّة الّتي خلقت منه متنوّعة،فمنها من يمشي على بطنه كالزّواحف،و منها من يمشي على رجلين كالإنسان، و منها ما يمشي على أربع كالأنعام و الخيل و البغال و الحمير و الوحوش،إلى غير ذلك من الأنواع الّتي أشار إليها سبحانه بقوله: يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ....

(5:430)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ... بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيئته تعالى محضا؛حيث يخلق كلّ دابّة من ماء ثمّ تختلف حالهم في المشي،فمنهم من يمشي على بطنه كالحيّات و الدّيدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسيّ و الطّيور، و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السّباع.

و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثّلاثة،و فيهم غير ذلك،إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار.

و قوله: يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ تعليل لما تقدّم من اختلاف الدّوابّ،مع وحدة المادّة الّتي خلقت منها يبيّن أنّ الأمر إلى مشيئة اللّه محضا،فله أن يعمّم فيضا من فيوضه على جميع خلقه،كالنّور العامّ و الرّحمة العامّة،و له أن يختصّ بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض،كالنّور الخاصّ و الرّحمة الخاصّة.

و قوله: إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل لقوله: يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ فإنّ إطلاق القدرة على كلّ شيء يستوجب أن لا يتوقّف شيء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيئته و إلاّ كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف.

و هذا باب من التّوحيد دقيق سيتّضح بعض الاتّضاح إن شاء اللّه بما في البحث الآتي.

بحث فلسفيّ:

إنّا لا نشكّ في أنّ ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و إنّ كثيرا منها- و خاصّة في المادّيّات-تتوقّف في وجودها على شروط لا تحقّق لها بدونها،كالإنسان الّذي هو ابن، فإنّ لوجوده توقّفا على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانيّة و مكانيّة.و إذ كان من الضّروري كون كلّ ممّا يتوقّف عليه جزء من علّته التّامّة،كان الواجب تعالى على هذا جزء علّته التّامّة

ص: 348

لا علّة تامّة وحدها.

نعم هو بالنّسبة إلى مجموع العالم علّة تامّة؛إذ لا يتوقّف على شيء غيره،و كذا الصّادر الأوّل الّذي تتبعه بقيّة أجزاء المجموع.و أمّا سائر أجزاء العالم فإنّه تعالى جزء علّته التّامّة ضرورة توقّفه على ما هو قبله من العلل،و ما هو معه من الشّرائط و المعدّات.

هذا إذا اعتبرنا كلّ واحد من الأجزاء بحياله،ثمّ نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.

و هاهنا نظر آخر أدقّ،و هو أنّ الارتباط الوجوديّ الّذي لا سبيل إلى إنكاره بين كلّ شيء و بين علله الممكنة و شروطه و معدّاته يقضي بنوع من الاتّحاد و الاتّصال،بينها،فالواحد من الأجزاء ليس مطلقا منفصلا،بل هو في وجوده المتعيّن مقيّد بجميع ما يرتبط به،متّصل الهويّة بغيرها.

فالإنسان الابن الّذي كنّا نعتبره في المثال المتقدّم بالنّظر السّابق موجودا مستقلاّ مطلقا،فنجده متوقّفا على علل و شروط كثيرة،و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النّظرة هويّة مقيّدة بجميع ما كان يعتبر توقّفه عليه من العلل و الشّرائط غير الواجب تعالى،فحقيقة زيد مثلا هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولّد في زمان كذا و مكان كذا،المتقدّم عليه كذا و كذا،المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.

فهذه هو حقيقة زيد مثلا و من الضّروريّ أنّ ما حقيقته ذلك لا تتوقّف على شيء غير الواجب فالواجب هو علّته التّامّة الّتي لا توقّف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيئته،و قدرته تعالى بالنّسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيّدة،و هو قوله تعالى:

يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

(15:137)

فضل اللّه : وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فالماء أصل الحياة ترجع إليه كلّ الموجودات الحيّة بشكل مباشر أو غير مباشر،دون أن يعني ذلك وحدة الشّكل و الجوهر،بل التّنوّع في طبيعتها،و في أشكالها،و في وظيفتها في حركة الحياة،ممّا يوحي بعظمة القدرة الّتي تحقّق التّنوّع من موقع الوحدة.(16:339)

لاحظ:د د ب:«دابّة»و:م و ه:«ماء».

24- هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. لقمان:11

ابن عبّاس: هذا مخلوق أنا خلقته فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ من دون اللّه يعني الأوثان.

(344)

قتادة : هذا خَلْقُ اللّهِ ما ذكر من خلق السّماوات و الأرض،و ما بثّ من الدّوابّ،و ما أنبت من كلّ زوج كريم،فأروني ما ذا خلق الّذين من دونه:

الأصنام الّذين تدعون من دونه.(الطّبريّ 10:207)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:هذا الّذي عدّدت عليكم أيّها النّاس أنّي خلقته في هذه الآية خلق اللّه الّذي له ألوهة كلّ شيء،و عبادة كلّ خلق،الّذي لا تصلح العبادة لغيره،و لا تنبغي لشيء سواه، فأروني أيّها المشركون في عبادتكم إيّاه من دونه من الآلهة و الأوثان،أيّ شيء خلق الّذين من دونه من

ص: 349

آلهتكم و أصنامكم،حتّى استحقّت عليكم العبادة فعبدتموها من دونه،كما استحقّ ذلك عليكم خالقكم، و خالق هذه الأشياء الّتي عدّدتها عليكم.(10:207)

الزّجّاج: وصف اللّه عزّ و جلّ[في الآية السّابقة] خلقه الّذي يعجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله،أو يقدروا على نوع منه،ثمّ قال: هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. (4:194)

القيسيّ: (ما)استفهام في موضع رفع على الابتداء،و خبره(ذا)و هو بمعنى«الّذي»تقديره:

فأروني أيّ شيء الّذي خلق الّذين من دونه،و الجملة في موضع نصب ب(ارونى.)

و يجوز أن تكون(ما)في موضع نصب ب(خلق) و هي استفهام يعمل فيه ما بعده،و تجعل(ذا)زائدة.

و يجوز أن تكون(ما)بمعنى«الّذي»في موضع نصب ب(ارونى)و(ذا)زائدة،و تضمر الهاء مع (خلق)لتعود على(الّذي)أي فأروني الأشياء الّتي خلقها الّذين من دونه.(2:182)

الطّوسيّ: هذا إشارة إلى ما تقدّم ذكره من خلق السّماوات و الأرض على ما هي به من عظمها و كبر شأنها،من غير عمد يمنع من انحدارها،و ألقى الرّواسي في الأرض لئلاّ تميد بأهلها، وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ لقمان:10،للاعتبار و الانتفاع بها،و أنزل من السّماء ماء لإخراج كلّ نوع كريم،على ما فيه من بهجة و لذّة يستمتع بها.فهذا كلّه خلق اللّه،فأين خلق من أشركتموه في عبادته حتّى جاز لكم أن تعبدوه من دونه؟و هذا لا يمكن مع معارضة،و فيه دليل على توحيده تعالى.(8:274)

القشيريّ: هذا خلق اللّه العزيز في كبريائه، فأروني ما ذا خلق الّذين عبدتم من دونه في أرضه و سمائه؟.(5:130)

الميبديّ: هذا خَلْقُ اللّهِ أي هذا الّذي عدّدته عليكم خلق اللّه،أي مخلوقه،فأقام الخلق مقام المخلوق توسّعا،كقولك:هذا درهم ضرب الأمير،أي مضروبه، فَأَرُونِي... عن آلهتكم الّتي تعبدونها، يعني أروني ما ذا خلقه الأصنام؟أي ليس يقدرون على ذلك،لأنّها عاجزة عن الخلق،و هي في ذواتها مخلوقة.(7:488)

نحوه أبو حيّان.(7:185)

الزّمخشريّ: (هذا)إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته،و الخلق بمعنى المخلوق،و اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ آلهتكم،بكّتهم بأنّ هذه الأشياء العظيمة ممّا خلقه اللّه و أنشأه فأروني ما ذا خلقته آلهتكم حتّى استوجبوا عندكم العبادة.(3:230)

نحوه النّسفيّ(3:279)،و الشّربينيّ(3:183)، و الشّوكانيّ(4:295)،و المراغيّ(21:77).

الطّبرسيّ: أي هذا الّذي ذكرت من السّماوات على عظمها و كبر حجمها،و الأرض و ما فيها خلق اللّه الّذي أوجده و أحدثه فَأَرُونِي... يعني آلهتهم الّتي يعبدونها.(4:315)

الفخر الرّازيّ: يعني اللّه خالق و غيره ليس بخالق،فكيف تتركون عبادة الخالق و تشتغلون بعبادة المخلوق.(25:144)

ص: 350

القرطبيّ: قوله تعالى: هذا خَلْقُ اللّهِ مبتدأ و خبر.و الخلق بمعنى المخلوق،أي هذا الّذي ذكرته ممّا تعاينون خَلْقُ اللّهِ أي مخلوق اللّه،أي خلقها من غير شريك.(14:58)

البيضاويّ: هذا الّذي ذكر مخلوقه،فما ذا خلق آلهتكم حتّى استحقّوا مشاركته؟

و(ما ذا)نصب ب(خلق)أو(ما)مرتفع بالابتداء و خبره(ذا)بصلته،و(ارونى)معلّق عنه.(2:227)

نحوه أبو السّعود.(5:187)

ابن كثير :أي هذا الّذي ذكره تعالى من خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما صادر عن فعل اللّه و خلقه و تقديره،وحده لا شريك له في ذلك،و لهذا قال تعالى: فَأَرُونِي ما ذا... أي ممّا تعبدون و تدعون من الأصنام و الأنداد.(5:379)

الآلوسيّ: (هذا)أي ما ذكر من السّماوات و الأرض و سائر الأمور المعدودة(خلق الله)أي مخلوقه[إلى أن قال:]

ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ممّا اتّخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتّى استحقّوا به العبوديّة.و(ما ذا)يجوز أن يكون اسما واحدا استفهاميّا،و يكون مفعولا ل(خلق)مقدّما لصدارته و أن يكون(ما)وحدها اسم استفهام مبتدإ و(ذا)اسم موصول خبرها،و تكون الجملة معلّقا عنها سادّة مسدّ المفعول الثّاني ل(ارونى)و أن يكون(ما ذا)كلّه اسما موصولا فقد استعمل كذلك على قلّة-على ما قال أبو حيّان-و يكون مفعولا ثانيا له،و العائد محذوف في الوجهين.(21:82)

ابن عاشور :و جملة هذا خَلْقُ اللّهِ إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السّماء و الأرض و الجبال و الدّوابّ و إنزال المطر،و اسم الإشارة إلى ما تضمّنه قوله: خَلَقَ السَّماواتِ إلى قوله: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، و الإتيان به مفردا بتأويل المذكور.و الانتقال من التّكلّم إلى الغيبة في قوله:(خلق الله)التفاتا لزيادة التّصريح بأنّ الخطاب وارد من جانب اللّه، بقرينة قوله: هذا خَلْقُ اللّهِ، و كذلك يكون الانتقال من التّكلّم إلى الغيبة في قوله: ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ التفاتا لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله:(خلق الله).

و يجوز أن تكون الرّؤية من قوله:(فارونى) علميّة،أي فأنبئوني،و الفعل معلّقا عن العمل بالاستفهام ب(ما ذا)،فيتعيّن أن يكون(فارونى) تهكّما،لأنّهم لا يمكن لهم أن يكافحوا اللّه،زيادة على كون الأمر مستعملا في التّعجيز،لكن التّهكّم أسبق للقطع،بأنّهم لا يتمكّنون من مكافحة اللّه قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون اللّه قطعا نظريّا.(21:94)

الطّباطبائيّ: لمّا أراهم خلقه و تدبيره تعالى للسّماوات و الأرض و ما عليها،فأثبت به ربوبيّته و ألوهيّته تعالى،كلّفهم أن يروه شيئا من خلق آلهتهم إن كانوا آلهة و أربابا،فإن لم يقدروا على إراءة شيء، ثبت بذلك وحدانيّته تعالى في ألوهيّته و ربوبيّته.

و إنّما كلّفهم بإراءة شيء من خلق آلهتهم،و هم

ص: 351

يعترفون أنّ الخلق للّه وحده و لا يسندون إلى آلهتهم خلقا،و إنّما ينسبون إليهم التّدبير فقط،لأنّه نسب إلى اللّه خلقا هو بعينه تدبير من غير انفكاك،فلو كان لآلهتهم تدبير في العالم كان لهم خلق ما يدبّرون أمره، و إذ ليس لهم خلق فليس لهم تدبير،فلا إله إلاّ اللّه و لا ربّ غيره.(16:211)

مكارم الشّيرازيّ: بعد ذكر عظمة اللّه في عالم الخلقة،و ذكر صور مختلفة من المخلوقات،وجّهت الآية الخطاب إلى المشركين،و جعلتهم موضع سؤال و استجواب،فقالت: هذا خَلْقُ اللّهِ...؟ !

من المسلّم أنّ أولئك لم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام،و على هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق،و مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشّرك في العبادة؟!لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الرّبّ،و كون مدبّر العالم واحدا،و هو دليل على توحيد العبوديّة.(13:30)

فضل اللّه : هذا خَلْقُ اللّهِ في عظمته و إبداعه و روعة الأسرار المعجزة فيه، فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ...

من مثل ذلك و ممّا هو دونه،إن كانوا آلهة كما تزعمون،و ما ذا يمثّلون في ذواتهم من قوّة و علم و تدبير،فإذا لم يكن لهم شيء من ذلك،فكيف تزعمون أنّهم شركاء للّه؟و لكنّ المشكلة أنّكم لا تركنون فيما أنتم فيه إلى فكر،و لا ترجعون إلى علم بل تركنون إلى أهوائكم،و تتحرّكون في جهالتكم،و بذلك كنتم تتخبّطون في الظّلمات و تنطلقون في متاهات الضّياع.(18:185)

25- قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ. فصّلت:9

راجع:ي و م:«يومين».

26- وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى* مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى. النّجم:45،46

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و أنّه ابتدع إنشاء الزّوجين الذّكر و الأنثى،و جعلهما زوجين،لأنّ الذّكر زوج الأنثى،و الأنثى له زوج،فهما زوجان يكون كلّ واحد منهما زوجا للآخر.(11:535)

الطّوسيّ: أي خلق الذّكر و الأنثى من النّطفة، و هي ماء الرّجل و المرأة الّتي يخلق منها الولد إِذا تُمْنى يعني إذا خرج المنيّ منهما و جعل في الرّحم خلق اللّه تعالى منها الولد إمّا ذكرا و إمّا أنثى،و معنى (تمنى)أي تلقى على تقدير في الرّحم الأنثى،و أصله:التّقدير،يقولون:منى يمني فهو مان إذا قدر.[ثمّ استشهد بشعر](9:437)

الفخر الرّازيّ: وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ...

و هو أيضا من جملة المتضادّات الّتي تتوارد على النّطفة،فبعضها يخلق ذكرا،و بعضها أنثى،و لا يصل إليه الفهم الطّبيعيّ الّذي يقول:إنّه من البرد و الرّطوبة في الأنثى،فربّ امرأة أيبس مزاجا من الرّجل،و كيف و إذا نظرت في المميّزات بين الصّغير و الكبير تجدها أمورا عجيبة منها نبات اللّحية،و أقوى ما قالوا في نبات اللّحية أنّهم قالوا:الشّعور مكوّنة من بخار دخانيّ ينحدر إلى المسامّ،فإذا كانت المسامّ في غاية

ص: 352

الرّطوبة و التّحلّل كما في مزاج الصّبيّ و المرأة،لا ينبت الشّعر لخروج تلك الأدخنة من المسامّ الرّطبة بسهولة قبل أن يتكوّن شعرا،و إذا كانت في غاية اليبوسة و التّكاثف ينبت الشّعر لعسر خروجه من المخرج الضّيّق.

ثمّ إنّ تلك الموادّ تنجذب إلى مواضع مخصوصة فتندفع،إمّا إلى الرّأس فتندفع إليه،لأنّه مخلوق كقبّة فوق الأبخرة و الأدخنة فتتصاعد إليه تلك الموادّ،فلهذا يكون شعر الرّأس أكثر و أطول،و لهذا في الرّجل مواضع تنجذب إليها الأبخرة و الأدخنة،منها الصّدر لحرارة القلب و الحرارة تجذب الرّطوبة كالسّراج للزّيت،و منها بقرب آلة التّناسل لأنّ حرارة الشّهوة تجذب أيضا،و منها اللّحيان فإنّها كثيرة الحركة بسبب الأكل،و الكلام و الحركة أيضا جاذبة.

فإذا قيل لهم:فما السّبب الموجب لتلازم نبات شعر اللّحية و آلة التّناسل،فإنّها إذا قطعت لم تنبت اللّحية؟و ما الفرق بين سنّ الصّبا و سنّ الشّباب و بين المرأة و الرّجل؟ففي بعضها يبهت و في بعضها يتكلّم بأمور واهية،و لو فوّضها إلى حكمة إلهيّة لكان أولى.

و فيه مسألتان:الأوّل:قال تعالى: وَ أَنَّهُ خَلَقَ و لم يقل:و أنّه هو خلق كما قال: وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى النّجم:43،و ذلك لأنّ الضّحك و البكاء ربّما يتوهّم متوهّم أنّه بفعل الإنسان،و في الإماتة و الإحياء و إن كان ذلك التّوهّم بعيدا،لكن ربّما يقول به جاهل،كما قال من حاجّ إبراهيم الخليل عليه السّلام حيث قال: أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ البقرة:258،فأكّد ذلك بذكر الفصل.و أمّا خلق الذّكر و الأنثى من النّطفة فلا يتوهّم أحد أنّه بفعل أحد من النّاس فلم يؤكّد بالفصل؛أ لا ترى إلى قوله تعالى: وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى النّجم:48،حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى اللّه تعالى و كان في معتقدهم أنّ ذلك بفعلهم، كما قال قارون: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي القصص:78،و لذلك قال: وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى النّجم:49،لأنّهم كانوا يستبعدون أن يكون ربّ محمّد هو ربّ الشّعرى،فأكّد في مواضع استبعادهم النّسبة إلى اللّه تعالى،الإسناد،و لم يؤكّده في غيره.

(29:19)

نحوه النّيسابوريّ.(27:41)

القرطبيّ: أي من أولاد آدم و لم يرد آدم و حوّاء بأنّهما خلقا من نطفة.(17:117)

الشّربينيّ: وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ ثمّ فسّرهما بقوله تعالى: اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثى فإنّه لو كان ذلك في يد غيره لمنع البنات،لأنّها مكروهة لغالب النّاس، و قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى النّجم:46،أي تصبّ يشمل سائر الحيوانات لا أنّ ذلك مختصّ بآدم و حوّاء عليهما السّلام،لأنّهما ما خلقا من نطفة.و هذا أيضا تنبيه على كمال القدرة،لأنّ النّطفة جسم متناسب الأجزاء،و يخلق اللّه تعالى منها أعضاء مختلفة و طباعا متباينة،و خلق الذّكر و الأنثى منها أعجب ما يكون، و لهذا لم يقدر أحد على أن يدّعي خلق السّماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم،قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ الزّخرف:87،و قال

ص: 353

تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الزّخرف:9.(4:138)

البروسويّ: في بعض التّفاسير:من كلّ الحيوان، و فيه أنّ كلّ حيوان لا يخلق من النّطفة بل بعضه من الرّيح كالطّير،فإنّ البيضة المخلوقة منها الدّجاجة مخلوقة من ريح الدّيك.(9:255)

الآلوسيّ: من نوع الإنسان و غيره من أنواع الحيوانات،و لم يذكر الضّمير على طرز ما تقدّم،لأنّه لا يتوهّم نسبة خلق الزّوجين إلى غيره عزّ و جلّ.

(27:68)

القاسميّ: أي ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرّحم.(15:5587)

المراغيّ: أي و أنّه خلق الذّكر و الأنثى من الإنسان و غيره من الحيوان من المنيّ الّذي يدفق في الأرحام.(27:67)

ابن عاشور :هذه الآية و إن كانت مستقلّة بإفادة أنّ اللّه خالق الأزواج من الإنسان خلقا بديعا من نطفة فيصير إلى خصائص نوعه،و حسبك بنوع الإنسان تفكيرا أو مقدرة و عملا،و ذلك ما لا يجهله المخاطبون،فما كان ذكره إلاّ تمهيدا و توطئة لقوله:

وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى النّجم:47،على نحو قوله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الأنبياء:

104،و باعتبار استقلالها بالدّلالة على عجيب تكوين نسل الإنسان،عطفت عليها جملة وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى، النّجم:47،و إلاّ لكان مقتضى الظّاهر،أن يقال:إنّ عليه النّشأة الأخرى بدون عطف و بكسر همزة(انّ)و مناسبة الانتقال إلى هذه الجملة أنّ فيها كيفيّة ابتداء الحياة.

و المراد ب(الزوجين:)الذّكر و الأنثى من خصوص الإنسان،لأنّ سياق الكلام للاعتبار ببديع صنع اللّه؛و ذلك أشدّ اتّفاقا في خلقة الإنسان،و لأنّ اعتبار النّاس بما في أحوال أنفسهم أقرب و أمكن، و لأنّ بعض الأزواج من الذّكور و الإناث لا يتخلّق من نطفة بل من بيض و غيره.

و لعلّ وجه ذكر(الزوجين)و البدل منه اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثى دون أن يقول:و أنّه خلقه،أي الإنسان من نطفة،كما قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ الطّارق:5،6،في الآية أمران:

أحدهما:إدماج الامتنان في أثناء ذكر الانفراد بالخلق بنعمة أن خلق لكلّ إنسان زوجه،كما قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها الرّوم:21.

الثّاني:الإشارة إلى أنّ لكلا الزّوجين حظّا من النّطفة الّتي منها يخلق الإنسان،فكانت للذّكر نطفة و للمرأة نطفة،كما ورد في الحديث الصّحيح أنّه«إذا سبق ماء الرّجل أشبه المولود أباه و إن سبق ماء المرأة أشبه المولود أمّه».و بهذا يظهر أنّ لكلّ من الذّكر و الأنثى نطفة و إن كان المتعارف عند النّاس قبل القرآن أنّ النّطفة هي ماء الرّجل،إلاّ أنّ القرآن يخاطب النّاس بما يفهمون،و يشير إلى ما لا يعلمون إلى أن يفهمه المتدبّرون.و حسبك ما وقع بيانه بالحديث المذكور آنفا.[إلى أن قال:]

ص: 354

و التّقييد ب إِذا تُمْنى لما في اسم الزّمان من الإيذان بسرعة الخلق عند دفق النّطفة في رحم المرأة، فإنّه عند التقاء النّطفتين يبتدئ تخلّق النّسل،فهذا إشارة خفيّة إلى أنّ البويضة الّتي هي نطفة المرأة حاصلة في الرّحم،فإذا أمنيت عليها نطفة الذّكر أخذت في التّخلّق إذا لم يعقها عائق.

ثمّ لمّا في فعل(تمنى)من الإرشاد إلى أنّ النّطفة تقطر و تصبّ على شيء آخر،لأنّ الصّبّ يقتضي مصبوبا عليه،فيشير إلى أنّ التّخلّق إنّما يحصل من انصباب النّطفة على أخرى،فعند اختلاط الماءين يحصل تخلّق النّسل،فهذا سرّ التّقييد بقوله: إِذا تُمْنى.

و في الجمع بين الذّكر و الأنثى محسّن الطّباق لما بين الذّكر و الأنثى من شبه التّضادّ.

و لم يؤت في هذه الجملة بضمير الفصل كما في اللّتين قبلها،لعدم الدّاعي إلى القصر؛إذ لا ينازع أحد في أنّ اللّه خالق الخلق،و موقع جملة وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ إلى آخرها كموقع جملة وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى النّجم:40.(27:144)

27- وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى. الليل:3

لاحظ:الفرّاء(3:270)،و الطّبريّ(12:609)، و الماورديّ(6:286)،و الطّوسيّ(10:363)، و القشيريّ(4:501)،و البغويّ(5:262)،و الميبديّ (10:511)،و الزّمخشريّ(4:261)،و الفخر الرّازيّ (31:198)،و القرطبيّ(20:81)،و البيضاويّ(2:

562)،و النّسفيّ(4:362)،و الخازن(7:211) و الشّربينيّ(4:545)،و أبو السّعود(6:436)، و الآلوسيّ(30:147)،و المشهديّ(11:384)، و القاسميّ(17:6174)و المراغيّ(30:174)،و عبد الكريم الخطيب(15:1591)،و مكارم الشّيرازيّ (20:234)،و فضل اللّه(24:294).

28- ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى. القيمة:38

لاحظ:الماورديّ(6:160)،و الطّوسيّ(10:203) و الميبديّ(10:308)،و الزّمخشريّ(4:193)، و ابن العربيّ(4:1896)و ابن عطيّة(5:407)، و الطّبرسيّ(5:402)،و الفخر الرّازيّ(30:234)، و القرطبيّ(19:115)،و النّسفيّ(4:316)، و النّيسابوريّ(29:114)،و أبو حيّان(8:391)، و البروسويّ(10:257)،و الشّوكانيّ(5:420)، و الآلوسيّ(29:150)،و القاسميّ(16:6001)، و ابن عاشور(29:339)،و مغنيّة(7:474)، و عبد الكريم الخطيب(15:1347).

29- اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى. الأعلى:2

لاحظ:ابن عبّاس(508)،و الضّحّاك(الماورديّ 6:

252)،و الكلبيّ(الواحديّ 4:469)،و الطّبريّ(12:

543)،و الزّجّاج(5:315)،و الماورديّ(6:252)، و الطّوسيّ(10:329)،و القشيريّ(6:285)، و الميبديّ(10:458)،و الزّمخشريّ(4:243)، و الفخر الرّازيّ(31:139)و البيضاويّ(2:553)، و النّسفيّ(4:349)،و النّيسابوريّ(30:74)،

ص: 355

و الخازن(7:195)،و أبو حيّان(8:458)،و ابن كثير (7:269)،و الشّربينيّ(4:520)،و أبو السّعود(6:

413)و الكاشانيّ(5:316)،و المشهديّ(11:306)، و البروسويّ(10:403)،و الآلوسيّ(30:103)، و المراغيّ(30:121)،و ابن عاشور(30:244)، و مغنيّة 7:552)،و الطّباطبائيّ(20:265)،و عبد الكريم الخطيب(15:1528)،و فضل اللّه(24:

197).

30- اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. العلق:2،1

ابن عبّاس: اَلَّذِي خَلَقَ الخلائق.(514)

الماورديّ: أي استفتح قراءتك باسم ربّك الّذي خلق،و إنّما قال: اَلَّذِي خَلَقَ لأنّ قريشا كانت تعبد آلهة ليس فيهم خالق غيره تعالى،فميّز نفسه بذلك ليزول عنه الالتباس.(6:304)

الطّوسيّ: قوله: اَلَّذِي خَلَقَ في موضع جرّ، نعت ل(ربك)الّذي خلق الخلائق و أخرجهم من العدم إلى الوجود،و قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ تخصيص لبعض ما ذكره بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ لأنّه يشتمل على الإنسان و غيره.(10:379)

الميبديّ: يعني المكوّنات كلّها،ثمّ خصّ منها ما هو أعلى مرتبة،فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ (10:550)

الزّمخشريّ: إن قلت:كيف قال:(خلق)فلم يذكر له مفعولا ثمّ قال: خَلَقَ الْإِنْسانَ؟

قلت:هو على وجهين:إمّا أن لا يقدّر له مفعول، و أن يراد أنّه الّذي حصل منه الخلق و استأثر به لا خالق سواه،و إمّا أن يقدّر و يراد خلق كلّ شيء، فيتناول كلّ مخلوق،لأنّه مطلق فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.(4:270)

نحوه الشّربينيّ.(4:560)

ابن عطيّة: مثّل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه،و ما يجده كلّ مفطور في نفسه،فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، و خلقة الإنسان من أعظم العبر، حتّى أنّه ليس في المخلوقات الّتي لدينا أكثر عبرا منه في عقله و إدراكه،و رباطات بدنه و عظامه.(5:501)

الطّبرسيّ: أي خلق جميع المخلوقات على مقتضى حكمته،و أخرجه من العدم إلى الوجود بكمال قدرته،ثمّ خصّ الإنسان بالذّكر تشريفا و تنبيها على إبانته إيّاه عن سائر الحيوان،فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أراد به جنس بني آدم،أي خلقهم من دم جامد بعد النّطفة.و قيل:معناه خلق آدم من طين يعلق باليد.

و الأوّل أصحّ،و فيه إشارة إلى بيان النّعمة،بأن خلقه من الأصل الّذي هو في الغاية القصوى من المهانة،ثمّ بلغ به مبالغ الكمال حتّى صار بشرا سويّا مهيّئا للنّطق و التّمييز،مفرّغا في قالب الاعتدال،و أنّه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتّى استكمل، كذلك بنقلك من الجهالة إلى درجة النّبوّة و الرّسالة حتّى تستكمل شرف محلّها.(5:514)

الفخر الرّازيّ: فيه مسائل:

المسألة الأولى:في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه:

ص: 356

أحدها:أن يكون قوله: اَلَّذِي خَلَقَ لا يقدّر له مفعول،و يكون المعنى الّذي حصل منه الخلق و استأثر به،لا خالق سواه.

و الثّاني:أن يقدّر له مفعول،و يكون المعنى:أنّه الّذي خلق كلّ شيء،فيتناول كلّ مخلوق،لأنّه مطلق.

فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي، كقولنا:اللّه أكبر،أي من كلّ شيء،ثمّ قوله بعد ذلك:

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ تخصيص للإنسان بالذّكر من بين جملة المخلوقات:إمّا لأنّ التّنزيل إليه،أو لأنّه أشرف ما على وجه الأرض.

و الثّالث:أن يكون قوله: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ مبهما ثمّ فسّره بقوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ تفخيما لخلق الإنسان،و دلالة على عجيب فطرته.

المسألة الثّانية:احتجّ الأصحاب بهذه الآية على أنّه لا خالق غير اللّه تعالى،قالوا:لأنّه سبحانه جعل الخالقيّة صفة مميّزة لذات اللّه تعالى عن سائر الذّوات، و كلّ صفة هذا شأنها فإنّه يستحيل وقوع الشّركة فيها.قالوا:و بهذا الطّريق عرفنا أنّ خاصيّة الإلهيّة هي القدرة على الاختراع.و ممّا يؤكّد ذلك أنّ فرعون لمّا طلب حقيقة الإله،فقال: وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ الشّعراء:23،قال موسى: قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الشّعراء:26،و الرّبوبيّة إشارة إلى الخالقيّة الّتي ذكرها هاهنا،و كلّ ذلك يدلّ على قولنا.

المسألة الثّالثة:اتّفق المتكلّمون على أنّ أوّل الواجبات معرفة اللّه تعالى،أو النّظر في معرفة اللّه أو القصد إلى ذلك النّظر،على الاختلاف المشهور فيما بينهم،ثمّ إنّ الحكيم سبحانه لمّا أراد أن يبعثه رسولا إلى المشركين،لو قال له:اقرأ باسم ربّك الّذي لا شريك له،لأبوا أن يقبلوا ذلك منه،لكنّه تعالى قدّم في ذلك مقدّمة تلجئهم إلى الاعتراف به.كما يحكى أنّ زفر لمّا بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه، فلمّا ذكر أبا حنيفة زيّفوه و لم يلتفتوا إليه،فرجع إلى أبي حنيفة.و أخبره بذلك،فقال:إنّك لم تعرف طريق التّبليغ،لكن ارجع إليهم،و اذكر في المسألة أقاويل أئمّتهم ثمّ بيّن ضعفها،ثمّ قل بعد ذلك:هاهنا قول آخر، و اذكر قولي و حجّتي،فإذا تمكّن ذلك في قلبهم،فقل:

هذا قول أبي حنيفة،لأنّهم حينئذ يستحيون فلا يردّون

فكذا هاهنا:إنّ الحقّ سبحانه يقول:إنّ هؤلاء عباد الأوثان،فلو أثنيت عليّ و أعرضت عن الأوثان، لأبوا ذلك،لكن اذكر لهم أنّهم هم الّذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره،ثمّ قل:و لا بدّ للفعل من فاعل،فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنّهم نحتوه،فبهذا التّدريج يقرّون بأنّي أنا المستحقّ للثّناء دون الأوثان،كما قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ الزّخرف:87،ثمّ لمّا صارت الإلهيّة موقوفة على الخالقيّة،حصل القطع بأنّ من لم يخلق لم يكن إلها،فلهذا قال تعالى: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ النّحل:17.

و دلّت الآية على أنّ القول بالطّبع باطل،لأنّ المؤثّر فيه إن كان حادثا افتقر إلى مؤثّر آخر،و إن كان قديما فإمّا أن يكون موجبا أو قادرا،فإن كان موجبا لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلاّ أنّه مختار و هو عالم،

ص: 357

لأنّ التّغيّر حصل على التّرتيب الموافق للمصلحة.

(32:15)

نحوه النّيسابوريّ.(30:133)

البيضاويّ: أي الّذي له الخلق،أو الّذي خلق كلّ شيء ثمّ أفرد ما هو أشرف و أظهر صنعا و تدبيرا، و أدلّ على وجوب العبادة المقصودة من القراءة،فقال:

خَلَقَ الْإِنْسانَ أو الّذي خلق الإنسان فأبهم أوّلا ثمّ فسّر تفخيما لخلقه،و دلالة على عجيب فطرته.

(2:567)

نحوه النّسفيّ(4:368)،و المشهديّ(11:430).

أبو حيّان :...ثمّ جاء بصفة الخالق و هو المنشئ للعالم،لمّا كانت العرب تسمّي الأصنام أربابا بالصّفة الّتي لا يمكن شركة الأصنام فيها،و لم يذكر متعلّق الخلق أوّلا،فالمعنى أنّه قصد إلى استبداده بالخلق فاقتصر أو حذف؛إذ معناه:خلق كلّ شيء ثمّ ذكر خلق الإنسان.(8:492)

أبو السّعود :...و وصف الرّب بقوله تعالى:

اَلَّذِي خَلَقَ لتذكير أوّل النّعماء الفائضة عليه -عليه الصّلاة و السّلام-منه تعالى،و التّنبيه على أنّ من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة و ما يتبعها من الكمالات العلميّة و العمليّة من مادّة لم تشمّ رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات،قادر على تعليم القراءة للحيّ العالم المتكلّم،أي الّذي أنشأ الخلق و استأثر به أو خلق كلّ شيء.

و قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ على الأوّل تخصيص لخلق الإنسان بالذّكر من بين سائر المخلوقات،لاستقلاله ببدائع الصّنع و التّدبير،و على الثّاني إفراد للإنسان من بين سائر المخلوقات بالبيان و تفخيم لشأنه؛إذ هو أشرفهم و إليه التّنزيل،و هو المأمور بالقراءة.و يجوز أن يراد بالفعل الأوّل أيضا خلق الإنسان،و يقصد بتجريده عن المفعول الإبهام ثمّ التّفسير روما لتفخيم فطرته.(6:448)

نحوه البروسويّ(10:472)،و القاسميّ(17:

6207).

الشّوكانيّ: و وصف الرّب بقوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ لتذكير النّعمة لأنّ الخلق هو أعظم النّعم، و عليه يترتّب سائر النّعم.قال الكلبيّ:يعني الخلائق.

و إذا كان المراد بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ كلّ المخلوقات، فيكون تخصيص الإنسان بالذّكر تشريفا له لما فيه من بديع الخلق،و عجيب الصّنع،و إذا كان المراد ب اَلَّذِي خَلَقَ: الّذي خلق الإنسان،فيكون الثّاني تفسيرا للأوّل.و النّكتة ما في الإبهام،ثمّ التّفسير من التفات الذّهن و تطلّعه إلى معرفة ما أبهم أوّلا ثمّ فسّر ثانيا.

(5:578)

الآلوسيّ: و وصف الرّبّ بقوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ لتذكيره عليه الصّلاة و السّلام أوّل النّعماء الفائضة عليه-صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم-منه سبحانه،مع ما في ذلك من التّنبيه على قدرته تعالى على تعليم القراءة بألطف وجه.و قيل:لتأكيد عدم إرادة غيره تعالى من الرّبّ،فإنّ العرب كانت تسمّي الأصنام أربابا،لكنّهم لا ينسبون الخلق إليها.و الفعل إمّا منزل منزلة اللاّزم،أي الّذي له الخلق،أو مقدّر

ص: 358

مفعوله عامّا،أي الّذي خلق كلّ شيء،و الأوّل يفيد العموم أيضا.

فعلى الوجهين يكون وجه تخصيص الإنسان بالذّكر في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ أنّه أشرف المخلوقات،و فيه من بدائع الصّنع و التّدبير ما فيه،فهو أدلّ على وجوب العبادة المقصودة من القراءة مع أنّ التّنزيل إليه.و يجوز أن يراد خلق الإنسان إلاّ أنّه لم يذكر أوّلا و ذكر ثانيا،قصدا لتفخيمه بالإبهام ثمّ التّفسير.(30:179)

الطّباطبائيّ: إشارة إلى قصر الرّبوبيّة في اللّه عزّ اسمه،و هو توحيد الرّبوبيّة المقتضية لقصر العبادة فيه، فإنّ المشركين كانوا يقولون:إنّ اللّه سبحانه ليس له إلاّ الخلق و الإيجاد.و أمّا الرّبوبيّة و هي الملك و التّدبير فلمقرّبي خلقه من الملائكة و الجنّ و الإنس، فدفعه اللّه بقوله: رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ النّاصّ على أنّ الرّبوبيّة و الخلق له وحده.(20:323)

عبد الكريم الخطيب :هو بيان لقدرة اللّه سبحانه و تعالى،و أنّه هو الخالق وحده لا شريك له،و أنّه هو الّذي بقدرته خلق الإنسان،هذا الخلق السّويّ مِنْ عَلَقٍ أي من دم لزج،متجمّد.

فالّذي خلق الإنسان من هذا العلق،و سوّاه على هذا الخلق،لا يقف به عند هذا الحدّ،بل هو سبحانه بالغ به منازل الكمال،بما يفتح له من أبواب العلم و المعرفة.

(15:1624)

31- ...بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ... المائدة:18

لاحظ:الطّبريّ(4:506)،و القشيريّ(2:

109)،و الواحديّ(2:170)،و الطّبرسيّ(2:176 )،و القرطبيّ(6:121)،و البيضاويّ(1:268)، و النّسفيّ(1:277)و الخازن(2:24)،و أبو حيّان(3:

451)،و ابن كثير(2:529)،و الشّربينيّ(1:364)، و أبو السّعود(2:254)،و المشهديّ(3:47)، و البروسويّ(2:372)،و الشّوكانيّ(2:32)، و الآلوسيّ(6:102)،و شبّر(2:159)،و القاسميّ (6:1926)و ابن عاشور(5:73)،و الطّباطبائيّ(5:

252)،و فضل اللّه(8:106)،و مكارم الشّيرازيّ (3:585).

32- قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ.

الفلق:1،2

ابن عبّاس: من شرّ كلّ ذي شرّ خلق.(522)

يريد إبليس خاصّة،لأنّ اللّه تعالى لم يخلق خلقا هو شرّ منه.(الفخر الرّازيّ 32:193)

الحسن :إبليس و ذرّيّته.(الماورديّ 6:374)

ثابت البنانيّ: إنّ شرّ ما خلق:جهنّم.

(الماورديّ 6:374)

ابن شجرة:من شرّ ما خلق في الدّنيا و الآخرة.

(الماورديّ 6:374)

الطّبريّ: لأنّه أمر نبيّه أن يستعيذ من شرّ كلّ شيء؛إذ كان كلّ ما سواه،فهو ما خلق.(21:748)

الطّوسيّ: عامّ في جميع ما خلقه اللّه،فإنّه ينبغي

ص: 359

أن يستعاذ من شرّه ممّن يجوز أن يحصل منه الشّرّ.

و قيل:المراد من شرّ الأشياء الّتي خلقها مثل السّباع و الهوامّ و الشّياطين و غير ذلك.(10:433)

القشيريّ: أي من الشّرور كلّها.(6:353)

الواحديّ: من الجنّ و الإنس.(4:572)

الزّمخشريّ: من شرّ خلقه.و شرّهم:ما يفعله المكلّفون من الحيوان من المعاصي و المآثم و مضارّة بعضهم بعضا من ظلم و بغي و قتل و ضرب و شتم و غير ذلك،و ما يفعله غير المكلّفين منه من الأكل و النّهش و اللّدغ و العضّ كالسّباع و الحشرات،و ما وضعه اللّه في الموات من أنواع الضّرر كالإحراق في النّار و القتل في السّمّ.(4:300)

ابن عطيّة: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ يعمّ كلّ موجود له شرّ و قرأ عمرو بن عبيد و بعض المعتزلة القائلين بأنّ اللّه لم يخلق الشّرّ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ على النّفي،و هي قراءة مردودة مبنيّة على مذهب باطل،اللّه خالق كلّ شيء.(5:538)

الطّبرسيّ: من الجنّ و الإنس و سائر الحيوانات.

(5:568)

الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ و فيه مسألتان:

المسألة الأولى:في تفسير هذه الآية وجوه:

أحدها:قال عطاء عن ابن عبّاس:يريد إبليس خاصّة،لأنّ اللّه تعالى لم يخلق خلقا هو شرّ منه،و لأنّ السّورة إنّما نزلت في الاستعاذة من السّحر،و ذلك إنّما يتمّ بإبليس و بأعوانه و جنوده.

و ثانيها:يريد جهنّم،كأنّه يقول:قل أعوذ بربّ جهنّم و من شدائد ما خلق فيها.

و ثالثها: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ يريد من شرّ أصناف الحيوانات المؤذيات كالسّباع و الهوامّ و غيرهما.

و يجوز أن يدخل فيه من يؤذي من الجنّ و الإنس أيضا،و وصف أفعالها بأنّها شرّ.و إنّما جاز إدخال الجنّ و الإنسان تحت لفظة(ما)لأنّ الغلبة لمّا حصلت في جانب غير العقلاء،حسن استعمال لفظة(ما)فيه، لأنّ العبرة بالأغلب أيضا،و يدخل فيه شرور الأطعمة الممرّضة و شرور الماء و النّار.

فإن قيل:الآلام الحاصلة عقيب الماء و النّار و لدغ الحيّة و العقرب حاصلة بخلق اللّه تعالى ابتداء،على ما هو قول أكثر المتكلّمين،أو متولّدة من قوى خلقها اللّه تعالى في هذه الأجرام،على ما هو قول جمهور الحكماء و بعض المتكلّمين،و على التّقديرين فيصير حاصل الآية أنّه تعالى أمر الرّسول عليه السّلام بأن يستعيذ باللّه من اللّه،فما معناه؟

قلنا:و أيّ بأس بذلك،و لقد صرّح عليه السّلام بذلك، فقال:«و أعوذ بك منك».

و رابعها:أراد به:ما خلق من الأمراض و الأسقام و القحط،و أنواع المحن و الآفات.(32:193)

نحوه النّيسابوريّ.(30:226)

العكبريّ: يجوز أن تكون(ما)بمعنى«الّذي»، و العائد محذوف،و أن تكون مصدريّة.

و الخلق بمعنى المخلوق،و إن شئت كان على بابه، أي من شرّ خلقه،أي ابتداعه.

ص: 360

و قرئ (من شرّ) بالتّنوين،و(ما)على هذا بدل من (شرّ)،أو زائدة،و لا يجوز أن تكون نافية،لأنّ النّافية لا يتقدّم عليها ما في حيّزها،فلذلك لم يجز أن يكون التّقدير:«ما خلق من شرّ»ثمّ هو فاسد في المعنى.

(2:1310)

ابن عربيّ: أي من شرّ الاحتجاب بالخلق و تأثيرهم فيه،فإنّ من اتّصل بعالم القدس في حضرة الأسماء،و اتّصف بصفاته تعالى،أثّر في كلّ مخلوق و لم يتأثّر من أحد،لأنّهم في عالم الآثار و مقام الأفعال، و قد ارتقى هو عن مقام الأفعال إلى مبادئها من الصّفات.(2:872)

القرطبيّ: قيل:هو إبليس و ذرّيّته،و قيل:جهنّم، و قيل:هو عامّ،أي من شرّ كلّ ذي شرّ خلقه اللّه عزّ و جلّ.(20:256)

البيضاويّ: خصّ عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشّرّ فيه،فإنّ عالم الأمر خير كلّه،و شرّه اختياريّ لازم و متعدّ كالكفر و الظّلم،و طبيعيّ كإحراق النّار و إهلاك السّموم.(2:583)

مثله المشهديّ(11:642)،و نحوه الشّربينيّ(4:

613)

النّسفيّ: أي النّار أو الشّيطان،و(ما)موصولة و العائد محذوف،أو مصدريّة و يكون الخلق بمعنى المخلوق.و قرأ أبو حنيفة رضى اللّه عنه (من شرّ) بالتّنوين و(ما)على هذا مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الجرّ بدل من(شرّ)أي شرّ خلقه،أي من خلق شرّ،أو زائدة.(4:386)

أبو حيّان:و قرأ الجمهور مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، بإضافة(شرّ)إلى(ما)،و(ما)عامّ يدخل فيه جميع من يوجد منه الشّرّ من حيوان مكلّف و غير مكلّف، و جماد كالإحراق بالنّار،و الإغراق بالبحر،و القتل بالسّمّ.و قرأ عمرو بن فايد (من شرّ) بالتّنوين.[و نقل قول ابن عطيّة ثمّ قال:]

و لهذه القراءة وجه غير النّفي،فلا ينبغي أن تردّ، و هو أن يكون(ما خلق)بدلا من(شرّ)على تقدير محذوف،أي من شرّ شرّ ما خلق،فحذف لدلالة شرّ الأوّل عليه،أطلق أوّلا ثمّ عمّ ثانيا.(8:530)

السّمين:قوله: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ متعلّق ب (اعوذ)و العامّة على إضافة(شرّ)إلى(ما).و قرأ عمرو بن فايد بتنوينه.[و نقل قول ابن عطيّة ثمّ قال:]

و لا يتعيّن أن تكون(ما)نافية،بل يجوز أن تكون موصولة بدلا من(شرّ)على حذف مضاف:أي من شرّ ما خلق،عمّم أوّلا ثمّ خصّص ثانيا.[و نقل قول أبي البقاء ثمّ قال:]

قلت:و هو ردّ حسن صناعيّ،و لا يقال:إنّ مِنْ شَرِّ متعلّق ب(اعوذ)و حذف مفعول(خلق) لأنّه خلاف الأصل،و قد أنحى مكّيّ على هذا القائل و ردّه بما تقدّم أصحّ ردّ.و(ما)مصدريّة أو بمعنى «الّذي».(6:591)

أبو السّعود :أي من شرّ ما خلقه من الثّقلين و غيرهما كائنا ما كان من ذوات الطّبائع و الاختيار، و هذا كما ترى شامل لجميع الشّرور،فمن توهّم:-أنّ الاستعاذة هاهنا من المضارّ البدنيّة و أنّها تعمّ الإنسان

ص: 361

و غيره ممّا ليس بصدد الاستعاذة،ثمّ جعل عمومها مدارا لإضافة الرّبّ إلى الفلق-فقد نأى عن الحقّ بمراحل.و إضافة الشّرّ إليه لاختصاصه بعالم الخلق المؤسّس على امتزاج الموادّ المتباينة،و تفاعل كيفيّاتها المتضادّة،المستتبعة للكون و الفساد،و أمّا عالم الأمر فهو خير محض منزّه عن شوائب الشّرّ بالمرّة.

(6:489)

نحوه البروسويّ.(10:541)

الشّوكانيّ: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ متعلّق ب(اعوذ) أي من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته، فيعمّ جميع الشّرور.و قيل:هو إبليس و ذرّيّته،و قيل:

جهنّم،و لا وجه لهذا التّخصيص،كما أنّه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنيّة.

و قد حرّف بعض المتعصّبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه و تقويما لباطله،فقرءوا بتنوين (شرّ) على أنّ(ما) نافية،و المعنى:من شرّ لم يخلقه،و منهم عمرو بن عبيد و عمرو بن عائذ.(5:645)

الآلوسيّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

و قال بعض الأفاضل:هو عامّ لكلّ شرّ في الدّنيا و الآخرة،و شرّ الإنس و الجنّ و الشّياطين،و شرّ السّباع و الهوامّ،و شرّ النّار و شرّ الذّنوب و الهوى، و شرّ النّفس و شرّ العمل.و ظاهره تعميم ما خَلَقَ بحيث يشمل نفس المستعيذ،و لا يأبى ذلك نزول السّورة ليستعيذ بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و جوّز بعضهم جعل(ما)مصدريّة مع تأويل المصدر باسم المفعول، و هو تكلّف مستغنى عنه.

و إضافة الشّرّ إلى(ما خلق)قيل:لاختصاصه بعالم الخلق المؤسّس على امتزاج الموادّ المتباينة المستتبعة للكون و الفساد،و أمّا عالم الأمر الّذي أوجد بمجرّد أمر«كن»من غير مادّة،فهو خير محض منزّه عن شوائب الشّرّ بالمرّة.و الظّاهر أنّه عنى بعالم الأمر:

عالم المجرّدات،و هم الملائكة عليهم السّلام.و أورد عليه،بعد غضّ الطّرف عن عدم ورود ذلك فى لسان الشّرع:أنّ منهم من يصدر منه شرّ كخسف البلاد و تعذيب العباد.

و أجيب بأنّ ذلك بأمره تعالى،فلم يصدر إلاّ لامتثال الأمر،لا لقصد الشّرّ من حيث هو شرّ، فلا إيراد،نعم يرد أنّ كونهم مجرّدين خلاف المختار الّذي عليه سلف الأمّة و من تبعهم،بل هم أجسام لطيفة نوريّة،و لو سلّم تجرّدهم قلنا بعدم حصر المجرّدات فيهم،كيف و قد قال كثير بتجرّد الجنّ، فقالوا:إنّها ليست أجساما و لا حالة فيها بل هي جواهر مجرّدة قائمة بأنفسها مختلفة بالماهيّة،بعضها خيّرة و بعضها شريرة،و بعضها كريمة حرّة محبّة للخيرات،و بعضها دنيّة خسيسة محبّة للشّرور و الآفات.

و بالجملة(ما خلق)أعمّ من المجرّد على القول به و غيره،و الكلّ مخلوق له تعالى،أي موجد بالاختيار بعد العدم،إلاّ أنّ المراد:الاستعاذة ممّا فيه شرّ من ذلك.

و قرأ عمرو بن فائد-على ما في«البحر»- (من شرّ) بالتّنوين.[ثمّ نقل كلام ابن عطيّة و قال:]

و أنت تعلم أنّ القراءة بالرّواية،و لا يتعيّن في هذه القراءة هذا التّوجيه بل يجوز أن تكون(ما)بدلا من

ص: 362

(شرّ)على تقدير محذوف قد حذف لدلالة ما قبله عليه،أي من شرّ شرّ ما خلق.(30:280)

المراغيّ: أي قل:أستعيذ بربّ المخلوقات، و مبدع الكائنات،من كلّ أذى و شرّ يصيبني من مخلوق من مخلوقاته طرّا.

ثمّ خصّص من بعض ما خلق أصنافا يكثر وقوع الأذى منهم،فطلب إليه التّعوّذ من شرّهم و دفع أذاهم.(30:267)

سيّد قطب :أي من شرّ خلقه إطلاقا و إجمالا.

و للخلائق شرور في حالات اتّصال بعضها ببعض،كما أنّ لها خيرا و نفعا في حالات أخرى.و الاستعاذة باللّه هنا من شرّها ليبقى خيرها.و اللّه الّذي خلقها قادر على توجيهها و تدبير الحالات الّتي يتّضح فيها خيرها لا شرّها.(6:4007)

مغنيّة:أي من شرّ كلّ ذي شرّ إنسانا كان أم غير إنسان.و ما من مخلوق إلاّ و فيه الأهليّة التّامّة للخير و الشّرّ،قوّة موجبة و أخرى سالبة،و لا شيء في الوجود خير محض بذاته إلاّ خالق الوجود.(7:625)

الطّباطبائيّ: أي من شرّ من يحمل شرّا من الإنس و الجنّ و الحيوانات،و سائر ما له شرّ من الخلق، فإنّ اشتمال مطلق ما خلق على الشّرّ لا يستلزم الاستغراق.(20:392)

عبد الكريم الخطيب :هذا هو المستعاذ باللّه من شرّه،و هو المخلوقات على إطلاقها.و المخلوقات كلّها للّه سبحانه،و هي من صنعة يده،و هو وحده سبحانه القادر على دفع شرّها،و ردّ بأسها،سواء كانت من قوى الطّبيعة،أو من الحيوان أو الإنسان.

و ليست المخلوقات شرّا،و إنّما هي خير في ذاتها، و في نظام الوجود العامّ،الّذي يأخذ فيه كلّ مخلوق مكانه من بنائه،و لو أخلي مكانه لاختلّ نظام الوجود و اضطربت مسيرته.و من جهة نظر الإنسان إلى المخلوقات،فإنّه ليس كلّ المخلوقات شرّا،بل إنّ معظمها هو خير،يعيش فيه،و ينعم به،و حتّى ما يراه هو من بعض المخلوقات شرّا خالصا،ليس بالشّرّ الخالص،و أنّه لو أنعم النّظر فيه لوجد بعض الخير قائما إلى جانب هذا الشّرّ.فالمخلوقات خيرها كثير، و شرّها بالإضافة إلى الإنسان في ذاته،قليل.

فالمستعاذ منه هو هذا الشّرّ القليل إلى جانب الخير الكثير.و المراد بالاستعاذة من هذا الشّرّ،هو أن يلقى الإنسان المخلوقات في خيرها الخالص،دون شرّها الّذي يستعيذ باللّه منه.

و قد يكون للإنسان،أو الحيوان حيلة في دفع بعض الشّرّ،فليحتل حيلته،و ليبذل وسعه،و لكن هذا لا يمنع الإنسان العاقل من أن يجعل معاذه هو اللّه سبحانه،كما أنّ معاذه باللّه،لا يحمله على تعطيل ملكاته و قواه،فتلك وسائل أودعها الخالق جلّ و علا فيه،و هي داخلة في الاستعاذة باللّه،و اللّجإ إليه.فما يملكه الإنسان من قدرات على دفع ما يدفع به من شرور و مكاره،هي أسلحة من عند اللّه سلّحه بها، فلا يعطّلها،و ليذكر فضل المنعم بها عليه،فإنّها عند المؤمن استعاذة باللّه.

و ليس الشّرّ المستعاذ باللّه منه،هو شرّ في ذاته،لأنّ

ص: 363

اللّه سبحانه ما خلق شرّا،و إنّما هو شرّ إضافيّ،أو نسبيّ،و ذلك بالإضافة إلى من وقع عليه،و الّذي يعدّه شرّا بالنّسبة له هو،و لكنّه في النّظام العامّ للوجود هو خير مطلق،كما قلنا.

و أمّا الشّرّ المستعاذ به،فهو شرّ يقع من احتكاك الموجودات بعضها ببعض،أشبه بالشّرر المتطاير من احتكاك الزّناد بالصّوان،بل هو أشبه بآلام المخاض لميلاد حياة متجدّدة في الحياة.

فالإنسان في ذاته يشعر بآلام المرض،و الجوع، و يجد لذعة الحرمان و الفقر،و مرارة فقد الأحباب و الأعزّاء،و خيبة الآمال،و ضياع الفرص،إلى غير ذلك ممّا يساء به الإنسان،و يألم منه،و يعدّه شرّا مقيسا بمقياس ذاته،مضبوطا على تلقّيات مشاعره له، و إحساسه به،و هذا كلّه غير منكور،و من حقّ الإنسان أن يلجأ إلى حمى ربّه،و أن يستعيذ به،و أن يطلب منه اللّطف و العافية.

و المستعيذ باللّه اللاّجئ إلى حماه،عن إيمان وثيق، و عن معرفة تامّة،بما للّه سبحانه و تعالى،من علم، و حكمة،و قدرة،و سلطان،يجد نفسه دائما في هذا الحمى العزيز الّذي لا ينال،و تحت ظلّ هذا السّلطان القويّ الّذي لا يغلب،و أنّ هذه الشّرور الّتي استعاذ بربّه منها،قد انصرفت عنه جملة،أو خفّت وطأتها، و ذلك حين يعيد النّظر في هذه الشّرور على ضوء هذه المشاعر الجديدة الّتي لقي بها ربّه،و فوّض إليه فيها أمره،فيرى كثيرا من هذه الشّرور أوهاما و تخيّلات، كما يرى كثيرا منها أقرب إلى الخير منها إلى الشّرّ،ثمّ ما كان منها شرّا خالصا في تقديره يصبح في ظلّ التّفويض للّه،و التّسليم لحكمه،مستساغ الطّعم، خفيف الحمل،لما يرى من حسن المثوبة عند اللّه،على ما أصابه و صبر عليه،محتسبا عند اللّه أجره.

(15:1719)

مكارم الشّيرازيّ: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ: من كلّ موجود شرّير من الإنس و الجنّ و الحيوان،و حوادث الشّرّ و النّفس الأمّارة بالسّوء،و هذا لا يعني أنّ الخلق الإلهيّ ينطوي في ذاته على شرّ،لأنّ الخلق هو الإيجاد، و الإيجاد خير محض.يقول سبحانه: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ السّجدة:7،بل الشّرّ يعرض على المخلوقات حين تنحرف عن قوانين الخلقة،و تنسلخ عن المسير المعيّن لها.على سبيل المثال أنياب الحيوانات وسيلة دفاعيّة تستخدمها أمام الأعداء، كما نستخدم نحن السّلاح للدّفاع مقابل العدوّ،لو أنّ هذا السّلاح استخدم في محلّه فهو خير،و إن لم يستعمل في محلّه كأن صوّب تجاه صديق،فهو شرّ.

جدير بالذّكر أنّ كثيرا من الأمور نحسبها شرّا و في باطنها خير كثير،مثل الحوادث و البلايا الّتي تنفض عن الإنسان غبار الغفلة،و تدفعه إلى التّوجّه نحو اللّه هذه ليس من الشّرّ حتما.(20:514)

فضل اللّه :من المخلوقات المتحرّكة في الكون من الإنس و الجنّ و الحيوان و غيرهم،ممّا يمكن أن يحدث للإنسان شرّا في بدنه و ماله و عرضه و أهله،في ما يخافه الإنسان من ذلك،فيعقّد له نفسه من حيثما يثيره تصوّر ذلك من مخاوف،أو يطلقه من تهاويل،فيمنعه

ص: 364

عن الانطلاق في الحركة في خطّ المسئوليّة،لأنّ الخوف و القلق من العوامل المؤثّرة سلبا في عمق تصوّر الكائن الإنسانيّ و حركته،لأنّهما قد يتحوّلان إلى ما يشبه حالة الشّلل عن التّفكير الّذي قد يتجمّد،و عن العمل الّذي قد يبتعد عن التّركيز و الثّبات.

(24:492)

خلقه

1- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. آل عمران:59

ابن عبّاس: بلا أب و لا أمّ.(48)

نحوه البغويّ.(1:449)

ابن زيد :أتى نجرانيّان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالا له:هل علمت أنّ أحدا ولد من غير ذكر،فيكون عيسى كذلك؟قال:فأنزل اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ...، أ كان لآدم أب أو أمّ!! كما خلقت هذا في بطن هذه؟(الطّبريّ 3:294)

الفرّاء: هذا لقول النّصارى:إنّه ابنه؛إذ لم يكن أب،فأنزل اللّه تبارك و تعالى علوّا كبيرا إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ لا أب له و لا أمّ،فهو أعجب أمرا من عيسى،ثمّ قال:(خلقه)لا أنّ قوله (خلقه)صلة ل(آدم)؛إنّما تكون الصّلات للنّكرات،كقولك:رجل خلقه من تراب.و إنّما فسّر أمر آدم حين ضرب به المثل،فقال:(خلقه)على الانقطاع و التّفسير،و مثله قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ الجمعة:5،ثمّ قال: يَحْمِلُ أَسْفاراً و الأسفار:كتب العلم يحملها و لا يدري ما فيها.و إن شئت جعلت(يحمل)صلة للحمار،كأنّك قلت:كمثل حمار يحمل أسفارا؛لأنّ ما فيه الألف و اللاّم قد يوصل،فيقال:لا أمرّ إلاّ بالرّجل يقول ذلك،كقولك:بالّذي يقول ذلك.و لا يجوز في زيد و لا عمرو أن يوصل،كما يوصل الحرف فيه الألف و اللاّم.(1:219)

الطّبريّ: فإن قال قائل:فكيف قال: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ و(آدم)معرفة،و المعارف لا توصل؟

قيل:إنّ قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ غير صلة ل (آدم)،و إنّما هو بيان عن أمره على وجه التّفسير عن المثل الّذي ضربه،و كيف كان.(3:294)

الزّجّاج: و خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ليست بمتّصلة بآدم إنّما هو مبيّن قصّة آدم و لا يجوز في الكلام أن تقول:

مررت بزيد قام،لأنّ زيدا معرفة لا يتّصل به قام، و لا يوصل به و لا يكون حالا،لأنّ الماضي لا يكون حالا أنت فيها،و لكنّك تقول:مثلك مثل زيد،تريد أنّك تشبهه في فعله.ثمّ تخبر بقصّة زيد فتقول:فعل كذا كذا.و إنّما قيل:إنّ مثله كمثل آدم،لأنّ اللّه أنشأ آدم من غير أب،خلقه من تراب،فكما خلق آدم من غير أب كذلك خلق عيسى عليه السّلام.(1:422)

الطّوسيّ: قال ابن عبّاس،و الحسن و قتادة:هذه الآية نزلت في وفد نجران:السّيّد و العاقب،قالا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:هل رأيت ولدا من غير ذكر،فأنزل اللّه تعالى الآية.و«المثل»ذكر سائر يدلّ على أنّ سبيل الثّاني سبيل الأوّل،فذكر اللّه آدم بأن أنشأه من غير

ص: 365

والد،يدلّ على أنّ سبيل الثّاني سبيل الأوّل في باب الإمكان،و القدرة.و في ذلك دلالة على بطلان قول من حرّم النّظر،لأنّ اللّه تعالى احتجّ به على المشركين، و لا يجوز أن يدلّهم إلاّ بما فيه دليل،فقياس خلق عيسى من غير ذكر كقياس خلق آدم بل هو فيه أوجب،لأنّه في آدم من غير أنثى،و لا ذكر.و معنى (خلقه)أنشأه،و لا موضع له من الإعراب،لأنّه لا يصلح أن يكون صفة ل(آدم)من حيث هو نكرة، و لا يكون حالا له،لأنّه ماض فهو متّصل في المعنى غير متّصل في اللّفظ من علامات الاتّصال من الإعراب أو مرتبة كالصّلة.(2:482)

القشيريّ: خصّهما بتطهير الرّوح عن التّناسخ في الأصلاب،و أفرد آدم بصفة البدء،و عيسى عليه السّلام بتخصيص نفخ الرّوح فيه على وجه الإعزاز،و هما و إن كانا كبيري الشّأن،فنقص الحدثان و المخلوقيّة لازم لهما: قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. (1:258)

الواحديّ: و المعنى أنّ قياس خلق عيسى من غير ذكر كقياس خلق آدم.ثمّ ذكر خلق آدم فقال:

خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يعني قالبا من تراب لا روح فيه.

(1:443)

الزّمخشريّ: إنّ شأن عيسى و حاله الغريبة كشأن آدم.و قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة لما له شبّه عيسى بآدم،أي خلق آدم من تراب و لم يكن ثمّة أب و لا أمّ،و كذلك حال عيسى.

فإن قلت:كيف شبّه به و قد وجد هو من غير أب و وجد آدم من غير أب و أمّ؟

قلت:هو مثيله في أحد الطّرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطّرف الآخر من تشبيهه به،لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف،و لأنّه شبّه به في أنّه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرّة،و هما في ذلك نظيران،و لأنّ الوجود من غير أب و أمّ أغرب و أخرق للعادة من الوجود بغير أب،فشبّه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم،و أحسم لمادّة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب ممّا استغربه.

و عن بعض العلماء أنّه أسر بالرّوم،فقال لهم:لم تعبدون عيسى؟قالوا:لأنّه لا أب له.قال:فآدم أولى لأنّه لا أبوين له.قالوا:كان يحيي الموتى.قال:

فحزقيل أولى لأنّ عيسى أحيا أربعة نفر و أحيا حزقيل ثمانية آلاف.قالوا:كان يبرئ الأكمه و الأبرص.قال:فجرجيس أولى لأنّه طبخ و أحرق ثمّ قام سالما. خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ قدّره جسدا من طين.

(1:433)

نحوه النّسفيّ(1:160)،و الخازن(1:301)، و الشّربينيّ(1:221).

ابن عطيّة: و قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ تفسير ل(مثل آدم)،الّذي ينبغي أن يتصوّر،و المثل و المثال بمعنى واحد،و لا يجوز أن يكون(خلقه)صلة ل(آدم) و لا حالا منه.قال الزّجّاج:إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها،بل هو كلام مقطوع منه،مضمّنة تفسير المثل.

(1:446)

الطّبرسيّ: أي مثل عيسى في خلق اللّه إيّاه من غير أب كمثل آدم في خلق اللّه إيّاه من غير أب و لا أمّ،

ص: 366

فليس هو بأبدع و لا أعجب من ذلك،فكيف أنكروا هذا و أقرّوا بذلك.ثمّ بيّن سبحانه كيف خلق،فقال:

(خلقه)أي أنشأه(من تراب)و هذا إخبار عن آدم،و معناه خلق عيسى من الرّيح و لم يخلق قبل أحدا من الرّيح،كما خلق آدم من التّراب و لم يخلق قبله أحدا من التّراب.(1:452)

الفخر الرّازيّ: المسألة الأولى: مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي صفته كصفة آدم،و نظيره قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الرّعد:35، أي صفة الجنّة.

المسألة الثّانية:قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ليس بصلة لآدم و لا صفة،و لكنّه خبر مستأنف على جهة التّفسير بحال آدم.قال الزّجّاج:«هذا كما تقول في الكلام:مثلك كمثل زيد،تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور،ثمّ تخبر بقصّة زيد فتقول:فعل كذا و كذا».

المسألة الثّالثة:اعلم أنّ العقل دلّ على أنّه لا بدّ للنّاس من والد أوّل،و إلاّ لزم أن يكون كلّ ولد مسبوق بوالد لا إلى أوّل،و هو محال،و القرآن دلّ على أنّ ذلك الوالد الأوّل هو آدم عليه السّلام كما في هذه الآية،و قال: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها النّساء:1، و قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها الأعراف:189،ثمّ إنّه تعالى ذكر في كيفيّة خلق آدم عليه السّلام وجوها كثيرة:

أحدها:أنّه مخلوق من التّراب،كما في هذه الآية.

و الثّاني:أنّه مخلوق من الماء،قال اللّه تعالى:

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً الفرقان:54.

و الثّالث:أنّه مخلوق من الطّين،قال اللّه تعالى:

اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ السّجدة:7،8.

و الرّابع:أنّه مخلوق من سلالة من طين،قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ المؤمنون:12،13.

الخامس:أنّه مخلوق من طين لازب،قال تعالى:

إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ الصّافّات:11.

السّادس:أنّه مخلوق من صلصال،قال تعالى:

إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:28.

السّابع:أنّه مخلوق من عجل،قال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ الأنبياء:37.

الثّامن:قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ البلد:4.

أمّا الحكماء فقالوا:إنّما خلق آدم عليه السّلام من تراب لوجوه:

الأوّل:ليكون متواضعا.

الثّاني:ليكون ستّارا.

الثّالث:ليكون أشدّ التصاقا بالأرض؛و ذلك لأنّه إنّما خلق لخلافة أهل الأرض،قال تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30.

الرّابع:أراد إظهار القدرة فخلق الشّياطين من

ص: 367

النّار الّتي هي أضوأ الأجرام و ابتلاهم بظلمات الضّلالة،و خلق الملائكة من الهواء الّذي هو ألطف الأجرام و أعطاهم كمال الشّدّة و القوّة،و خلق آدم عليه السّلام من التّراب الّذي هو أكثف الأجرام ثمّ أعطاه المحبّة و المعرفة و النّور و الهداية،و خلق السّماوات من أمواج مياه البحار و أبقاها معلّقة في الهواء،حتّى يكون خلقه هذه الأجرام برهانا باهرا،و دليلا ظاهرا على أنّه تعالى هو المدبّر بغير احتياج،و الخالق بلا مزاج و علاج.

الخامس:خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشّهوة و الغضب و الحرص،فإنّ هذه النّيران لا تطفأ إلاّ بالتّراب،و إنّما خلقه من الماء ليكون صافيا تتجلّى فيه صور الأشياء،ثمّ إنّه تعالى مزج بين الأرض و الماء ليمتزج الكثيف باللّطيف فيصير طينا،و هو قوله: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ص:71.ثمّ إنّه في المرتبة الرّابعة قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:12،و السّلالة بمعنى المسلولة، «فعالة»بمعنى«المفعولة»لأنّها هي الّتي تسلّ من ألطف أجزاء الطّين،ثمّ إنّه في المرتبة الخامسة جعله طينا لازبا،فقال: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ الصّافّات:11،ثمّ إنّه في المرتبة السّادسة أثبت له من الصّفات ثلاثة أنواع:

أحدها:أنّه من صلصال و الصّلصال:اليابس الّذي إذا حرّك تصلصل،كالخزف الّذي يسمع من داخله صوت.

و الثّاني:الحمأ و هو الّذي استقرّ في الماء مدّة، و تغيّر لونه إلى السّواد.

و الثّالث:تغيّر رائحته،قال تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ البقرة:259،أي لم يتغيّر.

فهذه جملة الكلام في التّوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السّلام.

المسألة الرّابعة:في الآية إشكال،و هو أنّه تعالى قال: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدّما على قول اللّه له:

(كن)و ذلك غير جائز.و أجابوا عنه من وجوه:

الأوّل:قال أبو مسلم:قد بيّنّا أنّ الخلق هو التّقدير و التّسوية،و يرجع معناه إلى علم اللّه تعالى بكيفيّة وقوعه و إراداته،لإيقاعه على الوجه المخصوص، و كلّ ذلك متقدّم على وجود آدم عليه السّلام تقديما من الأزل إلى الأبد.و أمّا قوله:(كن)فهو عبارة عن إدخاله في الوجود،فثبت أنّ خلق آدم متقدّم على قوله:(كن.)

و الجواب الثّاني:و هو الّذي عوّل عليه القاضي أنّه تعالى خلقه من الطّين ثمّ قال له:(كن)أي أحياه، كما قال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فإن قيل:الضّمير في قوله:(خلقه)راجع إلى آدم،و حين كان ترابا لم يكن آدم عليه السّلام موجودا.

أجاب القاضي و قال:بل كان موجودا و إنّما وجد بعد حياته،و ليست الحياة نفس آدم.و هذا ضعيف،لأنّ آدم عليه السّلام ليس عبارة عن مجرّد الأجسام المشكّلة بالشّكل المخصوص،بل هو عبارة عن هويّة أخرى مخصوصة،و هي إمّا المزاج المعتدل،أو النّفس، و ينجرّ الكلام من هذا البحث إلى أنّ النّفس ما هي؟

ص: 368

و لا شكّ أنّها من أغمض المسائل.

الجواب الصّحيح:أن يقال:لمّا كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب،سمّاه آدم عليه السّلام قبل ذلك، تسمية لما سيقع بالواقع.

و الجواب الثّالث:أنّ قوله: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر،كما في قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا البلد:17، و يقول القائل:أعطيت زيدا اليوم ألفا ثمّ أعطيته أمس ألفين،و مراده:أعطيته اليوم ألفا،ثمّ أنا أخبركم أنّي أعطيته أمس ألفين،فكذا قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي صيّره خلقا سويّا،ثمّ إنّه يخبركم أنّي إنّما خلقته بأن قلت له:(كن.)

المسألة الخامسة:في الآية إشكال آخر،و هو أنّه كان ينبغي أن يقال:ثمّ قال له:(كن)فكان،فلم يقل كذلك بل قال: كُنْ فَيَكُونُ.

و الجواب:تأويل الكلام،ثمّ قال له: كُنْ فَيَكُونُ فكان.و اعلم يا محمّد أنّ ما قال له ربّك:(كن)فإنّه يكون لا محالة.(8:79)

نحوه النّيسابوريّ.(3:27)

ابن عربيّ: و اعلم أنّ عجائب القدرة لا تنقضي، و لا قياس ثمّة على أنّ لتكوّن الإنسان من غير الأبوين نظيرا من عالم الحكمة،فإنّ كثيرا من الحيوانات النّاقصة الغريبة الخلقة،تتولّد خلقا في ساعة،ثمّ تتناسل و تتوالد،فكذا الإنسان يمكن حدوثه بالتّولّد في دور من الأدوار،ثمّ بالتّولّد،و كذا التّكوّن من غير أب،فإنّ منّي الرّجل أحرّ كثيرا من منيّ المرأة، و فيه القوّة العاقدة أقوى،كما في الإنفحة بالنّسبة إلى الجبن،و المنعقدة في منيّ المرأة أقوى كما في اللّبن،فإذا اجتمعا تمّ العقد و انعقد،و يتكوّن الجنين،فيمكن وجود مزاج إناثيّ قويّ يناسب المزاج الذّكوريّ،كما يشاهد في كثير من النّسوان.

فيكون المتولّد في كليتها اليمنى بمثابة منيّ الذّكر لفرط حرارته بمجاورة الكبد،لمن مزاج كبدها صحيح قويّ الحرارة،و المتولّد في كليتها اليسرى بمثابة منيّ الأنثى،فإذا احتملت المرأة-لاستيلاء صورة ذكوريّة على خيالها في النّوم و اليقظة بسبب اتّصال روحها بروح القدس و بملك آخر،و محاكات الخيال ذلك،كما قال تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا مريم:17-سيق المنيّان من الجانبين إلى الرّحم،فتكون في المنصبّ من الجانب الأيمن قوّة العقد أقوى،و في المنصبّ من الجانب الأيسر قوّة الانعقاد،فيتكوّن الجنين و يتعلّق به الرّوح.(1:192)

القرطبيّ: قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ... دليل على صحّة القياس،و التّشبيه واقع على أنّ عيسى خلق من غير أب كآدم،لا على أنّه خلق من تراب،و الشّيء قد يشبّه بالشّيء و إن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد،فإنّ آدم خلق من تراب و لم يخلق عيسى من تراب،فكان بينهما فرق من هذه الجهة.و لكن شبه ما بينهما أنّهما خلقهما من غير أب،و لأنّ أصل خلقتهما كان من تراب،لأنّ آدم لم يخلق من نفس التّراب،و لكنّه جعل التّراب طينا ثمّ جعله صلصالا ثمّ خلقه منه،فكذلك عيسى

ص: 369

حوّله من حال إلى حال،ثمّ جعله بشرا من غير أب.

و نزلت هذه الآية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قوله:إنّ عيسى عبد اللّه و كلمته،فقالوا:

أرنا عبدا خلق من غير أب،فقال لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:آدم، من كان أبوه؟أ عجبتم من عيسى ليس له أب،فآدم عليه السّلام ليس له أب و لا أمّ،فذلك قوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي في عيسى إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ في آدم وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً الفرقان:33.

و روي أنّه عليه السّلام لمّا دعاهم إلى الإسلام قالوا:قد كنّا مسلمين قبلك،فقال:كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث:قولكم:اتّخذ اللّه ولدا،و أكلكم الخنزير، و سجودكم للصّليب،فقالوا:من أبو عيسى،فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ إلى قوله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ فدعاهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فقال بعضهم لبعض:إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا،فقالوا:أما تعرض علينا سوى هذا؟فقال:الإسلام،أو الجزية،أو الحرب.

فأقرّوا بالجزية على ما يأتي.(4:102)

البيضاويّ: شأنه الغريب كشأن آدم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للتّمثيل مبنيّة لما له الشّبه،و هو أنّه خلقه بلا أب،كما خلق آدم من التّراب بلا أب و أمّ،شبّه حاله بما هو أغرب،إفحاما للخصم و قطعا لموادّ الشّبه.و المعنى خلق قالبه من التّراب.(1:164)

نحوه الكاشانيّ(1:317)،و المشهديّ(2:107)، و الشّوكانيّ(1:441).

أبو حيّان :هي من تسمية الشّيء باسم أصله، كقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ المؤمن:7،كان ترابا،ثمّ صار طينا و خلق منه آدم،كما قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:12،و قال تعالى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ص:71،و قال: أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً الإسراء:61،و الضّمير المنصوب في(خلقه)عائد على آدم.و هذه الجملة تفسيريّة ل(مثل آدم،) فلا موضع لها من الإعراب.و قيل:هي في موضع الحال و«قد»مع(خلقه)مقدّرة،و العامل فيها معنى التّشبيه.[و نقل قول ابن عطيّة و الزّجّاج و الزّمخشريّ ثمّ قال:]

و لو كان الخلق بمعنى الإنشاء لا بمعنى التّقدير لم يأت بقوله: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ لأنّ ما خلق لا يقال له:(كن)و لا ينشأ إلاّ أن كان معنى، ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ عبارة عن نفخ الرّوح فيه،و قاله عبد الجبّار.

فيمكن أن يكون(خلقه)بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره.

قيل:أو يكون(كن)عبارة عن كونه لحما و دما، و قوله:(فيكون)حكاية حال ماضية و لا قول هناك حقيقة،و إنّما ذلك على سبيل التّمثيل،و كناية عن سرعة الخلق،و التّمكّن من إيجاد ما يريد تعالى إيجاده؛إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر،و(ثمّ)قيل:

لترتيب الخبر،لأنّ قوله:(كن)لم يتأخّر عن خلقه و إنّما هو في المعنى تفسير للخلق،و يجوز أن يكون للتّرتيب الزّماني،أي أنشأه أوّلا من طين ثمّ بعد زمان أوجد فيه الرّوح؛إذ صيّره لحما و دما،على من قال ذلك.(2:478)

ص: 370

السّمين:قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ في هذه الجملة وجهان:

أظهرهما:أنّها مفسّرة لوجه التّشبيه بين المثلين، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب.

و الثّاني:أنّها في محلّ نصب على الحال من آدم عليه السّلام و«قد»معه مقدّرة،و العامل فيها معنى التّشبيه، و الهاء في(خلقه)عائدة على آدم،و لا تعود على عيسى لفساد المعنى.و قال ابن عطيّة:و لا يجوز أن يكون(خلقه)صلة ل(آدم)و لا حالا منه،قال الزّجّاج:إذا الماضي لا يكون حالا أنت فيها،بل هو كلام مقطوع منه مضمّن تفسير الشّأن.

قال الشّيخ:و فيه نظر،و لم يبيّن وجه النّظر،و الظّاهر من هذا النّظر أنّ الاعتراض و هو قوله:

«لا يكون حالا أنت فيها»غير لازم؛إذ تقدير«قد» معه يقرّبه من الحال،و قد يظهر الجواب عمّا قاله الزّجّاج من قول الزّمخشريّ:إنّ المعنى:قدّره جسدا من طين،ثمّ قال له:(كن،)أي أنشأه بشرا.

قال الشّيخ:و لو كان الخلق بمعنى الإنشاء لا بمعنى التّقدير لم يأت بقوله:(كن)لأنّ ما خلق لا يقال له:

(كن)و لا ينشأ إلاّ إن كان معنى ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ عبارة عن نفخ الرّوح فيه.

قلت:قد تعرّض الواحديّ لهذه المسألة فأتقنها، فقال:و هذا يعني قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ليس بصلة ل(آدم)و لا صفة،لأنّ الصّلة للمبهمات،و الصّفة للنّكرات،و لكنّه خبر مستأنف على جهة التّفسير لحال آدم عليه السّلام.قال:قال الزّجّاج:و هذا كما تقول في الكلام:مثلك كمثل زيد،تريد أنّك تشبهه في فعل،ثمّ تخبر بقصّة زيد،فتقول:فعل كذا و كذا.(2:118)

أبو السّعود :تفسير لما أبهم فى المثل،و تفصيل لما أجمل فيه،و توضيح للتّمثّل ببيان وجه الشّبه بينهما، و حسم لمادّة شبهة الخصوم،إنّ إنكار خلق عيسى عليه الصّلاة و السّلام بلا أب ممّن اعترف بخلق آدم عليه الصّلاة و السّلام بغير أب و أمّ ممّا لا يكاد يصحّ، و المعنى:خلق قالبه من تراب.(1:377)

البروسويّ: تفسير للمثل لا محلّ له من الإعراب أي خلق قالب آدم من تراب.

فإن قيل:الضّمير فى(خلقه)راجع إلى آدم و حين كان ترابا لم يكن آدم موجودا.

قلنا لمّا كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب،سمّاه آدم قبل ذلك،تسمية لما سيقع بالواقع.

(2:43)

الآلوسيّ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة ابتدائيّة لا محلّ لها من الإعراب،مبنيّة لوجه الشّبه،باعتبار أنّ في كلّ الخروج عن العادة،و عدم استكمال الطّرفين.

و يحتمل أنّه جيء بها لبيان أنّ المشبّه به أغرب و أخرق للعادة،فيكون ذلك أقطع للخصم و أحسم لمادّة شبهته.و(من)لابتداء الغاية متعلّقة بما عندها، و الضّمير المنصوب لآدم،و المعنى:ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس.(3:186)

القاسميّ: أي صوّر جسد آدم من تراب.

(4:854)

رشيد رضا :أي قدّر أوضاعه و كوّن جسمه من

ص: 371

تراب ميّت أصابه الماء،فكان طينا لازبا ذا لزوجة.

(3:319)

المراغيّ: [نحو رشيد رضا و أضاف:]

و في هذا توضيح للتّمثيل ببيان وجه الشّبه بينهما، و قطع لشبه الخصوم،فإنّ إنكار خلق عيسى عليه السّلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب و لا أمّ،ممّا لا ينبغي أن يكون و لا يسلمه العقل.(3:173)

سيّد قطب :إنّ ولادة عيسى عجيبة حقّا بالقياس إلى مألوف البشر.و لكنّ أيّة غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر؟و أهل الكتاب الّذين كانوا يناظرون و يجادلون حول عيسى بسبب مولده، و يصوغون حوله الأوهام و الأساطير بسبب أنّه نشأ من غير أب.

أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرّون بنشأة آدم من التّراب،و أنّ النّفخة من روح اللّه هي الّتي جعلت منه هذا الكائن الإنسانيّ،دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير الّتي صاغوها حول عيسى،و دون أن يقولوا عن آدم:إنّ له طبيعة لاهوتيّة.على حين أنّ العنصر الّذي به صار آدم إنسانا،هو ذاته العنصر الّذي به ولد عيسى من غير أب:عنصر النّفخة الإلهيّة في هذا و ذاك!و إن هي إلاّ الكلمة(كن)تنشئ ما تراد له النّشأة(فيكون.)

و هكذا تتجلّى بساطة هذه الحقيقة:حقيقة عيسى، و حقيقة آدم،و حقيقة الخلق كلّه،و تدخل إلى النّفس في يسر و في وضوح،حتّى ليعجب الإنسان:كيف ثار الجدل حول هذا الحادث،و هو جار وفق السّنّة الكبرى،سنّة الخلق و النّشأة جميعا.

و هذه هي طريقة«الذّكر الحكيم»في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطريّ الواقعيّ البسيط،في أعقد القضايا،الّتي تبدو بعد هذا الخطاب،و هي اليسر الميسور.

و عند ما يصل السّياق بالقضيّة إلى هذا التّقرير الواضح يتّجه إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم يثبته على الحقّ الّذي معه،و الّذي يتلى عليه،و يؤكّده في حسّه،كما يؤكّده في حسّ من حوله من المسلمين،الّذين ربما تؤثّر في بعضهم شبهات أهل الكتاب،و تلبيسهم و تضليلهم الخبيث.(1:404)

ابن عاشور :استئناف بيانيّ بيّن به ما نشأ من الأوهام عند النّصارى،عن وصف عيسى بأنّه كلمة من اللّه،فضلّوا بتوهّمهم أنّه ليس خالص النّاسوت.

و هذا شروع في إبطال عقيدة النّصارى من تأليه عيسى،و ردّ مطاعنهم في الإسلام،و هو أقطع دليل بطريق الإلزام،لأنّهم قالوا بإلهيّة عيسى من أجل أنّه خلق بكلمة من اللّه و ليس له أب،فقالوا هو ابن اللّه،فأراهم اللّه أنّ آدم أولى بأن يدّعى له ذلك،فإذا لم يكن آدم إلها مع أنّه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقيّة من آدم.

و محلّ التّمثيل كون كليهما خلق من دون أب، و يزيد آدم بكونه من دون أمّ أيضا،فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشّبه بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ... أي خلقه دون أب و لا أمّ بل بكلمة(كن،)مع بيان كونه أقوى في المشبّه به على ما هو الغالب.و إنّما قال:(عند الله)

ص: 372

أي نسبته إلى اللّه لا يزيد على آدم شيئا في كونه خلقا غير معتاد لكم،لأنّهم جعلوا خلقه العجيب موجبا للمسيح نسبة خاصّة عند اللّه و هي البنوّة.و قال ابن عطيّة:أراد بقوله:(عند الله)نفس الأمر و الواقع.

و الضّمير في(خلقه)لآدم لا لعيسى،إذ قد علم الكلّ أنّ عيسى لم يخلق من تراب،فمحلّ التّشبيه قوله: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

و جملة(خلقه)و ما عطف عليها مبيّنة لجملة كَمَثَلِ آدَمَ. (3:111)

مغنيّة:إنّ اللّه قد أنشأ آدم و أوجده،و انتهى كلّ شيء،و عليه يكون الخلق متقدّما على قول: كُنْ فَيَكُونُ و لم يبق أيّ وجه لهذا القول،لأنّه إيجاد للموجود،و خلق للمخلوق.و بديهة أنّ كلام اللّه يجب أن يحمل على أحسن المحامل.

الجواب:أنّ اللّه خلق آدم على مراحل،منها أنّه خلقه من طين بلا روح،ثمّ جعل فيه الرّوح،و عليه يكون المعنى:أيّها الطّين كن إنسانا من لحم و دم، و عاطفة و إدراك.(2:74)

الطّباطبائيّ: تلخيص لموضع الحاجة ممّا ذكره من قصّة عيسى في تولّده تفصيلا،و الإيجاز بعد الإطناب و خاصّة في مورد الاحتجاج و الاستدلال من مزايا الكلام،و الآيات نازلة في الاحتجاج، متعرّضة لشأن وفد النّصارى نصارى نجران،فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصّته،ليدلّ على أنّ كيفيّة ولادته لا تدلّ على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم عليه السّلام فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد و أعظم ممّا قيل في آدم،و هو أنّه بشر خلقه اللّه من غير أب.

فمعنى الآية:أنّ مثل عيسى عند اللّه،أي وصفه الحاصل عنده تعالى،أي ما يعلمه اللّه تعالى من كيفيّة خلق عيسى الجاري بيده،أنّ كيفيّة خلقه يضاهي كيفيّة خلق آدم،و كيفيّة خلقه أنّه جمع أجزاءه من تراب،ثمّ قال له:(كن)فتكون تكوّنا بشريّا من غير أب.

فالبيان بحسب الحقيقة منحلّ إلى حجّتين تفي كلّ واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهيّة عن المسيح عليه السّلام.

إحداهما:أنّ عيسى مخلوق للّه على ما يعلمه اللّه، و لا يضلّ في علمه خلقة بشر و إن فقد الأب،و من كان كذلك كان عبدا لا ربّا.

و ثانيهما:أنّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم،فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيّته بوجه،لاقتضى خلق آدم ذلك،مع أنّهم لا يقولون بها فيه،فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى عليه السّلام أيضا لمكان المماثلة.

و يظهر من الآية أنّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعيّة كونيّة و إن كانت خارقة للسّنّة الجارية في النّسل،و هي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد.

(3:212)

عبد الكريم الخطيب :كثر الخلاف في المسيح عليه السّلام،لأنّ ميلاده كان على صورة فريدة،لم يولد بها أحد من قبله.و كان النّاس في هذا الميلاد شيعا و فرقا، كلّ شيعة تقول فيه قولا،و كلّ فرقة تذهب فيه مذهبا.

ص: 373

أمّا اليهود:فقد ارتضوا الجريمة مركّبا،فقتلوا أنفسهم،و قتلوا الحقّ معهم،و قالوا في المسيح:إنّه ولد كما يولد النّاس،من ذكر و أنثى.و إن كان ميلاده على فراش الإثم و الفاحشة،لأنّه ابن زنى.

و أمّا أتباع المسيح:فقد قصرت مداركهم عن إدراك قدرة اللّه،فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة،و هي أنّ اللّه قادر على كلّ شيء،يخلق ما يشاء،ممّا يشاء، و كيف يشاء،فقالوا:إنّ المسيح هو اللّه تجسّد بشرا في جسد عذراء.و إذن فهو ميلاد صوريّ،لأنّه لم يولد إلاّ اللّه نفسه،الّذي كان موجودا بكماله الإلهيّ قبل هذا الميلاد،و إذن فلا مسيح،و إنّما هو اللّه تسمّى باسم بشريّ،كما لبس صورة بشريّة،فهي عمليّة أشبه بعمليّة الحلول الّتي آمن بها كثير من قدماء المصريّين، و البراهمة،و غيرهم من الأمم.فكما كان يحلّ اللّه في ثور،أو تمساح،أو شجرة،أو رجل،حلّ في جسد طفل، و خرج وليدا من بطن امرأة.

و أمّا المسلمون:فقد جاءهم القرآن بالخبر اليقين عن المسيح،إنّه خلق من خلق اللّه،و إنّه إنسان من النّاس،ولد بنفخة من روح اللّه،كما ولد هذا الوجود كلّه بفيض من فيض اللّه.

و أقرب مثل لهذا آدم عليه السّلام إنّه خلق من غير أب أو أمّ،خلق من تراب هامد،لا أثر للحياة فيه.و عيسى عليه السّلام خلق مولودا من كائن حيّ،هي أمّه،فأيّهما أشدّ غرابة في الخلق؟الّذي خلق من تراب هامد،أم الّذي تخلّق من جسد حيّ؟!(2:477)

مكارم الشّيرازيّ: تدلّ القرائن المستقاة من الآيات التّالية أنّ هذه الآية تقصد خلق جسم آدم من النّاحية المادّيّة،و في الجملة الثّانية إشارة إلى خلق الرّوح و الحياة.(2:391)

فضل اللّه :موقف النّاس من المألوف:

إنّ النّاس في أغلب أحوالهم يتعاملون مع المألوف في ما يقبلونه و ما يرفضونه،فيعتبرونه القاعدة الأساس في إمكان الخلق و استحالته،فيقبلون ما يتّفق مع قوانينه و سننه،و يرفضون ما لا يتّفق معها.و على هذا الأساس أنكر الكثيرون المعاد،لأنّهم لم يألفوا أن يتحوّل التّراب إلى عنصر حيّ،و أن يعود الإنسان إلى الحياة بعد أن تحوّل إلى عظام نخرة.

و ذلك ما حكاه اللّه عنهم في قوله تعالى: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ المؤمنون:82، أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الصّافّات:17،و لكنّ القرآن يريد أن يوجّههم إلى ضرورة التّعامل مع الأشياء من خلال القاعدة الّتي تحكمها و ترتكز عليها في ضوء المنهج العقليّ الّذي يوحّد بين النّظائر و الأمثال في قضيّة الإمكان،إذا كان الأساس الّذي ترجع إليه واحدا.ففي قضيّة المعاد،جاءت الآية الكريمة الّتي تساوي بين الخلق و الإعادة في قدرة اللّه،و ذلك قوله تعالى: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ إلى قوله: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:78-82.

عقليّة إيمانيّة:

و هكذا أراد اللّه للإنسان أن يخرج من جوّ الألفة إلى جوّ التّفكير،لأنّ الإخلاد إلى المألوف يبعد الإنسان عن النّفاذ إلى عمق الأشياء،و يربطه بالجانب

ص: 374

السّطحيّ منها،لتنطلق الحياة في أفكاره من موقع الفكر و التّأمّل.

و لمّا كانت قضيّة خلق عيسى عليه السّلام من القضايا الّتي أثارت كثيرا من الجدل و الدّهشة،بادر قوم إلى إنكار ولادته من دون أب،فاتّهموا مريم عليها السّلام بالسّوء و الفحشاء،و حاول قوم أن يرفعوه إلى مرتبة الألوهيّة،فجاءت الآية لتقول لهؤلاء الّذين استغربوا ذلك،إنّ ارتباط تفكيركم بطريقة خلقكم من خلال عمليّة التّناسل الطّبيعيّة،أبعدكم كمؤمنين باللّه عن خلق آدم الّذي ترجعون إليه في النّسب،فإنّه انطلق بقدرة اللّه بشكل مباشر.فكيف تمّ خلقه،و كيف أمكن أن يتحقّق بغير الطّريقة الطّبيعيّة؟هل هناك شيء غير قدرة الخالق سبحانه؟فإذا كانت القدرة هي السّبب في خلق إنسان بلا أب و أمّ،فكيف تستبعدون أن تتحرّك القدرة في خلق إنسان بلا أب؟فكلّما كان الخلق الأوّل ناشئا من إرادة اللّه الّتي تمثّلها كلمة(كن )فكذلك خلق عيسى عليه السّلام حتّى خلق الإنسان بالشّكل الطّبيعيّ،فإذا ابتعدنا عن الألفة و تجرّدنا عن جوّها،فإنّ السّؤال الّذي يفرض نفسه،كيف تمّ ذلك؟و من الّذي ربط بين السّبب و المسبّب؟و هل هناك إلاّ قدرة اللّه الّتي أعطت السّبب قوّة السّببيّة في حركة الوجود؟

عيسى كآدم من خلال قدرة اللّه:

و هذا ما جاءت به الآية الكريمة لتأكيده،كحقيقة عقليّة في الإمكان،إيمانيّة في الوقوع: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ في التّدليل على قدرة اللّه الّتي لا يعجزها شيء،مهما تنوّعت خصائصه و أشكاله، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي آدم، ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من خلال ما تمثّله الكلمة من معنى الإرادة في كلمة التّكوين.

و هذه قاعدة عامّة في التّفكير الدّينيّ في ضوء المنهج العقليّ،الّذي يضع قدرة اللّه في الحساب،و يحرّك التّفكير في هذا الاتّجاه،ليربط بين الأشياء كلّها من خلال ذلك.و هذا ما يجب أن تتركّز التّربية الإيمانيّة عليه،لئلاّ يستسلم الإنسان إلى القضايا العاديّة في مشاهداته و تجاربه الحسّيّة،فينكر كثيرا من قضايا الغيب من خلال استسلامه للحسّ.(6:57)

2- اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. السّجدة:7

ابن عبّاس: أما إنّ است القرد ليست بحسنة، و لكن أحكم خلقها.(الطّبريّ 10:233)

إنّه جعل كلّ شيء خلقه حسنا حتّى جعل الكلب في خلقه حسنا.(الماورديّ 4:355)

مجاهد :أتقن كلّ شيء خلقه(الطّبريّ 10:233)

نحوه الكلبيّ.(الواحديّ 3:450)

هو مثل أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى طه:

50،فلم يجعل خلق البهائم في خلق النّاس،و لا خلق النّاس في خلق البهائم،و لكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.(الطّبريّ 10:233)

أعطي كلّ شيء خلقه،الإنسان للإنسان و الفرس للفرس،و الحمار للحمار.(الطّبريّ 10:234)

ص: 375

أحكم كلّ شيء خلقه حتّى أتقنه.

(الماورديّ 4:355)

قتادة :حسن على نحو ما خلق.

(الطّبريّ 10:233)

السّدّيّ: أحسنه لم يتعلّمه من أحد.

(الواحديّ 3:450)

مقاتل:يعني علم كيف يخلق الأشياء من غير أن يعلّمه أحد.(3:449)

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءة ذلك،فقرأه بعض قرّاء مكّة و المدينة و البصرة (احسن كل شىء خلقه) بسكون اللاّم.و قرأه بعض المدنيّين و عامّة الكوفيّين أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللاّم.

و الصّواب من القول في ذلك عندي أن يقال:

إنّهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء،صحيحتا المعنى؛و ذلك أنّ اللّه أحكم خلقه،و أحكم كلّ شيء خلقه،فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.

و اختلف أهل التّأويل في معنى ذلك،فقال بعضهم:

معناه أتقن كلّ شيء و أحكمه.

و قال آخرون:بل معنى ذلك أعلم كلّ شيء خلقه،كأنّهم وجّهوا تأويل الكلام إلى أنّه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه،و أنّ قوله:(احسن)إنّما هو قول القائل:فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.[و نقل قول الثّاني لمجاهد ثمّ قال:]و على هذا القول،«الخلق» و«الكلّ»منصوبان بوقوع(احسن)عليهما.

و أولى الأقوال في ذلك عندي بالصّواب على قراءة من قرأه اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللاّم،قول من قال:معناه أحكم و أتقن،لأنّه لا معنى لذلك إذ قرئ كذلك إلاّ أحد وجهين:إمّا هذا الّذي قلنا من معنى الإحكام و الإتقان،أو معنى التّحسين الّذى هو في معنى الجمال و الحسن،فلمّا كان في خلقه ما لا يشكّ في قبحه و سماجته،علم أنّه لم يعن به أنّه أحسن كلّ ما خلق،و لكن معناه أنّه أحكمه و أتقن صنعته.

و أمّا على القراءة الأخرى الّتي هي بتسكين اللاّم، فإنّ أولى تأويلاته به قول من قال:معنى ذلك أعلم و ألهم كلّ شيء خلقه،هو أحسنهم،كما قال: اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى طه:50،لأنّ ذلك أظهر معانيه.و أمّا الّذي وجّه تأويل ذلك إلى أنّه بمعنى:الّذي أحسن خلق كلّ شيء،فإنّه جعل الخلق نصبا بمعنى التّفسير،كأنّه قال:الّذي أحسن كلّ شيء خلقا منه.و قد كان بعضهم يقول:هو من المقدّم الّذي معناه التّأخير.[ثمّ استشهد بشعر](10:233)

نحوه القرطبيّ.(14:90)

الزّجّاج: و قد قرئ (خلقه) بتحريك اللاّم و تسكينها جميعا و يجوز(خلقه)بالرّفع و لا أعلم أحدا قرأ بها.فأمّا(خلقه)فعلى الفعل الماضي.و تأويل الإحسان في هذا أنّه خلقه على إرادته،فخلق الإنسان في أحسن تقويم،و خلق القرد على ما أحبّ عزّ و جلّ و خلقه إيّاه على ذلك من أبلغ الحكمة.

و من قرأ (خلقه) بتسكين اللاّم فعلى الوجهين:

أحدهما المصدر الّذي دلّ عليه(احسن،)و المعنى:

ص: 376

الّذي خلق كلّ شيء خلقه،و يجوز أن يكون على البدل فيكون المعنى:الّذي أحسن خلق كلّ شيء خلقه،و الرّفع على اضمار:«ذلك خلقه».(4:204)

الرّمّانيّ: أحسن إلى كلّ شيء خلق فكان خلقه له إحسانا.(الماورديّ 4:355)

القيسيّ: من أسكن اللاّم في(خلقه)،جعله مصدرا،لأنّ قوله: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ يدلّ على خلق كلّ شيء خلقا،فهو مثل صُنْعَ اللّهِ النّمل:88، و كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ النّساء:24،و قيل:هو بدل من (كل،)و قيل:هو مفعول ثان و(احسن)بمعنى أفهم،فيتعدّى إلى مفعولين.

و يجوز في الكلام(خلقه)بالرّفع،على معنى:ذلك خلقه.

و من قرأ بفتح اللاّم جعله فعلا ماضيا في موضع نصب نعتا ل(كل،)أو في موضع خفض نعتا ل (شىء.)(2:186)

نحوه ابن عطيّة.(4:359)

الماورديّ: فيه خمسة تأويلات:[فذكر قول ابن عبّاس و مجاهد و الرّمّانيّ ثمّ قال:]

الرّابع:ألهم ما خلقه ما يحتاجون إليه حتّى علموه، من قولهم:فلان يحسن كذا،أي يعلمه.

الخامس:أعطى كلّ شيء خلقه ما يحتاج إليه،ثمّ هداه إليه،رواه حميد بن قيس.

و يحتمل سادسا:أنّه عرف كلّ شيء خلقه و أحسنه،من غير تعلّم و لا سبق مثال،حتّى ظهرت فيه القدرة و بانت فيه الحكمة.(4:354)

الطّوسيّ: قرأ ابن كثير،و أبو عمرو،و ابن عامر (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بإسكان اللاّم.الباقون بفتحها.من سكّن اللاّم فعلى تقدير:الّذي أحسن خلق كلّ شيء،أي جعلهم يحسنونه،و المعنى:أنّه ألهمهم جميع ما يحتاجون إليه.

قال الزّجّاج:و يجوز أن يكون على البدل، و المعنى:أحسن كلّ شيء.و يجوز أن يكون على المصدر،و تقديره:الّذي خلق كلّ شيء خلقه.و من فتح اللاّم جعله فعلا ماضيا،و معناه:أحسن اللّه كلّ شيء خلقه على إرادته و مشيئته،و أحسن الإنسان و خلقه في أحسن صورة.و قيل:معناه أنّ وجه الحكمة قائم في جميع أفعاله،و وجوه القبح منتفية منها،و وجه الدّلالة قائم فيها على صانعها،و كونه عالما.

و الضّمير في قوله:(خلقه)كناية عن اسم اللّه.[إلى أن قال:]

ثمّ قال:الّذي أحسن كلّ شيء خلقه،و معنى ذلك في جميع ما خلقه اللّه تعالى:و أوجده فيه وجه من وجوه الحكمة،و ليس فيه وجه من وجوه القبح.و ذلك يدلّ على أنّ الكفر و الضّلال و سائر القبائح ليست من خلقه.و لفظة(كل)و إن كانت شاملة للأشياء كلّها، فالمراد به الخصوص هاهنا،لأنّه أراد ما خلقه اللّه تعالى من مقدوراته دون مقدور غيره،و نصب قوله:

(خلقه)بالبدل من قوله كُلَّ شَيْءٍ. [ثمّ استشهد بشعر](8:295)

الواحديّ: كلّ شيء خلقه،يعني:أحسن خلق كلّ شيء[إلى أن قال:]

ص: 377

الإحسان:العلم،يقال:فلان يحسن كذا إذا علمه، قال صاحب«النّظم»:بيان ذلك:أنّه لمّا طوّل رجل البهيمة،و الطّائر طوّل عنقه لئلاّ يتعذّر عليه ما لا بدّ له من قوته،و لو تفاوت ذلك لم يكن له معاش،و كذلك كلّ شيء من أعضاء الحيوان مقدّر لما يصلح به معاشه.

و قرئ خلقه بفتح اللاّم و هو صفة للنّكرة الّتي هي (شىء،)و المعنى:أتقن و أحكم كلّ شيء خلقه،قال ذلك الكلبيّ و مجاهد.(3:450)

البغويّ: [نحو الطّبريّ في القراءة و أضاف:]

و قيل:خلق كلّ حيوان على صورته ثمّ يخلق البعض على صورة البعض،فكلّ حيوان كامل في خلقه حسن،و كلّ عضو من أعضائه مقدّر بما يصلح به معاشه.(3:595)

الزّمخشريّ: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ حسّنه،لأنّه ما من شيء خلقه إلاّ و هو مرتّب على ما اقتضته الحكمة و أوجبته المصلحة،فجميع المخلوقات حسنة و إن تفاوتت إلى حسن و أحسن،كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4.

و قيل:علم كيف يخلقه،من قوله:«قيمة المرء ما يحسنه»و حقيقته يحسن معرفته،أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق و إتقان.و قرئ (خلقه) على البدل،أي أحسن خلق كلّ شيء.و(خلقه)على الوصف،أي كلّ شيء خلقه فقد أحسنه.(3:241)

الطّبرسيّ: [نقل الأقوال و أضاف:]

و المعنى أنّه أحسن خلقه من جهة الحكمة،فكلّ شيء خلقه و أوجده فيه وجه من وجوه الحكمة تحسّنه.و في هذا دلالة على أنّ الكفر و القبائح لا يجوز أن يكون من خلقه.(4:327)

الفخر الرّازيّ: لمّا بيّن الدّليل الدّالّ على الوحدانيّة من الآفاق بقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما و أتمّه بتوابعه و مكمّلاته، ذكر الدّليل الدّالّ عليها من الأنفس بقوله: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ يعني أحسن كلّ شيء ممّا ذكره، و بيّن أنّ الّذي بين السّماوات و الأرض خلقه و هو كذلك،لأنّك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي:صلابة الأرض للنّبات (1)،و النّبات و سلاسة الهواء للاستنشاق،و قبول الانشقاق لسهولة الاستطراق،و سيلان الماء لنقدر عليه في كلّ موضع، و حركة النّار إلى فوق،لأنّها لو كانت مثل الماء تتحرّك يمنة و يسرة لاحترق العالم،فخلقت طالبة لجهة فوق؛حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق.

(25:173)

العكبريّ: اَلَّذِي أَحْسَنَ يجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف،أي هو الّذي،أو خبرا بعد خبر، و(خلقه)بسكون اللاّم بدل من(كل)بدل الاشتمال،أي أحسن خلق كلّ شيء.و يجوز أن يكون مفعولا أوّل،و(كل شىء)ثانيا.

و(احسن)بمعنى عرّف،أي عرّف عباده كلّ شيء و يقرأ بفتح اللاّم على أنّه فعل ماض،و هو صفة..

ص: 378


1- كذا.و جاء في الهامش:في الطّبعة الأميريّة:و سلالة الهواء...

ل(كل،)أو ل(شىء.)(2:1048)

البيضاويّ: (خلقه)موفّرا عليه ما يستعدّه و يليق به،على وفق الحكمة و المصلحة،و(خلقه)بدل من(كل)بدل الاشتمال.و قيل:علم كيف يخلقه، من قوله عليه الصّلاة و السّلام:«قيمة المرء ما يحسنه» أي يحسن معرفته و خلقه مفعول ثان.و قرأ نافع و الكوفيّون بفتح اللاّم على الوصف فالشّيء على الأوّل مخصوص بمنفصل،و على الثّاني بمتّصل.

(2:234)

نحوه ملخّصا النّسفيّ.(3:287)

أبو حيّان :و قرأ الجمهور:(خلقه)بفتح اللاّم، فعلا ماضيا صفة ل(كل)أو ل(شىء.)و قرأ العربيّان،و ابن كثير بسكون اللاّم،و الظّاهر أنّه بدل اشتمال،و المبدل منه(كل،)أي أحسن خلق كلّ شيء،فالضّمير في(خلقه)عائد على(كل.) و قيل:الضّمير في(خلقه)عائد على«اللّه»،فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكّد لمضمون الجملة،كقوله:

صِبْغَةَ اللّهِ البقرة:138،و هو قول سيبويه،أي خلقه خلقا.و رجّح على بدل الاشتمال بأنّ فيه إضافة المصدر إلى الفاعل،و هو أكثر من إضافته إلى المفعول، و بأنّه أبلغ في الامتنان،لأنّه إذا قال: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ كان أبلغ من:أحسن خلق كلّ شيء،لأنّه قد يحسن الخلق،و هو المجاز له،و لا يكون الشّيء في نفسه حسنا.فإذا قال: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ اقتضى أنّ كلّ شيء خلقه حسن،بمعنى:أنّه وضع كلّ شيء في موضعه،انتهى.

و قيل:في هذا الوجه،و هو عود الضّمير في(خلقه) على«اللّه»،يكون بدلا من(كل شىء،)بدل شيء من شيء،و هما لعين واحدة.و معنى(احسن)حسن، لأنّه ما من شيء خلقه إلاّ و هو مرتّب على ما تقتضيه الحكمة،فالمخلوقات كلّها حسنة،و إن تفاوتت في الحسن،و حسنها من جهة المقصد الّذي أريد بها، و لهذا قال ابن عبّاس:ليست القردة بحسنة،و لكنّها متقنة محكمة.

و على قراءة من سكّن لام (خلقه) ،قال مجاهد:

أعطى كلّ جنس شكله.و المعنى:خلق كلّ شيء على شكله الّذي خصّه به.(7:199)

نحوه أبو السّعود.(5:200)

السّمين:قوله:(خلقه)قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر بسكون اللاّم.و الباقون بفتحها.فأمّا الأولى ففيها أوجه:

أحدها:أن يكون(خلقه)بدلا من(كل شىء) بدل من اشتمال كلّ شيء،و الضّمير عائد على (كل شىء)و هذا هو المشهور المتداول.

الثّاني:أنّه بدل كلّ من كلّ،و الضّمير على هذا عائد على البارئ تعالى.و معنى(احسن)حسّن؛ لأنّه ما من شيء خلقه إلاّ و هو مرتّب على ما تقتضيه الحكمة،فالمخلوقات كلّها حسنة.

الثّالث:أن يكون(كل شىء)مفعولا أوّل، و(خلقه)مفعولا ثانيا،على أن يضمّن(احسن)معنى أعطى و ألهم.قال مجاهد:أعطى كلّ جنس شكله.

و المعنى:خلق كلّ شيء على الّذي خصّه به.

ص: 379

الرّابع:أن يكون(كل شىء)مفعولا ثانيا قدّم، و(خلقه)مفعولا أوّل أخّر،على أن يضمّن(احسن) معنى ألهم و عرّف.

قال الفرّاء:ألهم كلّ شيء خلقه فيما يحتاجون إليه،فيكون أعلمهم ذلك.قلت:و أبو البقاء ضمّن أحسن معنى عرّف و أعرب،على نحو ما تقدّم،إلاّ أنّه لا بدّ أن يجعل الضّمير للّه تعالى،و يجعل الخلق بمعنى المخلوق،أي عرّف مخلوقاته كلّ شيء يحتاجون إليه، فيؤول المعنى إلى معنى قوله: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.

الخامس:أن تعود الهاء على«اللّه»تعالى،و أن يكون(خلقه)منصوبا على المصدر المؤكّد لمضمون الجملة،كقوله: صُنْعَ اللّهِ النّمل:88،و هو مذهب سيبويه أي:خلقه خلقا.و رجّح على بدل الاشتمال، بأنّ فيه إضافة المصدر إلى فاعله،و هو أكثر من إضافته إلى المفعول،و بأنّه أبلغ في الامتنان،لأنّه إذا قال: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ كان أبلغ من:أحسن خلق كلّ شيء،لأنّه قد يحسن الخلق و هو المحاولة، و لا يكون الشّيء في نفسه حسنا.و إذا قال:أحسن كلّ شيء،اقتضى أنّ كلّ شيء خلقه حسن،بمعنى أنّه وضع كلّ شيء في موضعه.

و أمّا القراءة الثّانية ف(خلق)فيها فعل ماض، و الجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه،فتكون منصوبة المحلّ أو مجرورة.(5:395)

ابن كثير :يقول تعالى مخبرا:إنّه الّذي أحسن خلق الأشياء و أتقنها و أحكمها.و قال مالك عن زيد ابن أسلم: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال:

أحسن خلق كلّ شيء،كأنّه جعله من المقدّم و المؤخّر.

(5:405)

الآلوسيّ: و قوله تعالى: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خبر رابع أو نعت ثالث أو نصب على المدح.و جوّز أبو البقاء كونه خبر مبتدإ محذوف،أي هو الّذي،و كون(العزيز)مبتدأ و(الرحيم)صفته و هذا خبره،و جملة(خلقه)في محلّ جرّ صفة (شىء)و يجوز أن تكون في محلّ نصب صفة(كل) و احتمال الاستئناف بعيد،أي حسّن سبحانه كلّ مخلوق من مخلوقاته،لأنّه ما من شيء منها إلاّ و هو مرتّب على ما اقتضته الحكمة و استدعته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة و إن تفاوتت في مراتب الحسن،كما يشير إليه قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4.و نفى التّفاوت في خلقه تعالى في قوله سبحانه: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ الملك:3،على معنى ستعرفه إن شاء اللّه تعالى غير مناف لما ذكر.

و جوّز أن يكون المعنى:علم كيف يخلقه،من قوله:

«قيمة المرء ما يحسن»و حقيقته يحسن معرفته،أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق و إتقان،و لا يخفى بعده.

و قرأ العربيّان و ابن كثير (خلقه) بسكون اللاّم، فقيل:هو بدل اشتمال من(كل)و الضّمير المضاف هو إليه له،و هو باق على المعنى المصدريّ.

و قيل:هو بدل كلّ من كلّ أو بدل بعض من كلّ، و الضّمير للّه تعالى،و هو بمعنى المخلوق.

ص: 380

و قيل هو مفعول ثان ل(احسن)على تضمينه معنى أعطى،أي أعطى سبحانه كلّ شيء خلقه اللاّئق به،بطريق الإحسان و التّفضّل.

و قيل:هو المفعول الأوّل،و(كل شىء)المفعول الثّاني،و ضميره للّه سبحانه،على تضمين الإحسان معنى الإلهام كما قال الفرّاء،أو التّعريف كما قال أبو البقاء.و المعنى:ألهم أو عرّف خلقه كلّ شيء ممّا يحتاجون إليه،فيؤول إلى معنى قوله تعالى:

أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى طه:50.

و اختار أبو عليّ في«الحجّة»ما ذكره سيبويه في«الكتاب»أنّه مفعول مطلق ل(احسن)من معناه، و الضّمير للّه تعالى،نحو قوله تعالى: صُنْعَ اللّهِ النّمل:88،و وَعَدَ اللّهُ المائدة:9.(21:123)

ابن عاشور :خبر آخر عن اسم الإشارة،أو وصف آخر ل عالِمُ الْغَيْبِ السّجدة:6،و هو ارتقاء في الاستدلال مشوب بامتنان على النّاس أن أحسن خلقهم في جملة إحسان خلق كلّ شيء، و بتخصيص خلق الإنسان بالذّكر.و المقصود:أنّه الّذي خلق كلّ شيء و خاصّة الإنسان خلقا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا،و أخرج أصله من تراب،ثمّ كوّن فيه نظام النّسل من ماء،فكيف تعجزه إعادة أجزائه؟!

(21:149)

مغنيّة:كلّ مخلوق وجد على النّظام الأتمّ فهو حسن و متقن،يدلّ على قدرة الصّانع و عظمته،و ما من شيء في الوجود إلاّ و ترى فيه النّظام و التّناسق الّذي يدلّ على العليم الحكيم: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ... الملك:4.(6:178)

مكارم الشّيرازيّ:

مراحل خلق الإنسان العجيبة:

إنّ هذه الآيات إشارة و تأكيد في البداية على بحوث التّوحيد الّتي مرّت في الآيات السّابقة،و الّتي كانت تتلخّص في أربع مراحل:توحيد الخالقيّة، و الحاكميّة،و الولاية،و الرّبوبيّة،فتقول: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.

من البديهيّ أنّ من يريد أن يدبّر أمور السّماء و الأرض،و أن يكون حاكما عليها،و يتعهّد و يقوم بمهامّ مقام الولاية و الشّفاعة و الإبداع،يجب أن يكون مطّلعا على كلّ شيء.الظّاهر و الباطن؛حيث لا يمكن أن يتمّ أيّ من هذه الأمور بدون الاطّلاع و سعة العلم.

و في نفس الوقت الّذي يجب أن يكون هذا المدبّر عزيزا قويّا لا يقهر،ليقوى على القيام بهذه الأعمال المهمّة،ينبغي أن تقترن هذه العزّة باللّطف و الرّحمة، لا الخشونة و الغلظة.

ثمّ تشير الآية التّالية إلى نظام الخلقة الأحسن و الأكمل بصورة عامّة،و في البداية تقول لبيان خلق الإنسان و مراحل تكامله بشكل خاصّ: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ و أعطى كلّ شيء ما يحتاجه، و بتعبير آخر:فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النّظام الأحسن،أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه.

لقد أوجد سبحانه بين كلّ الموجودات علاقة و انسجاما،و أعطى كلاّ منها كلّما كان يمكن أن يطلبه

ص: 381

على لسان الحال.

إذا نظرنا إلى وجود الإنسان،و أخذنا بنظر الاعتبار كلّ جهاز من أجهزته،فسنرى أنّها خلقت من ناحية البناء و الهيكل،و الحجم،و وضع الخلايا، و طريقة عملها،بشكل تستطيع معه أن تؤدّي وظيفتها على النّحو الأحسن،و في الوقت ذاته فقد وضعت بين الأعضاء روابط قويّة؛بحيث يؤثّر بعضها على البعض الآخر بدون استثناء،و تتأثّر ببعضها.

و هذا المعنى هو الحاكم تماما في العالم الكبير مع المخلوقات المتنوّعة،و خاصّة في عالم الكائنات الحيّة، مع تلك التّشكيلات و الهيئات المختلفة جدّا.

و الخلاصة:فإنّه هو الّذي أودع أنواع العطور البهيجة في الأزهار المختلفة،و هو الّذي يهب الرّوح للتّراب و الطّين و يخلق منه إنسانا حرّا ذكيّا عاقلا، و من هذا التّراب المخلوط يخلق أحيانا الأزهار، و أحيانا الإنسان،و أحيانا أخرى أنواع الموجودات الأخرى،و حتّى التّراب نفسه،فإنّ فيه ما ينبغي أن يكون فيه.

و نرى نظير هذا الكلام في الآية:50،من سورة:

طه،من قول موسى و هارون عليهما السّلام: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.

و هنا يطرح سؤال حول خلق الشّرور و الآفات، و كيفيّة انسجامها مع نظام العالم الأحسن؟و سنبحثه إن شاء اللّه تعالى فيما بعد.

بعد هذه المقدّمة الآفاقيّة يدخل القرآن بحث الأنفس،و كما تحدّث في بحث الآيات الآفاقيّة عن عدّة أقسام للتّوحيد،فإنّه يتحدّث هنا عن عدّة مواهب عظيمة في مورد البشر:

يقول أوّلا: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ليبيّن عظمة و قدرة اللّه سبحانه؛حيث خلق مثل هذا المخلوق الجليل العظيم من مثل هذا الموجود البسيط الحقير القيمة،خلق هذا الخلق المحبّب إلى النّفس من الماء و الطّين،هذا من جانب،و من جانب آخر يحذّر الإنسان و يذكّره من أين أتيت،و إلى أين ستذهب؟

و من المعلوم أنّ هذه الآية تتحدّث عن خلق آدم، لا كلّ البشر،لأنّ استمرار نسله قد ذكر في الآية التّالية،و ظاهر هذه الآية دليل مستقلّ على خلق الإنسان المستقلّ،و نفي فرضيّة تحوّل الأنواع،و على الأقلّ في مورد نوع الإنسان.

و بالرّغم من أنّ البعض أراد أن يفسّر هذه الآية بحيث تناسب و تلائم فرضيّة تكامل الأنواع،بأنّ خلق الإنسان يرجع إلى أنواع سافلة،و هي تنتهي أخيرا إلى الماء و الطّين،إلاّ أنّ ظاهر الآية عدم وجود أنواع أخرى من الموجودات الحيّة،و هم يدّعون أنّها أنواع لا تحصى تفصل بين آدم و الطّين،بل إنّ خلق الإنسان قد تمّ من الطّين مباشرة و بدون واسطة.و لم يتحدّث القرآن عن أنواع الكائنات الحيّة الأخرى.

و هذا المعنى يتّضح أكثر عند ملاحظة الآية:59، من سورة آل عمران،حيث تقول: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ. و يقول في الآية:

26،من سورة الحجر: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.

ص: 382

و يستفاد من مجموع الآيات أنّ خلق آدم قد تكوّن من التّراب و الطّين كخلق مستقلّ،و نحن نعلم أنّ فرضيّة تطوّر الأنواع لم تكن مسألة علميّة قطعيّة، لنحاول تفسير هذه الآيات بشكل آخر،بسبب تضادّها و تعارضها مع هذه الفرضيّة،و بتعبير آخر:

طالما لا توجد قرينة واضحة على خلاف ظواهر الآيات،فيجب أن نطبّقها بمعناها الظّاهر،و كذلك الحال في مورد خلق آدم المستقلّ.(13:97)

فضل اللّه:

عمليّة خلق الإنسان:

اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ في ما يحتاجه وجوده من عناصر متنوّعة،تتكامل في طبيعتها، لتحقّق كلّ النّتائج الإيجابيّة،في ما هو الغرض من وجود الأشياء،فلا خلل في أيّ مخلوق في أصل خلقته، من هذه الجهة.

وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ عند ما خلق الأب الأوّل للإنسان،و هو آدم،من طين ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ليتحرّك امتداد النّسل في الإنسان بالطّريقة التّناسليّة الّتي تفرز النّطفة في رحم المرأة،فتلقح بويضة الأنثى و تتّحد معها في بداية رحلة الوجود للإنسان.

و هكذا كان التّخطيط الإلهيّ لوجود الإنسان في الكون،أن يكون الطّين مادّة خلقه الّتي تبدأ بشكل مادّيّ مباشر،ثمّ تتطوّر و تتحوّل إلى نطفة من مصادر الغذاء الأرضيّة الّتي تتكوّن منها،ثم بدأت فعليّة الخلق الأوّل ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ السّجدة:9، فصار خلقا سويّا متحرّكا بالحياة في كلّ خلايا جسده، فهل عرفتم أيّها النّاس نعمة اللّه عليكم في عمليّة الخلق؟و هل تتأمّلون في تفاصيل وجودكم الّتي لولاها لما استطعتم أن تشعروا بقيمته و بحيويّته و باستمراره؟ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ و هي العقول الّتي تدير الوجود كلّه من خلال أدوات السّمع و البصر و التّفكير،و لكن المشكلة هي أنّ القليل منكم هم الّذين يلتفتون إلى هذه النّعم و يشكرونها، قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ممّا لا يتناسب مع الحجم الّذي ينبغي لكم أن تقدّموه من شكر اللّه على نعمه الّتي لا تحصى.(18:226)

3،4- قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. عبس:17-19

ابن عبّاس: يقول:فليتفكّر في نفسه من أيّ شيء خلقه نسمة،ثمّ بيّن له فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ نسمة.

(502)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:من أيّ شيء خلق الإنسان الكافر ربّه حتّى يتكبّر و يتعظّم عن طاعة ربّه و الإقرار بتوحيده،ثمّ بيّن جلّ ثناؤه الّذي منه خلق، فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أحوالا:نطفة تارة،ثمّ علقة أخرى،ثمّ مضغة،إلى أن أتت عليه أحواله و هو في رحم أمّه.(12:447)

نحوه القرطبيّ(19:216)،و الشّوكانيّ(5:472)

الزّجّاج: على لفظ الاستفهام،و معناه التّقرير ثمّ بيّن فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ المعنى:فقدّره على

ص: 383

الاستواء،كما قال عزّ و جلّ:أكفرت بالّذي خلقك من تراب ثمّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً الكهف:37.

(5:285)

نحوه الواحديّ(4:423)،و البغويّ(5:211).

الطّوسيّ: تعجيبا له،لأنّه يعلم أنّ اللّه خلقه من نطفة،ثمّ بيّن تعالى ممّا ذا خلقه،فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. (10:273)

القشيريّ: خلقه و صوّره و قدّره أطوارا:من نطفة،ثمّ من علقة،ثمّ طورا بعد طور.(6:257)

الميبديّ: استفهام يراد به:التّقرير.[إلى أن قال:]

هذا تقرير و تنبيه على القدرة و النّعمة، خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ يعني قدّر أيّام حمله نطفة و علقة و مضغة، و أوان وضعه مسمّى.و قيل: خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي خلقه على صفة الاستواء في الخلقة،كما قال في موضع آخر:

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً الكهف:37.

(10:384)

الزّمخشريّ: من ألاّ شيء حقير مهين خلقه،ثمّ بيّن ذلك الشّيء بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ فهيّأه لما يصلح له و يختصّ به.و نحوه وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2.(4:219)

نحوه البيضاويّ(2:541)،و النّسفيّ(4:333)، و أبو حيّان(8:429)،و الشّربينيّ(4:486).

ابن عطيّة: استفهام على معنى التّقرير على تفاهة الشّيء الّذي خلق الإنسان منه،و هي عبارة تصلح للتّحقير و التّعظيم،و القرينة تبيّن الغرض.و هذا نظير قوله: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ* لِيَوْمِ الْفَصْلِ المرسلات:

12،13،و اللّفظ المشار إليه ماء الرّجل و ماء المرأة.

(5:438)

الطّبرسيّ: لفظه استفهام،و معناه التّقرير.و قيل:

معناه:لم لا ينظر إلى أصل خلقته من أيّ شيء خلقه اللّه،ليدلّه على وحدانيّة اللّه تعالى،ثمّ فسّر فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أطوارا:نطفة ثمّ علقة إلى آخر خلقة،و على حدّ معلوم من طوله و قصره و سمعه و بصره و حواسّه و أعضائه،و مدّة عمره و رزقه، و جميع أحواله.(5:438)

نحوه الخازن.(7:175)

الفخر الرّازيّ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ و هو استفهام،و غرضه زيادة التّقرير في التّحقير،ثمّ أجاب عن ذلك الاستفهام بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ. و لا شكّ أنّ النّطفة شيء حقير مهين،و الغرض منه أنّ من كان أصله من مثل هذا الشّيء الحقير،فالتّكبّر و التّجبّر لا يكون لائقا به.(31:59)

أبو السّعود :شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عليه من مبدإ فطرته إلى منتهى عمره،من فنون النّعم الموجبة لقضاء حقّها بالشّكر و الطّاعة مع إخلاله بذلك.

و في الاستفهام عن مبدإ خلقه ثمّ بيانه بقوله تعالى:

مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقير له،أي من أيّ شيء حقير مهين خلقه،من نطفة مذرة خلقه(فقدره)فهيّأه لما يصلح له و يليق به من الأعضاء و الأشكال أو فقدّره أطوارا إلى أن تمّ خلقه.(6:379)

نحوه الآلوسيّ(30:44)،و القاسميّ(17:6062)

ص: 384

البروسويّ: [قال نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

وقف السّجاونديّ على قوله:(من نطفة)حتّى وضع عليه علامة الوقف المطلق بتقدير(خلقه)آخر بدلالة ما قبله،و جعل قوله: خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ جملة استئنافيّة لبيان كيفيّة الخلق و إتمامه من إنعامه،و من جعله متعلّقا بما بعده على ما هو الظّاهر لم يقف عليه.

(10:335)

ابن عاشور :و جملة مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بيان لجملة قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ عبس:17،لأنّ مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث؛ و ذلك الإنكار من أكبر أصول كفرهم.

و جيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال و جواب للتّشويق إلى مضمونه،و لذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطّريقة المتقدّمة،في قوله تعالى:

عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. النّبأ:1،2.

و الاستفهام صوريّ،و جعل المستفهم عنه تعيين الأمر الّذي به خلق الإنسان،لأنّ المقام هنا ليس لإثبات أنّ اللّه خلق الإنسان،بل المقام لإثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأوّل،على طريقة قوله تعالى: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ق:15،أي كما كان خلق الإنسان أوّل مرّة من نطفة يكون خلقه ثاني مرّة من كائن ما،و نظيره قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ* إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الطّارق:5-8.

و الضّمير المستتر في قوله:(خلقه)عائد إلى للّه تعالى المعلوم من فعل الخلق،لأنّ المشركين لم يكونوا ينكرون أنّ اللّه خالق الإنسان.

و قدّم الجارّ و المجرور في قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ محاكاة لتقديم المبيّن في السّؤال الّذي اقتضى تقديمه، كونه استفهاما يستحقّ صدر الكلام،مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق،لما في تقديمه من التّنبيه للاستدلال على عظيم حكمة اللّه تعالى؛إذ كوّن أبدع مخلوق معروف من أهون شيء،و هو النّطفة.

و إنّما لم يستغن عن إعادة فعل(خلقه)في جملة الجواب،مع العلم به بتقدّم ذكر حاصله في السّؤال، لزيادة التّنبيه على دقّة ذلك الخلق البديع.

فذكر فعل(خلقه)الثّاني من أسلوب المساواة ليس بإيجاز،و ليس بإطناب...

و فرع على فعل(خلقه)فعل(فقدره)بفاء التّفريع،لأنّ التّقدير هنا إيجاد الشّيء على مقدار مضبوط منظّم،كقوله تعالى: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2،أي جعل التّقدير من آثار الخلق، لأنّه خلقه متهيّئا للنّماء و ما يلابسه من العقل و التّصرّف،و تمكينه من النّظر بعقله،و الأعمال الّتي يريد إتيانها؛و ذلك حاصل مع خلقه مدرّجا مفرّعا.

و هذا التّفريع و ما عطف عليه إدماج للامتنان،في خلال الاستدلال.(30:107)

مغنيّة:من أنت أيّها الإنسان الضّعيف حتّى تستنكف عن طاعة اللّه،و تتطاول على عباده؟فكّر في أصلك،و في انتقالك من خلق إلى خلق،و في مصيرك و مآلك.فمن الّذي أوجدك و لم تك شيئا،و أنشأك في بطن أمّك حالا بعد حال،ثمّ أخرجك في أحسن تقويم.

ص: 385

هل الصّدفة فعلت هذا كلّه؟.(7:520)

الطّباطبائيّ: معناه على ما يعطيه المقام من أيّ شيء خلق اللّه الإنسان حتّى يحقّ له أن يطغى و يستكبر عن الإيمان و الطّاعة،و حذف فاعل قوله:

(خلقه)و ما بعده من الأفعال للإشعار بظهوره،فمن المعلوم بالفطرة و قد اعترف المشركون أن لا خالق إلاّ اللّه تعالى.

و الاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله: ما أَكْفَرَهُ من العجب،و العجب إنّما هو في الحوادث الّتي لا يظهر لها سبب،فأفيد أوّلا:أنّ من العجب إفراط الإنسان في كفره،ثمّ سئل ثانيا:هل في خلقته إذ خلقه اللّه ما يوجب له الإفراط في الكفر؟فأجيب بنفيه و أن لا حجّة له يحتجّ بها،و لا عذر يعتذر به،فإنّه مخلوق من ماء مهين،لا يملك شيئا من خلقته،و لا من تدبير أمره في حياته و مماته و نشره،و بالجملة الاستفهام توطئة للجواب الّذي في قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ إلخ.

(20:206)

عبد الكريم الخطيب :هو كشف عن شناعة ضلال هذا الضّالّ،و كفره بربّه إنّه من ضلاله البعيد، ينسى أنّ له خالقا خلقه من عدم،أو ما يشبه العدم.

(15:1454)

مكارم الشّيرازيّ: ثمّ يتعرّض البيان القرآنيّ إلى غرور الإنسان الواهي،و الّذي غالبا ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر و الجحود السّحيقة: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ.

فلم لا يتفكّر الإنسان بأصل خلقته؟!لم ينسى تفاهة مبدئه؟!

ألا يجدر به أن يتأمّل في قدرة الباري سبحانه، و كيف جعله موجودا بديع الهيئة و الهيكل من تلك النّطفة الحقيرة القذرة!!ألا يتأمّل!!

فالنّظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة و تحويله إلى هيئته التّامّة المقدّرة من كافّة الجهات،و مع ما منحه اللّه من مواهب و استعدادات:

لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

(19:370)

خلقهم

1- وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ.

الأنعام:100

ابن عبّاس: خلقهم اللّه و أمرهم بالتّوحيد.

(116)

الكلبيّ: نزلت في الزّنادقة قالوا:إنّ اللّه و إبليس شريكان،و اللّه خالق النّور و النّاس و الدّوابّ و الأنعام،و إبليس خالق الظّلمة و السّباع و العقارب و الحيّات.(الثّعلبيّ 4:175)

الطّبريّ: و اختلفوا في قراءة قوله:(و خلقهم) فقرأته قرأة الأمصار:(و خلقهم)على معنى أنّ اللّه خلقهم،منفردا بخلقه إيّاهم.

...عن يحيى بن يعمر:أنّه قال:(شركاء الجنّ و خلقهم)بجزم اللاّم،بمعنى أنّهم قالوا:إنّ الجنّ شركاء للّه في خلقه إيّانا.

ص: 386

و أولى القراءتين بالصّواب،قراءة من قرأ ذلك:

(و خلقهم)لإجماع الحجّة من القراءة عليها.(5:291)

الزّجّاج: المعنى أنّهم أطاعوا الجنّ فيما سوّلت لهم من شركهم،فجعلوهم شركاء للّه عزّ و جلّ،و كان بعضهم ينسب إلى الجنّ الأفعال الّتي لا تكون إلاّ للّه عزّ و جلّ،فقال: وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ فالهاء و الميم-إن شئت-كانت عائدة عليهم،أي فجعلوا للّه الّذي خلقهم شركاء لا يخلقون.و جائز أن تكون الهاء و الميم تعودان على(الجن،)فيكون المعنى:و جعلوا للّه شركاء الجنّ و اللّه خلق الجنّ.

و كيف يكون الشّريك للّه المحدث الّذي لم يكن ثمّ كان.

(2:277)

نحوه الطّوسيّ(4:237)،و الواحديّ(2:306).

الثّعلبيّ: يعني و هو خلقهم و خلق الجنّ.

و قرأ يحيى بن معمر (1): (و خلقهم) بسكون اللاّم و فتح القاف،أراد:إفكهم و ادّعاءهم ما يعبدون من الأصنام؛حيث جعلوها شركاء للّه عزّ و جلّ،يعني:

و جعلوا له خلقهم.

و قرأ يحيى بن وثّاب (و خلقهم) بسكون اللاّم و كسر القاف،يعني جعلوا للّه شركاء و لخلقهم، أشركوهم مع اللّه في خلقه إيّاهم.(4:175)

الماورديّ: (و خلقهم)يحتمل وجهين:

أحدهما:أنّه خلقهم بلا شريك له،فلم جعلوا له في العبادة شريكا؟.

و الثّاني:أنّه خلق من جعلوه شريكا فكيف صار في العبادة شريكا.

و قرأ يحيى بن يعمر: (و خلقهم) بتسكين اللاّم، و معناه أنّهم جعلوا خلقهم الّذي صنعوه بأيديهم من الأصنام للّه شريكا.(2:150)

الميبديّ: الهاء و الميم إن شئت تعود على الكافرين،يعني:جعلوا للّه الّذي خلقهم و صوّرهم شركاء،لا يخلقون شيئا.و إن شئت تعود على الجنّ، يعني جعلوا الجنّ شركاء اللّه و اللّه خلق الجنّ،فكيف يكون مخلوقه شريكا له؟!و إن شئت تعود على الفريقين،يعني:و هو خلقهم و خلق الجنّ.(3:444)

الزّمخشريّ: (و خلقهم)و خلق الجاعلين للّه شركاء،و معناه:و علموا أنّ اللّه خالقهم دون الجنّ و لم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكا للخالق.و قيل:الضّمير للجنّ.

و قرئ: (و خلقهم) أي اختلاقهم الإفك،يعني:

و جعلوا للّه خلقهم؛حيث نسبوا قبائحهم إلى اللّه،في قولهم: وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها الأعراف:28.(2:40)

ابن عطيّة: و قرأ الجمهور(و خلقهم)بفتح اللاّم على معنى و هو خلقهم،و في مصحف عبد اللّه بن مسعود(و هو خلقهم)يحتمل العودة على الجاعلين و يحتملها على المجعولين.

و قرأ يحيى بن يعمر (و خلقهم) بسكون اللاّم عطفا على الجنّ،أي جعلوا خلقهم الّذي ينحتونه أصناما شركاء باللّه.(2:329)

نحوه القرطبيّ.(7:52)ب.

ص: 387


1- كذا،و الظّاهر يعمر كما في سائر الكتب.

الطّبرسيّ: [نحو الطّبريّ و أضاف:]

و قيل:إنّ المعنيّ بالآية:المجوس؛إذ قالوا:يزدان و أهرمن و هو الشّيطان عندهم،فنسبوا خلق المؤذيات و الشّرور،و الأشياء الضّارّة إلى أهرمن،و جعلوه بذلك شريكا له،و مثلهم الثّنويّة القائلون بالنّور و الظّلمة.(2:343)

الفخر الرّازيّ: [بيّن أنّ من النّاس من أثبت للّه شريكا ثمّ قال:]

إذا عرفت هذا فنقول:قوله:(و خلقهم)إشارة إلى الدّليل القاطع الدّالّ على فساد كون إبليس شريكا للّه تعالى في ملكه،و تقريره من وجهين:

الأوّل:أنّا نقلنا عن المجوس أنّ الأكثرين منهم معترفون بأنّ إبليس ليس بقديم بل هو محدث.إذا ثبت هذا فنقول:

إنّ كلّ محدث فله خالق و موجد،و ما ذاك إلاّ اللّه سبحانه و تعالى،فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأنّ خالق إبليس هو اللّه تعالى،و لمّا كان إبليس أصلا لجميع الشّرور و الآفات و المفاسد و القبائح، و المجوس سلّموا أنّ خالقه هو اللّه تعالى،فحينئذ قد سلّموا أنّ إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشّرور و القبائح و المفاسد،و إذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا:لا بدّ من إلهين:يكون أحدهما فاعلا للخيرات، و الثّاني يكون فاعلا للشّرور،لأنّ بهذا الطّريق ثبت أنّ إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الّذي هو الشّرّ الأعظم،فقوله تعالى:(و خلقهم)إشارة إلى أنّه تعالى هو الخالق لهؤلاء الشّياطين على مذهب المجوس،و إذا كان خالقا لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلا لأعظم الشّرور،و إذا اعترفوا بذلك،سقط قولهم،لا بدّ للخيرات من إله،و للشّرور من إله آخر.

و الوجه الثّاني:في استنباط الحجّة من قوله:

(و خلقهم)ما بيّنّا في هذا الكتاب و في كتاب «الأربعين في أصول الدّين»أنّ ما سوى الواحد ممكن لذاته،و كلّ ممكن لذاته فهو محدث،ينتج أنّ ما سوى الواحد الأحد الحقّ فهو محدث،فيلزم القطع بأنّ إبليس و جميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث، و حصول الوجود بعد العدم،و حينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قرّرناه،فهذا تقرير المقصود الأصليّ من هذه الآية،و باللّه التّوفيق.[إلى أن قال:]

و أمّا قوله تعالى:(و خلقهم)ففيه بحثان:

البحث الأوّل:اختلفوا في أنّ الضّمير في قوله:

(خلقهم)إلى ما ذا يعود؟على قولين:

فالقول الأوّل:إنّه عائد إلى(الجن،)و المعنى:

أنّهم قالوا الجنّ شركاء اللّه،ثمّ إنّ هؤلاء القوم اعترفوا بأنّ«أهرمن»محدث،ثمّ إنّ في المجوس من يقول:إنّه تعالى تفكّر في مملكة نفسه و استعظمها فحصل نوع من العجب،فتولّد الشّيطان عن ذلك العجب،و منهم من يقول:شكّ في قدرة نفسه فتولّد من شكّه الشّيطان.

فهؤلاء معترفون بأنّ«أهرمن»محدث،و أنّ محدثه هو اللّه تعالى،فقوله تعالى:(و خلقهم)إشارة إلى هذا المعنى.و متى ثبت أنّ هذا الشّيطان مخلوق للّه تعالى، امتنع جعله شريكا للّه في تدبير العالم،لأنّ الخالق أقوى و أكمل من المخلوق،و جعل الضّعيف النّاقص شريكا

ص: 388

للقويّ الكامل محال في العقول.

و القول الثّاني:أنّ الضّمير عائد إلى الجاعلين، و هم الّذين أثبتوا الشّركة بين اللّه تعالى و بين الجنّ، و هذا القول عندي ضعيف لوجهين:

أحدهما:أنّا إذا حملناه على ما ذكرناه،صار ذلك اللّفظ الواحد دليلا قاطعا تامّا كاملا في إبطال ذلك المذهب،و إذا حملناه على هذا الوجه لم يظهر منه فائدة.

و ثانيهما:أنّ عود الضّمير إلى أقرب المذكورات واجب،و أقرب المذكورات في هذه الآية هو الجنّ، فوجب أن يكون الضّمير عائدا إليه.

البحث الثّاني:[هو قول صاحب الكشّاف و قد تقدّم].(13:113-116)

البيضاويّ: (و خلقهم)حال بتقدير«قد» و المعنى:و قد علموا أنّ اللّه خالقهم دون الجنّ،و ليس من يخلق كمن لا يخلق.و قرئ (و خلقهم) عطفا على (الجن)أي و ما يخلقونه من الأصنام،أو على (شركاء،)أي و جعلوا له اختلاقهم للإفك حيث نسبوه إليه.(1:324)

نحوه البروسويّ(3:76)،و الشّوكانيّ(2:184).

النّسفيّ: أي و قد خلق الجنّ،فكيف يكون المخلوق شريكا لخالقه و الجملة حال؟أو و خلق الجاعلين للّه شركاء فكيف يعبدون غيره؟!(2:26)

النّيسابوريّ: أمّا قوله:(و خلقهم)فإشارة إلى الدّليل القاطع على إبطال الشّريك،و الضّمير فيه إمّا أن يعود إلى الجنّ أو إلى الجاعلين.

فإن عاد إلى الجنّ،فإن قلنا:إنّ الآية نزلت في المجوس،فتقريره:أنّ الأكثرين منهم معترفون بأنّ إبليس محدث و لو لم يعترفوا بذلك.و البرهان العقليّ قائم على أنّ ما سوى الحقّ الواحد ممكن لذاته،و كلّ ممكن لذاته فهو محدث،فنقول حينئذ:كلّ محدث مخلوق و له خالق،و ما ذاك إلاّ اللّه سبحانه،و حينئذ يلزمهم نقض قولهم:لأنّه ثبت أنّ إله الخير قد فعل أعظم الشّرور،و هو خلق إبليس الّذي هو مادّة كلّ شرّ.

و إن قلنا:إنّها نزلت في كفّار العرب القائلين:

الملائكة بنات اللّه،فظاهر،لأنّهم يسلّمون أنّ الملائكة مخلوقون و أنّهم تولّدوا منه تولّد الولد من الوالد.

و إن عاد الضّمير إلى الجاعلين،فالمعنى:و علموا أنّ اللّه خلقهم دون الجنّ،كقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ لقمان:25، و لم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكا للخالق.و الجملة في موضع الحال،أي و قد خلقهم.

و قرئ (و خلقهم) بسكون اللاّم،أي اختلاقهم للإفك، يعني:جعلوا للّه خلقهم؛حيث نسبوا قبائحهم إلى اللّه في قولهم: وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها الأعراف:28.(7:173)

الخازن :في معنى الكناية قولان:

أحدهما:أنّها تعود إلى الجنّ،فيكون المعنى و اللّه خلق الخلق فكيف يكون شريك اللّه من هو محدث مخلوق.

و القول الثّاني:أنّ الكناية تعود إلى الجاعلين للّه شركاء،فيكون المعنى:و جعلوا للّه الّذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئا.و هذا كالدّليل القاطع بأنّ المخلوق

ص: 389

لا يكون شريكا للّه،و كلّ ما في الكون محدث مخلوق و اللّه تعالى هو الخالق لجميع ما في الكون،فامتنع أن يكون للّه شريك في ملكه.(2:137)

أبو حيّان :و الضّمير في(و خلقهم)عائد على الجاعلين؛إذ هم المحدث عنهم،و هي جملة حاليّة أي و قد خلقهم و انفرد بإيجادهم دون من اتّخذه شريكا له و هم الجنّ،فجعلوا من لم يخلقهم شريكا لخالقهم،و هذه غاية الجهالة.

و قيل:الضّمير يعود على(الجن،)أي و اللّه خلق من اتّخذوه شريكا له،فهم متساوون في أنّ الجاعل و الجعول مخلوقون للّه،فكيف يناسب أن يجعل بعض المخلوق شريكا للّه تعالى؟!

و قرأ يحيى بن يعمر (و خلقهم) بإسكان اللاّم، و كذا في مصحف عبد اللّه[و هذا سهو منه،لاحظ ابن عطيّة]و الظّاهر أنّه عطف على(الجن)أي و جعلوا خلقهم الّذي ينحتونه أصناما شركاء للّه،كما قال تعالى: قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ الصّافّات:95،96،فالخلق هنا واقع على المعمول المصنوع بمعنى المخلوق.(4:194)

أبو السّعود :(و خلقهم)حال من فاعل (جعلوا)بتقدير«قد»أو بدونه-على اختلاف الرّأيين-مؤكّدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة و البطلان،باعتبار علمهم بمضمونها،أي و قد علموا أنّه تعالى خالقهم خاصّة.

و قيل:الضّمير للشّركاء،أي و الحال أنّه تعالى خلق الجنّ فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له تعالى.

و قرئ (خلقهم) عطفا على(الجن)أي و ما يخلقونه من الأصنام،أو على(شركاء)أي و جعلوا له اختلاقهم الإفك؛حيث نسبوه إليه تعالى.

(2:422)

الآلوسيّ: [ذكر الوجهين كما تقدّم عن أبي السّعود و أضاف:]

و رجّح الأوّل بخلوّه عن تشتّت الضّمائر،و رجّح الإمام الثّاني بأنّ عود الضّمير إلى أقرب المذكورات واجب،و بأنّه إذا رجع الضّمير إلى هذا الأقرب صار اللّفظ الواحد دليلا قاطعا تامّا كاملا في إبطال المذهب الباطل.

و قرأ يحيى بن يعمر: (و خلقهم) على صيغة المصدر عطفا على(الجن)أي و ما يخلقونه من الأصنام،أو على(شركاء)أي و جعلوا له اختلاقهم للقبائح؛ حيث نسبوها إليه سبحانه و قالوا: وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها الأعراف:28.(7:241)

القاسميّ: (و خلقهم)حال من فاعل(جعلوا) مؤكّدة لما في جعلهم،ذلك من كمال القباحة و البطلان،باعتبار علمهم بمضمونها،أي و قد علموا أنّ اللّه خالقهم دون الجنّ،و ليس من يخلق كمن لا يخلق.

و قيل:الضّمير للشّركاء،أي و الحال أنّه تعالى خلق الجنّ،فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟كقول إبراهيم: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ الصّافّات:95،96،أي و إذا كان هو المستقلّ بالخالقيّة،وجب أن يفرد بالعبادة،وحده لا شريك له.(6:2442)

ص: 390

المراغيّ: (و خلقهم)أي و الحال أنّه تعالى خلق الشّركاء المجعولين،كما خلق غيرهم من العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة،و امتياز بعض المخلوقين عن بعض في صفاته و خصائصه لا يخرجه عن كونه مخلوقا،و لا يصل به لأن يكون إلها و ربّا.(7:205)

ابن عاشور :و جملة(و خلقهم)في موضع الحال و الواو للحال.و الضّمير المنصوب في(خلقهم) يحتمل أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير(جعلوا)أي و خلق المشركين،و موقع هذه الحال التّعجيب من أن يجعلوا للّه شركاء و هو خالقهم،من قبيل وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الواقعة:82،و على هذا تكون ضمائر الجمع متناسقة،و التّعجيب على هذا الوجه من جعلهم ذلك مع أنّ اللّه خالقهم في نفس الأمر،فكيف لا ينظرون في أنّ مقتضى الخلق أن يفرد بالإلهيّة؛إذ لا وجه لدعواها لمن لا يخلق كقوله تعالى:

أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ النّحل:

17،فالتّعجيب على هذا من جهلهم و سوء نظرهم.

و يجوز أن يكون ضمير(و خلقهم)عائدا إلى (الجن)لصحّة ذلك الضّمير لهم باعتبار أنّ لهم عقلا، و موقع الحال التّعجيب من ضلال المشركين أن يشركوا اللّه في العبادة بعض مخلوقاته،مع علمهم بأنّهم مخلوقون للّه تعالى،فإنّ المشركين قالوا:إنّ اللّه خالق الجنّ-كما تقدّم-و أنّه لا خالق إلاّ هو،فالتّعجيب من مخالفتهم لمقتضى علمهم،فالتّقدير:و خلقهم كما في علمهم،أي و خلقهم بلا نزاع.و هذا الوجه أظهر.

(6:245)

مغنيّة:و ضمير(خلقهم)عائد إلى(الجن) لأنّه أقرب،و يجوز إلى«المشركين»و إليهما معا،لأنّ اللّه خالق الجنّ و الإنس،و المعنى:كيف يكون للّه شركاء و هو خالق كلّ شيء؟!(3:237)

الطّباطبائيّ: قوله:(و خلقهم)كأنّه حال و إن منعه بعض النّحاة،و حجّتهم غير واضحة.و كيف كان فالكلمة في مقام ردّهم،و المعنى:و جعلوا له شركاء الجنّ و هو خلقهم،و المخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقام.(7:290)

مكارم الشّيرازيّ: (و خلقهم)أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكا للخالق،لأنّ الشّركة دليل التّماثل و التّساوي،مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصافّ خالقه أبدا.(4:378)

فضل اللّه :[ذكر الأقوال في شركة الجنّ في الخلق ثمّ قال:]

و لكنّ اللّه أراد أن يوجّه أصحاب هذه الاتّجاهات المنحرفة إلى التّفكير بما هم فيه،في قوله تعالى:(و خلقهم)في ما توحيه بأنّ اللّه إذا كان قد خلق هؤلاء الملائكة على التّفسير الأوّل أو الجنّ على التّفسير الثّاني،فكيف يمكن أن يكونوا شركاء له في أيّ شيء؟!و كيف يستطيعون أن يتحرّكوا في أيّة قوّة بعيدا عنه،لأنّ عمليّة الخلق تفرض أن تكون كلّ الطّاقات الّتي يملكها المخلوق مستمدّة من الخالق،و متحرّكة بإرادته،فلا يملك منها إلاّ ما أراد له أن يملكه، و لا يتصرّف فيها إلاّ بالمقدار الّذي يأذن له-من ناحية تكوينيّة-بالتّصرّف فيه.و بذلك يكون الخضوع

ص: 391

و تقديم أشكال العبادة لهم،شيئا لا معنى له،عند ما يدرك الإنسان أنّهم ظلال للقدرة المطلقة تماما،كما هي الظّلال الّتي لا تملك أيّ استقلال أو أصالة في ذاتها و عن مصيرها من الأشياء.إنّ اللّه أثار هذه الكلمة ليصل إلى صفاء التّوحيد من خلال الفكر.(9:247)

2- ...وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ. هود:118،119

ابن عبّاس: للرّحمة خلق أهل الرّحمة و للاختلاف خلق أهل الاختلاف.(192)

مثله الفرّاء.(البغويّ 2:472)

خلقهم فريقين:فريقا يرحم فلا يختلف،و فريقا لا يرحم يختلف،و ذلك قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ هود:105.(الطّبريّ 7:140)

للرّحمة خلقهم،و لم يخلقهم للعذاب.

(الطّبريّ 7:141)

مجاهد :للرّحمة.(الطّبريّ 7:140)

مثله الضّحّاك.(الطّبريّ 7:141)

عكرمة :أهل الحقّ و من اتّبعه لرحمته.

(الطّبريّ 7:141)

الحسن :للاختلاف.(الطّبريّ 7:139)

مثله مقاتل بن حيّان و عطاء و يمان.

(الثّعلبيّ 5:194)

وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ مردود على قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ هود:

117،و المعنى خلقهم ليكون عدله فيهم،هذا،لا أن يهلكهم و هم مصلحون.(الطّوسيّ 6:85)

خلق هؤلاء لجنّته،و خلق هؤلاء لناره،و خلق هؤلاء لرحمته،و خلق هؤلاء لعذابه،أمّا أهل رحمة اللّه فإنّهم لا يختلفون اختلافا يضرّهم.(الطّبريّ 7:140)

نحوه أبو عبيد.(البغويّ 2:472)

عطاء:مؤمن و كافر.(الطّبريّ 7:140)

مثله الأعمش.(الطّبريّ 7:140)

قتادة :للرّحمة خلقهم.(الطّبريّ 7:141)

مالك:خلقهم ليكونوا فريقين:فريق في الجنّة، و فريق في السّعير.(الطّبريّ 7:140)

الفرّاء: يقول:للشّقاء و للسّعادة.(2:31)

الطّبريّ: و أمّا قوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ، فإنّ أهل التّأويل اختلفوا في تأويله:

فقال بعضهم:معناه:و للاختلاف خلقهم.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:و للرّحمة خلقهم.

و أولى القولين في ذلك بالصّواب قول من قال:

و للاختلاف بالشّقاء و السّعادة خلقهم،لأنّ اللّه جلّ ذكره ذكر صنفين من خلقه:أحدهما أهل اختلاف و باطل،و الآخر أهل حقّ،ثمّ عقّب ذلك بقوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ فعمّ بقوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ صفة الصّنفين،فأخبر عن كلّ فريق منهما أنّه ميسّر لما خلق له.

فإن قال قائل:فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على اختلافهم؛إذ كان لذلك خلقهم ربّهم،و أن يكون

ص: 392

المتمتّعون هم الملومين؟

قيل:إنّ معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت،و إنّما معنى الكلام:و لا يزال النّاس مختلفين بالباطل من أديانهم و مللهم، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فهداه للحقّ، و لعلمه،و على علمه النّافذ فيهم قبل أن يخلقهم،أنّه يكون فيهم المؤمن و الكافر و الشّقيّ و السّعيد خلقهم، فمعنى«اللاّم»في قوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ بمعنى «على»كقولك للرّجل:أكرمتك على برّك بي و أكرمتك لبرّك بي.(7:141)

الزّجّاج: أي خلقهم للسّعادة و الشّقاء،فاختلافهم في الدّين يؤدّي بهم إلى سعادة أو شقاء.و قيل: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي لرحمته خلقهم،لقوله:إلاّ من رحم ربّك،و القول الأوّل يدلّ عليه.(3:84)

الثّعلبيّ: [نقل أقوال المفسّرين ثمّ قال:]

و لم يقل:و لتلك،و الرّحمة مؤنّثة لأنّها مصدر، و قد مضت هذه المسألة،و هذا باب سائغ في اللّغة، و هو أن يذكر لفظان متضادّان ثمّ يشار إليهما بلفظ التّوحيد فمن ذلك قوله تعالى: لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ البقرة:68،ثمّ قال: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ و قوله: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً الإسراء:110،و قوله: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يونس:58،فكذلك معنى الآية،(و لذلك)أي و للاختلاف و الرّحمة خلقهم أحسن خلق،هؤلاء لجنّته،و هؤلاء لناره.(5:194)

نحوه الشّوكانيّ.(2:667)

الماورديّ: فيه أربعة أقاويل:[نقل أقوال ابن عبّاس و مجاهد و الحسن ثمّ قال:]

الرّابع:للجنّة و النّار خلقهم،قاله منصور بن عبد الرّحمن.(2:511)

الطّوسيّ: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ قيل في معناه قولان:

أحدهما:قال ابن عبّاس و مجاهد و قتادة و الضّحّاك:إنّ المراد و للرّحمة خلقهم و ليس لأحد أن يقول:لو أراد ذلك لقال:و لتلك خلقهم،لأنّ الرّحمة مؤنّثة اللّفظ؛و ذلك أنّ تأنيث الرّحمة ليس بتأنيث حقيقيّ،و ما ذلك حكمه جاز أن يعبّر عنه بالتّذكير، و لذلك قال اللّه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف:56،و لم يقل:قريبة.على أنّه لا يمتنع أن يكون المراد:و لأن يرحم خلقهم،لأنّ الرّحمة تدلّ على ذلك،فعلى هذا يكون التّذكير واقعا موقعه.

الثّاني:أن يكون«اللاّم»لام العاقبة،و التّقدير:

أنّه خلقهم و علم أنّ عاقبتهم تؤول إلى الاختلاف المذموم،كما قال: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً القصص:8،و كما قلنا في قوله:

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الأعراف:179،و هو المرويّ عن ابن عبّاس و الحسن و عطاء و مالك.و قد يكون«اللاّم»بمعنى«على» كقولك:أكرمتك على برّك بي،أي لبرّك بي،فيكون التّقدير:و على ذلك خلقهم.و لا يجوز أن يكون «اللاّم»لام الغرض،و يرجع إلى الاختلاف المذموم، لأنّ اللّه تعالى لا يخلقهم،و يريد منهم خلاف الحقّ،لأنّه

ص: 393

صفة نقص يتعالى اللّه عن ذلك

و أيضا فلو أراد منهم ذلك الاختلاف،لكانوا مطيعين له،لأنّ الطّاعة هي موافقة الإرادة و الأمر، و لو كانوا كذلك لم يستحقّوا عقابا،و قد قال تعالى:

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:

56،فبيّن تعالى أنّه خلقهم و أراد منهم العبادة،فكيف يجوز مع ذلك أن يكون مريدا لخلاف ذلك،و هل هذا إلاّ تناقض؟يتعالى اللّه عن ذلك.

على أنّ في اختلاف أهل الضّلال ما يريده (1)اللّه، و هو اختلاف اليهود و النّصارى في التّثليث،و اختلاف النّصارى لليهود في تأييد شرع موسى.(6:84)

نحوه الطّبرسيّ.(3:203)

البغويّ: [نقل قول الفرّاء ثمّ قال:]

و محصول الآية:أنّ أهل الباطل مختلفون و أهل الحقّ متّفقون،فخلق اللّه أهل الحقّ للاتّفاق و أهل الباطل للاختلاف.(2:472)

الميبديّ: يعني أهل الاختلاف للاختلاف و أهل الرّحمة للرّحمة،و كما خلق الخلق خلق الاختلاف و الرّحمة،و خلق الرّحمة لقوم و هم السّعداء، و جزاؤهم الجنّة،و خلق الاختلاف لقوم،و هم الأشقياء،و جزاؤهم النّار،و قد خلقهم كذلك ليستقيم ما قال: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ الشّورى:7.(4:456)

الزّمخشريّ: (ذلك)إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأوّل و تضمّنه،يعني و لذلك من التّمكين و الاختيار الّذي كان عنه الاختلاف،خلقهم ليثيب مختار الحقّ بحسن اختياره،و يعاقب مختار الباطل بسوء اختياره.(2:298)

ابن عطيّة: و قوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ اختلف فيه المتأوّلون،فقالت فرقة:و لشهود اليوم المشهود المتقدّم ذكره خلقهم،و قالت فرقة:(ذلك)إشارة إلى قوله قبل فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ هود:105،أي لهذا خلقهم،و هذان المعنيان و إن صحّا فهذا العود المتباعد ليس بجيّد.و روى أشهب عن مالك أنّه قال:(ذلك) إشارة إلى أن يكون فريق في الجنّة و فريق في السّعير.

فجاءت الإشارة ب(ذلك)إلى الأمرين:

الاختلاف و الرّحمة،و قد قاله ابن عبّاس،و اختاره الطّبريّ،و يجيء عليه الضّمير في(خلقهم)للصّنفين.

و قال مجاهد و قتادة:(ذلك)عائد على الرّحمة الّتي تضمّنها قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ، أي و للرّحمة خلق المرحومين.قال الحسن:و(ذلك)إشارة إلى الاختلاف الّذي في قوله: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.

و يعترض هذا بأن يقال:كيف خلقهم للاختلاف؟ و هل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم؟فالوجه في الانفصال أن نقول:إنّ قاعدة الشّرع أنّ اللّه عزّ و جلّ خلق خلقا للسّعادة و خلقا للشّقاوة ثمّ يسّر كلاّ لما خلق له،و هذا نصّ في الحديث الصّحيح،و جعل بعد ذلك الاختلاف في الدّين على الحقّ هو أمارة الشّقاوة و به علق العقاب فيصحّ أن يحمل قوله هنا:

و للاختلاف خلقهم،أي لثمرة الاختلاف،و ما يكونه.

ص: 394


1- كذا و الظّاهر:ما لا يريده اللّه.

عنه من الشّقاوة.

و يصحّ أن يجعل«اللاّم»في قوله:(و لذلك) لام الصّيرورة،أي و خلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك و إن لم يقصد بهم الاختلاف

و معنى قوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:56،أي لآمرهم بالعبادة، و أوجبها عليهم،فعبّر عن ذلك بثمرة الأمر و مقتضاه.

(3:215)

الفخر الرّازيّ: فيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل:قال ابن عبّاس:و للرّحمة خلقهم، و هذا اختيار جمهور المعتزلة.قالوا:و لا يجوز أن يقال:

و للاختلاف خلقهم،و يدلّ عليه وجوه:

الأوّل:أنّ عود الضّمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما،و أقرب المذكورين هاهنا هو الرّحمة،و الاختلاف أبعدهما.

و الثّاني:أنّه تعالى لو خلقهم للاختلاف و أراد منهم ذلك الإيمان،لكان لا يجوز أن يعذّبهم عليه؛إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.

الثّالث:إذا فسّرنا الآية بهذا المعنى،كان مطابقا لقوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:56.

فإن قيل:لو كان المراد:و للرّحمة خلقهم لقال:

و لتلك خلقهم،و لم يقل: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ.

قلنا:إنّ تأنيث«الرّحمة»ليس تأنيثا حقيقيّا، فكان محمولا على الفضل و الغفران،كقوله: قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي الكهف:98 و قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف:56.

و القول الثّاني:أنّ المراد:و للاختلاف خلقهم.

و القول الثّالث:و هو المختار:أنّه خلق أهل الرّحمة للرّحمة و أهل الاختلاف للاختلاف.

روى أبو صالح عن ابن عبّاس أنّه قال:خلق اللّه أهل الرّحمة لئلاّ يختلفوا،و أهل العذاب لأن يختلفوا، و خلق الجنّة و خلق لها أهلا،و خلق النّار و خلق لها أهلا،و الّذي يدلّ على صحّة هذا التّأويل وجوه:

الأوّل:الدّلائل القاطعة الدّالّة على أنّ العلم و الجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلاّ بتخليق اللّه تعالى.

الثّاني:أن يقال:إنّه تعالى لمّا حكم على البعض بكونهم مختلفين و على الآخرين بأنّهم من أهل الرّحمة،و علم ذلك امتنع انقلاب ذلك،و إلاّ لزم انقلاب العلم جهلا و هو محال.

الثّالث:أنّه تعالى قال بعده: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ و هذا تصريح بأنّه تعالى خلق أقواما للهداية و الجنّة، و أقواما آخرين للضّلالة و النّار،و ذلك يقوّي هذا التّأويل.(18:78)

نحوه الخازن(3:211)،و الشّربينيّ(2:86).

القرطبيّ: [قال نحو الثّعلبيّ و أضاف:]

و هذا أحسن الأقوال إن شاء اللّه تعالى،لأنّه يعمّ، أي و لما ذكر خلقهم،و إلى هذا أشار مالك رحمه اللّه فيما روى عنه أشهب.

قال أشهب:سألت مالكا عن هذه الآية،قال:

ص: 395

خلقهم ليكون فريق في الجنّة و فريق في السّعير،أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف و أهل الرّحمة للرّحمة.

و روي عن ابن عبّاس أيضا قال:خلقهم فريقين:

فريقا يرحمه و فريقا لا يرحمه.

قال المهدويّ: و في الكلام على هذا التّقدير تقديم و تأخير،المعنى:و لا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك، و تمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنّم من الجنّة و النّاس أجمعين و لذلك خلقهم.

و قيل:هو متعلّق بقوله: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ هود:103،و المعنى و لشهود ذلك اليوم خلقهم.

و قيل:هو متعلّق بقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ هود:105،أي للسّعادة و الشّقاوة خلقهم.(9:115)

النّسفيّ: أي و لما هم عليه من الاختلاف،فعندنا خلقهم للّذي علم أنّهم سيصيرون إليه من اختلاف أو اتّفاق،و لم يخلقهم لغير الّذي علم أنّهم سيصيرون إليه،كذا في شرح«التّأويلات».(2:209)

أبو حيّان :و الإشارة بقوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ إلى المصدر المفهوم من قوله:(مختلفين)كما قال:إذا نهى السّفيه جرى إليه،فعاد الضّمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل،كأنّه قيل:و للاختلاف خلقهم، و يكون على حذف مضاف،أي لثمرة الاختلاف من الشّقاوة و السّعادة خلقهم.و دلّ على هذا المحذوف أنّه قد تقرّر من قاعدة الشّريعة أنّ اللّه تعالى خلق خلقا للسّعادة،و خلقا للشّقاوة،ثمّ يسّر كلاّ لما خلق له، و هذا نصّ في الحديث الصّحيح.

و هذه«اللاّم»في التّحقيق هي لام الصّيرورة في ذلك المحذوف،أو تكون لام الصّيرورة بغير ذلك المحذوف،أي خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف.و لا يتعارض هذا مع قوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:56.لأنّ معنى هذا،الأمر بالعبادة.

و قال مجاهد و قتادة:(ذلك)إشارة إلى الرّحمة الّتي تضمّنها قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و الضّمير في (خلقهم)عائد على المرحومين.

و قال ابن عبّاس،و اختاره الطّبريّ:الإشارة ب (ذلك)إلى الاختلاف و الرّحمة معا،فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين،كقوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ البقرة:68،أي بين الفارض و البكر،و الضّمير في (خلقهم)عائد على الصّنفين:المستثنى،و المستثنى منه،و ليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضّمير إلاّ الاختلاف كما قال الحسن و عطاء،أو الرّحمة كما قال مجاهد،و قتادة،أو كلاهما كما قال ابن عبّاس.و قد أبعد المتأوّلون في تقدير غير هذه الثّلاث.

فروي أنّه إشارة إلى ما بعده،و فيه تقديم و تأخير،أي(و تمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنّم من الجنّة و النّاس اجمعين و لذلك خلقهم).أي لملء جهنّم منهم،و هذا بعيد جدّا من تراكيب كلام العرب.

و قيل:إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود، و قيل:إلى قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ هود:105، و قيل:إشارة إلى أن يكون فريق في الجنّة و فريق في

ص: 396

السّعير،و قيل إشارة إلى قوله: يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ هود:116،و قيل:إشارة إلى العبادة، و قيل:إلى الجنّة و النّار،و قيل:للسّعادة و الشّقاوة.

و قال الزّمخشريّ: (و لذلك)إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام،أوّلا من التّمكين و الاختيار الّذي عنه الاختلاف،خلقهم ليثيب مختار الحقّ بحسن اختياره، و يعاقب مختار الباطل بسوء اختياره،انتهى.و هو على طريقة الاعتزال.و لو لا أنّ هذه الأقوال سطّرت في كتب التّفسير لضربت عن ذكرها صفحا.(5:273)

أبو السّعود :(خلقهم)أي الّذين بقوا بعد الثّنيا و هم المختلفون،فاللاّم للعاقبة أو للتّرحّم،فالضّمير ل(من)و اللاّم في معناها أو لهما معا،فالضّمير للنّاس كافّة،و اللاّم بمعنى مجازيّ،عامّ لكلا المعنيين.

(3:359)

الآلوسيّ: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي النّاس، و الإشارة-كما روي عن الحسن و عطاء-إلى المصدر المفهوم من(مختلفين)و نظيره:إذا نهى السّفيه جرى إليه،كأنّه قيل:و للاختلاف خلق النّاس،على معنى لثمرة الاختلاف من كون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ الشّورى:7،خلقهم.و«اللاّم»لام العاقبة و الصّيرورة،لأنّ حكمة خلقهم ليس هذا،لقوله سبحانه: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:56،و لأنّه لو خلقهم له لم يعذّبهم على ارتكاب الباطل،كذا قال غير واحد،و روي عن الإمام مالك ما يقتضيه.

و عندي أنّه لا ضير في الحمل على الظّاهر، و لا منافاة بين هذه الآية و الآية الّتي ذكروها،لما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى من تفسيرها في الذّاريات، و ما يروى فيها من الآثار،و أنّ الخلق من توابع الإرادة التّابعة للعلم التّابع للمعلوم في نفسه،و التّعذيب أو الإثابة ليس إلاّ لأمر أفيض على المعذّب و المثاب بحسب الاستعداد الأصليّ،و ربّما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التّعذيب و الإثابة من توابع ذلك الاستعداد الّذي عليه المعذّب أو المثاب في نفسه.و من هنا قالوا:

إنّ المعصية و الطّاعة أمارتان على الشّقاوة و السّعادة لا مقتضيتان لهما،و بذلك يندفع قولهم،و لأنّه لو خلقهم له لم يعذّبهم،و لما قرّرناه شواهد كثيرة من الكتاب و السّنّة،لا تخفى على المستعدّين لإدراك الحقائق.

و قيل:ضمير(خلقهم)ل(من)باعتبار معناه، و الإشارة للرّحمة المفهومة من(رحم،)و التّذكير لتأويلها بأن و الفعل،أو لكونها بمعنى الخير،و روي ذلك عن مجاهد و قتادة و روي عن ابن عبّاس أنّ الضّمير للنّاس،و الإشارة للرّحمة و الاختلاف،أي لاختلاف الجميع و رحمة بعضهم(خلقهم)و جاءت الإشارة لاثنين،كما في قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ البقرة:68،و اللاّم على هذا قيل:بمعنى مجازيّ عامّ للمعنى الظّاهر و الصّيرورة،و على ما قبله على معناها.و أظهر الأقوال في الإشارة و الضّمير ما قدّمناه،و القولان الآخران دونه.

و أمّا القول بأنّ الإشارة لما بعد و في الكلام تقديم و تأخير،أي(و تمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنّم إلخ

ص: 397

(و لذلك)أي لملء جهنّم(خلقهم)،فبعيد جدّا من تراكيب كلام العرب،و من هذا الطّرز ما قيل:إنّ (ذلك)إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود،و كذا ما قيل:إنّه إشارة إلى قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ هود:105،أو إلى الشّقاوة و السّعادة المفهومتين من ذلك،أو إلى أن يكون فريق في الجنّة و فريق في السّعير،أو إلى النّهي المفهوم من قوله سبحانه: يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ هود:

116،أو إلى الجنّة و النّار،أو إلى العبادة،إلى غير ذلك من الأقوال الّتي يتعجّب منها.

و ذهب بعض المحقّقين في معنى الآية إلى أنّ المراد من الوحدة:الوحدة في الدّين الحقّ،و من الاختلاف:

الاختلاف فيه على معنى المخالفة له،كما في قوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ البقرة:213،و المراد ب(من رحم)الّذين هداهم اللّه تعالى و لم يخالفوا الحقّ،و الإشارة للاختلاف بمعنى المخالفة،و ضمير (خلقهم)للّذين بقوا بعد الثّنيا و هم المختلفون المخالفون،و اللاّم للعاقبة،كأنّه قيل:و لو شاء ربّك لجعل النّاس على الحقّ و دين الإسلام،لكنّه لم يشأ فلم يجعل،و لا يزالون مخالفين للحقّ إلاّ قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحقّ،و لما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين المخالفين.

و لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظّاهر،و إن أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه.[إلى أن قال:]

و الجارّ و المجرور،أعنى(لذلك)متعلّق ب(خلق) بعده.و الظّاهر أنّ الحصر المستفاد من التّقديم.-إذا قلنا:إنّ التّقديم له-إضافيّ و المضاف هو إليه مختلف، حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه،و هو على الأوّل الاتّفاق و على ما عداه يظهر أيضا بأدنى التفات،هذا و استدلّ بالآية على أنّ الأمر غير الإرادة و أنّه تعالى لم يرد الإيمان من كلّ،و إنّ ما أراده سبحانه يجب وقوعه.

و ذكر بعض العارفين أنّ منشأ تشييب سورة هود له صلّى اللّه عليه و سلّم اشتمالها على أمره عليه الصّلاة و السّلام بالاستقامة على الدّعوة،مع إخباره أنّه سبحانه إنّما خلق النّاس للاختلاف،و أنّه لا يشاء اجتماعهم على الدّين الحقّ،و هو كما ترى.(12:164)

القاسميّ: [نحو أبي حيّان و أضاف:]

و أشار القاشانيّ إلى بقاء اللاّم على معناها،و هو التّعليل بوجه آخر؛حيث قال:و للاختلاف خلقهم ليستعدّ كلّ منهم لشأن و عمل،و يختار بطبعه أمرا و صنعة،و يستتبّ بهم نظام العالم،و يستقيم أمر المعاش،فهم محامل لأمر اللّه،حمل عليهم حمول الأسباب و الأرزاق،و ما يتعيّش به النّاس،و رتّب بهم قوام الحياة الدّنيا،كما أنّ الفئة المرحومة مظاهر لكماله،أظهر اللّه بهم صفاته و أفعاله،و جعلهم مستودع حكمه و معارفه و أسراره.(9:3498)

المراغيّ: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي و لمشيئته تعالى فيهم الاختلاف و التّفرّق في علومهم و معارفهم و آرائهم،و ما يتبع ذلك من الإرادة و الاختيار في

ص: 398

الأعمال خلقهم،و بهذا كانوا خلفاء في الأرض،و من ذلك اختلافهم في الدّين و الإيمان و الطّاعة و العصيان، و بذا كانوا مظهرا لأسرار خلقه الرّوحيّة و الجسديّة، أو المادّيّة و المعنويّة.و قال ابن عبّاس:خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف،و فريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ هود:105.

و الخلاصة أنّ النّاس فريقان:فريق اتّفقوا في الدّين فجعلوا كتاب اللّه حكما بينهم فيما اختلفوا فيه فاجتمعت كلمتهم،و كانوا أمّة واحدة،فرحمهم اللّه و وقاهم شرّ الاختلاف في الدّنيا و عذاب الآخرة، و فريق اختلفوا في الدّين كما اختلفوا في منافع الدّنيا فكان بأسهم بينهم شديدا،فذاقوا عقاب الاختلاف في الدّنيا،و أعقبه جزاؤهم في الآخرة،فحرموا من رحمة اللّه بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه تعالى لهم.(12:98)

ابن عاشور :و أمّا تعقيبه بقوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ فهو تأكيد بمضمون. وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ هود:118،و الإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله:(مختلفين،)و اللاّم للتّعليل،لأنّه لمّا خلقهم على جبلّة قاضية باختلاف الآراء و النّزعات،و كان مريدا لمقتضى تلك الجبلّة و عالما به كما بيّنّاه آنفا،كان الاختلاف علّة غائيّة لخلقهم،و العلّة الغائيّة لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنّها غاية الفعل،و قد تكون معها غايات كثيرة،أخرى.فلا ينافي ما هنا قوله:

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:

56،لأنّ القصر هنالك إضافيّ،أي إلاّ بحالة أن يعبدوني لا يشركوا.و القصر الإضافيّ لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قصد الرّدّ عليه بالقصر،كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربيّة.

و تقديم المعمول على عامله في قوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة،و بهذا يندفع ما يوجب الحيرة في التّفسير في الجمع بين الآيتين.(11:350)

الطّباطبائيّ: إنّ الإشارة بقوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ إلى الرّحمة و هي الغاية الّتي أرادها اللّه من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم.و ذكر بعضهم أنّ المعنى:

خلقهم للاختلاف،و نسب إلى الحسن و عطاء.و قد عرفت أنّه سخيف رديء جدّا،نعم لو جاز عود ضمير خَلَقَهُمْ إلى الباقي من النّاس بعد الاستثناء جاز عدّ الاختلاف غاية لخلقهم،و كانت الآية قريبة المضمون من قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الاعراف:179.

و ذكر آخرون:أنّ الإشارة إلى مجموع ما يدلّ عليه الكلام من مشيئته تعالى في خلقهم،مستعدّين للاختلاف و التّفرّق في علومهم و معارفهم و آرائهم و شعورهم،و ما يتبع ذلك من إرادتهم و اختيارهم في أعمالهم،و من ذلك الدّين و الإيمان و الطّاعة و العصيان.

و بالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف،أعمّ ممّا في الدّين أو في غيره.و نسب إلى ابن عبّاس بناء على ما روي عنه أنّه قال:خلقهم فريقين:فريقا يرحم فلا يختلف،و فريقا لا يرحم فيختلف،و إلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية:خلقهم ليكون فريق في

ص: 399

الجنّة و فريق في السّعير،و قد عرفت ما فيه من وجوه السّخافة فلا نطيل بالإعادة.(11:65)

مكارم الشّيرازيّ: ملاحظات:

1-حرّيّة الإرادة هي أساس خلق الإنسان و دعوة جميع الأنبياء،و أساسا لا يستطيع الإنسان بدونها أن يخطو و لو خطوة واحدة في مسير التّكامل «التّكامل الإنسانيّ و المعنويّ»و لهذا فقد أكّدت آيات متعدّدة أنّه لو شاء اللّه أن يهدي النّاس بإجباره لهم جميعا لفعل،لكنّه لم يشأ.

فيما يتعلّق باللّه هو الدّعوة إلى المسير الحقّ و تعريف الطّريق و وضع العلامات و التّنبيه على ما ينبغي الحذر منه،و تعيين الطّريق للمسيرة البشريّة و المنهج،فحسب.

يقول القرآن الكريم: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى الليل:12،كما يقول أيضا فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ الغاشية:22،21،و يقول:

فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها الشّمس:8،و نقرأ أيضا إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً الدّهر:3،فعلى هذا فإنّ الآيات محلّ البحث من أوضح الآيات الّتي تؤكّد على حرّيّة الإرادة و نفي مذهب الجبر،و تدلّ على أنّ التّصميم النّهائيّ هو بيد الإنسان.

2-في الهدف من الخلق و الوجود،في آيات القرآن بيانات مختلفة،و في الحقيقة يشير كلّ واحد منها إلى بعد من أبعاد هذا الهدف،من هذه الآيات وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:

56،أي ليتكاملوا في مذهب العبادة،و ليبلغوا أعلى مقام للإنسانيّة في هذا المذهب.و نقرأ في مكان آخر اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً الملك:2.

أمّا في الآية محلّ البحث،فيقول: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ... و كما تلاحظون فإنّ جميع هذه الخطوط تنتهي إلى نقطة واحدة،و هي تربية النّاس و هدايتهم و تقدّمهم و تكاملهم،و كلّ ذلك يعدّ الهدف النّهائيّ للخلق.

و فائدة هذا الهدف تعود للإنسان نفسه لا إلى اللّه، لأنّ اللّه وجود مطلق لا نهاية له من جميع الجهات، و مثل هذا الوجود لا نقص فيه ليرفعه و يزيله بالخلق.

3-و في نهاية الآية الأخيرة تأكيد الأمر الإلهيّ بملء جهنّم من الجنّ و الإنس أجمعين،و بديهيّ أنّ هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد،و هو الخروج من دائرة رحمة اللّه،و التّقهقر عن هداية الرّسل و الأدلاّء من قبله،و بهذا التّرتيب فإنّ هذه الآية لا يعتبر دليلا على مذهب الإجبار بل هي تأكيد جديد لمذهب الاختيار.

(7:94)

فضل اللّه :غاية الخلق الرّحمة أم الاختلاف؟ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ لينفتحوا على آفاق رحمته،في ما يريده لهم من الالتزام بطاعته الّتي تحقّق لهم مصالحهم المادّيّة و الرّوحيّة،و الابتعاد عن معصيته الّتي تبعدهم عمّا يفسد حياتهم أو يضرّها.و هذا المعنى يلتقي بمضمون الآية الكريمة الّتي تحدّثت عن غاية الخلق، و هي: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ

ص: 400

الذّاريات:56،و هذا التّفسير أولى من إرجاع الفقرة إلى«الاختلاف»باعتبار ما يوحيه من تنوّع في الأفكار و الأذواق و الأدوار،الّتي تقتضيها طبيعة الحياة في حركتها،ممّا لا يمثّل حالة سلبيّة في واقع الإنسان،لأنّ التّنوّع يلعب دورا محرّضا لتحريك الحياة و تطويرها على الصّعد كافّة،و هذا ما ذهب إليه بعض المفسّرين.

و لكن الظّاهر من سياق الآية أنّها تؤكّد على مسألة الهدى و الضّلال في عالم الوحدة و الاختلاف،و تعتبر الاختلاف مظهرا سلبيّا لارتكازه على البغي و العدوان كما صرّحت في أكثر من آية،و لذلك كان الاستثناء بفقرة إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ الّتي تعتبر الرّحمة نعمة تستحقّها الفئة الّتي اختارت الإيمان،في ما حاولت أن تمارسه من مسئوليّة الحرّيّة في الإرادة،بما ينسجم مع تشريع اللّه.

و ربّما كانت الفقرة التّالية دليلا على مثل هذا الجوّ المتحرّك في السّلوك الإنسانيّ،القائم على أساس المسئوليّة الدّاخليّة و الخارجيّة عن أعماله أمام اللّه وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ و إرادته الحاسمة في حكمه النّافذ في الأشياء،في المطيعين و العاصين الّذين يمثّلون الخطّ الإيجابيّ و السّلبيّ،في نطاق الاختلاف الإنسانيّ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ في ما يمثّله هذا المفهوم من امتلاء الجنّة بالنّاس و الجنّ الّذين أطاعوا اللّه في ما أمر به أو نهى عنه،و لم يعصوه في ذلك في قليل أو كثير،كما هو الحال في امتلاء جهنّم بالعاصين من الجنّة و النّاس، على ما ينصّ عليه منطوق الآية.(12:151)

3- ...أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فصّلت:15

الطّبريّ: و أعطاهم ما أعطاهم من عظم الخلق، و شدّة البطش.(11:94)

الطّوسيّ: و اخترعهم و خلق فيهم هذه القوّة أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً و أعظم اقتدارا.(9:114)

البغويّ: فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً و ذلك أنّ هودا هدّدهم بالعذاب،فقالوا:من أشدّ منّا قوّة،و نحن نقدر على دفع العذاب عنّا بفضل قوّتنا.و كانوا ذوي أجسام طوال،قال اللّه تعالى ردّا عليهم: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (4:129)

نحوه الميبديّ.(8:515)

الطّبرسيّ: أي أو لم يعلموا أنّ اللّه الّذي خلقهم و خلق فيهم هذه القوّة أعظم اقتدارا منهم فلو شاء أهلكهم.(5:7)

الفخر الرّازيّ: يعني أنّهم و إن كانوا أقوى من غيرهم،فاللّه الّذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة،فإن كانت الزّيادة في القوّة توجب كون النّاقص في طاعة الكامل،فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين للّه تعالى،خاضعين لأوامره و نواهيه.(27:112)

البروسويّ: و خلق الأشياء كلّها خصوصا الأجرام العظيمة،كالسّماوات و الجبال و نحوها.و إنّما أورد في حيّز الصّلة(خلقهم)دون خلق السّماوات و الأرض،لادّعائهم الشّدّة في القوّة.(8:243)

ص: 401

4- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ. الزّخرف:87

ابن عبّاس: لَيَقُولُنَّ اللّهُ خلقنا.(416)

مثله الطّبريّ.(11:219)

الطّوسيّ: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمّد يعني هؤلاء الكفّار مَنْ خَلَقَهُمْ و أخرجهم من العدم إلى الوجود لَيَقُولُنَّ اللّهُ لأنّهم يعلمون ضرورة أنّ الأصنام لم تخلقهم،فقال اللّه تعالى معنّفا لهم: فَأَنّى يُؤْفَكُونَ مع علمهم بأنّ اللّه هو خالقهم،فكيف ينقلبون عن عبادته إلى عبادة غيره.(9:222)

نحوه الطّبرسيّ.(5:59)

ابن عطيّة: ثمّ أظهر تعالى عليهم الحجّة من أقوالهم و إقرارهم بأنّ اللّه هو خالقهم و موجدهم بعد العدم،ثمّ وقفهم على جهة التّقرير و التّوبيخ بقوله:

فَأَنّى يُؤْفَكُونَ أي فلأيّ جهة يصرفون.(5:67)

خلقها

وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ. النّحل:5

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و من حججه عليكم أيّها النّاس ما خلق لكم من الأنعام،فسخّرها لكم، و جعل لكم من أصوافها و أوبارها و أشعارها ملابس تدفئون بها،و منافع من ألبانها،و ظهورها تركبونها

(7:559)

الزّجّاج: نصب اَلْأَنْعامَ على فعل مضمر، المعنى:خلق الأنعام خلقها،مفسّر للمضمر.(3:190)

نحوه الميبديّ.(5:356)

الطّوسيّ: و قوله: خَلَقَها لَكُمْ تمام،لأنّ المعنى خلق الأنعام لكم،أي لمنافعكم(6:361)

الزّمخشريّ: خَلَقَها لَكُمْ أي ما خلقها إلاّ لكم و لمصالحكم يا جنس الإنسان.(2:401)

نحوه النّسفيّ(2:28)،و النّيسابوريّ(14:47).

الطّبرسيّ: ثمّ بيّن سبحانه نعمته في خلق الأنعام، فقال: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها معناه:و خلق الأنعام من الماء،كما خلقكم منه،يدلّ عليه قوله: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ النّور:45.(3:350)

الفخر الرّازيّ: أي خلق الإنسان و الأنعام.قال الواحديّ:تمّ الكلام عند قوله: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها ثمّ ابتدأ و قال: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ و يجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله:(لكم)ثمّ ابتدأ و قال: فِيها دِفْءٌ قال صاحب«النّظم»:أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله:(خلقها)و الدّليل عليه أنّه عطف عليه قوله: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ النّحل:6، و التّقدير لكم فيها دفء و لكم فيها جمال.(19:226)

البيضاويّ: و انتصابها[الانعام]بفعل يفسّره خَلَقَها لَكُمْ أو بالعطف على الإنسان،و خَلَقَها لَكُمْ بيان لما خلق لأجله،و ما بعده تفصيل له.

(1:549)

البروسويّ: و انتصبها[الانعام]بمضمر يفسّره قوله تعالى: خَلَقَها لَكُمْ و لمنافعكم و مصالحكم يا بني آدم،و كذا سائر المخلوقات،فإنّها خلقت لمصالح العباد و منافعهم لا لها،يدلّ عليه قوله تعالى: خَلَقَ

ص: 402

لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً البقرة:29،و قوله:

سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لقمان:

20،و أمّا الإنسان فقد خلق له تعالى كما قال:

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي طه:41،فالإنسان مرآة صفات اللّه تعالى و مجلى أسمائه الحسنى.(5:7)

الآلوسيّ: و النّصب على المفعوليّة لفعل مضمر يفسّره قوله تعالى:(خلقها)و هو أرجح من الرّفع في مثل هذا الموضع،لتقدّم الفعليّة.و قرئ به في الشّواذّ أو على العطف على(الانسان)و ما بعده بيان ما خلق لأجله،و الّذي بعده تفصيل لذلك.و قوله سبحانه (لكم)إمّا متعلّق ب(خلقها)و قوله تعالى:(فيها) خبر مقدّم.و قوله جلّ و علا:(دفء)مبتدأ مؤخّر، و الجملة حال من المفعول،أو الجارّ و المجرور الأوّل خبر للمبتدإ المذكور و الثّاني متعلّق بما فيه من معنى الاستقرار،و قيل:حال من الضّمير المستكنّ فيه العائد على المبتدإ،و قيل:حال من دِفْءٌ إذ لو تأخّر لكان صفة.

و جوّز أبو البقاء أن يكون الثّاني هو الخبر،و الأوّل في موضع الحال من مبتدئه.و تعقّبه أبو حيّان بأنّ هذا لا يجوز،لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها،فلا يجوز«قائما في الدّار زيد»فإن تأخّرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف،و إن توسّطت فالأخفش على الجواز و الجمهور على المنع.

و جوّز أبو البقاء أيضا أن يرتفع دِفْءٌ ب(لكم)أو ب(فيها)و الجملة كلّها حال من الضّمير المنصوب.و تعقّبه أبو حيّان أيضا بأنّ ذلك لا يعدّ من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد.و نقل أنّهم جوّزوا أن يكون(لكم)متعلّقا ب(خلقها) و جملة فِيها دِفْءٌ استئناف لذكر منافع الأنعام، و استظهر كون جملة لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مستأنفة،ثمّ قال:و يؤيّد الاستئناف فيها الاستئناف في مقابلتها، أعني قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ النّحل:6، فقابل سبحانه المنفعة الضّروريّة بالمنفعة غير الضّروريّة.

و إلى نحو ذلك ذهب«القطب»فاختار أنّ الكلام قد تمّ عند خَلَقَها لهذا العطف،و خالفه في ذلك صاحب«الكشف»فقال:إنّ قوله تعالى: خَلَقَها لَكُمْ بناء على تفسير الزّمخشريّ له بقوله:ما خلقها إلاّ لكم و لمصالحكم يا جنس الإنسان،طرف من ترشيح المعنى الثّاني في قوله سبحانه: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النّحل:4،لما في الالتفات المشار إليه من الدّلالة عليه.و أمّا الحصر المشار إليه بقوله ما خلقها إلاّ لكم فمن اللاّم المفيدة للاختصاص،سيّما و قد نوّع بما يفيد زيادة التّمييز و الاختصاص.و هذا أولى من جعل لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مقابل وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ النّحل:6،لإفادته المعنى الثّاني،و أبلغ،على أنّه يكون فِيها دِفْءٌ تفصيلا للأوّل،و كرّر(لكم)في الثّاني لبعد العهد و زيادة التّفريع.انتهى.

و الحقّ في دعوى أولويّة تعلّق(لكم)بما قبله معه،كما لا يخفى.(14:97)

المراغيّ: امتنّ سبحانه على عباده ممّا خلق لهم

ص: 403

من الأنعام و هي الإبل و البقر و الغنم،كما تقدّم تفصيل ذلك في سورة الأنعام؛إذ عدّها ثمانية أزواج، و بما جعل لهم فيها من المنافع من الأصواف و الأوبار و الأشعار،لباسا و فراشا،و من الألبان شرابا،و من الأولاد أكلا.(15:56)

عبد الكريم الخطيب :هذا عرض لبعض مظاهر قدرة اللّه،و فضله على عباده،الّذين كفروا بنعمته، و ضلّوا عن سبيله،فهو سبحانه الّذي خلق الأنعام كلّها،ينتفع الإنسان منها في وجوه كثيرة؛فمنها:

كساؤه و غطاؤه الّذي يدفع عنه عادية البرد و الحرّ، و منها:طعامه الّذي يغتذي به،فيأكل من لحمها و لبنها،و منها:يجد الرّوح لنفسه،و البهجة لعينيه؛إذ يراها،غادية رائحة بين يديه،و عليها يحمل أثقاله، و يمتطيها ركوبة له إلى أماكن بعيدة،لم يكن يبلغها سعيا على قدميه إلاّ بشقّ الأنفس،و ذلك من رحمة اللّه به، و شفقته عليه.(7:270)

مكارم الشّيرازيّ: ثمّ يشير القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوانات،و ما تدرّ من فوائد كثير للإنسان فيقول: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ. فخلق الأنعام الدّال على علم و قدرة الباري سبحانه،فيها من الفوائد الكثيرة للإنسان، و قد أشارت الآية إلى ثلاث فوائد:

أوّلا:«الدّفء»و يشمل كلّ ما يتغطّى به بالاستفادة من و برها و جلودها،كاللّباس و الأغطية و الأحذية و الأخبية.

ثانيا:«المنافع»إشارة إلى اللّبن و مشتقّاته.

ثالثا: مِنْها تَأْكُلُونَ أي اللّحم.(8:123)

خلقهنّ

1- وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ. فصّلت:37

ابن عبّاس: يعني خلق الشّمس و القمر و اللّيل و النّهار.(403)

الفرّاء: خلق الشّمس و القمر و اللّيل و النّهار، و تأنيثهنّ في قوله:(خلقهن)لأنّ كلّ ذكر من غير النّاس و شبههم فهو في جمعه مؤنّث،تقول:مرّ بي أثواب فابتعتهنّ،و كانت لي مساجد فهدّمتهنّ و بنيتهنّ،يبنى على هذا.(3:18)

الطّبريّ: و قيل: وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ فجمع بالهاء و النّون لأنّ المراد من الكلام:و اسجدوا للّه الّذي خلق اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر،و ذلك جمع،و أنّث كنايتهنّ،و إن كان من شأن العرب إذا جمعوا الذّكر إلى الأنثى أن يخرجوا كنايتهما بلفظ كناية المذكّر،فيقولوا:أخواك و أختاك كلّموني، و لا يقولوا:كلّمنني،لأنّ من شأنهم أن يؤنّثوا أخبار الذّكور من غير بني آدم في الجمع،فيقولوا:رأيت مع عمرو أثوابا فأخذتهنّ منه،و أعجبني خواتيم لزيد فقبضهنّ منه.(11:113)

الزّجّاج: و قد قال:اللّيل و النّهار و القمر و هي مذكّرة،و قال:(خلقهن)و الهاء و النّون يدلاّن على التّأنيث،ففيها وجهان:

ص: 404

أحدهما:أنّ الضّمير غير ما يعقل على لفظ التّأنيث،تقول:هذه كباشك فسقها،و إن شئت فسقهنّ،و إنّما يكون(خلقهم)لما يعقل لا غير.

و يجوز أن يكون(خلقهن)راجعا على معنى الآيات، لأنّه قال:و من آياته هذه الأشياء.(4:387)

نحوه الطّبرسيّ.(5:14)

الطّوسيّ: و إنّما(خلقهن)لأنّه أجري مجرى جمع التّكسير،و لم يغلب المذكّر على المؤنّث،لأنّه في ما لا يعقل.(9:128)

نحوه البغويّ.(4:134)

الزّمخشريّ: الضّمير في(خلقهن)للّيل و النّهار و الشّمس و القمر،لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث،يقال:الأقلام بريتها و بريتهنّ أو لما قال:و من آياته كنّ في معنى الآيات،فقيل:

(خلقهن.)(3:454)

نحوه الفخر الرّازيّ(27:129)،و النّسفيّ(4:

95)،و أبو السّعود(5:446).

ابن عطيّة: و الضّمير في(خلقهن)قالت فرقة:

هو عائد على«الأيّام»المتقدّم ذكرها.

و قالت فرقة:الضّمير عائد على الشّمس و القمر، و الاثنان جمع،و جمع ما لا يعقل يؤنّث،فلذلك قال (خلقهن.)

و من حيث يقال:شموس و أقمار لاختلافهما بالأيّام،ساغ أن يعود الضّمير مجموعا.

و قالت فرقة:هو عائد على الأربعة المذكورة، و شأن ضمير ما لا يعقل-إذا كان العدد أقلّ من العشرة-أن يجيء هكذا،فإذا زاد أفرد مؤنّثا،تقول:

الأجذاع انكسرن و الجذوع انكسرت،و منه إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ

التّوبة:36.[ثمّ استشهد بقول حسّان بن ثابت]

و هذا كثير مهيع و إن كان الأمر يوجد متداخلا بعضه على بعض.(5:17)

القرطبيّ: و صوّرهنّ و سخّرهنّ،فالكناية ترجع إلى الشّمس و القمر و اللّيل و النّهار.و قيل للشّمس و القمر خاصّة،لأنّ الاثنين جمع.و قيل:الضّمير عائد على معنى الآيات.(15:364)

البيضاويّ: الضّمير للأربعة المذكورة، و المقصود تعليق الفعل بهما،إشعارا بأنّهما من عداد ما لا يعلم و لا يختار.(2:349)

مثله المشهديّ.(9:207)

النّيسابوريّ: و الضّمير في(خلقهن)للآيات أو للّيل و ما عطف عليه،و لم يغلّب المذكّر،لأنّ ذلك قياس مع العقلاء.(25:10)

أبو حيّان :و الضّمير في(خلقهن)عائد على اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر.قال الزّمخشري:

لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى،أي الإناث، يقال:الأقلام بريتها و بريتهنّ،انتهى.يريد ما لا يعقل من الذّكر،و كان ينبغي أن يفرّق بين جمع القلّة من ذلك،فإنّ الأفصح أن يكون كضمير الواحدة،تقول:

الأجذاع انكسرت على الأفصح،و الجذوع انكسرن على الأفصح.و الّذي تقدّم في الآية ليس بجمع قلّة- أعني بلفظ واحد-و لكنّه ذكر أربعة متعاطفة،فتنزّلت

ص: 405

منزلة الجمع المعبّر عنها بلفظ واحد.

و قال الزّمخشريّ: و لمّا قال:(و من آياته،) كنّ في معنى الآيات،فقيل:(خلقهن)انتهى.يعني أنّ التّقدير:و اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر آيات من آياته،فعاد الضّمير على آيات الجمع المقدّر في المجرور.

و قيل:يعود على الآيات المتقدّم ذكرها.و قيل:

على الشّمس و القمر،و الاثنان جمع،و جمع ما لا يعقل يؤنّث،و من حيث يقال:شموس و أقمار،لاختلافهما بالأيّام و اللّيالي،ساغ أن يعود الضّمير مجموعا.

(7:498)

السّمين:قوله:(خلقهن)في هذا الضّمير ثلاثة أوجه:

أحدها:أنّه يعود على الأربعة المتعاطفة،و في مجيء الضّمير كضمير الإناث،كما قال الزّمخشريّ.

[ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و ردّ أبي حيّان عليه و أضاف:]

قلت:و الزّمخشريّ ليس في مقام بيان الفصيح و الأفصح،بل في مقام كيفيّة فجيء الضّمير ضمير إناث بعد تقدّم ثلاثة أشياء مذكّرات و واحد مؤنّث، فالقاعدة تغليب المذكّر على المؤنّث،أو لمّا قال:

(و من آياته)كنّ في معنى الآيات،فقيل:(خلقهن،) ذكره الزّمخشريّ أيضا أنّه يعود على لفظ الآيات.

الثّالث:أنّه يعود على الشّمس و القمر؛لأنّ الاثنين جمع،و الجمع مؤنّث،و لقولهم:شموس و أقمار.

(6:67)

نحوه الشّربينيّ.(3:519)

البروسويّ: الضّمير للأربعة،لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى و إن كان المناسب تغليب المذكّر،و هو ما عدا الشّمس على المؤنّث و هو الشّمس، أو لأنّها عبارة عن الآيات.(8:265)

الآلوسيّ: الضّمير قيل:للأربعة المذكورة، و المقصود تعليق الفعل بالشّمس و القمر،لكن نظم معهما اللّيل و النّهار إشعارا بأنّهما من عداد ما لا يعلم، و لا يختار ضرورة أنّ اللّيل و النّهار كذلك،و لو ثنّي الضّمير لم يكن فيه إشعار بذلك.و حكم جماعة ما لا يعقل-على ما قال الزّمخشريّ-حكم الأنثى.[ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و غيره](24:125)

ابن عاشور :عطف على جملة قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فصّلت:9، الآية عطف القصّة على القصّة،فإنّ المقصود من ذكر خلق العوالم أنّها دلائل على انفراد اللّه بالإلهيّة،فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنّها من آيات اللّه،انتقالا في أفانين الاستدلال،فإنّه انتقال من الاستدلال بذوات من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات،فابتدئ ببعض الأحوال السّماويّة و هي حال اللّيل و النّهار،و حال طلوع الشّمس و طلوع القمر،ثمّ ذكر بعده بعض الأحوال الأرضيّة بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فصّلت:39.

و يدلّ لهذا الانتقال أنّه انتقل من أسلوب الغيبة، من قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ فصّلت:13،إلى قوله:(و لا)

ص: 406

تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ فصّلت:34،إلى أسلوب خطابهم،رجوعا إلى خطابهم الّذي في قوله:

أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فصّلت:39.(62:25)

خلقك

1- قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً.

الكهف:37

ابن عبّاس: من آدم و آدم من تراب.(247)

الطّبريّ: يعني خلق أباك آدم من تراب.

(8:224)

نحوه الثّعلبيّ(6:171)،و البغويّ(3:193)، و الميبديّ(5:692).

الطّوسيّ: و معنى خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ: أنّ أصلك من تراب؛إذ خلق أباك آدم عليه السّلام من تراب،فهو من تراب و يصير إلى التّراب،و قيل لمّا كانت النّطفة يخلقها اللّه بمجرى العادة من الغذاء،و الغذاء نبت من التّراب،جاز أن يقال:خلقك من تراب،لأنّ أصله تراب كما قال:من نطفة،و هو في هذه الحال خلق سويّ حيّ،لكن لمّا كان أصله كذلك،جاز أن يقال ذلك.(7:43)

نحوه الطّبرسيّ.(3:471)

الواحديّ: يعني أصل الخلقة.(3:149)

الزّمخشريّ: أي خلق أصلك،لأنّ خلق أصله سبب في خلقه،فكان خلقه خلقا له.(2:484)

نحوه النّسفيّ(3:13)،و الشّربينيّ(2:377).

الفخر الرّازيّ: فيه بحثان:البحث الأوّل:أنّ الإنسان الأوّل قال: وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً الكهف:36،و هذا الثّاني كفّره حيث قال: أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، و هذا يدل على أنّ الشّاكّ في حصول البعث كافر.

البحث الثّاني:هذا الاستدلال يحتمل وجهين:

الأوّل:يرجع إلى الطّريقة المذكورة في القرآن و هو أنّه تعالى لمّا قدر على الابتداء وجب أن يقدر على الإعادة فقوله: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً إشارة إلى خلق الإنسان في الابتداء.

الوجه الثّاني:أنّه لمّا خلقك هكذا فلم يخلقك عبثا،و إنّما خلقك للعبوديّة،و إذا خلقك لهذا المعنى وجب أن يحصل للمطيع ثواب و للمذنب عقاب، و تقريره ما ذكرناه في سورة يس.(21:126)

النّيسابوريّ: أي خلق أصلك،و هو إشارة إلى مادّته البعيدة.(15:133)

أبو حيّان :و قوله: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ إمّا أن يراد خلق أصلك مِنْ تُرابٍ و هو آدم عليه السّلام و خلق أصله سبب في خلقها،فكان خلقه خلقا له،أو أريد أنّ ماء الرّجل يتولّد من أغذية راجعة إلى التّراب،فنبّهه أوّلا على ما تولّد منه ماء أبيه،ثمّ ثانيه على النّطفة الّتي هي ماء أبيه.و أمّا ما نقل من أنّ ملكا و كلّ بالنّطفة يلقي فيها قليلا من تراب قبل دخولها في الرّحم، فيحتاج إلى صحّة نقل.(6:127)

ابن كثير :و هذا إنكار و تعظيم لما وقع فيه من

ص: 407

جحود ربّه الّذي خلقه،و ابتدأ خلق الإنسان من طين و هو آدم،ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين،كما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ البقرة:28،أي كيف تجحدون ربّكم.

و دلالته عليكم ظاهرة جليّة،كلّ أحد يعلمها من نفسه،فإنّه ما من أحد من المخلوقات إلاّ و يعلم أنّه كان معدوما،ثمّ وجد و ليس وجوده من نفسه و لا مستندا إلى شيء من المخلوقات،لأنّه بمثابته،فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه،و هو اللّه لا إله إلاّ هو خالق كلّ شيء.(4:387)

أبو السّعود : بِالَّذِي خَلَقَكَ أي في ضمن خلق أصلك مِنْ تُرابٍ فإنّ خلق آدم عليه السّلام منه متضمّن لخلقه منه،لما أنّ خلق كلّ فرد من أفراد البشر له حظّ من خلقه عليه السّلام؛إذ لم تكن فطرته الشّريفة مقصورة على نفسه.بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليّا مستتبعا لجريان آثارها على الكلّ،فكان خلقه عليه السّلام من التّراب خلقا للكلّ منه.و قيل:خلقك منه لأنّه أصل مادّتك؛ إذ به يحصل الغذاء الّذي منه تحصل النّطفة فتدبّر.(4:190)

الكاشانيّ: فإنّه أصل مادّتك و مادّة أصلك.

(3:242)

الآلوسيّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنّه مادّة أصله،و كون ذلك مبنيّا على صحّة قياس المساواة خيال واه.و قيل:خلقك منه لأنّه أصل مادّتك؛إذ ماء الرّجل يتولّد من أغذية راجعة إلى التّراب،فالإسناد مجاز من إسناد ما للسّبب إلى المسبّب فتدبّر.(15:276)

المراغيّ: أكفرت بالّذي خلقك من التّراب؟إذ غذاء والديك من النّبات و الحيوان،و غذاء النّبات من التّراب و الماء،و غذاء الحيوان من النّبات،ثمّ يصير هذا الغذاء دما يتحوّل بعضه إلى نطفة،يكون منها خلقك بشرا سويّا على أتمّ حال و أحكمه،بحسب ما تقتضيه الحكمة،فهذا الّذي خلقك على هذه الحال قادر على أن يخلقك مرّة أخرى.(15:150)

ابن عاشور :و الاستفهام في قوله: أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مستعمل في التّعجّب و الإنكار،و ليس على حقيقته،لأنّ الصّاحب كان يعلم أن صاحبه مشرك بدليل قوله: وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. فالمراد بالكفر هنا:الإشراك الّذي من جملة معتقداته إنكار البعث،و لذلك عرّف بطريق الموصوليّة،لأنّ مضمون الصّلة من شأنه أن يصرف من يدركه عن الإشراك به، فإنّهم يعترفون بأنّ اللّه هو الّذي خلق النّاس،فما كان غير اللّه مستحقّا للعبادة.

ثمّ إنّ العلم بالخلق الأوّل من شأنه أن يصرف الإنسان عن إنكار الخلق الثّاني،كما قال تعالى:

أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ق:15،و قال: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الرّوم:27،فكان مضمون الصّلة تعريضا بجهل المخاطب.(15:68)

مغنيّة:قال المؤمن للكافر مقرّعا و موبّخا:أ تجحد

ص: 408

خالقك،و دلائله ظاهرة فيك؟من أين جاءتك الحياة بعقلها و سمعها و بصرها،و لم تك من قبل شيئا مذكورا؟

(5:129)

الطّباطبائيّ: و قد أبطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله: أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً، بإلفات نظره إلى أصله و هو التّراب ثمّ النّطفة،فإنّ ذلك هو أصل الإنسان،فما زاد على ذلك حتّى يصير الإنسان إنسانا سويّا ذا صفات و آثار من موهبة اللّه محضا لا يملك أصله شيئا من ذلك،و لا غيره من الأسباب الظّاهريّة الكونيّة،فإنّها أمثال الإنسان لا تملك شيئا من نفسها و آثار نفسها إلاّ بموهبة من اللّه سبحانه.

فما عند الإنسان،و هو رجل سويّ من الإنسانيّة و آثارها،من علم و حياة و قدرة و تدبير يسخّر بها الأسباب الكونيّة في سبيل الوصول إلى مقاصده و مآربه،كلّ ذلك مملوكة للّه محضا،آتاها الإنسان و ملّكه إيّاها،و لم يخرج بذلك عن ملك اللّه و لا انقطع عنه،بل تلبّس الإنسان منها بما تلبّس،فانتسب إليه بمشيئته،و لو لم يشأ لم يملك الإنسان شيئا من ذلك، فليس للإنسان أن يستقلّ عنه تعالى في شيء من نفسه و آثار نفسه،و لا لشيء من الأسباب الكونيّة ذلك.

يقول:إنّك ذاك التّراب ثمّ المنيّ الّذي ما كان يملك من الإنسانيّة و الرّجوليّة و آثار ذلك شيئا،و اللّه سبحانه هو الّذي آتاكها بمشيئته و ملّكها إيّاك،و هو المالك لما ملّكك،فما لك تكفر به و تستر ربوبيّته؟ و أين أنت و الاستقلال؟(13:313)

مكارم الشّيرازيّ: هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغنيّ المغرور العديم الإيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.[و شرحها]

(9:241)

2- اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ. الانفطار:7

ابن عبّاس: نسمة من نطفة.(503)

نحوه القرطبيّ.(19:244)

الطّبريّ: يقول:الّذي خلقك أيّها الإنسان فسوّى خلقك.(12:479)

الزّجّاج: أي خلقك في أحسن تقويم.(5:295)

نحوه الميبديّ.(10:406)

الواحديّ: أي من نطفة و لم تك شيئا.(4:436)

مثله الطّبرسيّ(5:449)،و الشّوكانيّ(5:486).

الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَكَ فاعلم أنّه تعالى لمّا وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثّلاثة،كالدّلالة على تحقّق ذلك الكرم،أوّلها:

الخلق،و هو قوله: اَلَّذِي خَلَقَكَ و لا شكّ أنّه كرم وجود،لأنّ الوجود خير من العدم،و الحياة خير من الموت،و هو الّذي قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ البقرة:28.و ثانيها:قوله:

(فسويك)أي جعلك سويّا سالم الأعضاء تسمع و تبصر.و نظيره قوله: أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً الكهف:37.

(31:80)

السّمين:قوله: اَلَّذِي خَلَقَكَ يحتمل الاتباع

ص: 409

على البدل،و البيان،و النّعت،و القطع إلى الرّفع أو النّصب.(6:488)

الشّربينيّ: أي أوجدك من العدم مهيّأ بتقدير الأعضاء.(4:497)

البروسويّ: صفة ثانية مقرّرة للرّبوبيّة مبيّنة للكرم،لأنّ الخلق إعطاء الوجود،و هو خير من العدم منبّهة على أنّ من قدر على الخلق و ما يليه بدء قدر عليه إعادة،أي خلقك بعد أن لم تكن شيئا.

(10:358)

الآلوسيّ: صفة ثانية مقرّرة للرّبوبيّة مبيّنة للكرم،مومية إلى صحّة ما كذب من البعث و الجزاء، موطئة لما بعد؛حيث نبّهت على أنّ من قدر على ذلك بدء أقدر عليه إعادة.(30:64)

الطّباطبائيّ: و قوله: اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ. بيان لربوبيّته المتلبّسة بالكرم،فإنّ من تدبيره خلق الإنسان بجمع أجزاء وجوده،ثمّ تسويته بوضع كلّ عضو فيما يناسبه من الموضع على ما يقتضيه الحكمة،ثمّ عدله بعدل بعض أعضائه و قواه ببعض،بجعل التّوازن و التّعادل بينها،فما يضعف عنه عضو يقوى عليه عضو،فيتمّ به فعله.كما أنّ الأكل مثلا بالالتقام و هو للفم،و يضعف الفم عن قطع اللّقمة و نهشها و طحنها فيتمّ ذلك بمختلف الأسنان،و يحتاج ذلك إلى نقل اللّقمة من جانب من الفم إلى آخر، و قلبها من حال إلى حال،فجعل ذلك للسان،ثمّ الفم يحتاج في فعل الأكل إلى وضع الغذاء فيه،فتوصل إلى ذلك باليد و تمّم عملها بالكفّ و عملها بالأصابع- على اختلاف منافعها-و عملها بالأنامل،و تحتاج اليد في الأخذ و الوضع إلى الانتقال المكاني نحو الغذاء، و عدل ذلك بالرّجل.

و على هذا القياس في أعمال سائر الجوارح و القوى،و هي ألوف و ألوف لا يحصيها العدّ،و الكلّ من تدبيره تعالى،و هو المفيض لها من غير أن يريد بذلك انتفاعا لنفسه،و من غير أن يمنعه من إفاضتها ما يقابله به الإنسان من نسيان الشّكر و كفران النّعمة، فهو تعالى ربّه الكريم.(20:225)

مكارم الشّيرازيّ: فالآية قد طرحت مراحل خلق الإنسان الأربعة:أصل الخلقة،التّسوية،التّعديل، و من ثمّ التّركيب.

ففي المرحلة الأولى:يبدأ خلق الإنسان من نطفة في ظلمات رحم الأمّ.

و في المرحلة الثّانية:مرحلة«التّسوية و التّنظيم» و فيها يقدّر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقّة.

فلو أمعن الإنسان النّظر في تكوين عينه أو أذنه أو قلبه،و عروقه و سائر أعضائه،و ما أودع فيها من ألطاف و مواهب و قدرات إلهيّة،لتجسم (1)أمامه عالما من العلم و القدرة و اللّطف و الكرم الإلهيّ، عطاء ربّانيّ قد شغل العلماء آلاف السّنين بالتّفكير و البحث و التّأليف،و لا زالوا في أوّل الطّريق...

و في المرحلة الثّالثة:يكون التّعديل بين القوىا.

ص: 410


1- كذا و الظّاهر ليجسّم أمامه عالما.

و الأعضاء،و تحكيم الارتباط فيما بينها.

و بدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين،فاليدين،الرّجلين،العينين،الأذنين، العظام،العروق،الأعصاب،و العضلات،قد توزّعت جميعها على هذين القسمين متجانس و مترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمّل بعضها للبعض الآخر،فجهاز التّنفّس مثلا يساعد في عمل الدّورة الدّمويّة،و الدّورة الدّمويّة بدورها تقدّم يد العون إلى عمليّة التّنفّس،و لأجل ابتلاع لقمة غذاء،لا تصل إلى الجهاز الهضميّ إلاّ بعد أن يؤدّي كلّ من:الأسنان،اللّسان،الغدد و عضلات الفم دوره الموكّل به،و من ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضميّ على إتمام عمليّة الهضم و امتصاص الغذاء،لينتج منه القوّة اللاّزمة للحركة و الفعّاليّة...(19:429)

خلقكم

1- يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. البقرة:21

لاحظ:ابن عبّاس(5)،الطّبريّ(1:197)، و الزّجّاج(1:97)،و الثّعلبيّ(1:166)، و الواحديّ(1:98)،و البغويّ(1:93)،و الميبديّ (1:98)،و الزّمخشريّ(1:228)،و الطّبرسيّ(1:

60)،و الفخر الرّازيّ(2:100)،و القرطبيّ(1:

226)،و البيضاويّ(1:32)،و النّسفيّ(1:28)، و النّيسابوريّ(1:190)و ابن جزيّ(1:40)، و أبو حيّان(1:94)،و السّمين(1:145)، و الشّربينيّ(1:32)،و أبو السّعود(1:81)، و الكاشانيّ(1:86)،و البروسويّ(1:74)، و الشّوكانيّ(1:64)،و الآلوسيّ(1:184)،و ابن عاشور(1:321)،و مكارم الشّيرازيّ(1:100).

2- يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.... النّساء:1

لاحظ:ن ف س:«نفس».

3- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها. الأعراف:189

البروسويّ: (خلقكم)جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك بوجه من الوجوه.

(3:294)

الآلوسيّ: استئناف لبيان ما يقتضي التّوحيد الّذي هو المقصد الأعظم،و إيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدإ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشّأن الّذي خلقكم جميعا وحده،من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلا.(9:137)

ابن عاشور :جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيّا،عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التّوحيد،و إبطال الشّرك من الّذي سلف ذكره في قوله: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الأعراف:172،و ليست من القول المأمور به في قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا الأعراف:188،لأنّ ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرّسالة و علم الرّسول

ص: 411

بالغيب،و قد تمّ ذلك،فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاما موجّها من اللّه تعالى إلى المشركين،لإقامة الحجّة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم و إشراك آبائهم.

و مناسبة الانتقال جريان ذكر اسم اللّه في قوله:

إِلاّ ما شاءَ اللّهُ الأعراف:188،و ضمير الخطاب في (خلقكم)للمشركين من العرب،لأنّهم المقصود من هذه الحجج و التّذكير،و إن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر،و قد صدر ذلك بالتّذكير بنعمة خلق النّوع المبتدإ بخلق أصله،و هو آدم و زوجه حوّاء تمهيدا للمقصود.

و تعليق الفعل باسم الجمع في مثله في الاستعمال، يقع على وجهين:

أحدهما:أن يكون المراد الكلّ المجموعيّ،أي جملة ما يصدق عليه الضّمير،أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة،فتكون النّفس هي نفس آدم الّذي تولّد منه جميع البشر.

و ثانيهما:أن يكون المراد:الكلّ الجميعيّ،أي خلق كلّ أحد منكم من نفس واحدة،فتكون النّفس هي الأب،أي أبو كلّ واحد من المخاطبين،على نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى الحجرات:13،و قوله: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى القيمة:39.(8:383)

عبد الكريم الخطيب :اللّه سبحانه و تعالى هو الخالق المصوّر لكلّ مخلوق في السّماوات أو في الأرض،و الإنسان هو من بعض ما خلق اللّه:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها.

فلينظر الإنسان ممّ خلق؟و لينظر كيف كان خلقه،و على أيّة صورة صوّر؟

فهذا العالم البشريّ كلّه مخلوق من نفس واحدة.

(5:537)

و لاحظ:ن ف س«نفس واحدة».

4- وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.

النّحل:70

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و اللّه خلقكم أيّها النّاس و أوجدكم،و لم تكونوا شيئا،لا الآلهة الّتي تعبدون من دونه،فاعبدوا الّذي خلقكم دون غيره.

(7:615)

نحوه الواحديّ(3:73)،و الميبديّ(5:413)، و الخازن(4:84)،و البروسويّ(5:54).

الطّوسيّ: هذه الآية فيها تعديد لنعم اللّه تعالى على عباده،شيئا بعد شيء،ليشكروه عليها،و بحسبها يقول اللّه:إنّي أنا الّذي خلقتكم و أخرجتكم من العدم إلى الوجود،و أنعمت عليكم بضروب النّعم،دينيّة و دنياويّة.(6:404)

نحوه الطّبرسيّ.(3:372)

القشيريّ: خلق الإنسان في أحسن تركيب، و أملح ترتيب،في الأعضاء الظّاهرة و الأجزاء الباطنة،و النّور و الضّياء،و الفهم و الذّكاء،و رزقه

ص: 412

من العقل و التّفكّر،و العلم و التّبصّر،و فنون المناقب الّتي خصّ بها من الرّأي و التّدبير،ثمّ في آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودا،و يرى في كلّ يوم ألما جديدا.(3:307)

الفخر الرّازيّ: في الآية مسائل:

المسألة الأولى:لمّا ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات،ذكر بعده بعض عجائب أحوال النّاس،فمنها:ما هو مذكور في هذه الآية،و هو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان،و العقلاء ضبطوها في أربع مراتب:

أوّلها:سنّ النّشوء و النّماء.

و ثانيها:سنّ الوقوف،و هو سنّ الشّباب.

و ثالثها:سنّ الانحطاط القليل و هو سنّ الكهولة.

و رابعها:سنّ الانحطاط الكبير،و هو سنّ الشّيخوخة.

فاحتجّ تعالى بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض،على أنّ ذلك النّاقل هو اللّه تعالى، و الأطبّاء الطّبائعيّون قالوا:المقتضي لهذا الانتقال هو طبيعة الإنسان،و أنا أحكي كلامهم على الوجه الملخّص،و أبيّن ضعفه و فساده،و حينئذ يبقى أنّ ذلك النّاقل هو اللّه سبحانه،و عند ذلك يصحّ بالدّليل العقليّ ما ذكر اللّه تعالى في هذه الآية.[فذكر كلامهم و أبطله ثمّ قال:]

إذا عرفت هذا فقد صحّ بالدّليل العقليّ صدق قوله: وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ لأنّه ثبت أنّ خالق أبدان النّاس و سائر الحيوانات ليس هو الطّبائع بل هو اللّه سبحانه.(20:74-76)

ابن عاشور :انتقال من الاستدلال بدقائق صنع اللّه على وحدانيّته،إلى الاستدلال بتصرّفه في الخلق -التّصرّف الغالب لهم الّذي لا يستطيعون دفعه-على انفراده بربوبيّتهم،و على عظيم قدرته.كما دلّ عليه تذييلها بجملة إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ فهو خلقهم بدون اختيار منهم،ثمّ يتوفّاهم كرها عليهم أو يردّهم إلى حالة يكرهونها،فلا يستطيعون ردّا لذلك و لا خلاصا منه،و بذلك يتحقّق معنى العبوديّة بأوضح مظهر.

و ابتدأت الجملة باسم الجلالة للغرض الّذي شرحناه عند قوله تعالى: وَ اللّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً النّحل:65،و أمّا إعادة اسم الجلالة هنا دون الإضمار،فلأنّ مقام الاستدلال يقتضي تكرير اسم المستدلّ-بفتح الدّال-على إثبات صفاته تصريحا واضحا.

و جيء بالمسند فعليّا لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعليّ في الإثبات،نحو:أنا سعيت في حاجتك.

و قد تقدّم نظيره في قوله تعالى: وَ اللّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً النّحل:65،فهذه عبرة و هي أيضا منّة، لأنّ الخلق و هو الإيجاد نعمة لشرف الوجود و الإنسانيّة،و في التّوفّي أيضا نعم على المتوفّى،لأنّ به تندفع آلام الهرم،و نعم على نوعه إذ به ينتظم حال أفراد النّوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم،هذا كلّه بحسب الغالب فردا و نوعا،و اللّه يخصّ بنعمته و بمقدارها من يشاء.(13:169)

ص: 413

5- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. الرّوم:20

ابن عبّاس: من آدم و آدم من تراب،و أنتم أولاده.(340)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و من حججه على أنّه القادر على ما يشاء أيّها النّاس من إنشاء و إفناء، و إيجاد و إعدام،و أنّ كلّ موجود فخلقه خلقة أبيكم من تراب،يعني بذلك خلق آدم من تراب،فوصفهم بأنّه خلقهم من تراب،إذ كان ذلك فعله بأبيهم آدم، كنحو الّذي قد بيّنّا فيما مضى من خطاب العرب من خاطبت بما فعلت بسلفه،من قولهم:فعلنا بكم و فعلنا.

(10:175)

الزّجّاج: أي من العلامات الّتي تدلّ على أنّ اللّه واحد لا مثيل له،ظهور القدرة الّتي يعجز عنها المخلوقون،و معنى خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، أي خلق آدم من تراب.(4:181)

القشيريّ: خلق آدم من التّراب،ثمّ من آدم الذّرّيّة.فذكّرهم نسبتهم لئلاّ يعجبوا بأحوالهم.

و يقال:الأصل تربة و لكن العبرة بالتّربية لا بالتّربة،القيمة لما منه لا لأعيان المخلوقات.اصطفى و اختار«الكعبة»فهي أفضل من الجنّة؛الجنّة جواهر و يواقيت،و البيت حجر،و لكن البيت مختاره و هذا المختار حجر،و اختار الإنسان،و هذا المختار مدر، و الغنيّ غنيّ لذاته،غنيّ عن كلّ غير من رسم و أثر.

(5:112)

الميبديّ: أي خلقكم في أصل الإنشاء من تراب، لأنّكم بنو آدم و آدم خلق من تراب،و إذا كان الأصل ترابا فالفرع كذلك.

و قيل:تقديره:خلق أباكم من تراب فحذف المضاف.(7:445)

الزّمخشريّ: لأنّه خلق أصلهم منه.(3:218)

نحوه البيضاويّ.(2:219)

أبو البركات: (ان)و صلتها،في موضع رفع على الابتداء،و الجارّ و المجرور قبلها خبرها،و تقديره:

و خلقكم من تراب من آياته.(2:249)

6- وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ.

الشّعراء:184

راجع:ج ب ل:«الجبلّة».

7- اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ. الرّوم:40

ابن عبّاس: نسما في بطون أمّهاتكم،ثمّ أخرجكم و فيكم الرّوح.(341)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره للمشركين به، معرّفهم قبح فعلهم،و خبث صنيعهم اللّه:أيّها القوم الّذي لا تصلح العبادة إلاّ له،و لا ينبغي أن تكون لغيره،هو الّذي خلقكم و لم تكونوا شيئا،ثمّ رزقكم و خوّلكم،و لم تكونوا تملكون قبل ذلك،ثمّ هو يميتكم من بعد أن خلقكم أحياء،ثمّ يحييكم من بعد مماتكم لبعث القيامة.(10:190)

ص: 414

الطّوسيّ: خاطب تعالى خلقه،فقال: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ بعد أن لم تكونوا موجودين.(8:255)

الزّمخشريّ: (اللّه)مبتدأ،و خبره اَلَّذِي خَلَقَكُمْ أي اللّه هو فاعل هذه الأفعال الخاصّة الّتي لا يقدر على شيء منها أحد غيره...و يجوز أن يكون اَلَّذِي خَلَقَكُمْ صفة للمبتدإ و الخبر هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ. (3:224)

نحوه القرطبيّ.(14:40)

ابن عاشور :هذا الاستئناف الثّاني من الأربعة الّتي أقيمت عليها دلائل انفراد اللّه تعالى بالتّصرّف في النّاس و إبطال ما زعموه من الإشراك في الإلهيّة،كما أنبأ عنه قوله: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، و إدماجا للاستدلال على وقوع البعث.و قد جاء هذا الاستئناف على طريقة قوله: اَللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يونس:34،و اطّرد الافتتاح بمثله في الآيات الّتي أريد بها إثبات البعث،كما تقدّم عند قوله تعالى: اَللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يونس:34، و سيأتي في الآيتين بعد هذه.(21:62)

مكارم الشّيرازيّ: و في الآية الأخيرة عودة أخرى إلى مسألة المبدإ و المعاد،و هي الموضوع الأساسيّ الّذي ورد في كثير من آيات هذه السّورة...

و تصف الآية(اللّه)بأربعة أوصاف،لتكون إشارة للتّوحيد و مواجهة الشّرك،و دليلا على المعاد أيضا، فتقول: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ.

و من المسلّم به أنّ المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأنّ الخلق كان من قبل الأوثان،أو أنّ أرزاقهم بيد الأوثان و الأصنام،أو أنّ نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك،بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسطة و شفعاء بينهم و بين اللّه؛فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النّفي،و الاستفهام هنا استفهام إنكاريّ.

الموضوع الآخر الّذي يثير السّؤال هنا هو أنّ أولئك المشركين لم يكونوا يعتقدون بالحياة بعد الموت، فكيف يستند القرآن في آخر وصف للّه تعالى إلى ذلك؟

لعلّ هذا التّعبير هو لأنّ مسألة المعاد و الحياة بعد الموت-كما ذكرناها في بحوثنا المتقدّمة-لها جنبة فطريّة،و القرآن هنا لا يستند إلى معتقداتهم،بل إلى فطرتهم.

إضافة إلى ذلك فقد يتّفق أنّ متكلّما ذلقا حين يواجه شخصا آخر ينكر موضوعا ما،فيستدرجه بما لديه من حقائق يتقبّلها ذلك الآخر،و يستند إليها بشكل قطعيّ ليظهر أثرها،و ينزل صاحبه من مركب الإنكار.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ بين الحياة الأولى-من قبل اللّه و قدرته على ذلك-و الحياة بعد الموت رابطة لا تقبل الانفصام،و مع ملاحظة هذه الرّابطة المنطقيّة فإنّ كلا الأمرين جاءا في عبارة واحدة.

و على كلّ حال فإنّ القرآن يقول:عند ما يكون الخلق و الرّزق و الموت و الحياة بيد اللّه،فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط،و يكشف هذه الحقيقة بقوله:

ص: 415

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ و هي أنّ المشركين أهانوا كثيرا مقام ربّ العزّة؛إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.(12:495)

فضل اللّه : اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ و هذه هي الحقيقة الّتي لا تستطيعون الشّكّ فيها،لأنّكم لم تخلقوا أنفسكم و لم يخلقكم أحد من هؤلاء الّذين من حولكم.

(18:143)

8- اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. الرّوم:54

لاحظ:ض ع ف:«من ضعف».

9- وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. فصّلت:21

ابن عبّاس: أنطقكم.(402)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و اللّه خلقكم الخلق الأوّل و لم تكونوا شيئا.(11:100)

الطّوسيّ: إخبار منه تعالى و خطاب لخلقه بأنّه الّذي خلقهم في الابتداء.(9:118)

الميبديّ: غير ناطق ثمّ أنطقكم.(8:516)

الفخر الرّازيّ: معناه:أنّ القادر على خلقكم و إنطاقكم في المرّة الأولى حالما كنتم في الدّنيا،ثمّ على خلقكم و إنطاقكم في المرّة الثّانية و هي حال القيامة و البعث،يستبعد منه إنطاق الجوارح و الأعضاء؟

(27:117)

نحوه النّيسابوري.(24:64)

القرطبيّ: أي ركّب الحياة فيكم بعد أن كنتم نطفا،فمن قدر عليه قدر على أن ينطق الجلود و غيرها من الأعضاء.و قيل: وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ابتداء كلام من اللّه.(15:350)

الطّباطبائيّ: و قوله: وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ من تتمّة الكلام السّابق أو هو من كلامه،و هو احتجاج على علمه بأعمالهم،و قد أنطق الجوارح بما علم.

يقول:إنّ وجودكم يبتدئ منه تعالى،و ينتهي إليه تعالى،فعند ما تظهرون من كتم العدم و هو خلقكم أوّل مرّة يعطيكم الوجود و يملّككم الصّفات و الأفعال فتنسب إليكم ثمّ ترجعون و تنتهون إليه،فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه،فلا يبقى ملك إلاّ و هو للّه سبحانه.

و بما مرّ من البيان يظهر وجه تقييد قوله: وَ هُوَ خَلَقَكُمْ بقوله: أَوَّلَ مَرَّةٍ فالمراد به أوّل وجودهم.

(17:380)

ابن عاشور :يجوز أن تكون هذه الجملة و الّتي عطفت عليها من تمام ما أنطق اللّه به جلودهم قتفّي (1)على مقالتها،تشهيرا بخطئهم في إنكارهم البعث، و المصير إلى اللّه لزيادة التّنديم و التّحسير.و هذا ظاهر كون«الواو»في أوّل الجملة واو العطف،فيكون التّعبير بالفعل المضارع في قوله: وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَي.

ص: 416


1- كذا و الظّاهر:تقفّي.

لاستحضار حالتهم،فإنّهم ساعتئذ في قبضة تصرّف اللّه مباشرة.(25:38)

فضل اللّه :و لم تكونوا شيئا مذكورا بل كنتم في قبضة العدم.(20:109)

10- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. التّغابن:2

لاحظ:ك ف ر:«كافر».

11- وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً. نوح:14

لاحظ:ط و ر:«اطوارا».

خلقنى

اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. الشّعراء:78

ابن عبّاس: من النّطفة.(309)

الثّعلبيّ: وصفه فقال: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أخبر أنّ الهادي على الحقيقة هو الخالق لا هادي غيره.

قال أهل اللّسان:الّذي خلقني في الدّنيا على فطرته فهو يهديني في الآخرة إلى جنّته.(7:167)

الماورديّ: فيه وجهان:

أحدهما:الّذي خلقني بنعمته فهو يهدين لطاعته.

الثّاني:الّذي خلقني لطاعته فهو يهديني لجنّته.

فإن قيل:فهذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته و لم يهتد بها غيره؟

قيل:إنّما ذكرها احتجاجا على وجوب الطّاعة، لأنّ من أنعم وجب أن يطاع و لا يعصى،ليلتزم غيره من الطّاعة ما قد التزمها،و هذا إلزام صحيح.

(4:175)

الطّوسيّ: أخرجني من العدم إلى الوجود.

(8:32)

مثله الطّبرسيّ.(4:193)

الميبديّ: الّذي خلقني في الدّنيا على فطرته فهو يهدين في الآخرة إلى جنّته.و قيل:الّذي خلقني و لم أك شيئا فهو يهديني إلى الرّشاد؛إذ عبدته و لم أشرك به شيئا.(7:117)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا حكى عنه أنّه استثنى ربّ العالمين،حكى عنه أيضا ما وصفه به ممّا يستحقّ العبادة لأجله،ثمّ حكى عنه ما سأله عنه، أمّا الأوصاف فأربعة:

أوّلها:قوله: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ.

و اعلم أنّه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى الأعلى:2،3،و اعلم أنّ الخلق و الهداية،بهما يحصل جميع المنافع لكلّ من يصحّ الانتفاع عليه.

فلنتكلّم في الإنسان فنقول:إنّه مخلوق،فمنهم من قال:هو من عالم الخلق و الجسمانيّات،و من قال:هو من عالم الأمر و الرّوحانيّات،و تركيب البدن الّذي هو من عالم الخلق مقدّم على إعطاء القلب الّذي هو من عالم الأمر،على ما أخبر عنه سبحانه في قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ص:72،فالتّسوية إشارة إلى تعديل المزاج و تركيب الأمشاج،و نفخ

ص: 417

الرّوح إشارة إلى اللّطيفة الرّبّانيّة النّورانيّة الّتي هي من عالم الأمر،و أيضا قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:12،و لمّا تمّم مراتب تغيّرات الأجسام قال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ المؤمنون:14،و ذلك إشارة إلى الرّوح الّذي هو من عالم الملائكة،و لا شكّ أنّ الهداية إنّما تحصل من الرّوح، فقد ظهر بهذه الآيات أنّ الخلق مقدّم على الهداية.

أمّا تحقيقه بحسب المباحث الحقيقيّة،فهو أنّ بدن الإنسان إنّما يتولّد عند امتزاج المنيّ بدم الطّمث،و هما إنّما يتولّدان من الأغذية المتولّدة من تركّب العناصر الأربعة و تفاعلها،فإذا امتزج المنيّ بالدّم فلا يزال ما فيها من الحارّ و البارد و الرّطب و اليابس متفاعلا، و ما في كلّ واحد منها من القوى كاسرا سورة كيفيّة الآخر،فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفيّة متوسّطة تستحرّ بالقياس إلى البارد و تستبرد بالقياس إلى الحارّ،و كذا القول في الرّطب و اليابس،و حينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبّرة لذلك المركّب، فبعضها قوى نباتيّة و هي الّتي تجذب الغذاء،ثمّ تمسكه ثمّ تهضمه،ثمّ تدفع الفضلة المؤذية،ثمّ تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلّل منها،ثمّ تزيد في جوهر الأعضاء طولا و عرضا،ثمّ يفضل عن تلك الموادّ فضلة يمكن أن يتولّد عنها مثل ذلك.

و منها قوى حيوانيّة بعضها مدركة كالحواسّ الخمس و الخيال و الحفظ و الذّكر،و بعضها فاعلة:إمّا آمرة كالشّهوة و الغضب،أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات.

و منها قوى إنسانيّة و هي إمّا مدركة أو عاملة، و القوى المدركة هي القوى القويّة على إدراك حقائق الأشياء الرّوحانيّة و الجسمانيّة و العلويّة و السّفليّة.

ثمّ إنّك إذا فتّشت عن كلّ واحدة من مركّبات هذا العالم الجسمانيّ و مفرداتها،وجدت لها أشياء تلائمها و تكمل حالها،و أشياء تنافرها و تفسد حالها، و وجدت فيها قوى جذّابة للملائم دفّاعة للمنافي،فقد ظهر أنّ صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتمّ إلاّ بالخلق و الهداية.

أمّا الخلق فبتصييره موجودا بعد أن كان معدوما، و أمّا الهداية فبتلك القوى الجذّابة للمنافع و الدّفّاعة للمضارّ،فثبت أنّ قوله: خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدّنيا و الدّين،ثمّ هاهنا دقيقة و هو أنّه قال:(خلقنى)فذكره بلفظ الماضي و قال:(يهدين)ذكره بلفظ المستقبل،و السّبب في ذلك أنّ خلق الذّات لا يتجدّد في الدّنيا،بل لمّا وقع بقي إلى الأمد المعلوم.

أمّا هدايته تعالى فهي ممّا يتكرّر كلّ حين و أوان، سواء كان ذلك هداية في المنافع الدّنيويّة،و ذلك بأن تحكم الحواسّ بتمييز المنافع عن المضارّ،أو في المنافع الدّينيّة و ذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحقّ عن الباطل و الخير عن الشّرّ،فبيّن بذلك أنّه سبحانه هو الّذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة، و أنّه يهديه إلى مصالح الدّين و الدّنيا بضروب الهدايات في كلّ لحظة و لمحة.(24:143)

النّسفيّ: بالتّكوين في القرار المكين.(3:187)

ص: 418

النّيسابوريّ: أي خلق بدنيّ على كماله الممكن له،ثمّ يهدين في الاستقبال إلى ضروب مصالح الدّين و الدّنيا،كامتصاص الدّم في البطن و الثّدي بعد الولادة،نظيره ما مرّ في طه:50، اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى. (19:58)

أبو حيّان :و أجازوا في اَلَّذِي خَلَقَنِي النّصب على الصّفة ل رَبَّ الْعالَمِينَ، الشّعراء:77،أو بإضمار،«أعني»و الرّفع خبر مبتدإ محذوف،أي هو الّذي.و قال الحوفيّ:و يجوز أن يكون اَلَّذِي خَلَقَنِي رفعا بالابتداء، فَهُوَ يَهْدِينِ ابتداء و خبر في موضع الخبر عن اَلَّذِي و دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشّرط،انتهى.[إلى أن قال:]

و لمّا كان الخلق لا يمكن أن يدّعيه أحد لم يؤكّد فيه ب«هو»،فلم يكن التّركيب«الّذي هو خلقني» و لمّا كانت الهداية قد يمكن ادّعاؤها و الإطعام، و السّقي كذلك،أكّد ب(هو)في قوله: فَهُوَ يَهْدِينِ* وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي. (7:24)

السّمين:قوله: اَلَّذِي خَلَقَنِي يجوز فيه أوجه:

النّصب على النّعت ل رَبَّ الْعالَمِينَ أو البدل،أو عطف البيان،أو على إضمار«أعني».و الرّفع على خبر ابتداء مضمر أي:هو الّذي خلقني أو على الابتداء.(5:277)

أبو السّعود :و قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَنِي صفة ل رَبَّ الْعالَمِينَ و جعله مبتدأ و ما بعده خبرا،غير حقيق بجزالة التّنزيل.و إنّما وصفه تعالى بذلك و بما عطفه عليه مع اندراج الكلّ تحت ربوبيّته تعالى للعالمين،تصريحا بالنّعم الخاصّة به عليه الصّلاة و السّلام،و تفصيلا لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى،و قصر الالتجاء في جلب المنافع الدّينيّة و الدّنيويّة،و دفع المضارّ العاجلة و الآجلة عليه تعالى.(5:46)

نحوه الآلوسيّ.(19:95)

سيّد قطب :الّذي أنشأني من حيث يعلم و لا أعلم،فهو أعلم بماهيّتي و تكويني،و وظائفي و مشاعري،و حالي و مآلي.(5:2603)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى قوله: يَوْمَ الدِّينِ الشّعراء:82، لمّا استثنى ربّ العالمين جلّ اسمه وصفه بأوصاف تتمّ بها الحجّة،على أنّه تعالى ليس عدوّا له بل ربّ رحيم ذو عناية بحاله،منعم عليه بكلّ خير،دافع عنه كلّ شرّ، فقال: اَلَّذِي خَلَقَنِي... و أمّا قول القائل:إنّ قوله:

اَلَّذِي خَلَقَنِي... استئناف من الكلام لا يعبأ به.

فقوله: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ بدأ بالخلق، لأنّ المطلوب بيان استناد تدبير أمره إليه تعالى،بطريق إعطاء الحكم بالدّليل،و البرهان على قيام التّدبير به تعالى قيام الخلق و الإيجاد به،لوضوح أنّ الخلق و التّدبير لا ينفكّان في هذه الموجودات الجسمانيّة التّدريجيّة الوجود الّتي تستكمل الوجود على التّدريج،فليس من المعقول أن يقوم الخلق بشيء و التّدبير بشيء،و إذ كان الخلق و الإيجاد للّه سبحانه فالتّدبير له أيضا؛و لهذا عطف الهداية على الخلق ب«فاء»التّفريع،فدلّ على أنّه تعالى هو الهادي،لأنّه

ص: 419

هو الخالق.(15:283)

فضل اللّه :فهو الّذي أعطاني سرّ الحياة بكلّ عمقها و حركتها و تفاصيلها،فلم يكن الخلق وجودا ضائعا في الفراغ،بل كان نظاما شاملا للحياة،في كلّ حركة الهداية الّتي يهتدي بها الوجود إلى طعامه و شرابه و جميع أوضاعه،في حياته الخاصّة و العامّة، حتّى حركة الفكر عند ما يفكّر،و القلب عند ما ينبض، و الإحساس عند ما يرتبط بما حوله،حتّى ذلك كان في نطاق نظام الهداية الّذي أعدّه اللّه في تكوين الإنسان بطريقة واعية،تتغذّى بعفويّة الحياة في الجسم،و حركة الإرادة في العقل و الشّعور.(17:125)

خلقوا

1- ...أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ. الرّعد:16

ابن عبّاس: (خلقوا)خلقا(كخلقه)كخلق اللّه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ فتشابه كلّ الخلق(عليهم) فلا يدرون خلق اللّه من خلق آلهتهم(قل)يا محمّد اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بائن منه،لا الآلهة،لا إله إلاّ هو.(207)

مجاهد : خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فحملهم ذلك على أن شكّوا في الأوثان.(الطّبريّ 7:368)

مقاتل: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ يقول:خلقوا كما خلق اللّه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يقول:فتشابه ما خلقت الآلهة و الأصنام و ما خلق اللّه عليهم،فإنّهم لا يقدرون أن يخلقوا،فكيف يعبدون ما لا يخلق شيئا،و لا يملك، و لا يفعل،كفعل اللّه عزّ و جلّ.(2:373)

الطّبريّ: و قوله: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:قل يا محمّد لهؤلاء المشركين:أخلق أوثانكم الّتي اتّخذتموها أولياء من دون اللّه خلقا كخلق اللّه، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت و خلق اللّه، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك،أم إنّما بكم الجهل و الذّهاب عن الصّواب؟فإنّه لا يشكل على ذي عقل أنّ عبادة ما لا يضرّ و لا ينفع من الفعل جهل، و أنّ العبادة إنّما تصلح للّذي يرجى نفعه و يخشى ضرّه،كما أنّ ذلك غير مشكل خطؤه و جهل فاعله، كذلك لا يشكل جهل من أشرك في عبادة من يرزقه و يكلّفه و يموّنه،من لا يقدر له على ضرر و لا نفع.

و قوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:قل لهؤلاء المشركين إذا أقرّوا لك أنّ أوثانهم الّتي أشركوها في عبادة اللّه لا تخلق شيئا، فاللّه خالقكم و خالق أوثانكم و خالق كلّ شيء،فما وجه إشراككم ما لا يخلق و لا يضرّ؟(7:368)

الزّجّاج: أي أو أغير اللّه خلق شيئا فاشتبه عليهم خلق اللّه من خلق غيره.(3:144)

قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ و المعنى أنّه خالق كلّ شيء ممّا يصحّ أن يكون مخلوقا،أ لا ترى أنّه تعالى شيء و هو غير مخلوق.(الشّوكانيّ 3:94

الثّعلبيّ: فأصبحوا لا يدرون أ من خلق اللّه هو أو من خلق آلهتهم.(5:283)

نحوه البغويّ.(3:13)

ص: 420

الماورديّ: و معناه:أنّه لمّا لم يخلق آلهتهم الّتي عبدوها خلقا كخلق اللّه،فيتشابه عليهم خلق آلهتهم بخلق اللّه،فلمّا اشتبه عليهم حتّى عبدوها كعبادة اللّه تعالى.

قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلزم لذلك أن يعبده كلّ شيء.(3:105)

الطّوسيّ: قال:هل جعلوا؟يعني هؤلاء الكفّار للّه شركاء في العبادة،خلقوا أفعالا مثل خلق اللّه،من خلق الأجسام و الألوان و الطّعوم و الأراجيح (1)، و الموت و الحياة،و الشّهوة و النّفار،و غير ذلك من الأفعال الّتي مختصّ تعالى بالقدرة عليها،فاشتبه ذلك عليهم،فظنّوا أنّها تستحقّ العبادة،لأنّ أفعالها مثل أفعال اللّه،فإذا لم يكن ذلك شبيها بل كان معلوما لهم أنّ جميع ذلك ليست من جهة الأصنام،فقل لهم:اللّه خالق كلّ شيء،أي هو خالق جميع ذلك،يعني ما تقدّم من الأفعال الّتي يستحقّ بها العبادة.

و من تعلّق من المجبّرة بقوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه،فقد أبعد،لأنّ المراد ما قدّمناه،من أنّه تعالى خالق كلّ شيء يستحقّ بخلقه العبادة دون ما لا يستحقّ به ذلك.و لو كان المراد ما قالوه،لكان فيه حجّة للخلق على اللّه تعالى و بطل التّوبيخ الّذي تضمّنته الآية إلى من وجّه عبادته إلى الأصنام،لأنّه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو اللّه على قول المجبّرة فلا توبيخ يتوجّه على الكفّار،و لا لوم يلحقهم بل لهم أن يقولوا:إنّك خلقت فينا ذلك فما ذنبنا فيه و لم توبّخنا على فعل فعلته؟فتبطل حينئذ فائدة الآية؛على أنّه تعالى إنّما نفى أن يكون أحد يخلق مثل خلقه.

و نحن لا نقول:إنّ أحدا يخلق مثل خلق اللّه،لأنّ خلق اللّه اختراع مبتدع،و أفعال غيره مفعولة في محلّ القدرة عليه مباشرا أو متولّدا في غيره بسبب حال في محلّ القدرة،و لا يقدر أحدنا على اختراع الأفعال في غيره على وجه من الوجوه،و لأنّ أحدنا يفعل ما يجرّ به نفعا أو يدفع به ضررا،و اللّه تعالى لا يفعل لذلك، فبان الفرق بين خلقنا و خلقه.و لأنّ أحدنا يفعل بقدرة محدثة يفعلها اللّه فيه و اللّه تعالى يفعل،لأنّه قادر لنفسه.و أيضا فإنّ هاهنا أجناسا لا نقدر عليها،و هو تعالى قادر على جميع الأجناس،و نحن لا نقدر أن نفعل بقدرة واحدة في وقت واحد في محلّ واحد من جنس واحد أكثر من جزء واحد،و اللّه تعالى يقدر أن يفعل ما لا نهاية له.فبان الفرق بيننا و بينه من هذه الوجوه.

(6:237)

نحوه الطّبرسيّ.(3:285)

القشيريّ: أي لو كان له شريك لوجب أن يكون له ندّ مضاه،و في جميع الأحكام له مواز،و لم يجد حينئذ التّمييز بين فعليهما.

و كذلك لو كان له ندّ،فإنّ إثباتهما شيئين اثنين يوجب اشتراكهما في استحقاق كلّ وصف،و أن يكون أحدهما كصاحبه أيضا مستحقّا له،و هذا يؤدّي إلى5.

ص: 421


1- الصّواب:الأراييح،جمع:رائحة...كما جاء عند الطّبرسيّ 3:285.

ألاّ يعرف المحلّ...و ذلك محال.(3:223)

الميبديّ: خَلَقُوا مثل ما خلق اللّه تعالى، فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي اشتبه مخلوق اللّه بمخلوق الشّركاء عندهم،فمن أجل ذلك جعلوهم شركاء.

و هذا استفهام إنكار،أي ليس الأمر هكذا حتّى يشتبه الأمر و يجعلوهم شركاء،بل اللّه سبحانه هو المتفرّد بالخلق،و هو قوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ دخل فيه المخلوقون بصفاتهم و أفعالهم،و المخلوقات بصفاتها و أفعالها،و المخاطب لا يدخل في الخطاب، و هو الواحد المتفرّد بالخلق.(5:177)

الزّمخشريّ: خَلَقُوا صفة ل شُرَكاءَ يعني أنّهم لم يتّخذوا للّه شركاء خالقين،قد خلقوا مثل خلق اللّه فَتَشابَهَ عليهم خلق اللّه و خلقهم حتّى يقولوا:قدر هؤلاء على الخلق كما قدر اللّه عليه، فاستحقّوا العبادة،فنتّخذهم له شركاء و نعبدهم كما يعبد؛إذ لا فرق بين خالق و خالق،و لكنّهم اتّخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا خالق غير اللّه و لا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق،فلا يكون له شريك في العبادة.(2:355)

نحوه البيضاويّ(1:517)،و النّسفيّ(2:246)، و الكاشانيّ(3:64)و المشهديّ(5:96)،و البروسويّ (4:358)،و القاسميّ(9:3666).

الفخر الرّازيّ: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعني هذه الأشياء الّتي زعموا أنّها شركاء للّه ليس لها خلق يشبه خلق اللّه حتّى يقولوا:إنّها تشارك اللّه في الخالقيّة،فوجب أن تشاركه في الإلهيّة،بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضّرورة أنّ هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل البتّة، و لا خلق و لا أثر،و إذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء للّه في الإلهيّة محض السّفه و الجهل.

و في الآية مسائل:

المسألة الأولى:اعلم أنّ أصحابنا استدلّوا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجوه:

الأوّل:أنّ المعتزلة زعموا أنّ الحيوانات تخلق حركات و سكنات مثل الحركات و السّكنات الّتي يخلقها اللّه تعالى،و على هذا التّقدير فقد جعلوا للّه شركاء خلقوا كخلقه.و معلوم أنّ اللّه تعالى إنّما ذكر هذه الآية في معرض الذّمّ و الإنكار،فدلّت هذه الآية على أنّ العبد لا يخلق فعل نفسه.

قال القاضي:نحن و إن قلنا:إنّ العبد يفعل و يحدث،إلاّ أنّا لا نطلق القول بأنّه يخلق،و لو أطلقناه لم نقل:إنّه يخلق كخلق اللّه.لأنّ أحدنا يفعل بقدرة اللّه، و إنّما يفعل لجلب منفعة و دفع مضرّة،و اللّه تعالى منزّه عن ذلك كلّه،فثبت أنّ بتقدير كون العبد خالقا،إلاّ أنّه لا يكون خلقه كخلق اللّه تعالى.

و أيضا فهذا الإلزام لازم للمجبّرة،لأنّهم يقولون عين ما هو خلق اللّه تعالى،فهو كسب العبد و فعل له.

و هذا عين الشّرك،لأنّ الإله و العبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشّريكين اللّذين لا مآل لأحدهما إلاّ و للآخر فيه حقّ.

ص: 422

و أيضا فهو تعالى إنّما ذكر هذا الكلام عيبا للكفّار و ذمّا لطريقتهم،و لو كان فعل العبد خلقا للّه تعالى لما بقي لهذا الذّمّ فائدة،لأنّ للكفّار أن يقولوا على هذا التّقدير:إنّ اللّه سبحانه و تعالى لمّا خلق هذا الكفر فينا،فلم يذمّنا عليه و لا ينسبنا إلى الجهل و التّقصير، مع أنّه قد حصل فينا لا بفعلنا و لا باختيارنا.

و الجواب عن السّؤال الأوّل:أنّ لفظ«الخلق»إمّا أن يكون عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود،أو يكون عبارة عن التّقدير.و على الوجهين فبتقدير أن يكون العبد محدثا فإنّه لا بدّ و أن يكون حادثا.

أمّا قوله:و العبد و إن كان خالقا إلاّ أنّه ليس خلقه كخلق اللّه.

قلنا:الخلق عبارة عن الإيجاد و التّكوين و الإخراج من العدم إلى الوجود،و معلوم أنّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لمّا كانت مثلا للحركة الواقعة بقدرة اللّه تعالى،كان أحد المخلوقين مثلا للمخلوق الثّاني،و حينئذ يصحّ أن يقال:إنّ هذا الّذي هو مخلوق العبد مثل لما هو مخلوق للّه تعالى،بل لا شكّ في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات،إلاّ أنّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في حصول المماثلة من هذا الوجه.و هذا القدر يكفي في الاستدلال.

و أمّا قوله:هذا لازم على المجبّرة؛حيث قالوا:إنّ فعل العبد مخلوق للّه تعالى،فنقول:هذا غير لازم،لأنّ هذه الآية دالّة على أنّه لا يجوز أن يكون خلق العبد مثلا لخلق اللّه تعالى،و نحن لا نثبت للعبد خلقا البتّة، فكيف يلزمنا ذلك؟!

و أمّا قوله:لو كان فعل العبد خلقا للّه تعالى،لما حسن ذمّ الكفّار على هذا المذهب.

قلنا:حاصله يرجع إلى أنّه لمّا حصل المدح و الذّمّ،وجب أن يكون العبد مستقلاّ بالفعل،و هو منقوض،لأنّه تعالى ذمّ أبا لهب على كفره مع أنّه عالم منه أنّه يموت على الكفر،و قد ذكرنا أنّ خلاف المعلوم محال الوقوع،فهذا تقرير هذا الوجه في هذه الآية.

و أمّا الوجه الثّاني:في التّمسّك بهذه الآية قوله:

قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ و لا شكّ أنّ فعل العبد شيء، فوجب أن يكون خالقه هو اللّه،و سؤالهم عليه ما تقدّم.

و الوجه الثّالث:في التّمسّك بهذه الآية و قوله:

وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ و ليس يقال فيه أنّه تعالى واحد في أيّ المعاني،و لمّا كان المذكور السّابق هو الخالقيّة،وجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقيّة، القهّار لكلّ ما سواه،و حينئذ يكون دليلا أيضا على صحّة قولنا.

المسألة الثّانية:زعم جهم:أنّ اللّه تعالى لا يقع عليه اسم الشّيء.[و أدام البحث إلى أن قال:]

المسألة الثّالثة:تمسّك المعتزلة بهذه الآية في أنّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم و قادر لذاته لا بالقدرة.

قالوا:لأنّه لو حصل للّه تعالى علم و قدرة و حياة، لكانت هذه الصّفات إمّا أن تحصل بخلق اللّه أو لا بخلقه،و الأوّل باطل و إلاّ لزم التّسلسل،و الثّاني:

باطل لأنّ قوله: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يتناول الذّات و الصّفات،حكمنا بدخول التّخصيص فيه في حقّ ذات اللّه تعالى،فوجب أن يبقى فيما سوى الذّات على

ص: 423

الأصل،و هو أن يكون تعالى خالقا لكلّ شيء سوى ذاته تعالى،فلو كان للّه علم و قدرة لوجب كونه تعالى خالقا لهما و هو محال.و أيضا تمسّكوا بهذه الآية في خلق القرآن،قالوا:الآية دالّة على أنّه تعالى خالق لكلّ الأشياء،و القرآن ليس هو اللّه تعالى،فوجب أن يكون مخلوقا و أن يكون داخلا تحت هذا العموم.

و الجواب:أقصى ما في الباب أنّ الصّيغة عامّة،إلاّ أنّا نخصّصها في حقّ صفات اللّه تعالى بسبب الدّلائل العقليّة.(19:31)

القرطبيّ: هذا من تمام الاحتجاج،أي خلق غير اللّه مثل خلقه،فتشابه الخلق عليهم،فلا يدرون خلق اللّه من خلق آلهتهم. قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي قل لهم يا محمّد: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فلزم لذلك أن يعبده كلّ شيء.و الآية ردّ على المشركين و القدريّة الّذين زعموا أنّهم خلقوا كما خلق اللّه...

قال القشيريّ أبو نصر:و لا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصّانع،أي سلهم عن خالق السّماوات و الأرض،فإنّه يسهل تقرير الحجّة فيه عليهم،و يقرب الأمر من الضّرورة،فإنّ عجز الجماد و عجز كلّ مخلوق عن خلق السّماوات و الأرض معلوم،و إذا تقرّر هذا و بان أنّ الصّانع هو اللّه فكيف يجوز اعتداد الشّريك له؟و بيّن في أثناء الكلام أنّه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق،و لم يتميّز فعل هذا عن فعل ذلك،فبم يعلم أنّ الفعل من اثنين؟(9:303)

النّيسابوريّ: و المراد بل جعلوا لِلّهِ شُرَكاءَ خالقين مثل خلقه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ أي خلق اللّه و خلقهم(عليهم)أي ليس لهذه الشّركاء خلق مثل خلق اللّه حتّى يشتبه الأمر عليهم،بل ليس لهم خلق أصلا،بل كلّ ما سوى اللّه عاجز عن الخلق،بدليل قوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ المتوحّد بالرّبوبيّة الّذي لا يغالب،و ما عداه مربوب و مقهور.

قالت المعتزلة:للعبد فعل و تأثير،و لكنّا لا نقول:

إنّه يخلق كخلق اللّه،لأنّ العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرّة،و اللّه تعالى منزّه عن ذلك.

و أجيب بأنّ المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر،فلو كان فعل العبد كالتّحريك مثلا واقعا بقدرته،لكان مثلا للتّحريك الواقع بقدرة اللّه تعالى،و هذا الإشكال وارد أيضا على من يثبت للعبد كسبا.(13:78)

الخازن :هذا استفهام إنكار،يعني جعلوا للّه شركاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ يعني خلقوا سماوات و أرضين و شمسا و قمرا و جبالا و بحارا و جنّا و إنسا فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ من هذا الوجه،و المعنى هل رأوا غير اللّه خلق شيئا فاشتبه عليهم خلق اللّه بخلق غيره.

و قيل:إنّ اللّه تعالى وبّخهم بقوله: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا خلقا مثل خلقه،فتشابه خلق الشّركاء بخلق اللّه عندهم.و هذا استفهام إنكاريّ،أي ليس الأمر كذلك حتّى يشتبه عليهم الأمر،بل إذا تفكّروا بعقولهم وجدوا اللّه هو المنفرد بخلق سائر الأشياء و الشّركاء مخلوقون له أيضا،لا يخلقون شيئا حتّى يشتبه خلق اللّه بخلق الشّركاء،و إذا كان الأمر كذلك

ص: 424

فقد لزمتهم الحجّة،و هو قوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي قل يا محمّد لهؤلاء المشركين:اللّه خالق كلّ شيء ممّا يصحّ أن يكون مخلوقا.و قوله:خالق كلّ شيء من العموم الّذي يراد به الخصوص،لأنّ اللّه تعالى خلق كلّ شيء و هو غير مخلوق وَ هُوَ الْواحِدُ يعني و اللّه تعالى هو الواحد المنفرد بخلق الأشياء كلّها.(4:11)

نحوه الشّربينيّ.(2:153)

ابن جزيّ: (ام)هنا بمعنى:«بل و الهمزة» و(خلقوا)صفة ل(شركاء،)و المعنى أنّ اللّه وقفهم هل خلق شركاؤهم خلقا كخلق اللّه فحملهم ذلك، و اشتباهه بما خلق اللّه على أن جعلوا إلها غير اللّه.ثمّ أبطل ذلك بقوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. (2:133)

أبو حيّان :ثمّ انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائبا إعراضا عنهم،و تنبيها على توبيخهم في جعل شركاء للّه،و تعجيبا منهم،و إنكارا عليهم.و تضمّن هذا الاستفهام التّهكّم بهم،لأنّه معلوم بالضّرورة أنّ هذه الأصنام و ما اتّخذوها من دون اللّه أولياء، و جعلوهم شركاء،لا تقدر على خلق ذرّة،و لا إيجاد شيء البتّة.

و المعنى أنّ هؤلاء الشّركاء هم خالقون شيئا حتّى يستحقّوا العبادة،و جعلهم شركاء للّه،أي جعلوا للّه شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق اللّه،فتشابه ذلك عليهم،فيعبدونهم.و معلوم أنّهم لا يخلقون شيئا و هم يخلقون فكيف يشركون في العبادة؟ أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ النّحل:17.ثمّ أمره تعالى فقال: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي موجد الأشياء كلّها معبوداتهم و غيرها،و هم أيضا مقرّون بذلك، وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ العنكبوت:61.(5:379)

الآلوسيّ: إنّه تعالى أكّد ما اقتضاه الكلام السّابق من تخطئة المشركين،فقال سبحانه: أَمْ جَعَلُوا أي بل أ جعلوا للّه جلّ و علا شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ سبحانه و تعالى.و الهمزة لإنكار الوقوع، و ليس المنكر هو الجعل،لأنّه واقع منهم،و إنّما هو الخلق كخلقه تعالى،و المعنى:أنّهم لم يجعلوا للّه تعالى شركاء خلقوا كخلقه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ بسبب ذلك،و قالوا:هؤلاء خلقوا كخلق اللّه تعالى، و استحقّوا بذلك العبادة كما استحقّها سبحانه،ليكون ذلك منشأ لخطئهم،بل إنّما جعلوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق،فضلا عمّا يقدر عليه الخالق.

و المقصود بالإنكار و النّفي هو القيد و المقيّد على ما نصّ عليه غير واحد من المحقّقين.و في«الانتصاف» أنّ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سياق الإنكار جيء به للتّهكّم، فإنّ غير اللّه تعالى لا يخلق شيئا لا مساويا و لا منحطّا و قد كان يكفي في الإنكار-لو لا ذلك-أنّ الآلهة الّتي اتّخذوها لا تخلق.

و تعقّبه الطّيّبيّ بأنّ إثبات التّهكّم تكلّف،فإنّه ذكر الشّيء و أراد نقيضه استحقارا للمخاطب،كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ آل عمران:21، و هاهنا(كخلقه)جيء به مبالغة في إثبات العجز

ص: 425

لآلهتهم،على سبيل الاستدراج و إرخاء العنان،فإنّه تعالى لمّا أنكر عليهم أوّلا اتّخاذهم من دونه شركاء، و وصفها بأنّها لا تملك لأنفسها نفعا و لا ضرّا فكيف تملك ذلك لغيرها؟أنكر عليهم ثانيا على سبيل التّدرّج وصف الخلق أيضا،يعني هب أنّ أولئك الشّركاء قادرون على نفع أنفسهم و على نفع عبدتهم،فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئا؟و هب أنّهم قادرون على خلق بعض الأشياء فهل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السّماوات و الأرض؟انتهى.

و الحقّ أنّ الآية ناعية عليهم متهكّمة بهم،فإنّ من لا يملك لنفسه شيئا من النّفع و الضّرّ أبعد من أن يفيدهم ذلك،و كيف يتوهّم فيه أنّه خالق و أن يشتبه على ذي عقل فينبّه على نفيه؟و هذا المقدار يكفي في الغرض، فافهم.

(قل)تحقيقا للحقّ و إرشادا لهم اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الجواهر و الأعراض،و يلزم هذا أن لا خالق سواه لئلاّ يلزم التّوارد،و هو المقصود،ليدلّ على المراد و هو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة و الألوهيّة،أي لا خالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق.

و بعموم الآية استدلّ أهل السّنّة على أنّ أفعال العباد مخلوقة له تعالى،و المعتزلة تزعم التّخصيص بغير أفعالهم.و من النّاس من يحتجّ أيضا لما ذهب إليه أهل الحقّ بالآية الأولى،و هو كما ترى.(13:128)

المراغيّ: أي بل أخلق أوثانكم الّتي اتّخذتموها معبودات من دون اللّه،خلقا كخلقه،فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت و خلق اللّه،فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك،أم إنّما بكم الجهل و البعد عن الصّواب؟إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل،أنّ عبادة ما لا يضرّ و لا ينفع،من الجهل بحقيقة المعبود، و من يجب له التّذلّل و الخضوع،و الإنابة و الزّلفى و الإخبات إليه،و إنّما الواجب عبادة من يرجى نفعه و يخشى عقابه و ضرّه،و هو الّذي يرزقه و يموّته آناء اللّيل و أطراف النّهار.

ثمّ ذكر فذلكة لما تقدّم،و نتيجة لما سبق من الأدلّة و الأمثال الّتى ضربت لها،فقال: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي قل مبيّنا لهم وجه الحقّ:اللّه خالقكم و خالق أوثانكم و خالق كلّ شيء.(13:86)

سيّد قطب :أم ترى هؤلاء الشّركاء الّذين اتّخذوهم من دون اللّه،خلقوا مخلوقات كالّتي خلقها اللّه.فتشابهت على القوم هذه المخلوقات و تلك،فلم يدروا أيّها من خلق اللّه و أيّها من خلق الشّركاء؟فهم معذورون إذن إن كان الأمر كذلك،في اتّخاذ الشّركاء،فلهم من صفات اللّه تلك القدرة على الخلق الّتي بها يستحقّ المعبود العبادة،و بدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه.

و هو التّهكّم المرّ على القوم يرون كلّ شيء من خلق اللّه،و يرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئا،و ما هي بخالقة شيئا،إنّما هي مخلوقة.و بعد هذا كلّه يعبدونها و يدينون لها في غير شبهة؛و ذلك أسخف و أحطّ ما تصل العقول إلى دركه من التّفكير.

و التّعقيب على هذا التّهكّم اللاّذع؛حيث

ص: 426

لا معارضة و لا جدال،بعد هذا السّؤال: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ... فهي الوحدانيّة في الخلق،و هي الوحدانيّة في القهر أقصى درجات السّلطان.و هكذا تحاط قضيّة الشّركاء في مطلعها بسجود من في السّماوات و الأرض،و ظلالهم طوعا و كرها للّه،و في ختامها بالقهر الّذي يخضع له كلّ شيء في الأرض أو في السّماء.و قد سبقته من قبل بروق و رعود و صواعق و تسبيح و تحميد عن خوف أو طمع.فأين القلب الّذي يصمد لهذا الهول،إلاّ أن يكون أعمى مطموسا يعيش في الظّلمات،حتّى يأخذه الهلاك؟

(4:2052)

ابن عاشور :(ام)للإضراب و الانتقال في الاستفهام مقابل قوله: أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا، فالكلام بعد(ام) استفهام حذفت أداته لدلالة(ام)عليها.و التّقدير:

أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ و التفت عن الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم لما مضى من ذكر ضلالهم.

و الاستفهام مستعمل في التّهكّم و التّغليط.فالمعنى لو جعلوا للّه شركاء يخلقون كما يخلق اللّه،لكانت لهم شبهة في الاغترار و اتّخاذهم آلهة،أي فلا عذر لهم في عبادتهم،فجملة:(خلقوا)صفة ل(شركاء.)

و شبه جملة:(كخلقه)في معنى المفعول المطلق، أي خلقوا خلقا مثل ما خلق اللّه.و«الخلق»في الموضعين مصدر.

و جملة(فتشابه)عطف على جملة: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فهي صفة ثانية ل(شركاء،)و الرّابط «اللاّم»في قوله:(الخلق)لأنّها عوض عن الضّمير المضاف إليه.و التّقدير:فتشابه خلقهم عليهم.

و الوصفان هما مصبّ التّهكّم و التّغليط.

و جملة: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ... فذلكة لما تقدّم و نتيجة له،فإنّه لمّا جاء الاستفهام التّوبيخيّ في أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ و في أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كان بحيث ينتج أنّ أولئك الّذين اتّخذوهم شركاء للّه و الّذين تبيّن قصورهم عن أن يملكوا لأنفسهم نفعا أو ضرّا،و أنّهم لا يخلقون كخلق اللّه إن هم إلاّ مخلوقات للّه تعالى،و أنّ اللّه خالق كلّ شيء،و ما أولئك الأصنام إلاّ أشياء داخلة في عموم (كل شىء)و أنّ اللّه هو المتوحّد بالخلق.(12:164)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ إلى قوله: وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ في التّعبير بقوله:(جعلوا)و(عليهم)دون أن يقال:

جعلتم و عليكم،دليل على أنّ الكلام مصروف عنهم إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثمّ العود في جواب هذا الاحتمال الّذى يتضمّنه قوله: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ... دليل على أنّ السّؤال إنّما هو عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائيّ،لا الإلقاء بنحو الجواب،و ليس إلاّ لأنّهم لا يقولون بخالق غير اللّه سبحانه،كما قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ لقمان:25،و الزّمر:38،و قد كرّر تعالى

ص: 427

نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيّون ما كانوا يرون للّه سبحانه شريكا في الخلق و الإيجاد،و إنّما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الرّبوبيّة،لا في توحيد الألوهيّة بمعنى الخلق و الإيجاد،و تسليمهم توحيد الخالق المبدع،و قصر ذلك على اللّه،يبطل قولهم بالشّركاء في الرّبوبيّة،و تتمّ الحجّة عليهم،لأنّ اختصاص الخلق و الإيجاد باللّه سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى،و لا ربوبيّة مع انتفاء هذه النّعوت الكماليّة.

و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبيّة شركائهم مع اللّه سبحانه إلاّ أن ينكروا توحّده تعالى في الخلق و الإيجاد،و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم،و هم لا يفعلونه.و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنّه تعالى إذ يقول: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يقول لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله:هؤلاء تمّت عليهم الحجّة في توحيد الرّبوبيّة من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد،فلم يبق لهم إلاّ أن يقولوا بشركة شركائهم في الخلق و الإيجاد،فهل هم قائلون بأنّ شركائهم خلقوا خلقا كخلقه ثمّ تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيّتهم إجمالا مع اللّه؟

ثمّ أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يلقى إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال،فقال: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ....

و الجملة صدرها دعوى،دليلها ذيلها،أي أنّه تعالى واحد في خالقيّته لا شريك له فيها،و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كلّ عدد و كثرة؟!و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ يوسف:39،بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهّار،و تبيّن هناك أنّ مجموع هاتين الصّفتين ينتج صفة الأحديّة.

و قد بان ممّا ذكرناه وجه تغيير السّياق في قوله:

أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ و الإعراض عن سياق الخطاب السّابق، فتأمّل في ذلك.

و اعلم أنّ أكثر المفسّرين اشتبه عليهم الحال في الحجج الّتي تقيمها الآيات القرآنيّة لإثبات ربوبيّته تعالى،و توحيده فيها،و نفي الشّريك عنه،فخلطوا بينها و بين ما أقيمت لإثبات الصّانع،فتنبّه لذلك.

(11:325)

عبد الكريم الخطيب :هذا استفهام إنكاريّ يسأل فيه المشركون عن تلك الآلهة الّتي عبدوها من دون اللّه،أو جعلوها شركاء للّه،أ هذه الآلهة تخلق كما يخلق اللّه؟و هل لها في هذا الوجود شيء خلقته،حتّى يكون لهؤلاء المشركين وجه من العذر حين ينظرون- إن كان لهم نظر-فيرون أنّ لهذه الآلهة خلقا خلقته، و عندئذ يتشابه الخلق عليهم،فلا يفرّقون بين ما خلق اللّه،و ما خلق غير اللّه،أذلك ما يقع عليه نظرنا إلى هذا الوجود؟و هل يستطيع مشرك أن يمسك بنظره مخلوقا واحدا لهذه الآلهة المعبودة لهم؟ يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ

ص: 428

شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ الحجّ:73،فكيف يستوي من يخلق و من لا يخلق؟أ فلا تذكّرون؟

قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ... لم يبق إذن إلاّ الصّيرورة إلى هذا الحكم الّذي لا حكم غيره،و هو أنّ اللّه هو الخالق لكلّ شيء.(7:91)

مكارم الشّيرازيّ: ...ثمّ يدلّل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر،فيقول: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ و الحال ليس كذلك،فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها، فهم يعلمون أنّ اللّه خالق كلّ شيء،و عالم الوجود مرتبط به،و لذلك تقول الآية: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ...

بحوث

1-الخالقيّة و الرّبوبيّة يتطلّبان العبادة

يمكن أن يستفاد من الآية أنّ الخالق هو الرّبّ المدبّر،لأنّ الخلقة أمر مستمرّ و دائميّ،و ليس من خلق الكائنات يتركهم و شأنهم،بل إنّه تعالى يفيض بالوجود عليهم باستمرار،و كلّ شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدّسة.و على هذا فنظام الخلقة و تدبير العالم كلّها بيد اللّه،و لهذا السّبب يكون هو النّافع و الضّارّ، و غيره لا يملك شيئا إلاّ منه،فهل يوجد أحد غير اللّه أحقّ بالعبادة؟

2-كيف يسأل و يجيب بنفسه؟

بالنّظر إلى الآية يطرح هذا السّؤال:كيف أمر اللّه نبيّه أن يسأل المشركين:من خلق السّماوات و الأرض؟و بعدها بدون أن ينتظر منهم الجواب،يأمر النّبيّ أن يجيب هو على السّؤال...و بدون فاصلة يوبّخ المشركين على عبادتهم الأصنام،أيّ طراز هذا في السّؤال و الجواب؟

و لكن مع الالتفات إلى هذه النّقطة يتّضح لنا الجواب،و هو أنّه في بعض الأحيان يكون الجواب للسّؤال واضحا جدّا،و لا يحتاج إلى الانتظار.فمثلا نسأل أحدا:هل الوقت الآن ليل أم نهار؟و بلا فاصلة نجيب نحن على السّؤال،فنقول:الوقت بالتّأكيد ليل.

و هذه كناية لطيفة؛حيث إنّ الموضوع واضح جدّا و لا يحتاج إلى الانتظار للجواب،بالإضافة إلى أنّ المشركين يعتقدون بخلق اللّه للعالم،و لم يقولوا أبدا أنّ الأصنام خالقة السّماء و الأرض،بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم و قدرتهم على نفع الإنسان و دفع الضّرر عنه،و لهذا السّبب كانوا يعبدونهم.و بما أنّ الخالقيّة غير منفصلة عن الرّبوبيّة يمكن أن نخاطب المشركين بهذا الحديث و نقول:أنتم الّذين تقولون بأنّ اللّه خالق، يجب أن تعرفوا أنّ الرّبوبيّة للّه كذلك،و يختصّ بالعبادة أيضا لذلك.

3-العين المبصرة و نور الشّمس شرطان ضروريّان

يشير ظاهر المثالين«الأعمى و البصير» و«الظّلمات و النّور»إلى هذه الحقيقة،و هي أنّ النّظر يحتاج إلى شيئين:العين المبصرة،و شعاع الشّمس؛ بحيث لو انتفى واحد منهما فإنّ الرّؤية لا تتحقّق، و الآن يجب أن نفكّر:كيف حال الأفراد المحرومين من

ص: 429

البصر و النّور؟المشركون المصداق الواقعيّ لهذا، فقلوبهم عمي و محيطهم مليء بالكفر و عبادة الأصنام، و لهذا السّبب فهم في تيه و ضياع.و على العكس فالمؤمنون بنظرهم إلى الحقّ،و استلهامهم من نور الوحي و إرشادات الأنبياء،عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.

4-هل أنّ خلق اللّه لكلّ شيء دليل على الجبر؟

استدلّ جمع من أتباع مدرسة الجبر أنّ جملة اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ في الآية لها من السّعة بحيث تشمل حتّى عمل الأفراد،فاللّه خالق أعمالنا و نحن غير مختارين.

يمكن أن نجيب على هذا القول بطريقين:

أوّلا:الجمل الأخرى للآية تنفي هذا الكلام،لأنّها تلوم المشركين بشكل أكيد،فإذا كانت أعمالنا غير اختياريّة،فلما ذا هذا التّوبيخ؟و إذا كانت إرادة اللّه أن نكون مشركين فلما ذا يلومنا؟و لما ذا يسعى بالأدلّة العقليّة لتغيير مسيرتهم من الضّلالة إلى الهداية؟كلّ هذا دليل على أنّ النّاس أحرار في انتخاب طريقهم.

ثانيا:إنّ الخالقيّة بالذّات من مختصّات اللّه تعالى، و لا يتنافى مع اختيارنا في الأفعال،لأنّ ما نمتلكه من القدرة و العقل و الشّعور،و حتّى الاختيار و الحرّيّة، كلّها من عند اللّه،و على هذا فمن جهة هو الخالق بالنّسبة لكلّ شيء و حتّى أفعالنا،و من جهة أخرى نحن نفعل باختيارنا،فهما في طول واحد و ليس في عرض و أفق واحد،فهو الخالق لكلّ وسائل الأفعال، و نحن نستفيد منها في طريق الخير أو الشّرّ.

فمثلا الّذي يؤسّس معملا لتوليد الكهرباء أو لإنتاج أنابيب المياه،يصنعها و يضعها تحت تصرّفنا، فلا يمكن أن نستفيد من هذه الأشياء إلاّ بمساعدته، و لكن بالنّتيجة يكون التّصميم النّهائيّ لنا،فيمكن أن نستفيد من الكهرباء لإمداد غرفة عمليّات جراحيّة و إنقاذ مريض مشرف على الموت،أو نستخدمها في مجالس اللّهو و الفساد،و يمكن أن نروي بالماء عطش إنسان و نسقي وردا جميلا،أو نستخدم الماء في إغراق دور النّاس و تخريبها.(7:326)

فضل اللّه : أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ...، لأنّ الشّرك الواقعيّ ينطلق من دراسة شيئين و مقارنتهما على مستوى الطّبيعة و الصّفات،فإن تشابها أو تقاربا أمكن وضعهما في مستوى و موقع واحد،فإذا كان أحدهما من موقع الألوهيّة لقدرة أو صفة محدّدة يملكها،فمن الطّبيعيّ أن نضع الآخر في هذا الموقع، على أساس التّساوي أو التّشابه.و لكن ذلك لا مجال له عند المقارنة بين قدرة اللّه و قدرة من اتّخذهم المشركون شركاء،فإنّ اللّه هو الّذي خلق الكون كلّه و باعترافهم،و لم يخلق هؤلاء شيئا منه، قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فكيف يساويه غيره من العباد الّذين لم يخلقوا شيئا و هم يخلقون؟!(13:36)

2- قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا. الأحقاف:4

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:قل يا محمّد لهؤلاء

ص: 430

المشركين باللّه من قومك:أ رأيتم أيّها القوم الآلهة و الأوثان الّتي تعبدون من دون اللّه،أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض،فإنّ ربّي خلق الأرض كلّها، فدعوتموها من أجل خلقها ما خلقت من ذلك آلهة و أربابا،فيكون لكم بذلك في عبادتكم إيّاها حجّة، فإنّ من حجّتي على عبادتي إلهي،و إفرادي له الألوهة،أنّه خلق الأرض فابتدعها من غير أصل.

(11:271)

الزّجّاج: أي في خلق السّماوات،أي فلذلك أشركتموهم في عبادة اللّه عزّ و جلّ.(4:437)

الطّوسيّ: فاستحقّوا بخلق ذلك العبادة و الشّكر.

(9:267)

نحوه الطّبرسيّ.(5:82)

القشيريّ: أروني أيّ أثر فيهم في الملك،أو القدرة على النّفع و الضّرّ؟إن كانت لكم حجّة فأظهروها،أو دلالة فبيّنوها،و إذا قد عجزتم عن ذلك فهلاّ رجعتم عن غيّكم و أقلعتم؟(5:396)

الميبديّ: أي هل خلق واحد منهم شيئا من الأرض.(9:143)

ابن العربيّ: فهذه بيان لأدلّة العقل المتعلّقة بالتّوحيد،و حدوث العالم،و انفراد الباري سبحانه بالقدرة و العلم و الوجود و الخلق.(4:1696)

الفخر الرّازيّ: و المراد:أنّ هذه الأصنام،هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم؟ فإن لم يصحّ ذلك فهل يجوز أن يقال:إنّها أعانت إله العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم،و لمّا كان صريح العقل حاكما بأنّه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا العالم إليها،و إن كان ذلك الجزء أقلّ الأجزاء،و لا يجوز أيضا إسناد الإعانة إليها في أقلّ الأفعال و أذلّها،فحينئذ صحّ أنّ الخالق الحقيقيّ لهذا العالم هو اللّه سبحانه،و أنّ المنعم الحقيقيّ بجميع أقسام النّعم هو اللّه سبحانه.و العبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التّعظيم؛و ذلك لا يليق إلاّ بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام،فلمّا كان الخالق الحقّ و المنعم الحقيقيّ هو اللّه سبحانه و تعالى،وجب أن لا يجوز الإتيان بالعبادة و العبوديّة إلاّ له و لأجله.

بقي أن يقال:إنّا لا نعبدها،لأنّها تستحقّ هذه العبادة،بل إنّما نعبدها لأجل أنّ الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها،فعند هذا ذكر اللّه تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السّؤال،فقال: اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ، و تقرير هذا الجواب:أنّ ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلاّ بالوحي و الرّسالة،فنقول:هذا الوحي الدّالّ على الأمر بعبادة هذه الأوثان،إمّا أن يكون على محمّد أو في سائر الكتب الإلهيّة المنزّلة على سائر الأنبياء،و إن لم يوجد ذلك في الكتب الإلهيّة لكنّه من تقابل العلوم المنقولة عنهم و الكلّ باطل.

أمّا إثبات ذلك بالوحي إلى محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم فهو معلوم البطلان،و أمّا إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهيّة المنزّلة على الأنبياء المتقدّمين عليه،فهو أيضا باطل، لأنّه علم بالتّواتر الضّروريّ إطباق جميع الكتب الإلهيّة على المنع من عبادة الأصنام،و هذا هو المراد من

ص: 431

قوله تعالى: اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا.

و أمّا إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب،فهذا أيضا باطل،لأنّ العلم الضّروريّ حاصل بأنّ أحدا من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام،و هذا هو المراد من قوله: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ. و لمّا بطل الكلّ ثبت أنّ الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل و قول فاسد.و بقي في قوله تعالى:

أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ نوعان من البحث.[ثمّ ذكرهما]

(28:3)

البيضاويّ: أي أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمّل فيها،هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم فتستحقّ به العبادة.؟!

(2:384)

مثله الكاشانيّ(5:11)،و المشهديّ(9:440).

النّيسابوريّ: و المراد أنّهم لا يستحقّون العبادة أصلا،لأنّهم ما خلقوا شيئا في هذا العالم لا في الأرض و لا في السّماء،و لم يدلّ وحي من اللّه على عبادتهم، لأنّ هذا القرآن ناطق بالتّوحيد،و إبطال الشّرك و ما من كتاب قبله إلاّ هو ناطق بمثل ذلك.(26:6)

البروسويّ: أي في خلقها أو ملكها و تدبيرها، حتّى يتوهّم أن يكون لهم شائبة استحقاق للعبوديّة، فإنّ ما لا مدخل له في وجود شيء من الأشياء بوجه من الوجوه،فهو بمعزل من ذلك الاستحقاق بالكلّيّة و إن كانوا من الأحياء العقلاء،فما ظنّكم بالجماد؟

فإن قلت:فما تقول في عيسى عليه السّلام فإنّه كان يحيي الموتى و يخلق الطّير،و يفعل ما لا يقدر عليه غيره؟

قلت:هو بإقدار اللّه تعالى و إذنه؛و ذلك لا ينافي عجزه في نفسه.(8:463)

الآلوسيّ: و قوله تعالى: ما ذا خَلَقُوا جوّز فيه أن تكون(ما)اسم استفهام مفعولا مقدّما ل(خلقوا)و(ذا)زائدة و أن تكون ما ذا اسما واحدا مفعولا مقدّما،أي أيّ شيء خلقوا،و أن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبرا مقدّما،و(ذا)اسم موصول خبرا أو مبتدأ مؤخّرا و جملة(خلقوا)صلة الموصول، أي ما الّذي خلقوه.و على الأوّلين جملة(خلقوا) مفعول ثان ل(أ رأيتم)و على ما بعدهما جملة ما ذا خَلَقُوا.

و جوّز أن يكون الكلام من باب الإعمال و قد أعمل الثّاني،و حذف مفعول الأوّل و اختاره أبو حيّان.(26:5)

القاسميّ: أي أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضيّ بالاستقلال،أو شيء سماويّ بالشّركة،حتّى تستحقّ العبادة.(15:5337)

المراغيّ: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التّأمّل في خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما،و النّظام القائم فيهما،المبنيّ على الحكمة و دقّة الصّنع، و الإبداع في التّكوين،هل تعقلون لهم مدخلا في خلق جزء من هذا العالم السّفليّ،فيستحقّوا لأجله العبادة؟ و لو كان لهم ذلك لظهر التّفاوت في هذا النّظام، و المشاهد أنّه على حال واحدة يستمدّ أدناه من أعلاه، و يرتبط بعضه ببعض،و كلّ فرد في الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيها.أم هل تظنّون أنّ لهم شركة في خلق

ص: 432

العالم العلويّ شموسه و أقماره،كواكبه و نجومه، سيّاراتها و ثوابتها.

و قصارى ذلك نفي استحقاق آلهتهم للمعبوديّة على أتمّ وجه،فقد نفى أنّ لها دخلا في خلق شيء من أجزاء العالم السّفليّ استقلالا،و نفى ثانيا أنّ لها دخلا على سبيل الشّركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلويّ،و نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبوديّة أيضا.(26:5)

ابن عاشور :و الأمر في أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ مستعمل في التّسخير و التّعجيز،كناية عن النّفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئا فلا تستطيعوا أن تروني شيئا خلقوه في الأرض،و هذا من رءوس مسائل المناظرة،و هو مطالبة المدّعي بالدّليل على إثبات دعواه.

و(ما ذا)بمعنى:ما الّذي خلقوه،ف(ما) استفهاميّة،و(ذا)بمعنى الّذي.و أصله اسم إشارة ناب عن الموصول،و أصل التّركيب:«ما ذا الّذي خلقوا» فاقتصر على اسم الإشارة،و حذف اسم الموصول غالبا في الكلام،و قد يظهر كما في قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ البقرة:255.و لهذا قال النّحاة:إنّ (ذا)بعد(ما)أو(من)الاستفهاميّتين بمنزلة(ما) الموصولة.

و الاستفهام في ما ذا خَلَقُوا إنكاريّ.و جملة ما ذا خَلَقُوا بدل من جملة(ارونى،)و فعل الرّؤية معلّق عن العمل بورود(ما)الاستفهاميّة بعده،و إذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقا لهم،بطل أن يكونوا آلهة لخروج المخلوقات عن خلقهم،و إذا بطل أن يكون لها خلق،بطل أن يكون لها تصرّف في المخلوقات،كما قال تعالى: أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ* وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ الأعراف:191،192.(26:8)

الطّباطبائيّ: و قوله: أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أروني بمعنى:أخبروني،و(ما)اسم استفهام، و(ذا)بعده زائدة،و المجموع مفعول(خلقوا،)و(من الارض)متعلّق به.

و قوله: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي شركة في خلق السّماوات،فإنّ خلق شيء من السّماوات و الأرض هو المسئول عنه.

توضيح ذلك:أنّهم و إن لم ينسبوا إليها إلاّ تدبير الكون و خصّوا الخلق به سبحانه،كما قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ الزّمر:38،و قال: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ الزّخرف:87،لكن لمّا كان الخلق لا ينفكّ عن التّدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التّدبير سهم في الخلق،و لذلك أمر تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يسألهم عمّا لأربابهم الّذين يدعون من دون اللّه من النّصيب في خلق الأرض أو في خلق السّماوات،فلا معنى للتّدبير في الكون من غير خلق.(18:187)

مكارم الشّيرازيّ:

أضلّ النّاس:

كان الكلام في الآيات السّابقة عن خلق السّماوات و الأرض و أنّها جميعا من صنع اللّه العزيز

ص: 433

الحكيم،و لازم ذلك أن لا يكون في الكون إله سواه، لأنّ من له أهليّة الألوهيّة هو خالق العالم و مدبّره، و هاتان الصّفتان قد جمعتا في الذّات المقدّسة.

و من أجل تكملة هذا البحث،تخاطب هذه الآيات النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ... إذا كنتم تقرّون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضيّة مطلقا،و لا في خلق الشّمس و القمر و النّجوم و موجودات العالم العلويّ،و تقولون بصراحة بأنّ اللّه هو خالقها جميعا،فعلام تمدّون أكفّكم إلى الأصنام الّتي لا تضرّ و لا تنفع،و لا تسمع و لا تعقل،تستمدّون منها العون في حلّ معضلاتكم،و دفع البلاء عنكم، و استجلاب البركات إليكم؟

و إذا قلتم-على سبيل الفرض-:إنّها شريكة في أمر الخلق و التّكوين ف اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

و خلاصة القول،فإنّ الدّليل:إمّا أن يكون نقليّا عن طريق الوحي السّماويّ،أو عقليّا منطقيّا،أو بشهادة العلماء و تقريرهم،أمّا أنتم فلستم مستندين إلى الوحي و الكتاب السّماويّ في دعواكم حول الأصنام،و غير قادرين من طريق العقل على إثبات اشتراكها في خلق السّماوات و الأرض و بالتّالي إثبات كونها آلهة،و لم يرد أثر من أقوال العلماء الماضين ما يؤيّد رأيكم و يدعم اعتقادكم.و من هنا يتبيّن أنّ دينكم و معتقدكم لا يعدو كونه حفنة من الخرافات المستهجنة،و الأوهام الكاذبة.

بناء على هذا،فإنّ جملة أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ... إشارة إلى دليل العقل،و جملة اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا إشارة إلى الوحي السّماويّ،و التّعبير ب أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين و أوصيائهم،أو آثار العلماء السّابقين.(16:227)

خلقوا

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ. الطّور:35

ابن عبّاس: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير أب،و يقال:من غير ربّ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ غير المخلوقين.(445)

ابن عطاء:أ ليسوا خلقوا من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة؟(الثّعلبيّ 9:131)

ابن كيسان :أم خلقوا عبثا و تركوا سدى لا يؤمرون و لا ينهون.(الثّعلبيّ 9:131)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:أخلق هؤلاء المشركون من غير شيء،أي من غير آباء و لا أمّهات، فهم كالجماد،لا يعقلون و لا يفهمون للّه حجّة،و لا يعتبرون له بعبرة،و لا يتّعظون بموعظة.

و قد قيل:إنّ معنى ذلك:أم خلقوا لغير شيء،كقول القائل:فعلت كذا و كذا من غير شيء،بمعنى لغير شيء.

و قوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يقول:أم هم الخالقون هذا الخلق،فهم لذلك لا يأتمرون لأمر اللّه،و لا ينتهون عمّا نهاهم عنه،لأنّ للخالق الأمر و النّهي.

(11:495)

الزّجّاج: و قوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ

ص: 434

اَلْخالِقُونَ.

معناه:بل أخلقوا من غير شيء.و في هذه الآية قولان،و هي من أصعب ما في هذه السّورة:قال بعض أهل اللّغة:ليس هم بأشدّ خلقا من خلق السّماوات و الأرض،لأنّ السّماوات و الأرض خلقتا من غير شيء،و هم خلقوا من آدم و آدم من تراب.

و قيل فيها قول آخر: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أم خلقوا لغير شيء،أي خلقوا باطلا لا يحاسبون و لا يؤمرون و لا ينهون.(5:65)

الثّعلبيّ: قيل:من غير أب و لا أمّ،فهم كالجماد لا يعقلون،و لا يقوم للّه عليهم حجّة.[نقل قول ابن كيسان ثمّ قال:]

و هذا كقول القائل:فعلت كذا و كذا من غير شيء،يعني لغير شيء. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لأنفسهم.

(9:131)

الطّوسيّ: و قوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ معناه:أخلقوا من غير خالق أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لنفوسهم فلا يأتمرون لأمر اللّه و لا ينتهون عمّا نهاهم عنه.

و قيل:معنى أخلقوا من غير شيء:أخلقوا لغير شيء،أي أخلقوا باطلا لا لغرض.

و قيل:المعنى:أخلقوا من غير أب و لا أمّ فلا يهلكون،كما أنّ السّماوات و الأرض خلقتا من غير شيء،فإذا هم أضعف من السّماء الّذي خلق لا من شيء،فإذا كان ما خلق لا من شيء يهلك فما كان دونه بذلك أولى.(9:414)

القشيريّ: كلاّ،ليس الأمر كذلك،بل اللّه هو الخالق و هم المخلوقون.(6:45)

البغويّ: قال ابن عبّاس:من غير ربّ،و معناه:

أخلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق؟ و ذلك ممّا لا يجوز أن يكون،لأنّ تعلّق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم،فلا بدّ له من خالق،فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لأنفسهم؛و ذلك في البطلان أشدّ،لأنّ ما لا وجود له كيف يخلق؟

فإذا بطل الوجهان قامت الحجّة عليهم بأنّ لهم خالقا فليؤمنوا به،ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطّابيّ.

(4:295)

نحوه الميبديّ.(9:339)

الزّمخشريّ: أم أحدثوا و قدّروا التّقدير الّذي عليه فطرتهم مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير مقدّر،أم هم الّذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق بَلْ لا يُوقِنُونَ أي إذا سئلوا من خلقكم و خلق السّماوات و الأرض؟قالوا:اللّه،و هم شاكّون فيما يقولون:لا يوقنون.

و قيل أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء و لا حساب.و قيل:أخلقوا من غير أب و أمّ.(4:25)

نحوه النّسفيّ.(4:192)

ابن عطيّة: و قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قال الطّبريّ معناه:أم خلقوا خلق الجماد من غير حيّ،فهم لا يؤمرون و لا ينهون،كما هي الجمادات عليه.

ص: 435

و قال آخرون:معناه خلقوا لغير علّة و لا لغير عقاب و لا ثواب،فهم لذلك لا يسمعون و لا يتشرّعون و هذا كما تقول:فعلت كذا و كذا من غير علّة،أي لغير علّة.ثمّ وقفهم على جهة التّوبيخ على أنفسهم:

أهم الّذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبّرون؟

(5:192)

الطّبرسيّ: أي أم خلقوا لغير شيء أي أخلقوا باطلا لا يحاسبون،و لا يؤمرون،و لا ينهون؟و نحو هذا،عن الزّجّاج.و قيل:معناه:أم خلقوا عبثا،و تركوا سدى،عن ابن كيسان.و هذا في المعنى مثل الأوّل.

و قيل:معناه:أخلقوا من غير خالق و مدبّر دبّرهم أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أنفسهم،فلا يجب عليهم للّه أمر؟ عن ابن عبّاس.(5:168)

ابن الجوزيّ: قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه أربعة أقوال:

أحدها:أم خلقوا من غير ربّ خالق؟

و الثّاني:أم خلقوا من غير آباء و لا أمّهات،فهم كالجماد لا يعقلون؟

و الثّالث:أم خلقوا من غير شيء كالسّماوات و الأرض؟أي إنّهم ليسوا بأشدّ خلقا من السّماوات و الأرض،لأنّها خلقت من غير شيء و هم خلقوا من آدم،و آدم من تراب.

و الرّابع:أم خلقوا لغير شيء؟فتكون«من»بمعنى اللاّم.و المعنى:ما خلقوا عبثا فلا يؤمرون و لا ينهون.

قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ فلذلك لا يأتمرون و لا ينتهون؟لأنّ الخالق لا يؤمر و لا ينهى.(8:55)

الفخر الرّازيّ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ.

و من هنا لا خلاف أنّ(ام)ليست بمعنى«بل»،لكن أكثر المفسّرين على أنّ المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام،إمّا«بالهمزة»فكأنّه يقول:أخلقوا من غير شيء؟.أو«هل».و يحتمل أن يقال:هو على أصل الوضع للاستفهام الّذي يقع في أثناء الكلام،و تقديره:

أ ما خلقوا،أم خلقوا من غير شيء،أم هم الخالقون؟ و فيه مسائل:

المسألة الأولى:ما وجه تعلّق الآية بما قبلها؟ نقول:لمّا كذّبوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و نسبوه إلى الكهانة و الجنون و الشّعر و برّأه اللّه من ذلك،ذكر الدّليل على صدقه إبطالا لتكذيبهم،و بدأ بأنفسهم،كأنّه يقول:

كيف يكذّبونه و في أنفسهم دليل صدقه،لأنّ قوله في ثلاثة أشياء:في التّوحيد و الحشر و الرّسالة،ففي أنفسهم ما يعلم به صدقه.و بيانه هو أنّهم خلقوا و ذلك دليل التّوحيد لما بيّنّا أنّ في كلّ شيء له آية،تدلّ على أنّه واحد،و قد بيّنّا وجهه مرارا فلا نعيده.

و أمّا الحشر فلأنّ الخلق الأوّل دليل على جواز الخلق الثّاني و إمكانه،و يدلّ على ما ذكرنا أنّ اللّه تعالى ختم الاستفهامات بقوله: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ الطّور:43.

المسألة الثّانية:إذا كان الأمر على ما ذكرت فلم حذف قوله:أ ما خلقوا؟نقول:لظهور انتفاء ذلك ظهورا لا يبقى معه للخلاف وجه.

فإن قيل:فلم لم يصدر بقوله:أ ما خلقوا و يقول:أم

ص: 436

خلقوا من غير شيء؟نقول:ليعلم أنّ قبل هذا أمرا منفيّا ظاهرا،و هذا المذكور قريب منه في ظهور البطلان.

فإن قيل:قوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أيضا ظاهر البطلان،لأنّهم علموا أنّهم مخلوقون من تراب و ماء و نطفة،نقول:الأوّل أظهر في البطلان،لأنّ كونهم غير مخلوقين أمر يكون مدّعيه منكرا للضّرورة، فمنكره منكر لأمر ضروريّ.

المسألة الثّالثة:ما المراد من قوله تعالى: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟

نقول فيه وجوه:المنقول منها أنّهم خلقوا من غير خالق،و قيل:إنّهم خلقوا لا لشيء عبثا،و قيل:إنّهم خلقوا من غير أب و أمّ.و يحتمل أن يقال:أم خلقوا من غير شيء،أي أ لم يخلقوا من تراب أو من ماء،و دليله قوله تعالى: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ المرسلات:

20.

و يحتمل أن يقال:الاستفهام الثّاني ليس بمعنى النّفي بل هو بمعنى الإثبات،قال اللّه تعالى: أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ الواقعة:59،و أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ الواقعة:64،و أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ الواقعة:72،كلّ ذلك في الأوّل منفيّ و في الثّاني مثبت،كذلك هاهنا قال اللّه تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي الصّادق هو هذا الثّاني حينئذ،و هذا كما في قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً الدّهر:1.

فإن قيل:كيف يكون ذلك الإثبات و الآدميّ خلق من تراب؟

نقول:و التّراب خلق من غير شيء،فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه و أسندت النّظر إلى ابتداء أمره، وجدته خلق من غير شيء،أو نقول:المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر،و هو الماء المهين.

المسألة الرّابعة:ما الوجه في ذكر الأمور الثّلاثة الّتي في الآية؟

نقول:هي أمور مرتّبة كلّ واحد منها يمنع القول بالوحدانيّة و الحشر فاستفهم بها،و قال:أ ما خلقوا أصلا،و لذلك ينكرون القول بالتّوحيد لانتفاء الإيجاد و هو الخلق،و ينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأوّل أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي أم يقولون:بأنّهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة،كما قال: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً المؤمنون:115.

و على قولنا:إنّ المراد خلقوا لا من تراب و لا من ماء،فله وجه ظاهر،و هو أنّ الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعيّا يخفى كونه مخلوقا على بعض الأغبياء،و لهذا قال بعضهم:السّماء رفع اتّفاقا و وجد من غير خالق.و أمّا الإنسان الّذي يكون أوّلا نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما و عظما،لا يتمكّن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغيّر أحواله،فقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها ترابا و لا ماء و لا نطفة ليس كذلك،بل هم كانوا شيئا من تلك الأشياء خلقوا منه خلقا،فما خلقوا من غير شيء حتّى

ص: 437

ينكروا الوحدانيّة،و لهذا قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ الزّمر:6،و لهذا أكثر اللّه من قوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ الدّهر:2.

و قوله: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ المرسلات:

20،يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع،لأنّ قوله: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق،فيكون كأنّه قال:أخلقتم لا من ماء،و على قول من قال:المراد منه أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي من غير خالق،ففيه ترتيب حسن أيضا؛و ذلك لأنّ نفي الصّانع:إمّا أن يكون بنفي كون العالم مخلوقا فلا يكون ممكنا،و إمّا أن يكون ممكنا لكنّ الممكن لا يكون محتاجا،فيقع الممكن من غير مؤثّر،و كلاهما محال.

و أمّا قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ فمعناه أهم الخالقون للخلق،فيعجز الخالق بكثرة العمل؟.فإنّ دأب الإنسان أنّه يعيا بالخلق،فما قولهم:أ ما خلقوا، فلا يثبت لهم إله البتّة،أم خلقوا و خفي عليهم وجه الخلق،أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز؟ و مثل قوله تعالى: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ق:15.

هذا بالنّسبة إلى الحشر،و أمّا بالنّسبة إلى التّوحيد فهو ردّ عليهم؛حيث قالوا:الأمور مختلفة،و اختلاف الآثار يدلّ على اختلاف المؤثّرات،و قالوا: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ص:5،فقال تعالى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ حيث لا يقدر الخبّاز على الخياطة، و الخيّاط على البناء،و كلّ واحد يشغله شأن عن شأن.(28:259)

القرطبيّ: [نقل أقوال المفسّرين ثمّ قال:]

و إذا أقرّوا أنّ ثمّ خالقا غيرهم،فما الّذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام،و من الإقرار بأنّه قادر على البعث؟.(17:74)

النّيسابوريّ: ...وبّخهم على إنكار الصّانع بقوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير خالق أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أنفسهم.و قيل:أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء و حساب؟.و الأوّل أقوى،لقوله: أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الطّور:36.(27:20)

ابن جزيّ: فيه ثلاثة أقوال:أحدها:أنّ معناه:أم خلقوا من غير ربّ أنشأهم و استعبدهم،فهم من أجل ذلك لا يعبدون اللّه؟.

الثّاني:أم خلقوا من غير أب و لا أمّ كالجمادات، فهم لا يؤمرون و لا ينهون كحال الجمادات؟.

الثّالث:أم خلقوا من غير أن يحاسبوا و لا يجازوا بأعمالهم؟فهو على هذا كقوله: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً المؤمنون:115، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ معناه:أهم الخالقون لأنفسهم؛بحيث لا يعبدون الخالق أم هم الخالقون للمخلوقات بحيث يتكبّرون؟(4:73)

أبو حيّان : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي من غير شيء حيّ كالجماد،فهم لا يؤمرون و لا ينهون،كما هي الجمادات عليه،قاله الطّبريّ.و قيل: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي من غير علّة و لا لغاية عقاب و ثواب،فهم لذلك لا يسمعون و لا يتشرّعون،و هذا كما تقول:

فعلت كذا و كذا من غير علّة،أي لغير علّة،ف(من)

ص: 438

للسّبب،و في القول الأوّل لابتداء الغاية.[ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و قال:]

أم خلقوا من غير ربّ و لا خالق؟أي أم أحدثوا و برزوا للوجود من غير إله يبرزهم و ينشئهم؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لأنفسهم،فلا يعبدون اللّه،و لا يأتمرون بأوامره،و لا ينتهون عن مناهيه.و القسمان باطلان، و هم يعترفون بذلك،فدلّ على بطلانهم.(8:152)

نحوه الآلوسيّ.(27:37)

ابن كثير :هذا المقام في إثبات الرّبوبيّة و توحيد الألوهيّة،فقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي أوجدوا من غير موجد أم هم أوجدوا أنفسهم؟أي لا هذا و لا هذا،بل اللّه هو الّذي خلقهم و أنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.(6:436)

الشّربينيّ: أَمْ خُلِقُوا أي وقع خلقهم على هذه الكيفيّة المتقنة مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي خالق خلقهم، فوجدوا بلا خالق؛و ذلك ممّا لا يجوز أن يكون،لأنّ تعلّق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم،فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لأنفسهم؛و ذلك في البطلان أشدّ،لأنّ ما لا وجود له كيف يخلق.فإذا بطل الوجهان قامت الحجّة عليهم بأنّ لهم خالقا و هو اللّه تعالى،فلم لا يوحّدونه و يؤمنون به و برسوله و بكتابه؟.[ثمّ نقل بعض الأقوال و أضاف:]

تنبيه:لا خلاف أنّ(ام)هنا ليست بمعنى«بل» لكنّ أكثر المفسّرين على أنّ المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة،كأنّه يقول:أخلقوا من غير شيء.قال الرّازيّ: و يحتمل أن يقال:هو على أصل الوضع للاستفهام الّذي يقع في أثناء الكلام، و تقديره:أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟.

(4:118)

سيّد قطب :و الاستفهام التّالي عن حقيقة وجودهم،هم أنفسهم،و هي حقيقة قائمة لا مفرّ لهم من مواجهتها،و لا سبيل لهم إلى تفسيرها بغير ما يقوله القرآن فيها،من أنّ لهم خالقا أوجدهم هو اللّه سبحانه،و هو موجود بذاته.و هم مخلوقون أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ.

و وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداء،و لا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل.أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدّعوه و لا يدّعيه مخلوق.و إذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة،فإنّه لا يبقى إلاّ الحقيقة الّتي يقولها القرآن،و هي أنّهم جميعا من خلق اللّه الواحد الّذي لا يشاركه أحد في الخلق و الإنشاء،فلا يجوز أن يشاركه أحد في الرّبوبيّة و العبادة،و هو منطق واضح بسيط.

كذلك يواجههم بوجود السّماوات و الأرض حيالهم،فهل هم خلقوها؟فإنّها لم تخلق نفسها بطبيعة الحال،كما أنّهم لم يخلقوا أنفسهم.(6:3399)

ابن عاشور :إضراب انتقاليّ إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث،و قد علمت في أوّل السّورة أنّ من أغراضها إثبات البعث و الجزاء، على أنّ ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء و حال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التّفاصيل،فإذ

ص: 439

وفّي حقّ ما اقتضته تلك المناسبات،ثني عنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث و إبطال شبهتهم الّتي تعلّلوا بها،من نحو قولهم: أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً الإسراء:49.

فكان قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ الآيات أدلّة على أنّ ما خلقه اللّه من بدء الخلق أعظم من إعادة خلق الإنسان.و هذا متّصل بقوله آنفا: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ الطّور:7،لأنّ شبهتهم المقصود ردّها بقوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هي قولهم:

أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ الإسراء:

49 و نحو ذلك.

فحرف(من)في قوله: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يجوز أن يكون للابتداء،فيكون معنى الاستفهام المقدّر بعد(ام) تقريريّا.و المعنى:أ يقرّون أنّهم خلقوا بعد أن كانوا عدما،فكلّما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى ينشئون من عدم في النّشأة الآخرة؟،و ذلك إثبات لإمكان البعث،فيكون في معنى قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ* إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الطّارق:5-8، و قوله: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الأنبياء:104، و نحو ذلك من الآيات.

و معنى(شىء)على هذا الوجه:الموجود،فغير شيء المعدوم،و المعنى:أخلقوا من عدم.

و يجوز أن تكون(من)للتّعليل،فيكون الاستفهام المقدّر بعد(ام)إنكاريّا،و يكون اسم(شىء)صادقا على ما يصلح لمعنى التّعليل المستفاد من حرف(من) التّعليليّة،و المعنى:إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة.

و هذا إثبات أنّ البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال،بأنّ الجزاء مقتضى الحكمة الّتي لا يخلو عنها فعل أحكم الحكماء،فيكون في معنى قوله تعالى:

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ المؤمنون:115،و قوله: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ الحجر:85.

و لحرف(من)في هذا الكلام،الوقع البديع؛إذ كانت على احتمال معنييها دليلا على إمكان البعث و على وقوعه،و على وجوب وقوعه وجوبا تقتضيه الحكمة الإلهيّة العليا.و لعلّ العدول عن صوغ الكلام بالصّيغة الغالبة في الاستفهام التّقريريّ،أعني صيغة النّفي بأن يقال:أ ما خلقوا من غير شيء؛و العدول عن تعيين ما أضيف إليه(غير)إلى الإتيان بلفظ مبهم و هو لفظ(شىء،)روعي فيه الصّلاحيّة،لاحتمال المعنيين،و ذلك من منتهى البلاغة.

و إذ كان فرض أنّهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتجّ إلى استدلال على إبطاله بقوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ.

و هو إضراب انتقال أيضا،و الاستفهام المقدّر بعد (ام)إنكاريّ،أي ما هم الخالقون.و إذ كانوا لم يدّعوا ذلك فالإنكار مرتّب على تنزيلهم منزلة من يزعمون أنّهم خالقون.

و صيغت الجملة في صيغة الحصر الّذي طريقه تعريف الجزءين قصرا إضافيّا للرّدّ عليهم بتنزيلهم

ص: 440

منزلة من يزعم أنّهم الخالقون لا اللّه،لأنّهم عدّوا من المحال ما هو خارج عن قدرتهم،فجعلوه خارجا عن قدرة اللّه،فالتّقدير:أم هم الخالقون لا نحن،و المعنى:

نحن الخالقون لا هم.

و حذف مفعول(الخالقون)لقصد العموم،أي الخالقون للمخلوقات،و على هذا جرى الطّبريّ، و قدّره المفسّرون عدا الطّبريّ:أم هم الخالقون أنفسهم، كأنّهم جعلوا ضمير أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ دليلا على أنّ المحذوف اسم معاد ذلك الضّمير،و لا افتراء في انتفاء أن يكونوا خالقين،فلذلك لم يتصدّ إلى الاستدلال على هذا الانتفاء.(27:78)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إتيان(شىء)منكّرا بتقدير صفة تناسب المقام،و التّقدير:من غير شيء خلق منه غيرهم من البشر.

و المعنى بل أخلق هؤلاء المكذّبون من غير شيء خلق منه غيرهم من البشر،فصلح لإرسال الرّسول و الدّعوة إلى الحقّ و التّلبّس بعبوديّته تعالى،فهؤلاء لا يتعلّق بهم تكليف،و لا يتوجّه إليهم أمر و لا نهي، و لا تستتبع أعمالهم ثوابا و لا عقابا،لكونهم مخلوقين من غير ما خلق منه غيرهم.

و في معنى الجملة أقوال أخر:

فقيل:المراد:أم أحدثوا و قدّروا هذا التّقدير البديع من غير مقدّر و خالق،فلا حاجة لهم إلى خالق يدبّر أمرهم.

و قيل:المراد:أم خلقوا من غير شيء حيّ،فهم لا يؤمرون و لا ينهون كالجمادات.

و قيل:المعنى:أم خلقوا من غير علّة و لا لغاية ثواب و عقاب،فهم لذلك لا يسمعون.

و قيل:المعنى:أم خلقوا باطلا لا يحاسبون و لا يؤمرون و لا ينهون.

و ما قدّمناه من المعنى أقرب إلى لفظ الآية و أشمل.

و قوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي لأنفسهم،فليسوا مخلوقين للّه سبحانه حتّى يربّهم و يدبّر أمرهم بالأمر و النّهي.(19:20)

عبد الكريم الخطيب :هو انتقال بالقضيّة الّتي تتّصل بالقرآن،و بمقولاتهم فيه،بعد أن دعاهم إلى التّحدّي،فلم يقوموا له،انتقال إلى ميدان آخر من ميادين المحاجّة.فليدعوا هذا القرآن،و ليدعوا ما يحدّثهم به النّبيّ منه.ثمّ لينظروا في أنفسهم،و ليجيبوا على هذا السّؤال:أخلقوا من غير شيء؟فمن أين إذن جاءوا إلى هذه الدّنيا؟و من صوّرهم على تلك الصّورة الّتي هم فيها؟أخلقوا هم أنفسهم؟أ صوّروا هذه النّطف الّتي بدأت بها مسيرتهم في الحياة في أرحام أمّهاتهم؟إنّه لا جواب إلاّ الصّمت المطبق،و الوجوم الحائر.(14:574)

مكارم الشّيرازيّ: ما هو كلامكم الحقّ؟

هذه الآيات تواصل البحث الاستدلاليّ السّابق- كذلك-و هي تناقش المنكرين للقرآن و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و قدرة اللّه سبحانه.

ص: 441

و هي آيات تبدأ جميعها ب(ام)الّتي تفيد الاستفهام و تشكّل سلسلة من الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعا-بصورة الاستفهام الإنكاريّ-و بتعبير أجلى إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطّرق بوجه المخالفين، فلا تدع لهم مهربا في عبارات موجزة و مؤثّرة جدّا؛ بحيث ينحني الإنسان لها من دون اختياره إعظاما، و يعترف و يقرّ بانسجامها و عظمتها.فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ.

و هذه العبارة الموجزة و المقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى«برهان العلّيّة»المعروف الوارد في الفلسفة و علم الكلام،لإثبات وجود اللّه،و هو أنّ العالم الّذي نعيش فيه ممّا لا شكّ فيه حادث،لأنّه في تغيير دائم، و كلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث،و كلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديما و أزليّا.

و الآن ينقدح هذا السّؤال،و هو إذا كان العالم حادثا فلا يخرج عن الحالات الخمس التّالية:

1-وجد من دون علّة!

2-هو نفسه علّة لنفسه.

3-معلولات العالم علّة لوجوده.

4-إنّ هذا العالم معلول لعلّة أخرى،و هي معلولة لعلّة أخرى إلى ما لا نهاية.

5-إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الّذي يكون وجوده ذاتيّا له.

و بطلان الاحتمالات الأربع المتقدّمة واضح،لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال،و إلاّ فينبغي أن يكون كلّ شيء موجودا في أيّ ظرف كان،و الأمر ليس كذلك!

و الاحتمال الثّاني و هو أن يوجد الشّيء من نفسه محال أيضا،لأنّ مفهومه أن يكون موجودا قبل وجوده،و يلزم منه اجتماع النّقيضين،فلاحظوا بدقّة.

و كذلك الاحتمال الثّالث و هو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته،و هو واضح البطلان؛إذ يلزم منه الدّور!و كذلك الاحتمال الرّابع و هو تسلسل العلل و ترتّب العلل و المعلول إلى ما لا نهاية أيضا محال،لأنّ سلسلة المعلولات اللاّمحدودة مخلوقة،و المخلوق مخلوق و يحتاج إلى خالق أوجده،ترى هل تتحوّل الأصفار الّتي لا نهاية لها إلى عدد؟!أو ينفلق النّور من ما لا نهاية الظّلمة؟!و هل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر و الفاقة؟

فبناء على ذلك لا طريق إلاّ القبول بالاحتمال الخامس،أي خالقيّة واجب الوجود،فلاحظوا بدقّة أيضا.

و حيث إنّ الرّكن الأصليّ لهذا البرهان هو نفي الاحتمالين الأوّل و الثّاني،فإنّ القرآن اقتنع به فحسب.

و الآن ندرك جيّدا وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة!(17:173)

فضل اللّه : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ و هذا هو بداية التّساؤل الّذي يطرح المسألة في نطاق قدرتهم، ليطرح المسألة من جميع جوانبها،فهؤلاء الّذين يقفون موقف التّحدّي للّه و رسوله،و هم المخلوقون الّذين

ص: 442

كانوا عدما،كيف وجدوا؟هل كان وجودهم مجرّد صدفة أنتجتها حركة الوجود؟و كيف يمكن لموجود لا يملك في ذاته ما يحتّم وجوده،أن يوجد بذاته؟ فكيف خلقوا من غير شيء؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ الّذين خلقوا أنفسهم،و كيف يخلق الإنسان نفسه من العدم؟!و إذا تجاوز التّساؤل و طال إلى السّماوات و الأرض الّتي يقفون عليها و يستظلّون بها أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حتّى يقفوا هذا الموقف المتحدّي الّذي يوحي باستعراض القوّة أمام اللّه،و كيف تعقل مثل هذه الفرضيّة الّتي يعرفون عدم صدقها في واقعهم الحياتيّ؟ بَلْ لا يُوقِنُونَ لأنّهم لا يأخذون بأسباب اليقين لما يعيشونه من أجواء اللاّمبالاة الّتي تمنعهم من تركيز أفكارهم في دائرة التّوحيد،و تدفعهم إلى اتّخاذ مواقف غوغائيّة،و إطلاق كلمات لا معنى لها،كما أنّهم لا يملكون قدرات أخرى تمكّنهم من تأدية الدّور الّذي يريدون أن يلعبوه في حياة النّاس،و ليؤكّدوا قوّتهم من خلاله.(21:244)

خلقت

...رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ. آل عمران:191

الطّبريّ: و إنّما قال: ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً و لم يقل:ما خلقت هذه،و لا هؤلاء،لأنّه أراد ب(هذا):

الخلق الّذي في السّماوات و الأرض،يدلّ على ذلك قوله: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ، و رغبتهم إلى ربّهم في أن يقيهم عذاب الجحيم.و لو كان المعنيّ بقوله: ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً: السّماوات و الأرض، لما كان لقوله عقيب ذلك: فَقِنا عَذابَ النّارِ، معنى مفهوم،لأنّ السّماوات و الأرض أدلّة على بارئها،لا على الثّواب و العقاب،و إنّما الدّليل على الثّواب و العقاب:الأمر و النّهي.(3:551)

الزّجّاج: معناه يقولون: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً أي خلقته دليلا عليك،و على صدق ما أتت به أنبياؤك،لأنّ الأنبياء تأتي بما يعجز عنه المخلوقون، فهو كالسّماوات و الأرض في الدّليل على توحيد اللّه.

(1:499)

الثّعلبيّ: ذهب به إلى لفظ«الخلق»،و لو ردّه إلى السّماوات و الأرض،لقال:هذه باطلا عبثا هزلا،بل خلقته لأمر عظيم.(3:232)

نحوه البغويّ.(1:556)

الطّوسيّ: و قوله: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً إنّما قال:(هذا)و لم يقل:هذه،و لا هؤلاء،لأنّه أراد به:

الخلق،كأنّه قال:ما خلقت هذا الخلق باطلا،أي يقولون: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً بل خلقته دليلا على وحدانيّتك،و على صدق ما أتت به أنبياؤك، لأنّهم يأتون بما يعجز عنه جميع الخلق.(3:81)

الواحديّ: أي و يقولون:ربّنا ما خلقت هذا الخلق(باطلا)لغير شيء،خلقته دليلا على حكمتك،و كمال قدرتك.(1:533)

نحوه الميبديّ(2:387)،و القرطبيّ(4:315)، و الخازن(1:391)،و الشّوكانيّ(1:521).

الزّمخشريّ: فإن قلت:(هذا)إشارة إلى ما ذا؟ قلت:إلى«الخلق»على أنّ المراد:به المخلوق،كأنّه

ص: 443

قيل:و يتفكّرون في مخلوق السّماوات و الأرض،أي فيما خلق منها.و يجوز أن يكون إشارة إلى السّماوات و الأرض،لأنّها في معنى المخلوق.كأنّه قيل:ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا.و في هذا ضرب من التّعظيم،كقوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الإسراء:9،و يجوز أن يكون(باطلا) حالا من(هذا).(1:488)

نحوه الفخر الرّازيّ.(9:138)

ابن عطيّة: معناه يقولون:ربّنا على النّداء،ما خلقت هذا باطلا،يريد لغير غاية منصوبة،بل خلقته و خلقت البشر لينظر فيه فتوحّد و تعبّد،فمن فعل ذلك نعّمته،و من ضلّ عن ذلك عذّبته،لفكره و قوله عليك ما لا يليق بك،و لهذا المعنى الّذي تعطيه قوّة اللّفظ حسن قولهم:(سبحانك)أي تنزيها لك عمّا يقول المبطلون.(1:555)

العكبريّ: ...فإن قيل:كيف قال:(هذا)و السّابق ذكر(السماوات و الارض)و الإشارة إليها بهذه؟ ففي ذلك ثلاثة أوجه:

أحدها:أنّ الإشارة إلى«الخلق»المذكور في قوله:

(خلق السماوات،)و على هذا يجوز أن يكون «الخلق»مصدرا،و أن يكون بمعنى المخلوق،و يكون من إضافة الشّيء إلى ما هو هو في المعنى.

و الثّاني:أنّ(السماوات و الارض)بمعنى الجمع، فعادت الإشارة إليه.

و الثّالث:أن يكون المعنى:ما خلقت هذا المذكور أو المخلوق.(1:320)

البيضاويّ: على إرادة القول،أي يتفكّرون قائلين ذلك.و(هذا)إشارة إلى المتفكّر فيه أي الخلق، على أنّه أريد به المخلوق من السّماوات و الأرض،أو إليهما لأنّهما في معنى المخلوق.و المعنى:ما خلقته عبثا ضائعا من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة،من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان،و سببا لمعاشه، و دليلا يدلّه على معرفتك و يحثّه على طاعتك،لينال الحياة الأبديّة و السّعادة السّرمديّة في جوارك.

(1:198)

نحوه النّسفيّ(1:201)،و أبو حيّان ملخّصا(3:

139)،و الشّربينيّ(1:275)،و البروسويّ(2:145) و المشهديّ(2:321).

السّمين:و(هذا)في قوله: ما خَلَقْتَ هذا إشارة إلى«الخلق»إن أريد به المخلوق.و أجاز أبو البقاء حال الإشارة إليه ب(هذا)أن يكون مصدرا على حاله لا بمعنى المخلوق-و فيه نظر-أو إلى السّماوات و الأرض،و إن كانا شيئين كلّ منهما جمع، لأنّهما بتأويل:هذا المخلوق العجيب،أو لأنّهما في معنى الجمع فأشير إليهما كما يشار إلى لفظ الجمع.

(2:283)

أبو السّعود :كلمة(هذا)إشارة إلى السّماوات و الأرض متضمّنة لضرب من التّعظيم،كما في قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الإسراء:

9،و التّذكير لما أنّهما باعتبار تعلّق الخلق بهما في معنى المخلوق،أو إلى«الخلق»على تقدير كونه بمعنى المخلوق.(2:83)

ص: 444

الآلوسيّ: الإشارة إلى السّماوات و الأرض لما أنّهما باعتبار تعلّق الخبر بهما في معنى المخلوق،أو إلى «الخلق»على تقدير كونه بمعنى المخلوق،و قيل:إليهما باعتبار المتفكّر فيه.و على كلّ فأمر الإفراد و التّذكير واضح.و العدول عن الضّمير إلى اسم الإشارة للإشارة إلى أنّها مخلوقات عجيبة،يجب أن يعتنى بكمال تمييزها استعظاما لها.و نظير ذلك قوله تعالى:

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الإسراء:9،...

و المعنى:ربّنا ما خلقت هذا المخلوق أو المتفكّر فيه العظيم الشّأن عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة، كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك،المعرضين عن التّفكّر فيه،العادمين من جناح النّظر قداماه و خوافيه، بل خلقته مشتملا على حكم جليلة منتظما لمصالح عظيمة،تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها، و تكلّ أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها.

و من جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد.و منارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدإ و المعاد،حسبما نطقت به كتبك و جاءت به رسلك.

و الجملة بتمامها في حيّز النّصب بقول مقدّر،أي يقولون:ربّنا إلخ.و جملة القول حال من المستكنّ في (يتفكرون)أي يتفكّرون في ذلك قائلين: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً و إلى هذا ذهب عامّة المفسّرين.

و اعترض بأنّ النّظم الكريم لا يساعده لما أنّ(ما) في حيّز الصّلة و ما هو قيد له حقّه أن يكون من مبادئ الحكم الّذي أجرى على الموصول و دواعي ثبوته له، كذكرهم للّه تعالى في عامّة أوقاتهم،و تفكّرهم في خلق السّماوات و الأرض،فإنّهما ممّا يؤدّي إلى اجتلاء تلك الآيات و الاستدلال بها على المطلوب.و لا ريب أنّ قولهم ذلك ليس من مبادئ الاستدلال المذكور بل من نتائجها المترتّبة عليه،فاعتباره قيدا لما في حيّز الصّلة ممّا لا يليق بشأن التّنزيل الجليل.فاللاّئق أن تكون جملة القول استئنافا مبيّنا لنتيجة التّفكّر،و مدلول الآيات ناشئا ممّا سبق،فإنّ النّفس عند سماع تخصيص الآيات المنصوبة في خلق العالم،ب(اولى الالباب،) ثمّ وصفهم بذكر اللّه تعالى.و التّفكّر في مجال تلك الآيات تبقى مترقّبة لما يظهر منهم من آثارها و أحكامها،كأنّه قيل:فما ذا يكون عند تفكّرهم في ذلك و ما يترتّب عليه من النّتيجة؟فقيل:يقولون:

كيت و كيت،ممّا ينبئ عن وقوفهم على سرّ الخلق المؤدّي إلى معرفة صدق الرّسل،و حقّيّة الكتب النّاطقة بتفاصيل الأحكام الشّرعيّة.

و هذا على تقدير كون الموصول موصولا نعتا ل(اولى)و أمّا على تقدير كونه مفصولا منصوبا أو مرفوعا على المدح مثلا،فتأتي الحاليّة من ذلك؛إذ لا اشتباه في أنّ قولهم هذا من مبادئ مدحهم،و محاسن مناقبهم،و يكون في إبراز هذا القول في معرض الحال إشعار بمقارنته لتفكّرهم،من غير تردّد و تلعثم في ذلك، انتهى.

و هو كلام تلوح عليه أمارات التّحقيق و مخايل التّدقيق،و القول بأنّ الحاليّة تجتمع مع كون القول المذكور من النّتائج،لا يخفى ما فيه.ثمّ كون هذا القول من نتائج التّفكّر ممّا لا يكاد ينكره ذو فكر.و توضيح

ص: 445

ذلك على رأي أنّ القوم لمّا تفكّروا في مخلوقاته سبحانه،و لا سيّما السّماوات مع ما فيها من الشّمس و القمر و النّجوم و الأرض،و ما عليها من البحار و الجبال و المعادن؛عرفوا أنّ لها ربّا و صانعا فقالوا:

(ربنا.)ثمّ لمّا اعترفوا بأنّ (1)في كلّ من ذلك حكما و مقاصد و فوائد لا تحيط بتفاصيلها الأفكار،قالوا:

ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً. ثمّ لمّا تأمّلوا و قاسوا أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها،رأوا أنّه لا بدّ و أن يكون الصّانع منزّها عن مشابهة شيء منها.فإذن هو ليس بجسم و لا عرض و لا في حيّز و لا بمفتقر و لا و لا...

(4:159)

سيّد قطب :ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا، و لكن ليكون حقّا.الحقّ قوامه،و الحقّ قانونه،و الحقّ أصيل فيه.إنّ لهذا الكون حقيقة،فهو ليس عدما كما تقول بعض الفلسفات!و هو يسير وفق ناموس، فليس متروكا للفوضى.و هو يمضي لغاية،فليس متروكا للمصادقة.و هو محكوم في وجوده و في حركته و في غايته بالحقّ لا يتلبّس به الباطل.

هذه هي اللّمسة الأولى الّتي تمسّ قلوب(اولى الالباب)من التّفكّر في خلق السّماوات و الأرض، و اختلاف اللّيل و النّهار بشعور العبادة و الذّكر و الاتّصال.و هي اللّمسة الّتي تطبع حسّهم بالحقّ الأصيل في تصميم هذا الكون،فتطلق ألسنتهم بتسبيح اللّه و تنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ.

ثمّ تتوالى الحركات النّفسيّة،تجاه لمسات الكون و إيحاءاته.(1:546)

ابن عاشور :و قوله: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً و ما بعده جملة واقعة موقع الحال،على تقدير قول:أي يتفكّرون قائلين:(ربنا)إلخ،لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدّعاء.

فإن قلت:كيف تواطأ الجمع من(اولى الالباب) على قول هذا التّنزيه و الدّعاء عند التّفكّر مع اختلاف تفكيرهم و تأثّرهم و مقاصدهم؟

قلت:يحتمل أنّهم تلقّوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فكانوا يلازمونه عند التّفكّر و عقبه،و يحتمل أنّ اللّه ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثل قوله تعالى: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا البقرة:285،و يدلّ لذلك حديث ابن عبّاس في«الصّحيح»قال:«بتّ عند خالتي ميمونة،فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فمسح النّوم عن وجهه،ثمّ قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران»إلى آخر الحديث.

و يجوز عندي أن يكون قوله: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً حكاية لتفكّرهم في نفوسهم،فهو كلام النّفس يشترك فيه جميع المتفكّرين،لاستوائهم في صحّة التّفكّر لأنّه تنقّل من معنى إلى متفرّع عنه،و قد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني.

فأوّل التّفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلا،ثمّ تفرّع عنه تنزيه اللّه و سؤاله أن يقيهم عذاب النّار، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعا و عاصيا،فعلموا أنّ!!

ص: 446


1- في الأصل:في أنّ!!

وراء هذا العالم ثوابا و عقابا،فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب.و توسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذلوا غاية مقدورهم في طلب النّجاة؛إذ استجابوا لمنادي الإيمان-و هو الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم-و سألوا غفران الذّنوب،و تكفير السّيّئات،و الموت على البرّ إلى آخره...فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التّفكّرات،و ربّما زاد عليها.و لمّا نزلت هذه الآية و شاعت بينهم،اهتدى لهذا التّفكير من لم يكن انتبه له من قبل،فصار شائعا بين المسلمين بمعانيه و ألفاظه.

و معنى رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً أي خلقا باطلا،أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل،فهي حال لازمة الذّكر في النّفي و إن كانت فضلة في الإثبات، كقوله: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ الدّخان:38،فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خليّ عن الحكمة، و العرب تبني صيغة النّفي على اعتبار سبق الإثبات كثيرا.(3:308)

الطّباطبائيّ: إنّما قيل:(هذا)مع كون المشار إليه جمعا و مؤنّثا؛إذ الغرض لا يتعلّق بتمييز أشخاصها و أسمائها و الجميع في أنّها خلق واحد،و هذا نظير ما حكى اللّه تعالى من قول إبراهيم: فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ الأنعام:78،لعدم علمه بعد بحقيقتها و اسمها،سوى أنّها شيء.(4:87)

مكارم الشّيرازيّ: لو أنّنا نظرنا في تركيبة نبتة معيّنة،للاحظنا أهدافا واضحة فيها،و هكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان و ما فيه من حفر، و صمّامات،و أبواب و بطون،فكلّ شيء فيه مخلوق لغاية،و مجعول لهدف.و كذا الحال في طبقات العين،بل و حتّى الأجفان و الأظافر،كلّ واحد منها يؤدّي دورا، و يحقّق غاية،فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصّغيرة جدّا بالنّسبة للكون العظيم،أهداف واضحة و غايات ملحوظة؟و لا يكون لمجموعه المتمثّل في الظّاهرة الكونيّة الهائلة العظيمة،أيّ هدف مطلقا رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً!

إنّ العقلاء لا يمكنهم-و هم يواجهون هذه الحقيقة السّاطعة-إلاّ أن يقولوا بخشوع هذه الجملة: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ أي ربّنا إنّك لم تخلق هذا العالم العظيم.

و هذا الكون الّذي لا يعرف له حدّ،و هذا النّظام المتقن البديع إلاّ على أساس الحكم و المصلحة، و لهدف صحيح،فكلّ هذا آية وحدانيّتك،و كلّ هذا ينزّهك عن اللّغو و العبث.

إنّ أصحاب العقول السّليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفيّة في الخليقة يتذكّرون أنفسهم فورا، و كيف يعقل أن يكونوا-و هم ثمرة هذا الموجود نفسه و هذا الكون بالذّات-قد خلقوا سدى،أو جاءوا إلى هذه الحياة عبثا،و أنّه ليس هناك من هدف سوى تربيتهم و تكاملهم.(3:47)

خلقته

قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. الأعراف:12

ص: 447

ابن عبّاس: أنا ناريّ و آدم طينيّ،و النّار تأكل الطّين.(124)

لمّا خلق اللّه آدم قال للملائكة الّذين كانوا مع إبليس خاصّة،دون الملائكة الّذين في السّماوات:

اُسْجُدُوا لِآدَمَ، فسجدوا كلّهم أجمعون إلاّ إبليس استكبر،لمّا كان حدّث نفسه،من كبره و اغتراره، فقال:«لا أسجد له،و أنا خير منه،و أكبر سنّا،و أقوى خلقا،خلقتني من نار و خلقته من طين!»يقول:إنّ النّار أقوى من الطّين.(الطّبريّ 5:441)

مجاهد :قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، قال:ثمّ جعل ذرّيّته من ماء.(الطّبريّ 5:441)

الحسن : خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قاس إبليس،و هو أوّل من قاس.(الطّبريّ 5:441)

ابن سيرين:أوّل من قاس إبليس،و ما عبدت الشّمس و القمر إلاّ بالمقاييس.(الطّبريّ 5:441)

الطّبريّ: و أمّا قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، فإنّه خبر من اللّه جلّ ثناؤه عن جواب إبليس إيّاه؛إذ سأله:ما الّذي منعه من السّجود لآدم،فأحوجه إلى أن لا يسجد له،و اضطرّه إلى خلافه أمره به،و تركه طاعته؟أنّ المانع كان له من السّجود،و الدّاعي له إلى خلافه أمر ربّه في ذلك:أنّه أشدّ منه أيدا،و أقوى منه قوّة،و أفضل منه فضلا لفضل الجنس الّذي منه خلق،و هو النّار،على الّذي خلق منه آدم،و هو الطّين.فجهل عدوّ اللّه وجه الحقّ، و أخطأ سبيل الصّواب؛إذ كان معلوما أنّ من جوهر النّار الخفّة و الطّيش و الاضطراب و الارتفاع علوّا، و الّذي في جوهرها من ذلك هو الّذي حمل الخبيث- بعد الشّقاء الّذي سبق له من اللّه في الكتاب السّابق،- على الاستكبار عن السّجود لآدم،و الاستخفاف بأمر ربّه،فأورثه العطب و الهلاك.و كان معلوما أنّ من جوهر الطّين الرّزانة و الأناة و الحلم و الحياء و التّثبّت؛ و ذلك الّذي هو في جوهره من ذلك،كان الدّاعي لآدم -بعد السّعادة الّتي كانت سبقت له من ربّه في الكتاب السّابق،-إلى التّوبة من خطيئته،و مسألته ربّه العفو عنه و المغفرة.و لذلك كان الحسن و ابن سيرين يقولان:أوّل من قاس إبليس،يعنيان بذلك:القياس الخطأ،و هو هذا الّذي ذكرنا من خطإ قوله،و بعده من إصابة الحقّ،في الفضل الّذي خصّ اللّه به آدم على سائر خلقه:من خلقه إيّاه بيده،و نفخه فيه من روحه، و إسجاده له الملائكة،و تعليمه أسماء كلّ شيء،مع سائر ما خصّه به من كرامته.فضرب عن ذلك كلّه الجاهل صفحا،و قصد إلى الاحتجاج بأنّه خلق من نار و خلق آدم من طين!و هو في ذلك أيضا له غير كفوء،لو لم يكن لآدم من اللّه جلّ ذكره تكرمة شيء غيره،فكيف و الّذي خصّ به من كرامته يكثر تعداده، و يملّ إحصاؤه؟!

و هذا الّذي قاله عدوّ اللّه ليس لما سأله عنه بجواب،و ذلك أنّ اللّه تعالى ذكره قال له:ما منعك من السّجود؟فلم يجب بأنّ الّذي منعه من السّجود أنّه خلق من نار و خلق آدم من طين،و لكنّه ابتدأ خبرا عن نفسه،فيه دليل على موضع الجواب،فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. (5:440)

ص: 448

الطّوسيّ: و قوله: أَنَا خَيْرٌ... حكاية لجواب إبليس حين ذمّه تعالى على الامتناع من السّجود، فأجاب بما قال.و هذا الجواب غير مطابق،لأنّه كان يجب أن يقول معنى كذا،لأنّ قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواب لمن يقول:أيّكما خير؟و لكن فيه معنى الجواب.و يجري ذلك مجرى أن يقول القائل لغيره:

كيف كنت؟فيقول:أنا صالح،و كان يجب أن يقول:

كنت صالحا،لكنّه جاز ذلك،لأنّه أفاد أنّه صالح في الحال مع ما كان صالحا فيما مضى.

و وجه دخول الشّبهة عليه في أنّه خلقه من نار و خلق آدم من طين،أنّه ظنّ أنّ النّار إذا كانت أشرف لم يجز أن يسجد الأشرف للأدون.و هذا خطأ،لأنّ ذلك تابع لما يعلم اللّه من مصالح العباد،و ما يتعلّق به من اللّطف لهم،و لم يكن ذلك استخفافا بهم بالأعمال.

و قد قال الجبّائيّ: إنّ الطّين خير من النّار،لأنّها أكثر منفعة للخلق،من حيث إنّ الأرض مستقرّ الخلق و فيها معايشهم،و منها تخرج أنواع أرزاقهم،لأنّ الخيريّة في الأرض أو النّار،إنّما يراد بهما كثرة المنافع، دون كثرة الثّواب،لأنّ الثّواب لا يكون إلاّ للمكلّف المأمور،و هذان جمادان.

و على ما يذهب إليه أصحابنا أنّ ذلك يدلّ على تفضيل آدم على الملائكة،و كان ذلك مستحقّا،فلذلك أسجد اللّه الملائكة له.

فإن قيل:لم اعترض إبليس على اللّه مع علمه أنّه لا يفعل إلاّ الحكمة؟

قلنا:عنه جوابان:

أحدهما:أنّه اعترض كما يعترض السّفيه على الحكيم الحليم في تدبيره،من غير فكر في العاقبة.

و الثّاني:أن يكون جهل هذا بشبهة دخلت عليه، و على ما نذهب إليه من أنّه لم يكن عرف اللّه قطّ سقطت الشّبهة.

و استدلّ أيضا بهذه الآية على أنّ الجواهر متماثلة بأن قيل:لا شيء أبعد إلى الحيوان من الجماد،فإذا جاز أن ينقلب الطّين حيوانا و إنسانا جاز أن ينقلب إلى كلّ حال من أحوال الجواهر،لأنّه لا فرق بينهما في العقل.

و استدلّ أيضا بهذه الآية على أنّ الأمر من اللّه يقتضي الإيجاب،بأنّ اللّه تعالى ذمّ إبليس على امتناعه من السّجود حين أمره،فلو كان الأمر يقتضي النّدب لما استحقّ العيب بالمخالفة و ترك الامتثال،و الأمر بخلاف ذلك في الآية.(4:386)

نحوه الطّبرسيّ.(2:402)

ابن عطيّة: [ذكر القول بزيادة(لا)و القول بعدم زيادتها ثمّ قال:]«قال القاضي أبو محمّد:و جملة هذا الغرض أن يقدّر في الكلام فعل يحسن حمل النّفي عليه،كأنّه قال:ما أحوجك أو حملك أو اضطرّك؟».

و جواب إبليس اللّعين ليس عمّا سئل عنه،و لكنّه جاء بكلام يتضمّن الجواب و الحجّة عليه،فكأنّه قال:

منعني فضلي إذ أنا خير منه حين خلقتني من نار و خلقته من طين.[و نقل قول ابن عبّاس ثمّ قال:]

و ظنّ إبليس أنّ النّار أفضل من الطّين،و ليس كذلك بل هي في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق،فلمّا ظنّ إبليس أنّ صعود النّار و خفّتها

ص: 449

يقتضي فضلا على سكون الطّين و بلادته،قاس أنّ ما خلق منها أفضل ممّا خلق من الطّين،فأخطأ قياسه، و ذهب عليه أنّ الرّوح الّذي نفخ في آدم ليس من طين.

قال الطّبريّ: ذهب عليه ما في النّار من الطّيش و الخفّة و الاضطراب،و في الطّين من الوقار و الأناة و الحمل و التّثبّت.

و في كلام الطّبريّ نظر.(2:379)

الفخر الرّازيّ: في الآية مسائل:[إلى أن قال:]

المسألة الخامسة:اعلم أنّ قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ طلب الدّاعي الّذي دعاه إلى ترك السّجود،فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الدّاعي، و هو أنّه قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. و معناه:أنّ إبليس قال:إنّما لم أسجد لآدم، لأنّي خير منه،و من كان خيرا من غيره،فإنّه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسّجود لذلك الأدون!ثمّ بيّن المقدّمة الأولى و هو قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ بأن قال:

خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و النّار أفضل من الطّين و المخلوق من الأفضل أفضل،فوجب كون إبليس خيرا من آدم.

أمّا بيان أنّ النّار أفضل من الطّين،فلأنّ النّار مشرق،علويّ،لطيف،خفيف،حارّ،يابس،مجاور لجواهر السّماوات،ملاصق لها.و الطّين مظلم،سفليّ، كثيف،ثقيل،بارد،يابس،بعيد عن مجاورة السّماوات.

و أيضا فالنّار قويّة التّأثير و الفعل،و الأرض ليس لها إلاّ القبول و الانفعال،و الفعل أشرف من الانفعال.

و أيضا فالنّار مناسبة للحرارة الغريزيّة و هي مادّة الحياة،و أمّا الأرضيّة و البرد و اليبس فهما مناسبان الموت،و الحياة أشرف من الموت.و أيضا فنضج الثّمار متعلّق بالحرارة،و أيضا فسنّ النّموّ من النّبات لمّا كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين،و أمّا وقت الشّيخوخة،فهو وقت البرد و اليبس المناسب للأرضيّة،لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان.فأمّا بيان أنّ المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر،لأنّ شرف الأصول يوجب شرف الفروع.و أمّا بيان أنّ الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون،فلأنّه قد تقرّر في العقول أنّ من أمر أبا حنيفة و الشّافعيّ و سائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدّرجة،كان ذلك قبيحا في العقول،فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.

فنقول:هذه الشّبهة مركّبة من مقدّمات ثلاثة: (1)

أوّلها:أنّ النّار أفضل من التّراب،فهذا قد تكلّمنا فيه في سورة البقرة.

و أمّا المقدّمة الثّانية:و هي أنّ من كانت مادّته أفضل فصورته أفضل.فهذا هو محلّ النّزاع و البحث، لأنّه لمّا كانت الفضيلة عطيّة من اللّه ابتداء،لم يلزم من فضيلة المادّة فضيلة الصّورة.أ لا ترى أنّه يخرج الكافر من المؤمن و المؤمن من الكافر،و النّور من الظّلمة و الظّلمة من النّور؛و ذلك يدلّ على أنّ الفضيلة لا تحصل إلاّ بفضل اللّه تعالى،لا بسبب فضيلة الأصلن.

ص: 450


1- لقد ذكر مقدّمتين.

و الجوهر.و أيضا التّكليف إنّما يتناول الحيّ بعد انتهائه إلى حدّ كمال العقل،فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه،و أيضا فالفضل إنّما يكون بالأعمال و ما يتّصل بها،لا بسبب المادّة.أ لا ترى أنّ الحبشيّ المؤمن مفضّل على القرشيّ الكافر.

المسألة السّادسة:احتجّ من قال:أنّه لا يجوز تخصيص عموم النّصّ بالقياس،بأنّه لو كان تخصيص عموم النّصّ بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا الذّمّ الشّديد و التّوبيخ العظيم.و لمّا حصل ذلك دلّ على أنّ تخصيص عموم النّصّ بالقياس لا يجوز،و بيان الملازمة أنّ قوله تعالى للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ البقرة:34،خطاب عامّ يتناول جميع الملائكة.ثمّ إنّ إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس،و هو أنّه مخلوق من النّار و النّار أشرف من الطّين،و من كان أصله أشرف فهو أشرف،فيلزم كون إبليس أشرف من آدم عليه السّلام،و من كان أشرف من غيره،فإنّه لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون الأدنى.

و الدّليل عليه أنّ هذا الحكم ثابت في جميع النّظائر،و لا معنى للقياس إلاّ ذلك،فثبت أنّ إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا إلاّ أنّه خصّص عموم قوله تعالى للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ البقرة:34،بهذا القياس،فلو كان تخصيص النّصّ بالقياس جائزا، لوجب أن لا يستحقّ إبليس الذّمّ على هذا العمل، و حيث استحقّ الذّمّ الشّديد عليه،علمنا أنّ تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز.

و أيضا ففي الآية دلالة على صحّة هذه المسألة من وجه آخر؛و ذلك لأنّ إبليس لمّا ذكر هذا القياس قال تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها الأعراف:13،فوصف تعالى إبليس بكونه متكبّرا بعد أن حكى عنه ذلك القياس الّذي يوجب تخصيص النّصّ.و هذا يقتضي أنّ من حاول تخصيص عموم النّصّ بالقياس تكبّر على اللّه،و لمّا دلّت هذه الآية على أنّ تخصيص عموم النّصّ بالقياس تكبّر على اللّه، و دلّت هذه الآية على أنّ التّكبّر على اللّه يوجب العقاب الشّديد و الإخراج من زمرة الأولياء و الإدخال في زمرة الملعونين؛ثبت أنّ تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز.

و هذا هو المراد ممّا نقله الواحديّ في«البسيط»،عن ابن عبّاس أنّه قال:كانت الطّاعة أولى بإبليس من القياس،فعصى ربّه و قاس،و أوّل من قاس إبليس، فكفر بقياسه،فمن قاس الدّين بشيء من رأيه قرنه اللّه مع إبليس.

هذا جملة الألفاظ الّتي نقلها الواحديّ في «البسيط»عن ابن عبّاس.

فإن قيل:القياس الّذي يبطل النّصّ بالكلّيّة باطل،أمّا القياس الّذي يخصّص النّصّ في بعض الصّور فلم قلتم إنّه باطل؟

و تقريره:أنّه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النّار بالسّجود لمن كان مخلوقا من الأرض،لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النّور المحض بالسّجود لمن كان مخلوقا من الأرض أولى و أقوى،لأنّ النّور أشرف من النّار.و هذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من

ص: 451

الملائكة بالسّجود لآدم،فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النّصّ بالكلّيّة،و أنّه باطل.

و أمّا القياس الّذي يقتضي تخصيص مدلول النّصّ العامّ،لم قلتم:إنّه باطل؟فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطّريقة و ما رأيت أحدا ذكر هذا السّؤال.

و يمكن أن يجاب عنه،فيقال:إنّ كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون.أمّا لو رضي ذلك الشّريف بتلك الخدمة لم يقبح،لأنّه لا اعتراض عليه في أنّه يسقط حقّ نفسه.أمّا الملائكة فقد رضوا بذلك،فلا بأس به، و أمّا إبليس فإنّه لم يرض بإسقاط هذا الحقّ،فوجب أن يقبح أمره بذلك السّجود.فهذا قياس مناسب،و أنّه يوجب تخصيص النّصّ،و لا يوجب رفعه بالكلّيّة و لا إبطاله.

فلو كان تخصيص النّصّ بالقياس جائزا،لما استوجب الذّمّ العظيم،فلمّا استوجب استحقاق هذا الذّمّ العظيم في حقّه،علمنا أنّ ذلك إنّما كان لأجل أنّ تخصيص النّصّ بالقياس غير جائز،و اللّه أعلم.

(14:32-34)

نحوه النّيسابوريّ.(8:81)

أبو حيّان :[ذكر نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]

و قال بعض العلماء:أخطأ قياسه و ذهب علمه أنّ الرّوح الّذي نفخ في آدم ليس من طين.و استدلّ نفاة القياس على إبطاله بقصّة إبليس،و لا حجّة فيها،لأنّه قياس في مورد النّصّ،فهو فاسد فلا يدلّ على بطلان القياس؛حيث لا نص.

و استدلّ بقوله: إِذْ أَمَرْتُكَ على أنّ مطلق الأمر يدلّ على الوجوب،و يدلّ على الفور لذمّ إبليس على امتناعه من السّجود في الحال،و لو لم يدلّ على الوجوب و لا على الفور لم يستوجب الذّمّ في الحال و لا مطلقا.(4:273)

الشّربينيّ: علّل الخيريّة بقوله تعالى: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ فهي أغلب أجزائي،و هي مشرقة مضيئة عالية غالبة، وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي هو أغلب أجزائه،و هو كدر مظلم سافل مغلوب،فكلّ منهما مركّب من العناصر الأربعة،فالإضافة إلى ما ذكر باعتبار الجزء الغالب.[و نقل أقوال ابن عبّاس و ابن سيرين ثمّ قال:]

و إنّما أخطأ إبليس،لأنّه رأى الفضل كلّه باعتبار العنصر،و غفل عمّا يكون باعتبار الفاعل،كما أشار إليه بقوله تعالى: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ص:75،أي:بغير واسطة.

و باعتبار الصّورة،كما نبّه عليه تعالى بقوله:

وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ الحجر:

29،و باعتبار الغاية و هي ملاكه،و لذلك أمر الملائكة بالسّجود لمّا تبيّن لهم أنّه أعلم منهم،و أنّ له خواصّا ليست لغيره.

و قال محمّد بن جرير:«ظنّ الخبيث أنّ النّار خير من الطّين،و لم يعلم أنّ المفضّل ما جعل اللّه له الفضل».

و قد فضّل اللّه الطّين عن النّار بوجوه:

منها:أنّ من جوهر الطّين:الرّزانة و الوقار و الحلم و الصّبر،و هو الدّاعي لآدم بعد السّعادة الّتي سبقت له

ص: 452

إلى التّوبة و التّواضع و التّضرّع،فأورثته الاجتباء و المنزلة و الهداية،و من جوهر النّار:الخفّة و الطّيش و الحدّة و الارتفاع،و هو الدّاعي لإبليس بعد الشّقاوة الّتي سبقت له إلى الاستكبار و الإصرار،فأورثته اللّعنة و الشّقاوة،و لأنّ الطّين سبب جمع الأشياء و النّار سبب تفرّقها.و لأنّ التّراب سبب الحياة،لأنّ حياة الأشجار و النّبات لا تكون إلاّ مع الطّين،و النّار سبب الهلاك».

فإن قيل:لم سأله اللّه تعالى عن المانع من السّجود، و هو عالم بما منعه؟

أجيب:بأنّه للتّوبيخ،و لإظهار معاندته و كفره و كبره و افتخاره بأصله،و ازدرائه أصل آدم عليه السّلام.

(1:465)

نحوه أبو السّعود(2:480)،و البروسويّ(3:

140).

الآلوسيّ: و قوله تعالى حكاية عنه: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تعليل لما ادّعاه عليه اللّعنة من فضله عليه عليه السّلام.و حاصله:أنّي مخلوق من عنصر أشرف من عنصره،لأنّ عنصري علويّ نيّر قويّ التّأثير مناسب لمادّة الحياة،و عنصره بضدّ ذلك، و المخلوق من الأشرف أشرف،لأنّ شرف الأصل يوجب شرف الفرع،فأنا كذلك،و الأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه.

و قد أخطأ اللّعين فإنّ كون النّار أشرف من التّراب ممنوع،فإنّ كلّ عنصر من العناصر الأربعة يختصّ بفوائد ليست لغيره،و كلّ منها ضروريّ في هذه النّشأة،و لكلّ فضيلة في مقامه و حاله،فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل.

على أنّ من نظر إلى أنّ الأرض أكثر منافع للخلق،لأنّها مستقرّهم و فيها معايشهم،و أنّها متّصفة بالرّزانة الّتي هي من مقتضيات الحلم و الوقار،و إلى أنّ النّار دونها في المنافع،و أنّها متّصفة بالخفّة الّتي هي من مقتضيات الطّيش و الاستكبار و التّرفّع،علم ما في كلام اللّعين،و أيضا شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع.

إنّما الورد من الشّوك و لا

ينبت النّرجس إلاّ من بصل

و يكفي في ذلك أنّه قد يخرج الكافر من المؤمن، و أيضا قد خصّ الشّرف بما هو من جهة المادّة و العنصر،مع أنّ الشّيء كما يشرّف بمادّته و عنصره يشرّف بفاعله و غايته و صورته.و هذا الشّرف في آدم عليه السّلام دونه،فانّ اللّه تعالى خلقه بيديه،و نفخ فيه من روحه،و جعله خليفة في الأرض،كما قصّ سبحانه لما أودعه فيه.و أيضا أيّ قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعا و إسقاطا لحظّ النّفس،على أنّ الخدمة في الحقيقة إنّما كانت للّه تعالى،

ثمّ الظّاهر أنّ هذا الجواب من اللّعين كان مع تسليم أنّه مأمور بالسّجود،و حينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم؛إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم.

و قال بعضهم:إنّه لم يسلّم أنّه كان مأمورا بل أخرج نفسه من العموم بالقياس.و استدلّ أهل هذا

ص: 453

القول بهذا التّوبيخ،على أنّه لا يجوز تخصيص النّصّ بالقياس.

و أجيب:بأنّ هذا ليس من التّخصيص بل هو إبطال للنّصّ،و رفع له بالكلّيّة،و فيه تأمّل.

و أخرج أبو نعيم في«الحلية»و الدّيلميّ عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه رضي اللّه تعالى عنهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«أوّل من قاس أمر الدّين برأيه إبليس،قال اللّه تعالى له:اسجد لآدم،فقال:أنا خير منه»إلخ،قال جعفر:فمن قاس أمر الدّين برأيه قرنه اللّه تعالى يوم القيامة بإبليس،لأنّه أتبعه بالقياس، و استدلّ بهذا و نحوه من منع القياس مطلقا.

و أجيب:عن ذلك:بأنّ المذموم هو القياس و الرّأي في مقابلة النّصّ،أو الّذي يعدم فيه شرط من الشّروط المعتبرة،و تحقيق ذلك في محلّه.

و في الآية دليل على الكون و الفساد،لدلالتها على خلق آدم عليه السّلام و إبليس عليه اللّعنة و إيجادهما، و على استحالة الطّين و النّار عمّا كانا عليه من الطّينيّة و النّاريّة،لما تركّب منهما ما تركّب،و على أنّ إبليس و نحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة.

قيل:لعلّ إضافة خلق آدم عليه السّلام إلى الطّين و خلقه إلى النّار باعتبار الجزء الغالب،و إلاّ فقد تقرّر أنّ الأجسام من العناصر الأربعة.و بعض النّاس من وراء المنع.(8:88)

رشيد رضا :أي منعني من ذلك إنّني أنا خير منه، لأنّك خلقتني من نار و خلقته من طين،و النّار خير من الطّين و أشرف،و لا ينبغي للأشرف أن يكرم من دونه و يعظّمه،أي و إن أمره بذلك ربّه.و هذا الجواب يتضمّن ضروبا من الجهل الفاضح،ما أوقع اللّعين فيها إلاّ حسده و كبره،فإنّهما يعميان البصائر.

الأوّل:الاعتراض على ربّه و خالقه،كما تضمّنه جوابه،و مثله في هذا كلّ من يعترض على كلام اللّه تعالى فيما لا يوافق هواه.و هذا كفر لا يقع مثله من مؤمن باللّه و بكتابه،فإنّ المؤمن إذا خفيت عليه حقيقة أو حكمة للّه في شيء من كلامه،بحث عنها بالتّفكّر و البحث و سؤال العلماء،و صبر إلى أن يهتدي إلى ما يطمئنّ به قلبه،مكتفيا قبل ذلك بأنّ اللّه تعالى يعلم ما لا يعلم من حقائق خلقه،و حكم شرعه،و فوائد أمره و نهيه.

الثّاني:الاحتجاج عليه بما يؤيّد به اعتراضه، و المؤمن المذعن لا يحتجّ على ربّه بل يعلم أنّ للّه الحجّة البالغة.

الثّالث:جعل امتثال أمر الرّبّ تعالى مشروطا باستحسان العبد له،و موافقته لرأيه و هواه،و هو رفض لطاعة الرّبّ،و ترفّع عن مرتبة العبد،و تعالى منه إلى وضع نفسه موضع النّدّ،و هو في حكم الدّين كفر،و في العقل حماقة و جهل.فإنّ الرّئيس لأيّة حكومة أو جيش أو جمعيّة أو شركة إذا كان لا يطيعه المرءوسون له إلاّ فيما يوافق أهواءهم و آراءهم، لا يلبث أمرهم أن يفسد بأن تختلّ الحكومة و تسقط، و ينكسر الجيش و يهلك،و تنحلّ الشّركة و تفلس.

و هكذا يقال في كلّ مصلحة يقوم بإدارتها كثرة، يرجع نظامها إلى جهة وحدة،كبوارج الحرب و سفن

ص: 454

التّجارة و معامل الصّناعة،فإذا كان الصّلاح و النّظام في كلّ أمر يتوقّف على طاعة الرّئيس،و هو ليس ربّا تجب طاعته لذاته و لا لنعمه،و لا معصوما من الخطإ فيما يأمر به،فما القول في وجوب طاعة ربّ العالمين على عبيده؟

و يشارك إبليس في هذا الجهل و ما قبله كثيرون ممّن يسمّون أنفسهم مؤمنين،يتركون طاعة اللّه تعالى فيما أمر به ممّا يخالف أهواءهم،و يحتجّون على ترك الصّيام مثلا بأن لا فائدة في الجوع و العطش،أو بأنّ اللّه غنيّ عن صيامهم!على أنّ حكم الصّيام كثيرة جليّة، كما بيّنّاها مرارا في التّفسير.و في«المنار»...

الرّابع:الاستدلال على الخيريّة بالمادّة الّتي كان منها التّكوين،و هذا جهل ظاهر من وجوه:[ثمّ ذكر وجوه الخيريّة و علّة الأمر بالسّجود فلاحظ]

(8:330)

ابن عاشور :و جملة: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ بيان لجملة: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فلذلك فصّلت،لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن.

و حصل لإبليس العلم بكونه مخلوقا من نار، بإخبار من الملائكة الّذين شهدوا خلقه،أو بإخبار من اللّه تعالى.

و كونه مخلوقا من النّار ثابت،قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ* وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الرّحمن:14،15،و إبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف:50 فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ و استند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الّذي خلق منه على العنصر الّذي خلق منه آدم.

و النّار هي الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة،كالنّار الّتي في الشّمس.و إذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّاريّة للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد.

و النّار أفضل من التّراب لقوّة تأثيرها،و تسلّطها على الأجسام الّتي تلاقيها،و لأنّها تضيء،و لأنّها زكيّة لا تلصق بها الأقذار،و التّراب لا يشاركها في ذلك،و قد اشتركا في أنّ كليهما تتكوّن منه الأجسام الحيّة كلّها.

و أمّا النّور الّذي خلق منه الملك فهو أخلص من الشّعاع الّذي يبين من النّار مجرّدا عن ما في النّار،من الأخلاط الجثمانيّة.

و الطّين:التّراب المختلط بالماء،و الماء عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار و التّراب.

و ظاهر القرآن في آيات هذه القصّة كلّها أنّ شرف النّار على التّراب مقرّر،و أنّ إبليس أوخذ بعصيان أمر اللّه عصيانا باتّا.و اللّه تعالى لمّا أمر الملائكة بالسّجود لآدم قد علم استحقاق آدم ذلك،بما أودع اللّه فيه من القوّة الّتي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة،في الزّكاء و التّقديس.

فأمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره،و ذلك ليس كافيا في التّفضيل وحده،ما لم يكن كيانه من ذلك العنصر مهيّئا إيّاه لبلوغ الكمالات،لأنّ العبرة بكيفيّة

ص: 455

التّركيب،و اعتبار خصائص المادّة المركّب منها بعد التّركيب،بحسب مقصد الخالق عند التّركيب، و لا عبرة بحالة المادّة المجرّدة.

فاللّه تعالى ركّب إبليس من عنصر النّار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الفساد و الاندفاع إليه بالطّبع دون نظر،بحسب خصائص المادّة المركّب هو منها.و ركّب آدم من عنصر التّراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الخير (1)و الصّلاح و الاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار و النّظر،بحسب ما تسمح به خصائص المادّة المركّب هو منها،و كلّ ذلك منوط بحكمة الخالق للتّركيب.و ركّب الملائكة من عنصر النّور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصريّة في الخيرات المحضة،و الاندفاع إلى ذلك بالطّبع دون اختيار و لا نظر،بحسب خصائص عنصرهم،و لذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكيّة أعلى و أعجب،و كان مبلغه إلى الرّذائل الشّيطانيّة أحطّ و أسهل،و من أجل ذلك خوطب بالتّكليف.

و لأجل هذا المعنى أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم أصل النّوع البشريّ،لأنّه سجود اعتراف للّه تعالى بمظهر قدرته العظيمة،و أمر إبليس بالسّجود له كذلك.فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر اللّه و لم يعلموا حكمته،و انتظروا البيان،كما حكى عنهم بقوله:

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ البقرة:32،فجاءهم البيان مجملا بقوله:

إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ البقرة:30،ثمّ مفصّلا بقصّة قوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ البقرة:31،إلى قوله: وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة:33.(8:32)

الطّباطبائيّ: و قوله: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ يحكي عمّا أجاب به لعنه اللّه،و هو أوّل معصيته و أوّل معصية عصى بها اللّه سبحانه،فإنّ جميع المعاصي ترجع بحسب التّحليل إلى دعوى الإنّيّة و منازعة اللّه سبحانه في كبريائه،و له رداء الكبرياء لا شريك له فيه،فليس لعبد مخلوق أن يعتمد على ذاته و يقول:أنا قبال الإنّيّة الإلهيّة الّتي عنت له الوجود،و خضعت له الرّقاب،و خشعت له الأصوات،و ذلّ له كلّ شيء.

و لو لم تنجذب نفسه إلى نفسه،و لم يحتبس نظره في مشاهدة إنّيّته لم يتقيّد باستقلال ذاته،و شاهد الإله القيّوم فوقه،فذلّت له إنّيّته ذلّة تنفي عنه كلّ استقلال و كبرياء،فخضع للأمر الإلهيّ،و طاوعته نفسه في الائتمار و الامتثال،و لم تنجذب نفسه إلى ما كان يتراءى من كونه خيرا منه،لأنّه من النّار و هو من الطّين،بل انجذبت نفسه إلى الأمر الصّادر عن مصدر العظمة و الكبرياء،و منبع كلّ جمال و جلال.

و كان من الحريّ إذا سمع قوله: قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ أن يأتي بما يطابقه من الجواب،كأن يقول:منعني أنّي خير منه،لكنّه أتى بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ليظهر به الإنّيّة،و يفيد الثّبات و الاستمرار.!!

ص: 456


1- في الأصل:الخبر!!

و يستفاد منه أيضا أنّ المانع له من السّجدة ما يرى لنفسه من الخيريّة،فقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أظهر و آكد في إفادة التّكبّر.

و من هنا يظهر أنّ هذا التّكبّر هو التّكبّر على اللّه سبحانه دون التّكبّر على آدم.

ثمّ إنّه في قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ استدلّ على كونه خيرا من آدم بمبدإ خلقته و هو النّار،و أنّها خير من الطّين الّذي خلق منه آدم،و قد صدق اللّه سبحانه ما ذكره من مبدإ خلقته؛حيث ذكر أنّه كان من الجنّ،و أنّ الجنّ مخلوق من النّار.قال تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ الكهف:50،و قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ الحجر،26،27،و قال أيضا: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ* وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الرّحمن:14،15.

لكنّه تعالى لم يصدّقه فيما ذكره من خيريّته منه، فإنّه تعالى و إن لم يردّ عليه قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ إلخ،في هذه السّورة إلاّ أنّه بيّن فضل آدم عليه و على الملائكة في حديث الخلافة الّذي ذكره في سورة البقرة للملائكة.

على أنّه تعالى ذكر القصّة في موضع آخر بقوله:

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ إلى قوله: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ إلخ،ص:71-76.

فبيّن أوّلا:أنّهم لم يدعوا إلى السّجود له لمادّته الأرضيّة الّتي سوّي منها،و إنّما دعوا إلى ذلك لما سوّاه و نفخ فيه من روحه الخاصّ به تعالى الحاملة للشّرف كلّ الشّرف،و المتعلّقة لتمام العناية الرّبّانيّة،و يدور أمر الخيريّة في التّكوينيّات مدار العناية الإلهيّة، لا لحكم من ذواتها،فلا حكم إلاّ للّه.

ثمّ بيّن ثانيا لمّا سأله عن سبب عدم سجوده بقوله: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أنّه تعالى اهتمّ بأمر خلقته كلّ الاهتمام و اعتنى به كلّ الاعتناء؛حيث خلقه بكلتا يديه-بأيّ معنى فسّرنا اليدين-و هذا هو الفضل،فأجاب لعنه اللّه بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، فتعلّق بأمر النّار و الطّين،و أهمل أمر تكبّره على ربّه.كما أنّه في هذه السّورة سئل عن سبب تكبّره على ربّه؛إذ قيل له:

قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ فتعلّق بقوله:

أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إلخ،و لم يعتن بما سئل عنه،أعني السّبب في تكبّره على ربّه؛إذ لم يأتمر بأمره.

بلى قد اعتنى به؛إذ قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فأثبت لنفسه استقلال الإنّيّة قبال الإنّيّة الإلهيّة الّتي قهرت كلّ شيء فاستدعاه ذلك إلى نسيان كبريائه تعالى و وجد نفسه مثل ربّه،و أنّ له استقلالا كاستقلاله، و أوجب ذلك أن أهمل وجوب امتثال أمره لأنّه اللّه، بل اشتغل بالمرجّحات،فوجد التّرجيح للمعصية على الطّاعة،و للتّمرّد على الانقياد،و ليس إلاّ أنّ تكبّره بإثبات الإنّيّة المستقلّة لنفسه أعمى بصره،فوجد مادّة نفسه-و هي النّار-خيرا من مادّة نفس آدم- و هي الطّين-فحكم بأنّه خير من آدم،و لا ينبغي

ص: 457

للفاضل أن يخضع بالسّجود لمفضوله،و إن أمر به اللّه سبحانه،لأنّه يسوّي بنفسه نفس ربّه بما يرى لنفسه من استقلال و كبرياء كاستقلاله،فيترك الآمر و يتعلّق بالمرجّحات في الأمر.

و بالجملة هو سبحانه اللّه الّذي منه يبتدئ كلّ شيء،و إليه يرجع كلّ شيء فإذا خلق شيئا و حكم عليه بالفضل،كان له الفضل و الشّرف واقعا بحسب الوجود الخارجيّ،و إذا خلق شيئا ثانيا و أمره بالخضوع للأوّل،كان وجوده ناقصا مفضولا بالنّسبة إلى ذلك الأوّل،فإنّ المفروض أنّ أمره إمّا نفس التّكوين الحقّ،أو ينتهي إلى التّكوين،فقوله الحقّ.

و الواجب في امتثال أمره أن يمتثل لأنّه أمره،لا لأنّه مشتمل على مصلحة أو جهة من جهات الخير و النّفع حتّى يعزل عن ربوبيّته و مولويّته،و يعود زمام الأمر و التّأثير إلى المصالح و الجهات،و هي الّتي تنتهي إلى خلقه و جعله كسائر الأشياء من غير فرق.

فجملة ما تدلّ عليه آيات القصّة أنّ إبليس إنّما عصى و استحقّ الرّجم بالتّكبّر على اللّه في عدم امتثال أمره،و أنّ الّذي أظهر به تكبّره هو قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ و قد تكبّر فيه على ربّه-كما تقدّم بيانه-و إن كان ذلك تكبّرا منه على آدم؛حيث إنّه فضّل نفسه عليه و استصغر أمره،و قد خصّه اللّه بنفسه،و أخبرهم بأنّه أشرف منهم في حديث الخلافة،و في قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي و قوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إلاّ أنّ العناية في الآيات باستكباره على اللّه لا استكباره على آدم.

و من الدّليل على ذلك قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ الكهف:50،حيث لم يقل:

فاستنكف عن الخضوع لآدم،بل إنّما ذكر الفسق عن أمر الرّبّ تعالى.

فتلخّص أنّ آيات القصّة إنّما تعتني بمسألة استعلائه على ربّه،و أمّا استكباره على آدم و ما احتجّ به على ذلك،فذلك من المدلول عليه بالتّبع.و الظّاهر أنّه هو السّرّ في عدم التّعرّض للجواب عن حجّته صريحا إلاّ ما يومئ إليه بعض أطراف الكلام، كقوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ و قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي و غير ذلك.[ثمّ أدام البحث في أنّ الأمر بالسّجود تكوينيّ أم لا؟فلاحظ](8:24)

مكارم الشّيرازيّ: يقول تعالى:أنّه آخذ إبليس على عصيانه و طغيانه،و قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ فاعتذر في مقام الجواب بعذر غير وجيه؛إذ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

و كأنّ إبليس كان يتصوّر أنّ النّار أفضل من التّراب،و هذه هي أكبر غلطاته و أخطائه.و لعلّه لم يقل ذلك عن خطإ و التباس،بل كذب عن وعي و فهم،لأنّنا نعلم أنّ التّراب مصدر أنواع البركات، و منبع جميع الموادّ الحياتيّة،و أهمّ وسيلة لمواصلة الموجودات الحيّة حياتها،على حين أنّ الأمر بالنّسبة إلى النّار ليس على هذا الشّكل.

صحيح أنّ النّار أحد عوامل التّجزئة و التّركيب

ص: 458

في الكائنات الموجودة في هذا الكون،و لكن الدّور الأصليّ و الأساسيّ هو للموادّ الموجودة في التّراب، و تعدّ النّار وسيلة لتكميلها فقط.

و صحيح أيضا أنّ الكرة الأرضيّة انفصلت-في بداية أمرها-عن الشّمس،و كانت على هيئة كرة ناريّة فبردت تدريجا،و لكن يجب أن نعلم أنّ الأرض ما دامت مشتعلة و حارّة،لم يكن عليها أيّ كائن حيّ، و إنّما ظهرت الحياة على سطح هذا الكرة عند ما حلّ التّراب و الطّين محلّ النّار.

هذا مضافا إلى أنّ أيّة نار ظهرت على سطح الأرض كان مصدرها موادّ مستفادة من التّراب،ثمّ إنّ التّراب مصدر نموّ الأشجار،و الأشجار مصدر ظهور النّار،و حتّى الموادّ النّفطيّة أو الدّهون القابلة للاشتعال و الاحتراق تعود أيضا إلى التّراب أو إلى الحيوانات الّتي تتغذّى من الموادّ النّباتيّة.

على أنّ ميزة الإنسان-بغضّ النّظر عن كلّ هذه الأمور-لم تكن في كونه من التّراب،بل إنّ ميزته الأصليّة تكمن في«الرّوح الإنسانيّة»و في خلافته للّه تعالى.

و على فرض أنّ مادّة الشّيطان الأصليّة كانت أفضل من مادّة الإنسان،فإنّ ذلك لا يعني تسويغ عدم السّجود للإنسان الّذي خلق بتلك الرّوح،و وهبه اللّه تلك العظمة،و جعله خليفة له على الأرض.

و الظّاهر أنّ الشّيطان كان يعرف بكلّ هذه الأمور،و لكن التّكبّر،و الأنانيّة هما اللّذان منعاه عن امتثال أمر اللّه،و كان ما أتى به من العذر حجّة داحضة،و محض تحجّج و تعلّل.

أوّل قياس هو قياس الشّيطان:

القياس في الأحكام و الحقائق الدّينيّة مرفوض بشكل قاطع في أحاديث عديدة وردت عن أهل البيت عليهم السّلام،و نقرأ في هذه الأحاديث أنّ أوّل من قاس هو الشّيطان.[ثمّ نقل الرّوايات في القياس و أضاف:]

جواب على سؤال:

بقي هنا سؤال و هو:كيف كان يتحدّث الشّيطان مع اللّه،فهل كان ينزل عليه الوحي؟

الجواب هو:أنّ كلام اللّه لا يكون بالوحي دائما، فالوحي عبارة عن رسالة النّبوّة،فلا مانع من أن يكلّم اللّه أحدا لا بعنوان الوحي و الرّسالة،بل عن طريق الباطنيّ أو بواسطة بعض الملائكة،سواء كان من يحادثه اللّه من الصّالحين الأبرار مثل مريم و أمّ موسى، أو من غير الصّالحين مثل الشّيطان!(4:531-536)

و قد جاءت محاجّة«إبليس»مع اللّه في خلقه من النّار و خلق آدم من الطّين في 3 آيات أخرى بنحو ما جاء في هذه الآية مع تفاوت فنذكر الآيات مع مواضع نصوصها رعاية للاختصار،و تسهيلا لمن أراد الوقوف عليها:

1- وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً. الإسراء:61

لاحظ:ابن عبّاس(الطّبريّ 8:106)،و الطّبريّ(8:

106)،و الزّجّاج(3:249)،و الطّوسيّ(6:495)،

ص: 459

و الميبديّ(5:577)،و الخازن(4:136)،و الآلوسيّ (15:109).

2- إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.

ص:71

لاحظ:الزّمخشريّ(3:383)،و الفخر الرّازيّ (26:227)،و أبو حيّان(7:49)،و الشّربينيّ(3:427)، و أبو السّعود(5:372)،و الآلوسيّ(23:224).

3- قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ. ص:75

لاحظ:ابن عبّاس(384)،و ابن عمر(الطّبريّ 10:

606)،و الطّبريّ(10:606)،و القمّيّ(2:244)، و الميبديّ(8:369)،و ابن عطيّة(4:514)، و الآلوسيّ(23:225).و لاحظ:ي د ي:«بيديّ».

4- وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ.

الذّاريات:56

لاحظ:ع ب د:«ليعبدون».

5- ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. المدّثّر:11

لاحظ:و ح د:«وحيدا».

خلقتك

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً. مريم:9

لاحظ:الطّبريّ(8:312)،و أبو زرعة(439)، و ابن عطيّة(4:6)،و الطّبرسيّ(3:503 و 505)، و الفخر الرّازيّ(21:189)،و القرطبيّ(11:84)، و الشّربينيّ(2:415)،و أبو السّعود(4:232)، و البروسويّ(5:317)،و الآلوسيّ(16:70)،و سيّد قطب(4:2303)،و ابن عاشور(16:16)،و مكارم الشّيرازيّ(9:364).

خلقنا

1- وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ.

الأعراف:181

لاحظ:أ م م:«امّة».

2- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. الحجر:26

لاحظ:ص ل ص ل«صلصال».

3- وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ. الحجر:85

لاحظ:ح ق ق«بالحقّ».

4- وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً. الإسراء:70

لاحظ:ف ض ل:«فضّلناهم-تفضيلا».

5- وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ

الأنبياء:16

لاحظ:ل ع ب:«لاعبين».

6- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.

المؤمنون:12

ص: 460

لاحظ:س ل ل:«سلالة».

7- ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. المؤمنون:14

لاحظ ابن عبّاس(285)،و الشّعبيّ و عكرمة و الضّحّاك و ابن زيد(الطّبريّ 9:204)،و أبو العالية (الطّبريّ 9:204)،و مجاهد(الطّبريّ 9:205)، و الضّحّاك(الطّبريّ 9:205)،و الحسن(الماورديّ 4:

48)،و قتادة(الطّبريّ 9:204)،و ابن جريج(الميبديّ 6:421)،و الطّبريّ(9:203)،و الماورديّ(4:48)، و الطّوسيّ(7:354)،و القشيريّ(4:242)،و الميبديّ (6:42)،و ابن عطيّة(4:137)،و الطّبرسيّ(4:101)، و الفخر الرّازيّ(23:83)،و العكبريّ(2:951)، و البيضاويّ(2:103)،و النّسفيّ(3:115)،و السّمين (5:176)،و ابن كثير(5:11)،و الشّربينيّ(2:573)، و أبو السّعود(4:405)،و البروسويّ(6:71)، و الآلوسيّ(18:14)،و سيّد قطب(4:2459)،و ابن عاشور(18:20)،و مغنيّة(5:361)،و الطّباطبائيّ (15:2)،و عبد الكريم الخطيب(9:1120)،و مكارم الشّيرازيّ(10:383)،و فضل اللّه(16:138).

8- يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ. الحجرات:13

لاحظ:ذ ك ر،و:أ ن ث:«ذكر»و«انثى».

9- فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ. الصّافّات:11.

ابن عبّاس: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً بعثا أَمْ مَنْ خَلَقْنا قبلهم من الملائكة و سائر الخلق.(374)

سعيد بن جبير: من الملائكة.(الماورديّ 5:40)

مجاهد : أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟ السّماوات و الأرض و الجبال.(الطّبريّ 10:474)

الطّبريّ: يقول:فسلهم أهم أشدّ خلقا؟أخلقهم أشدّ أم خلق من عددنا خلقه من الملائكة و الشّياطين و السّماوات و الأرض؟

و ذكر أنّ ذلك في قراءة عبد اللّه بن مسعود: (أ هم اشد خلقا ام من عددنا)؟

عن الضّحّاك أنّه قرأ: (أ هم اشد خلقا ام من عددنا)؟

و في قراءة عبد اللّه بن مسعود (عددنا) يقول: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ الصّافّات:5،يقول:أهم أشدّ خلقا،أم السّماوات و الأرض؟يقول:السّماوات و الأرض أشدّ خلقا منهم.

عن قتادة: (فاستفتهم أ هم اشد خلقا ام من عددنا) من خلق السّماوات و الأرض،قال اللّه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ المؤمن:

57.(10:474)

الزّجّاج: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الأمم السّالفة قبلهم و غيرهم من السّماوات و الأرضين.

(4:299)

نحوه الثّعلبيّ.(8:140)

الرّمّانيّ: من الأمم الماضية فقد هلكوا،و هم أشدّ

ص: 461

خلقا منهم.(الماورديّ 5:40)

الطّوسيّ: و هذا خطاب من اللّه تعالى لنبيّه يأمره بأن يستفتي هؤلاء الكفّار،و هو أن يسألهم أن يحكموا بما تقتضيه عقولهم،و يعدلوا عن الهوى و اتّباعه، فالاستفتاء طلب الحكم أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني من قبلهم من الأمم الماضية و القرون الخالية،فإنّه تعالى قد أهلك الأمم الماضية الّذين هم أشدّ خلقا منهم لكفرهم،و لهم مثل ذلك إن أقاموا على الكفر.

و قيل:المعنى أهم أشدّ خلقا منهم بكفرهم،و هم مثل ذلك أم من خلقنا من الملائكة و السّماوات و الأرضين؟فقال:أم من خلقنا،لأنّ الملائكة تعقل، فغلب ذلك على ما لا يعقل من السّماوات.(8:486)

الواحديّ: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أحكم صنعة، أَمْ مَنْ خَلَقْنا قبلهم من الأمم السّالفة،يريد أنّهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم،و قد أهلكناهم بالتّكذيب،فما الّذي يؤمنهم من العذاب؟ثمّ ذكر خلق الإنسان،فقال: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ.

(3:522)

البغويّ: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني من السّماوات و الأرض و الجبال.و هذا استفهام بمعنى التّقرير،أي هذه الأشياء أشدّ خلقا كما قال: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ المؤمن:

57،و قال: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها النّازعات:27.

و قيل: أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني من الأمم الخالية،لأنّ (من)يذكر فيمن يعقل،يقول:إنّ هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم،و قد أهلكناهم بذنوبهم، فما الّذي يؤمن هؤلاء من العذاب؟ثمّ ذكر خلق الإنسان،فقال: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ.

(4:27)

نحوه الميبديّ.(8:260)

الزّمخشريّ: أَمْ مَنْ خَلَقْنا يريد:ما ذكر من خلائقه من الملائكة و السّماوات و الأرض و المشارق و الكواكب و الشّهب الثّواقب و الشّياطين المردة.

و غلّب أولي العقل على غيرهم،فقال: مَنْ خَلَقْنا، و الدّليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء: فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا بالفاء المعقّبة،و قوله: أَمْ مَنْ خَلَقْنا مطلقا من غير تقييد بالبيان،اكتفاء ببيان ما تقدّمه،كأنّه قال:خلقنا كذا و كذا من عجائب الخلق و بدائعه،فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الّذي خلقناه من ذلك؟و يقطع به قراءة من قرأ (ام من عدد نا) بالتّخفيف و التّشديد.و أَشَدُّ خَلْقاً يحتمل أقوى خلقا،من قولهم:شديد الخلق.،و في خلقه شدّة، و أصعب خلقا و أشقّه على معنى الرّدّ لإنكارهم البعث و النّشأة الأخرى،و أنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة و لم يصعب عليه اختراعها،كان خلق البشر عليه أهون.

و خلقهم مِنْ طِينٍ لازِبٍ إمّا شهادة عليهم بالضّعف و الرّخاوة،لأنّ ما يصنع من الطّين غير موصوف بالصّلابة و القوّة،أو احتجاج عليهم بأنّ الطّين اللاّزب الّذي خلقوا منه تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؛حيث قالوا: أَ إِذا

ص: 462

كُنّا تُراباً الرّعد:5،و هذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث.و قيل: مَنْ خَلَقْنا من الأمم الماضية،و ليس هذا القول بملائم.(3:337)

نحوه البيضاويّ(2:289)،و الشّربينيّ(3:372)، و أبو السّعود(5:321)،و البروسويّ: (7:451)، و الآلوسيّ(23:75).

الطّبرسيّ: ثمّ خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:

(فاستفتهم)أي فاسألهم يا محمّد سؤال تقرير أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً، أي أحكم صنعا أَمْ مَنْ خَلَقْنا قبلهم من الأمم الماضية،و القرون السّالفة؟يريد أنّهم:ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم،و قد أهلكناهم بالعذاب.و قيل:أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا من الملائكة،و السّماوات،و الأرض؟و غلّب ما يعقل على ما لا يعقل. إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ معناه إنّهم إن قالوا نحن أشدّ،فأعلمهم أنّ اللّه خلقهم من طين،فكيف صاروا أشدّ قوّة منهم؟!و المراد:أنّ آدم خلقه اللّه من طين،و أنّ هؤلاء نسله و ذرّيّته،فكأنّهم منه.(4:439)

الفخر الرّازيّ: في الآية مسائل:

المسألة الأولى:في بيان النّظم:اعلم أنّا قد ذكرنا أنّ المقصد الأقصى من هذا الكتاب الكريم إثبات الأصول الأربعة،و هي:الإلهيّات،و المعاد،و النّبوّة، و إثبات القضاء و القدر.فنقول:إنّه تعالى افتتح هذه السّورة[الصّافّات]بإثبات ما يدلّ على وجود الصّانع و يدلّ على وحدانيّته،و هو خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما،و خلق المشارق و المغارب،فلمّا أحكم الكلام في هذا الباب فرّع عليها إثبات القول بالحشر و النّشر و القيامة.

و اعلم أنّ الكلام في هذه المسألة يتعلّق بطرفين:

أوّلهما:إثبات الجواز العقليّ.

و ثانيهما:إثبات الوقوع.أمّا الكلام في المطلوب الأوّل،فاعلم أنّ الاستدلال على الشّيء يقع على وجهين:

أحدهما:أن يقال:إنّه قدر على ما هو أصعب و أشدّ و أشقّ منه،فوجب أيضا أن يقدر عليه.

و الثّاني:أن يقال:إنّه قدر عليه في إحدى الحالتين -و الفاعل و القابل باقيين كما كانا-فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحالة الثّانية،و اللّه تعالى ذكر هذين الطّريقين في بيان أنّ القول بالبعث و القيامة أمر جائز ممكن.

أمّا الطّريق الأوّل:فهو المراد من قوله:

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً و التّقدير كأنّه تعالى يقول:

استفت يا محمّد هؤلاء المنكرين أهم أشدّ خلقا من خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما و خلق المشارق و المغارب و خلق الشّياطين الّذين يصعدون الفلك؟ و لا شكّ أنّهم يعترفون بأنّ خلق هذا القسم أشقّ و أشدّ في العرف من خلق القسم الأوّل.فلمّا ثبت بالدّلائل المذكورة في إثبات التّوحيد،كونه تعالى قادرا على هذا القسم الّذي هو أشدّ و أصعب،فبأن يكون قادرا على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى.و نظير هذه الدّلالة قوله تعالى في آخر يس أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ

ص: 463

يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يس:81،و قوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ المؤمن:

57.

و أمّا الطّريق الثّاني:فهو المراد من قوله: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ و المعنى أنّ هذه الأجسام قابلة للحياة؛إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حيّة في المرّة الأولى،و الإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام.و لو لا كونه تعالى قادرا على هذا المعنى لما حصلت الحياة في المرّة الأولى.و لا شكّ أنّ قابليّة تلك الأجسام باقية،و أنّ قادريّة اللّه تعالى باقية، لأنّ هذه القابليّة و هذه القادريّة من الصّفات الذّاتيّة فامتنع زوالها.فثبت بهذين الطّريقين أنّ القول بالبعث و القيامة أمر ممكن.و لمّا بيّن تعالى إمكان هذا المعنى بهذين الطّريقين،بيّن وقوعه بقوله: قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ الصّافّات:18،و ذلك لأنّه ثبت صدق الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم لأجل ظهور المعجزات عليه،و الصّادق إذا أخبر عن أمر ممكن الوقوع،وجب الاعتراف بوقوعه،فهذا تقرير نظم هذه الآية،و هو في غاية الحسن،و اللّه أعلم.

المسألة الثّانية:في تفسير ألفاظ هذه الآية:أمّا قوله: فَاسْتَفْتِهِمْ فيعني أنّه لمّا ثبت بالدّلائل القاطعة كونه تعالى خالقا للسّماوات و الأرض و ما بينهما،فاستفت هؤلاء المنكرين و قل لهم: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أم هذه الأشياء الّتي بيّنّا كونه تعالى خالقا لها؟ و لم يحك عنهم أنّهم أقرّوا أنّ خلق هذه الأشياء أصعب لأجل أنّ ظهور ذلك كالمعلوم بالضّرورة،فلا حاجة أن يحكي عنهم صحّة أنّ الأمر كذلك.ثمّ قال تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يعني أنّا لمّا قدرنا على خلق الحياة في ذواتهم أوّلا وجب أن نبقى قادرين على خلق الحياة فيهم ثانيا،لما بيّنّا أنّ حال القابل و حال الفاعل ممتنع التّغيّر.

و فيه دقيقة أخرى و هي أنّ القوم قالوا:كيف يعقل تولّد الإنسان لا من النّطفة و لا من الأبوين؟ فكأنّه قيل لهم:إنّكم لمّا أقررتم بحدوث العالم و اعترفتم بأنّ السّماوات و الأرض و ما بينهما إنّما حصل بتخليق اللّه تعالى و تكوينه،فلا بدّ و أن تعترفوا بأنّ الإنسان الأوّل إنّما حدث لا من الأبوين.فإذا عقلتم ذلك و اعترفتم به فقد سقط قولكم:الإنسان كيف يحدث من غير النّطفة و من غير الأبوين،و أيضا قد اشتهر عند الجمهور أنّ آدم مخلوق من الطّين اللاّزب،و من قدر على خلق الحياة في الطّين اللاّزب، فكيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذّوات.

و أمّا كيفيّة خلق الإنسان من الطّين اللاّزب فهي مذكورة في السّورة المتقدّمة.و اعلم أنّ هذا الوجه إنّما يحسن إذا قلنا:المراد من قوله تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ هو أنّا خلقنا أباهم آدم من طين لازب.

و فيه وجوه أخر،و هو أن يكون المراد:أنّا خلقنا كلّ إنسان من طين لازب،و تقريره:أنّ الحيوان إنّما يتولّد من المنيّ و دم الطّمث،و المنيّ يتولّد من الدّم، فالحيوان إنّما يتولّد من الدّم،و الدّم إنّما يتولّد من الغذاء،و الغذاء إمّا حيوانيّ و إمّا نباتيّ.أمّا تولّد الحيوان الّذي صار غذاء،فالكلام في كيفيّة تولّده

ص: 464

كالكلام في تولّد الإنسان،فثبت أنّ الأصل في الأغذية هو النّبات،و النّبات إنّما يتولّد من امتزاج الأرض بالماء،و هو الطّين اللاّزب،و إذا كان الأمر كذلك،فقد ظهر أنّ كلّ الخلق متولّدون من الطّين اللاّزب.و إذا ثبت هذا فنقول:إنّ هذه الأجزاء الّتي منها تركّب هذا الطّين اللاّزب قابلة للحياة،و اللّه تعالى قادر عليها، و هذه القابليّة و القادريّة واجبة البقاء،فوجب بقاء هذه الصّحّة في كلّ الأوقات،و هذه بيانات ظاهرة واضحة.26:124)

نحوه النّيسابوريّ.(23:44)

النّسفيّ: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أقوى خلقا من قولهم:«شديد الخلق و فى خلقه شدّة»أو أصعب خلقا و أشقّه،على معنى الرّدّ،لإنكارهم البعث،و أنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة،و لم يصعب عليه اختراعها،كان خلق البشر عليه أهون. أَمْ مَنْ خَلَقْنا يريد ما ذكر من خلائقه من الملائكة و السّماوات و الأرض و ما بينهما.و جيء ب(من) تغليبا للعقلاء على غيرهم،و يدلّ عليه قراءة من قرأ (ام من عددنا) بالتّشديد و التّخفيف.(4:17)

أبو حيّان :...و عادل في هذا الاستفهام التّقريريّ في الأشدّيّة بينهم و بين من خلق من غيرهم من الأمم و الجنّ و الملائكة و الأفلاك و الأرضين.و في مصحف عبد اللّه:(أم من عددنا)،و هو تفسير لمن خلقنا،أي من عددنا من الصّافّات و ما بعدها من المخلوقين.و غلّب العاقل على غيره في قوله: أَمْ مَنْ خَلَقْنا، و اقتصر على الفاعل في(خلقنا،)و لم يذكر متعلّق«الخلق» اكتفاء ببيان ما تقدّمه،و كأنّه قال:أم من خلقنا من غرائب المصنوعات و عجائبها.

و قرأ الأعمش: (أ من) بتخفيف الميم دون«ام»، جعله استفهاما ثانيا تقريرا أيضا.فهما جملتان مستقلّتان في التّقرير،و(من)مبتدأ،و الخبر محذوف:

تقديره أشدّ.فعلى(ام من)هو تقرير واحد،و نظيره:

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ النّازعات:27.[ثمّ نقل قول الزّمخشريّ و أضاف:]

و الّذي يظهر الاحتمال الأوّل.و قيل: أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الأمم الماضية،كقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ق:36،و قوله: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً التّوبة:69.و أضاف:الخلق من الطّين إليهم،و المخلوق منه هو أبوهم آدم؛إذ كانوا نسله.(7:354)

السّمين:قوله: أَمْ مَنْ خَلَقْنا العامّة على تشديد الميم،الأصل:أم من و هي أم المنفصلة،عطفت (من)على(هم).و قرأ الأعمش بتخفيفها،و هو استفهام ثان.فالهمزة للاستفهام أيضا و(من)مبتدأ، و خبره محذوف أي:الّذين خلقناهم أشدّ؟فهما جملتان مستقلّتان،و غلّب من يعقل على غيره،فلذلك أتى ب(من).(5:497)

ابن عاشور :و همزة أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً للاستفهام المستعمل للتّقرير بضعف خلق البشر بالنّسبة للمخلوقات السّماويّة،لأنّ الاستفهام يؤول إلى الإقرار؛حيث إنّه يلجئ المستفهم إلى الإقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام،فالاستفتاء في معنى الاستفهام،

ص: 465

فهو يستعمل في كلّ ما يستعمل فيه الاستفهام و أَشَدُّ بمعنى أصعب و أعسر.

و خَلْقاً تمييز،أي أخلقهم أشدّ أم خلق من خلقنا الّذي سمعتم وصفه.و المراد ب مَنْ خَلَقْنا ما خلقه اللّه من السّماوات و الأرض و ما بينهما الشّامل للملائكة و الشّياطين و الكواكب المذكورة آنفا، بقرينة إيراد فاء التّعقيب بعد ذكر ذلك،و هذا كقوله تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ النّازعات:27، و نحوه.

و جيء باسم العاقل و هو(من)الموصولة تغليبا للعاقلين من المخلوقات.

و جملة إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ في موضع العلّة لما يتولّد من معنى الاستفهام في قوله: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الإقرار بأنّهم أضعف خلقا من خلق السّماوات و عوالمها،احتجاجا عليهم بأنّ تأتّي خلقهم بعد الفناء أهون من تأتّي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفا،و لم تكن مخلوقة قبل،فإنّهم خلقوا من طين،لأنّ أصلهم و هو آدم خلق من طين- كما هو مقرّر لدى جميع البشر-فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم الّتي منها قولهم: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ الصّافّات:16.(23:17)

الطّباطبائيّ: و المراد بقوله: مَنْ خَلَقْنا إمّا الملائكة المشار إليهم في الآيات السّابقة،و هم حفظة الوحي و رماة الشّهب،و إمّا غير النّاس من الخلق العظيم كالسّماوات و الأرض و الملائكة،و التّعبير بلفظ أولي العقل للتّغليب.

و المعنى فإذا كان اللّه هو ربّ السّماوات و الأرض و ما بينهما و الملائكة فاسألهم أن يفتوا أهم أشدّ خلقا أم غيرهم ممّن خلقنا؟فهم أضعف خلقا،لأنّا خلقناهم من طين ملتزق،فليسوا بمعجزين لنا.(17:125)

مكارم الشّيرازيّ: هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث،و تتابع البحث السّابق بشأن قدرة الباري عزّ و جلّ،خالق السّماوات و الأرض،و تبدأ بالاستفسار منهم،و تقول:اسألهم هل أنّ معادهم و خلقهم مرّة ثانية أصعب،أو خلق الملائكة و السّماوات و الأرض: فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟

نعم،فنحن خلقناهم من مادّة تافهة،من طين لزج. إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ.

فالمشركون الّذين ينكرون المعاد،قالوا بعد سماعهم الآيات السّابقة بشأن خلق السّماوات و الأرض و الملائكة:إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السّماوات و الأرض و الملائكة.إلاّ أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول:إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض و السّماء و الملائكة الموجودة في هذه العوالم، يعدّ لا شيء،لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التّراب اللّزج.

(استفتهم)من مادّة«استفتاء»و تعني الحصول على معلومات جديدة.

و هذا التّعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ و أصعب من خلق السّماوات و الملائكة،فإنّهم قد جاءوا بموضوع جديد

ص: 466

لم يطرح مثله من قبل.(14:265)

فضل اللّه : فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً في ضخامة الخلق و قوّته و قدرته على الحركة في الآفاق، أَمْ مَنْ خَلَقْنا من المخلوقات الأخرى،كالملائكة و السّماوات و الأرضين؟ إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي ملتصق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره،من خلال خلقة أبيهم آدم،الأمر الّذي يوحي بالضّعف لهشاشة العنصر الذّاتي للخلق.و إذا كان الأمر كذلك،فإنّ عليهم أن يتواضعوا للّه الّذي خلقهم، و يوحّدوه،فلا يشركوا به شيئا.(19:180)

خلقناه

1- وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.

الحجر:27

ابن عبّاس: كان إبليس من حيّ من الملائكة يقال لهم:الجنّ،خلقوا من نار السّموم و خلقت الجنّ الّذين ذكروا في القرآن من مارج من نار،فأمّا الملائكة فإنّهم خلقوا من النّور.(البغويّ 3:57)

قتادة : وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ و هو إبليس خلق قبل آدم،و إنّما خلق آدم آخر الخلق،فحسده عدوّ اللّه إبليس على ما أعطاه اللّه من الكرامة،فقال:

أنا ناريّ،و هذا طينيّ،فكانت السّجدة لآدم،و الطّاعة للّه تعالى ذكره.(الطّبريّ 7:513)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و إبليس خلقناه من قبل الإنسان من نار السّموم.(7:513)

الزّجّاج: المعنى:و خلقنا الجانّ خلقناه،و خلق اللّه الملائكة من نور العزّة،و خلق آدم من تراب،و خلق الجانّ من نار السّموم.(3:179)

لاحظ:س م م:«السّموم».

2- أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. يس:77

لاحظ:ن ط ف:«نطفة».

3- إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. القمر:49

الطّبريّ: و اختلف أهل العربيّة في وجه نصب قوله: كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، فقال بعض نحويّي البصرة:نصب كُلَّ شَيْءٍ في لغة من قال:عبد اللّه ضربته،قال:و هي في كلام العرب كثير.قال:و قد رفعت(كل)في لغة من رفع،و رفعت على وجه آخر،قال(انّا كلّ شىء خلقناه بقدر)فجعل(خلقناه) من صفة الشّيء.

و قال غيره:إنّما نصب(كل)لأنّ قوله:

(خلقناه)فعل،لقوله:(انّا)،و هو أولى بالتّقديم إليه من المفعول،فلذلك اختير النّصب،و ليس قيل عبد اللّه في قوله:عبد اللّه ضربته شيء هو أولى بالفعل،و كذلك إنّا طعامك أكلناه،الاختيار النّصب لأنّك تريد:إنّا أكلنا طعامك الأكل،أولى بأنّا من الطّعام.

قال:و أمّا قول من قال:(خلقناه)وصف للشّيء فبعيد،لأنّ المعنى إنّا خلقناه كلّ شيء بقدر،و هذا القول الثّاني أولى بالصّواب عندي من الأوّل،للعلل الّتي ذكرت لصاحبها.(11:569)

ص: 467

نحوه العكبريّ.(2:1196)

الزّجّاج: و نصب(كل شىء)بفعل مضمر، المعنى:إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر،و يدلّ على هذا وَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ* وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ القمر:52،53.(5:92)

القيسيّ: كان الاختيار على أصول البصريّين رفع(كل)كما أنّ الاختيار عندهم في قولهم:«زيد ضربته»الرّفع،و الاختيار عند الكوفيّين النّصب، بخلاف قوله:زيد أكرمته،لأنّه قد تقدّم في الآية شيء قد عمل فيما بعده و هو(انّ)فالاختيار عندهم النّصب فيه.

و قد أجمع القرّاء على النّصب في(كل)على الاختيار فيه عند الكوفيّين،و ليدلّ ذلك على عموم الأشياء المخلوقات،أنّها للّه عزّ و جلّ،بخلاف ما قاله أهل الزّيغ:إنّ ثمّ مخلوقات لغير اللّه تعالى اللّه عن ذلك، و قوله تعالى: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الرّعد:16،يردّ قولهم.

و إنّما دلّ النّصب في(كل)على العموم،لأنّ التّقدير:إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر،ف(خلقناه) تأكيد و تفسير ل«خلقنا»المضمر النّاصب ل(كل.) فإذا حذفته و أظهرت الأوّل صار التّقدير:إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر،فهذا لفظ عامّ يعمّ جميع المخلوقات.و لا يجوز أن يكون(خلقناه)صفة ل(شىء)لأنّ الصّفة و الصّلة لا يعملان فيما قبل الموصوف و لا الموصول،و لا يكونان تفسيرا لما يعمل فيما قبلهما.فإذا لم يكن(خلقناه)صفة ل(شىء) لم يبق إلاّ أنّه تأكيد و تفسير للمضمر النّاصب ل(كل؛)و ذلك يدلّ على العموم.و أيضا فإنّ النّصب هو الاختيار عند الكوفيّين،لأنّ(انّا)عندهم تطلب الفعل فهي به أولى،فالنّصب عندهم في(كل) هو الاختيار،فإذا انضاف إليه معنى العموم و الخروج من الشّبه كان النّصب أقوى كثيرا من الرّفع.و قد أفردت هذه المسألة بأشبع من هذا التّفسير،في غير هذا الكتاب.(2:340)

الطّوسيّ: و في نصب(كل)ثلاثة أوجه:

أحدها:على تقدير إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر.

الثّاني:أنّه جاء على:زيدا ضربته.

الثّالث:على البدل الّذي يشتمل عليه،كأنّه قال:

إنّ كلّ شيء خلقناه بقدر،أي هو مقدّر في اللّوح المحفوظ.(9:460)

ابن عطيّة: و اختلف النّاس في قوله تعالى: إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فقرأ جمهور النّاس إِنّا كُلَّ بالنّصب،و المعنى:خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر، و ليست(خلقناه)في موضع الصّفة ل(شىء)بل هو فعل دالّ على الفعل المضمر.و هذا المعنى يقتضي أنّ كلّ شيء مخلوق إلاّ ما قام دليل العقل على أنّه ليس بمخلوق كالقرآن و الصّفات.

و قرأ أبو السّمال و رجّحه أبو الفتح (انّا كلّ) بالرّفع على الابتداء و الخبر خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. قال أبو حاتم:هذا هو الوجه في العربيّة،و قراءتنا بالنّصب مع الجماعة.و قرأها قوم من أهل السّنّة بالرّفع،و المعنى

ص: 468

عندهم على نحو ما عند الأولى:إنّ كلّ شيء فهو مخلوق بقدر سابق و(خلقناه)على هذا ليست صفة لشيء.و هذا مذهب أهل السّنّة،و لهم احتجاج قويّ بالآية على هذين القولين.و قالت القدريّة-و هم الّذين يقولون:لا قدر،و المرء فاعل وحده أفعاله.-:

القراءة (انّا كلّ شىء خلقناه) برفع (كلّ) و(خلقناه) في موضع الصّفة ب(كل،)أي إنّ أمرنا و شأننا كلّ شيء خلقناه فهو بقدر و على حدّ ما في هيئته و زمنه و غير ذلك،فيزيلون بهذا التّأويل موضع الحجّة عليهم بالآية.5:221)

نحوه القرطبيّ(17:147)،و النّسفيّ(4:206).

الفخر الرّازيّ: و فيه مسائل:

الأولى:المشهور أنّ قوله: إِنّا كُلَّ شَيْءٍ متعلّق بما قبله،كأنّه قال:ذوقوا،فإنّا كلّ شيء خلقناه بقدر، أي هو جزاء لمن أنكر ذلك،و هو كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الدّخان:49.و الظّاهر أنّه ابتداء كلام و تمّ الكلام عند قوله: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ القمر:48،ثمّ ذكر بيان العذاب،لأنّ عطف وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ القمر:50،يدلّ على أنّ قوله: إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ليس آخر الكلام،و يدلّ عليه قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الأعراف:54،و قد ذكر في الآية الأولى الخلق بقوله:

إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ فيكون من اللاّئق أن يذكر الأمر،فقال: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ.

المسألة الثّانية:(كل)قرئ بالنّصب و هو الأصحّ المشهور،و بالرّفع،فمن قرأ بالنّصب فنصبه بفعل مضمر يفسّره الظّاهر،كقوله: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ يس:

39،و قوله: وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ الدّهر:31، و ذلك الفعل هو(خلقناه)و قد فسّره قوله:(خلقناه،) كأنّه قال:إنّا خلقنا كلّ شيء بقدر،و(خلقناه)على هذا لا يكون صفة ل(شىء،)كما في قوله تعالى: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ الذّاريات:49،غير أنّ هناك يمنع من أن يكون صفة كونه خاليا عن ضمير عائد إلى الموصوف،و هاهنا لم يوجد ذلك المانع.

و على هذا فالآية حجّة على المعتزلة،لأنّ أفعالنا شيء،فتكون داخلة في كلّ شيء فتكون مخلوقة للّه.

تعالى،و من قرأ بالرّفع لم يمكنه أن يقول كما يقول في قوله: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فصّلت:17،حيث قرئ بالرّفع،لأنّ(كل شىء)نكرة فلا يصحّ مبتدأ، فيلزمه أن يقول:كلّ شيء خلقناه فهو بقدر،كقوله تعالى: وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ الرّعد:8،في المعنى.و هذان الوجهان ذكرهما ابن عطية في تفسيره، و ذكر أنّ المعتزليّ يتمسّك بقراءة الرّفع.

و يحتمل أن يقال:القراءة الأولى و هو النّصب له وجه آخر،و هو أن يقال:نصبه بفعل معلوم لا بمضمر مفسّر و هو:«قدّرنا أو خلقنا»كأنّه قال:إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر،أو قدّرنا كلّ شيء خلقناه بقدر.

و إنّما قلنا:إنّه معلوم،لأنّ قوله: ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ المؤمن:62،دلّ عليه،و قوله:

وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ الرّعد:8،دلّ على أنّه قدّر،و حينئذ لا يكون في الآية دلالة على بطلان قول المعتزليّ،و إنّما يدلّ على بطلان قوله: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ

ص: 469

شَيْءٍ الزّمر:62.

و أمّا على القراءة الثّانية و هي الرّفع،فنقول:جاز أن يكون كُلَّ شَيْءٍ مبتدأ و خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ خبره، و حينئذ تكون الحجّة قائمة عليهم بأبلغ وجه،و قوله:

كُلَّ شَيْءٍ نكرة فلا يصلح مبتدأ،ضعيف،لأنّ قوله:

كُلَّ شَيْءٍ عمّ الأشياء كلّها بأسرها،فليس فيه المحذور الّذي في قولنا:رجل قائم،لأنّه لا يفيد فائدة ظاهرة،و قوله: كُلَّ شَيْءٍ يفيد ما يفيد:زيد خلقناه و عمرو خلقناه مع زيادة فائدة،و لهذا جوّزوا:ما أحد خير منك،لأنّه أفاد العموم،و لم يحسن قول القائل:

أحد خير منك،حيث لم يفد العموم.(29:72)

نحوه النّيسابوريّ.(27:56)

أبو حيّان : إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، قراءة الجمهور: كُلَّ شَيْءٍ بالنّصب.و قرأ أبو السّمال، قال ابن عطيّة:و قوم من أهل السّنّة:بالرّفع.قال أبو الفتح:هو الوجه في العربيّة،و قراءتنا بالنّصب مع الجماعة.و قال قوم:إذا كان الفعل يتوهّم فيه الوصف، و أنّ ما بعده يصلح للخبر،و كان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر،اختير النّصب في الاسم الأوّل حتّى يتّضح أنّ الفعل ليس بوصف،و منه هذا الموضع،لأنّ في قراءة الرّفع يتخيّل أنّ الفعل وصف،و أنّ الخبر يقدّر.

فقد تنازع أهل السّنّة و القدريّة الاستدلال بهذه الآية.فأهل السّنّة يقولون:كلّ شيء فهو مخلوق للّه تعالى بقدرة،دليله قراءة النّصب،لأنّه لا يفسّر في مثل هذا التّركيب إلاّ ما يصحّ أن يكون خبرا لو وقع الأوّل على الابتداء.و قالت القدريّة:القراءة برفع(كل،) و(خلقناه)في موضع الصّفة ل(كل،)أي إنّ أمرنا أو شأننا كلّ شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار،على حدّ ما في هيئته و زمنه و غير ذلك.(8:183)

نحوه السّمين.(6:232)

الآلوسيّ: الآية من باب وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2،و نصب(كل)بفعل يفسّره ما بعده،أي إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه.و قرأ أبو السّمال قال ابن عطية و قوم من أهل السّنّة:برفع (كل)و هو على الابتداء و جملة(خلقناه)هو الخبر و(بقدر)متعلّق به،كما في القراءة المتواترة،فتدلّ الآية أيضا على أنّ كلّ شيء مخلوق بقدر،و لا ينبغي أن تجعل جملة(خلقناه)صفة،و يجعل الخبر(بقدر) لاختلاف القراءتين معنى حينئذ،و الأصل توافق القراءات.

و قال الرّضيّ: لا يتفاوت المعنى،لأنّ مراده تعالى ب(كل شىء)كلّ مخلوق سواء نصبت(كل)أو رفعته،و سواء جعلت(خلقناه)صفة مع الرّفع أو خبرا عنه؛و ذلك أن«خلقنا كلّ شيء بقدر»لا يريد سبحانه به خلقنا كلّ ما يقع عليه اسم شيء،لأنّه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية،و اسم الشّيء يقع على كلّ منها و حينئذ نقول:إنّ معنى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ -على أنّ(خلقناه)هو الخبر- كلّ مخلوق مخلوق(بقدر)و-على أنّ(خلقناه) صفة(كل شىء)-مخلوق كائن(بقدر)و المعنيان واحد؛إذ لفظ(كل)في الآية مختصّ بالمخلوقات

ص: 470

سواء كان(خلقناه)صفة له أو خبرا.

و تعقّبه السّيّد السّند قدّس سرّه بأنّه لقائل أن يقول:إذا جعلنا(خلقناه)صفة،كان المعنى كلّ مخلوق متّصف بأنّه مخلوقنا كائن بقدر،و على هذا لا يمتنع،نظرا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متّصفة بتلك الصّفة،فلا تندرج تحت الحكم.و أمّا إذا جعلناه خبرا أو نصبنا(كل شىء)فلا مجال لهذا الاحتمال،نظرا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام،فقد اختلف المعنيان قطعا،و لا يجديه نفعا أنّ كلّ مخلوق متّصف بتلك الصّفة في الواقع،لأنّه إنّما يفهم من خارج الكلام،و لا شكّ أنّ المقصود ذلك المعنى الّذي لا احتمال فيه،و ذكر نحوه الشّهاب الخفاجيّ،و لكون النّصب نصّا في المقصود اتّفقت القراءات المتواترة عليه مع احتياجه إلى التّقدير،و بذلك يترجّح على الرّفع الموهم لخلافه،و إن لم يحتج إليه.(27:94)

ابن عاشور :استئناف وقع تذييلا لما قبله من الوعيد و الإنذار و الاعتبار بما حلّ بالمكذّبين،و هو أيضا توطئة لقوله: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ القمر:50،إلخ.

و المعنى:إنّا خلقنا و فعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال و أسبابها و آلاتها،و سلّطناه على مستحقّيه،لأنّا خلقنا كلّ شيء بقدر،أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أنّ ما أنتم عليه من التّكذيب و الإصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السّالفة.

و اقتران الخبر بحرف(انّ)يقال فيه ما قلناه في قوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ القمر:47.

و الخلق أصله:إيجاد ذات بشكل مقصود،فهو حقيقة في إيجاد الذّوات،و يطلق مجازا على إيجاد المعاني الّتي تشبه الذّوات في التّميّز و الوضوح،كقوله تعالى: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17.[إلى أن قال:]

و انتصب(كل شىء)على المفعوليّة ل(خلقناه) على طريقة الاشتغال،و تقديمه على(خلقناه)ليتأكّد مدلوله بذكر اسمه الظّاهر ابتداء،و ذكر ضميره ثانيا؛ و ذلك هو الّذي يقتضي العدول إلى الاشتغال في فصيح الكلام العربيّ،فيحصل توكيد للمفعول بعد أن حصل تحقيق نسبة الفعل إلى فاعله بحرف(انّ)المفيد لتوكيد الخبر،و ليتّصل قوله:(بقدر)بالعامل فيه و هو(خلقناه،)لئلاّ يلتبس بالنّعت لشيء لو قيل:إنّا خلقنا كلّ شيء بقدر،فيظنّ أنّ المراد:أنّا خلقنا كلّ شيء مقدّر،فيبقى السّامع منتظرا لخبر(انّ).

(27:205،207)

لاحظ:ق د ر:«بقدر».

خلقناهم

1- كَلاّ إِنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ. المعارج:39

ابن عبّاس: يعني كفّار مكّة.(486)

الحسن :خلقناهم من النّطفة.(الطّوسيّ 10:128)

قتادة :إنّما خلقت من قذر يا ابن آدم،فاتّق اللّه.

(الطّبريّ 12:242)

الطّبريّ: يقول جلّ و عزّ:إنّا خلقناهم من منيّ قذر،و إنّما يستوجب دخول الجنّة من يستوجبه منهم

ص: 471

بالطّاعة،لا بأنّه مخلوق،فكيف يطمعون في دخول الجنّة و هم عصاة كفرة؟(12:242)

الثّعلبيّ: أي من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة،فلا يستوجب الجنّة أحد منهم بكونه شريفا،لأنّ مادّة الخلق واحدة بل يستوجبونها بالطّاعة.[إلى أن قال:]

و قيل:إنّا خلقناهم من أجل ما يعلمون،و هو الأمر و النّهي و الثّواب و العقاب فحذف«أجل».

(10:41)

الطّوسيّ: [نقل أقوال الحسن و قتادة و الزّجّاج ثمّ قال:]

و هذا حجاج،لأنّ خلقهم من ماء مهين يقتضي أنّهم خلقوا للعبادة،فجعل في خلقهم من هذا عبرة، و لو لا ذلك لابتدأهم في نعيم الجنّة،و لم يكن لتنقّلهم في الصّور و الأحوال معنى في الحكمة.

و قال بعضهم:المعنى خلقناهم من الّذين يعلمون أو من الخلق أو الجنس الّذي يعلمون و يفقهون، و تلزمهم الحجّة،و لم يخلقهم من الجنس الّذي لا يفقه كالبهائم و الطّير.(10:128)

الزّمخشريّ: (كلا)ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنّة،ثمّ علّل ذلك بقوله: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ إلى آخر السّورة،و هو كلام دالّ على إنكارهم البعث،فكأنّه قال:كلاّ إنّهم منكرون للبعث و الجزاء،فمن أين يطمعون في دخول الجنّة؟

فإن قلت:من أيّ وجه دلّ هذا الكلام على إنكار البعث؟

قلت:من حيث إنّه احتجاج عليهم بالنّشأة الأولى كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التّنزيل؛و ذلك قوله: خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ، أي من النّطف و بالقدرة على أن يهلكهم و يبدّل ناسا خيرا منهم، و أنّه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه لا يعجزه شيء.و الغرض أنّ من قدر على ذلك،لم تعجزه الإعادة.

و يجوز أن يراد: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ أي من النّطفة المذرة و هي منصبهم الّذي لا منصب أوضع منه، و لذلك أبهم و أخفى إشعارا بأنّه منصب يستحيا من ذكره فمن أين يتشرّفون و يدّعون التّقدّم،و يقولون:

لندخلنّ الجنّة قبلهم.

و قيل:معناه إنّا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلّهم،و من حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنّة إلاّ بالإيمان و العمل الصّالح،فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان و عمل.(4:160)

أبو حيّان :أي أنشأناهم من نطفة مذرة،فنحن قادرون على إعادتهم و بعثهم يوم القيامة،و على الاستبدال بهم خيرا منهم.قيل:بنفس الخلق،و منّته عليهم بذلك يعطي الجنّة،بل بالإيمان و العمل الصّالح.

(8:336)

لاحظ:ع ل م:«يعلمون».

2- نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ. الدّهر:28

ابن عبّاس: يعني أهل مكّة.(496)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:نحن خلقنا هؤلاء المشركين باللّه المخالفين أمره و نهيه.(12:374)

ص: 472

الطّوسيّ: أي نحن الّذين اخترعنا هؤلاء الخلائق.(10:220)

القشيريّ: أعدمناهم،و خلقنا غيرهم بدلا عنهم.و يقال:أخذنا عنهم الميثاق.(6:237)

الفخر الرّازيّ: ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر أنّ الدّاعي لهم إلى هذا الكفر حبّ العاجل،قال: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً.

و المراد أنّ حبّهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة اللّه، من حيث الرّغبة و من حيث الرّهبة:أمّا من حيث الرّغبة،فلأنّه هو الّذي خلقهم و أعطاهم الأعضاء السّليمة الّتي بها يمكن الانتفاع باللّذّات العاجلة، و خلق جميع ما يمكن الانتفاع به،فإذا أحبّوا اللّذات العاجلة-و تلك اللّذّات لا تحصل إلاّ عند حصول المنتفع و حصول المنتفع به،و هذان لا يحصلان إلاّ بتكوين اللّه و إيجاده-فهذا ممّا يوجب عليهم الانقياد للّه و لتكاليفه،و ترك التّمرّد و الإعراض.

و أمّا من حيث الرّهبة،فلأنّه قادر على أن يميتهم، و على أن يسلب النّعمة عنهم،و على أن يلقيهم في كلّ محنة و بليّة،فلأجل من فوّت هذه اللّذّات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا للّه،و أن يتركوا هذا التّمرّد.

و حاصل الكلام كأنّه قيل لهم:هب أنّ حبّكم لهذه اللّذّات العاجلة طريقة مستحسنة،إلاّ أنّ ذلك يوجب عليكم الإيمان باللّه و الانقياد له،فلو أنّكم توسّلتم به إلى الكفر باللّه،و الإعراض عن حكمه،لكنتم قد تمرّدتم.و هذا ترتيب حسن في السّؤال و الجواب، و طريقة لطيفة.(30:260)

ابن عاشور:و افتتاح الجملة بالمبتدإ المخبر عنه بالخبر الفعليّ دون أن تفتتح ب(خلقناهم)أو نحن خالقون،لإفادة تقوّي الخبر و تحقيقه بالنّظر إلى المعنيّين بهذا الكلام،و إن لم يكن خطابا لهم،و لكنّهم هم المقصود منه.

و تقوية الحكم بناء على تنزيل أولئك المخلوقين منزلة من يشكّ في أنّ اللّه خلقهم؛حيث لم يجرءوا على موجب العلم،فأنكروا أنّ اللّه يعيد الخلق بعد البلى، فكأنّهم يسندون الخلق الأوّل لغيره.و تقوّي الحكم يترتّب عليه أنّه إذا شاء بدّل أمثالهم بإعادة أجسادهم،فلذلك لم يحتج إلى تأكيد جملة: وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ استغناء بتولّد معناها عن معنى الّتي قبلها و إن كان هو أولى بالتّقوية على مقتضى الظّاهر.و هذا التّقوّي هنا مشعر بأنّ كلاما يعقبه هو مصبّ التّقوّي،و نظيره في التّقوّي و التّفريع قوله تعالى:

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ* أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ إلى قوله: وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ الواقعة:57-61،فإنّ المفرّع هو: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ و ما اتّصل به.و جملة: فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ معترضة و قد مضى في سورة الواقعة:57-61.

(29:379)

خلقناكم

1- وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...

الأنعام:94

لاحظ:ف ر د:«فرادى».

ص: 473

2- وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً.

الكهف:48

لاحظ:م ر ر:«اوّل مرّة».

3- وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ.... الأعراف:11

ابن عبّاس: من آدم و آدم من تراب.(124)

(خلقناكم)يعني آدم و أمّا(صورناكم،) فذرّيّته.(الطّبريّ 5:436)

نحوه الضّحّاك.(الطّبريّ 5:436)

مجاهد : وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في ظهر آدم.(الطّبريّ 5:437)

عكرمة :(خلقناكم)في أصلاب الرّجال، و(صورناكم)في أرحام النّساء.(الطّبريّ 5:436)

نحوه القمّيّ.(1:224)

الإمام الباقر عليه السّلام:أمّا(خلقناكم)فنطفة،ثمّ علقة،ثمّ مضغة،ثمّ عظما ثمّ لحما.و أمّا(صورناكم) فالعين و الأنف و الأذنين و الفم و اليدين و الرّجلين، صوّر هذا و نحوه،ثمّ جعل الدّميم و الوسيم و الجسيم و الطّويل و القصير و أشباه هذا.(الكاشانيّ 2:182)

عطاء:خلقوا في ظهر آدم،ثمّ صوّروا في الأرحام.

(الثّعلبيّ 4:218)

قتادة :خلق اللّه آدم من طين، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في بطون أمّهاتكم خلقا من بعد خلق:علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاما،ثمّ كسا العظام لحما،ثمّ أنشأناه خلقا آخر.

(الطّبريّ 5:436)

السّدّيّ: خلقنا آدم،ثمّ صوّرنا الذّرّيّة في الأرحام

(الطّبريّ 5:436)

الرّبيع:(خلقناكم)خلق آدم، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في بطون أمّهاتكم.(الطّبريّ 5:436)

الكلبيّ: (خلقناكم)نطفا في أصلاب الرّجال و ترائب النّساء، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ عند اجتماع النّطفتين في الأرحام.(الماورديّ 2:202)

معمر:خلق اللّه الإنسان في الرّحم،ثمّ صوّره، فشقّ سمعه و بصره و أصابعه.(الطّبريّ 5:437)

ابن أبي اليمان :خلق الإنسان في الرّحم،ثمّ صوّره،ففتق سمعه و بصره و أصابعه.(الثّعلبيّ 4:218)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم:تأويل ذلك: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ، في ظهر آدم،أيّها النّاس ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في أرحام النّساء خلقا مخلوقا،و مثالا ممثّلا في صورة آدم.

و قال آخرون:بل معنى ذلك: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ في أصلاب آبائكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في بطون أمّهاتكم.

سمعت الأعمش يقرأ: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ خلقناكم في أصلاب الرّجال ثمّ صوّرناكم في أرحام النّساء.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:(خلقناكم)يعني آدم، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعني في ظهره.

و قال آخرون:معنى ذلك: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ في بطون أمّهاتكم،ثمّ صوّرناكم فيها.

و أولى الأقوال بالصّواب قول من قال:تأويله:

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ و لقد خلقنا آدم، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ

ص: 474

بتصويرنا آدم،كما قد بيّنّا فيما مضى من خطاب العرب الرّجل بالأفعال تضيفها إليه،و المعنيّ في ذلك سلفه،و كما قال جلّ ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول اللّه: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ البقرة:

63،و ما أشبه ذلك من الخطاب الموجّه إلى الحيّ الموجود،و المراد:به السّلف المعدوم،فكذلك ذلك في قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ معناه:و لقد خلقنا أباكم آدم،ثمّ صوّرناه.

و إنّما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصّواب،لأنّ الّذي يتلو ذلك قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، و معلوم أنّ اللّه تبارك و تعالى قد أمر الملائكة بالسّجود لآدم،قبل أن يصوّر ذرّيّته في بطون أمّهاتهم،بل قبل أن يخلق أمّهاتهم.

و«ثمّ»في كلام العرب لا تأتي إلاّ بإيذان انقطاع ما بعدها عمّا قبلها؛و ذلك كقول القائل:«قمت ثم قعدت»،لا يكون«القعود»إذا عطف به ب«ثمّ»على قوله:«قمت»إلاّ بعد القيام،و كذلك ذلك في جميع الكلام.و لو كان العطف في ذلك ب«الواو»جاز أن يكون الّذي بعدها قد كان قبل الّذي قبلها،و ذلك كقول القائل:«قمت»و«قعدت»،فجائز أن يكون «القعود»في هذا الكلام قد كان قبل«القيام»،لأنّ الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفا،لتوجب للّذي بعدها من المعنى ما وجب للّذي قبلها،من غير دلالة منها بنفسها على أنّ ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين،أو إن كانا في وقتين،أيّهما المتقدّم و أيّهما المتأخّر.فلما وصفنا قلنا:إنّ قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ، لا يصحّ تأويله إلاّ على ما ذكرنا.

فإنّ ظنّ ظانّ أنّ العرب،إذ كانت ربّما نطقت ب«ثمّ»في موضع الواو في ضرورة شعره،كما قال بعضهم:

سالت ربيعة من خيرها

أبا ثمّ أمّا؟فقالت:لمه؟

يعني أبا و أمّا،فإنّ ذلك جائز أن يكون نظيره، فإنّ ذلك بخلاف ما ظنّ؛و ذلك أنّ كتاب اللّه جلّ ثناؤه نزل بأفصح لغات العرب،و غير جائز توجيه شيء منه إلى الشّاذّ من لغاتها.و له في الأفصح الأشهر معنى مفهوم و وجه معروف.

و قد وجّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك،إلى أنّه من المؤخّر الّذي معناه التّقديم،و زعم أنّ معنى ذلك:و لقد خلقناكم،ثمّ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم،ثمّ صوّرناكم.و ذلك غير جائز في كلام العرب، لأنّها لا تدخل«ثمّ»في الكلام و هي مراد بها التّقديم على ما قبلها من الخبر،و إن كانوا قد يقدّمونها في الكلام،إذا كان فيه دليل على أنّ معناها التّأخير، و ذلك كقولهم:«قام ثمّ عبد اللّه عمرو»،فأمّا إذا قيل:

«قام عبد اللّه ثمّ قعد عمرو»،فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلاّ بعد قيام عبد اللّه،إذا كان الخبر صدقا، فقول اللّه تبارك و تعالى: لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا، نظير قول القائل:«قام عبد اللّه ثمّ قعد عمرو»في أنّه غير جائز أن يكون أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم كان إلاّ بعد الخلق

ص: 475

و التّصوير،لما وصفنا قبل.(5:438)

الزّجّاج: زعم الأخفش أنّ(ثمّ)هاهنا في معنى «الواو»،و هذا خطأ لا يجيزه الخليل و سيبويه و جميع من يوثق بعربيّته،إنّما(ثمّ)للشّيء الّذي يكون بعد المذكور قبله لا غير.و إنّما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء خلق آدم أوّلا،فإنّما المعنى:إنّا بدأنا خلق آدم ثمّ صوّرناه،فابتداء خلق آدم التّراب،الدّليل على ذلك قوله عزّ و جلّ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ آل عمران:59.

فبدأ اللّه خلق آدم ترابا،و بدأ خلق حوّاء من ضلع من أضلاعه،ثمّ وقعت الصّورة بعد ذلك.فهذا معنى خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ. أي هذا أصل خلقكم،ثمّ خلق اللّه نطفا ثمّ صوّروا.ف(ثمّ)إنّما هي لما بعد.

(2:321)

الثّعلبيّ: [نقل بعض الأقوال و أضاف:]

فإن قيل:ما وجه قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ و إنّما خلقنا بعد ذلك،و(ثمّ)يوجب التّرتيب و التّراخي،كقول القائل:«قمت ثمّ قعدت» لا يكون القعود إلاّ بعد القيام؟.

قلنا:قال قوم:على التّقديم و التّأخير،قال يونس:

الخلق و التّصوير واحد...إلينا،كما نقول:قد ضربناكم،و إنّما ضربت سيّدهم.[ثمّ نقل قول الأخفش](4:218)

الماورديّ: فيه لأهل التّأويل أربعة أقاويل:[ثمّ نقل الأقوال المتقدّمة](2:202)

الطّوسي:فإن قيل:كيف قال: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ مع أنّ القول للملائكة كان قبل خلقنا و تصويرنا؟

قلنا:عن ذلك ثلاثة أجوبة:

أحدها:قال الحسن و أبو علي الجبّائيّ:المراد:به خلقنا إيّاكم ثمّ صوّرنا إيّاكم،ثمّ قلنا للملائكة،و هذا كما يذكر المخاطب و يراد به أسلافه،و ذكرنا لذلك نظائر فيما مضى،منها قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ البقرة:63،أي ميثاق أسلافكم.

قال الزّجّاج:المعنى:ابتدأنا خلقكم بأن خلقنا آدم،ثمّ صوّرناه،ثمّ قلنا.

الثّاني:قال ابن عبّاس و مجاهد و الرّبيع و قتادة و الضّحّاك و السّدّيّ:إنّ المعنى:خلقنا آدم ثمّ صوّرناكم في ظهره،ثمّ قلنا للملائكة.

الثّالث:خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ إنّا نخبركم أنّا قلنا للملائكة،كما تقول:إنّي راحل ثمّ إنّي معجّل.

و قال الأخفش(ثمّ)هاهنا بمعنى«الواو»،كما قال: ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ يونس:46،و مثله قوله:

ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا البلد:17،على قول بعض المتأخّرين معناه و كان من الّذين آمنوا،و مثله: وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ على بعض الأقوال معناه:و توبوا إليه،قال الزّجّاج:هذا خطأ عند جميع النّحويّين.[ثمّ استشهد بشعر]

و قال بعضهم:معناه خلقناكم في ظهور آبائكم ثمّ صوّرناكم في بطون أمّهاتكم.

و قال قوم:في الآية تقديم و تأخير،و تقديره:

ص: 476

خلقناكم بمعنى خلقنا أباكم،أي قدّرناكم،ثمّ قلنا للملائكة:اسجدوا،ثمّ صوّرناكم.(4:384)

القشيريّ: ثبّتناكم على النّعت الّذي أردناكم، و أقمناكم في الشّواهد الّتي اخترنا لكم،فمن قبيح صورته خلقا و من مليح،و من سقيم حالته خلقا، و من صحيح.ثمّ إنّا نعرفكم سابق أيادينا إلى أبيكم،ثمّ لاحق خلافه بما بقي عرق منه فيكم،ثمّ ما علمنا به من مكان (1)يحسدكم و يعاديكم.(2:216)

الواحديّ: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعني آدم،و إنّما قال:بلفظ الجمع،لأنّه أبو البشر،و في خلقه خلق من يخرج من صلبه، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعني ذرّيّته في ظهر آدم،كما روي أنّ اللّه تعالى أخرج ذرّيّة آدم من ظهره في صورة الذّرّ.

و يجوز أن يكون المراد بقوله: ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ:

آدم،و لا يجوز أن يكون المراد بقوله: ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ تصوير ذرّيّته في الأرحام.(2:352)

نحوه البغويّ.(2:181)

الزّمخشريّ: يعني خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر،ثمّ صوّرناه بعد ذلك.أ لا ترى إلى قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، الآية.(2:68)

ابن عطيّة: هذه الآية معناها التّنبيه على موضع العبرة و التّعجيب من غريب الصّنعة و إسداء النّعمة، فبدأ بالخلق الّذي هو الإيجاد بعد العدم،ثمّ بالتّصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر،و إلاّ فلم يعرّ المخلوق قطّ من صورة.و اضطراب النّاس في ترتيب هذه الآية، لأنّ ظاهرها يقتضي أنّ الخلق و التّصوير لبني آدم قبل القول للملائكة:أن يسجدوا.و قد صحّحت الشّريعة أنّ الأمر لم يكن كذلك،فقالت فرقة:المراد بقوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ: آدم بنفسه و إن كان الخطاب لبنيه،و ذلك لمّا كان سبب وجود بنيه بما فعل فيه صحّ مع تجوّز أن يقال:إنّه فعل في بنيه.

و قال مجاهد:المعنى وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في صلب آدم،و في وقت استخراج ذرّيّة آدم من ظهره أمثال الذّرّ في صورة البشر.

و يترتّب في هذين القولين أن تكون(ثمّ)على بابها في التّرتيب و المهلة.

و قال عكرمة و الأعمش:المراد:خلقناكم في ظهور الآباء،و صوّرناكم في بطون الأمّهات.

و قال ابن عبّاس و الرّبيع بن أنس:أمّا(خلقناكم) فآدم،و أمّا(صورناكم)فذرّيّته في بطون الأمّهات، و قاله قتادة و الضّحّاك.

و قال معمر بن راشد من بعض أهل العلم:بل ذلك كلّه في بطون الأمّهات من خلق و تصوير.

و قالت هذه الفرقة:إنّ(ثمّ)لترتيب الأخبار بهذه الجمل،لا لترتيب الجمل في أنفسها.

و قال الأخفش:(ثمّ)في هذه الآية بمعنى«الواو» و ردّ عليه نحويّو البصرة.(2:377)

الطّبرسيّ: [نقل قول الزّجّاج ثمّ قال:]

و هذا مرويّ عن الحسن.و من كلام العرب:فعلنام.

ص: 477


1- كذا في الأصل،و احتمل في الهامش أنّ الصّحيح: بمن كان يحسدكم.

بكم كذا و كذا،و هم يعنون أسلافهم.و في التّنزيل:

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ البقرة:

63،أي ميثاق أسلافكم.

و قد قيل:في ذلك أقوال أخر:

منها:أنّ معناه خلقنا آدم ثمّ صوّرناكم في ظهره،ثمّ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم،عن ابن عبّاس، و مجاهد،و الرّبيع،و قتادة و السّدّيّ.

و منها:أنّ التّرتيب وقع في الأخبار،فكأنّه قال:

خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ إنّا نخبركم،إنّا قلنا للملائكة:

اسجدوا لآدم،كما يقول القائل:أنا راجل،ثمّ أنا مسرع،و هذا قول جماعة من النّحويّين،منهم عليّ بن عيسى،و القاضي أبو سعيد السّيرافيّ،و غيرهما.

و على هذا فقد قيل:إنّ المعنى:خلقناكم في أصلاب الرّجال،ثمّ صوّرناكم في أرحام النّساء،عن عكرمة.و قيل:خلقناكم في الرّحم،ثمّ صوّرناكم بشقّ السّمع و البصر،و سائر الأعضاء،عن يمان،و قول الشّاعر:[و ذكر ما ذكره الطّبريّ ثمّ قال:]

فمعناه لتجيب أوّلا عن الأب،ثمّ الأمّ.(2:401)

الفخر الرّازيّ: في هذه الآية سؤال،و هو أنّ قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يفيد أنّ المخاطب بهذا الخطاب نحن.

ثمّ قال بعده: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، و كلمة(ثمّ)تفيد التّراخي،فظاهر الآية يقتضي أنّ أمر الملائكة بالسّجود لآدم وقع بعد خلقنا و تصويرنا، و معلوم أنّه ليس الأمر كذلك،فلهذا السّبب اختلف النّاس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال:

الأوّل:أنّ قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم،و صوّرناكم،أي صوّرنا آدم، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ و هو قول الحسن و يوسف النّحويّ و هو المختار؛و ذلك لأنّ أمر الملائكة بالسّجود لآدم تأخّر عن خلق آدم و تصويره، و لم يتأخّر عن خلقنا و تصويرنا،أقصى ما في الباب أن يقال:كيف يحسن جعل خلقنا و تصويرنا كناية عن خلق آدم و تصويره؟

فنقول:إنّ آدم عليه السّلام أصل البشر،فوجب أن تحسن هذه الكناية،نظيرة قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ البقرة:63،أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السّلام، و يقال:قتلت بنو أسد فلانا،و إنّما قتله أحدهم.

قال عليه السّلام:«ثمّ أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل»، و إنّما قتله أحدهم،و قال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الأعراف:

141 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً البقرة:72،و المراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم،فكذا هاهنا.

الثّاني:أن يكون المراد من قوله:(خلقناكم)آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي صوّرنا ذرّيّة آدم عليه السّلام في ظهره، ثمّ بعد ذلك قلنا للملائكة اسجدوا لآدم،و هذا قول مجاهد.

فذكر أنّه تعالى خلق آدم أوّلا،ثمّ أخرج أولاده من ظهره في صورة الذّرّ،ثمّ بعد ذلك أمر الملائكة بالسّجود لآدم.

الوجه الثّالث:خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ إنّا

ص: 478

نخبركم أنّا قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم،فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر،و لا يفيد ترتيب المخبر على المخبر.

و الوجه الرّابع:أنّ الخلق في اللّغة:عبارة عن التّقدير،كما قرّرناه في هذا الكتاب،و تقدير اللّه عبارة عن علمه بالأشياء و مشيئته،لتخصيص كلّ شيء بمقداره المعيّن فقوله:(خلقناكم)إشارة إلى حكم اللّه و تقديره،لإحداث البشر في هذا العالم.

و قوله:(صورناكم)إشارة إلى أنّه تعالى أثبت في اللّوح المحفوظ صورة كلّ شيء كائن محدث إلى قيام السّاعة،على ما جاء في الخبر أنّه تعالى قال:

أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة،فخلق اللّه عبارة عن حكمه و مشيئته،و التّصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللّوح المحفوظ،ثمّ بعد هذين الأمرين أحدث اللّه تعالى آدم،و أمر الملائكة بالسّجود له.

و هذا التّأويل عندي أقرب من سائر الوجوه.

(14:30)

نحوه النّيسابوريّ.(8:80)

القرطبيّ: قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ، لمّا ذكر نعمه ذكر ابتداء خلقه[إلى أن قال:]

و قيل:المعنى خلقناكم في ظهر آدم،ثمّ صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق.هذا قول مجاهد،رواه عنه ابن جريج و ابن أبي نجيح.قال النّحّاس:و هذا أحسن الأقوال.يذهب مجاهد إلى أنّه خلقهم في ظهر آدم،ثمّ صوّرهم حين أخذ عليهم الميثاق،ثمّ كان السّجود بعد.

و يقوّي هذا وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الأعراف:172،و الحديث:«أنّه أخرجهم أمثال الذّرّ فأخذ عليهم الميثاق».

و قيل:(ثمّ)للإخبار،أي وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعني في ظهر آدم صلّى اللّه عليه و سلّم، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي في الأرحام.قال النّحّاس:هذا صحيح عن ابن عبّاس.

قلت:كلّ هذه الأقوال محتمل،و الصّحيح منها ما يعضده التّنزيل،قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:12،يعني آدم.و قال:

وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها النّساء:1،ثمّ قال:(جعلناه) أي جعلنا نسله و ذرّيّته ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ المؤمنون:13،فآدم خلق من طين ثمّ صوّر و أكرم بالسّجود،و ذرّيّته صوّروا في أرحام الأمّهات بعد أن خلقوا فيها و في أصلاب الآباء.و قد تقدّم في أوّل سورة الأنعام أنّ كلّ إنسان مخلوق من نطفة و تربة،فتأمّله.

و قال هنا: خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ، و قال في آخر الحشر: هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ الحشر:24،فذكر التّصوير بعد البرء.و سيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و قيل:معنى وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ، أي خلقنا الأرواح أوّلا،ثمّ صوّرنا الأشباح آخرا.(7:168)

نحوه الشّوكانيّ.(2:239)

البيضاويّ: أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثمّ صوّرناه.نزّل خلقه و تصويره منزلة خلق الكلّ و تصويره،أو ابتدأنا خلقكم ثمّ تصويركم بأن خلقنا

ص: 479

آدم ثمّ صوّرناه.(1:342)

نحوه الشّربينيّ(1:464)،و المشهديّ(3:448).

أبو حيّان :و الظّاهر أنّ الخطاب عامّ لجميع بني آدم،و يكون على قوله: ثُمَّ قُلْنا إمّا أن تكون فيه (ثمّ)بمعنى«الواو»فلم ترتّب،و يكون التّرتيب بين الخلق و التّصوير،أو تكون(ثمّ)في ثُمَّ قُلْنا للتّرتيب في الإخبار لا في الزّمان،و هذا أسهل محمل في الآية.

و منهم من جعل(ثمّ)للتّرتيب في الزّمان و اختلفوا في المخاطب،فقيل:المراد به:آدم،و هو من إطلاق الجمع على الواحد،و قيل:المراد به:بنوه.

فعلى القول الأوّل يكون الخطاب في الجملتين لآدم،لأنّ العرب تخاطب العظيم الواحد بخطاب الجمع.و قيل:الخطاب في الأولى لآدم و في الثّانية لذرّيّته،فتحصل المهلة بينهما،و(ثمّ)الثّالثة لترتيب الأخبار،و روى هذا العوفيّ عن ابن عبّاس.و قيل:

خلقناكم لآدم ثمّ صوّرناكم لبنيه،يعني في صلبه عند أخذ الميثاق ثُمَّ قُلْنا، فيكون التّرتيب واقعا على بابه.

و على القول الثّاني،و هو أنّ الخطاب لبني آدم، فقيل:الخطاب على ظاهره و إن اختلف محلّ الخلق و التّصوير[و ذكر الأقوال المتقدّمة عن ابن عبّاس و غيره و قال:]

(ثمّ)على هذه الأقوال في قوله: صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا للتّرتيب في الأخبار،و قيل:الخطاب لبني آدم إلاّ أنّه على حذف مضاف،التّقدير:و لقد خلقنا أرواحكم ثمّ صوّرنا أجسامكم،حكاه القاضي أبو يعلى في«المعتمد»و يكون(ثمّ)في ثُمَّ قُلْنا لترتيب الأخبار.و قيل التّقدير:و لقد خلقنا أباكم ثمّ صوّرنا أباكم ثمّ قلنا،ف(ثمّ)على هذا للتّرتيب الزّمانيّ و المهلة على أصل وضعها.

و قيل هو من تلوين الخطاب،يخاطب العين و يراد به الغير،فيكون الخطاب لبني آدم،و المراد آدم،كقوله:

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ البقرة:49 فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ البقرة:55، وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً البقرة:72،هو خطاب لمن كان بحضرة الرّسول من بني إسرائيل،و المراد أسلافهم.(4:272)

نحوه السّمين.(3:238)

ابن كثير :قال الرّبيع بن أنس و السّدّيّ و قتادة و الضّحّاك في هذه الآية وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ: أي خلقنا آدم ثمّ صوّرنا الذّرّيّة.و هذا فيه نظر،لأنّه قال بعد ذلك: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فدلّ على أنّ المراد بذلك:آدم،و إنّما قيل ذلك بالجمع،لأنّه أبو البشر،كما يقول اللّه تعالى لبني إسرائيل الّذين كانوا في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى البقرة:

57،و المراد:آباؤهم الّذين كانوا في زمن موسى.

و لكن لمّا كان ذلك منّة على الآباء الّذين هم أصل، صار كأنّه واقع على الأبناء.و هذا بخلاف قوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:

12،فإنّ المراد منه:آدم المخلوق من السّلالة،و ذرّيّته مخلوقون من نطفة.و صحّ هذا،لأنّ المراد من خلقنا

ص: 480

الإنسان الجنس لا معيّنا،و اللّه أعلم.(3:148)

أبو السّعود :تذكير لنعمة عظيمة فائضة على آدم عليه السّلام سارية إلى ذرّيّته،موجبة لشكرهم كافّة، و تأخيره عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التّمكين:إمّا لأنّها فائضة على المخاطبين بالذّات و هذه بالواسطة، و إمّا للإيذان بأنّ كلاّ منهما نعمة مستقلّة مستوجبة للشّكر على حيالها،فإنّ رعاية التّرتيب الوقوعيّ ربّما تؤدّي إلى توهّم عدّ الكلّ نعمة واحدة كما ذكر في قصّة آدم.

و تصدير الجملتين بالقسم و حرف التّحقيق، لإظهار كمال العناية بمضمونها،و إنّما نسب الخلق و التّصوير إلى المخاطبين مع أنّ المراد بهما خلق آدم عليه السّلام و تصويره حتما،توفية لمقام الامتنان حقّه و تأكيدا لوجوب الشّكر عليهم بالرّمز،إلى أنّ لهم حظّا من خلقه عليه السّلام و تصويره،لما أنّهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السّلام كسجود الملائكة له عليه السّلام بل من الأمور السّارية إلى ذرّيّته جميعا؛إذ الكلّ مخلوق في ضمن خلقه على نمطه و مصنوع على شاكلته،فكأنّهم الّذي تعلّق به خلقه و تصويره،أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثمّ صوّرناه أبدع تصوير و أحسن تقويم سار إليكم جميعا.(2:478)

الكاشانيّ: [نقل قول الإمام الباقر عليه السّلام المتقدّم ثمّ قال:]

الاقتصار على بيان الخلق و التّصوير لبني آدم في الحديث،لا ينافي شمول الآية لآدم،فإنّه خلقه طينا غير مصوّر ثمّ صوّره،فلا ينافي الحديث تمام الآية. ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أي بعد خلق آدم و تصويره.

فسجدوا إلاّ إبليس لم يكن من السّاجدين،ممّن سجد لآدم.(2:182)

البروسويّ: أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر بصورته المخصوصة ثمّ صوّرناه،عبّر عن خلق نفس آدم و تصويره،بخلق الكلّ و تصويرهم، تنزيلا لخلقه و تصويره منزلة خلق الكلّ و تصويرهم، من حيث إنّ المقصود من خلقه و تصويره:تعمير الأرض بأولاده،فكان خلقه بمنزلة خلق أولاده، فالإسناد في ضمير الجمع مجازيّ.(3:139)

الآلوسيّ: تذكير لنعمة أخرى،و تأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التّمكّن في الأرض:إمّا لأنّها فائضة على المخاطبين بالذّات و هذه بالواسطة، و إمّا للإيذان بأنّ كلاّ منهما نعمة مستقلّة،و المراد:

خلق آدم عليه السّلام و تصويره،كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي.لكن لمّا كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم،و نزل منزلته،فالتّجوّز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السّلام كجميع الخلق،لتفرّعهم عنه،أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الّذي هو الأصل،و السّبب إلى ما تفرّع عنه و تسبّب.

و جعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف، و ذهب الإمام إلى أنّه كناية عن خلق آدم عليه السّلام و المعنى خلقنا أباكم آدم عليه السّلام طينا غير مصوّر،ثمّ صوّرناه أبدع تصوير و أحسن تقويم سار ذلك إليكم.و جوّز أن يكون التّجوّز في الفعل،و المراد:ابتدأنا خلقكم ثمّ تصويركم بأنّ خلقنا آدم ثمّ صوّرناه،و يعود هذا إلى

ص: 481

ابتداء خلق الجنس،و ابتداء خلق كلّ جنس بإيجاد أوّل أفراده،فهو نظير قوله تعالى: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ السّجدة:7،و على هذين الوجهين يظهر وجه العطف ب(ثمّ)في قوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. (8:86)

رشيد رضا :الخطاب لبني آدم،و المعنى:خلقنا جنسكم،أي مادّته من الصّلصال و الحمإ المسنون، و هو الماء و الطّين اللاّزب المتغيّر الّذي خلق منه الإنسان الأوّل، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بأن جعلنا من تلك المادّة صورة بشر سويّ قابل للحياة،أو قدّرنا إيجادكم تقديرا،ثمّ صوّرنا مادّتكم تصويرا.و معنى الخلق في أصل اللّغة:التّقدير،ثمّ أطلق على إيجاد الشّيء المقدّر على صفة مخصوصة.

قال في حقيقة المادّة من أساس البلاغة:خلق الخرّاز الأديم،أي الجلد،و الخيّاط الثّوب:قدّره قبل القطع،و اخلق لي هذا الثّوب.قال:و من المجاز خلق اللّه الخلق:أوجده على تقدير أوجبته الحكمة.انتهى.

و لكن هذا المجاز اللّغويّ صار حقيقة شرعيّة.و هذا التّفسير أظهر من حيث اللّغة و هو يصدق بخلق آدم و بخلق مجموع النّاس،فإنّ كلّ فرد من الأفراد يقدّر اللّه خلقه،ثمّ يصوّر المادّة الّتي يخلقه منها في بطن أمّه.

و قد اختلفت الرّوايات عن مفسّري السّلف في الجملتين،فعن ابن عبّاس:ثلاث روايات:

إحداها:و رواتها كثيرون،و صحّحها بعضهم على شرط الشّيخين،قال فيهما:خلقوا في أصلاب الرّجال و صوّروا في أرحام النّساء.

و الثّانية:خلقوا في ظهر آدم ثمّ صوّروا في الأرحام أخرجها الفريابيّ.

و الثّالثة قال:أمّا(خلقناكم)فآدم،و أمّا ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ فذرّيّته.أخرجها ابن جرير و ابن أبي حاتم.[ثمّ ذكر قول قتادة و مجاهد و أضاف:]

و التّقدير:الّذي ذكرناه أوّلا هو الموافق لما عليه الجمهور،و الإنسان الأوّل عندنا و عند أهل الكتاب و الهندوس:آدم عليه السّلام.(8:328)

سيّد قطب :إنّ الخلق قد يكون معناه:الإنشاء، و التّصوير قد يكون معناه:إعطاء الصّورة و الخصائص و هما مرتبتان في النّشأة لا مرحلتان.فإنّ(ثمّ)قد لا تكون للتّرتيب الزّمنيّ،و لكن للتّرقّيّ المعنويّ، و التّصوير أرقى مرتبة من مجرّد الوجود،فالوجود يكون للمادّة الخامة،و لكنّ التّصوير-بمعنى إعطاء الصّورة الإنسانيّة و الخصائص-يكون درجة أرقى من درجات الوجود.فكأنّه قال:إنّنا لم نمنحكم مجرّد الوجود،و لكن جعلناه وجودا ذا خصائص راقية، ذلك كقوله تعالى: اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى طه:50.

إنّ كلّ شيء أعطي خصائصه و وظائفه،و هدي إلى أدائها عند خلقه،و لم تكن هناك فترة زمنيّة بين الخلق و إعطاء الخصائص و الوظائف و الهداية إلى أدائها.و المعنى لا يختلف إذا كان معنى(هدى)هداه إلى ربّه،فإنّه هدي إلى ربّه عند خلقه.و كذلك آدم صوّر و أعطي خصائصه الإنسانيّة عند خلقه،و(ثمّ) للتّرقّيّ في الرّتبة،لا للتّراخي في الزّمن،كما نرجّح.

ص: 482

و على أيّة حال فإنّ مجموع النّصوص القرآنيّة في خلق آدم عليه السّلام،و في نشأة الجنس البشريّ،ترجّح أنّ إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانيّة و وظائفه المستقلّة،كان مصاحبا لخلقه.و أنّ التّرقّيّ في تاريخ الإنسان كان ترقّيا في بروز هذه الخصائص و نموّها و تدريبها و اكتسابها الخبرة العالية.و لم يكن ترقّيا في وجود الإنسان،من تطوّر الأنواع حتّى انتهت إلى الإنسان،كما تقول الدّاروينيّة.

و وجود أطوار مترقّية من الحيوان تتبع ترتيبا زمنيّا-بدلالة الحفريّات الّتي تعتمد عليها نظريّة النّشوء و الارتقاء-هو مجرّد نظريّة ظنّيّة و ليست يقينيّة،لأنّ تقدير أعمار الصّخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلاّ ظنّا مجرّد فرض،كتقدير أعمار النّجوم من إشعاعها،و ليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيّرها.

على أنّه-على فرض العلم اليقينيّ بأعمار الصّخور-ليس هناك ما يمنع من وجود أنواع من الحيوان في أزمان متوالية،بعضها أرقى من بعض،بفعل الظّروف السّائدة في الأرض،و مدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظّروف السّائدة حياتها،ثمّ انقراض بعضها حين تتغيّر الظّروف السّائدة؛بحيث لا تسمح لها بالحياة.و لكن هذا لا يحتم أن يكون بعضها متطوّرا من بعض.و حفريّات«دارون»و ما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا،لا تستطيع أن تثبت- في يقين مقطوع به-أنّ هذا النّوع تطوّر تطوّرا عضويّا من النّوع الّذي قبله من النّاحية الزّمنيّة-وفق شهادة الطّبقة الصّخريّة الّتي يوجد فيها-و لكنّها فقط تثبت أنّ هناك نوعا أرقى من النّوع الّذي قبله زمنيّا.و هذا يمكن تعليله كما قلنا:بأنّ الظّروف السّائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النّوع،فلمّا تغيّرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ،و مساعدة على انقراض النّوع الّذي كان عائشا من قبل في الظّروف الأخرى فانقرض.

و عندئذ تكون نشأة النّوع الإنسانيّ نشأة مستقلّة، في الزّمن الّذي علم اللّه أنّ ظروف الأرض تسمح بالحياة و النّموّ و التّرقّيّ لهذا النّوع،و هذا ما ترجّحه مجموعة النّصوص القرآنيّة في نشأة البشريّة.

و تفرّد الإنسان من النّاحية البيولوجيّة و الفسيولوجيّة و العقليّة و الرّوحيّة.هذا التّفرّد الّذي اضطرّ الدّاروينيّون المحدثون-و فيهم الملحدون باللّه كلّيّة-للاعتراف به،دليل مرجّح على تفرّد النّشأة الإنسانيّة،و عدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطوّر عضويّ.

على أيّة حال لقد أعلن اللّه بذاته العليّة الجليلة ميلاد هذا الكائن الإنسانيّ في حفل حافل من الملإ الأعلى.(3:1264)

ابن عاشور :و الخطاب للنّاس كلّهم،و المقصود منه المشركون،لأنّهم الغرض في هذه السّورة.

و تأكيد الخبر ب(اللاّم)و(قد)للوجه الّذي تقدّم في قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ، و تعدية فعلي الخلق و التّصوير إلى ضمير المخاطبين،لمّا كان على معنى خلق النّوع الّذي هم من أفراد،تعيّن أن يكون المعنى

ص: 483

خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه،و هو آدم،كما أفصح عنه قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.

و الخلق:الإيجاد و إبراز الشّيء إلى الوجود، و هذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى اللّه تعالى أو وصف اللّه به.

و التّصوير:جعل الشّيء صورة،و الصّورة:

الشّكل الّذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطّين بصورة نوع من الأنواع.

و عطفت جملة(صورناكم)بحرف(ثمّ)الدّالّة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق،لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق،بأن كان الإنسان على الصّورة الإنسانيّة المتقنة حسنا و شرفا،بما فيها من مشاعر الإدراك و التّدبير،سواء كان التّصوير مقارنا للخلق كما في خلق آدم،أم كان بعد الخلق بمدّة،كما في تصوير الأجنّة من عظام و لحم و عصب و عروق و مشاعر،كقوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً المؤمنون:14.

و تعدية فعلي(خلقنا)و(صورنا)إلى ضمير الخطاب،ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله،في قوله: وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ الأعراف:10، فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الأعراف:27،و المقصود بالخصوص منه:المشركون، لأنّهم الّذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم، لقوله تعالى عقب ذلك: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا الأعراف:28،و قوله فيما تقدّم:

اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ الأعراف:3.

و أمّا تعلّق فعلي الخلق و التّصوير بضمير المخاطبين،فمراد منه أصل نوعهم الأوّل و هو آدم، بقرينة تعقيبه بقوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فنزّل خلق أصل نوعهم منزلة خلق أفراد النّوع الّذين منهم المخاطبون،لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم،و نظيره قوله تعالى: إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ الحاقّة:11،أي حملنا أصولكم و هم الّذين كانوا مع نوح،و تناسل منهم النّاس بعد الطّوفان،لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الّذين تناسلوا منهم.و يجوز أن يؤول فعلا الخلق و التّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك،كقوله تعالى حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذّاريات:35،أي أردنا إخراج من كان فيها،فإنّ هذا الكلام وقع قبل أمر لوط و من آمن به بالخروج من القرية.(8:28)

مغنيّة:الخطاب لبني آدم،و معنى(خلقناكم)أنّه جلّ ثناؤه أنشأ أصلنا الأوّل من تراب،و أنشأنا نحن من النّطفة الّتي تنتهي إلى التّراب،و المراد ب صَوَّرْناكُمْ أنّه جعل المادّة الأولى الّتي خلقنا منها بشرا سويّا على الهيئة الّتي هو عليه: أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً الكهف:37، فالفرق بين الخلق و التّصوير:أنّ خلق الشّيء معناه:

إيجاده و إنشاؤه،أمّا التّصوير فهو إعطاء الشّيء صورة

ص: 484

خاصّة بعد إيجاده.

و تسأل:أنّ أتباع دارون يقولون:إنّ الإنسان وجد أوّل ما وجد على غير صورته هذه،ثمّ انتقل من نوع إلى نوع،حتّى انتهى إلى ما هو عليه الآن؟

الجواب:نحن مع الدّليل العلميّ الّذي لا يقبل الشّكّ و الاحتمال المضادّ،لأنّه متى طرأ الاحتمال بطل الاستدلال،و هذه حقيقة يقينيّة بديهيّة،لا ينكرها حتّى التّجريبيّون الّذين حصروا مصدر المعرفة بالخبرة الحسّيّة.و أهمّ الأدلّة الّتي اعتمدها أصحاب نظريّة النّشوء و الارتقاء هي الحفريّات؛حيث كشفت عن وجود أنواع من الحيوان بعضها أرقى من بعض،و أنّ زمن الأرقى متأخّر عن زمن الأدنى،و أنّ بينها و بين الإنسان شبها في كثير من المزايا.

و نحن لا ننكر هذه الكشوف،و لكنّها لا تثبت نظريّة دارون،لأنّها لا تحتم أن يكون الأرقى متطوّرا من الأدنى في يقين لا يقبل الشّكّ،بل لا يجوز ذلك، و يجوز أن يكون كلّ من الأرقى و الأدنى نوعا مستقلاّ بذاته عن الآخر،أوجدته ظروف ملائمة له،ثمّ انقرض حين تغيّرت ظروفه،كما انقرض غيره من أنواع الحيوان و النّبات.و إذا جاز الأمران،فالأخذ بأحدهما دون الآخر تحكّم.

و قرأت فيما قرأت أنّ كثيرا من العلماء-و فيهم الملحدون-كانوا يؤمنون بالنّظريّة الدّاروينيّة، و لمّا تقدّموا في ميدان العلم عدلوا عنها-لما ذكرنا- و لأنّ في الإنسان خصائص عقليّة و روحيّة تجعله مستقلاّ عن جميع المخلوقات و أنواعها.(3:305)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ صورة قصّة تبتدئ من هذه الآية إلى تمام خمس عشرة آية، يفصّل فيها إجمال الآية السّابقة و تبيّن فيها العلل و الأسباب الّتي انتهت إلى تمكين الإنسان في الأرض، المدلول عليه بقوله: وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ الأعراف:10.

و لذلك بدئ الكلام في قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ إلخ ب«لام القسم»و لذلك أيضا سيقت القصّتان،أعني قصّة الأمر بالسّجدة،و قصّة الجنّة في صورة قصّة واحدة،من غير أن تفصّل القصّة الثّانية بما يدلّ على كونها قصّة مستقلّة،كلّ ذلك ليتخلّص إلى قوله:

وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ البقرة:36،إلى آخر الآيتين فينطبق التّفصيل على إجمال قوله: وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ الأعراف:10.

و قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ الخطاب فيه لعامّة الآدميّين و هو خطاب امتنانيّ كما مرّ نظيره في الآية السّابقة،لأنّ المضمون هو المضمون و إنّما يختلفان بالإجمال و التّفصيل.

و على هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص،أعني قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ بعد قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يفيد بيان حقيقتين:

الأولى:أنّ السّجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم.

ص: 485

و الحقيقة الثّانية:أنّ خلق آدم عليه السّلام كان خلقا للجميع،كما يدلّ عليه أيضا قوله تعالى: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ السّجدة:7،8،و قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ المؤمن:67،على ما هو ظاهر الآيتين أنّ المراد بالخلق من تراب هو الّذي كان في آدم عليه السّلام.

و يشعر بذلك أيضا قول إبليس في ضمن القصّة على ما حكاه اللّه سبحانه: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً الإسراء:62،و لا يخلو عن إشعار به أيضا قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ الأعراف:172،على ما سيجيء من بيانه.

و للمفسّرين في الآية أقوال مختلفة،قال في«مجمع البيان»:«ثمّ ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق،فقال:

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ قال الأخفش:(ثمّ) هاهنا في معنى«الواو»و قال الزّجّاج:و هذا خطأ لا يجوّزه الخليل و سيبويه و جميع من يوثق بعلمه،إنّما (ثمّ)للشّيء الّذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، و إنّما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أوّلا، فالمراد:أنّا بدأنا خلق آدم ثمّ صوّرناه،فابتداء خلق آدم من التّراب ثمّ وقعت السّورة بعد ذلك،فهذا معنى خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ بعد الفراغ من خلق آدم،و هذا مرويّ عن الحسن.و من كلام العرب:فعلنا بكم كذا و كذا و هم يعنون أسلافهم،و في التّنزيل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ البقرة:63،أي ميثاق أسلافكم.

و قد قيل في ذلك أقوال أخر:

منها:أنّ معناه:خلقنا آدم،ثمّ صوّرناكم في ظهره، ثمّ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم،عن ابن عبّاس و مجاهد و الرّبيع و قتادة و السّدّيّ.

و منها:أنّ التّرتيب واقع في الإخبار،فكأنّه قال:

خلقناكم،ثمّ صوّرناكم،ثمّ إنّا نخبركم أنّا قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم،كما يقول القائل:أنا راجل ثمّ أنا مسرع.و هذا قول جماعة من النّحويّين منهم عليّ ابن عيسى،و القاضي أبو سعيد السّيرافيّ و غيرهما.

و على هذا فقد قيل:إنّ المعنى:خلقناكم في أصلاب الرّجال ثمّ صوّرناكم في أرحام النّساء عن عكرمة.

و قيل:خلقناكم في الرّحم ثمّ صوّرناكم بشقّ السّمع و البصر و سائر الأعضاء»،انتهى.

أمّا ما نقله عن الزّجّاج من الوجه،ففيه:أوّلا:أنّ نسبة شيء من صفات السّابقين أو أعمالهم إلى أعقابهم،إنّما تصحّ إذا اشترك القبيلان في ذلك بنوع من الاشتراك،كما فيما أورده من المثال،لا بمجرّد علاقة النّسب و السّبق و اللّحوق،حتّى يصحّ بمجرّد الانتساب النّسليّ أن تعدّ خلقة نفس آدم خلقا لبنيه، من غير أن يكون خلقه خلقا لهم بوجه.

و ثانيا:أنّ ما ذكره لو صحّ به أن يعدّ خلق آدم و تصويره خلقا و تصويرا لبنيه صحّ أن يعدّ أمر الملائكة بالسّجدة له أمرا لهم بالسّجدة لبنيه،كما جرى على ذلك في قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا

ص: 486

فَوْقَكُمُ الطُّورَ البقرة:63،فما باله؟قال: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ و لم يقل:ثمّ قلنا للملائكة:

اسجدوا للإنسان.

و أمّا ما نقله أخيرا من أقوالهم فوجوه سخيفة غير مفهومة من لفظ الآية،و لعلّ القائلين بها لا يرضون أن يتأوّل في كلامهم أنفسهم بمثل هذه الوجوه،فكيف يحمل على مثلها أبلغ الكلام؟(8:19)

عبد الكريم الخطيب :هو بيان لخلق الإنسان و تقلّبه في أطوار الخلق،و من أين جاء؟و كيف نشأ؟ و إلى أين يصير؟

كان الخلق أوّلا،ثمّ التّصوير ثانيا.

و الخلق عمليّة ذات مراحل طويلة،تنقّل فيها الإنسان من طور إلى طور،و من خلق إلى خلق،حتّى دخل طور الإنسان الّذي فيه كان التّصوير على تلك الصّورة الإنسانيّة الكاملة.

و في العطف ب(ثمّ)بين الخلق و التّصوير،ما يشير إلى هذا الفاصل الزّمنيّ الطّويل،الّذي قد يبلغ ملايين السّنين،بين بدء بذرة الخلق للكائن الحيّ،و بين الثّمرة الّتي أعطتها شجرة الحياة.في صورة هذا الإنسان.!

ثمّ إنّ هذا الإنسان حين أطلّ برأسه إلى هذا العالم، لم يكن إلاّ إشارة باهتة إلى هذا الإنسان العاقل المدرك،الّذي يحمل أمانة التّكاليف،و يناط به عبء خلافة اللّه على هذه الأرض...(4:371)

مكارم الشّيرازيّ: قصّة عصيان إبليس

لقد أشير إلى مسألة خلق الإنسان و كيفيّة إيجاده في سبع سور من سور القرآن الكريم،و الهدف من ذكر هذا الموضوع-كما سبق أن أشرنا في الآية السّابقة- هو بيان شخصيّة الإنسان،و مقامه،و منزلته بين كائنات العالم،و بعث روح الشّكر و الحمد فيه.

لقد جاء ذكر خلق الإنسان من التّراب،و سجود الملائكة له،و تمرّد الشّيطان و عصيانه،ثمّ موقفه تجاه النّوع الإنسانيّ في هذه السّور بتعابير مختلفة.

و في الآية المبحوثة الآن يقول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ جدّكم الأوّل،و من المأمورين بالسّجود إبليس الّذين كان موجودا في صفوفهم و إن لم يكن منهم،فامتثلوا لهذا الأمر جميعا،و سجدوا لآدم إلاّ إبليس: فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ.

و يمكن أن يكون ذكر الخلق في الآية الحاضرة قبل التّصوير إشارة إلى:أنّنا أوجدنا المادّة الأصليّة للإنسان أوّلا،ثمّ أفضنا عليها الصّورة الإنسانيّة.

(4:530)

فضل اللّه :بدأ اللّه خلق الإنسان من طين،ثمّ صوّره حتّى تكامل خلقه إنسانا سويّا يملك الصّورة الجميلة و الجسم المعتدل،و الأجهزة الدّقيقة الّتي تتحرّك في نظام محكم متوازن،فتحرّك فيه العقل و الإرادة،اللّذين يستطيع من خلالهما أن يحمل مسئوليّة نفسه،و مسئوليّة الكون من حوله.

و لمّا كان خلقه بهذه الصّورة الفريدة،كان ذلك مظهرا لقدرة اللّه و عظمته،فأراد اللّه أن يمنحه الكرامة، و يحمّله المسئوليّة،و يظهر لملائكته ما في هذا المخلوق من عناصر الإبداع و مظاهر القدرة.(10:36)

ص: 487

4- مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى. طه:55

ابن عبّاس: خلقناكم من آدم و آدم من تراب و التّراب من الأرض.(262)

نحوه الزّجّاج.(3:359)

الفرّاء: قوله: تارَةً أُخْرى... مردودة على قوله: مِنْها خَلَقْناكُمْ لا مردودة على(نعيدكم) لأنّ الأخرى و الآخر إنّما يردّان على أمثالهما.تقول في الكلام:اشتريت ناقة و دارا و ناقة أخرى،فتكون (اخرى)مردودة على النّاقة الّتي هي مثلها، و لا يجوز أن تكون مردودة على الدّار.و كذلك قوله:

مِنْها خَلَقْناكُمْ كقوله:منها أخرجناكم و (نخرجكم)بعد الموت مرّة أخرى.(2:181)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:من الأرض خلقناكم أيّها النّاس،فأنشأناكم أجساما ناطقة.(8:425)

الثّعلبيّ: (منها)أي من الأرض(خلقناكم)يعني أباكم آدم.و قال عطاء الخراسانيّ:إنّ الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الّذي يدفن فيه فيذرّه على النّطفة،فيخلق من التّراب،و من النّطفة،فذلك قوله سبحانه: مِنْها خَلَقْناكُمْ. (6:248)

نحوه الطّوسيّ(7:179)،و البغويّ(3:265)، و الطّبرسيّ(4:14).

القشيريّ: إذ خلقنا آدم من التّراب،و إذ أخرجناكم من صلبه،فقد خلقناكم من التّراب أيضا.

و الأجساد قوالب و الأرواح ودائع،و القوالب نسبتها التّربة،و الودائع صفتها القربة،فالقوالب يزيّنها بأفضاله،و الودائع يحييها بكشف جلاله و لطف جماله.

و للقوالب اليوم اعتكاف على بساط عبادته، و للودائع اتّصاف بدوام معرفته.(4:135)

الواحديّ: يعني آدم خلق من الأرض و البشر كلّهم منه.(3:210)

الزّمخشريّ: أراد بخلقهم من الأرض:خلق أصلهم،هو آدم عليه السّلام منها.(2:541)

نحوه ابن عطيّة(4:48)،و أبو حيّان(6:251).

الفخر الرّازيّ: فيه سؤالان:السّؤال الأوّل:ما معنى قوله: مِنْها خَلَقْناكُمْ مع أنّه سبحانه و تعالى:

خلقنا من نطفة على ما بيّن ذلك في سائر الآيات.

و الجواب من وجهين:

الأوّل:أنّه لمّا خلق أصلنا و هو آدم عليه السّلام من التّراب،على ما قال: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ آل عمران:59،لا جرم أطلق ذلك علينا.

الثّاني:أنّ تولّد الإنسان إنّما هو من النّطفة و دم الطّمث،و هما يتولّدان من الأغذية.و الغذاء إمّا حيوانيّ أو نباتيّ،و الحيوانيّ ينتهي إلى النّبات، و النّبات إنّما يحدث من امتزاج الماء و التّراب،فصحّ أنّه تعالى خلقنا منها؛و ذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النّطفة.

و الثّالث:ذكرنا في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ آل عمران:6،خبر ابن مسعود أنّ اللّه يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل و الرّزق و الأرض الّتي يدفن فيها،و أنّه يأخذ من تراب تلك البقعة و يذرّه على النّطفة،ثمّ يدخلها في

ص: 488

الرّحم.

السّؤال الثّاني:ظاهر الآية يدلّ على أنّ الشّيء قد يكون مخلوقا من الشّيء،و ظاهر قول المتكلّمين يأباه.

و الجواب:إن كان المراد من خلق الشّيء من الشّيء إزالة صفة الشّيء الأوّل عن الذّات و إحداث صفة الشّيء الثّاني فيه فذلك جائز،لأنّه لا منافاة فيه.

(22:69)

نحوه النّيسابوريّ(16:134)،و الخازن(4:

220)،و الشّربينيّ(2:468).

ابن عربيّ: أنشأناكم على حسب اختلاف أمزجة الأعضاء الّتي هي مظاهرها.(2:45)

القرطبيّ: قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ يعني آدم عليه السّلام،لأنّه خلق من الأرض،قاله أبو إسحاق الزّجّاج و غيره.و قيل:كلّ نطفة مخلوقة من التّراب، على هذا يدلّ ظاهر القرآن.(11:210)

البيضاويّ: فإنّ التّراب أصل خلقة أوّل آبائكم، و أوّل موادّ أبدانكم.(2:52)

مثله الكاشانيّ(3:310)،و المشهديّ(6:286).

أبو السّعود :(خلقناكم)أي في ضمن أبيكم آدم عليه الصّلاة و السّلام منها،فإنّ كلّ فرد من أفراد البشر له حظّ من خلقه عليه الصّلاة و السّلام؛إذ لم تكن قطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه الصّلاة و السّلام بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليّا مستتبعا لجريان آثارهما على الكلّ،فكان خلقه عليه الصّلاة و السّلام منها خلقا للكلّ منها.

و قيل:المعنى خلقنا أبدانكم من النّطفة المتولّدة من الأغذية المتولّدة من الأرض بوسائط.و قيل:إنّ الملك الموكّل بالرّحم يأخذ من تربة المكان الّذي يدفن المولود،فيبدّدها على النّطفة،فيخلق من التّراب و النّطفة(4:287)

نحوه الآلوسيّ(16:207)،و المراغيّ(16:120)

البروسويّ: و في«التّأويلات النّجميّة»:من قبضة التّراب الّتي أمر اللّه تعالى عزرائيل أن يأخذها من جميع الأرض(خلقناكم)بوساطة أصلكم آدم، و إلاّ فمن عدا آدم و حوّاء مخلوق من النّطفة.و أصل الخلق:التّقدير المستقيم،و يستعمل فى إبداع الشّيء من غير أصل و لا احتذاء.قال تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الأنعام:1،و يستعمل في إيجاد الشّيء،كما فى هذا المقام.(5:396)

سيّد قطب :و الإنسان مخلوق من مادّة هذه الأرض،عناصر جسمه كلّها من عناصرها إجمالا.

و من زرعها يأكل،و من مائها يشرب،و من هوائها يتنفّس.و هو ابنها و هي له مهد،و إليها يعود جثّة تطويها الأرض،و رفاتا يختلط بترابها،و غازا يختلط بهوائها.و منها يبعث إلى الحياة الأخرى،كما خلق في النّشأة الأولى.(4:2339)

ابن عاشور :مستأنفة استئنافا ابتدائيّا.و هذا إدماج للتّذكير بالخلق الأوّل،ليكون دليلا على إمكان الخلق الثّاني بعد الموت.

و المناسبة متمكّنة،فإنّ ذكر خلق الأرض

ص: 489

و منافعها يستدعي إكمال ذكر المهمّ للنّاس من أحوالها،فكان خلق أصل الإنسان من الأرض شبيها بخروج النّبات منها،و إخراج النّاس إلى الحشر شبيه بإخراج النّبات من الأرض.قال تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً نوح:18،17.(16:135)

مغنيّة:الإنسان ابن الأرض بجسمه،فهي المادّة الأولى لتكوينه،و منها طعامه و شرابه،و عليها ذهابه و إيابه،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«الأرض أمّكم،و هي برّة بكم».أجل،هي أمّنا،لأنّا منها ولدنا،و هي برّة بنا، لأنّها تغذّينا كما ترضع الأمّ وليدها.ثمّ نعود إلى الأرض بعد الموت،و نصير ترابا كما كنّا من قبل،ثمّ نحيا ثانية للحساب و الجزاء.(5:223)

نحوه عبد الكريم الخطيب.(8:800)

الطّباطبائيّ: الضّمير للأرض،و الآية تصف ابتداء خلق الإنسان من الأرض،ثمّ إعادته فيها و صيرورته جزء منها،ثمّ إخراجه منها للرّجوع إلى اللّه،ففيها الدّورة الكاملة من هداية الإنسان.

(14:172)

مكارم الشّيرازيّ: و بما أنّ هذه الآيات دلّلت على التّوحيد بخلق الأرض و نعمها،فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضا،فقالت: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى و إنّه لتعبير بليغ حقّا، و مختصر أيضا،عن ماضي البشر و حاضره و مستقبله، فكلّنا قد جئنا من التّراب،و كلّنا نرجع إلى التّراب، و منه نبعث مرّة أخرى.

إنّ رجوعنا إلى التّراب،أو بعثنا منه أمر واضح تماما،لكن في كيفيّة بدايتنا من التّراب تفسيران:

الأوّل:إنّنا جميعا من آدم و آدم من تراب.

و الآخر:إنّنا أنفسنا قد خلقنا من التّراب،لأنّ كلّ الموادّ الغذائيّة الّتي كوّنت أجسام آبائنا و أمّهاتنا قد أخذت من هذا التّراب.

ثمّ إنّ هذا التّعبير ينبّه كلّ العتاة المتمرّدين، و المتّصفين بصفات فرعون،كي لا ينسوا من أين أتوا، و إلى أين يذهبون؟فلما ذا كلّ هذا الغرور و العصيان و الطّغيان من موجود كان بالأمس ترابا،و سيكون غدا ترابا أيضا؟.(10:18)

5- يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ. الحجّ:5

سيّد قطب : فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ و الإنسان ابن هذه الأرض من ترابها نشأ،و من ترابها تكوّن،و من ترابها عاش.و ما في جسمه من عنصر إلاّ له نظيره في عناصر أمّه الأرض.اللّهمّ إلاّ ذلك السّرّ اللّطيف الّذي أودعه اللّه إيّاه و نفخه فيه من روحه،و به افترق عن عناصر ذلك التّراب.و لكنّه أصلا من التّراب عنصرا و هيكلا و غذاء.و كلّ عناصره المحسوسة من ذلك التّراب.

و لكن أين التّراب و أين الإنسان؟أين تلك الذّرّات الأوّليّة السّاذجة من ذلك الخلق السّويّ

ص: 490

المركّب،الفاعل المستجيب،المؤثّر المتأثّر،الّذي يضع قدميه على الأرض و يرفّ بقلبه إلى السّماء،و يخلق بفكره فيما وراء المادّة كلّها،و منها ذلك التّراب.

إنّها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار و الآماد،تشهد بالقدرة الّتي لا يعجزها البعث،و هي أنشأت ذلك الخلق من تراب.

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.

و المسافة بين عناصر التّراب الأوّليّة السّاذجة و النّطفة المؤلّفة من الخلايا المنويّة الحيّة،مسافة هائلة،تضمر في طياتها السّرّ الأعظم.سرّ الحياة.السّرّ الّذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر،بعد ملايين الملايين من السّنين،و بعد ما لا يحصى من تحوّل العناصر السّاذجة إلى خلايا حيّة في كلّ لحظة من لحظات تلك الملايين.و الّذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته و تسجيله،دون التّطلّع إلى خلقه و إنشائه، مهما طمح الإنسان،و تعلّق بأهداب المحال.

ثمّ يبقى بعد ذلك سرّ تحوّل تلك النّطفة إلى علقة، و تحوّل العلقة إلى مضغة،و تحوّل المضغة إلى إنسان، فما تلك النّطفة؟إنّها ماء الرّجل.و النّقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنويّة.و حيوان واحد منها هو الّذي يلقّح البويضة من ماء المرأة في الرّحم،و يتّحد بها فتعلّق في جدار الرّحم.

و في هذه البويضة الملقّحة بالحيوان المنويّ،في هذه النّقطة الصّغيرة العالقة بجدار الرّحم-بقدرة القادر و بالقوّة المودعة بها من لدنه-في هذه النّقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل:صفاته الجسديّة،و سماته من طول و قصر،و ضخامة و ضآلة، و قبح و وسامة،و آفة و صحّة.كما تكمن صفاته العصبيّة و العقليّة و النّفسيّة:من ميول و نزعات، و طباع و اتّجاهات،و انحرافات و استعدادات.

فمن يتصوّر أو يصدّق أنّ ذلك كلّه كامن في تلك النّقطة العالقة؟و أنّ هذه النّقطة الصّغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركّب،الّذي يختلف كلّ فرد من جنسه عن الآخر،فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان؟

و من العلقة إلى المضغة،و هي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة و لا شكلا.ثمّ تخلق فتتّخذ شكلها بتحوّلها إلى هيكل عظميّ يكسى باللّحم،أو يلفظها الرّحم قبل ذلك إن لم يكن مقدّرا لها التّمام.

(4:2409)

لاحظ:ن ط ف:«نطفة».

6- نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ. الواقعة:57

لاحظ:الطّبريّ(11:651)،و الطّوسيّ(9:502)، و القشيريّ(6:89)،و ابن عربيّ(2:593).و لاحظ:

ص د ق:«تصدّقون».

خلق

1- يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً النّساء:28

لاحظ:ض ع ف:«ضعيفا».

ص: 491

2- خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ. الأنبياء:37

لاحظ:ع ج ل:«من عجل».

3- إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. المعارج:19

لاحظ:ه ل ع:«هلوعا».

4- فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ.* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ.

الطّارق:5،6

لاحظ:د ف ق:«دافق».

خلقت

أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. الغاشية:17

ابن عبّاس: بقوّتها و شدّتها تقوم بحملها و لا يقوم غيرها.(509)

قتادة :أنّ اللّه تعالى لمّا نعت لهم ما في الجنّة، عجب منه أهل الضّلالة،فذكر لهم ذلك مع ما فيه من العجاب ليزول تعجّبهم.(الماورديّ 6:262)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره لمنكري قدرته-على ما وصف في هذه السّورة من العقاب و النّكال الّذي أعدّه لأهل عداوته،و النّعيم و الكرامة الّتي أعدّها لأهل ولايته-أ فلا ينظر هؤلاء المنكرون قدرة اللّه على هذه الأمور،إلى الإبل كيف خلقها و سخّرها لهم و ذلّلها،و جعلها تحمل حملها باركة،ثمّ تنهض به، و الّذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن يخلق ما وصفت من هذه الأمور في الجنّة و النّار.يقول جلّ ثناؤه:

أ فلا ينظرون إلى الإبل فيعتبرون بها،و يعلمون أنّ القدرة الّتي قدر بها على خلقها،لن يعجزه خلق ما شابهها.(12:556)

الزّجّاج: نبّههم اللّه على عظيم من خلقه قد ذلّله للصّغير،يقوده و ينتجه و ينهضه،و يحمل عليه الثّقيل من الحمل و هو بارك،فينهض بثقيل حمله،و ليس ذلك في شيء من الحوامل غيره،فأراهم عظيما من خلقه، ليدلّهم بذلك على توحيده.(5:318)

الماورديّ: في ذكره لهذه ثلاثة أوجه:

أحدها:ليستدلّوا بما فيها من العبر على قدرة اللّه تعالى و وحدانيّته.

الثّاني:ليعلموا بقدرته على هذه الأمور أنّه قادر على بعثهم يوم القيامة،قاله يحيى بن سلاّم.

الثّالث:[قول قتادة].(6:262)

نحوه الطّبرسيّ.(5:480)

القشيريّ: لمّا ذكر وصف تلك السّرر المرفوعة المشيّدة قالوا:كيف يصعدها المؤمن؟فقال:

أ فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟كيف إذا أرادوا الحمل عليها أو ركوبها تنزل؟فكذلك تلك السّرر تتطامن حتّى يركبها الوليّ.

و إنّما أنزلت هذه الآيات على وجه التّنبيه، و الاستدلال بالمخلوقات على كمال قدرته سبحانه.

فالقوم كانوا أصحاب البوادي لا يرون شيئا إلاّ السّماء و الأرض و الجبال و الجمال...فأمرهم بالنّظر في هذه الأشياء.(6:290)

الواحديّ: و كانت الإبل عيشا من عيشتهم:أ فلا

ص: 492

ينظرون إليها و ما يخرج اللّه من ضروعها من بين فرث و دم لبنا خالصا سائغا للشّاربين؟يقول:فكما صنعت هذا لكم،فكذا أصنع لأهل الجنّة في الجنّة.(4:476)

ابن عطيّة: و قرأ الجمهور(خلقت)بفتح القاف و ضمّ الخاء،و قرأ عليّ بن أبي طالب(خلقت)بفتح الخاء و سكون القاف على فعل التّكلّم.(5:475)

الفخر الرّازيّ: [تقدّم ملخّص كلامه في«أ ب ل» عن النّيسابوريّ فلاحظ](31:157)

القرطبيّ: قال المفسّرون:لمّا ذكر اللّه عزّ و جلّ أمر أهل الدّارين،تعجّب الكفّار من ذلك،فكذّبوا و أنكروا،فذكّرهم اللّه صنعته و قدرته،و أنّه قادر على كلّ شيء،كما خلق الحيوانات و السّماء و الأرض.ثمّ ذكر الإبل أوّلا،لأنّها كثيرة في العرب،و لم يروا الفيلة، فنبّههم جلّ ثناؤه على عظيم من خلقه،قد ذلّله للصّغير،يقوده و ينيخه و ينهضه و يحمل عليه الثّقيل من الحمل و هو بارك،فينهض بثقيل حمله،و ليس ذلك في شيء من الحيوان غيره.فأراهم عظيما من خلقه، مسخّرا لصغير من خلقه،يدلّهم بذلك على توحيده و عظيم قدرته.(20:34)

نحوه الشّربينيّ.(4:527)

البيضاويّ: خلقا دالاّ على كمال قدرته و حسن تدبيره،حيث خلقها لجرّ الأثقال إلى البلاد النّائيّة، فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة لمن أقادها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار،ترعى كلّ نابت،و تحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتّى لها قطع البراري و المفاوز،مع ما لها من منافع أخرى، و لذلك خصّت بالذّكر لبيان الآيات المنبثّة في الحيوانات الّتي هي أشرف المركبات و أكثرها صنعا، و لأنّها أعجب ما عند العرب من هذا النّوع.(2:555)

نحوه الكاشانيّ(5:322)،و المشهديّ(11:329)

أبو حيّان :و هي الجمال،فإنّه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها،من أكل لحمها،و شرب لبنها، و الحمل عليها،و التّنقّل عليها إلى البلاد الشّاسعة، و عيشها بأيّ نبات أكلته،و صبرها على العطش حتّى أنّ فيها ما يرد الماء لعشر،و طواعيتها لمن يقودها، و نهضتها و هي باركة بالأحمال الثّقال،و كثرة حنينها، و تأثّرها بالصّوت الحسن على غلظ أكبادها،و هي لا شيء من الحيوان جمع هذه الخصال غيرها.و قد أبان تعالى امتنانه عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً يس:71،الآيات.

و لكونها أفضل ما عند العرب،جعلوها دية القتل، و وهبوا المائة منها من يقصدهم و من أرادوا إكرامه، و ذكرها الشّعراء في مدح من وهبها،كما قال:

*أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية*

و قال آخر:

*الواهب المائة الهجان برمّتها*

و ناسب التّنبيه بالنّظر إليها و إلى ما حوت من عجائب الصّفات،ما ذكر معها من السّماء و الجبال و الأرض،لانتظام هذه الأشياء في نظر العرب،في أوديتهم و بواديهم،و ليدلّ على الاستدلال على إثبات الصّانع،و أنّه ليس مختصّا بنوع دون نوع،بل هو عامّ في كلّ موجوداته،كما قيل:

ص: 493

و في كلّ شيء له آية*تدلّ على أنّه واحد

(8:463)

ابن كثير :يقول تعالى آمرا عباده بالنّظر في مخلوقاته الدّالّة على قدرته و عظمته: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ فإنّها خلق عجيب و تركيبها غريب،فإنّها في غاية القوّة و الشّدّة،و هي مع ذلك تلين للحمل الثّقيل،و تنقاد للقائد الضّعيف،و تؤكل و ينتفع بوبرها،و يشرب لبنها و نبّهوا بذلك لأنّ العرب غالب دوابّهم كانت الإبل،و كان شريح القاضي يقول:أخرجوا بنا حتّى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.

(7:277)

أبو السّعود :استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية،و ما هو مبنيّ عليه من البعث الّذي هم فيه مختلفون،بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره.

و الهمزة للإنكار و التّوبيخ،و الفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام،و كلمة(كيف)منصوبة بما بعدها، كما في قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ البقرة:28، معلّقة لفعل النّظر،و الجملة في حيّز الجرّ على أنّها بدل اشتمال من الإبل،أي أ ينكرون ما ذكر من البعث و أحكامه،و يستبعدون وقوعه من قدرة اللّه عزّ و جلّ، فلا ينظرون إلى الإبل الّتي هي نصب أعينهم، يستعملونها كلّ حين إلى أنّها كيف خلقت خلقا بديعا، معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات،في عظم جثّتها،و شدّة قوّتها،و عجيب هيأتها اللاّئقة، بتأتّي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشّاقّة،كالنّوء بالأوقار الثّقيلة،و جرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النّازحة،و في صبرها على الجوع و العطش حتّى أنّ أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا،و اكتفائها باليسير، و رعيها لكلّ ما يتيسّر من شوك و شجر،و غير ذلك ممّا لا يكاد يرعاه سائر البهائم،و في انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة و السّكون و البروك و النّهوض؛ حيث يستعملها في ذلك كيف ما يشاء،و يقتادها بقطارها كلّ صغير و كبير.(6:420)

نحوه الآلوسيّ.(30:115)

البروسويّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

و تبول من خلفها،لأنّ قائدها أمامها فلا يترشّش عليه بولها،و عنقها سلّم إليها،و تتأثّر من المودّة و الغرام،و تسكر منهما إلى حيث تنقطع عن الأكل و الشّرب زمانا ممتدّا،و تتأثّر من الأصوات الحسنة و الحداء،و تصير من كمال التّأثّر إلى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري،و يجري الدّمع عينيها عشقا و غراما،قال الشّيخ الرّوميّ:

برخوان(أ فلا ينظر)تا قدرت ما بيني (1)

و لم يذكر الفيل مع أنّه أعظم خلقة من الإبل،لأنّه لم يكن بأرض العرب،فلم تعرفه،و لا يحمل عليه عادة و لا يحلب درّه و لا يؤمن ضرّه.(10:416)

سيّد قطب :أ فلا ينظرون إلى خلقتها و تكوينها؟ ثمّ يتدبّرون:كيف خلقت على هذا النّحو المناسب لوظيفتها،المحقّق لغاية خلقها،المتناسق مع بيئتهاا.

ص: 494


1- اقرأ(أ فلا ينظر)حتّى ترى قدرتنا.

و وظيفتها جميعا،إنّهم لم يخلقوها،و هي لم تخلق نفسها، فلا يبقى إلاّ أن تكون من إبداع المبدع المتفرّد بصنعته، الّتي تدلّ عليه و تقطع بوجوده،كما تشي (1)بتدبيره و تقديره.(6:3898)

ابن عاشور :و جملة: كَيْفَ خُلِقَتْ بدل اشتمال من(الابل،)و العامل فيه هو العامل في المبدل منه،و هو فعل(ينظرون)لا حرف الجرّ،فإنّ حرف الجرّ آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله،فالفعل إن احتاج إلى حرف الجرّ في التّعدية إلى المفعول،لا يحتاج إليه في العمل في البدل،و شتّان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع و ما يقتضيه إعمال التّابع،فكلّ على ما يقتضيه معناه و موقعه،ف(كيف)منصوب على الحال بالفعل الّذي يليه.و المعنى،و التّقدير:أ فلا ينظرون إلى الإبل هيئة خلقها؟!

و قد عدّت أشياء أربعة هي من النّاظرين عن كثب لا تغيب عن أنظارهم،و عطف بعضها على بعض، فكان اشتراكها في مرآهم جهة جامعة بينها بالنّسبة إليهم،فإنّهم المقصودون بهذا الإنكار و التّوبيخ، فالّذي حسّن اقتران الإبل مع السّماء و الجبال و الأرض في الذّكر هنا،هو أنّها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة و الحجاز و نجد و أمثالها من بلاد أهل الوبر و الانتجاع.

فالإبل أموالهم و رواحلهم،و منها عيشهم و لباسهم و نسج بيوتهم،و هي حمّالة أثقالهم،و قد خلقها اللّه خلقا عجيبا بقوّة قوائمها و يسر بروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها،و جعل أعناقها طويلة قويّة ليمكّنها النّهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل و المبارك،و جعل في بطونها أمعاء تختزن الطّعام و الماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيّام في السّير في المفاوز،ممّا يهلك فيما دونه غيرها من الحيوان.

و كم قد جرى ذكر الرّواحل و صفاتها و حمدها في شعر العرب،و لا تكاد تخلو قصيدة من طوالهم عن وصف الرّواحل و مزاياها.و ناهيك بما في المعلّقات و ما في قصيدة كعب بن زهير.(30:270)

الطّباطبائيّ: بعد ما فرغ من وصف الغاشية و بيان حال الفريقين:المؤمنين و الكفّار،عقّبه بإشارة إجماليّة إلى التّدبير الرّبوبيّ الّذي يفصح عن ربوبيّته تعالى،المقتضية لوجوب عبادته،و لازم ذلك حساب الأعمال و جزاء المؤمن بإيمانه و الكافر بكفره، و الظّرف الّذي فيه ذلك هو الغاشية.

و قد دعاهم أوّلا أن ينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟و كيف صوّر اللّه سبحانه أرضا عادمة للحياة فاقدة للشّعور بهذه الصّورة العجيبة في أعضائها و قواها و أفاعيلها،فسخّرها لهم ينتفعون من:ركوبها و حملها و لحمها و ضرعها و جلدها و وبرها حتّى بولها و بعرتها،فهل هذا كلّه توافق اتّفاقيّ غير مطلوب بحياله؟(20:274)

مكارم الشّيرازيّ: الإبل من آيات خلق اللّه:

بعد أن تحدّثت الآيات السّابقة بتفصيل عن الجنّةا.

ص: 495


1- كذا.

و نعيمها،تأتي هذه الآيات لتوضّح معالم الطّريق الموصل إلى الجنّة و نعيمها.

فمفتاح المعرفة«معرفة اللّه»،و وصولا لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهيّة و بديع الخلقة،داعية الإنسان للتّأمّل،عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه.و تشير أيضا إلى أنّ قدرة اللّه المطلقة هي مفتاح درك المعاد..

فتقول الآية الأولى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. و لكن،لم اختصّ ذكر الإبل قبل غيره؟

للمفسّرين حديث طويل في ذلك،لكنّ الواضح أنّ الآيات في أوّل نزولها كانت تخاطب أهل مكّة قبل غيرهم،و الإبل أهمّ شيء في حياة أهل مكّة في ذلك الزّمان،فهي معهم ليل نهار،و تنجز لهم ضروب الأعمال،و تدرّ عليهم الفوائد الكثيرة.

أضف إلى ذلك أنّ لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرّد بها عن بقيّة الحيوانات،و يعتبر بحقّ آية من آيات خلق اللّه الباهرة.

و من خصائص الإبل:

1-لو نظرنا إلى موارد الاستفادة من الحيوانات الأليفة،فسنرى أنّ قسما منها لا يستفاد إلاّ من لحومها،و القسم الآخر يستفاد من ألبانها على الأغلب،و قسم لا يستفاد منه إلاّ في الرّكوب،و قسم قد تخصّص في حمل و نقل الأثقال،و لكنّ الإبل تقدّم كلّ هذه الخدمات:اللّحم،اللّبن،الركوب،و الحمل.

2-قدرة حمل و تحمّل الإبل أكثر بكثير من بقيّة الحيوانات الأهليّة،حتّى أنّها لتبرك على الأرض فتوضع الأثقال عليها ثمّ تنهض بها،و هذا ما لا تستطيع فعله بقيّة الحيوانات الأهليّة.

3-تتحمّل العطش لأيّام متتالية بين السّبعة إلى عشرة أيّام،و قابليّتها على تحمّل الجوع مذهلة.

4-يطلق عليها اسم«سفينة الصّحراء»،لما لها من قابليّة فائقة على طيّ مسافات طويلة في اليوم الواحد، رغم الظّروف الصّحراويّة الصّعبة،فلا يعرقل حركتها صعوبة الأرض أو كثرة المنخفضات الرّمليّة،و هذا ما لا نجده في أيّ حيوان آخر و بهذه المواصفات.

5-مع أنّها تتغذّى على أيّ شوك و أيّ نبات،فهي تشبع بالقليل أيضا.

6-لعينها و أذنها و أنفها قدرة كبيرة على مقاومة الظّروف الجوّيّة الصّعبة في الصّحراء،و حتّى العواصف الرّمليّة لا تقف حائلا أمام مسيرها.

7-و الإبل مطيعة و سهلة الانقياد،لدرجة أنّ بإمكان طفل صغير أن يأخذ بزمام مجموعة كبيرة من الإبل و تتحرّك معه حيث يريد.

و الخلاصة:إنّ ما يتمتّع به هذا الحيوان من خصائص،تدفع الإنسان لأن يلتفت إلى قدرة الخالق سبحانه و تعالى.

و ها هو القرآن ينادي بكلّ وضوح:يا أيّها الضّالّون في وادي الغفلة أ لا تتفكّرون في كيفيّة خلق الإبل،لتعرفوا الحقّ و تخرجوا من ضلالكم؟!

و لا بدّ من التّذكير،بأنّ«النّظر»الوارد في الآية، يراد به النّظر الّذي يصحبه تأمّل و دراسة.(20:146)

فضل اللّه :النّظر إلى آيات اللّه في خلقه.

ص: 496

و هذه نقلة تأمّليّة إلى أجواء الفكر في ما يعيشه الإنسان الحائر المنفتح على العناصر الموضوعيّة،في مواجهة الحقيقة الإيمانيّة،و الّتي تدفع بالإنسان إلى الأخذ بالنّظرة الجادّة الباحثة عن خلفيّات الأشياء من حوله،و عن آفاقها و أسرارها و إيحاءاتها،كأساس للحوار و للاعتبار و للاقتناع في ما يتحاور و يعتبر و يقتنع النّاس به،و لهذا أراد القرآن أن يذكّر النّاس فيها باللّه و بمسئوليّتهم أمامه،من خلال توجيه أنظارهم إلى بعض مظاهر خلقه،و تجلّيات قدرته، لإعمال التّأمّل و التّفكير و النّظر،ليقودهم هذا كلّه إلى معرفة أسرارها في ما يستطيعون معرفته منها،و إلى إثارة اندهاشهم من خلال ما يمكن أن يستقرءوه من بعض خفاياها و أوضاعها المعقّدة،ليكون ذلك أساسا لنظر مستمرّ،و تفكير دائم،و ليحمل كلّ جيل إلى الجيل القادم من بعده بعض محاصيل التّفكير و المعرفة عنده،و بعض علامات الاستفهام الّتي لم يستطع أن يجد الجواب عليها،ليدفعه إلى الاستفادة من تراث المعرفة، و إلى البحث عن الأجوبة المفيدة عن علامات الاستفهام،و هكذا طرح اللّه-سبحانه-على النّاس المتحيّرين و الشّاكّين و المعاندين و الرّاغبين في الوصول إلى الحقيقة،ضرورة النّظر إلى الإبل و السّماء و الجبال و الأرض،في طريق الوصول إلى الإيمان.

إبداع خلق الإبل

أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ في هذا الإعداد الوجوديّ الفريد الّذي يتحرّك من خلاله هذا الحيوان الصّحراويّ الّذي يسهل لإنسان الصّحراء،أو الإنسان الّذي تفرض عليه ظروف حياته أن يقطع الصّحراء،عمليّة نقله من مكان إلى آخر،لانعدام أيّ وسيلة أخرى آنذاك.فقد ركّب اللّه في هذا الحيوان خزّانا يحتفظ بالماء،ليروي ظمأه منه عند ما يحتاج إليه،و مجمّعا دهنيّا يستطيع التّغذّي منه عند ما يجوع، كما جعله ذلولا ينقاد لصاحبه و لراكبه و لقائده مع ضخامة جثّته و شدّة بأسه،حتّى أنّه يخضع للطّفل الصّغير،و منحه الصّبر العجيب الّذي يتحمّل به كلّ قسوة الصّحراء و مشكلاتها الطّارئة،و كلّ أوضاع الجوع و العطش و سوء الأحوال،كما أنّه لا يحتاج إلى المال الكثير لتغذيته لتيسّر مرعاه بشكل غير مكلّف أو معقّد،إلى غير ذلك من الخصائص العجيبة الّتي لا يملك الإنسان-عند ما يراها أو يكتشفها-إلاّ أن يدرك أنّ اللّه الواحد العظيم الحكيم هو الّذي أبدع هذا الحيوان،ليقوم بدوره الكبير في النّظام العامّ للحياة، و لحركة الإنسان فيها.(24:225)

و لاحظ:أ ب ل:«الابل».

يخلق

1- وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ. النّحل:8

ابن عبّاس: يقول:خلق من الأشياء ما لا تعلمون ممّا لم يسمّه لكم.(221)

في عين تحت العرش.(الماورديّ 3:180)

مقاتل:هو ما أعدّ اللّه لأوليائه في الجنّة ما لا عين

ص: 497

رأت،و لا أذن سمعت،و لا خطر على قلب بشر.

(أبو حيّان 5:476)

الطّبريّ: و يخلق ربّكم مع خلقه هذه الأشياء الّتي ذكرها لكم ما لا تعلمون،ممّا أعدّ في الجنّة لأهلها و في النّار لأهلها،ممّا لم تره عين و لا سمعته أذن و لا خطر على قلب بشر.(7:564)

الماورديّ: فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها:ما لا تعلمون من الخلق.و هو قول الجمهور.

الثّاني:[قول ابن عبّاس]

الثّالث:ما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:أنّها أرض بيضاء مسيرة الشّمس ثلاثين يوما،مشحونة خلقا لا يعلمون أنّ اللّه يعصى في الأرض،قالوا:يا رسول اللّه فأين إبليس عنهم؟قال:«لا يعلمون أنّ اللّه خلق إبليس»ثمّ تلا وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ. (3:180)

الطّوسيّ: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من أنواع الحيوان و الجماد و النّبات لمنافعكم،و يخلق من أنواع الثّواب للمطيعين،و أنواع العقاب للعصاة ما لا تعلمون

(6:363)

القشيريّ: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ كما أنّ أهل الجنّة من المؤمنين يجدون في الآخرة ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت،و لا خطر على قلب بشر،فكذلك أرباب الحقائق يجدون اليوم ما لم يخطر قطّ على بال، و لا قرءوا في كتاب،و لا تلقّنوه من أستاذ،و لا إحاطة بما أخبر الحقّ أنّه لا يعلم تفصيله سواه،و كيف يعلم من أخبر الحقّ سبحانه أنّه لا يعلم؟.(3:286)

الزّمخشريّ: يجوز أن يريد به:ما يخلق فينا و لنا ممّا لا نعلم كنهه و تفاصيله،و يمنّ علينا بذكره،كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدّلالة على قدرته.

و يجوز أن يخبرنا بأنّ له من الخلائق ما لا علم لنا به،ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك،و إن طوى عنّا علمه لحكمة له في طيّه،و قد حمل على ما خلق في الجنّة و النّار ممّا لم يبلغه وهم أحد و لا خطر على قلبه.(2:402)

ابن عطيّة: و قوله: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ عبرة منصوبة على العموم،أي إنّ مخلوقات اللّه من الحيوان و غيره لا يحيط بعلمها بشر،بل ما يخفى عنه أكثر ممّا يعلمه.و قد روي أنّ اللّه تعالى خلق ألف نوع من الحيوان،منها في البرّ أربعمائة،و بثّها بأعيانها في البحر،و زاد فيه مائتين ليست في البرّ.

و كلّ من خصّص في تفسير هذه الآية شيئا،كقول من قال:سوس الثّياب و غير ذلك،فإنّما هو على جهة المثال،لا أنّ ما ذكره هو المقصود في نفسه.(3:380)

الفخر الرّازيّ: و اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر أوّلا:

أحوال الحيوانات الّتي ينتفع الإنسان بها انتفاعا ضروريّا؛و ثانيا:أحوال الحيوانات الّتي ينتفع الإنسان بها انتفاعا غير ضروريّ،بقي القسم الثّالث من الحيوانات،و هي الأشياء الّتي لا ينتفع الإنسان بها في الغالب،فذكرها على سبيل الإجمال،فقال: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ و ذلك لأنّ أنواعها و أصنافها و أقسامها كثيرة خارجة عن الحدّ و الإحصاء.و لو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها،لكان المذكور بعد

ص: 498

كتبة المجلّدات الكثيرة كالقطرة في البحر،فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال،كما ذكر اللّه تعالى في هذه الآية.

و روى عطاء و مقاتل و الضّحّاك عن ابن عبّاس أنّه قال:إنّ على يمين العرش نهرا من نور مثل السّماوات السّبع و الأرضين السّبع،و البحار السّبعة، يدخل فيه جبريل عليه السّلام كلّ سحر و يغتسل،فيزداد نورا إلى نوره و جمالا إلى جماله،ثمّ ينتفض،فيخلق اللّه من كلّ نقطة تقع من ريشه كذا و كذا ألف ملك يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألفا البيت المعمور،و في الكعبة أيضا سبعون ألفا،ثمّ لا يعودون إليه إلى أن تقوم السّاعة.(19:231)

نحوه النّيسابوريّ(14:49)،و الشّربينيّ(2:218)

القرطبيّ: قوله تعالى: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ قال الجمهور:من الخلق.

و قيل:من أنواع الحشرات و الهوامّ في أسافل الأرض و البرّ و البحر،ممّا لم يره البشر و لم يسمعوا به.

و قيل: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ممّا أعدّ اللّه في الجنّة لأهلها و في النّار لأهلها،ممّا لم تره عين و لم تسمع به أذن و لا خطر على قلب بشر.

و قال قتادة و السّدّيّ: هو خلق السّوس في الثّياب و الدّود في الفواكه.[ثمّ ذكر قول النّبيّ و ابن عبّاس المتقدّم عن الفخر الرّازيّ،و قال:]

قلت:و من هذا المعنى ما ذكر البيهقيّ عن الشّعبيّ، قال:إنّ للّه عبادا من وراء الأندلس-كما بيننا و بين الأندلس-ما يرون أنّ اللّه عصاه مخلوق،رضراضهم الدّرّ و الياقوت،و جبالهم الذّهب و الفضّة،لا يحرثون و لا يزرعون،و لا يعملون عملا،لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم،و شجر لها أوراق عراض هي لباسهم،ذكره في بدء الخلق من«كتاب الأسماء و الصّفات».و خرّج من حديث موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ أنّه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة اللّه من حملة العرش،ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام».(10:80)

أبو حيّان :فقال الجمهور:المعنى ما لا تَعْلَمُونَ من الآدميّين و الحيوانات و الجمادات الّتي خلقها كلّها لمنافعكم،فأخبرنا بأنّ له من الخلائق ما لا علم لنا به، لنزداد دلالة على قدرته بالإخبار،و إن طوى عنّا علمه حكمة له في طيّه،و ما خلق تعالى من الحيوان و غيره لا يحيط بعلمه بشر.و قال ابن بحر:لا تعلمون كيف يخلقه.[و نقل قول مقاتل و غيره ثمّ قال:]

و يقال:لمّا ذكر الحيوان الّذي ينتفع به انتفاعا ضروريّا و غير ضروريّ،أعقب بذكر الحيوان الّذي لا ينتفع به غالبا على سبيل الإجمال؛إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاء و العدّ.(5:476)

أبو السّعود : وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي يخلق في الدّنيا غير ما عدّد من أصناف النّعم فيكم،و لكم ما لا تعلمون كنهه و كيفيّة خلقه.فالعدول إلى صيغة الاستقبال للدّلالة على الاستمرار و التّجدّد،أو لاستحضار الصّورة،أو يخلق لكم في الجنّة غير ما ذكر من النّعم الدّنيويّة ما لا تَعْلَمُونَ أي ما ليس من

ص: 499

شأنكم أن تعلموه،و هو ما أشير إليه بقوله عليه الصّلاة و السّلام حكاية عن اللّه تعالى:«أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر».

و يجوز أن يكون هذا إخبارا بأنّه سبحانه يخلق من الخلائق ما لا علم لنا به،دلالة على قدرته الباهرة الموجبة للتّوحيد،كنعمته الباطنة و الظّاهرة.(4:43)

نحوه الشّوكانيّ.(3:187)

الآلوسيّ: أي و يخلق غير ذلك الّذي فصّله سبحانه لكم.و التّعبير عنه بما ذكر،لأنّ مجموعه غير معلوم،و لا يكاد يكون معلوما،فالكلام إجمالا لما عدا الحيوانات المحتاج غالبا احتياجا ضروريّا أو غير ضروريّ.و العدول إلى صيغة الاستقبال للدّلالة على الاستمرار و التّجدّد،أو لاستحضار الصّورة.

و يجوز أن يكون إخبارا منه تعالى بأنّ له سبحانه ما لا علم لنا به من الخلائق،ف ما لا تَعْلَمُونَ على ظاهره.[ثمّ أدام الكلام على نقل روايات كلّها مصداق للآية](14:102)

ابن عاشور :و(يخلق)مضارع مراد به زمن الحال لا الاستقبال،أي هو الآن يخلق ما لا تعلمون أيّها النّاس ممّا هو مخلوق لنفعهم،و هم لا يشعرون به، فكما خلق لهم الأنعام و الكراع خلق لهم و يخلق لهم خلائق أخرى لا يعلمونها الآن،فيدخل في ذلك ما هو غير معهود أو غير معلوم للمخاطبين،و هو معلوم عند أمم أخرى كالفيل عند الحبشة و الهنود،و ما هو غير معلوم لأحد ثمّ يعلمه النّاس من بعد،مثل دوابّ الجهات القطبيّة كالفقمة و الدّبّ الأبيض،و دوابّ القارّة الأمريكيّة الّتي كانت مجهولة للنّاس في وقت نزول القرآن،فيكون المضارع مستعملا في الحال للتّجديد،أي هو خالق و يخلق.

و يدخل فيه-كما قيل-ما يخلقه اللّه من المخلوقات في الجنّة،غير أنّ ذلك خاصّ بالمؤمنين.

فالظّاهر أنّه غير مقصود من سياق الامتنان العامّ للنّاس المتوسّل به إلى إقامة الحجّة على كافري النّعمة.

فالّذي يظهر لي أنّ هذه الآية من معجزات القرآن الغيبيّة العلميّة،و أنّها إيماء إلى أنّ اللّه سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل و البغال و الحمير،و تلك العجلات الّتي يركبها الواحد و يحرّكها برجليه و تسمّى«بسكلات»،و أرتال السّكك الحديديّة،و السّيّارات المسيّرة بمصفّى النّفط، و تسمّى«أطوموبيل»،ثمّ الطّائرات الّتي تسير بالنّفط المصفّى في الهواء.فكلّ هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة،لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كلّ منها.

و إلهام اللّه النّاس لاختراعها هو ملحق بخلق اللّه، فاللّه هو الّذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذّكاء و العلم،و بما تدرّجوا في سلّم الحضارة و اقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها،فهي بذلك مخلوقة للّه تعالى،لأنّ الكلّ من نعمته.(13:88)

سيّد قطب :يعقّب بها على خلق الأنعام للأكل و الحمل و الجمال،و خلق الخيل و البغال و الحمير

ص: 500

للرّكوب و الزّينة.ليظلّ المجال مفتوحا في التّصوّر البشريّ لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل و النّقل و الرّكوب و الزّينة،فلا يغلق تصوّرهم خارج حدود البيئة،و خارج حدود الزّمان الّذي يظلّهم،فوراء الموجود في كلّ مكان و زمان صور أخرى،يريد اللّه للنّاس أن يتوقّعوها فيتّسع تصوّرهم و إدراكهم، و يريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها و لا يجمدوا دون استخدامها و الانتفاع بها،و لا يقولوا:إنّما استخدم آباؤنا الأنعام و الخيل و البغال و الحمير فلا نستخدم سواها،و إنّما نصّ القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها.

إنّ الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلّها،و مقدّرات الحياة كلّها و من ثمّ يهيّئ القرآن الأذهان و القلوب لاستقبال كلّ ما تتمخّض عنه القدرة،و يتمخّض عنه العلم، و يتمخّض عنه المستقبل،استقباله بالوجدان الدّينيّ المتفتّح المستعدّ لتلقّي كلّ جديد،في عجائب الخلق و العلم و الحياة.

و لقد وجدت وسائل للحمل و النّقل و الرّكوب و الزّينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزّمان،و ستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزّمان.و القرآن يهيّئ لها القلوب و الأذهان،بلا جمود و لا تحجّر وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.

و في معرض النّقل و الحمل و الرّكوب و السّير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الأرض،يدخل السّياق غايات معنويّة و سيرا معنويّا و طرقا معنويّة.

فثمّة الطّريق إلى اللّه،و هو طريق قاصد مستقيم لا يلتوي و لا يتجاوز الغاية.و ثمّة طرق أخرى لا توصل و لا تهدي،فأمّا الطّريق إلى اللّه فقد كتب على نفسه كشفها و بيانها:بآياته في الكون و برسله إلى النّاس.(4:2161)

المراغيّ: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ غير هذه الدّوابّ ممّا يهدي إليه العلم و تستنبطه العقول، كالقطر البرّيّة و البحريّة،و الطّائرات الّتي تحمل أمتعتكم،و تركبونها من بلد إلى بلد آخر،و من قطر إلى قطر،و المطاود الهوائيّة الّتي تسير في الجوّ، و الغوّاصات الّتي تجري تحت الماء إلى نحو أولئك ممّا تعجبون منه،و يقوم مقام الخيل و البغال و الحمير في الرّكوب و الزّينة.(14:57)

الطّباطبائيّ: و قوله: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان و غيره، و سخّرها لكم لتنتفعوا بها،و الدّليل على ما قدّرناه هو السّياق.(12:212)

عبد الكريم الخطيب : وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ إشارة إلى ما خلق اللّه من مخلوقات لا يعلمها إلاّ هو، و لا يملك تسخيرها إلاّ هو،إذ لا تخضع لسلطان الإنسان،و لا تستجيب لعلمه.(7:271)

مكارم الشّيرازيّ: و تأتي الإشارة في ذيل الآية إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول على الوسائط النّقليّة المدنيّة من غير الحيوانات،فيقول: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من المراكب و وسائل النّقل.

و بعض قدماء المفسّرين اعتبر هذا المقطع من الآية

ص: 501

إشارة إلى حيوانات ستخلق في المستقبل ليستعملها الإنسان في تنقّلاته.

و ورد في تفسير«المراغيّ»و تفسير«في ظلال القرآن»أنّ درك مفهوم هذه الجملة أسهل لنا و نحن نعيش في عصر السّيّارة و وسائل النّقل السّريعة الأخرى.

و عند ما تعبّر الآية بكلمة(يخلق)فذلك لأنّ الإنسان في اختراعه لتلك الوسائل ليس هو الخالق لها،بل إنّ الموادّ الأوّليّة اللاّزمة للاختراعات،مخلوقة و موجودة بين أيدينا،و ما على الإنسان إلاّ أن يستعمل ما وهبه اللّه من قدرة على الاختراع،لما أودع فيه من استعداد و قابليّة بتشكيل و تركيب تلك الموادّ، على هيئة يمكن من خلالها أن تعطي شيئا آخر يفيد الإنسان.(8:225)

فضل اللّه : وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من وسائل الرّكوب الّتي قد يلهم الإنسان اكتشافها،و يسهّل له استعمالها،أو ما يخلقه اللّه من الحيوان.و بهذا نستطيع استيحاء الفكرة الدّينية الّتي تدعو الإنسان للتّطلّع إلى كلّ تطوّر في وسائل الحياة،بشكل إيجابيّ تدفعه لاكتشاف ذاك الجديد و استعماله.(13:197)

2- أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ.

النّحل:17

ابن عبّاس: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ و هو اللّه كَمَنْ لا يَخْلُقُ لا يقدر أن يخلق يعني الأصنام.(222)

نحوه الثّعلبيّ.(6:12)

قتادة:قوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ... و اللّه هو الخالق الرّازق،و هذه الأوثان الّتي تعبد من دون اللّه تخلق و لا تخلق شيئا،و لا تملك لأهلها ضرّا و لا نفعا.

(الطّبريّ 7:573)

الفرّاء: و قوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ جعل(من)لغير النّاس،لمّا ميّزه فجعله مع الخالق و صلح،كما قال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ النّور:45،و العرب تقول:اشتبه عليّ الراكب و حمله،فما أدرى من ذا من ذا؛حيث جمعهما، واحدهما إنسان،صلحت(من)فيهما جميعا.(2:98)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره لعبدة الأوثان و الأصنام:أ فمن يخلق هذه الخلائق العجيبة الّتي عدّدناها عليكم و ينعم عليكم هذه النّعم العظيمة، كمن لا يخلق شيئا و لا ينعم عليكم نعمة صغيرة و لا كبيرة؟يقول:أ تشركون هذا في عبادة هذا؟ يعرّفهم بذلك عظم جهلهم،و سوء نظرهم لأنفسهم،و قلّة شكرهم لمن أنعم عليهم بالنّعم الّتي عدّدها عليهم، الّتي لا يحصيها أحد غيره.[و نقل قول قتادة ثمّ قال:]

و قيل: كَمَنْ لا يَخْلُقُ هو الوثن و الصّنم، و(من)لذوي التّمييز خاصّة،فجعل في هذا الموضع لغيرهم للتّمييز،إذ وقع تفصيلا بين من يخلق و من لا يخلق.(7:573)

الطّوسيّ: في هذه الآية ردّ على عبّاد الأصنام و الأوثان بأن يقال:أ فمن يخلق ما تقدّم ذكره من السّماوات و الأرض و الشّمس و القمر و النّجوم

ص: 502

و غير ذلك من أنواع العجائب،كمن لا يخلق ذلك من الأصنام الّتي هي جمادات،فكيف توجّه العبادة إليها، و يسوّي بينها،و بين خالق جميع ذلك،أ فلا يتفكّرون في ذلك و يعتبرون به،فإنّ ذلك من الخطإ الفاحش.

و جعل(من)فيما لا يعقل،لما اتّصلت بذكر الخالق.

و يتعلّق بهذه الآية المجبّرة،فقالوا:أعلمنا اللّه تعالى أنّ أحدا لا يخلق،لأنّه خلاف الخالق،و أنّه لو كان خالق غيره لوجب أن يكون مثله،و نظيره.

و هذا باطل،لأنّ الخلق في حقيقة اللّغة هو التّقدير و الإتقان في الصّنعة،و فعل الشّيء لا على وجه السّهو و المجازفة،بدلالة قوله: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17،و قوله: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي المائدة:110،و قوله: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المؤمنون:14،كما لا يجوز أنّه أعظم الآلهة لما لم يستحقّ الإلهيّة غيره.[ثمّ استشهد بأشعار]

فعلمنا بذلك جواز تسمية غيره بأنّه خالق،إلاّ أنّا لا نطلق هذه الصّفة إلاّ للّه تعالى،لأنّ ذلك توهم.

فإذا ثبت ذلك فالوجه في الآية ما قدّمنا ذكره من الرّدّ على عبّاد الأصنام و الجمادات الّتي لا تقدر على ضرر و لا نفع،و لا خلق شيء،و لا استطاعة لها على فعل.

و أنّ من سوّى بينها و بين من خلق ما تقدّم ذكره من أنواع النّعم و أشرك بينهما في العبادة،كان جاهلا بعيدا عن الصّواب،عادلا عن طريق الهدى.و يقوّي ذلك أنّه قال عقيب هذه الآية: وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ النّحل:20،21،فعلمنا أنّه أراد بذلك ما ما قدّمنا من إسقاط رأيهم و تسويتهم بين الجماد و الحيّ و الفاعل و من ليس بفاعل،و هذا واضح.

(6:368)

القشيريّ: تدلّ هذه الآية على نفي التّشبيه بينه سبحانه و بين خلقه.و صفات القدم للّه مستحقّة،و ما هو من خصائص الحدثان،و سمات الخلق يتقدّس الحقّ سبحانه عن جميع ذلك.و لا تشبّه ذات القديم بذوات المخلوقين،و لا صفاته بصفاتهم،و لا حكمه بحكمهم،و أصل كلّ ضلالة التّشبيه،و من قبح ذلك و فساده أنّ كلّ أحد يتبرّأ منه و يستنكف من انتحاله.

(3:290)

الزّمخشريّ: فإن قلت:(من لا يخلق)أريد به الأصنام فلم جيء ب(من)الّذي هو لأولي العلم؟

قلت:فيه أوجه:

أحدها:أنّهم سمّوها آلهة و عبدوها،فأجروها مجرى أولي العلم.أ لا ترى إلى قوله على أثره:

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ النّحل:20.

و الثّاني:المشاكلة بينه و بين من يخلق.

و الثّالث:أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده،كقوله:

أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها الأعراف:195،يعني أنّ الآلهة حالهم منحطّة عن حال من لهم أرجل و أيد و آذان و قلوب،لأنّ هؤلاء أحياء و هم أموات،فكيف تصحّ لهم العبادة؟لا أنّها لو صحّت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا!

ص: 503

فإن قلت:هو إلزام للّذين عبدوا الأوثان و سمّوها آلهة تشبيها باللّه،فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حقّ الإلزام أن يقال لهم:أ فمن لا يخلق كمن يخلق.

قلت:حين جعلوا غير اللّه مثل اللّه في تسميته باسمه و العبادة له و سوّوا بينه و بينه،فقد جعلوا اللّه تعالى من جنس المخلوقات و شبيها بها،فأنكر عليهم ذلك بقوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ. (2:405)

ابن عطيّة: ثمّ قرّرهم على التّفرقة بين من يخلق الأشياء و يخترعها و بين من لا يقدر على شيء من ذلك،و عبّر عن الأصنام ب(من)لوجهين:

أحدهما:أنّ الآية تضمّنت الرّدّ على جميع من عبد غير اللّه،و قد عبّرت طوائف من تقع عليه العبارة ب(من).و الآخر:أنّ العبارة جرت في الأصنام بحسب اعتقاد الكفرة فيها،في أنّ لها تأثيرا و أفعالا.

(3:385)

الطّبرسيّ: معناه:أ فمن يخلق هذه الأشياء في استحقاق العبادة و الإلهيّة،كالأصنام الّتي لا تخلق شيئا حتّى يسوّى بينها في العبادة،و بين خالق جميع ذلك.

(3:354)

الفخر الرّازيّ: في الآية مسائل:

المسألة الأولى:اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر الدّلائل الدّالّة على وجود القادر الحكيم على التّرتيب الأحسن و النّظم الأكمل،و كانت تلك الدّلائل كما أنّها كانت دلائل،فكذلك أيضا كانت شرحا و تفصيلا لأنواع نعم اللّه تعالى و أقسام إحسانه،أتبعه بذكر إبطال عبادة غير اللّه تعالى.

و المقصود أنّه لمّا دلّت هذه الدّلائل الباهرة، و البيّنات الزّاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم، و ثبت أنّه هو المولى لجميع هذه النّعم و المعطي لكلّ هذه الخيرات،فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه،لا سيّما إذا كان ذلك الموجود جمادا لا يفهم و لا يقدر،فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات:

أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ.

و المعنى أ فمن يخلق هذه الأشياء الّتي ذكرناها كمن لا يخلق،بل لا يقدر البتّة على شيء أ فلا تذكّرون؟ فإنّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبّر و تفكّر و نظر.و يكفي فيه أن تتنبّهوا على ما في عقولكم من أنّ العبادة لا تليق إلاّ بالمنعم الأعظم،و أنتم ترون في الشّاهد إنسانا عاقلا فاهما ينعم بالنّعمة العظيمة،و مع ذلك فتعلمون أنّه يقبح عبادته،فهذه الأصنام جمادات محضة،و ليس لها فهم و لا قدرة و لا اختيار،فكيف تقدمون على عبادتها،و كيف تجوّزون الاشتغال بخدمتها و طاعتها.

المسألة الثّانية:[ذكر كلام الزّمخشريّ المتقدّم]

المسألة الثّالثة:احتجّ بعض أصحابنا بهذه الآية على أنّ العبد غير خالق لأفعال نفسه،فقال:إنّه تعالى ميّز نفسه عن سائر الأشياء الّتي كانوا يعبدونها بصفة الخالقيّة،لأنّ قوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ الغرض منه بيان كونه ممتازا عن الأنداد بصفة الخالقيّة، و أنّه إنّما استحقّ الإلهيّة و المعبوديّة بسبب كونه خالقا،فهذا يقتضي أنّ العبد لو كان خالقا لبعض الأشياء لوجب كونه إلها معبودا،و لمّا كان ذلك

ص: 504

باطلا علمنا أنّ العبد لا يقدر على الخلق و الإيجاد.

قالت المعتزلة:الجواب عنه من وجوه:

الوجه الأوّل:أنّ المراد:أ فمن يخلق ما تقدّم ذكره من السّماوات و الأرض و الإنسان و الحيوان و النّبات و البحار و النّجوم و الجبال،كمن لا يقدر على خلق شيء أصلا،فهذا يقتضي أنّ من كان خالقا لهذه الأشياء فإنّه يكون إلها،و لم يلزم منه أنّ من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلها.

و الوجه الثّاني:أنّ معنى الآية أنّ من كان خالقا كان أفضل ممّن لا يكون خالقا،فوجب امتناع التّسوية بينهما في الإلهيّة و المعبوديّة،و هذا القدر لا يدلّ على أنّ كلّ من كان خالقا فإنّه يجب أن يكون إلها.و الدّليل عليه قوله تعالى: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها الأعراف:

195،و معناه أنّ الّذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الّذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها، و هذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصّنم، و الأفضل لا يليق به عبادة الأخسّ،فهذا هو المقصود من هذه الآية،ثمّ إنّها لا تدلّ على أنّ من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلها،فكذلك هاهنا المقصود من هذه الآية بيان أنّ الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التّسوية بينهما في الإلهيّة و المعبودية،و لا يلزم منه أنّ بمجرّد حصول صفة الخالقيّة يكون إلها.

و الوجه الثّالث في الجواب:أنّ كثيرا من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد.قال الكعبيّ في «تفسيره»:إنّا لا نقول:إنّا نخلق أفعالنا،قال:و من أطلق ذلك فقد أخطأ إلاّ في مواضع ذكرها اللّه تعالى كقوله: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي المائدة:110،و قوله: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المؤمنون:14.

و اعلم أنّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد،حتّى أنّ أبا عبد اللّه البصير بالغ و قال:

إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة و على اللّه مجاز، لأنّ الخلق عبارة عن التّقدير،و ذلك عبارة عن الظّنّ و الحسبان،و هو في حقّ العبد حاصل و في حقّ اللّه تعالى محال.

و اعلم أنّ هذه الأجوبة قويّة و الاستدلال بهذه الآية على صحّة مذهبنا ليس بقويّ،و اللّه أعلم.

(20:11)

القرطبيّ: قوله تعالى: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ هو اللّه تعالى كَمَنْ لا يَخْلُقُ يريد الأصنام. أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أخبر عن الأوثان الّتي لا تخلق و لا تضرّ و لا تنفع،كما يخبر عمّن يعقل على ما تستعمله العرب في ذلك،فإنّهم كانوا يعبدونها،فذكرت بلفظ(من) كقوله: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ الأعراف:195،و قيل:لاقتران الضّمير في الذّكر بالخالق.[و ذكر قول الفرّاء ثمّ قال:]

قال المهدويّ: و يسأل ب(من)عن البارئ تعالى و لا يسأل عنه ب(ما)لأنّ(ما)إنّما يسأل بها عن الأجناس،و اللّه تعالى ليس بذي جنس،و لذلك أجاب موسى عليه السّلام حين قال له: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى طه:49،و لم يجب حين قال له: وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ الشّعراء:23،إلاّ بجواب(من)،و أضرب عن جواب(ما)حين كان السّؤال فاسدا.و معنى

ص: 505

الآية:من كان قادرا على خلق الأشياء المتقدّمة الذّكر،كان بالعبادة أحقّ ممّن هو مخلوق لا يضرّ و لا ينفع، هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ لقمان:11، أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فاطر:40.(10:93)

أبو حيّان :ذكر تعالى التّباين بين من يخلق و هو البارئ تعالى،و بين من لا يخلق و هي الأصنام،و من عبد ممّن لا يعقل،فجدير أن يفرد بالعبادة من له الإنشاء دون غيره.و جيء ب(من)في الثّاني لاشتمال المعبود غير اللّه على من يعقل و ما لا يعقل،أو لاعتقاد الكفّار أنّ لها تأثيرا و أفعالا،فعوملت معاملة أولي العلم،أو للمشاكلة بينه و بين من يخلق،أو لتخصيصه بمن يعلم.فإذا وقعت البينونة بين الخالق و بين غير الخالق،من أولي العلم فكيف بمن لا يعلم البتّة كقوله:

أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها الأعراف:195،أي أنّ آلهتهم منحطّة عن حال من له أرجل،لأنّ من له هذه حيّ،و تلك أموات،فكيف يصحّ أن يعبد لا أنّ من له رجل يصحّ أن يعبد؟(5:481)

الشّربينيّ: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ أي هذه الأشياء الموجودة و غيرها كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا من ذلك بل على إيجاد شيء ما،فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحقّ العبادة،و ترك عبادة من يستحقّها و هو اللّه تعالى؟[ثمّ ذكر نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

فإن قيل:(من لا يخلق)إن أريد به جميع ما عبد من دون اللّه،كان ورود(من)واضحا،لأنّ العاقل يغلب على غيره،فيعبّر عن الجميع ب(من)،و لو جيء أيضا ب(ما)لجاز،و إن أريد به الأصنام فلم جيء ب(من)الّذي هو لأولي العلم؟

أجيب:بأنّهم سمّوها آلهة و عبدوها فأجروها مجرى أولي العلم.أ لا ترى إلى قوله تعالى على أثره:

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ النّحل:؟20.[ثمّ استشهد بأشعار،و أدام نحو أبي حيّان](2:222)

أبو السّعود : أَ فَمَنْ يَخْلُقُ هذه المصنوعات العظيمة و يفعل هاتيك الأفاعيل البديعة،أو يخلق كلّ شيء كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا أصلا.و هو تبكيت للكفرة و إبطال لإشراكهم و عبادتهم للأصنام،بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها و بينه سبحانه و تعالى،بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرا.

و تعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى توهّم المشابهة المذكورة،على ما فصّل من الأمور العظيمة الظّاهرة الاختصاص به تعالى المعلومة،كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به ما تلوناه من قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ العنكبوت:61 و 63،الآيتين.

و الاقتصار على ذكر«الخلق»من بينها،لكونه أعظمها و أظهرها و استتباعه إيّاها،أو لكون كلّ منها خلقا مخصوصا،أي أبعد ظهور اختصاصه تعالى بمبدئيّة هذه الشّئون الواضحة الدّلالة على وحدانيّته تعالى.

و تفرّده بالألوهيّة و استبداده باستحقاق العبادة،يتصوّر المشابهة بينه و بين ما هو بمعزل من ذلك بالمرّة؟كما هو قضيّة إشراككم و مدارها،و إن كان على نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النّظم الكريم،مراعاة لحقّ

ص: 506

سبق الملكة على العدم،و تفاديا عن توسيط عدمها بينها و بين جزئيّاتها المفصّلة قبلها،و تنبيها على كمال قبح ما فعلوه؛من حيث إنّ ذلك ليس مجرّد رفع الأصنام عن محلّها،بل هو حطّ لمنزلة الرّبوبيّة إلى مرتبة الجمادات،و لا ريب في أنّه أقبح من الأوّل.

و المراد ب(من لا يخلق)كلّ ما هذا شأنه كائنا ما كان،و التّعبير عنه بما يختصّ بالعقلاء للمشاكلة،أو العقلاء خاصّة،و يعرف منه حال غيرهم لدلالة النّصّ،فإنّ من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق-و هو من جملة العقلاء-فما ظنّك بالجماد!و أيّاما كان فدخول الأصنام في حكم عدم المماثلة و المشابهة:إمّا بطريق الاندراج تحت الموصول العامّ،و إمّا بطريق الانفهام بدلالة النّصّ على الطّريقة البرهانيّة،لا بأنّها هي المرادة بالموصول خاصّة.(4:50)

البرسويّ: و اختير تشبيه الخالق بغير الخالق مع اقتضاء المقام بظاهره عكس ذلك،مراعاة لحقّ سبق الملكة على العدم.(5:22)

الآلوسيّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

و استدلّ بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم:أنّ العباد خالقون لأفعالهم.و قال الشّهاب:

بعد أن قرّر تقدير المفعول عامّا على طرز ما ذكرنا، و جوّز أن يكون العموم فيه مأخوذا من تنزيل الفعل منزلة اللاّزم-:«إنّه علم من هذا عدم توجّه الاحتجاج بها على المعتزلة في إبطال قولهم بخلق العباد أفعالهم،كما وقع في كتب الكلام،لأنّ السّلب الكلّيّ لا ينافي الإيجاب الجزئيّ»انتهى.حسبما وجدناه في النّسخ الّتي بأيدينا،و لعلّها سقيمة و إلاّ فلا أظنّ ذلك إلاّ كبوة جواد،و هو ظاهر.(14:117)

سيّد قطب :و هو تعقيب يجيء في أوانه،و النّفس متهيّئة للإقرار بمضمونه: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ فهل هنالك إلاّ جواب واحد:لا.و كلاّ:أ فيجوز أن يسوّي إنسان في حسّه و تقديره بين من يخلق ذلك الخلق كلّه،و من لا يخلق،لا كبيرا و لا صغيرا؟.

(4:2164)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ إلى قوله: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ النّحل:22، الآيات تقرير إجماليّ للحجّة المذكورة تفصيلا،في ضمن الآيات السّتّ عشرة الماضية،و استنتاج للتّوحيد،و هي حجّة واحدة أقيمت لتوحيد الرّبوبيّة.

و ملخّصها:أنّ اللّه سبحانه خالق كلّ شيء،فهو الّذي أنعم بهذه النّعم الّتي لا يحيط بها الإحصاء الّتي ينتظم بها نظام الكون،و هو تعالى عالم بسرّها و علنها،فهو الّذي يملك الكلّ و يدبّر الأمر فهو ربّها،و ليس شيء ممّا يدعونه على شيء من هذه الصّفات،فليست أربابا فالإله واحد لا غير،و هو اللّه عزّ اسمه.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم:أنّ الآيات تثبت التّوحيد من طريقين:طريق الخلقة،و طريق النّعمة.بيان الفساد أنّ طريق الخلقة وحدها إنّما تثبت الصّانع و وحدانيّته في الخلق و الإيجاد،و الوثنيّون- و إليهم وجّه الكلام في الآيات-لا ينكرون وجود الصّانع،و لا أنّ اللّه سبحانه خالق الكلّ حتّى أوثانهم، و أنّ أوثانهم ليسوا بخالقين لشيء،و إنّما يدّعون

ص: 507

لأوثانهم تدبير أمر العالم بتفويض من اللّه لذلك إليهم و الشّفاعة عند اللّه،فلا يفيد إثبات الصّانع تجاه هؤلاء شيئا.

و إنّما سيقت آيات الخلقة لتثبيت أمر النّعمة؛إذ من البيّن أنّه إذا كان اللّه سبحانه خالقا لكلّ شيء موجودا له،كانت آثار وجودات الأشياء-و هي النّعم الّتي يتنعّم بها-له سبحانه،كما أنّ وجوداتها له ملكا طلقا لا يقبل بطلانا و لا نقلا و لا تبديلا،فهو سبحانه المنعم بها حقيقة لا غيره من شيء،حتّى الّذي نفس النّعمة من آثار وجوده،فإنّه و ما له من أثر هو للّه وحده.

و لذلك ضمّ إلى حديث الخلق و الإنعام قوله تعالى: وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ النّحل:

19،لأنّ مجرّد استناد الخلق و الإنعام إلى شيء لا يستلزم ربوبيّته و لا يستوجب عبادته،لو لا انضمام العلم إليهما،ليتمّ بذلك أنّه مدبّر يهدي كلّ شيء إلى كماله المطلوب له،و سعادته المكتوبة في صحيفة عمله.و من المعلوم أنّ العبادة إنّما تستقيم عبادة إذا كان المعبود موسوما بسمة العلم،عالما بعبادة من يعبده شاهدا لخضوعه.

فمجموع ما تتضمّنه الآيات من حديث الخلق و النّعمة و العلم،مقدّمات لحجّة واحدة أقيمت على توحيد الرّبوبيّة،الّذي ينكره الوثنيّة كما عرفت.

فقوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ قياس ما له سبحانه من النّعت إلى ما لغيره منه،و نفي للمساواة.و الاستفهام للإنكار و المراد ب(من لا يخلق)آلهتهم الّذين يدعونهم من دون اللّه.

و بيانه-كما ظهر ممّا تقدّم-أنّ اللّه سبحانه يخلق الأشياء و يستمرّ في خلقها،فلا يستوي هو و من لا يخلق شيئا،فإنّه تعالى لخلقه الأشياء يملك وجوداتها و آثار وجوداتها الّتي هي الأنظمة الخاصّة بها،و النّظام العامّ الجاري عليها.(12:218)

مكارم الشّيرازيّ: و بعد أن بيّن القرآن كلّ هذه النّعم الجليلة و الألطاف الإلهيّة الخفيّة،راح يدعو الوجدان الإنسانيّ للحكم في ذلك أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ؟

و كما اعتدنا عليه من القرآن في أسلوبه التّربويّ الهادف المؤثّر،فقد طرح مسألة المحاججة بصيغة سؤال يترك الجواب عنه في عهدة الوجدان الحيّ للإنسان، مستعينا بتحريك الإحساس الباطنيّ ليجيب من أعماق روحه،و لينشد عشقا بخالقه.

و الثّابت في الواقع النّفسيّ للإنسان،أنّ التّعليم و التّربية السّليمة يستلزمان بذل أقصى سعي ممكن، لإقناع المقابل بقبول ما يوجّه إليه عن قناعة ذاتيّة،أي ينبغي إشعاره بأنّ ما يعطى إليه ما هو في حقيقته إلاّ انبعاث من داخله،و ليس فرضا عليه من الخارج، ليتقبّلها بكلّ وجوده و يتبنّاها و يدافع عنها.

و نجد من الضّرورة إعادة ما قلناه سابقا:من أنّ المشركين الّذين كانوا يسجدون للأصنام،كانوا يعتقدون أنّ اللّه عزّ و جلّ هو الخالق،و لهذا يتساءل القرآن الكريم،من أحقّ بالسّجود،خالق كلّ شيء أم المخلوق؟(8:142)

ص: 508

فضل اللّه: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ؟ و كيف تفكّرون؟و ما هو الأساس الّذي ترتكزون عليه في شرككم باللّه عقيدة أو عبادة،و في اتّخاذكم أشخاصا أو أوثانا،لا تملك لنفسها نفعا و لا ضرّا آلهة من دون اللّه؟إنّ الألوهيّة لا ترتبط بالمعنى النّفسيّ الّذي نعيشه تجاه الإله،و لا بالمظهر الشّكليّ له،و لا بالأسرار الغامضة الّتي تحيط به،و لا بالمعاني الغيبيّة الّتي نصنعها له،و لكنّها ترتبط بالقدرة المطلقة الّتي تبدع الوجود من قلب العدم،و تخلقه خلقا جديدا،فيتحوّل إلى كون و نظام و حياة،تشمل الوجود كلّه.و هو اللّه الواحد الأحد الّذي يرجع كلّ شيء إليه،و تصدر كلّ حياة منه،فهو الّذي خلق الأشياء كلّها بقدرته.

و هو بذلك لا يمكن أن تشركوا به موجودا ضعيفا، لا يملك أيّة حياة في وجوده،فكيف يمكن أن يعطي الحياة لغيره،و كيف يمكن إحداث التّعادل بينه و بين اللّه سبحانه و تعالى؟و لكنّها الغفلة عن الحقيقة الإلهيّة الّتي لا ريب فيها، أَ فَلا تَذَكَّرُونَ، و هو المنعم الّذي أعطى الخلق كلّه الحياة،و زوّدها بكلّ ما يكفل لها القوّة و النّموّ و الاستمرار،و أعطى الإنسان الكثير من ذلك،في ما سخّر له من طاقات الكون الحيّة و الجامدة، لتكون بأجمعها في خدمته.(13:206)

يخلقكم

...يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ... الزّمر:6

ابن عبّاس: حالا من بعد حال:نطفة و علقة و مضغة و عظاما.(386)

مجاهد :نطفة،ثمّ ما يتبعها حتّى تمّ خلقه.

(الطّبريّ 10:615)

عكرمة :نطفة،ثمّ علقة،ثمّ مضغة.

(الطّبريّ 10:614)

الضّحّاك: خلق نطفة،ثمّ علقة،ثمّ مضغة.

(الطّبريّ 10:615)

قتادة :نطفة،ثمّ علقة،ثمّ مضغة،ثمّ عظاما،ثمّ لحما،ثمّ أنبت الشّعر،أطوار الخلق.(الطّبريّ 10:615)

السّدّيّ: يكونون نطفا،ثمّ يكونون علقا،ثمّ يكونون مضغا،ثمّ يكونون عظاما،ثمّ ينفخ فيهم الرّوح.(الطّبريّ 10:615)

خلقا في بطون أمّهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم

(الماورديّ 5:115)

ابن زيد :خلقا في البطون من بعد الخلق الأوّل الّذي خلقهم في ظهر آدم.(الطّبريّ 10:615)

الطّبريّ: يبتدئ خلقكم أيّها النّاس في بطون أمّهاتكم خلقا من بعد خلق،و ذلك أنّه يحدث فيها نطفة،ثمّ يجعلها علقة،ثمّ مضغة،ثمّ عظاما،ثمّ يكسو العظام لحما،ثمّ ينشئه خلقا آخر،تبارك اللّه و تعالى، فذلك خلقه إيّاه خلقا بعد خلق.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:يخلقكم في بطون أمّهاتكم من بعد خلقه إيّاكم في ظهر آدم،قالوا:فذلك هو الخلق من بعد الخلق.

و أولى القولين في ذلك بالصّواب،القول الّذي

ص: 509

قاله عكرمة و مجاهد،و من قال في ذلك مثل قولهما، لأنّ اللّه جلّ و عزّ أخبر أنّه يخلقنا خلقا من بعد خلق في بطون أمّهاتنا في ظلمات ثلاث،و لم يخبر أنّه يخلقنا في بطون أمّهاتنا في ظلمات ثلاث،و لم يخبر أنّه يخلقنا في بطون أمّهاتنا من بعد خلقنا في ظهر آدم؛و ذلك نحو قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً المؤمنون:12،14.(10:614)

الزّجّاج: نطفا ثمّ علقا ثمّ مضغا ثمّ عظاما،ثمّ تكسى العظام لحما،ثمّ تصوّر و تنفخ فيها الرّوح، فذلك معنى قوله: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ. (4:345)

الماورديّ: فيه وجهان:

أحدهما:[هو قول قتادة و قد تقدّم]

الثّاني:[هو قول السّدّيّ]

و يحتمل ثالثا:خلقا في ظهر الأب،ثمّ خلقا في بطن الأمّ،ثمّ خلقا بعد الوضع.(5:115)

القشيريّ: أي يصوّركم،و يركّب أحوالكم.

ذكّرهم نسبتهم لئلاّ يعجبوا بأحوالهم.و يقال:بيّن آثار أفعاله الحكيمة في كيفيّة خلقتك من قطرتين أمشاجا متشاكلة الأجزاء،مختلفة الصّور في الأعضاء،سخّر بعضها محالّ للصّفات الحميدة كالعلم و القدرة و الحياة،و غير ذلك من أحوال القلوب،و سخّر بعضها محالّ للحواسّ كالسّمع و البصر و الشّمّ و غيرها.

و يقال:هذه كلّها نعم أنعم اللّه بها علينا،فذكّرنا بها -و النّفوس مجبولة،و كذلك القلوب على حبّ من أحسن إليها-استجلابا لمحبّتنا له.(5:269)

الميبديّ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ نطفة ثمّ علقة ثمّ عظما ثمّ لحما،ثمّ أنشأناهم خلقا آخر صوّرهم ثمّ نفخ فيهم الرّوح،نظيره قوله: وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً نوح:14.و قيل: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي خلقا في بطن الأمّ بعد خلق في صلب آدم عليه السّلام.(8:382)

ابن عطيّة: و قرأ عيسى بن عمر و طلحة بن مصرّف (يخلقكم) بإدغام القاف في الكاف في جميع القرآن.(4:520)

الفخر الرّازيّ: إنّه تعالى لمّا ذكر تخليق النّاس من شخص واحد،و هو آدم عليه السّلام أردفه بتخليق الأنعام.

و إنّما خصّها بالذّكر،لأنّها أشرف الحيوانات بعد الإنسان.ثمّ ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان و بين الأنعام،و هي كونها مخلوقة في بطون أمّهاتهم،و قوله: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ المراد منه ما ذكره اللّه تعالى في قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ المؤمنون:12-14.(26:245)

أبو السّعود :استئناف مسوق لبيان كيفيّة خلقهم و أطواره المختلفة الدّالّة على القدرة الباهرة.و صيغة المضارع للدّلالة على التّدرّج و التّجدّد،و قوله تعالى:

خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ مصدر مؤكّد،أي يخلقكم فيها خلقا كائنا من بعد خلق،أي خلقا مدرّجا حيوانا سويّا من بعد عظام مكسوّة لحما،من بعد عظام عارية،من بعد مضغ مخلّقة،من بعد مضغ غير مخلّقة،من بعد علقة من بعد نطفة.(5:380)

ص: 510

نحوه البروسويّ.(8:75)

الآلوسيّ: بيان لكيفيّة خلق من ذكر من الأناسيّ و الأنعام،إظهارا لما فيه من عجائب القدرة.

و فيه تغليبان:تغليب أولي العقل على غيرهم، و تغليب الخطاب على الغيبة،كذا قيل.و الأظهر أنّ الخطاب خاصّ،و صيغة المضارع للدّلالة على التّدرّج و التّجدّد،و قوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ مصدر مؤكّد إن تعلّق(من بعد)بالفعل،و إلاّ فغير مؤكّد،أي يخلقكم فيها خلقا مدرّجا حيوانا سويّا:من بعد عظام مكسوّة لحما،من بعد عظام عارية،من بعد مضغ غير مخلّقة،من بعد علقة،من بعد نطفة.فقوله سبحانه: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ لمجرّد التّكرير،كما يقال:مرّة بعد مرّة،لا أنّه مخصوص بخلقين.و قرأ عيسى و طلحة (يخلقكم) بإدغام القاف في الكاف.

(23:240)

ابن عاشور :بدل من جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، و ضمير المخاطبين هنا راجع إلى النّاس لا غير،و هو استدلال بتطوّر خلق الإنسان على عظيم قدرة اللّه و حكمته و دقائق صنعه.

و التّعبير بصيغة المضارع لإفادة تجدّد الخلق و تكرّره،مع استحضار صورة هذا التّطوّر العجيب استحضارا بالوجه و الإجمال الحاصل للأذهان،على حسب اختلاف مراتب إدراكها،و يعلم تفصيله علماء الطّبّ و العلوم الطّبيعيّة،و قد بيّنه الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ثمّ يكون علقة مثل ذلك ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ثمّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الرّوح».

و قوله: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي طورا من الخلق بعد طور آخر يخالفه،و هذه الأطوار عشرة:

الأوّل:طور النّطفة،و هي جسم مخاطيّ مستدير أبيض خال من الأعضاء يشبه دودة،طوله نحو خمسة مليميتر.

الثّاني:طور العلقة،و هي تتكوّن بعد ثلاثة و ثلاثين يوما من وقت استقرار النّطفة في الرّحم،و هي في حجم النّملة الكبيرة طولها نحو ثلاثة عشر مليمترا، يلوح فيها الرّأس،و تخطيطات من صور الأعضاء.

الثّالث:طور المضغة و هي قطعة حمراء في حجم النّحلة.

الرّابع:عند استكمال شهرين يصير طوله ثلاثة سانتيمترات و حجم رأسه بمقدار نصف بقيّته، و لا يتميّز عنقه و لا وجهه و يستمرّ احمراره.

الخامس:في الشّهر الثّالث يكون طوله خمسة عشر سانتيمترا و وزنه مائة غرام،و يبدو رسم جبهته و أنفه و حواجبه و أظافره،و يستمرّ احمرار جلده.

السّادس:في الشّهر الرّابع يصير طوله عشرين سانتيمترا،و وزنه 240 غرامات،و يظهر في الرّأس زغب،و تزيد أعضاؤه البطنيّة على أعضائه الصّدريّة و تتّضح أظافره في أواخر ذلك الشّهر.

السّابع:في الشّهر السّادس يصير طوله نحو ثلاثين سنتيمترا،و وزنه خمسمائة غرام،و يظهر فيه مطبقا، و تتصلّب أظافره.

الثّامن:في الشّهر السّابع يصير طوله ثمانية

ص: 511

و ثلاثين سنتيمترا،و يقلّ احمرارا جلده،و يتكاثف جلده،و تظهر على الجلد مادّة دهنيّة دسمة ملتصقة، و يطول شعر رأسه،و يميل إلى الشّقرة،و تتقبّب جمجمته من الوسط.

التّاسع:في الشّهر الثّامن يزيد غلظه أكثر من ازدياد طوله،و يكون طوله نحو أربعين سنتيمترا، و وزنه نحو أربعة أرطال أو تزيد،و تقوى حركته.

العاشر:في الشّهر التّاسع يصير طوله من خمسين إلى ستّين سنتيمترا،و وزنه من ستّة إلى ثمانية أرطال.

و يتمّ عظمه،و يتضخّم رأسه،و يكثف شعره،و تبتدئ فيه وظائف الحياة في الجهاز الهضميّ و الرّئة و القلب، و يصير نماؤه بالغذاء،و تظهر دورة الدّم فيه المعروفة بالدّورة الجنينيّة.(24:23)

الطّباطبائيّ: بيان لكيفيّة خلق من تقدّم ذكره من البشر و الأنعام،و في الخطاب تغليب أولي العقل على غيرهم،و الخلق من بعد الخلق:التّوالي و التّوارد كخلق النّطفة علقة،و خلق العلقة مضغة،و هكذا.

(17:238)

نحوه فضل اللّه.(19:304)

مكارم الشّيرازيّ: ثمّ تتطرّق الآيات إلى حلقة أخرى من حلقات خلق اللّه،و هي عمليّة نموّ الجنين؛إذ تقول الآية: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. يتّضح أنّ المقصود من خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ هو الخلق المتكرّر و المستمرّ،و ليس الخلق مرّتين فقط.

(يخلقكم)فعل مضارع يعطي معنى الاستمراريّة و هو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة،إلى التّحوّلات العجيبة و الصّور المختلفة الّتي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة،في بطن الأمّ.و طبقا لأقوال علماء علم الأجنّة،فإنّ عمليّة خلق و نموّ الجنين في بطن الأمّ،تعدّ من أعجب و أدقّ صور خلق البارئ عزّ و جلّ،و نادرا ما نلاحظ أنّ المطّلعين على دقائق هذه القضايا،لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق و ثنائه.(15:27)

يخلقوا

...إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً... الحجّ:73

ابن عبّاس: لن يقدروا أن يخلقوا ذبابا.(284)

الطّبريّ: يقول:إنّ جميع ما تعبدون من دون اللّه من الآلهة و الأصنام لو جمعت لم يخلقوا ذبابا في صغره و قلّته،لأنّها لا تقدر على ذلك و لا تطيقه،و لو اجتمع لخلقه جميعها.(9:189)

الزّجّاج: أعلم اللّه جلّ ثناؤه أنّه الخالق،و دلّ على وحدانيّته بجميع ما خلق،ثمّ أعلم أنّ الّذين عبدوا من دونه لا يقدرون على خلق واحد قليل ضعيف من خلقه،و لا على استنقاذ تافه حقير منه.(3:438)

الماورديّ: ليعلمهم أنّ العبادة إنّما تكون للخالق المنشئ دون المخلوق المنشأ.(4:40)

القشيريّ: نبّه الأفكار المشتّتة،و الخواطر المتفرّقة على الاستجماع،لسماع ما أراد تضمينه فيها، فاستحضرها،فقال: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ...

ثمّ بيّن المعنى،فقال:إنّ الّذين تدعون من دون اللّه،

ص: 512

و تدعونها آلهة،-أي و تسمّونها آلهة-،و أنّها للعبادة مستحقّة-لن يخلقوا بأجمعهم ذبابا،و لا دون ذلك.

و إن يسلبهم الذّباب شيئا بأن يقع على طعام لهم، فليس في وسعهم استنقاذهم ذلك منه،و من كان بهذه الصّفة فساء المثل مثلهم،و ضعف وصفهم،و قلّ خطرهم،و يقال:إنّ الّذي لا يقاوم ذبابا فيصير به مغلوبا،فأهون بقدره.(4:234)

الزّمخشريّ: (لن)أخت(لا)في نفي المستقبل إلاّ أنّ(لن)تنفيه نفيا مؤكّدا و تأكيده هاهنا الدّلالة على أنّ خلق الذّباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم، كأنّه قال:محال أن يخلقوا.(3:22)

نحوه الفخر الرّازيّ.(23:68)

ابن عطيّة: و بدأ تعالى ينفي الخلق و الاختراع عنهم،من حيث هي صفة ثابتة له مختصّة به،فكأنّه قال:ليس لهم صفتي،ثمّ ثنّى بالأمر الّذي بلغ بهم غاية التّعجيز،و ذكر تعالى أمر سلب الذّباب،لأنّه كان كثيرا محسوسا عند العرب؛و ذلك أنّهم كانوا يضمّخون أوثانهم بأنواع الطّيب،فكان الذّباب يذهب بذلك،و كانوا متألّمين من هذه الجهة،فجعلت مثلا.

(4:134)

أبو حيّان :[نقل قول الزّمخشريّ ثمّ قال:]

و هذا القول الّذي قاله في(لن)هو المنقول عنه أنّ (لن)للنّفي على التّأبيد،أ لا تراه فسّر ذلك بالاستحالة.و غيره من النّحاة يجعل(لن)مثل«لا»في النّفي؛أ لا ترى إلى قوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ النّحل:17،كيف جاء النّفي ب(لا)و هو الصّحيح و الاستدلال عليه مذكور في النّحو.[ثمّ أدام نحو ابن عطيّة](6:390)

الشّربينيّ: أي لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره،فكيف بما هو أكبر منه؟!(2:565)

أبو السّعود :أي لن يقدروا على خلقه أبدا مع صغره و حقارته،فإنّ(لن)بما فيها من تأكيد النّفي دالّة على منافاة ما بين المنفيّ و المنفيّ عنه.(4:397)

مثله البروسويّ.(6:61)

الآلوسيّ: أي لا يقدرون على خلقه مع صغره و حقارته،و يدلّ على أنّ المراد نفي القدرة السّباق مع قوله تعالى: وَ لَوِ اجْتَمَعُوا أي لخلقه،فإنّ العرف قاض بأنّه لا يقال:لن يحمل الزّيدون كذا و لو اجتمعوا لحمله،إلاّ إذا أريد نفي القدرة على الحمل.

و قيل:جاء ذلك من النّفي ب(لن)فإنّها مفيدة لنفي مؤكّد،فتدلّ على منافاة بين المنفيّ و هو الخلق، و المنفيّ عنه و هو المعبودات الباطلة،فتفيد عدم قدرتها عليه،و الظّاهر أنّ هذا لا يستغني عن معونة المقام أيضا.و أنت تعلم أنّ في إفادة(لن)النّفي المؤكّد خلافا؛فذهب الزّمخشريّ إلى إفادتها ذلك،و أنّ تأكيد النّفي هنا للدّلالة على أنّ خلق الذّباب منهم مستحيل،و قال في أنموذجه:بإفادتها التّأبيد.

و ذهب الجمهور-و قال أبو حيّان:هو الصّحيح- إلى عدم إفادتها ذلك،و هي عندهم أخت«لا»لنفي المستقبل عند الإطلاق،بدون دلالة على تأكيد أو تأبيد،و أنّه إذا فهم فهو من خارج و بواسطة

ص: 513

القرائن،و قد يفهم كذلك مع كون النّفي ب«لا».فلو قيل هنا:لا يخلقون ذبابا و لو اجتمعوا له لفهم ذلك، و يقولون-في كلّ ما يستدلّ به الزّمخشريّ لمدّعاه-:

إنّ الإفادة فيه من خارج،و لا يسلّمون أنّها منها،و لن يستطيع إثباته أبدا،و الانتصار له-بأن«سيفعل»في قوّة مطلقة عامّة و«لن يفعل»نقيضه،فيكون في قوّة الدّائمة المطلقة،و لا يتأتّى ذلك إلاّ بإفادة(لن)التّأبيد -ليس بشيء أصلا،كما لا يخفى.و كأنّ الّذي أوقع الزّمخشريّ في الغفلة-فقال ما قال اعتمادا على ما لا ينتهض دليلا-شدّة التّعصّب لمذهبه الباطل و اعتقاده العاطل،نسأل اللّه تعالى أن يحفظنا من الخذلان.(17:201)

الطّباطبائيّ: و هذا المثل هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ و المعنى أنّه لو فرض أنّ آلهتهم شاءوا أن يخلقوا ذبابا و هو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه أبدا،و إن يسلبهم الذّباب شيئا ممّا عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه.

فهذا الوصف يمثّل حال آلهتهم من دون اللّه في قدرتهم على الإيجاد و على تدبير الأمر؛حيث لا يقدرون على خلق ذباب و على تدبير أهون الأمور، و هو استرداد ما أخذه الذّباب منهم و أضرّهم بذلك، و كيف يستحقّ الدّعوة و العبادة من كان هذا شأنه؟

(14:408)

مكارم الشّيرازيّ: أجل،إنّ اللّه قادر على كلّ شيء،و لا مثيل لقدرته و لا حدّ،فهو ليس كآلهة المشركين الّتي لو اجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذّباب منها.

بحث:مثال واضح لبيان نقاط الضّعف:

يرى عدد من المفسّرين أنّ القرآن جاء بمثل في آياته المذكورة آنفا،إلاّ أنّه لم يبيّن المثل بصراحة،بل أشار إلى مواضع أخرى في القرآن،أو أنّ المثل هنا جاء لإثبات أمر عجيب،و ليس بمعنى المثل المعروف.

و لا شكّ في أنّ هذا خطأ،لأنّ القرآن دعا عامّة النّاس إلى التّفكّر في هذا المثل.و هذا المثل هو ضعف الذّبابة من ناحية،و قدرتها على سلب ما لدى الأوثان، و عجز هذه الأوثان عن استرداد ما سلبه الذّباب منها، و هذا المثل ضرب للمشركين من العرب،لكنّه يعني النّاس جميعا و لا يخصّ الأصنام،بل يعمّ جميع ما دون اللّه تعالى،من فراعنة و نماردة،و مطامع و أهواء،و جاه و ثروة.فكلّها ينطبق عليها المثل،فلو تكاتفوا و جمعوا عساكرهم و ما يملكون من وسائل و طاقات،لما تمكّنوا من خلق ذبابة،و لا من استعادة ما سلب الذّباب منهم.

سؤال و جواب:

قد يقال:إنّ اختراعات العصر الحديث قد تجاوزت أهمّيّة خلق ذبابة بمراتب كبيرة.فوسائل النّقل السّريعة الّتي تسبق الرّيح و تقطع المسافات الشّاسعة في طرفة عين،و الأدمغة الإلكترونيّة و أدقّ الأجهزة الحديثة بإمكانها حلّ المعضلات الرّياضيّة بأسرع وقت ممكن،لا تدع قيمة لهذا المثل في نظر إنسان العصر.

ص: 514

و جواب ذلك،هو أنّ صنع هذه الأجهزة-بلا شكّ -يبهر العقول،و هو دليل على تقدّم الصّناعة البشريّة تقدّما مدهشا،و لكنّه يهون مقابل خلق كائن حيّ مهما كان صغيرا،فلو درسنا حياة حشرة كالذّبابة و نشاطها البايولوجي بدقّة،لرأينا أنّ بناء مخّ الذّبابة و شبكة أعصابها و جهاز هضمها أعلى بدرجات من أعقد الطّائرات،و أكثر تجهيزا منها،و لا يمكن مقارنتها بها.

و ما زال في قضيّة الحياة و إحساس و حركة المخلوقات أسرار غامضة على العلماء،و هذه المخلوقات و تركيبها البايولوجي،هي نفسها غوامض لم تحلّ بعد.

و قد ذكر علماء الطّبيعة أنّ عيني هذه المخلوقات الصّغيرة جدّا،كالحشرات-مثلا-تتركّب من مئات العيون،فالعينان اللّتان تبدوان لنا اثنتين لا أكثر،هما مؤلّفتان من مئات العيون الدّقيقة جدّا،و يطلق على مجموعها العين المركّبة.فلو فرضنا أنّ الإنسان صنع موادّ من أجزاء الخليّة الّتي لا حياة فيها،فكيف يتمكّن من صنع مئات العيون الصّغيرة الّتي لكلّ منها ناظورها الدّقيق،و قد رصّت طبقاتها بعضها إلى بعض،و ربطت أعصابها بمخّ الحشرة،لتنقل المعلومات إليها،و لتقوم بردّ فعل مناسب لما يحدث حولها؟

لن يستطيع الإنسان خلق مثل هذا الكائن الّذي يبدو تافها،مع أنّه عالم مفعم بالأسرار البالغة الغموض.و لو فرضنا أنّ الإنسان بلغ ذلك،فلا يسمّى إنجازه المفترض خلقا،لأنّه لم يتعدّ التّجميع لأجهزة متوفّرة في هذا العالم.فمن يركّب قطع السّيّارة لا يسمّى مخترعا.(10:358)

تخلقون

إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً...

العنكبوت:17

ابن عبّاس: تقولون كذبا،و تنحتون بأيديكم ما تعبدون من دون اللّه.(333)

نحوه مجاهد.(الطّبريّ 10:129)

تصنعون كذبا.(الطّبريّ 10:128)

تنحتون:تصوّرون إفكا.(الطّبريّ 10:129)

قتادة :أي تصنعون أصناما.(الطّبريّ 10:129)

السّدّيّ: أي تفتعلون كذبا،بأن تسمّوا هذه الأوثان آلهة.(الطّبرسيّ 4:277)

ابن زيد :الأوثان الّتي ينحتونها بأيديهم.

(الطّبريّ 10:129)

الفرّاء: (إنّما)في هذا الموضع حرف واحد، و ليست على معنى«الّذي» وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً مردودة على(انّما)كقولك:إنّما تفعلون كذا،و إنّما تفعلون كذا.و قد اجتمعوا على تخفيف(تخلقون) إلاّ أبا عبد الرّحمن السّلميّ فإنّه قرأ (و تخلّقون افكا) ينصب التّاء و يشدّد اللاّم،و هما في المعنى سواء.

(2:315)

الجبّائيّ: أي تعملون أصناما.(الطّوسيّ 8:195)

الطّبريّ: و اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله:

ص: 515

وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً، فقال بعضهم:معناه:و تصنعون كذبا.

و قال آخرون:و تقولون كذبا.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:و تنحتون إفكا.

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال:

معناه:و تصنعون كذبا.و قد بيّنّا معنى«الخلق»فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.فتأويل الكلام إذن:إنّما تعبدون من دون اللّه أوثانا،و تصنعون كذبا و باطلا.و(انّما)في قوله (1)(افكا)مردود على إنّما،كقول القائل:إنّما تفعلون كذا،و إنّما تفعلون كذا.

و قرأ جميع قرّاء الأمصار: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً بتخفيف الخاء من قوله:(و تخلقون)و ضمّ اللاّم:من الخلق.و ذكر عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ أنّه قرأ (و تخلّقون افكا) بفتح الخاء و تشديد اللاّم،من التّخليق.

و الصّواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار،لإجماع الحجّة من القرّاء عليه.(10:128)

الزّجّاج: و قرئت(و تخلقون افكا):أوثانا، أصناما. وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً فيه قولان:تخلقون كذبا، و قيل:تعملون الأصنام،و يكون التّأويل على هذا القول:إنّما تعبدون من دون اللّه أوثانا و أنتم تصنعونها.(4:165)

الطّوسيّ: [نقل أقوال ابن عبّاس و قتادة و الجبّائيّ ثمّ قال:]

و تحقيقه يصنعون على ما يقدرون.(8:195)

الميبديّ: و الخلق يكون باللّسان من قول الكذب أو الصّنعة باليد.يقال:خلق و اختلق،أي افترى.الخلق يستعمل على الكذب باللّسان و أيضا يستعمل على الكذب بفعل اليد. وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً يحتمل كلا المعنيين:الكذب على اللّسان،يعني تكذبون على اللّه بأن تقولون:الأصنام شركاء اللّه، و الكذب بفعل اليد هو قول مجاهد:تصنعون أصناما بأيديكم فتسمّونها آلهة؛و ذلك إفك.(7:373)

الزّمخشريّ: و قرئ: (تخلّقون) من خلق،بمعنى التّكثير في خلق.و(تخلّقون)من تخلّق،بمعنى تكذّب و تخرّص.(3:201)

القرطبيّ: قال الحسن:معنى(تخلقون) تنحتون،فالمعنى:إنّما تعبدون أوثانا و أنتم تصنعونها.

[ثمّ أدام نحو الزّمخشريّ](13:335)

أبو حيّان :و قرأ الجمهور:(و تخلقون،)مضارع خلق،(افكا،)بكسر الهمزة و سكون الفاء.و قرأ عليّ،و السّلميّ،و عون العقيليّ،و عبادة،و ابن أبي ليلى،و زيد بن عليّ:بفتح التّاء و الخاء و اللاّم مشدّدة.قال ابن مجاهد:رويت عن ابن الزّبير،أصله:

تتخلّقون،بتاءين،فحذفت إحداهما على الخلاف الّذي في المحذوفة.و قرأ زيد بن عليّ أيضا،فيما ذكر الأهوازيّ:( تخلّقون )،من«خلّق»المشدّد.(7:145)

الشّربينيّ: أي:تصوّرون بأيديكم.(3:129)

أبو السّعود :أي و تكذّبون كذبا حيث تسمّونها.»

ص: 516


1- لعلّه يريد«و إنّما المقدّرة في قوله إفكا مردود...»

آلهة،و تدّعون أنّها شفعاؤكم عند اللّه تعالى،أو تعملونها و تنحتونها للإفك.و قرئ (تخلّقون) بالتّشديد للتّكثير في الخلق بمعنى الكذب و الافتراء، (و تخلّقون)بحذف إحدى التّاءين من تخلّق،بمعنى تكذّب و تخرّص.(5:147)

نحوه الآلوسيّ.(20:144)

ابن عاشور :(و تخلقون)مضارع خلق الخبر، أي اختلقه،أي كذّبه و وضعه،أي و تضعون لها أخبارا و مناقب و أعمالا مكذوبة موهومة.(20:148)

الطّباطبائيّ: و قوله: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً بيان لبطلان عبادة الأوثان،و يظهر به كون عبادة اللّه هي العبادة الحقّة،و بالجملة انحصار العبادة الحقّة فيه تعالى.(اوثانا)منكّر للدّلالة على وهن أمرها،و كون ألوهيّتها دعوى مجرّدة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون اللّه إلاّ أوثانا من أمرها كذا و كذا.

و لذا عقّب الجملة بقوله: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً أي و تفتعلون كذبا بتسميتها آلهة و عبادتها بعد ذلك، فهناك إله تجب عبادته،لكنّه هو اللّه الواحد دون الأوثان.(16:115)

مكارم الشّيرازيّ: ثمّ يتوسّع في حديثه و يمضي إلى مدى أبعد،فيقول:ليست هذه الأوثان بهيئتها تدلّ على أنّها لا تستحقّ العبادة فحسب،بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذّبون و تضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً.

فأيّ دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام و الخرافات الباطلة؟.

و حيث إنّ كلمة(تخلقون)مشتقّة من الخلق، و تعني أحيانا الصّنع و الإبداع،و أحيانا تأتي بمعنى الكذب،فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لهذه الجملة غير ما بيّنّاه آنفا...و قالوا:إنّ المقصود من هذا التّعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان...المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم،و تصنعونها،فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزوّرة،و الخلق هو النّحت هنا.(12:326)

فضل اللّه : إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً في ما تصنعونه من الأصنام الحجريّة و الخشبيّة،ممّا لا يحمل أيّة قداسة،و لا يمثّل أيّ معنى،في ما هو الإله في خصائصه و صفاته، وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً في ما تدّعونه لها من الألوهيّة،و في ما تثيرونه حولها من أوهام و قداسات و تهاويل،من فنون الكذب و الخيال.

و لكن هل فكّرتم في هذه الأصنام الّتي تعبدونها من دون اللّه،و هل دخلتم في مقارنة بينها و بين اللّه في قدرته،و في حاجتكم إليه؟.(18:31)

تخلقونه

أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ. الواقعة:59

لاحظ:ابن عبّاس(454)،و الفرّاء(3:128)، و الطّبريّ(11:65)،و الزّجّاج(5:114)،و الماورديّ (5:458)،و الطّوسيّ(9:502)،و القشيريّ(6:90)، و الميبديّ(9:459)،و الزّمخشريّ(4:56)، و الطّبرسيّ(5:223)،و الفخر الرّازيّ(29:175)،

ص: 517

و القرطبيّ(17:216)،و النّيسابوريّ(27:81)، و أبو حيّان(8:211)،و الشّربينيّ(4:191)،و أبو السّعود(6:192)،و البروسويّ(9:331)، و الآلوسيّ(27:147)،و سيّد قطب(6:3467)، و ابن عاشور(27:286)،و الطّباطبائيّ(19:132).

يخلقون

1- أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ.

الأعراف:191

لاحظ:ابن عبّاس(43)،و الواحديّ(2:435)، و البغويّ(2:259)،و الطّبرسيّ(2:510)،و الفخر الرّازيّ(15:90)،و القرطبيّ(7:341)،و النّسفيّ(2:

90)،و البروسويّ(3:295)و الشّوكانيّ(2:345) و القاسميّ(7:2923)،و رشيد رضا(9:525)،.

و لاحظ:ش رك:«يشركون».

2- وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ. النّحل:20

لاحظ:ابن عبّاس(222)،و الزّجّاج(3:193)، و الطّوسيّ(6:371)،و القشيريّ(3:290)،و الميبديّ (5:374)،و الطّبرسيّ(3:355)،و الفخر الرّازيّ (20:15)،و القرطبيّ(10:94)،و البيضاويّ(1:

552)،و النّيسابوريّ(14:56)،و الخازن(4:70)، و الشّربينيّ(2:224)،و أبو السّعود(4:52)، و المشهديّ(5:315)،و البروسويّ(5:24)، و الشّوكانيّ(3:196)،و الآلوسيّ(14:119)،و ابن عاشور(13:100)،و الطّباطبائيّ(12:220)، و مكارم الشّيرازيّ(8:145)،و فضل اللّه(13:

207).

و قد جاءت حديث خلق الإنسان من طين في آيتين نذكرهما مع مواضع نصوصهما:

1- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. الأنعام:2

لاحظ:ابن عبّاس(105)،و مجاهد(الطّبريّ 5:

146)،الضّحّاك و قتادة و ابن زيد(الطّبريّ 5:146)، و السّدّيّ(239)،و الطّبريّ(5:145)،و الثّعلبيّ(4:

134)،و الطّوسيّ(4:80)،و القشيريّ(2:155)، و ابن عطيّة(2:266)،و الطّبرسيّ(2:272)،و الفخر الرّازيّ(12:152)،و العكبريّ(1:479)، و القرطبيّ(6:387)و أبو حيّان(4:69)،و ابن كثير(3:6)،و الشّربينيّ(1:410)،و أبو السّعود(2:

349)،و الشّوكانيّ(2:124)،و الآلوسيّ(7:87)، و القاسميّ(6:2240)،و رشيد رضا(7:296)، و المراغيّ(7:82)،و سيّد قطب(2:1030)،و ابن عاشور(6:12)،و الطّباطبائيّ(7:8)،و عبد الكريم الخطيب(4:127)،و مكارم الشّيرازيّ(4:196)، و فضل اللّه 9:21).

2- إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.

ص:71

لاحظ الزّمخشريّ(3:382)،الفخر الرّازيّ(26:

227)،و أبو حيّان(5:372)،و الشّربينيّ(3:427)، و أبو السّعود(5:372)،و الآلوسيّ(23:224).

ص: 518

و جاء أيضا حديث خلق عيسى عليه السّلام من الطّين كهيئة الطّير في آيتين،نذكرهما مع مواضع نصوصهما تسهيلا للوقوف عليها:

1- وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ... عمران:49

لاحظ:ابن عبّاس(47)،و الزّجّاج(1:413)، و الثّعلبيّ(3:71)،و الطّوسيّ(2:467)،و الواحديّ (1:439)،و الزّمخشريّ(1:431)،و ابن عطيّة(1:

438)،الطّبرسيّ(1:445)،و الفخر الرّازيّ(8:58)، و ابن عربيّ(1:187)،و النّسفيّ(1:158)،و أبو حيّان (2:465)،و المشهديّ(2:91)،و البروسويّ(2:

37)،و الآلوسيّ(3:167)،و رشيد رضا(3:311)، و ابن عاشور(3:100)،و الطّباطبائيّ(3:199)، و مكارم الشّيرازيّ(2:373)،و فضل اللّه(6:30).

2- وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي... المائدة:110

لاحظ:ابن عبّاس(104)،و الطّوسيّ 4:59)، و ابن عطيّة(2:258)،و الطّبرسيّ(2:262).و لاحظ:

ط ي ر:«الطّير».

نخلقكم

أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. المرسلات:20

راجع:ه و ن:«مهين».

يخلق

إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ.

الفجر:7،8

ابن عبّاس: بالقوّة و الطّول.(510)

عكرمة :لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد في البلاد.(الماورديّ 6:268)

الحسن :لم يخلق مثل قوم عاد في البلاد،لطولهم و شدّتهم.(الماورديّ 6:268)

قتادة :قوله: اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ذكر أنّهم كانوا اثني عشر ذراعا طولا في السّماء.

(الطّبريّ 12:569)

ابن زيد :قوله: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ عاد قوم هود،بنوها و عملوها حين كانوا في الأحقاف لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها مثل تلك الأعمال في البلاد، و كذلك في الأحقاف في حضر موت،ثم كانت عاد،و ثمّ أحقاف الرّمل،كما قال اللّه:(بالاحقاف)الأحقاف:

21،من الرّمل،رمال أمثال الجبال تكون مظلّة مجوّفة.

(الطّبريّ 12:568)

الطّبريّ: و قوله: اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ يقول جلّ ثناؤه:أ لم تر كيف فعل ربّك بعاد، إرم الّتي لم يخلق مثلها في البلاد،يعني:مثل عاد،و الهاء عائدة على(عاد).و جائز أن تكون عائدة على(ارم) لما قد بيّنّا قبل أنّها قبيلة.و إنّما عني بقوله: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها في العظم و البطش و الأيد.

و قال آخرون:بل معنى ذلك: ذاتِ الْعِمادِ* اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ: لم يخلق مثل الأعمدة

ص: 519

في البلاد.و قالوا: اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها في صفة ذات العماد،و الهاء الّتي في مِثْلُها إنّما هي من ذكر ذاتِ الْعِمادِ.

[ثمّ حكى قول ابن زيد كما سبق و قال:]و هذا قول لا وجه له،لأنّ اَلْعِمادِ واحد مذكّر،و(التى) للأنثى،و لا يوصف المذكّر ب(التى،)و لو كان ذلك من صفة العماد لقيل:الّذي لم يخلق مثله في البلاد،و إن جعلت(التى)ل(ارم،)و جعلت الهاء عائدة في قوله:(مثلها)عليها.

و قيل:هي دمشق أو إسكندريّة،فإنّ بلاد عاد هي الّتي وصفها اللّه في كتابه،فقال: وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ الأحقاف:21،و الأحقاف:

هي جمع حقف،و هو ما انعطف من الرّمل و انحنى، و ليست الإسكندريّة و لا دمشق من بلاد الرّمال،بل ذلك«الشّحر»من بلاد حضر موت،و ما والاها.

(12:568)

الطّوسيّ: يعني في عظم أجسامهم و شدّة قوّتهم.

(10:342)

الواحديّ: لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطّول و القوّة،و هم الّذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً فصّلت:15.(4:481)

مثله البغويّ(5:249)،و نحوه الميبديّ(10:

481)،و الخازن(7:202).

الزّمخشريّ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها مثل عاد، فِي الْبِلادِ عظم أجرام و قوّة،كان طول الرّجل منهم أربعمائة ذراع،و كان يأتي الصّخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم.أو لم يخلق مثل مدينة شدّاد في جميع بلاد الدّنيا.

و قرأ ابن الزّبير لم يخلق مثلها أي لم يخلق اللّه مثلها.

(4:250)

نحوه الشّربينيّ(4:531)،و أبو السّعود(6:425) و البروسويّ(10:423)،و الآلوسيّ(30:123).

ابن عطيّة: و قرأ الجمهور(يخلق)بضمّ الياء و فتح اللاّم(مثلها)رفعا و قرأ ابن الزّبير (يخلق) بفتح الياء و ضمّ اللاّم و (مثلها) نصبا و ذكر أبو عمرو الدّاني عنه أنّه قرأ (نخلق) بالنّون و ضمّ اللاّم، (مثلها) نصبا و ذكر الّتي قبل هذه عن عكرمة،و الضّمير في (مثلها)يعود إمّا على المدينة و إمّا على القبيلة.

(5:478)

نحوه أبو حيّان(8:469)،و السّمين(6:519).

الطّبرسيّ: أي لم يخلق في البلاد مثل تلك القبيلة في الطّول،و القوّة،و عظم الأجسام،و هم الّذين قالوا:

مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً فصّلت:15.و روي أنّ الرّجل منهم كان يأتي بالصّخرة،فيحملها على الحيّ، فيهلكهم.(5:486)

الفخر الرّازيّ: قوله: اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ فالضّمير في(مثلها)إلى ما ذا يعود؟فيه وجوه:

الأوّل: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها، أي مثل عاد في البلاد في عظم الجثّة و شدّة القوّة،كان طول الرّجل منهم أربعمائة ذراع،و كان يحمل الصّخرة العظيمة فيلقيها على الجمع فيهلكوا.

ص: 520

الثّاني:لم يخلق مثل مدينة شدّاد في جميع بلاد الدّنيا،و قرأ ابن الزّبير (لم يخلق مثلها) أي لم يخلق اللّه مثلها.

الثّالث:أنّ الكناية عائدة إلى(العماد)أي لم يخلق مثل تلك الأساطين في البلاد.و على هذا ف(العماد)جمع عمد،و المقصود من هذه الحكاية زجر الكفّار،فإنّه تعالى بيّن أنّه أهلكهم بما كفروا و كذّبوا الرّسل،مع الّذي اختصّوا به من هذه الوجوه، فلأن تكونوا خائفين من مثل ذلك أيّها الكفّار،إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم كان أولى.(31:168)

نحوه ملخّصا النّسفيّ.(4:355)

البيضاويّ: اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة أخرى ل(ارم)و الضّمير لها سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة.(2:557)

القرطبيّ: قوله تعالى: اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ الضّمير في(مثلها)يرجع إلى القبيلة،أي لم يخلق مثل القبيلة في البلاد:قوّة و شدّة،و عظم أجساد،و طول قامة؛عن الحسن و غيره.و في حرف عبد اللّه(الّتى لم يخلق مثلهم فى البلاد).و قيل:يرجع للمدينة.و الأوّل أظهر،و عليه الأكثر،حسب ما ذكرناه.(20:46)

نحوه الشّوكانيّ.(5:537)

الطّباطبائيّ: لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض.

و لا يخلو من بعد من ظاهر اللّفظ.(20:281)

خالق
اشارة

1- ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. الأنعام:102

ابن عبّاس: بائن منه.(116)

الفرّاء: يرفع(خالق)على الابتداء،و على أن يكون خبرا.و لو نصبته إذ لم يكن فيه الألف و اللاّم على القطع كان صوابا،و هو مثل قوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:3.و كذلك: فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فاطر:1،لو نصبته إذا كان قبله معرفة تامّة جاز ذلك،لأنّك قد تقول:الفاطر السّماوات، الخالق كلّ شيء،القابل التّوب،الشّديد العقاب.و قد يجوز أن تقول:مررت بعبد اللّه محدّث زيد،تجعله معرفة و إن حسنت فيه الألف و اللاّم إذا كان قد عرف بذلك، فيكون مثل قولك:مررت بوحشيّ قاتل حمزة،و بابن ملجم قاتل عليّ،عرف به حتّى صار كالاسم له.

(1:348)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:الّذي خلق كلّ شيء و هو بكلّ شيء عليم،هو اللّه ربّكم،أيّها العادلون باللّه الآلهة و الأوثان،و الجاعلون له الجنّ شركاء،و آلهتكم الّتي لا تملك نفعا و لا ضرّا،و لا تفعل خيرا و لا شرّا لا إِلهَ إِلاّ هُوَ.

و هذا تكذيب من اللّه جلّ ثناؤه للّذين زعموا أنّ الجنّ شركاء اللّه.يقول جلّ ثناؤه لهم:أيّها الجاهلون، إنّه لا شيء له الألوهيّة و العبادة إلاّ الّذي خلق كلّ شيء،و هو بكلّ شيء عليم،فإنّه لا ينبغي أن تكون عبادتكم و عبادة جميع من في السّماوات و الأرض إلاّ

ص: 521

له خالصة بغير شريك تشركونه فيها،فإنّه خالق كلّ شيء و بارئه و صانعه،و حقّ على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة.(5:294)

الطّوسيّ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من أصناف الخلق،و حذف اختصارا-في المبالغة-لقيام الدّلالة على أنّه لا يدخل فيه ما لم يخلقه من أصناف الأشياء من المعدوم،و أفعال العباد و القبائح،و مثله في المبالغة قوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها الأحقاف:25، و قوله: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ النّمل:23،ثمّ أمر الخلق بعبادة من كان خالق الاشياء كلّها،و المنعم على خلقه بما يستحقّ به العبادة:من خلق الحياة و القدرة و الشّهوة و البقاء،و غير ذلك.

و رفع خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بأنّه خبر ابتداء محذوف، كأنّه قيل:هو خالق كلّ شيء،لأنّه تقدّم ذكره فاستغني عن ذكره.و لا يجوز رفعه على أنّ خبره (فاعبدوه)لدخول الفاء.و كان يجوز نصبه على الحال لأنّه نكرة اتّصل بمعرفة بعد التّمام.(4:239)

القشيريّ: تعرّف إليهم بآياته،ثمّ تعرّف إليهم بصفاته،ثمّ كاشفهم بحقائق ذاته.

فقوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ تعريف للسّادات و الأكابر و قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ تعريف للعوامّ و الأصاغر.

(2:188)

الميبديّ: يقولون: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عامّ من حيث اللّفظ،و خاصّ من حيث المعنى،لأنّه لم يخلق نفسه و لا صفته.(3:445)

الطّبرسيّ: لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلّة على وحدانيّته،عقّبه بتنبيه عباده على أنّه الإله المستحقّ للطّاعة و العبادة،و تعليمهم الاستدلال بأفعاله عليه، فقال:(ذلكم)أي ذلك الّذي خلق هذه الأشياء، و دبّر هذه التّدابير لكم،أيّها النّاس هو اَللّهُ رَبُّكُمْ أي خالقكم،و مالككم،و مدبّركم،و سيّدكم لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي كلّ مخلوق من الأجسام و الأعراض الّتي لا يقدر عليها غيره.(2:344)

الفخر الرّازيّ: في الآية مسائل:

المسألة الثّالثة:تمسّك أصحابنا بقوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنّه تعالى هو الخالق لأعمال العباد،قالوا:

أعمال العباد أشياء،و اللّه تعالى خالق كلّ شيء بحكم هذه الآية،فوجب كونه تعالى خالقا لها.

و اعلم أنّا أطنبنا الكلام في هذا الدّليل في كتاب «الجبر و القدر»،و نكتفي هاهنا من تلك الكلمات بنكت قليلة.

قالت المعتزلة:هذا اللّفظ و إن كان عامّا إلاّ أنّه حصل مع هذه الآية وجوه،تدلّ على أنّ أعمال العباد خارجة عن هذا العموم:

فأحدها:أنّه تعالى قال: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله:

خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لصار تقدير الآية:أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرّة أخرى؛و معلوم أنّ ذلك فاسد.

و ثانيها:أنّه تعالى إنّما ذكر قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ في معرض المدح و الثّناء على نفسه،فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحا و ثناء،لأنّه

ص: 522

لا يليق به سبحانه أن يتمدّح بخلق الزّنى و اللّواط و السّرقة و الكفر.

و ثالثها:أنّه تعالى قال بعد هذه الآية: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها الأنعام:104،و هذا تصريح بكون العبد مستقلاّ بالفعل و التّرك،و أنّه لا مانع له البتّة من الفعل و التّرك،و ذلك يدلّ على أنّ فعل العبد غير مخلوق للّه تعالى؛إذ لو كان مخلوقا للّه تعالى لما كان العبد مستقلاّ به،لأنّه إذا أوجده اللّه تعالى امتنع منه الدّفع،و إذا لم يوجده اللّه تعالى امتنع منه التّحصيل.

فلمّا دلّت هذه الآية على كون العبد مستقلاّ بالفعل و التّرك،و ثبت أنّ كونه كذلك،يمنع أن يقال:

فعل العبد مخلوق للّه تعالى،ثبت أنّ ذكر قوله: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها الأنعام:104، يوجب تخصيص ذلك العموم.

و رابعها:أنّ هذه الآية مذكورة عقيب قوله:

وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ الأنعام:100،و قد بيّنّا أنّ المراد منه رواية مذهب المجوس في إثبات إلهين للعالم:أحدهما:يفعل اللّذّات و الخيرات،و الآخر:

يفعل الآلام و الآفات.فقوله بعد ذلك: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يجب أن يكون محمولا على إبطال ذلك المذهب،و ذلك إنّما يكون إذا قلنا:إنّه تعالى هو الخالق لكلّ ما في هذا العالم من السّباع و الحشرات و الأمراض و الآلام،فإذا حملنا قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على هذا الوجه لم يدخل تحته أعمال العباد.

قالوا:فثبت أنّ هذه الدّلائل الأربعة توجب خروج أعمال العباد عن عموم قوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ

و الجواب:أنّا نقول:الدّليل العقليّ القاطع قد ساعد على صحّة ظاهر هذه الآية.و تقريره:أنّ الفعل موقوف على الدّاعي و خالق الدّاعي هو اللّه تعالى، و مجموع القدرة مع الدّاعي يوجب الفعل؛و ذلك يقتضي كونه تعالى خالقا لأفعال العباد،و إذا تأكّد هذا الظّاهر بهذا البرهان العقليّ القاطع،زالت الشّكوك و الشّبهات.

المسألة الرّابعة:قوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ يدلّ على ترتيب الأمر بالعبادة،على كونه تعالى خالقا لكلّ الأشياء بفاء التّعقيب،و ترتيب الحكم على الوصف بحرف الفاء مشعر بالسّببيّة،فهذا يقتضي أن يكون كونه تعالى خالقا للأشياء هو الموجب لكونه معبودا على الإطلاق،و الإله هو المستحقّ للمعبوديّة،فهذا يشعر بصحّة ما يذكره بعض أصحابنا من أنّ«الإله»عبارة عن القادر على الخلق و الإبداع و الإيجاد و الاختراع.

المسألة الخامسة:احتجّ كثير من المعتزلة بقوله:

خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على نفي الصّفات،و على كون القرآن مخلوقا.

أمّا نفي الصّفات،فلأنّهم قالوا:لو كان تعالى عالما بالعلم قادرا بالقدرة،لكان ذلك العلم و القدرة إمّا أن يقال:إنّهما قديمان،أو محدثان.و الأوّل باطل، لأنّ عموم قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يقتضي كونه خالقا لكلّ الأشياء،أدخلنا التّخصيص في هذا العموم بحسب ذاته تعالى،ضرورة أنّه يمتنع أن يكون خالقا

ص: 523

لنفسه،فوجب أن يبقى على عمومه فيما سواه.

و القول بإثبات الصّفات القديمة يقتضي مزيد التّخصيص في هذا العموم،و أنّه لا يجوز.

و الثّاني:و هو القول بحدوث علم اللّه و قدرته،فهو باطل بالإجماع،و لأنّه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم و القدرة إلى سبق علم آخر و قدرة أخر و أنّ ذلك محال.

و أمّا تمسّكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقا، فقالوا:القرآن شيء و كلّ شيء فهو مخلوق للّه تعالى بحكم هذا العموم،فلزم كون القرآن مخلوقا للّه تعالى، أقصى ما في هذا الباب أنّ هذا العموم دخله التّخصيص في ذات اللّه تعالى،إلاّ أنّ العامّ المخصوص حجّة في غير محلّ التّخصيص،و لذلك فإنّ دخول هذا التّخصيص في هذا العموم لم يمنع أهل السّنّة من التّمسّك به،في إثبات أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى.

و جواب أصحابنا عنه:أنّا نخصّص هذا العموم بالدّلائل الدّالّة على كونه تعالى عالما بالعلم قادرا بالقدرة،و بالدّلائل الدّالّة على أنّ كلام اللّه تعالى قديم.(13:121)

القرطبيّ: (ذلكم)في موضع رفع بالابتداء.

اَللّهُ رَبُّكُمْ على البدل. خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ خبر الابتداء.و يجوز أن يكون(ربكم)الخبر،و(خالق) خبرا ثانيا،أو على إضمار مبتدإ،أي هو خالق.

و أجاز الكسائيّ و الفرّاء فيه النّصب.(7:54)

النّيسابوريّ: و إنّما قال هاهنا: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ و في«المؤمن»[الآية:62] بالعكس،لأنّه وقع هاهنا بعد ذكر الشّركاء و البنين و البنات،فكان رفع الشّرك أهمّ،و هنالك وقع بعد ذكر خلق السّماوات و الأرض فكان تقديم الخالقيّة أهمّ.(7:179)

أبو السّعود :و قوله تعالى: اَللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أخبار أربعة مترادفة،أي ذلك الموصوف بتلك الصّفات العظيمة هو اللّه المستحقّ للعبادة خاصّة،مالك أمركم لا شريك له أصلا،خالق كلّ شيء ممّا كان و ممّا سيكون،فلا تكرار؛إذ المعتبر في عنوان الموضوع إنّما هو خالقيّته لما كان فقط،كما ينبئ عنه صيغة الماضي.

و قيل:الخبر هو الأوّل و البواقي أبدال،و قيل:

الاسم الجليل بدل من المبتدإ و البواقي أخبار،و قيل:

يقدّر لكلّ من الأخبار الثّلاثة مبتدأ،و قيل:يجعل الكلّ بمنزلة اسم واحد.(2:424)

الآلوسيّ: [ذكر نحو أبي السّعود و أضاف:]

و إنّما قال سبحانه هنا: ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ و في سورة«المؤمن»:62 ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ فقدّم سبحانه هنا لا إِلهَ إِلاّ هُوَ على خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ و عكس هناك.

قال بعض المحقّقين:لأنّ هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ... الأنعام:100، فلمّا قال جلّ شأنه: ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ أتى بعده بما يدفع الشّركة،فقال عزّ قائلا: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ثمّ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ و تلك جاءت بعد قوله سبحانه:

ص: 524

لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ المؤمن:57،فكان الكلام على تثبيت خلق النّاس و تقريره،لا على نفي الشّريك عنه جلّ شأنه،كما كان في الآية الأولى، فكان تقديم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هناك أولى،و اللّه تعالى أعلم بأسرار كلامه.(7:244)

ابن عاشور :و قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ صفة ل(ربكم)أو لاسم الجلالة،و إنّما لم نجعله خبرا، لأنّ الإخبار قد تقدّم بنظائره في قوله: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ الأنعام:101.(6:250)

الطّباطبائيّ: كلام في عموم الخلقة و انبساطها على كلّ شيء:

قوله تعالى: ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ظاهره و عموم الخلقة لكلّ شيء و انبساط إيجاده تعالى على كلّ ما له نصيب من الوجود و التّحقّق،و قد تكرّر هذا اللّفظ،أعني قوله تعالى:

(الله خالق كل شىء)منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه، قال تعالى: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ الرّعد:16،و قال تعالى: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ الزّمر:62،و قال تعالى:

ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ المؤمن:

62.

و قد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة،حتّى من المتكلّمين و الفلاسفة من النّصارى و اليهود،فضلا عن متكلّمي الإسلام و فلاسفته،و لا يهمّنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم و آرائهم و التّكلّم معهم،و إنّما بحثنا هذا قرآنيّ تفسيريّ،لا شغل لنا بغير ما يتحصّل به الملخّص من نظر القرآن الكريم بالتّدبّر في أطراف آياته الشّريفة.

نجد القرآن الكريم يسلّم ما نتسلّمه من أنّ الموضوعات الخارجيّة و الأشياء الواقعة في دار الوجود،كالسّماء و كواكبها و نجومها،و الأرض و جبالها و وهادها و سهلها و بحرها و برّها و عناصرها و معدنيّاتها،و السّحاب و الرّعد و البرق و الصّواعق و المطر و البرد و النّجم و الشّجر و الحيوان و الإنسان، لها آثار و خواصّ هي أفعالها و هي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله و المعلول إلى علّته.

و نجده يصدّق أنّ للإنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالا تستند إليه و تقوم به كالأكل و الشّرب و المشي و القعود،و كالصّحّة و المرض و النّموّ و الفهم و الشّعور و الفرح و السّرور،من غير أن يفرّق بينه و بين غيره من الأنواع في شيء من ذلك، فهو يخبر عن أعماله و يأمره و ينهاه،و لو لا أنّ له فعلا لم يرجع شيء من ذلك إلى معنى محصّل.فالقرآن يزن الواحد من الإنسان بعين ما نزنه نحن معشر الإنسان في مجتمعنا،فنعتقد أنّ له أفعالا و آثارا منسوبة إليه، نؤاخذه في بعض أفعاله الّتي ترجع بنحو إلى اختياره كالأكل و الشّرب و المشي،و نصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصّحّة و المرض و الشّباب و المشيب و غير ذلك.

ص: 525

فالقرآن ينظّم النّظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسّنا و تؤيّده عقولنا بما شفعت به من التّجارب، و هو أنّ أجزاء هذا النّظام على اختلاف هويّاتها و أنواعها فعّالة بأفعالها مؤثّرة متأثّرة في غيرها و من غيرها،و بذلك تلتئم أجزاء النّظام الموجود الّذي لكلّ جزء منها ارتباط تامّ بكلّ جزء،و هذا هو قانون العلّيّة العامّ في الأشياء،و هو أنّ كلّ ما يجوز له في نفسه أن يوجد و أن لا يوجد فهو إنّما يوجد عن غيره،فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علّته،و قد أمضى القرآن الكريم صحّة هذا القانون و عمومه.و لو لم يكن صحيحا أو تخلّف في بعض الموارد لم يتمّ الاستدلال به أصلا،و قد استدلّ القرآن به على وجود الصّانع و وحدانيّته و قدرته و علمه و سائر صفاته.

و كما أنّ المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علّته،كذلك يجب وجوده مع وجود علّته قضاء لحقّ الرّابطة الوجوديّة الّتى بينهما.و قد أنفذه اللّه سبحانه في كلامه في موارد كثيرة،استدلّ فيها من طريق ما له من الصّفات العليا على ثبوت آثارها و معاليلها،كقوله:

وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ و قوله: إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و غير ذلك،و استدلّ أيضا على كثير من الحوادث و الأمور بثبوت أشياء أخرى يستعقب ثبوتها بعدها،كقوله:

فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يونس:

74،و غير ذلك ممّا ذكر من أمر المؤمنين و الكافرين و المنافقين،و لو جاز أن يتخلّف أثر من مؤثّره إذا اجتمعت الشّرائط اللاّزمة و ارتفعت الموانع المنافية، لم يصحّ شيء من هذه الحجج و الأدلّة البتّة.

فالقرآن يسلّم حكومة قانون العلّيّة العامّ في الوجود،و أنّ لكلّ شيء من الأشياء الموجودة و عوارضها و لكلّ حادث من الحوادث الكائنة،علّة أو مجموع علل،بها يجب وجوده و بدونها يمتنع وجوده، هذا ممّا لا ريب فيه في بادئ التّدبّر.

ثمّ إنّا نجد أنّ اللّه سبحانه في كلامه يعمّم خلقه على كلّ ما يصدق عليه شيء من أجزاء الكون،قال تعالى:

قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ الرّعد:

16،إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفا،و هذا ببسط علّيّته و فاعليّته تعالى لكلّ شيء،مع جريان العلّيّة و المعلوليّة الكونيّة بينها جميعا،كما تقدّم بيانه.

و قال تعالى: اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ -إلى أن قال:- وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2،و قال: اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى طه:50،و قال: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى الأعلى:2،3،إلى غير ذلك من الآيات.

و في هذه الآيات نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة و أعمالها و أنواع آثارها و حركاتها و سكناتها منسوبة إلى التّقدير و الهداية الإلهيّة،فإلى تقديره تعالى تنتهي خصوصيّات أعمال الأشياء و آثارها،كالإنسان يخطو و يمشي في انتقاله المكانيّ،و الحوت يسبّح و الطّير يطير بجناحيه قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما

ص: 526

(يشاء)النّور:45،و الآيات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيّات أعمال الأشياء و حدودها و أقدارها تنتهي إليه تعالى،و كذلك الغايات الّتي تقصدها الأشياء على اختلافها فيها،و تشتّتها و تفنّنها إنّما تتعيّن لها و تروم نحوها بالهداية الإلهيّة الّتي تصحبها منذ أوّل وجودها إلى آخره،و ينتهي ذلك إلى تقدير العزيز العليم.

فالأشياء في جواهرها و ذواتها تستند إلى الخلقة الإلهيّة و حدود وجودها،و تحوّلاتها و غاياتها و أهدافها في مسير وجودها و حياتها،كلّ ذلك ينتهي إلى التّقدير المنتهى إلى خصوصيّات الخلقة الإلهيّة.

و هناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأنّ أجزاء الكون متّصل بعضه ببعض،متلائم بعض منه مع بعض، متوحّدة في الوجود،يحكم فيها نظام واحد لا مدبّر له إلاّ اللّه سبحانه،و هو الّذي ربّما سمّي ببرهان اتّصال التّدبير.

فهذا ما ينتجه التّدبّر في كلامه تعالى،غير أنّ هناك جهات أخرى ينبغي للباحث المتدبّر أن لا يغفل عنها، و هي ثلاث:

إحداها:أنّ من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه و شناعته،كأنواع الظّلم و الفجور الّتي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس و الكبرياء،و القرآن الكريم أيضا ينزّهه تعالى عن كلّ ظلم و سوء في آيات كثيرة،كقوله: وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ فصّلت:46، و قوله: قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ الأعراف:28، و غير ذلك،و هذا ينافي عموم الخلقة لكلّ شيء،فمن الواجب أنّ تخصّص الآية بهذا المخصّص العقليّ و الشّرعيّ.

و ينتج ذلك أنّ الأفعال الإنسانيّة مخلوقة للإنسان، و ما وراءه من الأشياء ذواتها و آثارها مخلوقة للّه سبحانه.

على أنّ كون الأفعال الإنسانيّة مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الإنسان،و يبطل بذلك نظام الأمر و النّهي و الطّاعة و المعصية و الثّواب و العقاب، و إرسال الرّسل و إنزال الكتب و تشريع الشّرائع.كذا ذكره جمع من الباحثين.

و قد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرّقوا بين الأمور الحقيقيّة الّتي تنال الوجود و التّحقّق حقيقة، و الأمور الاعتباريّة و الجهات الوضعيّة الّتي لا ثبوت لها في الواقع،و إنّما اضطرّ الإنسان إلى تصوّرها أو التّصديق بها حاجة الحياة،و ابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع و التّمدّن،فخلطوا بين الجهات الوجوديّة و العدميّة في الأشياء،و قد تقدّمت نبذة من هذا البحث في الكلام على:الجبر و التّفويض،في الجزء الأوّل من الكتاب.

و الّذي يناسب المقام من الكلام أنّ ظاهر قوله:

اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يعمّم الخلقة لكلّ شيء،ثمّ قوله تعالى: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ السّجدة:

7،يثبت الحسن لكلّ ما خلقه اللّه،و يتحصّل من الآيتين أنّ كلّ ما يصدق عليه اسم شيء ما خلا اللّه فهو مخلوق،و أنّ كلّ مخلوق فهو متّصف بالحسن، فالخلق و الحسن متلازمان في الوجود،فكلّ شيء فهو

ص: 527

من جهة أنّه مخلوق للّه،أي بتمام واقعيّته الخارجيّة حسن،فلو عرض لها عارض السّوء و القبح كان من جهة النّسب و الإضافات و أمور أخرى غير جهة واقعيّته،و وجوده الحقيقيّ الّذي ينسب به إلى اللّه سبحانه،و إلى فاعله المعروض له.

ثمّ إنّا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السّيّئة و الظّلم و الذّنب و غيرها ذكر تسليم،فلنقض بضمّها إلى ما تقدّم،بأنّ هذه معان و عناوين غير حقيقيّه لا يلحق الشّيء من جهة انتسابه إلى اللّه سبحانه و خلقه له،و إنّما يلحق الموضوع الّذي يقوم الأثر و العمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة،فإنّ كلّ معصية و ظلم فإنّ معه من سنخه ما ليس بمعصية،و إنّما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعيّ أو عقليّ،أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر،مثاله الزّنى و النّكاح،و هما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما و وجودهما النّوعيّ مثلا،و إنّما يختلفان بالموافقة و المخالفة للشّرع الإلهيّ أو السّنّة الاجتماعيّة أو مصلحة المجتمع،و تلك أمور وضعيّة و جهات إضافيّة،و الخلقة و الإيجاد إنّما يتعلّق بجهة التّكوين و الخارج.و أمّا الجهات الإضافيّة و العناوين الوضعيّة الّتي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح و المفاسد الاجتماعيّة المستعقبة للمدح و الذّمّ أو الثّواب و العقاب-بحسب ما يشخّصها و يحكم بها العقل العمليّ و الشّعور الاجتماعيّ-فإنّما هي أمور لا تتعدّى طور الاجتماع،و لا يدخل في دار التّكوين أصلا إلاّ آثارها الّتي هي أقسام الثّواب و العقاب مثلا.

فالفعل الكذائيّ كالظّلم بعنوانه الّذي هو الظّلم قبيح في ظرف الاجتماع و معصية تستتبع الذّمّ و العقاب عند المجتمعين،و أمّا بحسب التّكوين فليس إلاّ أثرا أو مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للإنسان و العلل الخارجيّة و خاصّة السّببيّة-الأولى الإلهيّة-إنّما تنتج هذه الجهة الّتي هي جهة التّكوين، و أمّا عنوانه القبيح و ما يلحق به فإنّما هو مولود النّظر التّشريع أو العقلائيّ لا خبر عنه بنظر التّكوين،كما أنّ زيدا الرّئيس هو بعنوانه الّذي هو الرّئاسة موضوع اجتماعيّ عندنا له آثار مترتّبة عليه في المجتمع، كالاحترام و التّقدّم و نفوذ الكلمة و إدارة الأمور، و أمّا من حيث التّكوين و الواقعيّة فإنّما هو فرد من أفراد الإنسان لا فرق بينه و بين الفرد المرءوس أصلا، و لا خبر في هذا النّظر عن الرّئاسة و الآثار المرتّبة عليها،و كذا الغنيّ و الفقير و السّيّد و المسود و العزيز و الذّليل و الشّريف و الخسيس و أمثال ذلك ممّا لا يحصى.

و بالجملة الخلقة في عين أنّها تعمّ كلّ شيء إنّما تتعلّق بالموضوعات و الأفعال الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها و واقعيّتها الخارجيّة،و أمّا ما وراء ذلك من جهات القبح و الحسن و المعصية و الطّاعة و سائر الأوصاف و العناوين الاجتماعيّة الطّارئة على الأفعال و الموضوعات فالخلق و الإيجاد لا يتعلّق بها،و ليس لها ثبوت إلاّ في ظرف التّشريع أو القضاء الاجتماعيّ،

ص: 528

و ساحة الاعتبار و الوضع.

و إذا تبيّن-أنّ ظرف تحقّق الأمر و النّهي و انتشاء الحسن و القبح و الطّاعة و المعصية،و تعلّق الثّواب و العقاب و ارتباطهما بالفعل،و كذا سائر الأمور و العناوين الاجتماعيّة كالمولويّة و العبوديّة و الرّئاسة و المرءوسيّة و العزّة و الذّلّة و نحو ذلك،غير ظرف التّكوين و ساحة الواقعيّة الخارجيّة الّتي يتعلّق بها الخلق و الإيجاد-ظهر أنّ عموم الخلقة لكلّ شيء لا يستلزم شيئا من المفاسد الّتي ذكروها،كبطلان نظام الأمر و النّهي و الثّواب و العقاب و غير ذلك،ممّا تقدّم ذكره.

و كيف يسوغ لمن تدبّر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثّنويّة؟و كلامه مشحون بأنّه خالق كلّ شيء، و أنّه اللّه الواحد القهّار،و أنّ قضاءه و قدره و هدايته التّكوينيّة و ربوبيّته و تدبيره شامل لكلّ شيء،لا يشذّ عنه شاذّ،و أنّ ملكه و سلطانه و إحاطته و كرسيّه وسع كلّ شيء،و أنّ له ما في السّماوات و الأرض و ما ظهر و ما بطن،و كيف يستقيم شيء من هذه التّعاليم الإلهيّة المنبئة عن توحيده في ربوبيّته،مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته.

الثّانية:أنّ القرآن الكريم إذ ينسب خلق كلّ شيء إليه تعالى و يحصر العلّة الفاعلة فيه،كان لازمه إبطال رابطة العلّيّة و المعلوليّة بين الأشياء،فلا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه،و إنّما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسمّيه معلولا عقيب ما نسمّيه علّة،من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلّة،فالنّار الّتي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة و البرودة على السّواء،و الحرارة نسبتها إلى النّار و الثّلج على السّواء،غير أنّ عادة اللّه جرت أن يخلق الحرارة عقيب النّار و البرودة بعد الثّلج،من غير أن يكون هناك إيجاب و اقتضاء بوجه أصلا.

و هذا النّظر يبطل قانون العلّيّة و المعلوليّة العامّ الّذي عليه المدار في القضاء العقليّ،و ببطلانه ينسدّ باب إثبات الصّانع،و لا تصل النّوبة مع ذلك إلى كتاب إلهيّ يحتجّ به على بطلان رابطة العلّيّة و المعلوليّة بين الأشياء،و كيف يسع أن يبطل القرآن الشّريف حكما صريحا عقليّا و يعزل العقل عن قضائه؟و إنّما تثبت حقّيّته و حجّيّته بالحكم العقليّ و القضاء الوجدانيّ، و هو إبطال النّتيجة لدليلها الّذي لا يؤثّر إلاّ إبطال النّتيجة لنفسها.

و هؤلاء إنّما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطّوليّة و العرضيّة،و إنّما يستحيل توارد العلّتين على شيء إذا كانتا في عرض واحد،لا إذا كانت إحداهما في طول الأخرى،مثال ذلك:أنّ العلّة التّامّة لوجود النّار كما توجب وجود النّار كذلك توجب وجود الحرارة،و لا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان،و لا تعمل فيها علّتان تامّتان مستقلّتان بل علّة معلولة لعلّة.

و بتقريب آخر أدقّ:منشأ الخطإ هو عدم التّمييز بين الفاعل بمعنى ما منه،و الفاعل بمعنى ما به، و لاستقصاء القول في المسألة محلّ آخر.

الثّالثة:و هي قريبة المأخذ من الثّانية أنّهم لما

ص: 529

وجدوا أنّه تعالى ينسب خلق كلّ شيء إلى نفسه، و هو تعالى مع ذلك يسلّم وجود رابطة العلّيّة و المعلوليّة بين الأشياء أنفسها،حسبوا أنّ ما له علّة ظاهرة معلومة من الأشياء،فهي العلّة له دونه تعالى، و إلاّ لزم اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد، و لا يبقى لتأثيره تعالى إلاّ حدوث الأشياء و بدء وجودها،و لذا تراهم يرومون إثبات الصّانع من جهة حدوث الأشياء،كحدوث الإنسان بعد ما لم يكن، و حدوث الأرض بعد ما لم تكن،و حدوث العالم بعد ما لم يكن.

و يضيفون إلى ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإنسان كالرّوح و كالحياة في الإنسان و الحيوان و النّبات،فإنّ الإنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد،و البسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السّحب و الثّلوج و الأمطار و ذوات الأذناب و الزّلازل و القحط و الغلاء و الأمراض العامّة،و نحو ذلك ممّا لا يظهر عللها الطّبيعيّة للأفهام العاميّة.ثمّ كلّما لاح لهم في شيء منها علّته الطّبيعيّة انهزموا منه إلى غيره،و بدّلوا موقفا بآخر،أو سلّموا للخصم.

و هذا بحسب اللّسان العلميّ هو أنّ الوجود الممكن إنّما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه، و هو الّذي يصرّ عليه جمّ غفير من أهل الكلام حتّى صرّح بعضهم:أنّه لو جاز العدم على الواجب لم يضرّ عدمه وجود العالم تعالى اللّه و تقدّس،و هذا-فيما نحسب-رأي إسرائيليّ تسرّب في أذهان عدّة من الباحثين،من المسلمين،و من فروع ذلك قولهم باستحالة البداء و النّسخ،و الرّأي جار سار بين النّاس مع ذلك.

و كيف كان هو من أردإ الأوهام؛و الاحتجاج القرآنيّ يخالفه،فإنّ اللّه سبحانه يستدلّ على وجود الصّانع و وحدته بالآيات المشهودة في العالم،و هو النّظام الجاري في كلّ نوع من الخليقة،و ما يجري عليه في مسير وجوده و أمد حياته من التّغيّر و التّحوّل و الفعل و الانفعال،و المنافع الّتي يستدرّها من ذلك و يوصلها إلى غيره كالشّمس و القمر و النّجوم و طلوعها و غروبها،و ما يستجلبه النّاس من منافعها، و التّحوّلات الفصليّة الطّارئة على الأرض و البحار و الأنهار و الفلك الّتي تجري فيها و السّحب و الأمطار، و ما ينتفع به الإنسان من الحيوان و النّبات،و ما يجري عليه من الأحوال الطّبيعيّة و التّغيّرات الكونيّة،من نطفيّة و جنينيّة و صباوة و شباب و شيب و هرم،و غير ذلك.

و جميع ذلك من الجهات الرّاجعة إلى الأشياء،من حيث بقائها و موضوعاتها علل أعراضها و آثارها، و كلّ مجموع منها في حين علّة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين،و حوادث اليوم علل حوادث الغد،كما أنّها معلولة حوادث الأمس.

و لو كانت الأمور من حيث بقائها مستغنية عن اللّه سبحانه،و استقلّت بما يكتنف بها من الحوادث،و يطرأ عليها من الآثار و الأعمال،لم يستقم شيء من هذه الحجج الباهرة و البراهين القاهرة.و ذلك أنّ احتجاج القرآن بهذه الآيات البيّنات من جهتين:

ص: 530

إحداهما:من جهة الفاعل،كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إبراهيم:10،فإنّ من الضّروريّ أنّ شيئا من هذه الموجودات لم يفطر ذاته و لم يوجد نفسه،و لا أوجده شيء آخر مثله،فإنّه يناظره في الحاجة إلى إيجاد موجد.و لو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طروء العدم عليه،لم يوجد في الخارج شيء من هذه الأشياء،فهي موجودة بإيجاد اللّه الّذي هو في نفسه حقّ،لا يقبل بطلانا و لا تغيّرا بوجه عمّا هو عليه.

ثمّ إنّها إذا وجدت لم تستغن عنه،فليس إيجاد شيء شيئا من قبيل تسخين المسخّن مثلا؛حيث تنصبّ الحرارة بالانفصال من المسخّن إلى المتسخّن فيعود المتسخّن واجدا للوصف،بقي المسخّن بعد ذلك أو زال؛إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة، عاد الوجود المفاض مستقلاّ بنفسه واجبا بذاته، لا يقبل العدم لمكان المناقضة،و هذا هو الّذي يعبّر عنه الفهم السّاذج الفطريّ بأنّ الأشياء لو ملكت وجود نفسها و استقلّت بوجه عن ربّها،لم يقبل الهلاك و الفساد،فإنّ من المحال أن يستدعي الشّيء بطلان نفسه أو شقاءها.

و هو الّذي يستفاد من أمثال قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ القصص:88،و قوله: وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً الفرقان:3،و يدلّ على ذلك أيضا الآيات الكثيرة الدّالّة على أنّ اللّه سبحانه هو المالك لكلّ شيء لا مالك غيره،و أنّ كلّ شيء مملوك له لا شأن له إلاّ المملوكيّة.

فالأشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أوّل كونها و حدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها و امتداد كونها و حياتها،فلا يزال الشّيء موجودا ما يفيض عليه الوجود،و إذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود،قال تعالى:

كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً الإسراء:20،إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و ثانيتهما:من جهة الغايات،كما تشير إليه الآيات الواصفة للنّظام الجاري في الكون،متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه،يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى كماله،و يتوجّه ما وقع في طرف من السّلسلة المترتّبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها، ينتفع فيها الإنسان مثلا بالنّظام الجاري في الحيوان و النّبات،و النّبات مثلا بالنّظام الجاري في الأرض و الجوّ المحيط بها،و تستمدّ الأرضيّات بالسّماويّات و السّماويّات بالأرضيّات،فيعود الجميع ذا نظام متّصل واحد،يسوق كلّ نوع من الأنواع إلى ما يسعد به في كونه،و يفوز به في وجوده،و تأبى الفطرة السّليمة و الشّعور الحيّ إلاّ أن يقضي أنّ ذلك كلّه من تقدير عزيز عليم،و تدبير حكيم خبير.

و ليس هذا التّقدير و التّدبير إلاّ عن فطر ذواتها و إيجاد هويّاتها و صوغ أعيانها بضرب كلّ منها في قالب يقدّر له أفعاله،و يحصره في ما أريد منه في موطنه،و ما يؤول إليه في منازل هيّئت على امتداد

ص: 531

مسيره،و الّذي يقف عليه آخر ما يقف،و هي في جميع هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر و قائد القضاء.

قال تعالى: لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الأعراف:54، و قال: أَلا لَهُ الْحُكْمُ الأنعام:62،و قال: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها البقرة:148،و قال: وَ اللّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ الرّعد:41،و قال: هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ الرّعد:33.

و كيف يسع لمتدبّر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها و صريح مضامينها إلى أنّ اللّه سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيّات و الشّخصيّات،ثمّ اعتزلها؟و ما كان يسعه إلاّ أن يعتزل و يرصد،فشرع الأشياء في التّفاعل و التّناظم بما فيها من روح العلّيّة و المعلوليّة،و استقلّت في الفعل و الانفعال،و خالقها يتأمّلها في معزله،و ينتظر يوم يفني فيه الكلّ حتّى يجدّد لها خلقا جديدا،يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الأولى،و يعاقب المستكبر المستنكف،و قد صبر على خلافهم طول الزّمان،غير أنّه ربّما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيئتهم،و يمنع من تأثير بعض مكائدهم،على نحو المعارضة و الممانعة.

أي إنّه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدّي الأسباب و العلل الكونيّة المستقلّة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه،أو لا يؤدّي إلى ما يوافق مرضاته، فيداخل الأسباب الكونيّة بإيجاد ما يريده من الحوادث،و ليس يداخل شيئا إلاّ بإبطال قانون العلّيّة الجاري في المورد؛إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب و العلل كان التّأثير على مزعمتهم للعلل الكونيّة دونه تعالى.و هذا هو السّرّ في إصرار هؤلاء على أنّ المعجزات و خوارق العادات و نحوهما إنّما تتحقّق بالإرادة الإلهيّة وحدها،و نقض قانون العلّيّة العامّ،فلا محالة يتمّ الأمر بنقض السّببيّة الكونيّة و إبطال قانون العلّيّة،و يبطل بذلك أصل قولهم:إنّ الأشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها،غنيّة عنه في بقائها.

فهؤلاء القوم لا يسعهم إلاّ أن يلتزموا أحد أمرين:

إمّا القول بأنّ العالم على سعته و نظامه الجاري فيه مستقلّ عن اللّه سبحانه غير مفتقر إليه أصلا،و لا تأثير له تعالى في شيء من أجزائه و لا التّحوّلات الواقعة فيه إلاّ ما كان من حاجته إليه في أوّل حدوثه،و قد أحدثه فارتفعت الحاجة و انقطعت الخلّة.

أو القول:بأنّ اللّه هو الخالق لكلّ ما يقع عليه اسم شيء،و المفيض له الوجود حال الحدوث و في حال البقاء،و لا غنى عنه تعالى لذات و لا فعل طرفة عين.

و قد عرفت أنّ البحث القرآنيّ يدفع أوّل القولين، لتعاضد الآيات على بسط الخلقة و السّلطة الغيبيّة على ظاهر الأشياء و باطنها و أوّلها و آخرها و ذواتها و أفعالها،حال حدوثها و حال بقائها جميعا،فالمتعيّن هو الثّاني من القولين،و البحث العقليّ الدّقيق يؤيّد بحسب النّتيجة ما هو المتحصّل من الآيات الكريمة.

فقد ظهر من جميع ما تقدّم أنّ ما يظهر من قوله:

اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على ظاهر عمومه من غير أن

ص: 532

يتخصّص بمخصّص عقليّ أو شرعيّ.(7:292)

مكارم الشّيرازيّ: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ:

بعض المفسّرين من أهل السّنّة،ممّن يذهب إلى الجبر يتّخذ من قوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ دليلا على صحّة مذهبهم في الجبر،فيقول:إنّ أعمالنا و أفعالنا من أشياء هذا العالم أيضا،لأنّ كلمة(شىء) تطلق على كلّ ذي وجود،مادّيّا كان أم غير مادّيّ، و سواء كان من الذّوات أم من الصّفات،و عليه عند ما نقول:إنّ اللّه خالق كلّ شيء،لا بدّ لنا أن نقبل أيضا بأنّه خالق أفعالنا،و هذا هو الجبر بعينه.

بيد أنّ القائلين بحرّيّة الإرادة و الاختيار يردّون بجواب واضح على أمثال هذه الاستدلالات،و هو أنّ خالقيّة اللّه حتّى بالنّسبة لأفعالنا لا تتعارض مع حرّيّتنا في الاختيار؛إذ أنّ أفعالنا يمكن أن تنسب إلينا و إلى اللّه،فنسبتها إلى اللّه قائمة على كونه قد وضع جميع مقدّمات ذلك تحت تصرّفنا،فهو الّذي وهبنا القوّة و القدرة و الإرادة و الاختيار،فما دامت جميع المقدّمات من خلقه،فيمكن أن تنسب أفعالنا إليه باعتباره خالقها،و لكن من حيث اتّخاذ القرار النّهائيّ فإنّنا بالاستفادة ممّا وهبه اللّه لنا من القدرة على الإرادة و الاختيار نتّخذ القرار بأداء الفعل أو تركه،فمن هنا تنسب هذه الأفعال إلينا و نكون مسئولين عنها.

و بتعبير الفلاسفة:لا يوجد في هذا المقام علّتان أو خالقان للفعل في عرض واحد.بل هما ممتدّتان طولا، لأنّ وجود علّتين تامّتين في عرض واحد لا معنى له، لكنّهما إذا كانا طوليّين فلا مانع من ذلك،و لمّا كانت أفعالنا تستلزم المقدّمات الّتي وهبها اللّه لنا،فيمكن أن ننسب هذه المستلزمات إليه أيضا،إضافة إلى نسبتها إلى فاعلها.

هذا الكلام أشبه بالّذي يريد أن يختبر عمّاله فيترك لهم الحرّيّة في عملهم و اختياراتهم،و يهيّئ لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدّمات و وسائل،فطبيعيّ أن تعتبر أفعالهم منسوبة إلى ربّ العمل،و لكن ذلك لا يسلبهم حرّيّة العمل و الاختيار،بل يكونون مسئولين عن أعمالهم.(4:383)

فضل اللّه :علاقة الآية بمسألة الجبر و الحرّيّة.

و جاء المتكلّمون ليفلسفوا هذه الآية،هل اللّه خالق كلّ شيء دون استثناء،الخير و الشّرّ،العدل و الظّلم،الكفر و الإيمان؟و إذا كان الأمر كذلك فأين هو موقع حرّيّة الإنسان في ما يريد و يختار؟و إذا لم يكن كذلك؟فأين هي القدرة المطلقة الّتي يتّصف بها اللّه،عند ما تخرجون بعضا من حركة الوجود في هذا الكون عن مجال قدرته؟

و لكنّ المسألة في هذه الفقرة لا تتّجه باتّجاه الشّمول و السّعة،فهي تريد تقرير المبدإ في مواجهة الآخرين الّذين يشركون بعبادة اللّه من هو مخلوق له، و ليست في صدد الحديث عن تفاصيل المخلوقات الموجودة في عالم التّكوين،و في حركة فعل الإنسان.

و ربّما كان من المناسب لجوّ الآية،أن يكون الحديث فيها عن جانب التّكوين في الأشياء،لأنّه الّذي يتعلّق به الخلق،أمّا الصّفات و العناوين الّتي تتعلّق بفعل الإنسان،فإنّها لا ترتبط بالجانب الذّاتي

ص: 533

للفعل،بل ترتبط بالجانب الاعتباريّ،فإنّ الفعل الصّادر من الإنسان لا يتغيّر في صفاته الذّاتيّة،عند ما يكون ظلما أو عدلا،بل هو فعل واحد،في كلتا الحالتين،لأنّ معنى أن يكون ظلما،أن يكون صادرا على خلاف وجه الحقّ،كما أنّ معنى أن يكون عدلا، هو أن يكون صادرا عن وجه حقّ.و هو من الأمور الّتي تدخل في عمليّة الإرادة الإنسانيّة الّتي تعطي للفعل وجهه الحسن أو القبيح،و لا تدخل في عمليّة الخلق و التّكوين،فالظّلم يبدأ فكرة في عقل الإنسان، إلى جانب العدل كفكرة تعيش في تفكيره،و كذلك كلّ أفكار الخير و الشّرّ،ثمّ تتحوّل الفكرة هنا و هناك إلى حركة في الفعل،لتتحوّل إلى واقع حيّ،يدفع بالحياة إلى السّلبيّة أو الإيجابيّة من خلال إرادة الإنسان.

و لكن ليس معنى ذلك أنّ اللّه قد اعتزل قضيّة الإنسان بعد ما خلقه،فلا علاقة له بوجوده،أو بتفاصيل حركة الوجود هذه،ليكون الأمر على وفق نظريّة التّفويض المطلق،فإنّنا لا نريد أن ننفي فكرة الجبريّة لنستبدل بها فكرة التّفويض،بل ما نريده هو أن ننفي الفكرتين معا لتكون النّظريّة عند حدّ الوسط «الأمر بين الأمرين»الّتي تعني أنّ اللّه أعطى للإنسان خلقه،و زوّده بالوسائل اللاّزمة الّتي تكفل له استمرار الحياة،و هو قادر على أن يسلب ذلك منه في كلّ لحظة.و منحه-في نطاق ذلك،-الإرادة الحرّة الّتي يستطيع من خلالها أن يمارس حرّيّته في سلوك الطّريق الّذي يحلو له،بعيدا عن كلّ ضغط تكوينيّ.

فإذا اختار الشّرّ كان الشّرّ فعله،من خلال الأدوات الّتي منحها اللّه له،فليس الشّرّ مخلوقا للّه بنحو المباشرة،و ليس مرادا له بنحو الرّضى،و لكنّه فعل الإنسان،من خلال إرادة اللّه الّتي تربط بين السّبب و المسبّب،فتقتضي أن يوجد المسبّب و هو الفعل إذا تعلّقت إرادة الفاعل المختار به،مع توفّر الشّروط الأخرى لوجوده،و بذلك كانت علاقة اللّه بالأشياء من خلال خلقه للقوانين الّتي تنتجها،و من جملتها إرادة الإنسان و اختياره،فلا جبر للإنسان،لأنّ الخيط الأوّل في المسألة مربوط بيده و هو حرّيّة الإرادة، و لا تفويض له،لأنّ الخيط الثّاني،و هو وسائل القدرة بيد اللّه،فهو القادر أن يبقيها حيث شاء،و أن يزيلها حيث يريد.

و في ضوء ذلك،لا نستطيع أن نوافق على الفكرة الّتي تقول:إنّ اللّه قد خلق الشّرّ و الخير،على أساس أنّ أفعال العباد مخلوقة له،لأنّ اللّه خالق كلّ شيء، فهو لم يخلق للعبد فعله،كما يخلق الأشياء الأخرى، بشكل مباشر،أو بشكل غير مباشر،من دون إرادة أو اختيار لغيره،بل إنّه خلق العبد و خلق إرادته،و ترك له أن يتصرّف بإرادته كما يحلو له،بعد أن حدّد له ما يرضاه و ما لا يرضاه من ذلك.فإن أراد القائلون بخلق اللّه للشّرّ هذا المعنى،فلا مشكلة،من ناحية فكريّة، و لكن التّعبير يعتبر سيّئا لا يعبّر عن الفكرة بوضوح، و إن أرادوا المعنى الّذي يرتبط بالجبر،كان الموضوع محلّ مناقشة و اعتراض من ناحية فكريّة،و اللّه العالم.

خلق اللّه و قانون السّببيّة

و إذا كانت الآية تنسب خلق كلّ الأشياء إلى اللّه،

ص: 534

فكيف نفهم مسألة السّببيّة في الأشياء؟فإذا كان اللّه خالق كلّ شيء،فمعنى ذلك أنّه علّة كلّ شيء،فلا معنى-من خلال هذا-لارتباط الأشياء بعللها الطّبيعيّة.

و يجاب عن ذلك بأنّ علّيّة اللّه للأشياء،لا تعني إلغاء عللها المباشرة الّتي ترتبط بها ارتباطا عضويّا، لأنّ اللّه يخلق الأشياء حين يخلقها،على أساس قانون السّببيّة الّذي يجعل الظّواهر الكونيّة و غيرها خاضعة لأسباب محدودة منظّمة مخلوقة له في ذاتها،و في ما أودعه فيها من خصائص التّأثير و التّسبيب،فهو الخالق للأشياء،من خلال إيجاده لها من العدم،بطريقة معيّنة تلغي (1)تأثّر الأشياء ببعضها البعض في نطاق النّظام الكونيّ الّذي وضع كلّ شيء في موضعه في علاقات شاملة،تجعل من الكون كلّه وحدة شاملة مترابطة في حركة الوجود كلّه،و ذلك لا يلغي السّببيّة بل يؤكّدها.

و قد تحدّث بعض الباحثين في الفلسفة في هذا المجال،عن مصطلح«العلّة الفاعليّة»،و أراد منها،ما منه الوجود،أي ما يصدر منه،و«العلّة المادّيّة»ما به يوجد الشّيء،أي ما يتأثّر به وجوده،و لا تنافي بين الأولى و الثّانية،بل الثّابت هو الانسجام و التّلاؤم، فإنّ دور العلّة الفاعليّة هو إصدار الوجود بواسطة العلّة المادّيّة،لا بشكل مباشر،و نحن لا نريد أن نذهب بعيدا في التّأكيد على طبيعة هذه المصطلحات كأسلوب من أساليب البحث القرآنيّ،لأنّنا نعتقد أنّ الأسلوب القرآنيّ يعالج الفكرة بطريقة لا تحتاج إلى مثل هذا التّعقيد.(9:249)

2- وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. الحجر:28

ابن عبّاس: أخلق.(217)

نحوه الطّبرسيّ.«إلاّ أنّه قال:سأخلق»(3:335)

لمّا خلق اللّه الملائكة قال:إنّي خالق بشرا من طين،فإذا أنا خلقته فاسجدوا له،فقالوا:لا نفعل.

فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم،و خلق ملائكة أخرى، فقال:إنّي خالق بشرا من طين،فإذا أنا خلقته فاسجدوا له،فأبوا،قال:فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثمّ خلق ملائكة أخرى،فقال:إنّي خالق بشرا من طين،فإذا أنا خلقته فاسجدوا له،فأبوا،فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم،ثمّ خلق ملائكة،فقال:إنّي خالق بشرا من طين،فإذا أنا خلقته فاسجدوا له،فقالوا:سمعنا و أطعنا،إلاّ إبليس كان من الكافرين الأوّلين.

(الطّبريّ 7:515)

الطّوسيّ: أي أخلقه فيما بعد،قبل أن يخلقه.

(6:332)

أبو السّعود :قوله تعالى: لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ فيما سيأتي،و فيه ما ليس في صيغة المضارع من الدّلالة على أنّه تعالى فاعل له البتّة،من غير صارف يثنيه و لا عاطف يلويه.(4:17)

نحوه الآلوسيّ.(14:36)ي.

ص: 535


1- كذا و الظّاهر:لا تلغي.

البروسويّ: فيما سيأتي البتّة،كما يدلّ عليه التّعبير باسم الفاعل الدّالّ على التّحقّق.(4:459)

الطّباطبائيّ: و قوله: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً بإضمار فعل،و التّقدير:و اذكر إذ قال ربّك.و في الكلام التفات من التّكلّم مع الغير إلى الغيبة،و كأنّ العناية فيه مثل العناية الّتي مرّت في قوله: وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ الحجر:25،فإنّ هذه الآيات أيضا تكشف عن نبإ ينتهي إلى الحشر، و السّعادة و الشّقاوة الخالدتين.

على أنّ التّكلّم مع الغير في السّابق وَ لَقَدْ خَلَقْنَا خَلَقْناهُ من قبيل تكلّم العظماء عنهم و عن خدمهم و أعوانهم تعظيما،أي بأخذه تعالى ملائكته الكرام معه في الأمر.و هذه العناية ممّا لا يستقيم في مثل المقام الّذي يخاطب فيه الملائكة في أخبارهم بإرادته خلق آدم عليه السّلام،و أمرهم بالسّجود له إذا سوّاه و نفخ فيه من روحه،فافهم ذلك،و معنى الآية ظاهر.(12:153)

مكارم الشّيرازيّ: القرآن و مسألة التّكامل...

الجدير بالذّكر أنّ كلاّ من مؤيّدي و منكري فرضيّة التّكامل النّوعي-نعني المسلمين منهم-قد استدلّ بآيات القرآن الكريم لإثبات مقصوده، و لكنّهما في بعض الأحيان و تحت تأثير موقفهما قد استدلاّ بآيات لا ترتبط بمقصودهما إلاّ من بعيد، و لذلك سنتطرق إلى الآيات القابلة للبحث و المناقشة.

أهمّ آية يتمسّك بها مؤيّد و الفرضيّة،الآية الثّالثة و الثّلاثون من سورة آل عمران إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ،وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ.

فيقولون:كما أنّ نوحا و آل إبراهيم و آل عمران كانوا يعيشون ضمن أممهم فاصطفاهم اللّه من بينهم فكذلك آدم،أي ينبغي أنّه كان في عصره و زمانه أناس باسم العالمين فاصطفاه اللّه من بينهم،و هذا يشير إلى أنّ آدم لم يكن أوّل إنسان على وجه الأرض،بل كان قبله أناس آخرون،ثمّ امتاز آدم من بينهم بالطّفرة الفكريّة و الرّوحية فكانت سببا لاصطفائه من دونهم.

هذا و ذكروا آيات أخر و لكنّها من حيث الأصل لا ترتبط بمسألة البحث،و لا يعدو تفسيرها بالتّكامل أن يكون تفسيرا بالرأي،و بالبعض الآخر مع كونه ينسجم مع التّكامل النّوعي إلاّ أنّه ينسجم مع الثّبوت النّوعيّ و الخلق المستقلّ لآدم كذلك،و لهذا ارتأينا صرف النّظر عنها.

أمّا ما يؤخذ على هذا الاستدلال فهو أنّ كلمة العالمين إن كانت بمعنى النّاس المعاصرين لآدم عليه السّلام و أنّ الاصطفاء كان من بينهم،كان ذلك مقبولا،أمّا لو اعتبرنا العالمين أعمّ من المعاصرين لآدم،حيث تشمل حتّى غير المعاصرين،كما روي في الحديث المعروف عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله في فضل فاطمة عليها السّلام حيث قال:

«أمّا ابنتي فاطمة فهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين و الآخرين»ففي هذه الحال سوف لا تكون لهذه الآية دلالة على مقصودهم،و هو شبيه بقول قائل:إنّ اللّه تعالى اصطفى عدّة أشخاص من بين النّاس جميعا في كلّ القرون و الأزمان،و آدم عليه السّلام أحدهم،و عندها سوف لا يكون لازما وجود أناس في زمان آدم كي يطلق عليهم اسم العالمين أو يصطفي آدم من بينهم،

ص: 536

و خصوصا أنّ الاصطفاء إلهيّ،و اللّه عزّ و جلّ مطّلع على المستقبل و على كافّة الأجيال في كلّ الأزمان.

و أمّا مؤيّد و ثبوت الأنواع فقد اختاروا هذه الآيات و ما شابهها؛حيث نقول:إنّ اللّه تعالى خلق الإنسان من تراب من طين متعفّن.

و من الملفت للنّظر أنّ هذا التّعبير قد ورد في صفة خلق الإنسان وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:26،و أيضا في صفة خلق البشر وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. و في مسألة سجود الملائكة بعد خلق شخص آدم أيضا،لاحظ:الآيات 29،30،31 من سورة الحجر.

عند الملاحظة الأولى للآيات يظهر أنّ خلق آدم كان من الحمإ المسنون أوّلا،و من ثمّ اكتملت هيئته بنفخ الرّوح الإلهيّة فيه،فسجد له الملائكة إلاّ إبليس.

ثمّ إنّ أسلوب تتابع الآيات لا ينمّ عن وجود أيّ من الأنواع الأخرى منذ أن خلق آدم من تراب حتّى الصّورة الحاليّة لبنيه.

و على الرّغم من استعمال الحرف(ثمّ)في بعض من هذه الآيات لبيان الفاصلة بين الأمرين،إلاّ أنّه لا يدلّ أبدا على مرور ملايين السّنين،و وجود آلاف الأنواع خلال تلك الفاصلة.

بل لا مانع إطلاقا من كونه إشارة إلى نفس مرحلة خلق آدم من الحمإ المسنون،ثمّ مرحلة خلقه من الصّلصال،فخلق بدن آدم،و نفخ الرّوح فيه.

و ذلك ما نلاحظ في استعمال(ثمّ)في مسألة خلق الإنسان في عالم الجنين و المراحل الّتي يطويها:

يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ... ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ الحجّ:5.

فهذه الآية المباركة تدلّل على أن استعمال(ثمّ) يعبّر عن وجود فاصلة ليس من الضّروريّ أن تكون طويلة،فيمكن كونها فاصلة طويلة أو قصيرة.

و خلاصة ما ذكر:أنّ الآيات القرآنيّة و إن لم تتطرّق مباشرة لمسألة التّكامل النّوعيّ أو ثبوت الأنواع،لكن ظاهرها في خصوص الإنسان ينسجم مع مسألة الخلق المستقلّ،و إن لم يكن بالتّصريح المفصّل، لأنّ أكثر ما يدور ظاهر الآيات حول الخلق المستقلّ المباشر.أمّا ما يتعلّق بخلق سائر الأحياء من غير الإنسان فقد سكت القرآن عنه.(8:71)

3- يا أَيُّهَا النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ. فاطر:3

ابن عبّاس: من إله.(364)

الفرّاء: و قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ تقرأ (غير) و (غير) قرأها شقيق بن سلمة (غير) و هو وجه الكلام.و قرأها عاصم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ فمن خفض في الإعراب جعل (غير) من نعت الخالق،و من رفع قال:أردت ب(غير)«إلاّ»فلمّا كانت ترتفع ما بعد«إلاّ»جعلت رفع ما بعد«إلاّ»في(غير)كما تقول:

ما قام من أحد إلاّ أبوك؛و كلّ حسن.و لو نصبت

ص: 537

(غير)إذا أريد بها«إلاّ»كان صوابا.

العرب تقول:ما أتاني أحد غيرك،و الرّفع أكثر، لأنّ«إلاّ»تصلح فى موضعها.(2:366)

الطّبريّ: فانظروا هل من خالق سوى فاطر السّماوات و الأرض الّذي بيده مفاتيح أرزاقكم و مغالقها.(10:394)

الزّجّاج: هذا ذكر بعد قوله: ما يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها فاطر:2،فأكّد ذلك بأن جعل السّؤال لهم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ.

و قرئت هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ بالرّفع،على رفع(غير)،المعنى هل خالق غير اللّه،لأنّ(من)مؤكّدة، و قد قرئ بهما جميعا،(غير)و(غير).و فيها وجه آخر يجوز في العربيّة نصب(غير)(هل من خالق غير اللّه يرزقكم)،و يكون النّصب على الاستثناء،كأنّه:هل من خالق إلاّ اللّه يرزقكم.(4:262)

القيسيّ: من رفع(غير)جعله فاعلا،كما تقول:

هل ضارب غير زيد،بمعنى:إلاّ زيد.

و قيل:هو نعت ل(خالق)على الموضع،لأنّ المعنى:هل خالق غير اللّه،و(من)زائد لتأكيد النّفي.

و يجوز النّصب على الاستثناء،لأنّ الكلام يتمّ قبله.و من خفضه جعله نعتا ل(خالق)على اللّفظ.

(2:214)

نحوه أبو البركات(2:286)،و القرطبيّ(14:

321).

الطّوسيّ: قرأ حمزة و الكسائيّ (هل من خالق غير اللّه) جرّا،على أنّه صفة ل(خالق)الباقون بالرّفع على تقدير:هل من خالق هو غير اللّه.و يجوز أن يكون التّقدير:هل غير اللّه من خالق.و يجوز أن يكون رفعا على موضع(من)و تقديره:هل خالق غير اللّه.(8:411)

القشيريّ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ... و فائدة هذا التّعريف أنّه إذا عرف أنّه لا رازق غيره لم يعلّق قلبه بأحد في طلب شيء،و لم يتذلّل في ارتفاق لمخلوق،و كما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضا؛فيتخلّص من ظلمات تدبيره و احتياله،و من توهّم شيء من أمثاله و أشكاله،و يستريح لشهود تقديره،و لا محالة يخلص في توكّله و تفويضه.

(5:192)

ابن عطيّة: و ذكّرهم تعالى بنعمة اللّه عليهم في خلقهم و إيجادهم،ثمّ استفهمهم على جهة التّقرير و التّوقيف بقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ أي فليس إله إلاّ الخالق لا ما تعبدون أنتم من الأصنام.و قرأ حمزة و الكسائيّ (غير) بالخفض نعتا على اللّفظ، و خبر الابتداء(يرزقكم)و هي قراءة أبي جعفر و شقيق و ابن وثّاب.و قرأ الباقون غير نافع بالرّفع، و هي قراءة شيبة بن نصّاح و عيسى و الحسن بن أبي الحسن؛و ذلك يحتمل ثلاثة أوجه:أحدها:النّعت على الموضع،و الخبر مضمر،تقديره:في الجود أو في العالم، و أن يكون(غير)خبر الابتداء الّذي هو في المجرور، و الرّفع على الاستثناء،كأنّه قال:هل خالق إلاّ اللّه، فجرت(غير)مجرى الفاعل بعد«إلاّ».(4:429)

ص: 538

الطّبرسيّ: هذا استفهام تقرير لهم،و معناه النّفي، ليقرّوا بأنّه لا خالق إلاّ اللّه،يرزق من السّماء بالمطر، و من الأرض بالنّبات.و هل يجوز إطلاق لفظ الخالق على غير اللّه سبحانه؟فيه وجهان:

أحدهما:أنّه لا تطلق هذه اللّفظة على أحد سواه، و إنّما يوصف به غيره على جهة التّقييد،و إن جاز إطلاق لفظ الصّانع،و الفاعل،و نحوهما على غيره.

و الآخر:إنّ المعنى لا خالق يرزق و يخلق الرّزق، إلاّ اللّه تعالى.(4:400)

البيضاويّ: فمن أيّ وجه تصرفون عن التّوحيد إلى إشراك غيره به،و رفع(غير)للحمل على محلّ (من خالق)بأنّه وصف أو بدل،فإنّ الاستفهام بمعنى النّفي،أو لأنّه فاعل(خالق.)و جرّه حمزة و الكسائيّ حملا على لفظه،و قد نصب على الاستثناء، و(يرزقكم)صفة ل(خالق)أو استئناف مفسّر له، أو كلام مبتدإ،و على الأخير يكون إطلاق هَلْ مِنْ خالِقٍ مانعا من إطلاقه على غير اللّه.(2:267)

أبو حيّان :إن كان نزل ذلك بسبب قريش،ثمّ استفهم على جهة التّقرير هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ أي فلا إله إلاّ الخالق،ما تعبدون أنتم من الأصنام.

و قرأ ابن وثّاب،و شقيق،و أبو جعفر،و زيد بن عليّ،و حمزة،و الكسائيّ: (غير) بالخفض،نعتا على اللّفظ،و(من خالق)مبتدأ،و(يرزقكم)جوّزوا أن يكون خبرا للمبتدإ،و أن يكون صفته،و أن يكون مستأنفا،و الخبر على هذين الوجهين محذوف،تقديره:

لكم.

و قرأ شيبة،و عيسى،و الحسن،و باقي السّبعة:

(غير) بالرّفع،و جوّزوا أن يكون نعتا على الموضع، كما كان الخبر نعتا على اللّفظ.و هذا أظهر،لتوافق القراءتين،و أن يكون خبرا للمبتدإ،و أن يكون فاعلا باسم الفاعل الّذي هو(خالق،)لأنّه قد اعتمد على أداة الاستفهام،فحسن إعماله،كقولك:أ قائم زيد؟في أحد وجهيه.

و في هذا نظر،و هو أنّ اسم الفاعل،أو ما جرى مجراه،إذا اعتمد على أداة الاستفهام و أجرى مجرى الفعل،فرفع ما بعده،هل يجوز أن تدخل عليه(من) الّتي للاستغراق،فتقول:هل من قائم الزّيدون؟كما تقول:هل قائم الزّيدون؟و الظّاهر أنّه لا يجوز.أ لا ترى أنّه إذا جرى مجرى الفعل،لا يكون فيه عموم، خلافه إذا أدخلت عليه(من)،و لا أحفظ مثله في «لسان العرب»،و ينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلاّ بسماع من كلام العرب؟(7:299)

نحوه السّمين(5:459)،و ملخّصا الشّربينيّ(3:

312)،و أبو السّعود(5:271).

البروسويّ: أي هل خالق مغاير له تعالى موجود،أي لا خالق سواه على أنّ(خالق)مبتدأ محذوف الخبر،زيدت عليه(من)تأكيدا للعموم، و(غير الله)نعت له باعتبار محلّه،كما أنّه نعت له في قراءة الجرّ باعتبار لفظه.

قال في الأسئلة المفحمة:أيّ حجّة فيها على المعتزلة؟الجواب أنّه تعالى أخبر بأنّ لا خالق غيره، و هم يقولون:نحن نخلق أفعالنا.و قوله:(من)صلة،

ص: 539

و ذلك يقتضي غاية النّفي و الانتفاء.(7:317)

الآلوسيّ: لمّا كانت نعم اللّه تعالى مع تشعّب فنونها منحصرة في نعمة الإيجاد و نعمة الإبقاء،نفى سبحانه أن يكون في الوجود شيء غيره سبحانه يصدر عنه إحدى النّعمتين بطريق الاستفهام الّذي هو لإنكار التّصديق و تكذيب الحكم،قال عزّ و جلّ:

هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ، و(هل)تأتي لذلك كما في «المطوّل»و حواشيه.و قول الرّضيّ:إنّ(هل) لا تستعمل للإنكار،أراد به الإنكار على مدّعي الوقوع،كما في قوله تعالى: أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ الإسراء:40،و يلزمه النّفي و الإنكار على من أوقع الشّيء،كما في قولك:أ تضرب زيدا و هو أخوك؟أي هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو للعالم.على أنّ(خالق)مبتدأ محذوف الخبر،زيدت عليه(من)لتأكيد العموم،و(غير الله)صفة له باعتبار محلّه،و صحّت الوصفيّة به مع إضافته إلى أعرف المعارف،لتوغّله في التّنكير،فلا يكتسب تعريفا في مثل هذا التّركيب.

و جوّز أن يكون بدلا من(خالق)بذلك الاعتبار،و يعتبر الإنكار في حكم النّفي،ليكون غَيْرُ اللّهِ هو الخالق المنفيّ،و لأنّ المعنى على الاستثناء، أي لا خالق إلاّ اللّه تعالى،و البدليّة في الاستثناء ب(غير)إنّما تكون في الكلام المنفيّ و بهذا الاعتبار زيدت(من)عند الجمهور و صحّ الابتداء بالنّكرة.

و كذا جوّز أن يكون فاعلا ب(خالق،)لاعتماده على أداة الاستفهام،نحو:أ قائم زيد،في أحد وجهيه، و هو حينئذ سادّ مسدّ الخبر.

و تعقّبه أبو حيّان بقوله:فيه نظر،و هو أنّ اسم الفاعل أو ما يجري مجراه إذا اعتمد على أداة الاستفهام،و أجرى مجرى الفعل فرفع ما بعده هل يجوز أن تدخل عليه(من)الّتي للاستغراق،فيقال:هل من قائم الزّيدون؟كما تقول:هل قائم الزّيدون؟ و الظّاهر أنّه لا يجوز.أ لا ترى أنّه إذا أجرى مجرى الفعل لا يكون فيه عموم،بخلافه إذا دخلت عليه (من).و لا أحفظ مثله في«لسان العرب»و ينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا،إلاّ بسماع من كلامهم، و فيه أنّ شرط الزّيادة و الإعمال موجود،و لم يبد مانعا يعوّل عليه،فالتّوقّف تعنّت من غير توقّف.

و في«الكشف»:لا مانع من أن يكون(غير)خبرا، و منعه الشّهاب بأنّ المعنى ليس عليه.و قرأ ابن وثّاب و شقيق و أبو جعفر و زيد بن عليّ و حمزة و الكسائيّ (غير) بالخفض صفة ل(خالق)على اللّفظ،و هذا متعيّن في هذه القراءة،و لأنّ توافق القراءتين أولى من تخالفهما،كان الأظهر في القراءة الأولى كونه وصفا ل(خالق)أيضا.و قرأ الفضل بن إبراهيم النّحويّ (غير)بالنّصب على الاستثناء.[إلى أن قال:]

و جوّز أن يكون(خالق)فاعلا لفعل مضمر يفسّره المذكور،و الأصل:هل يرزقكم خالق؟و(من) زائدة في الفاعل.و تعقّب بأنّ ما في النّظم الجليل إن كان من باب:هل رجل عرف؟فقد صرّح السّكّاكيّ:

بقبح هذا التّركيب،لأنّ(هل)إنّما تدخل على الجملة الخبريّة،فلا بدّ من صحّتها قبل دخول(هل)و«رجل

ص: 540

عرف»لا يصحّ بدون اعتبار التّقديم و التّأخير،لعدم مصحّح الابتدائيّة سواه.[ثمّ أدام البحث في كلمة(هل) فلاحظ](22:165)

ابن عاشور :و الاستفهام إنكاريّ في معنى النّفي، و لذلك اقترن ما بعده ب(من)الّتي تزاد لتأكيد النّفي، و اختير الاستفهام ب(هل)دون الهمزة،لما في أصل معنى(هل)من الدّلالة على التّحقيق و التّصديق، لأنّها في الأصل بمعنى(قد)و تفيد تأكيد النّفي.

و الاهتمام بهذا الاستثناء قدّم في الذّكر قبل ما هو في قوّة المستثنى منه.و جعل صفة ل(خالق،)لأنّ (غير)صالحة للاعتبارين،و لذلك جرت القراءات المشهورة على اعتبار(غير)هنا وصفا ل(خالق.) فجمهور القرّاء قرءوه برفع (غير) على اعتبار محلّ (خالق)المجرور ب(من)،لأنّ محلّه رفع بالابتداء.

و إنّما لم يظهر الرّفع،للاشتغال بحركة حرف الجرّ الزّائد.و قرأه حمزة و الكسائيّ و أبو جعفر و خلف بالجرّ على اتّباع اللّفظ دون المحلّ،و هما استعمالان فصيحان في مثله،اهتمّ بالتّنبيه عليهما سيبويه في «كتابه».

و جملة(يرزقكم)يجوز أن تكون وصفا ثانيا ل(خالق،)و يجوز أن تكون استئنافا بيانيّا.

و جعل النّفي متوجّها إلى القيد-و هو جملة الصّفة،كما هي سنّته في الكلام المقيّد-لأنّ المقصود التّذكير بنعم اللّه تعالى ليشكروا،و يكون ذلك كناية عن الاستدلال على انتفاء وصف الخالقيّة عن غيره تعالى،لأنّه لو كان غيره خالقا لكان رازقا؛إذ الخلق بدون رزق قصور في الخالقيّة،لأنّ المخلوق بدون رزق لا يلبث أن يصير إلى الهلاك و العدم،فيكون خلقه عبثا ينزّه عنه الموصوف بالإلهيّة المقتضية للحكمة،فكانت الآية مذكّرة بنعمتي:الإيجاد و الإمداد.(22:113)

الطّباطبائيّ: لمّا قرّر في الآية السّابقة أنّ الإعطاء و المنع للّه سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد، احتجّ في هذه الآية بذلك على توحّده في الرّبوبيّة.

و تقرير الحجّة أنّ الإله إنّما يكون إلها معبودا لربوبيّته،و هي ملكه تدبير أمر النّاس و غيرهم، و الّذي يملك تدبير الأمر بهذه النّعم الّتي يتقلّب فيها النّاس و غيرهم و يرتزقون بها،هو اللّه سبحانه دون غيره من الآلهة الّتي اتّخذوها،لأنّه سبحانه هو الّذي خلقها دونهم،و الخلق لا ينفكّ عن التّدبير و لا يفارقه، فهو سبحانه إلهكم لا إله إلاّ هو،لأنّه ربّكم الّذي يدبّر أمركم بهذه النّعم الّتي تتقلّبون فيها،و إنّما كان ربّا مدبّرا بهذه النّعم،لأنّه خالقها و خالق النّظام الّذي يجري عليها.[إلى أن قال:]

و قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ الرّزق هو ما يمدّ به البقاء، و مبدؤه السّماء بواسطة الأشعّة و الأمطار و غيرهما، و الأرض بواسطة النّبات و الحيوان و غيرهما.

و بذلك يظهر أيضا أنّ في الآية إيجازا لطيفا،فقد بدّلت الرّحمة في الآية السّابقة نعمة في هذه الآية أوّلا، ثمّ النّعمة رزقا ثانيا،و كان مقتضى سياق الآيتين أن يقال:هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم، لكن بدّل ذلك من قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ ليكون

ص: 541

إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام،فإنّهم يرون تدبير العالم لآلهتهم بإذن اللّه،فلو قيل:هل من رازق أو منعم غير اللّه لم ينقطع الخصام،و أمكن أن يقولوا:نعم آلهتنا بتفويض التّدبير من اللّه إليهم،لكن لمّا قيل:

هَلْ مِنْ خالِقٍ أشير بالوصف إلى أنّ الرّازق و المدبّر هو خالق الرّزق لا غير،فانقطع الخصام، و لم يمكنهم إلاّ أن يجيبوا بنفي خالق غير اللّه يرزقهم من السّماء و الأرض.(17:15)

الخالق

هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى... الحشر:24

ابن عبّاس: (الخالق)للنّطف في أصلاب الآباء.(466)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:هو المعبود الخالق، الّذي لا معبود تصلح له العبادة غيره،و لا خالق سواه.

(12:54)

الثّعلبيّ: (الخالق:)المقدّر المقلّب للشّيء بالتّدبير إلى غيره،كما قال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ الزّمر:6،و قال: خَلَقَكُمْ أَطْواراً نوح:14.(9:288)

الماورديّ: فيه وجهان:

أحدهما:أنّه المحدث للأشياء على إرادته.

الثّاني:أنّه المقدّر لها بحكمته.(5:514)

الطّوسيّ: يعني للأجسام و الأعراض المخصوصة

(9:574)

نحوه الطّبرسيّ.(5:267)

القشيريّ: هو المنشئ للأعيان و الآثار.

(6:136)

الزّمخشريّ: المقدّر لما يوجده.(4:87)

مثله النّسفيّ.(4:245)

الفخر الرّازيّ: و الخلق هو التّقدير،معناه:أنّه يقدّر أفعاله على وجوه مخصوصة،فالخالقيّة راجعة إلى صفة الإرادة.(29:294)

نحوه الخازن.(7:61)

القرطبيّ: قوله تعالى: هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ (الخالق)هنا:المقدّر.و(البارئ:) المنشئ المخترع،و(المصور:)مصوّر الصّور و مركّبها على هيئات مختلفه.فالتّصوير مرتّب على الخلق و البراية (1)،و تابع لهما.و معنى التّصوير التّخطيط و التّشكيل.و خلق اللّه الإنسان في أرحام الأمّهات ثلاث خلق:جعله علقة،ثمّ مضغة،ثمّ جعله صورة،و هو التّشكيل الّذي يكون به صورة و هيئة يعرف بها و يتميّز عن غيره بسمتها،.فتبارك اللّه أحسن الخالقين.و قال النّابغة:

الخالق البارئ المصوّر في الأ

رحام ماء حتّى يصير دما

و قد جعل بعض النّاس الخلق بمعنى التّصوير، و ليس كذلك،و إنّما التّصوير آخرا و التّقدير أوّلا، و البراية بينهما.و منه قول الحق: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ

ص: 542


1- البراية:النّحت.

اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ المائدة:110.(18:48)

البيضاويّ: المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته

(2:468)

مثله أبو السّعود(6:232)،و الشّربينيّ(4:258)، و الشّوكانيّ(5:256)،و المشهديّ(10:361)، و القاسميّ(16:5754).

ابن كثير :الخلق:التّقدير،و البرء:هو الفري، و هو التّنفيذ و إبراز ما قدّره و قرّره إلى الوجود، و ليس كلّ من قدّر شيئا و رتّبه يقدر على تنفيذه و إيجاده سوى اللّه عزّ و جلّ.(6:617)

الكاشانيّ: كلّما يخرج من العدم إلى الوجود فيفتقر إلى تقدير أوّلا،و إلى (1)الإيجاد على وفق التّقدير ثانيا،و إلى التّصوير بعد الإيجاد ثالثا،فاللّه سبحانه هو الخالق البارئ المصوّر بالاعتبارات الثّلاثة.(5:160)

البروسويّ: هُوَ اللّهُ الْخالِقُ أي المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته و وفق مشيئته،فإنّ أصل معنى الخلق:التّقدير،كما يقال:خلق النّعل،إذا قدّرها و سوّاها بمقياس،و إن شاع في معنى الإيجاد على تقدير و استواء،و سواء كان من مادّة كخلق الإنسان من نطفة و نحوه،أو من غير مادّة كخلق السّماوات و الأرض.و الخالق:هو الّذي يقدّر الأشياء على وفق مراد الحقّ لتجلّيه له بوصف الخلق و التّقدير،فلا يقدّر إلاّ بتقديره تعالى.و خاصيّة هذا الاسم أن يذكر في جوف اللّيل ساعة فما فوقها،فيتنوّر قلب ذاكره و وجهه.

و فى الأربعين الإدريسيّة:خالق من في السّماوات و من في الأرض،و كلّ إليه معاده.

قال السّهرورديّ: يذكر لجمع الضّائع الغائب البعيد الغيبة خمسة آلاف مرّة.(9:466)

الآلوسيّ: المقدّر للأشياء على مقتضى الحكمة، أو مبدع الأشياء من غير أصل و لا احتذاء،و يفسّر الخلق بإيجاد الشّيء من الشّيء.(28:64)

المراغيّ: أي هو اللّه الخالق لجميع الأشياء المبرز لها إلى عالم الوجود على الصّفة الّتي أرادها،كما قال:

فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ الانفطار:8.(28:58)

سيّد قطب : اَلْخالِقُ الْبارِئُ و الخلق:التّصميم و التّقدير،و البرء:التّنفيذ و الإخراج،فهما صفتان متّصلتان،و الفارق بينهما لطيف دقيق.

(المصور)و هي كذلك صفة مرتبطة بالصّفتين قبلها،و معناها:إعطاء الملامح المتميّزة،و السّماء الّتي تمنح لكلّ شيء شخصيّته الخاصّة.

و توالي هذه الصّفات المترابطة اللّطيفة الفروق، يستجيش القلب لمتابعة عمليّة الخلق و الإنشاء و الإيجاد و الإخراج مرحلة مرحلة،حسب التّصوّر الإنسانيّ،فأمّا في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل و لا خطوات.و ما نعرفه عن مدلول هذه الصّفات ليس هو حقيقتها المطلقة،فهذه لا يعرفها إلاّ اللّه.إنّما نحن ندرك شيئا من آثارها،هو الّذي نعرفها به في حدود طاقاتنا الصّغيرة.(6:3533)».

ص: 543


1- و في الأصل:«و على».

ابن عاشور:و جملة اَللّهُ الْخالِقُ تفيد قصرا بطريق تعريف جزأي الجملة،هو الخالق لا شركاؤهم.

و هذا إبطال لإلهيّة ما لا يخلق.قال تعالى: وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ النّحل:20،و قال: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ النّحل:17،و إن كان عائدا على اسم الجلالة المتقدّم،فاسم الجلالة بعده خبر عنه، و(الخالق)صفة.

و(الخالق)اسم فاعل من الخلق،و أصل الخلق في اللّغة:إيجاد شيء على صورة مخصوصة.و قد تقدّم عند قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ آل عمران:49،و يطلق الخلق على معنى أخصّ من إيجاد الصّور و هو إيجاد ما لم يكن موجودا.كقوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ق:38،و هذا هو المعنى الغالب من إطلاق اسم اللّه تعالى:(الخالق.)

قال في«الكشّاف»:المقدّر لما يوجده.و نقل عنه في بيان مراده بذلك أنّه قال:«لمّا كانت إحداثات اللّه مقدّرة بمقادير الحكمة،عبّر عن إحداثه بالخلق»، انتهى.يشير إلى أنّ(الخالق)في صفة اللّه بمعنى المحدث الأشياء عن عدم،و بهذا يكون الخلق أعمّ من التّصوير،و يكون ذكر(البارئ)و(المصور)بعد (الخالق)تنبيها على أحوال خاصّة في الخلق.قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ الأعراف:11، على أحد التّأويلين...

و قال أبو بكر ابن العربيّ في«عارضة الأحوذيّ» على«سنن التّرمذيّ»:(الخالق:)المخرج الأشياء من العدم إلى الوجود المقدّر لها على صفاتها،فخلط بين المعنيين،ثمّ قال:«ف(الخالق)عامّ،و(البارئ) أخصّ منه،و(المصور)أخصّ من الأخصّ».و هذا قريب من كلام صاحب الكشّاف.

و قال الغزّاليّ في«المقصد الأسنى»: اَلْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ قد يظنّ أنّ هذه الأسماء مترادفة، و لا ينبغي أن يكون كذلك،بل كلّ ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى تقدير أوّلا،و إلى الإيجاد على وفق التّقدير ثانيا،و إلى التّصوير بعد الإيجاد ثالثا، و اللّه خالق من حيث إنّه مقدّر،و بارئ من حيث إنّه مخترع موجود (1)،و مصوّر من حيث إنّه مرتّب صور المخترعات أحسن ترتيب،انتهى.فجعل المعاني متلازمة،و جعل الفرق بينها بالاعتبار،و لا أحسبه ينطبق على مواقع استعمال هذه الأسماء.(28:110)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ إلى آخر الآية،(الخالق)هو الموجد للأشياء عن تقدير،و(البارئ)المنشئ للأشياء ممتازا بعضها من بعض،و(المصور)المعطي لها صورا يمتاز بها بعضها من بعض،و الأسماء الثّلاثة تتضمّن معنى الإيجاد باعتبارات مختلفة،و بينها ترتّب:

فالتّصوير فرع البرء،و البرء فرع الخلق،و هو ظاهر.

و إنّما صدر الآيتين السّابقتين بقوله: اَلَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فوصف به(الله)و عقّبه بالاسماء بخلافه.

ص: 544


1- كذا و الظّاهر:موجده.

هذه الآية إذ قال: هُوَ اللّهُ الْخالِقُ إلخ.لأنّ الأسماء الكريمة المذكورة في الآيتين السّابقتين و هي أحد عشر اسما من لوازم الرّبوبيّة و مالكيّة التّدبير الّتي تتفرّع عليها الألوهيّة و المعبوديّة بالحقّ،و هي على نحو الأصالة و الاستقلال للّه سبحانه وحده لا شريك له في ذلك فاتّصافه تعالى وحده بها يستوجب اختصاص الألوهيّة و استحقاق المعبوديّة به تعالى.

فالأسماء الكريمة بمنزلة التّعليل،لاختصاص الألوهيّة به تعالى كأنّه قيل:لا إله إلاّ هو،لأنّه عالم الغيب و الشّهادة هو الرّحمن الرّحيم،و لذا أيضا ذيّل هذه الأسماء بقوله ثناء عليه: سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ ردّا على القول بالشّركاء كما يقوله المشركون.

و أمّا قوله: هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ فالمذكور فيه من الأسماء يفيد معنى الخلق و الإيجاد، و اختصاص ذلك به تعالى لا يستوجب اختصاص الألوهيّة به،كما يدلّ عليه أنّ الوثنيّين قائلون باختصاص الخلق و الإيجاد به تعالى،و هم مع ذلك يدعون من دونه أربابا و آلهة و يثبتون له شركاء.

(19:222)

فضل اللّه :الّذي قدّر كلّ شيء و أبدعه.

(22:137)

الخالقون-الخالقين

لاحظ:«خلقوا»الطّور:35،و«خلقنا» المؤمنون:14.

الخلاّق

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ الحجر:86

ابن عبّاس: الباعث لمن آمن به و لمن لم يؤمن به.

(220)

لاحظ:ع ل م:«العليم».

خلق

1- وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ.... النّساء:119

ابن مسعود:لعن اللّه المتفلّجات و المتنمّصات و المستوشمات المغيّرات خلق اللّه.

[و في رواية]لعن اللّه الواشرات و المستوشمات و المتنمّصات و المتفلّجات للحسن المغيّرات خلق اللّه.

(الطّبريّ 4:284)

ابن عبّاس: دين اللّه.(80)

مثله النّخعيّ،و مجاهد،و عكرمة،و الضّحّاك، و قتادة،و السّدّيّ،و ابن زيد،و ابن أبي بزة.

(الطّبريّ 4:283،284)

إخصاء البهائم مثلة.(الطّبريّ 4:282)

شهر بن حوشب:الخصاء.

مثله عكرمة،و أبو صالح،و أنس.

(الطّبريّ 4:282)

عكرمة :هو الإخصاء.

مثله أبو صالح.(الطّبريّ 4:282)

الحسن :الوشم.(الطّبريّ 4:284)

الرّبيع:من تغيير خلق اللّه،الإخصاء.

(الطّبريّ 4:282)

ص: 545

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في معنى قوله:

فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ فقال بعضهم:معنى ذلك:

و لآمرنّهم فليغيّرنّ خلق اللّه من البهائم،بإخصائهم إيّاها.

عن ابن عبّاس:أنّه كره الإخصاء،و قال:فيه نزلت: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ...

عن القاسم بن أبي بزة قال:قال لي مجاهد:سل عنها عكرمة: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ، فسألته،فقال:

الإخصاء.قال مجاهد:ما له،لعنه اللّه.فو اللّه لقد علم أنّه غير الإخصاء،ثمّ قال:سله،فسألته،فقال عكرمة:

أ لم تسمع إلى قول اللّه تبارك و تعالى: فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ الرّوم:30؟ قال:لدين اللّه،فحدّثت به مجاهدا فقال:ما له أخزاه اللّه.

و قال آخرون:معنى ذلك:و لآمرنّهم فليغيّرنّ دين اللّه.

و قال آخرون:معنى ذلك: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ بالوشم.

حدّثنا أبو هلال الرّاسبيّ قال:سأل رجل الحسن:

ما تقول في امرأة قشرت وجهها؟قال:ما لها،لعنها اللّه غيّرت خلق اللّه.

و أولى الأقوال بالصّواب في تأويل ذلك،قول من قال:معناه: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ، قال:دين اللّه.و ذلك لدلالة الآية الأخرى على أنّ ذلك معناه، و هي قوله: فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها...

و إذا كان ذلك معناه،دخل في ذلك فعل كلّ ما نهى اللّه عنه:من خصاء ما لا يجوز خصاؤه،و وشم ما نهى عن وشمه و وشره،و غير ذلك من المعاصي،و دخل فيه ترك كلّ ما أمر اللّه به،لأنّ الشّيطان لا شكّ أنّه يدعو إلى جميع معاصي اللّه و ينهى عن جميع طاعته،فذلك معنى أمره نصيبه المفروض من عباد اللّه،بتغيير ما خلق اللّه من دينه.

فلا معنى لتوجيه من وجّه قوله: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ، إلى أنّه وعد الآمر بتغيير بعض ما نهى اللّه عنه دون بعض،أو بعض ما أمر به دون بعض.

فإن كان الّذي وجّه معنى ذلك إلى الخصاء و الوشم دون غيره،إنّما فعل ذلك لأنّ معناه كان عنده أنّه عنى به تغيير الأجسام،فإنّ في قوله جلّ ثناؤه إخبارا عن قيل الشّيطان: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ، ما ينبئ أنّ معنى ذلك على غير ما ذهب إليه،لأنّ تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق اللّه الّذي هو أجسام.و قد مضى الخبر عنه أنّه وعد الآمر بتغيير خلق اللّه من الأجسام مفسّرا،فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملا،إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسّر،و بالخاصّ عن العامّ، دون التّرجمة عن المفسّر بالمجمل،و بالعامّ عن الخاصّ.

و توجيه كتاب اللّه إلى الأفصح من الكلام أولى من توجيهه إلى غيره،ما وجد إليه السّبيل.(4:281)

الزّجّاج: قيل:إنّ معناه:أنّ اللّه خلق الأنعام ليركبوها و يأكلوها،فحرّموها على أنفسهم،و خلق الشّمس و القمر و الأرض و الحجارة سخرة للنّاس ينتفعون بها فعبدها المشركون،فغيّروا خلق اللّه،أي

ص: 546

دين اللّه،لأنّ اللّه فطر الخلق على الإسلام،خلقهم من بطن آدم كالذّرّ،و أشهدهم أنّه ربّهم فآمنوا،فمن كفر فقد غيّر فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها.(2:110)

الطّوسيّ: اختلفوا في معناه[فذكر الأقوال ثمّ قال:]

و أقوى الأقوال من قال: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ، بمعنى دين اللّه،بدلالة قوله: فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها... و يدخل في ذلك جميع ما قاله المفسّرون،لأنّه إذا كان ذلك خلاف الدّين فالآية تتناوله.(3:334)

نحوه الطّبرسيّ.(2:113)

البغويّ: [ذكر الأقوال من دون ترجيح](1:703)

الزّمخشريّ: و تغييرهم خلق اللّه:فقء عين الحامي،و إعفاؤه عن الرّكوب.

و قيل:الخصاء،و هو في قول عامّة العلماء مباح في البهائم،و أمّا في بني آدم فمحظور.و عند أبي حنيفة:

يكره شراء الخصيان و إمساكهم و استخدامهم،لأنّ الرّغبة فيهم تدعو إلى خصائهم.

و قيل:فطرة اللّه الّتي هي دين الإسلام.و قيل للحسن:إنّ عكرمة يقول:هو الخصاء،فقال:كذب عكرمة هو دين اللّه.

و عن ابن مسعود:هو الوشم،و عنه:«لعن اللّه الواشرات و المتنمّصات و المستوشمات المغيّرات خلق اللّه».

و قيل:التّخنّث.(1:564)

نحوه أبو السّعود.(2:198)

ابن عطيّة:و اختلف في معنى تغيير خلق اللّه [و ذكر الأقوال بنحو ما سبق إلى أن قال:]

و ملاك تفسير هذه الآية أنّ كلّ تغيير ضارّ فهو في الآية،و كلّ تغيير نافع فهو مباح.(2:114)

نحوه القرطبيّ.(5:394)

الفخر الرّازيّ: و للمفسّرين هاهنا:قولان:

الأوّل:أنّ المراد من تغيير خلق اللّه:تغيير دين اللّه، و هو قول سعيد بن جبير و سعيد بن المسيّب و الحسن و الضّحّاك و مجاهد و السّدّيّ و النّخعيّ و قتادة،و في تقرير هذا القول وجهان:

الأوّل:أنّ اللّه تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذّرّ،و أشهدهم على أنفسهم أنّه ربّهم و آمنوا به،فمن كفر فقد غيّر فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها،و هذا معنى قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«كلّ مولود يولد على الفطرة و لكن أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه».

و الوجه الثّاني في تقرير هذا القول:أنّ المراد من تغيير دين اللّه،هو تبديل الحلال حراما أو الحرام حلالا.

القول الثّاني:حمل هذا التّغيير على تغيير أحوال كلّها تتعلّق بالظّاهر،و ذكروا فيه وجوها:

الأوّل:قال الحسن:المراد ما روى عبد اللّه بن مسعود عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«لعن اللّه الواصلات و الواشمات» قال:و ذلك لأنّ المرأة تتوصّل بهذه الأفعال إلى الزّنى.

الثّاني:روي عن أنس و شهر بن حوشب و عكرمة و أبي صالح:أنّ معنى تغيير خلق اللّه هاهنا:هو

ص: 547

الإخصاء و قطع الآذان و فقء العيون،و لهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم،و كانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوّروا عين فحلها.

الثّالث:قال ابن زيد:هو التّخنّث،و أقول:يجب إدخال السّحّاقات في هذه الآية على هذا القول،لأنّ التّخنّث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى،و السّحق عبارة عن أنثى تشبه الذّكر.

الرّابع:حكى الزّجّاج عن بعضهم[و ذكر ما سبق ثمّ قال:]

هذا جملة كلام المفسّرين في هذا الباب،و يخطر ببالي هاهنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى؛و ذلك لأنّ دخول الضّرر و المرض في الشّيء يكون على ثلاثة أوجه:التّشوّش،و النّقصان، و البطلان.فادّعى الشّيطان-لعنه اللّه-إلقاء أكثر الخلق في مرض الدّين،و ضرر الدّين،هو قوله: وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ ثمّ إنّ هذا المرض لا بدّ و أن يكون على أحد الأوجه الثّلاثة الّتي ذكرناها،و هي التّشوّش و النّقصان و البطلان.

فأمّا التّشوّش فالإشارة إليه بقوله:

وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ و ذلك لأنّ صاحب الأمانيّ يشغل عقله و فكره في استخراج المعاني الدّقيقة و الحيل و الوسائل اللّطيفة،في تحصيل المطالب الشّهوانيّة و الغضبيّة،فهذا مرض روحانيّ من جنس التّشوّش.

و أمّا النّقصان فالإشارة إليه بقوله: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ و ذلك لأنّ بتك الآذان نوع نقصان،و هذا لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدّنيا،صار فاتر الرّأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة.

و أمّا البطلان فالإشارة إليه بقوله: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ و ذلك لأنّ التّغيير يوجب بطلان الصّفة الحاصلة في المدّة الأولى،و من المعلوم أنّ من بقي مواظبا على طلب اللّذّات العاجلة معرضا عن السّعادات الرّوحانيّة،فلا يزال يزيد في قلبه الرّغبة في الدّنيا و النّفرة عن الآخرة،و لا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغيّر القلب بالكلّيّة فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتّة،و لا يزول عن خاطره حبّ الدّنيا البتّة،فتكون حركته و سكونه و قوله و فعله لأجل الدّنيا؛و ذلك يوجب تغيير الخلقة،لأنّ الأرواح البشريّة إنّما دخلت في هذا العالم الجسمانيّ على سبيل السّفر،و هي متوجّهة إلى عالم القيامة،فإذا نسيت معادها و ألفت هذه المحسوسات الّتي لا بدّ من انقضائها و فنائها،كان هذا بالحقيقة تغييرا للخلقة، و هو كما قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ الحشر:19،و قال: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحجّ:46.(11:48)

نحوه النّيسابوريّ.(5:148)

أبو حيّان :[نقل بعض أقوال المفسّرين ثمّ قال:]

قيل:تغيير خلق اللّه،هو أنّ كلّ ما يوجده اللّه لفضيلة فاستعان به في رذيلة،فقد غيّر خلقه.و قد دخل في عمومه ما جعله اللّه تعالى للإنسان من شهوة الجماع،ليكون سببا للتّناسل على وجه مخصوص،

ص: 548

فاستعان به في السّفاح و اللّواط؛فذلك تغيير خلق اللّه.

و كذلك المخنّث إذا نتف لحيته،و تقنّع تشبّها بالنّساء، و الفتاة إذا ترجّلت متشبّهة بالفتيان.و كلّ ما حلّله اللّه فحرّموه،أو حرّمه تعالى فحلّلوه.و على ذلك: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً يونس:59،و إلى هذه الجملة أشار المفسّرون،و لهذا قالوا:هو تغيير أحكام اللّه.و قيل:هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النّفي.و قيل:خضاب الشّيب بالسّواد.و قيل:معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان،و شقّ المناخر،و سمل العيون،و قطع الأنثيين.

و من فسّر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك ممّا هو خاصّ في التّغيير،فإنّما ذلك على جهة التّمثيل لا الحصر.و في حديث عياض المجاشعيّ: «و إنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم،و إنّ الشّياطين ألتهم و أحالتهم عن دينهم،فحرّمت عليهم ما أحللت لهم، و أمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، و أمرتهم أن لا يغيّروا خلقي».(3:353)

الشّربينيّ: أي:فطرة اللّه الّتي هي دين الإسلام بالكفر و إحلال ما حرّم اللّه،و تحريم ما أحلّ اللّه، و يدخل في ذلك اللّواط و السّحر،و الوشم:-و هو أن يغرز الجلد بإبرة و يحشي بنحو نيلة-،و الوشر:- و هو أن تحدّ المرأة أسنانها و ترقّقها-،و نحو ذلك، و كالخصاء،و هو حرام في بني آدم.قال الزّمخشريّ:

و عند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان و إمساكهم و استخدامهم،لأنّ الرّغبة فيهم تدعو إلى خصائهم.

و أمّا في البهائم فيجوز في المأكول الصّغير،و يحرم في غيره.(1:333)

البروسويّ: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ عن نهجه صورة و صفة[ثمّ ذكر مصاديق التّغيير:منها:فقء عين الحامى،خصاء العبيد،الوشم،الوشر،التّنمّص، السّحق،اللّواطة،و عبادة الشّمس و القمر.]

(2:288)

الآلوسيّ: [نقل أقوال المفسّرين ثمّ قال:]

و خصّ من تغيير خلق اللّه تعالى الختان و الوشم لحاجة و خضب اللّحية و قصّ ما زاد منها على السّنّة و نحو ذلك.و عن قتادة أنّه قرأ الآية ثمّ قال:ما بال أقوام جهلة يغيّرون صبغة اللّه تعالى و لونه سبحانه.

و لا يكاد يسلّم له إن أراد ما يعمّ الخضاب المسنون كالخضاب بالحنّاء بل و بالكتم أيضا لإرهاب العدوّ.

(5:150)

رشيد رضا :تغيير خلق اللّه و سوء التّصرّف فيه عامّ،يشمل التّغيير الحسّيّ كالخصاء،و قد رووا تفسيره بالخصاء عن ابن عبّاس و أنس بن مالك و غيرهما-فليعتبر به من يطعنون في الإسلام نفسه باتّخاذ ملوك المسلمين و أمرائهم للخصيان و يظنّون أنّ خصيّهم جائز في هذا الدّين-و يشمل سائر أنواع التّشويه و التّمثيل بالنّاس الّذي حرّمه الشّرع.و إذا كان قد حرّم تبتيك آذان الأنعام،فكيف لا يحرّم سمل أعين النّاس و صلم آذانهم و جدع أنوفهم و ما أشبه ذلك،ممّا كان يفعله بعض الملوك و الأمراء الظّالمين بغير حقّ و لا حجّة؟

ص: 549

و يشمل التّغيير المعنويّ،و قد روي عن ابن عبّاس و غيره أنّ المراد هنا:بخلق اللّه دينه،لأنّه دين الفطرة و هي الخلقة،قال تعالى: فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها... و روي أيضا تفسير تغيير خلق اللّه بوشم الأبدان و وشر الأسنان،و كلّ منهما يقصد به الزّينة.

و في الحديث:«لعن اللّه الواشمة و المستوشمة».و لعلّ سبب التّشديد فيه إفراطهم فيه حتّى يصل إلى درجة التّشويه بجعل معظم البدن،و لا سيّما الظّاهر منه، كالوجه و اليدين أزرق بهذا النّقش القبيح.و كان النّاس و لا يزالون يجعلون منه صورا للمعبودات و غيرها،كما يرسم النّصارى به الصّليب على أيديهم و صدورهم.

و أمّا وشر الأسنان بتحديدها و أخذ قليل من طولها إذا كانت،فلا يظهر فيه معنى التّغيير المشوّه بل هو إلى تقليم الأظافر و تقصير الشّعر أقرب،و لو لا أنّ الشّعر و الأظافر تطول دائما و لا تطول الأسنان لما كان ثمّ فرق.

و جملة القول:أنّ التّغيير الصّوريّ الّذي يجدر بالذّمّ و يعدّ من إغراء الشّيطان،هو ما كان فيه تشويه، و إلاّ لما كان من السّنّة الختان و الخضاب و تقليم الأظافر.

الأستاذ الإمام:«جرى قليل من المفسّرين على أنّ المراد بتغيير خلق اللّه،تغيير دينه،و ذهب بعضهم إلى أنّه التّغيير الحسّيّ و بعضهم إلى أنّه التّغيير المعنويّ، و بعضهم إلى ما يشملهما.و قال كثير منهم:إنّ المراد تغيير الفطرة الإنسانيّة بتحويل النّفس عمّا فطرت عليه،من الميل إلى النّظر و الاستدلال و طلب الحقّ، و تربيتها على الأباطيل و الرّذائل و المنكرات،فاللّه سبحانه قد أحسن كلّ شيء خلقه و هؤلاء يفسدون ما خلق و يطمسون عقول النّاس»،انتهى.

أقول:إنّ هذا القول هو بمعنى القول بأنّ المراد تغيير الدّين،لأنّ من قالوا:إنّه تغيير الدّين استدلّوا بآية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الرّوم:30،كما ذكرنا ذلك آنفا،و الدّين الفطريّ الّذي هو من خلق اللّه و آثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام الّتي جاء بها الرّسل عليه السّلام،فإنّ هذه الأحكام من كلام اللّه الّذي أوحاه إليهم ليبلّغوه و يبيّنوه للنّاس،لا ممّا خلقه في أنفس النّاس و فطرهم عليه.و قد بيّنّا الدّين الفطريّ في غير هذا الموضع،و معنى كون الإسلام دين الفطرة.

و حديث:«كلّ مولود يولد على الفطرة».و قد أشار الأستاذ الإمام إلى ذلك بما نقلناه عنه آنفا،من كون الإنسان فطر على طلب الحقّ و الاستدلال،و الأخذ بما يظهر له بالدّليل أنّه الحقّ أو الخير،إن لم يكن ظاهرا بالبداهة.و من أصول الدّين و أسسه الفطريّة العبوديّة للسّلطة الغيبيّة الّتي تنتهي إليها الأسباب، و تقف دون اكتناه حقيقتها العقول،أي لمصدر هذه السّلطة و التّصرّف في الكائنات كلّها،و هو اللّه عزّ و جلّ.

و كان أكبر و أشدّ مفسدات الفطرة حصر تلك السّلطة العليا في بعض المخلوقات الّتي يستكبرها الإنسان،و يعيا في فهم حقيقتها بادئ الرّأي و إن كان فهمها و علمها ممكنا في نفسه لو جاءه طالبه من

ص: 550

طريقه،و هذا هو أصل الشّرك،و قد بيّنّاه آنفا في تفسير إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ النّساء:48،و في مواضع أخرى.

و يتلو هذا الفساد و الإفساد التّقليد الّذي يمدّه و يؤيّده و يحول بين العقول الّتي كمّل اللّه بها فطرة البشر،و بيّن عملها الّذي خلقت لأجله،و هو النّظر و الاستدلال لأجل التّوصّل إلى معرفة الحقّ و الخير، و ترجيح الحقّ و الخير متى تبيّنّا له على ما يقابلهما.

(5:428)

سيّد قطب :و من تغيير خلق اللّه و فطرته بقطع بعض أجزاء الجسد،أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان،كخصاء الرّقيق،و وشم الجلود و ما إليها من التّغيير و التّشويه الّذي حرّمه الإسلام.(2:761)

ابن عاشور :و قوله: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهليّة من تغيير خلق اللّه لدواع سخيفة.فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام،مثل فقء عين الحامي،و هو البعير الّذي حمى ظهره من الرّكوب لكثرة ما أنسل،و يسيّب للطّواغيت.و منه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشم إذا أرادوا به التّزيّن،و هو تشويه،و كذلك وسم الوجوه بالنّار.

و يدخل في معنى تغيير خلق اللّه وضع المخلوقات في غير ما خلقها اللّه له،و ذلك من الضّلالات الخرافيّة، كجعل الكواكب آلهة،و جعل الكسوفات و الخسوفات دلائل على أحوال النّاس،و يدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام،الّذي هو دين الفطرة، و الفطرة خلق اللّه،فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق اللّه.

و ليس من تغيير خلق اللّه التّصرّف في المخلوقات بما أذن اللّه فيه،و لا ما يدخل في معنى الحسن،فإنّ الختان من تغيير خلق اللّه،و لكنّه لفوائد صحّيّة.

و كذلك حلق الشّعر لفائدة دفع بعض الأضرار، و تقليم الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي،و كذلك ثقب الآذان للنّساء لوضع الأقراط و التّزيّن،و أمّا ما ورد في السّنّة من لعن الواصلات و المتنمّصات و المتفلّجات للحسن،فممّا أشكل تأويله.

و أحسب تأويله أنّ الغرض منه النّهي عن سمات كانت تعدّ من سمات العواهر في ذلك العهد،أو من سمات المشركات،و إلاّ فلو فرضنا هذه منهيّا عنها لما بلغ النّهي إلى حدّ لعن فاعلات ذلك.و ملاك الأمر أنّ تغيير خلق اللّه إنّما يكون إذا كان فيه حظّ من طاعة الشّيطان،بأن يجعل علامة لنحلة شيطانيّة،كما هو سياق الآية و اتّصال الحديث بها.و قد أوضحنا ذلك في كتابي المسمّى:«النّظر الفسيح على مشكل الجامع الصّحيح».(4:258)

الطّباطبائيّ: و لآمرنّهم بتغيير خلق اللّه،و ينطبق على مثل:الإخصاء و أنواع المثلة و اللّواط و السّحق.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق اللّه:

الخروج عن حكم الفطرة و ترك الدّين الحنيف،قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ...

(5:85)

مكارم الشّيرازيّ: ثمّ تذكر الآية التّالية أنّ

ص: 551

الشّيطان قد أقسم على أن ينفّذ بعضا من خططه:

أوّلها:أن يأخذ من عباد اللّه نصيبا معيّنا،حيث تقول الآية حاكية قول الشّيطان: وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً النّساء:118،فالشّيطان يعلم بعجزه عن إغواء جميع عباد اللّه،لأنّ من يستسلم لإرادة الشّيطان و يخضع له هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء و النّزوات،و الّذين لا إيمان لهم،أو ضعاف الإيمان.

و الثّانية:خطط الشّيطان تلخّصها الآية بعبارة:

وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ.

و الثّالثة:أشغلهم بالأمنيّات العريضة و طول الأمل وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ.

أمّا الخطّة الرّابعة:ففيها يدعو الشّيطان أتباعه إلى القيام بأعمال خرافيّة،مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات،كما جاء في الآية: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ و هذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال الّتي كان يرتكبها الجاهليّون المشركون؛حيث كانوا يقطعون أو يخرقون آذان بعض المواشي،و كانوا يحرّمون على أنفسهم ركوبها بل يحرّمون أيّ نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.

و خامس:الخطط الّتي أقسم الشّيطان أن ينفّذها ضدّ الإنسان،هي ما ورد على لسانه في الآية؛إذ تقول: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ. و هذه الجملة تشير إلى أنّ اللّه قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقه إيّاه النّزعة إلى التّوحيد و عبادة الواحد الأحد، بالإضافة إلى بقيّة الصّفات و الخصال الحميدة الأخرى،و لكن وساوس الشّيطان و الانجراف وراء الأهواء و النّزوات،تبعّد الإنسان عن الطّريق المستقيم الصّحيح،و تحرّفه إلى الطّرق المعوّجة الشّاذّة.

و الشّاهد على القول أيضا الآية:30،من سورة الرّوم؛إذ تقول: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً...

و نقل عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه فسّره بأنّ القصد من التّغيير المذكور في هذه الآية من سورة النّساء،هو تغيير فطرة الإنسان و حرفها عن التّوحيد و عن أمر اللّه.

و هذا الضّرر الّذي لا يمكن التّعويض عنه،يلحقه الشّيطان بأساس سعادة الإنسان،لأنّه يعكس له الحقائق،و الوقائع و يستبدلها بمجموعة من الأوهام و الخرافات و الوساوس الّتي تؤدّي إلى تغيير السّعادة بالشّقاء للنّاس.و قد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كلّيّا، و هو أنّ أيّ إنسان يعبد الشّيطان و يجعله لنفسه وليّا من دون اللّه،فقد ارتكب إثما و ذنبا واضحا؛إذ تقول الآية: وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً.

و الآية الّتي تلت هذه الآية جاءت ببعض النّقاط بمثابة الدّليل على ما جاءت به الآية السّابقة؛حيث ذكرت أنّ الشّيطان يستمرّ في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك؛و يمنّيهم الأمنيّات الطّوال العراض،و لكنّه لا يفعل شيئا بالنّسبة لهؤلاء غير الإغواء و الخداع يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً النّساء:120.

و بيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة

ص: 552

مصير اتّباع الشّيطان،بأنّهم ستكون نتيجتهم السّكنى في جهنّم الّتي لا يجدون منها مفرّا أبدا،فتقول الآية:

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً النّساء:121.(3:405)

فضل اللّه :فسّر ذلك بالتّغيير الجسديّ،و اعتبر حلق اللّحية أحد مصاديقه،و جعلت هذه الآية دليلا لحرمته.و قيل:إنّ من مصاديقه الخصاء الّذي كان يستعمل للعبيد حتّى يدخلوا على النّساء من دون حرج.و فسّره البعض بأنّه التّغيير المعنويّ،و هو تغيير الفطرة الّتي فطر اللّه النّاس عليها و هي التّوحيد، انطلاقا من قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ...، و ذلك بإبعادهم عنها في ما يعتقدون و ما يعملون،و ما يتّصفون به من أخلاق.

و قد جاء في تفسير العيّاشيّ بإسناده عن أبي عبد اللّه جعفر الصّادق عليه السّلام قال:أمر اللّه بما أمر به،و عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السّلام قال:دين اللّه.

و يناقش المنكرون لتخصيصها بالتّغيير الجسديّ، أنّ الآية لم تتحدّث عن تغيير جسم الإنسان،بل تحدّثت عن تغيير خلق اللّه.فإذا أريد منه المعنى المادّيّ، فيلزم حرمة تغيير كلّ ما خلقه اللّه،من النّبات و الحيوان و الجماد و الإنسان،و هو أمر مقطوع البطلان، لجواز التّغيير في أكثر ذلك.فإذا التزمنا بالتّخصيص، لزم تخصيص الأكثر.و على ضوء هذا،فلا مانع من تحويل الإنسان من جنس إلى آخر،كتغيير الذّكر إلى أنثى و العكس،لأنّه باق على أصل الإباحة،و تفصيل ذلك في كتب الفقه.(7:469)

2- وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ... الرّعد:5

ابن عبّاس: يجدّد بعد الموت و فناء الرّوح.

(205)

ابن زيد :أ و لا يرون أنّا خلقناهم من نطفة؟ فالخلق من نطفة أشدّ أم الخلق من تراب و عظام؟

(الطّبريّ 7:339)

الطّبريّ: إنّا لمجدّد إنشاؤنا و إعادتنا خلقا جديدا كما كنّا قبل وفاتنا،تكذيبا منهم بقدرة اللّه،و جحودا للثّواب و العقاب و البعث بعد الممات.(7:339)

لاحظ:ع ج ب:«تعجب».

3- فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ... الرّوم:30

ابن عبّاس: لا تبديل لدين اللّه.(341)

مثله سعيد بن جبير،و النّخعيّ،و مجاهد، و عكرمة،و الضّحّاك،و قتادة،و ابن زيد.

(الطّبريّ 10:183)

مجاهد :الإخصاء.

مثله عكرمة.(الطّبريّ 10:184)

عكرمة :الإسلام.(الطّبريّ 10:184)

الطّبريّ: يقول:لا تغيير لدين اللّه،أي لا يصلح ذلك،و لا ينبغي أن يفعل.

و اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك،فقال بعضهم نحو الّذي قلنا في ذلك.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:لا تغيير لخلق اللّه من

ص: 553

البهائم،بأن يخصي الفحول منها...عن رجل سأل ابن عبّاس عن خصاء البهائم،فكرهه،و قال: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ. (10:183)

الزّجّاج: و قوله عزّ و جلّ: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أكثر ما جاء في التّفسير أنّ معناه:لا تبديل لدين اللّه، و ما بعده يدلّ عليه،و هو قوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون بحقيقة ذلك.(4:185)

أبو مسلم الأصفهانيّ: لا تبديل:خالق غير اللّه فيخلق كخلق اللّه،لأنّه خالق يخلق،و غيره مخلوق لا يخلق.(الماورديّ 4:312)

الماورديّ: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها:لا تبديل لدين اللّه،قاله مجاهد و قتادة.

الثّاني:لا تغيير لخلق اللّه من البهائم أن يخصي فحولها،قاله عمر بن الخطّاب و ابن عبّاس و عكرمة.

الثّالث:[قول أبي مسلم الأصفهانيّ]

و يحتمل رابعا:لا يشقى من خلقه سعيدا و لا يسعد من خلقه شقيّا.(4:312)

الطّوسيّ: و قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ قال مجاهد و قتادة و سعيد بن جبير و الضّحّاك و ابن زيد و إبراهيم:لا تبديل لدين اللّه الّذي أمركم به من توحيده و عدله و إخلاص العبادة له،و هو قول ابن عبّاس و عكرمة.و قيل:المراد نفي الخطإ.(8:247)

القشيريّ: سبحانه فطر كلّ أحد على ما علم أنّه يكون في السّعادة أو الشّقاوة،و لا تبديل لحكمه، و لا تحويل لما عليه فطره.فمن علم أنّه يكون سعيدا أراد سعادته و أخبر عن سعادته،و خلقه في حكمه سعيدا.و من علم شقاوته أراد أن يكون شقيّا و أخبر عن شقاوته و خلقه في حكمه شقيّا،و لا تبديل لحكمه، هذا هو الدّين المستقيم و الحقّ الصّحيح.(5:116)

الميبديّ: أي لا تبديل لدين اللّه،بلفظ الخبر و معنى النّهي،أي ألزموا دين اللّه و اتّبعوا و لا تبدّلوا التّوحيد بالشّرك.(7:450)

الزّمخشريّ: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أي ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغيّر.

فإن قلت:لم وحّد الخطاب أوّلا ثمّ جمع؟

قلت:خوطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أوّلا و خطاب الرّسول خطاب لأمّته،مع ما فيه من التّعظيم للإمام،ثمّ جمع بعد ذلك للبيان و التّلخيص.(3:222)

ابن عطيّة: و قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ يحتمل تأويلين:

أحدهما:أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة،أي اعلم أنّ هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق، و لا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه.

و الآخر:أن يكون قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنّه يقول:

أقم وجهك للدّين الّذي من صفته كذا و كذا،فإنّ هؤلاء الكفّار قد خلق اللّه لهم الكفر و لا تبديل لخلق اللّه،أي إنّهم لا يفلحون.و قال مجاهد:المعنى لا تبديل لدين اللّه،و هو قول ابن جبير و الضّحّاك و ابن زيد و النّخعيّ.

ص: 554

و هذا معناه لا تبديل للمعتقدات الّتي هي في الدّين الحنيف،فإنّ كلّ شريعة هي عقائدها.(4:336)

الطّبرسيّ: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أي لا تغيير لدين اللّه الّذي أمر النّاس بالثّبات عليه في التّوحيد، و العدل،و إخلاص العبادة للّه،عن الضّحّاك، و مجاهد،و قتادة،و سعيد بن جبير،و إبراهيم،و ابن زيد،و قالوا:إنّ(لا)هاهنا بمعنى النّهي،أي لا تبدّلوا دين اللّه الّذي أمرتم بالثّبات عليه.

و قيل:المراد به النّهي عن الخصاء،عن ابن عبّاس، و عكرمة.[و نقل قول أبي مسلم الأصفهانيّ ثمّ قال:]

و المعنى:إنّما دلّت عليه الفطرة،لا يمكن فيه التّبديل.(4:303)

الفخر الرّازيّ: فيه وجوه:

قال بعض المفسّرين هذه تسلية للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال هم خلقوا للشّقاوة و من كتب شقيّا لا يسعد،و قيل: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أي الوحدانيّة مترسّخة فيهم لا تغيّر لها،حتّى إن سألتهم من خلق السّماوات و الأرض؟يقولون:اللّه، لكنّ الإيمان الفطريّ غير كاف.

و يحتمل أن يقال:خلق اللّه الخلق لعبادته،و هم كلّهم عبيده لا تبديل لخلق اللّه،أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا لإنسان،فإنّه ينتقل عنه إلى غيره،و يخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة و العبوديّة.

و هذا لبيان فساد قول من يقول:العبادة لتحصيل الكمال،و العبد يكمل بالعبادة،فلا يبقى عليه تكليف.

و قول المشركين:إنّ النّاقص لا يصلح لعبادة اللّه،و إنّما الإنسان عبد الكواكب و الكواكب عبيد اللّه.و قول النّصارى:إنّ عيسى كان يحلّ اللّه فيه و صار إلها، فقال: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ بل كلّهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك.(25:120)

نحوه النّيسابوريّ.(21:33)

القرطبيّ: قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق.و لا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه،أي لا يشقى من خلقه سعيدا،و لا يسعد من خلقه شقيّا.[ثمّ نقل الأقوال المتقدّمة](14:31)

أبو حيّان : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أي لا تبديل لهذه القابليّة من جهة الخالق.

و قال مجاهد،و ابن جبير،و الضّحّاك،و النّخعيّ، و ابن زيد:لا تبديل لدين اللّه،و المعنى:لمعتقدات الأديان،إذ هي متّفقة في ذلك،و قال ابن عبّاس:لا تبديل لقضاء اللّه بسعادتهم و شقاوتهم.و قيل:هو نفي معناه النّهي،أي لا تبدّلوا ذلك الدّين.و قيل:

لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ بمعنى الواحدانيّة مترشّحة فيه، لا تغيّر لها،حتّى لو سألته:من خلق السّماوات و الأرض؟تقول:اللّه.

و يستغرب ما روي عن ابن عبّاس أنّ معنى:

لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ النّهي عن خصاء الفحول من الحيوان.و قول من ذهب إلى أنّ المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة،اعترض به أثناء الكلام،كأنّه يقول:

أقم وجهك للدّين الّذي من صفته كذا و كذا،فإنّ

ص: 555

هؤلاء الكفرة و من خلق اللّه لهم الكفر،و لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أي إنّهم لا يفلحون ذلك الّذي أمرت بإقامة وجهك له،هو الدّين المبالغ في الاستقامة.

(7:172)

نحوه الشّربينيّ.(3:168)

أبو السّعود :و قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى،أو لوجوب الامتثال به،أي لا صحّة و لا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه، و عدم ترتيب مقتضاه عليه باتّباع الهوى،و قبول وسوسة الشّيطان.و قيل:لا يقدر أحد على أن يغيّره.

فلا بدّ حينئذ من حمل التّبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا،و وضع فطرة أخرى مكانها،غير مصحّحة لقبول الحقّ و التّمكّن من إدراكه،ضرورة أنّ التّبديل بالمعنى الأوّل مقدور بل واقع قطعا،فالتّعليل حينئذ من جهة أنّ سلامة الفطرة متحقّقة في كلّ أحد، فلا بدّ من لزومها بترتيب مقتضاها عليها،و عدم الإخلال به بما ذكر من اتّباع الهوى و خطوات الشّيطان.(5:175)

نحوه الآلوسيّ.(21:40)

البروسويّ: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى لوجوب الامتثال به،أي لا صحّة و لا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه،و عدم ترتيب مقتضاه عليه بقبول الهوى و اتّباع وسوسة الشّيطان.

و في«التّأويلات النّجميّة»:لا تحويل لما له خلقهم فطر النّاس كلّهم على التّوحيد،فأقام قلب من خلقه للتّوحيد و السّعادة،و أزاغ قلب من خلقه للإلحاد و الشّقاوة،انتهى.

عالم الشهادة مرآة اللّوح المحفوظ،فلصورها تغيّر و تبدّل.و أمّا رحم الأمّ فمرآة عالم الغيب،و لا تبدّل لصورها في الحقيقة،و لذا«السّعيد سعيد في بطن أمّه و الشّقيّ شقيّ في بطن أمّه».(7:32)

ابن عاشور :و جملة لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ مبيّنة لمعنى فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها فهي جارية مجرى حال ثالثة من(الدين)على تقدير رابط محذوف.و التّقدير:لا تبديل لخلق اللّه فيه،أي في هذا الدّين،فهو كقوله في حديث أمّ زرع في قول الرّابعة:

«زوجي كليل تهامة لا حرّ و لا قرّ و لا مخافة و لا سآمة»أي في ذلك اللّيل.

فمعنى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ أنّه الدّين الحنيف الّذي ليس فيه تبديل لخلق اللّه،خلاف دين أهل الشّرك.قال تعالى عن الشّيطان: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ النّساء:119.و يجوز أن تكون جملة لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ معترضة لإفادة النّهي عن تغيير خلق اللّه فيما أودعه الفطرة،فتكون لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ خبرا مستعملا في معنى النّهي على وجه المبالغة، كقوله: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ النّساء:29،فنفي الجنس مراد به جنس من التّبديل خاصّ بالوصف،لا نفي وقوع جنس التّبديل،فهو من العامّ المراد به الخصوص بالقرينة.و اسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدّين مع تعظيمه.(21:50)

الطّباطبائيّ: و للقوم في مفردات الآية و معناها أقوال أخر متفرّقة:

ص: 556

و منها أنّ(لا)في قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ تفيد النّهي،أي لا تبدّلوا خلق اللّه،أي دينه الّذي أمرتم بالتّمسّك به،أو لا تبدّلوا خلق اللّه بإنكار دلالته على التّوحيد.و منه ما نسب إلى ابن عبّاس أنّ المراد به النّهي عن الخصاء.

و فيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدّين، و لا موجب لتسمية الإعراض عن دلالة الخلقة أو إنكارها تبديلا لخلق اللّه.و أمّا ما نسب إلى ابن عبّاس ففساده ظاهر.

و منها:ما ذكره الرّازيّ في«التّفسير الكبير»قال:

«و يحتمل أن يقال:خلق اللّه الخلق لعبادته و هم كلّهم عبيده»[و ذكر ما سبق عنه ثمّ قال:]

و فيه أنّه مغالطة بين الملك و العبادة التّكوينيّين و الملك و العبادة التّشريعيّين،فإنّ ملكه تعالى الّذي لا يقبل الانتقال و البطلان ملك تكوينيّ،بمعنى قيام وجود الأشياء به تعالى،و العبادة الّتي بإزائه عبادة تكوينيّة،و هو خضوع ذوات الأشياء له تعالى، و لا تقبل التّبديل و التّرك،كما في قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ الإسراء:44.

و أمّا العبادة الدّينيّة الّتي تقبل التّبديل و التّرك، فهي عبادة تشريعيّة بإزاء الملك التّشريعيّ المعتبر له تعالى،فافهمه.

و لو دلّ قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ على عدم تبديل الملك و العبادة و العبوديّة،لدلّ على التّكوينيّ منهما،و الّذي يبدّله القائلون بارتفاع التّكليف عن الإنسان الكامل،أو بعبادة الكواكب أو المسيح،فإنّما يعني به التّشريعيّ منهما.(16:181)

مكارم الشّيرازيّ: إنّ جملة لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ و بعدها جملة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ تأكيدان آخران لمسألة كون الدّين فطريّا،و عدم إمكان تغيير هذه الفطرة،و إن كان كثير من النّاس لا يدركون هذه الحقيقة،بسبب عدم رشدهم كما ينبغي.(12:473)

فضل اللّه : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ لأنّ الفطرة هي أساس الشّخصيّة الّتي تبقى في سرّ وجود الإنسان، مهما تغيّرت أوضاعه،أو امتدّت سنوات عمره،أو اختلفت مواقعه،فهي الشّيء الوحيد الّذي لا يتبدّل فيه،و هي الّتي تحقّق في داخله معنى الوجدان،و هي وحدها الّتي يكتشف من خلالها وجود اللّه و وحدانيّته و عبوديّته له،و خضوع الحياة لإرادته،فإذا أحاطت بها الظّلمات و التّهاويل،فإنّها تستطيع أن تشرق من جديد لتشقّ كلّ حجب الظّلام عن العقل،و كلّ تهاويل الضّلال عن الوجدان،ليعود الإيمان صافيا كالنّور،طاهرا كالينابيع،منفتحا كالأفق الرّحب في موعد الشّروق،و بذلك كانت هي الضّمانة الوحيدة للإيمان باللّه،أمام كلّ إشكالات الواقع،و شبهات الإلحاد.(18:129)

4- ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ. الملك:3

لاحظ:ف و ت:«تفاوت».

الخلق

1- أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.

الأعراف:54

ص: 557

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:من لم يحمد اللّه على ما عمل من عمل صالح و حمد نفسه،قلّ شكره،و حبط عمله.و من زعم أنّ اللّه جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل اللّه على أنبيائه،لقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. (الطّبريّ 5:514)

ابن عبّاس: أَلا لَهُ الْخَلْقُ خلق السّماوات و الأرض، وَ الْأَمْرُ يعني القضاء بين العباد يوم القيامة.(129)

الشّعبيّ: (الخلق:)عبارة عن الدّنيا،و(الامر:) عبارة عن الآخرة.(ابن عطيّة 2:409)

ابن عيينة: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فرّق اللّه بين الخلق و الأمر،و من جمع بينهما فقد كفر.

(الثّعلبيّ 4:239)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوات و الأرض و الشّمس و القمر و النّجوم،كلّ ذلك بأمره،أمرهنّ اللّه فأطعن أمره،ألا للّه الخلق كلّه،و الأمر الّذي لا يخالف و لا يردّ أمره، دون ما سواه من الأشياء كلّها،و دون ما عبده المشركون من الآلهة و الأوثان الّتي لا تضرّ و لا تنفع، و لا تخلق و لا تأمر.(5:514)

النّقّاش:ذكر اللّه«الإنسان»في القرآن في ثمانية عشر موضعا في جميعها أنّه مخلوق و ذكر«القرآن»في أربعة و خمسين موضعا ليس في واحد منها إشارة إلى أنّه مخلوق.(ابن عطيّة 2:409)

الماورديّ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ يحتمل وجهين:

أحدهما:أنّه مالك الخلق و تدبيرهم.

و الثّاني:إليه إعادتهم و عليه مجازاتهم.(2:230)

الطّوسيّ: و قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ إنّما فصل الخلق من الأمر،لأنّ فائدتهما مختلفة،لأنّ لَهُ الْخَلْقُ يفيد أنّ له الاختراع،و له اَلْأَمْرُ معناه:له أن يأمر فيه بما أحبّ،فأفاد الثّاني ما لم يفده الأوّل.

فمن استدلّ بذلك على أنّ كلام اللّه قديم،فقد تجاهل لما بيّنّا،و لو كان معناهما واحدا لجاز أيضا مع اختلاف اللّفظين،كما قالوا:كذب و مين،و أشباههما.

(4:453)

نحوه الطّبرسيّ.(2:428)

القشيريّ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فمنه الخير و الشّرّ،و النّفع و الضّرّ،فإنّ له الخلق و الأمر.(2:235)

البغويّ: لَهُ الْخَلْقُ لأنّه خلقهم،و له (الامر)يأمر في خلقه بما يشاء.(2:198)

الميبديّ: فصل بين الخلق و الأمر حتّى علم أنّ الأمر ليس بمخلوق،الأمر شيء،و الخلق شيء.و قال ربّ العزّة:القرآن أمر ذلِكَ أَمْرُ اللّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ الطّلاق:5،و هو القرآن،فعلى ما قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ دلالة واضحة على أنّ القرآن ليس بمخلوق.

(3:634)

الزّمخشريّ: أي هو الّذي خلق الأشياء كلّها، و هو الّذي صرفها على حسب إرادته.(2:83)

ابن عطيّة: و(أ لا)استفتاح كلام،فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصّادق المرشد.

و أخذ المفسّرون(الخلق)بمعنى المخلوقات،أي

ص: 558

هي له كلّها و ملكه و اختراعه،و أخذوا(الامر) مصدرا،من:أمر يأمر.و على هذا قال النّقّاش و غيره:

إنّ الآية تردّ على القائلين بخلق القرآن،لأنّه فرّق فيها بين المخلوقات و بين الكلام؛إذ الأمر كلامه عزّ و جلّ.

و يحتمل أن تؤخذ لفظة(الخلق)على المصدر، من:خلق يخلق خلقا،أي له هذه الصّفة؛إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم،و يؤخذ(الامر)على أنّه واحد الأمور،إلاّ أنّه يدلّ على الجنس،فيكون بمنزلة قوله:

وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ هود:123،و بمنزلة قوله:

وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ البقرة:210،فإذا أخذت اللّفظتان هكذا،خرجتا عن مسألة الكلام.

و لمّا تقدّم في الآية(خلق)و(بامره)تأكّد في آخره أنّ لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ المصدرين حسب تقدّمهما،و كيف ما تأوّلت الآية فالجميع للّه.[ثمّ ذكر حديث النّبيّ عليه السّلام عن الطّبريّ،و قول النقّاش، و الشّعبيّ كما تقدّم.](2:409)

الفخر الرّازيّ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ و هو إشارة إلى أنّ كلّ ما سوى اللّه تعالى إمّا من عالم الخلق أو من عالم الأمر.أمّا الّذي هو من عالم الخلق،فالخلق عبارة عن التّقدير،و كلّ ما كان جسما أو جسمانيّا كان مخصوصا بمقدار معيّن،فكان من عالم الخلق.و كلّ ما كان بريئا عن الحجميّة و المقدار،كان من عالم الأرواح و من عالم الأمر.فدلّ على أنّه سبحانه خصّ كلّ واحد من أجرام الأفلاك و الكواكب الّتي هي من عالم الخلق بملك من الملائكة،و هم من عالم الأمر.

و الأحاديث الصّحيحة مطابقة لذلك،و هي ما روي في الأخبار أنّ للّه ملائكة يحرّكون الشّمس و القمر عند الطّلوع و عند الغروب،و كذا القول في سائر الكواكب،و أيضا قوله سبحانه: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ الحاقّة:17،إشارة إلى أنّ الملائكة الّذين يقومون بحفظ العرش ثمانية.ثمّ إذا دقّقت النّظر علمت أنّ عالم الخلق في تسخير اللّه،و عالم الأمر في تدبير اللّه،و استيلاء الرّوحانيّات على الجسمانيّات بتقدير اللّه،فلهذا المعنى قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ. [إلى أن قال:]

أمّا قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ففيه مسائل:

المسألة الأولى:احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّه لا موجد و لا مؤثّر إلاّ اللّه سبحانه،و الدّليل عليه أنّ كلّ من أوجد شيئا و أثّر في حدوث شيء،فقد قدر على تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت،فكان خالقا.

ثمّ الآية دلّت على أنّه لا خالق إلاّ اللّه،لأنّه قال:

أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ و هذا يفيد الحصر،بمعنى أنّه لا خالق إلاّ اللّه؛و ذلك يدلّ على أنّ كلّ أمر يصدر عن فلك أو ملك أو جنّيّ أو إنسيّ،فخالق ذلك الأمر في الحقيقة هو اللّه سبحانه لا غير.و إذا ثبت هذا الأصل تفرّعت عليه مسائل:

إحداها:أنّه لا إله إلاّ اللّه،إذ لو حصل إلهان، لكان الإله الثّاني خالقا و مدبّرا،و ذلك يناقض مدلول هذه الآية في تخصّص الخلق بهذا الواحد.

و ثانيها:أنّه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم،و إلاّ لحصل خالق سوى اللّه،و ذلك ضدّ مدلول

ص: 559

هذه الآية.

و ثالثها:أنّ القول بإثبات الطّبائع،و إثبات العقول و النّفوس على ما يقوله الفلاسفة و أصحاب الطّلسمات باطل،و إلاّ لحصل خالق غير اللّه.

و رابعها:خالق أعمال العباد هو اللّه،و إلاّ لحصل خالق غير اللّه.

و خامسها:القول بأنّ العلم يوجب العالميّة، و القدرة توجب القادريّة،باطل.و إلاّ لحصل مؤثّر غير اللّه،و مقدّر غير اللّه،و خالق غير اللّه،و إنّه باطل.

المسألة الثّانية:احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ كلام اللّه قديم،قالوا:إنّه تعالى ميّز بين الخلق و بين الأمر،و لو كان الأمر مخلوقا لما صحّ هذا التّمييز.

أجاب الجبّائيّ عنه:بأنّه لا يلزم من إفراد الأمر بالذّكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلا في الخلق، فإنّه تعالى قال: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ الحجر:1،و آيات الكتاب داخلة في القرآن.و قال:

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ النّحل:90،مع أنّ الإحسان داخل في العدل.و قال: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ البقرة:98، و هما داخلان تحت الملائكة.

و قال الكعبيّ: إنّ مدار هذه الحجّة على أنّ المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه،فإن صحّ هذا الكلام بطل مذهبكم،لأنّه تعالى قال:

فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ الأعراف:158،فعطف الكلمات على اللّه، فوجب أن تكون الكلمات غير اللّه،و كلّ ما كان غير اللّه فهو محدث مخلوق،فوجب كون كلمات اللّه محدثة مخلوقة.

و قال القاضي:أطبق المفسّرون على أنّه ليس المراد بهذا الأمر كلام التّنزيل،بل المراد به نفاذ إرادة اللّه تعالى،لأنّ الغرض بالآية تعظيم قدرته.

و قال آخرون:لا يبعد أن يقال:الأمر و إن كان داخلا تحت الخلق،إلاّ أنّ الأمر بخصوص كونه أمرا يدلّ على نوع آخر من الكمال و الجلال،فقوله: لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ معناه:له الخلق و الإيجاد في المرتبة الأولى،ثمّ بعد الإيجاد و التّكوين فله الأمر،و التّكليف في المرتبة الثّانية.أ لا ترى أنّه لو قال:له الخلق و له التّكليف و له الثّواب و العقاب،كان ذلك حسنا مفيدا، مع أنّ الثّواب و العقاب داخلان تحت الخلق،فكذا هاهنا.

و قال آخرون:معنى قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ هو أنّه إن شاء خلق و إن شاء لم يخلق،فكذا قوله: وَ الْأَمْرُ يجب أن يكون معناه:أنّه إن شاء أمر و إن شاء لم يأمر،و إذا كان حصول الأمر متعلّقا بمشيئته،لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقا،كما أنّه لمّا كان حصول المخلوق متعلّقا بمشيئته كان مخلوقا.

أمّا لو كان أمر اللّه قديما لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته،بل كان من لوازم ذاته.فحينئذ لا يصدق عليه أنّه إن شاء أمر و إن شاء لم يأمر،و ذلك ينفي ظاهر الآية.

و الجواب:أنّه لو كان الأمر داخلا تحت الخلق، كان إفراد الأمر بالذّكر تكريرا محضا،و الأصل عدمه.

ص: 560

أقصى ما في الباب أنّا تحمّلنا ذلك في صور لأجل الضّرورة،إلاّ أنّ الأصل عدم التّكرير،و اللّه أعلم.

المسألة الثّالثة:هذه الآية تدلّ على أنّه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئا إلاّ اللّه سبحانه.

و إذا ثبت هذا فنقول:فعل الطّاعة لا يوجب الثّواب،و فعل المعصية لا يوجب العقاب،و إيصال الألم لا يوجب العوض.و بالجملة فلا يجب على اللّه لأحد من العبيد شيء البتّة؛إذ لو كان فعل الطّاعة يوجب الثّواب لتوجّه على اللّه من العبد مطالبة ملزمة و إلزام جازم،و ذلك ينافي قول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ.

المسألة الرّابعة:دلّت هذه الآية على أنّ القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه،و أنّ الحسن لا يجوز أن يحسن لوجه عائد إليه،لأنّ قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ يفيد أنّه تعالى له أن يأمر بما شاء كيف شاء، و لو كان القبيح يقبح لوجه عائد إليه لما صحّ من اللّه أن يأمر إلاّ بما حصل منه ذلك الوجه،و لا أن ينهى إلاّ عمّا فيه وجه القبح،فلم يكن متمكّنا من الأمر و النّهي كما شاء و أراد،مع أنّ الآية تقتضي هذا المعنى.

المسألة الخامسة:دلّت هذه الآية على أنّه سبحانه قادر على خلق عوالم سوى هذا العالم،كيف شاء و أراد و تقريره:إنّه قال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [إلى أن قال:]

وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ، و الخلق إذا أطلق أريد به:الجسم المقدّر،أو ما يظهر تقديره في الجسم المقدّر.ثمّ بيّن في آية أخرى أنّه أوحى في كلّ سماء أمرها،و بيّن في هذه الآية أنّه تعالى خصّص كلّ واحد من الشّمس و القمر و النّجوم بأمره؛و ذلك يدلّ على أنّ ما حدث بتأثير قدرة اللّه تعالى،فتميّز الأمر و الخلق.

ثمّ قال بعد هذا التّفصيل و البيان: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ يعني له القدرة على الخلق و على الأمر على الإطلاق،فوجب أن يكون قادرا على إيجاد هذه الأشياء،و على تكوينها كيف شاء و أراد،فلو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش و الكرسيّ و الشّمس و القمر و النّجوم في أقلّ من لحظة و لمحة،لقدر عليه، لأنّ هذه الماهيّات ممكنة،و الحقّ قادر على كلّ الممكنات،و لهذا قال المعرّي في قصيدة طويلة له:

أيّها النّاس كم للّه من فلك

تجري النّجوم به و الشّمس و القمر

ثمّ قال في أثناء هذه القصيدة:

هنا على اللّه ماضينا و غابرنا

فما لنا في نواحي غيره خطر.

المسألة السّادسة:قال قوم:(الخلق)صفة من صفات اللّه،و هو غير المخلوق،و احتجّوا عليه بالآية و المعقول:

أمّا الآية،فقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ قالوا:و عند أهل السّنّة(الامر)للّه لا بمعنى كونه مخلوقا له،بل بمعنى كونه صفة له،فكذلك يجب أن يكون(الخلق)للّه لا بمعنى كونه مخلوقا له،بل بمعنى كونه صفة له.و هذا يدلّ على أنّ الخلق صفة قائمة بذات اللّه تعالى.

ص: 561

و أمّا المعقول،فهو أنّا إذا قلنا:لم حدث هذا الشّيء،و لم وجد بعد أن لم يكن؟

فنقول في جوابه:لأنّه تعالى خلقه و أوجده، فحينئذ يكون هذا التّعليل صحيحا.فلو كان كونه تعالى خالقا له نفس حصول ذلك المخلوق،لكان قوله:إنّه إنّما حدث،لأنّه تعالى خلقه و أوجده، جاريا مجرى قولنا:إنّه إنّما حدث لنفسه و لذاته لا لشيء آخر،و ذلك محال باطل،لأنّ صدق هذا المعنى ينفي كونه مخلوقا من قبل اللّه تعالى.

فثبت أنّ كونه تعالى خالقا للمخلوق مغايرا لذات ذلك المخلوق؛و ذلك يدلّ على أنّ الخلق غير المخلوق.

و جوابه:لو كان الخلق غير المخلوق؛لكان إن كان قديما لزم من قدمه قدم المخلوق،و إن كان حادثا افتقر إلى خلق آخر و لزم التّسلسل،و هو محال.

المسألة السّابعة:ظاهر الآية يقتضي أنّه كما لا خلق إلاّ للّه،فكذلك لا أمر إلاّ للّه،و هذا يتأكّد بقوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ الأنعام:57،و قوله:

فَالْحُكْمُ لِلّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ المؤمن:12،و قوله: لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ الرّوم:4،إلاّ أنّه مشكل بالآية و الخبر.

أمّا الآية فقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ النّور:63،و أمّا الخبر فقوله عليه السّلام:«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

و الجواب:أنّ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يدلّ على أنّ أمر اللّه قد حصل،فيكون الموجب في الحقيقة هو أمر اللّه لا أمر غيره،و اللّه أعلم.

المسألة الثّامنة:قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ يدلّ على أنّ للّه أمرا و نهيا على عباده،و أنّ له تكليفا على عباده،و الخلاف مع نفاة التّكليف.

و احتجّوا عليه بوجوه:

أوّلها:أنّ المكلّف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع،فكان الأمر به أمرا بتحصيل الحاصل و أنّه محال.و إن كان معلوم اللاّوقوع كان ممتنع الوقوع،فكان الأمر به أمرا بما يمتنع وقوعه و هو محال.

و ثانيها:أنّه تعالى إن خلق الدّاعي إلى فعله،كان واجب الوقوع،فلا فائدة في الأمر،و إن لم يخلق الدّاعي إليه كان ممتنع الوقوع،فلا فائدة في الأمر به.

و ثالثها:أنّ أمر الكافر و الفاسق لا يفيد إلاّ الضّرر المحض،لأنّه لمّا علم اللّه أنّه لا يؤمن و لا يطيع،امتنع أن يصدر عنه الإيمان و الطّاعة،إلاّ إذا صار علم اللّه جهلا،و العبد لا قدرة له على تجهيل اللّه،و إذا تعذّر اللاّزم تعذّر الملزوم،فوجب أن يقال:لا قدرة للكافر و الفاسق على الإيمان و الطّاعة أصلا،و إذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلاّ مجرّد استحقاق العقاب، فيكون هذا الأمر و التّكليف إضرارا محضا من غير فائدة البتّة،و هو لا يليق بالرّحيم الحكيم.

و رابعها:أنّ الأمر و التّكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث،و إن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج،و ليس بإله،و إن كان لفائدة عائدة إلى العابد، فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النّفع،و دفع الضّرر،و اللّه تعالى قادر على تحصيلها بالتّمام

ص: 562

و الكمال من غير واسطة التّكليف،فكان توسيط التّكليف إضرارا محضا من غير فائدة،و أنّه لا يجوز.

و اعلم أنّه تعالى بيّن في هذه الآية أنّه يحسن منه أن يأمر عباده،و أن يكلّفهم بما شاء،و احتجّ عليه بقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ يعني لمّا كان الخلق منه ثبت أنّه هو الخالق لكلّ العبيد،و إذا كان خالقا لهم كان مالكا لهم،و إذا كان مالكا لهم حسن منه أن يأمرهم و ينهاهم،لأنّ ذلك تصرّف من المالك في ملك نفسه،و ذلك مستحسن،فقوله سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ يجري مجرى الدّليل القاطع على أنّه يحسن من اللّه تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء.

المسألة التّاسعة:دلّت الآية على أنّه يحسن من اللّه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرّد كونه خالقا لهم، لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحا، و لا كما يقولونه أيضا من حيث العوض و الثّواب، لأنّه تعالى ذكر أنّ الخلق له أوّلا،ثمّ ذكر الأمر بعده؛ و ذلك يدلّ على أنّ حسن الأمر معلّل بكونه خالقا لهم موجدا لهم،و إذا كانت العلّة في حسن الأمر و التّكليف هذا القدر،سقط اعتبار الحسن،و القبح،و الثّواب، و العقاب،في اعتبار حسن الأمر و التّكليف.

المسألة العاشرة:دلّت هذه الآية على أنّه تعالى متكلّم آمر،ناه،مخبر،مستخبر،و كان من حقّ هذه المسألة تقدّمها على سائر المسائل،إلاّ أنّها إنّما خطرت بالبال في هذا الوقت،و الدليل عليه قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فدلّ ذلك على أنّ له الأمر،و إذا ثبت هذا وجب أن يكون له النّهي، و الخبر،و الاستخبار،ضرورة أنّه لا قائل بالفرق.

المسألة الحادية عشرة:أنّه تعالى بيّن كونه تعالى خالقا للسّماوات و الأرض،و الشّمس و القمر و النّجوم ثمّ قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ أي لا خالق إلاّ هو.

و لقائل أن يقول:لا يلزم من كونه تعالى خالقا لهذه الأشياء أن يقال:لا خالق على الإطلاق إلاّ هو، فلم رتّب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء،إثبات أنّه لا خالق إلاّ هو على الإطلاق؟

فنقول:الحقّ أنّه متى ثبت كونه تعالى خالقا لبعض الأشياء،وجب كونه خالقا لكلّ الممكنات.

و تقريره:أنّ افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه، و الإمكان واحد في كلّ الممكنات،و هذا الإمكان إمّا أن يكون علّة للحاجة إلى مؤثّر متعيّن،أو إلى مؤثّر غير متعيّن.

و الثّاني باطل،لأنّ كلّ ما كان موجودا في الخارج،فهو متعيّن في نفسه،فيلزم منه أنّ ما لا يكون متعيّنا في نفسه لم يكن موجودا في الخارج،و ما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علّة لوجود غيره في الخارج؛فثبت أنّ الإمكان علّة للحاجة إلى موجد و معين،فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجا إلى ذلك المعين،فثبت أنّ الّذي يكون مؤثّرا في وجود شيء واحد،هو المؤثّر في وجود كلّ الممكنات.

(14:119-127)

نحوه ملخّصا النّيسابوريّ.(8:138)

القرطبيّ: قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فيه مسألتان:

ص: 563

الأولى:صدق اللّه في خبره،فله الخلق و له الأمر، خلقهم و أمرهم بما أحبّ.و هذا الأمر يقتضي النّهي.

قال ابن عيينة:فرّق بين الخلق و الأمر،فمن جمع بينهما فقد كفر.

فالخلق:المخلوق،و الأمر:كلامه الّذي هو غير مخلوق،و هو قوله:(كن.) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82،و في تفرقته بين الخلق و الأمر دليل بيّن على فساد قول من قال بخلق القرآن؛إذ لو كان كلامه الّذي هو أمر مخلوقا لكان قد قال:ألا له الخلق و الخلق.و ذلك عيّ من الكلام و مستهجن و مستغثّ،و اللّه يتعالى عن التّكلّم بما لا فائدة فيه.

و يدلّ عليه قوله سبحانه: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ الرّوم:25، وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. فأخبر سبحانه أنّ المخلوقات قائمة بأمره،فلو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به،و ذلك الأمر إلى أمر آخر،إلى ما لا نهاية له.و ذلك محال.فثبت أنّ أمره الّذي هو كلامه قديم أزليّ غير مخلوق،ليصحّ قيام المخلوقات به.

و يدلّ عليه أيضا قوله تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ الحجر:

85،و أخبر تعالى أنّه خلقهما بالحقّ،يعني القول، و هو قوله للمكوّنات:(كن.)فلو كان الحقّ مخلوقا لما صحّ أن يخلق به المخلوقات،لأنّ الخلق لا يخلق بالمخلوق،يدلّ عليه: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ الصّافّات:171، إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ الأنبياء:101، وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي السّجدة:13.

و هذا كلّه إشارة إلى السّبق في القول في القدم، و ذلك يوجب الأزل في الوجود.و هذه النّكتة كافية في الرّدّ عليهم.

و لهم آيات احتجّوا بها على مذهبهم،مثل قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ الأنبياء:

2،و مثل قوله تعالى: وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الأحزاب:38،و(مفعولا)المزّمّل:18،و ما كان مثله.[إلى أن قال:]

و من ذلك قوله تعالى: حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا هود:40،و قال عزّ و جلّ: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هود:97،يعني به شأنه و أفعاله و طرائقه.قال الشّاعر:

لها أمرها حتّى إذا ما تبوّأت

بأخفافها مرعى تبوّأ مضجعا

الثّانية:و إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الأمر ليس من الإرادة في شيء،و المعتزلة تقول:الأمر نفس الإرادة.

و ليس بصحيح،بل يأمر بما لا يريد و ينهى عمّا يريد.

أ لا ترى أنّه أمر إبراهيم بذبح ولده و لم يرده منه، و أمر نبيّه أن يصلّي مع أمّته خمسين صلاة،و لم يرد منه إلاّ خمس صلوات.و قد أراد شهادة حمزة حيث يقول:

وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ آل عمران:140،و قد نهى الكفّار عن قتله و لم يأمرهم به.و هذا صحيح نفيس في بابه،فتأمّله.(7:221)

البيضاويّ: فإنّه الموجد و المتصرّف.(1:352)

الخازن :و قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ

ص: 564

يعني له الخلق،لأنّه خلقهم،و له أن يأمر فيهم بما أراد، و له أن يحكم فيهم بما شاء.و على هذا المعنى(الامر) هنا الّذي هو نقيض النّهي.

و استخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى أنّ كلام اللّه عزّ و جلّ ليس بمخلوق،فقال:إنّ اللّه تعالى فرّق بين الخلق و الأمر،فمن جمع بينهما فقد كفر.يعني أنّ من جعل الأمر الّذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر.لأنّ المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله.

و قيل:معناه:أنّ جميع ما في العالم للّه عزّ و جلّ، و الخلق له لأنّه خلقهم،و جميع الأمور تجري بقضائه و قدره فهو مجريها و منشئها،فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء.

و قيل:المراد ب(الامر)هنا الإرادة،لأنّ الغرض من الآية تعظيم القدرة،و في الآية دليل على أنّه لا خالق إلاّ اللّه عزّ و جلّ،ففيه ردّ على من يقول:إنّ للشّمس و القمر و الكواكب تأثيرات في هذا العالم، فأخبر اللّه أنّه هو الخالق المدبّر لهذا العالم لا الشّمس و القمر و الكواكب،و له الأمر المطلق،و ليس لأحد أمر غيره،فهو الآمر و النّاهي الّذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد،لا اعتراض لأحد من خلقه عليه.

(2:198)

أبو حيّان :لمّا تقدّم ذكر خلق السّماوات و الأرض و الشّمس و القمر و النّجوم و أمره فيها قال ذلك،أي له الإيجاد و الاختراع،و جرى ما خلق و اخترع على ما يريده و يأمر به،لا أحد يشركه في ذلك،و لا في شيء منه.

و قيل:(الخلق)بمعنى المخلوق،و(الامر:) مصدر من«أمر»أي المخلوقات كلّها له و ملكه و اختراعه.و على هذا قال النّقّاش و غيره:الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن،لأنّه فرّق بين المخلوقات و بين الكلام؛إذ الأمر كلامه،انتهى.و هو استدلال ضعيف؛إذ لا يتعيّن حمل اللّفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه.(4:310)

الشّربينيّ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ جميعا(و الامر) كلّه،فإنّه الموجد و المتصرّف في ذلك.و في هذا ردّ على من يقول:إنّ الشّمس و القمر و الكواكب تخلق،له الأمر المطلق و ليس لأحد أمر غيره،فهو الآمر و النّاهي الّذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، لا اعتراض لأحد من خلقه عليه.(1:480)

أبو السّعود :فإنّه الموجد للكلّ و المتصرّف فيه على الإطلاق.(2:498)

البروسويّ: (الا)تنبيه،معناه:اعلموا،(له)أي للّه تعالى،و التّقديم للتّخصيص اَلْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فإنّه الموجد للكلّ،و المتصرّف فيه على الإطلاق.

و في«التّأويلات النّجميّة»:ما خلق بأمره تعالى من غير واسطة أمر،و ما خلق بواسطة خلق.

و ذكر الإمام:أنّ العالم و هو ما سوى اللّه تعالى- منحصر في نوعين:عالم الخلق و عالم الأمر،و إنّ المراد بعالم الخلق:عالم الأجساد و الجسمانيّات،و بعالم الأمر:

عالم الأرواح و المجرّدات،و أنّ قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ إشارة إلى هذين العالمين،عبّر عن العالم الأوّل بعالم الخلق،لأنّ الخلق عبارة عن التّقدير،

ص: 565

و كلّ ما كان جسما أو جسمانيّا كان مخصوصا بمقدار معيّن،فعبّر عنه بعالم الخلق،و كلّ ما كان مجرّدا عن الحجم و المقدار كان من عالم الأرواح؛و من عالم الأمر مكوّنات بمجرّد أمر(كن،)فخصّ كلّ واحد منهما باسم مناسب له.و قيل:ألا له الخلق و الأمر،انتهى كلام الإمام.

و قال حضرة شيخنا العلاّمة أبقاه اللّه بالسّلامة:

(الخلق)عالم العين و الكون و الحدوث روحا و جسما،و(الامر)عالم العلم و الآلة و الوجوب، و عالم الخلق تابع لعالم الأمر؛إذ هو أصله و مبدؤه قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الإسراء:85،و اللّه غالب على أمره.(3:176)

الآلوسيّ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ كالتّذييل للكلام السّابق،أي إنّه تعالى هو الّذي خلق الأشياء، و يدخل في ذلك السّماوات و الأرض دخولا أوّليّا، و هو الّذي دبّرها و صرفها على حسب إرادته،و يدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ لا أحد غيره،كما يؤذن به تقديم الظّرف.

و فسّر بعضهم(الامر)هنا بالإرادة أيضا،و فسّر آخرون(الامر)بما هو مقابل النّهي،و(الخلق) بالمخلوق،أي له تعالى المخلوقون،لأنّه خلقهم،و له أن يأمرهم بما أراد[ثمّ ذكر كلام الخازن في الفرق بين الخلق و التّقدير و قال:]

و ليس بشيء كما لا يخفى.و أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان:أنّ(الخلق:)ما دون العرش،و(الامر:) ما فوق ذلك.و شاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجرّدات.(8:138)

رشيد رضا : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ (الا)أداة يفتتح بها القول الّذي يهتمّ بشأنه،لأجل تنبيه المخاطب لمضمونه و حمله على تأمّله.و(الخلق)في أصل اللّغة:التّقدير،و إنّما يكون في شيء يقع فيه، و استعمل بمعنى الإيجاد بقدر،أي ألا إنّ للّه الخلق فهو الخالق المالك لذوات المخلوقات،و له فيها الأمر و هو التّشريع و التّكوين،و التّصرّف و التّدبير،فهو المالك و الملك لا شريك له في ملكه،و لا في ملكه.و قد ذكرنا آنفا بعض الآيات النّاطقة بتدبيره تعالى للأمر،عقب ذكر الاستواء على العرش.و في معناه حديث مرفوع عند ابن جرير.و من هذا التّدبير ما سخّر اللّه له الملائكة المعنيّين بقوله: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً النّازعات:5،من نظام العالم و سننه،و منه الوحي ينزل به الملائكة على الرّسل.و يشملهما قوله: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الطّلاق:12.و روي عن سفيان بن عيينة أنّه قال:(الخلق:)ما دون العرش و(الامر)ما فوق ذلك،و عنه أنّ(الامر)هو الكلام.و ليس عندنا عن غيره من السّلف شيء غير هذا في الآية.

و للصّوفيّة:أنّ عالم الخلق:ما أوجده اللّه تعالى بالأسباب المعروفة في المواليد الثّلاثة مثلا،و الأمر:ما أوجده ابتداء بقوله:(كن)كالرّوح،و أصل المادّة و العنصر الأوّل لها.و منهم من يسمّي عالم الشّهادة و الحسّ بعالم الخلق و عالم الملك،و يسمّي عالم الغيب:

ص: 566

بعالم الأمر و الملكوت إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:

59،أي عند نفخ الرّوح فيه،فجسمه مخلوق من سلالة من طين لازب،و روحه من أمر اللّه تعالى.(8:454)

ابن عاشور :و جملة أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق،من قوله:

اَلَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لإفادة تعميم الخلق،و التّقدير:لما ذكر آنفا و لغيره.ف(الخلق:) إيجاد الموجودات،و(الامر)تسخيرها للعمل الّذي خلقت لأجله.

و افتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتعي نفوس السّامعين هذا الكلام الجامع.و اللاّم الجارّة لضمير الجلالة لام الملك،و تقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه.

و التّعريف في(الخلق)و(الامر)تعريف الجنس،فتفيد الجملة قصر جنس الخلق و جنس الأمر على الكون في ملك اللّه تعالى،فليس لغيره شيء من هذا الجنس.و هو قصر إضافيّ،معناه:ليس لآلهتهم شيء من الخلق و لا من الأمر.و أمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في ملك اللّه تعالى،فذلك يرجع فيه إلى القرائن،ف(الخلق)مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى.و أمّا(الامر)فهو مقصور على الكون في ملك اللّه قصرا ادّعائيّا،لأنّ لكثير من الموجودات تدبير أمور كثيرة،و لكن لمّا كان المدبّر مخلوقا للّه تعالى كان تدبيره راجعا إلى تدبير اللّه كما قيل في قصر جنس الحمد،في قوله:(الحمد لله) الفاتحة:1.

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ (الخلق)هو التّقدير بضمّ شيء إلى شيء،و إن استقرّ ثانيا في عرف الدّين و أهله في معنى الإيجاد،أو الإبداع على غير مثال سابق.

و أمّا(الأمر)فيستعمل في معنى الشّأن؛و جمعه:

أمور،و مصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده،يقال:أمرته بكذا أمرا.و ليس من البعيد أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللّفظ،ثمّ يستعمل (الأمر)اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر،و هو النّظم المستقرّ في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته،فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة.ثمّ يتوسّع فيه فيستعمل بمعنى الشّأن في كلّ شيء،فأمر كل شيء هو الشّأن الّذي يصلح له وجوده،و ينظم له تفاريق حركاته و سكناته،و شتّى أعماله و إرادته.

يقال:أمر العبد إلى مولاه،أي هو يدبّر حياته و معاشه، و أمر المال إلى مالكه،و أمر الإنسان إلى ربّه،أي بيده تدبيره في مسير حياته.

و لا يردّ عليه أنّ الأمر بمعنى الشّأن،يجمع على «أمور»و بمعنى يقابل النّهي على«أوامر»و هو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى.فإنّ أمثال هذه التّفنّنات كثيرة في اللّغة،يعثر عليها المتتبّع النّاقد، فالأمر كالمتوسّط بين من يملكه و بين من يملك منه كالمولى و العبد،و يضاف إلى كلّ منهما يقال:أمر العبد و أمر المولى،قال تعالى: وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ البقرة:

275،و قال: أَتى أَمْرُ اللّهِ النّحل:1.

ص: 567

و قد فسّر سبحانه أمره الّذي يملكه من الأشياء بقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يس:82،83، فبيّن أنّ أمره الّذي يملكه من كلّ شيء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا و أثرا هو قول(كن)و كلمة الإيجاد، و هو الوجود الّذي يفيضه عليه فيوجد هو به،فإذا قال لشيء:(كن)فكان،فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود،و هذا الوجود الموهوب له نسبة إلى اللّه سبحانه،و هو بذاك الاعتبار أمره تعالى،و كلمة (كن)الإلهيّة،و له نسبة إلى الشّيء الموجود،و هو بذاك الاعتبار أمره الرّاجع إلى ربّه،و قد عبّر عنه في الآية بقوله:(فيكون.)

و قد ذكر تعالى لكلّ من النّسبتين-و إن شئت فقل:للإيجاد المنسوب إليه تعالى و للوجود المنسوب إلى الشّيء-نعوتا و أحكاما مختلفة،سنبحث عنها إن شاء اللّه في محلّ يناسبه.

و الحاصل:أنّ(الأمر)هو الإيجاد،سواء تعلّق بذات الشّيء أو بنظام صفاته و أفعاله،فأمر ذوات الأشياء إلى اللّه و أمر نظام وجودها إلى اللّه،لأنّها لا تملك لنفسها شيئا البتّة.و(الخلق)هو الإيجاد عن تقدير و تأليف،سواء كان ذلك بنحو ضمّ شيء إلى شيء كضمّ أجزاء النّطفة بعضها إلى بعض،و ضمّ نطفة الذّكور إلى نطفة الإناث،ثمّ ضمّ الأجزاء الغذائيّة إليها في شرائط خاصّة حتّى يخلق بدن إنسان مثلا،أم من غير أجزاء مؤلّفة،كتقدير ذات الشّيء البسيط،و ضمّ ما له من درجة الوجود وحده،و ما له من الآثار و الرّوابط الّتي له مع غيره.فالأصول الأوّليّة مقدّرة مخلوقة،كما أنّ المركّبات مقدّرة مخلوقة.قال اللّه تعالى: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2، و قال: اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى طه:

50،و قال: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الزّمر:62،فعمّم خلقه كلّ شيء.

فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشّيء و تنظيمها،سواء كانت متمايزة،منفصلا بعضها عن بعض أم لا،بخلاف الأمر.

و لذا كان(الخلق)يقبل التّدريج،كما قال:

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ بخلاف (الأمر)قال تعالى: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ القمر:50،و لذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق،كقوله: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها المائدة:110،و قال:

فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المؤمنون:14،و أمّا (الأمر)بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصّه بنفسه،جعله بينه و بين ما يريد حدوثه و كينونته، كالرّوح الّذي يحيا به الجسد.

انظر إلى قوله تعالى: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ و قوله: وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ الرّوم:46،و قوله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ النّحل:2،و قوله: وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الأنبياء:27، إلى غير ذلك من الآيات،تجد أنّه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببيّة أمره أو بمصاحبة أمره،فنلخّص أنّ الخلق و الأمر يرجعان بالأخرة إلى معنى واحد،و إن

ص: 568

كانا مختلفين بحسب الاعتبار.

فإذا انفرد كلّ من(الخلق)و(الأمر)صحّ أن يتعلّق بكلّ شيء،كلّ بالعناية الخاصّة به،و إذا اجتمعا كان(الخلق)أحرى بأن يتعلّق بالذّوات بما أنّها أوجدت بعد تقدير ذواتها و آثارها،و يتعلّق(الأمر) بآثارها و النّظام الجاري فيها بالتّفاعل العامّ بينها،لما أنّ الآثار هي الّتي قدّرت للذّوات و لا وجه لتقدير المقدّر،فافهم ذلك.

و لذلك قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه،و كأنّ المراد ب(الخلق) ما يتعلّق من الإيجاد بذوات الأشياء،و ب(الأمر)ما يتعلّق بآثارها و الأوضاع الحاصلة فيها و النّظام الجاري بينها،كما ميّز بين الجهتين في أوّل الآية؛حيث قال: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ و هذا هو إيجاد الذّوات، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ و هو إيجاد النّظام الأحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر،و الإتيان بالواحد منه بعد الواحد.

و ما ربّما يقال:إنّ العطف لا يقتضي المغايرة،و لو اقتضى ذلك لدلّ في قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ البقرة:98،على كون جبريل من غير جنس الملائكة؟مدفوع بأنّ المراد مغايرة ما و لو اعتبارا،لقبح قولنا:جاءني زيد و زيد،و رأيت عمرا و عمرا،فلا محيص عن مغايرة ما و لو بحسب الاعتبار، و جبريل مع كونه من جنس الملائكة،يغايره غيره بما له من المقام المعلوم و القوّة و المكانة عند ذي العرش.

(8:150)

عبد الكريم الخطيب:قوله سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ (الخلق:)خلق الكائنات جميعها، العلويّ منها و السّفليّ.(و الأمر:)التّدبير و التّسخير،و إجراء كلّ مخلوق على التّقدير الّذي قدّره اللّه له.

فالمخلوقات جميعها صنعة الخالق،و حركاتها و سكناتها كلّها بتقدير اللّه،و بأمره.(4:415)

مكارم الشّيرازيّ: ...ثمّ بعد ذكر خلق العالم و نظام اللّيل و النّهار،و خلق الشّمس و القمر و النّجوم،قال مؤكّدا:اعلموا أنّ خلق الكون و تدبير أموره كلّه بيده سبحانه دون سواه، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ.

ما هو اَلْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ؟

هناك كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من (الخلق)و(الأمر)أنّه ما هو؟

و لكن بالنّظر إلى القرائن الموجودة في هذه الآية و الآيات القرآنيّة الأخرى يستفاد أنّ المراد من (الخلق)هو الخلق و الإيجاد الأوّل،و المراد من (الأمر)هو السّنن و القوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر اللّه تعالى،و الّتي تقود الكون في مسيره المرسوم له.

إنّ هذا التّعبير-في الحقيقة-ردّ على الّذين يتصوّرون أنّ اللّه خلق الكون ثمّ تركه لحاله و أهله، و جلس جانبا،أي إنّ العالم بحاجة إلى اللّه في وجوده و حدوثه،دون بقائه و استمراره.

إنّ هذه الجملة تقول:كلاّ،بل إنّ العالم كما يحتاج

ص: 569

إلى حدوثه إلى اللّه،كذلك يحتاج إليه في تدبيره و استمرار حياته و إدارة شئونه إلى اللّه،و لو أنّ اللّه صرف عنايته و لطفه عن الكون لحظة واحدة،لتبدّد النّظام و انهار و انهدم بصورة كاملة.

و قد مال بعض الفلاسفة إلى أن يفسّر عالم الخلق بعالم المادّة،و عالم الأمر بعالم ما وراء المادّة،لأنّ لعالم الخلق جانبا تدريجيّا،و هذه هي خاصيّة المادّة،و لعالم الأمر جانبا دفعيّا و فوريّا،و هذه هي خاصيّة عالم ما وراء المادّة،كما نقرأ في قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82.

و لكن بالنّظر إلى موارد استعمال لفظة«الأمر» في آيات القرآن،و حتّى عبارة وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ الواردة في الآية المبحوثة، يستفاد«الأمر»يعني كلّ أمر إلهيّ سواء في عالم المادّة أو في عالم ما وراء المادّة.تأمّلوا رجاء.(5:70)

فضل اللّه : أَلا لَهُ الْخَلْقُ فلا خالق غيره، و لا يملك الخلق إلاّ هو،(و الأمر)فلا أمر إلاّ أمره، لا أمر لأحد مع أمره.فإذا أراد شيئا،فإنّه يقول له كُنْ فَيَكُونُ. (10:145)

2- ...وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. الأعراف:69

ابن عبّاس: في الطّول و الجسم.(130)

السّدّيّ: في الطّول.(264)

الطّبريّ: زاد في أجسامكم طولا و عظما على أجسام قوم نوح،و في قواكم على قواهم،نعمة منه بذلك عليكم،فاذكروا نعمه و فضله الّذي فضّلكم به عليهم في أجسامكم و قواكم،و اشكروا اللّه على ذلك بإخلاص العبادة له،و ترك الإشراك به،و هجر الأوثان و الأنداد.(5:523)

الزّجّاج: في التّفسير أنّه كان أقصرهم طوله ستّون ذراعا،و أطولهم مائة ذراع.(2:348)

الماورديّ: فيها قولان:

أحدهما:القوّة،قاله ابن زيد.

و الثّاني:بسط البدن و طول الجسد.قيل:إنّه كان أقصرهم طولا اثني عشر ذراعا.(2:233)

الطّوسيّ: و قيل:في معناه قولان:أحدهما:قال ابن زيد:زادهم قوّة.

و قال غيره:أراد به المرّة من بسط اليدين إذا فتحت على أبعد أقطارها.و قال الزّجّاج و الرّمّانيّ:

كان أقصرهم طوله سبعين ذراعا،و أطولهم مائة ذراع.

و قال قوم:كان أقصرهم اثني عشر ذراعا.(4:475)

القشيريّ: كما زاد قوما على من تقدّمهم في بسطة الخلق،زاد قوما على من تقدّمهم في بسطة الخلق.و كما أوقع التّفاوت بين شخص و شخص فيما يعود إلى المباني،أوقع التّباين بين قوم و قوم فيما يرجع إلى المعاني.(2:240)

الميبديّ: قيل:للخلق معنيين:

أحدهما:بمعنى الخلق،يعنى زادكم في الخلق و الصّورة.

الثّاني: وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي في النّاس قوّة و غلبة عليهم.(3:650)

الزّمخشريّ: فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فيما خلق

ص: 570

من أجرامكم ذهابا في الطّول و البدانة.قيل:كان أقصرهم ستّين ذراعا و أطولهم مائة ذراع.(2:87)

ابن عطيّة: أي في الخلقة،و البصطة:الكمال في الطّول و العرض،و قيل:زادكم على أهل عصركم.

قال الطّبريّ:المعنى زادكم على قوم نوح،و قاله قتادة.

و اللّفظ يقتضي أنّ الزّيادة هي على جميع العالم، و هو الّذي يقتضي ما يذكر عنهم.و روي أنّ طول الرّجل منهم كان مائة ذراع و طول أقصرهم ستّون، و نحو هذا.(2:417)

الفخر الرّازيّ: لاحظ:ز ي د:«زادكم».

(14:157)

أبو السّعود : وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي في الإبداع و التّصوير،أو في النّاس(بصطة:)قامة و قوّة،فإنّه لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام.

(2:506)

نحوه البروسويّ.(3:186)

ابن عاشور :و(الخلق)يحتمل أن يكون مصدرا خالصا،و يحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول، و هو يستعمل في المعنيين...

فإن كان(الخلق)بمعنى المصدر فالبصطة:

الزّيادة في القوى الجبلّيّة،أي زادهم قوّة في عقولهم و أجسامهم،فخلقهم عقلاء أصحّاء.و قد اشتهر عند العرب نسبة العقول الرّاجحة إلى عاد،و نسبة كمال قوى الأجسام إليهم،قال النّابغة:

أحلام عاد و أجسام مطهّرة

من المعقة و الآفات و الإثم

و قال ودّاك بن ثميل المازني في«الحماسة»:

و أحلام عاد لا يخاف جليسهم

و لو نطق العوّار غرب لسان

و قال قيس بن عبادة:

و أن لا يقولوا غاب قيس و هذه

سراويل عادّي نمته ثمود

و على هذا (1)الوجه يكون قوله: فِي الْخَلْقِ متعلّقا ب(بصطة.)

و إن كان الخلق بمعنى النّاس فالمعنى و زادكم بصطة في النّاس،بأن جعلكم أفضل منهم فيما تتفاضل به الأمم من الأمور كلّها،فيشمل رجحان العقول و قوّة الأجسام،و سلامتها من العاهات و الآفات و قوّة البأس،و قد نسبت الدّروع إلى عاد،فيقال لها:

العاديّة،و كذلك السّيوف العاديّة،و قد قال اللّه تعالى حكاية عنهم: وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً فصّلت:15، و حكى عن«هود»أنّه قال لهم: وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ* فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ* وَ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ الشّعراء:

129-134،و على هذا الوجه يكون قوله: فِي الْخَلْقِ ظرفا مستقرّا في موضع الحال من ضمير المخاطبين.(8:159)

الطّباطبائيّ: ...ثم أنكر عليه السّلام تعجّبهم من رسالته إليهم،نظير ما تقدّم من نوح عليه السّلام و ذكّرهم نعم اللّه!!

ص: 571


1- في الأصل:هذه الوجه!!

عليهم،و خصّ من بينها نعمتين ظاهرتين:هما أنّ اللّه جعلهم خلفاء في الأرض بعد نوح،و أنّ اللّه خصّهم من بين الأقوام ببسطة الخلق و عظم الهيكل البدنيّ، المستلزم لزيادة الشّدّة و القوّة،و من هنا يظهر أنّهم كانوا ذوي حضارة و تقدّم،وصيت في البأس و القوّة و القدرة.(8:178)

مكارم الشّيرازيّ: إنّ جملة: وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً يمكن أن تكون-كما ذكرنا-إشارة إلى قوّة قوم عاد الجسديّة المتفوّقة،لأنّه يستفاد من آيات قرآنيّة عديدة،و كذا من التّواريخ،أنّهم كانوا ذوي هياكل عظميّة قويّة و كبيرة،كما نقرأ ذلك من قولهم في سورة فصّلت الآية:15 مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً و في الآية:7 من سورة الحاقّة نقرأ-عند ذكر ما نزل بهم من البلاء بذنوبهم- فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ حيث شبّه جسومهم بجذوع النّخل السّاقطة على الأرض.

و يمكن أن تكون إشارة-أيضا-إلى تعاظم ثروتهم و إمكانيّاتهم الماليّة،و مدنيّتهم الظّاهريّة المتقدّمة،كما يستفاد من آيات قرآنيّة و شواهد تاريخيّة أخرى،و لكنّ الاحتمال الأوّل أنسب مع ظاهر الآية.(5:87)

فضل اللّه :بما وهبكم من طول القامة،و قوّة الجسد و العضلات.(10:166)

3- إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. يونس:4

مضى الكلام في:ب د أ،«يبدءوا»و سيأتي تمام البحث في:ع و د:«يعيده».

4- قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ... العنكبوت:20

لاحظ:ن ش أ:«النّشأة».

5- وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ.

يس:68

لاحظ:ن ك س:«ننكّسه».

6- أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ. ق:15

ابن عبّاس: أ فأعيانا خلقهم الأوّل حين خلقناهم حتّى يعيينا خلقهم الآخر حين نخلقهم للبعث بعد الموت.(439)

لم يعينا الخلق الأوّل.(الطّبريّ 11:414)

في شكّ من البعث.(الطّبريّ 11:414)

مجاهد :أ فعيي علينا حين أنشأناكم خلقا جديدا، فتمتروا بالبعث.(الطّبريّ 11:414)

الحسن :الخلق الأوّل آدم.(الطّوسيّ 9:362)

قتادة :و الخلق الجديد:البعث بعد الموت،فصار النّاس فيه رجلين:مكذّب،و مصدّق.

(الطّبريّ 11:415)

الفرّاء: يقول:كيف نعيا عندهم بالبعث و لم نعي بخلقهم أوّلا؟ثمّ قال: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ،أي هم في ضلال و شكّ.(3:77)

ص: 572

أبو ميسرة: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ إنّا خلقناكم.

(الطّبريّ 11:414)

مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أن يخلقوا من بعد الموت.

(الطّبريّ 11:415)

الطّبريّ: و هذا تقريع من اللّه لمشركي قريش الّذين قالوا: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ق:3،يقول لهم جلّ ثناؤه:أ فعيينا بابتداع الخلق الأوّل الّذي خلقناه،و لم يكن شيئا فنعيا بإعادتهم خلقا جديدا بعد بلائهم في التّراب،و بعد فنائهم؟يقول:

ليس يعيينا ذلك،بل نحن عليه قادرون.

و قوله بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يقول تعالى ذكره:ما يشكّ هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث أنّا لم نعي بالخلق الأوّل،و لكنّهم في شكّ من قدرتنا على أن نخلقهم خلقا جديدا بعد فنائهم، و بلائهم في قبورهم.(11:414)

الزّجّاج: هذا تقرير،لأنّهم اعترفوا بأنّ اللّه عزّ و جلّ الخالق،و أنكروا البعث،فقال: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ. (5:43)

الماورديّ: و الخلق الجديد هو إعادة خلق ثان بعد الخلق الأوّل

و في معنى الكلام تأويلان:

أحدهما:أ فعجزنا عن إهلاك الخلق الأوّل-يعني من تقدّم ذكره حين كذّبوا رسلي مع قوّتهم-حتّى تشكّوا في إهلاكنا لكم مع ضعفكم إن كذبتم؟فيكون هذا خارجا منه مخرج الوعيد.

الثّاني:معناه أنّنا لم نعجز عن إنشاء الخلق الأوّل،فكيف تشكّون في إنشاء خلق جديد؟يعني بالبعث بعد الموت،فيكون هذا خارجا مخرج البرهان و الدّليل.(5:345)

الطّوسيّ: [نقل قول الحسن ثمّ قال:]

و قد يكون ذلك المراد لإقرارهم به و أنّهم ولده...

و المعنى إنّا كما لم نعي بالخلق الأوّل لا نعيا بخلقهم على وجه الإعادة،و العيّ عجز بانقلاب المعنى على النّفس.

(9:362)

الزّمخشريّ: فإن قلت:لم نكّر الخلق الجديد، و هلاّ عرّف كما عرّف الخلق الأوّل؟

قلت:قصد في تنكيره إلى خلق جديد،له شأن عظيم و حال شديدة،حقّ من سمع به أن يهتمّ به و يخاف و يبعث عنه،و لا يقعد على لبس فى مثله.

(4:5)

ابن عطيّة: و الخلق الأوّل:إنشاء الإنسان من نطفة على التّدريج المعلوم.و الخلق الجديد:البعث في القبور.(5:159)

الفخر الرّازيّ: و فيه وجهان:

أحدهما:أنّه استدلال بدلائل الأنفس،لأنّا ذكرنا مرارا أنّ الدّلائل آفاقيّة و نفسيّة،كما قال تعالى:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ فصّلت:

53،و لمّا قرن اللّه تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها الحجر:19،و في غير ذلك ذكر الدّليل النّفسيّ؛و على هذا فيه لطائف لفظيّة و معنويّة.

أمّا اللّفظيّة فهي أنّه تعالى في الدّلائل الآفاقيّة

ص: 573

عطف بعضها على بعض بحرف الواو،فقال:

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها الحجر:19،و قال: وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ق:9،ثمّ في الدّليل النّفسيّ ذكر حرف الاستفهام و الفاء بعدها إشارة إلى أنّ تلك الدّلائل من جنس،و هذا من جنس،فلم يجعل هذا تبعا لذلك،و مثل هذا مراعى في أواخر«يس»حيث قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ يس:77،ثمّ لم يعطف الدّليل الآفاقيّ هاهنا؟

نقول-و اللّه-:أعلم هاهنا وجد منهم الاستبعاد بقوله ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ق:3،فاستدلّ بالأكبر- و هو خلق السّماوات-ثمّ نزل كأنّه قال:لا حاجة إلى ذلك الاستدلال،بل في أنفسهم دليل جواز ذلك،و في سورة«يس»لم يذكر استبعادهم،فبدأ بالأدنى و ارتقى إلى الأعلى.

و الوجه الثّاني:يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأوّل هو خلق السّماوات،لأنّه هو الخلق الأوّل، و كأنّه تعالى قال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ ق:6، ثمّ قال:(أ فعيينا)بهذا الخلق،و يدلّ على هذا قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ الأحقاف:33،و يؤيّد هذا الوجه هو أنّ اللّه تعالى قال بعد هذه الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق:16، فهو كالاستدلال بخلق الإنسان،و هو معطوف بحرف الواو على ما تقدّم من الخلق،و هو بناء السّماء و مدّ الأرض و تنزيل الماء و إنبات الجنّات،و في تعريف (الخلق الاول)و تنكير خَلْقٍ جَدِيدٍ وجهان:

أحدهما:ما عليه الأمران،لأنّ الأوّل عرفه كلّ واحد و علم لنفسه،و الخلق الجديد لم يعلم لنفسه و لم يعرفه كلّ أحد،و لأنّ الكلام عنهم و هم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد.

و الوجه الثّاني:أنّ ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثّاني من كلّ وجه،كأنّهم قالوا:أ يكون لنا خلق ما؟ على وجه الإنكار له بالكلّيّة.و قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ تقديره ما عيينا بل هم في شكّ من خلق جديد،يعني لا مانع من جهة الفاعل،فيكون من جانب المفعول و هو الخلق الجديد،لأنّهم كانوا يقولون:ذلك محال،و امتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزا فيه،و يقال:للمشكوك فيه«ملتبس»كما يقال لليقين:

إنّه ظاهر و واضح.(28:161)

أبو حيّان : مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي من البعث من القبور.(8:123)

الشّربينيّ: أي أحصل لنا مع ما لنا من العظمة الإعياء-و هو العجز بسبب الخلق-في شيء من إيجاده أو إعدامه؟(الاوّل)أي من السّماوات و الأرض و ما بينهما حين ابتدأناه اختراعا من العدم،و من خلق الإنسان و سائر الحيوان مجدّدا في كلّ أوان في الأطوار المشاهدة على هذه التّدريجات المعتادة،بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه ممّا ليس له أصل في الحياة،و من إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم،أو تدريجا كغيرهم، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي شكّ شديد و شبهة موجبة للتّكلّم بكلام مختلط لا يعقل له معنى، بل السّكوت عنه أجمل،(من)أي لأجل(خلق)

ص: 574

(جديد)أي بالإعادة.(4:83)

أبو السّعود : بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدّر يدلّ عليه ما قبله،كأنّه قيل:هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأوّل،بل هم في خلط و شبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة.

و تنكير(خلق)لتفخيم شأنه و الإشعار بخروجه عن حدود العادات،و الإيذان بأنّه حقيق بأن يبحث عنه و يهتمّ بمعرفته.(6:125)

البروسويّ: و في«عين المعاني»(الخلق الاول:)آدم عليه السّلام و هم يقرّون به.و في«التّأويلات النّجميّة»أ فاعتاص علينا فعل شيء حتّى نعيا بالبعث أو يشقّ علينا البعث؟أي ليس كذلك، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، يقال:جدّدت الثّوب،إذا قطعته على وجه الإصلاح،و ثوب جديد أصله المقطوع،ثمّ جعل لكلّ ما أحدث إنشاؤه و خَلْقٍ جَدِيدٍ: إشارة إلى النّشأة الثّانية،و قوبل الجديد بالخلق لما كان المقصود بالجديد:القريب العهد بالقطع من الثّواب،و منه قيل للّيل و النّهار:الجديدان، و الأجدّان-كما فى المفردات-و الجملة عطف على مقدّر يدلّ عليه ما قبله،كأنّه قيل:هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأوّل،بل هم فى خلط و شبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة؛إذ لم تجر العادة بالإعادة في هذه الدّار.و هذا قياس فاسد،كما لا يخفى.

و قال الكاشفىّ:إنّ مشركي مكّة يعترفون بأنّ اللّه تعالى مبدع للخلق في الأوّل،و قال:بأنّ من قدر على خلق الجميع بلا مادّة و مساعدة،فكيف لا يقدر على إعادتهم بجمع الموادّ و ردّ الحياة إليهم؟و نحن قادرون بلا شبهة،بل الكافرون في شكّ و شبهة بسبب وساوس الشّيطان من خلق جديد و البعث،الّذي يروه مخالفا للعادة.

و تنكير(خلق)لتفخيم شأنه و الإشعار بخروجه عن حدود العادات،أو الإيذان بأنّه حقيق بأن يبحث عنه و يهتمّ بمعرفته،و لا يقعد على لبس.و اعلم أنّ هذا الخلق الجديد حاصل في الدّنيا أيضا،سواء كان في الأعراض أو في الأجسام،و هو مذهب الصّوفيّة و مذهب المتكلّمين،فإنّهم جوّزوا انتفاء الأجسام في كلّ آن و مشاهدة بقائها بتجدّد الأمثال،أي الأجسام الأخر،أي كما جوّزوا انتفاء الأعراض في كلّ آن و مشاهدة بقائها بتجدّد الأمثال-أي الأعراض الأخر -أي كما أنّه جائز في الأعراض الّتي هي غير قائمة بذواتها،كذلك جائز فى الجواهر الّتي هي قائمة بذواتها.(9:111)

الآلوسيّ: ...و عن الحسن(الخلق الاول):

آدم عليه السّلام،و ليس بالحسن.[إلى أن قال:]

بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدّر يدلّ عليه ما قبله،كأنّه قيل:إنّهم معترفون بالأوّل غير منكرين قدرتنا عليه،فلا وجه لإنكارهم الثّاني،بل هم في خلط و شبهة في خلق مستأنف.و إنّما نكّر«الخلق»و وصف ب(جديد)و لم يقل:من الخلق الثّاني،تنبيها على مكان شبهتهم و استبعادهم العاديّ بقوله سبحانه:(جديد،)و أنّه خلق عظيم يجب أن يهتمّ بشأنه،فله نبأ أيّ نبإ.

ص: 575

و التّعظيم ليس راجعا إلى الخلق من حيث هو هو حتّى يقال:إنّه أهون من الخلق الأوّل،بل إلى ما يتعلّق بشأن المكلّف و ما يلاقيه بعده و هو هو.و قال بعض المحقّقين:نكّر،لأنّه لاستبعاده عندهم كان أمرا عظيما.

و جوّز أن يكون التّنكير للإبهام إشارة إلى أنّه خلق على وجه لا يعرفه النّاس.

و أورد الشّيخ الأكبر قدّس سرّه هذه الآية في معرض الاستدلال على تجدّد الجواهر،كالتّجدّد الّذي يقوله الأشعريّ في الأعراض،فكلّ منهما عند الشّيخ لا يبقى زمانين.و يفهم من كلامه قدّس سرّه أنّ ذلك مبنيّ على القول بالوحدة،و أنّه سبحانه كلّ يوم هو في شأن.و لعمري أنّ الآية بمعزل عمّا يقول: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق:16.(26:176)

ابن عاشور :و(بل)في قوله: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ للإضراب الإبطاليّ عن المستفهم عنه،أي بل ما عيينا بالخلق الأوّل،أي و هم يعلمون ذلك،و يعلمون أنّ الخلق الأوّل للأشياء أعظم من إعادة خلق الأموات،و لكنّهم تمكّن منهم اللّبس الشّديد،فأغشى إدراكهم عن دلائل الإمكان فأحالوه،فالإضراب على أصله من الإبطال.[إلى أن قال:]

و(من)في قوله: مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ابتدائيّة و هي صفة ل(لبس،)أي لبس واصل إليهم و منجرّ عن خلق جديد،أي من لبس من التّصديق به.

و تنكير(لبس)للنّوعيّة،و تنكير خَلْقٍ جَدِيدٍ كذلك،أي ما هو إلاّ خلق من جملة ما يقع من خلق اللّه الأشياء ممّا وجه إحالته.و لتنكيره أجريت عليه الصّفة ب(جديد.)

و الجديد:الشّيء الّذي في أوّل أزمان وجوده.

و في هذا الوصف تورّك عليهم،و تحميق لهم من إحالتهم البعث،أي اجعلوه خلقا جديدا كالخلق الأوّل،و أيّ فارق بينهما.

و في تسمية إعادة النّاس للبعث باسم الخلق إيماء إلى أنّها إعادة بعد عدم الأجزاء لا جمع لمتفرّقها،و قد مضى القول فيه في أوّل السّورة.(26:247)

الطّباطبائيّ: و قوله: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ اللّبس هو الالتباس،و المراد بالخلق الجديد:

تبديل نشأتهم الدّنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النّظام الطّبيعيّ الحاكم في الدّنيا،فإنّ في النّشأة الأخرى-و هي الخلق الجديد-بقاء من غير فناء و حياة من غير موت.ثمّ إن كان الإنسان من أهل السّعادة فله نعمة من غير نقمة،و إن كان من أهل الشّقاء ففي نقمة لا نعمة معها،و النّشأة الأولى-و هي الخلق الأوّل-و النّظام الحاكم فيها على خلاف ذلك.

و المعنى إذا كنّا خلقنا العالم بسمائه و أرضه و ما فيهما،و دبّرناه أحسن تدبير لأوّل مرّة بقدرتنا و علمنا،و لم نعجز عن ذلك علما و قدرة،فنحن غير عاجزين عن تجديد خلقه،و هو تبديله خلقا جديدا، فلا ريب في قدرتنا و لا التباس،بل هم في التباس لا سبيل لهم مع ذلك إلى الإيمان بخلق جديد.

(18:345)

ص: 576

مكارم الشّيرازيّ: ...ثمّ يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النّشور و يوم القيامة،فيقول:

أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ.

ثمّ يضيف القرآن:أنّهم لا يشكّون و لا يتردّدون في الخلق الأوّل،لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو اللّه، و لكنّهم يشكّون في المعاد مع كلّ تلك الدلائل الواضحة: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ.

و في الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النّفس و التّعصّب الأعمى،فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق النّاس أوّلا هو اللّه إذ خلقهم من تراب،إلاّ أنّهم من جهة أخرى حين يقع الكلام على المعاد و خلق الإنسان ثانية من التّراب،يعدّون ذلك أمرا عجيبا، و لا يمكن تصوّره و قبوله،في حين أنّ الأمرين متماثلان،و حكم الأمثال في ما يجوز و ما لا يجوز واحد.

و هكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات و الآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة:فتارة عن طريق علم اللّه،و أخرى عن طريق قدرته،و ثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد و مشاهده في عالم النّباتات، و أخيرا عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

و متى ما عدنا إلى آيات القرآن الأخر في مجال المعاد،وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة أخر وردت في آيات مختلفة و بصورة مستقلّة،و قد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم و التّعبير السّليم و الأسلوب الرّائع القاطع للمنكرين،و بيّنه بأحسن وجه.فلو خضعوا لمنطق العقل،و تجنّبوا الأحكام المسبقة و التّعصّب الأعمى و التّقليد السّاذج،فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة،و سيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمرا ملتويا و عسيرا.(17:22)

فضل اللّه : أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ في بداية خلق الإنسان،و خلق الكون كلّه في نظام متقن و تدبير حكيم،فهل هناك عجز في حركة القدرة لإعادته من جديد؟و لكن مشكلة هؤلاء أنّهم لا يفكّرون بالأمر تفكير وعي و انفتاح يزن الأمور بميزان العلم الّذي يربط بين الأشياء،على أساس القاعدة الّتي ترتكز عليها مظاهرها، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ إذ دفعتهم الغفلة إلى التّخبّط في أوهامهم و أفكارهم المعقّدة،ضدّ فكرة المعاد و الخلق الجديد الّذي يعقب الخلق الأوّل،هذه الفكرة الّتي من شأنها-فيما لو تحكّمت في قلب الإنسان و وعيه-أن تحرّك نشاطه في الاتّجاه المستقيم في الدّنيا،و تدفعه إلى مواجهة النّتائج في الآخرة،و بالتّالي من شأنها أن تعمّق من شعوره بالمسئوليّة اتّجاه نفسه و اتّجاه محيطه الإنسانيّ و غير الإنسانيّ.إلاّ أنّ هؤلاء السّادرون في غياهب الشّدّة و اللّبس،يتحرّكون كما لو أنّ الأمر ملتبس عليهم في الدّوائر الّتي لا تسمح بأيّ التباس من أيّ نوع كان،لأنّ عقلانيّة المنطق في المسألة،لا توحي إلاّ بالوضوح لمصلحة الفكرة الرّساليّة.(21:178)

خلقا

1- وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً... الإسراء:49

ابن عبّاس: تجدّد بعد الموت فينا الرّوح.(237)

ص: 577

الطّبريّ: و قوله: أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قالوا إنكارا منهم للبعث بعد الموت:إنّا لمبعوثون بعد مصيرنا في القبور عظاما غير منحطمة،و رفاتا منحطمة،و قد بلينا فصرنا فيها ترابا،خلقا منشأ،كما كنّا قبل الممات جديدا،نعاد كما بدئنا،فأجابهم جلّ جلاله يعرّفهم قدرته على بعثه إيّاهم بعد مماتهم، و إنشائه لهم،كما كانوا قبل بلاهم خلقا جديدا.

على أيّ حال كانوا من الأحوال،عظاما أو رفاتا، أو حجارة أو حديدا،أو غير ذلك ممّا يعظم عندهم أن يحدث مثله خلقا أمثالهم أحياء،قل يا محمّد:كونوا حجارة أو حديدا،أو خلقا ممّا يكبر في صدوركم.

(8:89)

الطّوسيّ: و الخلق الجديد:هو المجدّد،أي يبعثهم اللّه أحياء بعد أن كانوا أمواتا.أنكروا ذلك و تعجّبوا منه،فقال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله:قل لهم كونوا حجارة أو حديدا،أي لو كنتم حجارة أو حديدا بعد موتكم لأحياكم و حشركم و لم تفوتوا اللّه،إلاّ أنّه خرج مخرج الأمر،لأنّه أبلغ في الإلزام،كأنّ أكثر ما يكون منهم مطلوب حتّى يروا أنّه هيّن حقير.(6:486)

القشيريّ: أقرّوا بأنّ اللّه خلقهم،ثمّ أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عدمهم،و لكن كما جاز أن يوجدهم أوّلا و هم في كتم العدم و لم يكن لهم عين و لا أثر،و لكنّهم كانوا في متناول القدرة و متعلّق الإرادة، فمن حقّ صاحب القدرة و الإرادة أن يعيدهم إلى الوجود مرّة أخرى،و هكذا إذا رمدت عين قلب لم يستبصر صاحبه.(4:23)

الميبديّ: نبعث و نخلق خلقا مجدّدا حين صرنا عظاما و رفاتا حطاما؟(5:563)

الزّمخشريّ: و المعنى أنّكم تستبعدون أن يجدّد اللّه خلقكم و يردّه إلى حال الحياة و إلى رطوبة الحيّ و غضاضته بعد ما كنتم عظاما يابسة؟مع أنّ العظام بعض أجزاء الحيّ بل هي عمود خلقه الّذي يبنى عليه سائره،فليس ببدع أن يردّها اللّه بقدرته إلى حالتها الأولى.و لكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة و رطوبة الحيّ و من جنس ما ركّب منه البشر،و هو أن تكونوا حجارة يابسة أو حديدا-مع أنّ طباعها الجسارة و الصّلابة-لكان قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة.(2:452)

القرطبيّ: و(خلقا)نصب لأنّه مصدر،أي بعثا جديدا.و كان هذا غاية الإنكار منهم.(10:273)

الشّربينيّ: تنبيه:تقرير شبهة هؤلاء الضّلال،هي أنّ الإنسان جفّت أعضاؤه،و تناثرت،و تفرّقت في جوانب العالم،و اختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم،فالأجزاء المائيّة مختلطة بمياه العالم،و الأجزاء التّرابيّة مختلطة بالتّراب،و الأجزاء الهوائيّة مختلطة بالهواء،فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرّة أخرى، و كيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرّة أخرى؟هذا تقرير شبهتهم؟

أجيب عنها:بأنّها لا تتمّ إلا بالقدح في كمال علم اللّه تعالى،و في كمال قدرته،فإنّه تعالى قادر على كلّ الممكنات،فهو قادر على إعادة التّأليف و التّركيب و الحياة و العقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها،فمن سلّم

ص: 578

كمال علم اللّه تعالى و كمال قدرته زالت عنه هذه الشّبهة بالكلّيّة.(2:311)

أبو السّعود : خَلْقاً جَدِيداً نصب على المصدر من غير لفظه،أو الحاليّة على أنّ الخلق بمعنى المخلوق.

(4:136)

مثله البروسويّ.(5:169)

الآلوسيّ: نصب بمبعوثين على أنّه مفعول مطلق له من غير لفظ فعله،أو حال على أنّ الخلق بمعنى المخلوق،و وحّد لاستواء الواحد في المصدر،و إن أريد منه اسم المفعول أي مخلوقين.(15:91)

ابن عاشور :و خَلْقاً جَدِيداً حال من ضمير (مبعوثون،)و ذكر الحال لتصوير استحالة البعث بعد الفناء،لأنّ البعث هو الإحياء،فإحياء العظام و الرّفات محال عندهم،و كونهم خلقا جديدا أدخل في الاستحالة.

و الخلق:مصدر بمعنى المفعول،و لكونه مصدرا لم يتّبع موصوفه في الجمع.(14:99)

2- قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ... الإسراء:50،51

ابن عبّاس: يعني:الموت لبعثتم.(237)

ابن عمر:الموت،لو كنتم موتى لأحييتكم.

(الطّبريّ 8:89)

سعيد بن جبير: كونوا الموت إن استطعتم،فإنّ الموت سيموت،و ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت.(الطّبريّ 8:90)

مجاهد:ما شئتم فكونوا،فسيعيدكم اللّه كما كنتم.(الطّبريّ 8:90)

يجاء بالموت يوم القيامة كأنّه كبش أملح،حتّى يجعل بين الجنّة و النّار،فينادي مناد يسمع أهل الجنّة و أهل النّار،فيقول:هذا الموت قد جئنا به و نحن مهلكوه،فأيقنوا يا أهل الجنّة و أهل النّار أنّ الموت قد هلك.(الطّبريّ 8:90)

نحوه عبد اللّه بن عمرو بن العاص.(الطّبريّ 8:90)

الضّحّاك: يعني الموت،يقول:لو كنتم الموت لأمتّكم.(الطّبريّ 8:90)

الحسن :الموت.(الطّبريّ 8:90)

مثله أبو صالح.(الطّبريّ 8:89)

قتادة :السّماء و الأرض و الجبال.(الطّبريّ 8:90)

من خلق اللّه،فإنّ اللّه يميتكم ثمّ يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا.(الطّبريّ 8:90)

الكلبيّ: أنّه أراد البعث،لأنّه كان أكبر شيء في صدورهم.(الماورديّ 4:248)

الفرّاء: قالوا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:أ رأيت لو كنّا الموت من يميتنا؟فأنزل اللّه عزّ و جلّ أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني الموت نفسه أي لبعث اللّه عليكم من يميتكم.(2:125)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:قل يا محمّد للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين:

أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً كونوا إن عجبتم من إنشاء اللّه إيّاكم،و إعادته أجسامكم،خلقا جديدا بعد بلاكم في التّراب،

ص: 579

و مصيركم رفاتا،و أنكرتم ذلك من قدرته حجارة أو حديدا،أو خلقا ممّا يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك،فإنّي أحييكم و أبعثكم خلقا جديدا بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة.

و اختلف أهل التّأويل في المعنيّ بقوله: أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فقال بعضهم:عني به الموت، و أريد به:أو كونوا الموت،فإنّكم إن كنتموه أمتّكم ثمّ بعثتكم بعد ذلك يوم البعث.

و قال آخرون:عني بذلك السّماء و الأرض و الجبال.

و قال آخرون:بل أريد بذلك:كونوا ما شئتم.

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب أن يقال:إنّ اللّه تعالى ذكره قال: أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ و جائز أن يكون عنى به الموت،لأنّه عظيم في صدور بني آدم،و جائز أن يكون أراد به السّماء و الأرض، و جائز أن يكون أراد به غير ذلك،و لا بيان في ذلك أبين ممّا بيّن جلّ ثناؤه،و هو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه،لأنّه لم يخصّص منه شيئا دون شيء.

(8:89)

الزّجّاج: أكثر ما جاء في التّفسير في قوله:

أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ إنّ هذا الخلق هو الموت،و قيل:خلقا ممّا يكبر في صدوركم،نحو السّماوات و الأرض و الجبال.و معنى هذه الآية فيه لطف و غموض،لأنّ القائل يقول:كيف يقال لهم:

كونوا حجارة أو حديدا و هم لا يستطيعون ذلك؟ فالجواب في ذلك أنّهم كانوا يقرّون أنّ اللّه جلّ ثناؤه خالقهم،و ينكرون أنّ اللّه يعيدهم خلقا آخر،فقيل لهم:استشعروا أنّكم لو خلقتم من حجارة أو حديد لأماتكم اللّه ثمّ أحياكم،لأنّ القدرة الّتي بها أنشأكم- و أنتم مقرّون أنّه أنشأكم بتلك القدرة-بها يعيدكم، و لو كنتم حجارة أو حديدا،أو كنتم الموت الّذي هو أكبر الأشياء في صدوركم.(3:244)

الطّوسيّ: [اكتفى بنقل أقوال السّابقين]

(6:487)

القشيريّ: أخبر سبحانه و تعالى أنّه لا يتعصّى عليه مقدور،لأنّه موصوف بقدرة أزليّة،و قدرته عامّة التّعلّق،فلا المشقّة تجوز في صفته و لا الرّفاهيّة.فالخلق الأوّل و الإعادة عليه سيّان،لا من هذا عائد إليه و لا من ذاك،لأنّ قدمه يمنع تأثير الحدوث فيه.(4:24)

الزّمخشريّ: يعني أو خلقا ممّا يكبر عندكم عن قبول الحياة،و يعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنّه يحييه.

و قيل:ما يكبر في صدورهم الموت.

و قيل:السّماوات و الأرض.(2:452)

ابن عطيّة: ...و قال قتادة و مجاهد:بل أحال على فكرتهم عموما،و رجّحه الطّبريّ.و هذا هو الأصحّ،لأنّه بدأ بشيء صلب،ثمّ تدرّج القول إلى أقوى منه،ثمّ أحال على فكرهم،إن شاءوا في أشدّ من الحديد،فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء،ثمّ احتجّ عليهم عزّ و جلّ في الإعادة بالفطرة الأولى،من حيث خلقهم،و اخترعهم من تراب،فكذلك يعيدهم إذا شاء،لا ربّ غيره.(3:462)

ص: 580

الطّبرسيّ: أي:خلقا هو أعظم من ذلك عندكم و أصعب،فإنّكم لا تفوتون اللّه تعالى،و سيحييكم بعد الموت،و ينشركم.إلاّ أنّ الكلام خرج مخرج الأمر، لأنّه أبلغ في الإلزام.

و قيل:يعني بقوله:ما يكبر في صدوركم الموت، عن ابن عبّاس،و سعيد بن جبير،أي لو كنتم الموت، لأماتكم اللّه تعالى،و ليس شيء أكبر في صدور بني آدم من الموت.(3:420)

الفخر الرّازيّ: فإن قيل:ما المراد بقوله: أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ؟

قلنا:المراد أنّ كون الحجر و الحديد قابلا للحياة أمر مستبعد،فقيل لهم:فافرضوا شيئا آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر و الحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلا للحياة.و على هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعيّن ذلك الشّيء،لأنّ المراد أنّ أبدان النّاس و إن انتهت بعد موتها إلى أيّ صفة فرضت و أيّ حالة قدّرت،و إن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة،إنّ اللّه تعالى قادر على إعادة الحياة إليها.و إذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشّيء.

و قال ابن عبّاس:المراد منه الموت،يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت،فإنّ اللّه تعالى يعيد الحياة إليها.

و اعلم أنّ هذا الكلام إنّما يحسن ذكره على سبيل المبالغة،مثل أن يقال:لو كنت عين الحياة فاللّه يميتك، و لو كنت عين الغنى فإنّ اللّه يفقرك،فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة،أمّا في نفس الأمر فهذا محال،لأنّ أبدان النّاس أجسام و الموت عرض،و الجسم لا ينقلب عرضا ثمّ بتقدير أن ينقلب عرضا فالموت لا يقبل الحياة،لأنّ أحد الضّدّين يمتنع اتّصافه بالضّدّ الآخر.

(20:226)

نحوه النّيسابوريّ.(15:45)

أبو حيّان : أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ عندكم عن قبول الحياة،و يعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنّه يحييه... أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ صلابته و زيادته على قوّة الحديد و صلابته،و لم يعيّنه ترك ذلك إلى أفكارهم و جولانها فيما هو أصلب من الحديد،فبدأ أوّلا بالصّلب ثمّ ذكر على سبيل التّرقّيّ الأصلب منه،ثمّ الأصلب من الحديد،أي افرضوا ذواتكم شيئا من هذه،فإنّه لا بدّ لكم من البعث على أيّ حال كنتم...

و قال مجاهد:الّذي يكبر السّماوات و الأرض و الجبال،و لمّا ذكر أنّهم لو كانوا أصلب شيء و أبعده من حلول الحياة به،كان خلق الحياة فيه ممكنا.

قالوا:من الّذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا و إعادتنا؟فنبّههم على ما يقتضي الإعادة،و هو أنّ الّذي أنشأكم و اخترعكم أوّل مرّة هو الّذي يعيدكم.

(6:46)

أبو السّعود :أي يعظم عندكم عن قبول الحياة لكمال المباينة و المنافاة بينها و بينه،فإنّكم مبعوثون و معادون لا محالة.(4:136)

نحوه البروسوي.(5:170)

الآلوسيّ: أَوْ خَلْقاً أي مخلوقا آخر مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي ممّا يستبعد عندكم قبوله

ص: 581

الحياة،لكونه أبعد شيء منها،و تعيينه مفوّض إليكم، فإنّ اللّه تعالى لا يعجزه إحياؤكم لتساوي الأجسام في قبول الأعراض،فكيف إذا كنتم عظاما بالية؟و قد كانت موصوفة بالحياة قبل،و الشّيء أقبل لما عهد فيه ممّا لم يعهد.(15:91)

ابن عاشور :و الخلق:بمعنى المخلوق،أي أو خلقا آخر ممّا يعظم في نفوسكم عن قبوله الحياة، و يستحيل عندكم على اللّه إحياؤه،مثل الفولاذ و النّحاس.(14:102)

الطّباطبائيّ: جواب عن استبعادهم،و قد عبّروا في كلامهم بقولهم: أَ إِذا كُنّا فأمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديدا إلخ،ممّا تبديله إلى الإنسان أبعد و أصعب عندهم من تبديل العظام الرّفات إليه.

فيكون إشارة إلى أنّ القدرة المطلقة الإلهيّة لا يشقّها شيء تريد تجديد خلقه،سواء أ كان عظاما و رفاتا،أو حجارة أو حديدا،أو غير ذلك.

و المعنى:قل لهم ليكونوا شيئا أشدّ من العظام و الرّفات حجارة أو حديدا أو مخلوقا آخر،من الأشياء الّتي تكبر في صدورهم،و يبالغون في استبعاد أن يخلق منه الإنسان،فليكونوا ما شاءوا فإنّ اللّه سيعيد إليهم خلقهم الأوّل و يبعثهم.(13:116)

مكارم الشّيرازيّ:

حتميّة البعث و يوم الحساب

الآيات السّابقة تحدّثت عن التّوحيد و حاربت الشّرك،أمّا الآيات الّتي نبحثها الآن فتتحدّث عن المعاد و الّذي يعتبر مكمّلا للتّوحيد.

لقد قلنا سابقا:إنّ أهمّ العقائد الإسلاميّة تتمثّل في الاعتقاد بالمبدإ و المعاد،و الاعتقاد بهذين الأصلين يربّيان الإنسان عمليّا و أخلاقيّا،و يصدّانه عن الذّنوب،و يدعوانه لأداء مسئوليّاته،و يرشدانه إلى طريق التّكامل.

الآيات الّتي نحن بصددها أجابت على ثلاثة أسئلة-أو شكوك-يثيرها منكر و المعاد:ففي البداية تحكي الآيات على لسان المنكرين استفهامهم: قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، يقول هؤلاء:هل يمكن أن تجتمع هذه العظام المتلاشية الدّاثرة المتناثرة في كلّ مكان؟و هل يمكن أن تعاد لها الحياة مرّة أخرى؟.ثمّ أين هذه العظام النّخرة المتناثرة في كلّ حدب و صوب من هذا الإنسان الحيّ القويّ العاقل؟

إنّ التّعبير القرآنيّ في هذه الآية الكريمة يدلّل على أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كان يبيّن في دعوته المعاد الجسمانيّ بعد موت الإنسان؛إذ لو كان الكلام عن معاد الرّوح فقط،لم يكن ثمّة سبب لإيراد مثل هذه الإشكالات من قبل المعارضين و المنكرين.

القرآن في إجابته على هؤلاء يبيّن أنّ قضيّة بعث عظام الإنسان سهلة و ممكنة،بل و أكثر من ذلك، فحتّى لو كنتم حجارة أو حديدا قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً و حتّى لو كنتم أشدّ من الحجر و الحديد و أبعد منهما من الحياة أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فإنّ البعث سيكون مصيركم.

ص: 582

من الواضح أنّ العظام بعد أن تندثر و تتلاشى تتحوّل إلى تراب،و التّراب فيه دائما آثار الحياة؛إذ النّباتات تنمو في التّربة،و الأحياء تنمو في التّراب، و أصل خلقة الإنسان هي من التّراب،و هذا كلام مختصر على أنّ التّراب هو أساس الحياة.

أمّا الحجارة أو الحديد أو ما هو أكبر منهما تحدّى به القرآن منكري المعاد،فإنّ كلّ هذه أمور بينها و بين الحياة بون شاسع؛إذ لا يمكن للنّبات مثلا أن ينبت في الحديد أو الصّخور.أمّا القرآن فيبيّن أن لا فرق عند الخالق جلّ و علا،من أيّ مادّة كنتم؛إذ أنّ عودتكم إلى الحياة بعد الموت تبقى ممكنة،بل و هي المصير الّذي لا بدّ و أن تنتهون إليه.

إنّ الأحجار تتلاشى و تتحوّل إلى تراب،و أصل الحياة ينبع من هذا التّراب.الحديد هو الآخر يتلاشى و يتفاعل مع باقي الموجودات على الكرة الأرضيّة، ليدخل في أصل مادّتها،و في تركيبها التّرابيّ الّذي هو أيضا أصل الحياة الّذي تنبع من داخله،و من مادّته الموجودات الحيّة.و هكذا تحتوي جميع موجودات الكرة الأرضيّة بما فيها الإنسان،في بنائها و تركيبها على خليط من الفلزّات و اللاّفلزّات.و هذا التّحوّل و التّغيّر في حركة الموجودات،دليل على أنّ جميع مخلوقات عالم الوجود لها قابليّة التّحوّل إلى موجود حيّ باختلاف واحد يقع في الدّرجة و المرحلة؛إذ بعضها يكون في مرتبة أقرب إلى الحياة مثل التّراب، بينما بعضها الآخر يكون في مرتبة أبعد مثل الحجارة و الحديد.(9:23)

فضل اللّه:و هذا هو المنطق السّاذج الّذي يخاطبون به عقيدة الآخرة في موقف رافض،فتقادم الزّمن بعد الموت يحوّل الجسد إلى عظام و رفات جامد لا أثر فيه للحياة،فلا نبضة و لا حركة،فكيف يمكن أن تدبّ الحياة فيه،لينبض من جديد و يتحرّك؟إنّ هذا لشيء عجيب يشبه الخرافة،فكيف يتحوّل إلى عقيدة أو إيمان؟

و لكنّ المنطق القرآنيّ يثير المسألة بأسلوب التّحدّيّ الّذي يصعّد المسألة: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً في ما يتميّزان به من الصّلابة و الشّدّة و الخلوّ عن كلّ أثر للحياة، أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ممّا تشاهدونه أو تسمعون به.

كونوا كما تشاءون أن تتصوّروا أنفسكم فيه، و تبدّلوا في أيّة صورة من الصّور،فليست المشكلة كامنة في طبيعة الشّكل الّذي تتمثّل فيه الحياة أوّلا،ثمّ تموت،لتعود من جديد في عمليّة البعث الأخرويّ،بل هي مشكلة القدرة الّتي تملك سرّ الحياة في البداية،و في النّهاية.(14:141)

3- أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها

النّازعات:27

ابن عبّاس: بعثا و أحكم صنعة.(500)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره للمكذّبين بالبعث من قريش،القائلين: أَ إِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً* قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ النّازعات:11،12،أ أنتم أيّها النّاس أشدّ خلقا،أم السّماء بناها ربّكم،فإنّ من بنى السّماء

ص: 583

فرفعها سقفا،هيّن عليه خلقكم و خلق أمثالكم، و إحياؤكم بعد مماتكم،و ليس خلقكم بعد مماتكم بأشدّ من خلق السّماء.(12:435)

الطّوسيّ: ثمّ خاطب الكفّار الجاحدين باللّه تعالى على وجه التّبكيت لهم و التّوبيخ أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً و معناه:أ أنتم أشدّ أمرا بصغر حالكم أَمِ السَّماءُ في عظم جرمها و شأنها،في وقوفها و سائر نجومها و أفلاكها.قال بعض النّحويّين(بنيها)من صلة(السماء.)

و المعنى أم الّتي بناها.و قال آخرون:(السماء) ليس ممّا يوصل،و لكنّ المعنى أ أنتم أشدّ خلقا أم السّماء أشدّ خلقا.ثمّ بيّن كيف خلقها،فقال:(بنيها) و اللّه تعالى لا يكبر عليه خلق شيء أشدّ من خلق غيره،و إنّما أراد أنتم أشدّ خلقا عندكم و في ظنّكم مع صغركم،أم السّماء مع عظمها و شدّة إحكامها؟و بيّن أنّه تعالى بنى السّماء.(10:260)

الميبديّ: (أ أنتم)استفهام على جهة التّوبيخ و التّقريع(أ أنتم)أيّها المنكرون البعث أصعب أن تخلقوا في تقديركم أَمِ السَّماءُ بعظمها و كثرة أجزائها؟فمن قدر على خلقها قدر على إعادتكم و إنشائكم،و خلق السّماوات و الأرض أكبر من خلق النّاس.(10:371)

الزّمخشريّ: يعني(أ أنتم)أصعب(خلقا) و إنشاء(ام السماء)ثمّ بيّن كيف خلقها فقال:

(بنيها)(4:216)

ابن عطيّة: و في هذه الآية دليل على أنّ بعث الأجساد من القبور لا يتعذّر على قدرة اللّه تعالى.

(5:434)

الطّبرسيّ: يعني أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم و في تقديركم أم السّماء،و هما في قدرة اللّه تعالى واحد؟.و هذا كقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ المؤمن:57.ثمّ ابتدأ فبيّن سبحانه كيف خلق السّماء،فقال:(بنيها)اللّه تعالى الّذي لا يكبر عليه خلق شيء.(5:434)

نحوه القرطبيّ(19:201)،و الشّربينيّ(4:480).

الفخر الرّازيّ: في المقصود من هذا الاستدلال وجهان:

الأوّل:أنّه استدلال على منكري البعث فقال:

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها فنبّههم على أمر يعلم بالمشاهدة؛و ذلك لأنّ خلقة الإنسان على صغره و ضعفه إذا أضيف إلى خلق السّماء على عظمها و عظم أحوالها يسير،فبيّن تعالى أنّ خلق السّماء أعظم،و إذا كان كذلك فخلقهم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدورا للّه تعالى فكيف ينكرون ذلك؟ و نظيره قوله: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يس:81،و قوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ المؤمن:

57،و المعنى:أخلقكم بعد الموت أشدّ أم خلق السّماء، أي عندكم،و في تقديركم،فإنّ كلا الأمرين بالنّسبة إلى قدرة اللّه واحد.

و الثّاني:أنّ المقصود من هذا الاستدلال بيان كونهم مخلوقين،و هذا القول ضعيف لوجهين:

ص: 584

أحدهما:أنّ من أنكر كون الإنسان مخلوقا فبأن ينكره في السّماء كان أولى.

و ثانيهما:أنّ أوّل السّورة كان في بيان مسألة الحشر و النّشر،فحمل هذا الكلام عليه أولى.(31:43)

أبو حيّان :الخطاب الظّاهر أنّه عامّ،و المقصود الكفّار منكر و البعث،وقفهم على قدرته تعالى. أَشَدُّ خَلْقاً أي أصعب إنشاء، أَمِ السَّماءُ، فالمسئول عن هذا يجيب و لا بدّ السّماء،لما يرى من ديمومة بقائها و عدم تأثّرها.(8:422)

أبو السّعود :خطاب لأهل مكّة المنكرين للبعث، بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التّوبيخ و التّبكيت بعد ما بيّن كمال سهولته بالنّسبة إلى قدرة اللّه تعالى، بقوله تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ الصّافّات:19، أي أخلقكم بعد موتكم أشدّ أي أشقّ و أصعب في تقديركم أم السّماء؟أي أم خلق السّماء على عظمها و انطوائها على تعاجيب البدائع الّتي تحار العقول عن ملاحظة أدناها،كقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ المؤمن:57،و قوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يس:81.(6:370)

نحوه الآلوسيّ.(30:31)

البروسويّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]

و هو استفهام تقرير ليقرّوا بأنّ خلق السّماء أصعب،فيلزمهم بأن يقول لهم أيّها السّفهاء:من قدر على الأصعب الأعسر،كيف لا يقدر على إعادتكم و حشركم و هي أسهل و أيسر؟فخلقكم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدور اللّه،فكيف تنكرون ذلك.

قوله:(أ أنتم)مبتدأ،و(اشد)خبره، و(خلقا)تمييز،و(السماء)عطف على(انتم) و حذف خبره لدلالة خبر(انتم)عليه،أي أم السّماء أشدّ خلقا.(10:323)

الطّباطبائيّ: خطاب توبيخيّ للمشركين المنكرين للبعث،المستهزئين به على سبيل العتاب، و يتضمّن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم: أَ إِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ* أَ إِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً النّازعات:10،11،بأنّ اللّه خلق ما هو أشدّ منكم خلقا،فهو على خلقكم و إنشائكم النّشأة الأخرى لقدير.

و يتضمّن أيضا الإشارة إلى الحجّة على وقوع البعث؛حيث يذكر التّدبير العامّ العالميّ و ارتباطه بالعالم الإنسانيّ،و لازمه ربوبيّته تعالى،و لازم الرّبوبيّة صحّة النّبوّة و جعل التّكاليف،و لازم ذلك الجزاء الّذي موطنه البعث و الحشر،و لذا فرّع عليه حديث البعث بقوله: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى النّازعات:34...

فقوله: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ استفهام توبيخيّ بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت.

و الإشارة إلى تفصيل خلق السّماء بقوله:(بنيها) إلخ،دليل على أنّ المراد به تقرير كون السّماء أشدّ خلقا.(20:189)

مكارم الشّيرازيّ: اللّمسات الرّبّانيّة في عالم

ص: 585

الطّبيعة و نظام الكون:

ينتقل البيان القرآنيّ مرّة أخرى إلى عالم القيامة، بعد ذكر تلك اللّمحات البلاغيّة في قصّة موسى عليه السّلام مع فرعون،فيعرض صورا من قدرة اللّه المطلقة في عالم الوجود،ليستدلّ به على إمكان المعاد،و يشرح بعض النّعم الإلهيّة على البشريّة الّتي لا تعدّ و لا تحصى، ليحرّك فيهم حسّ الشّكر،و الّذي من خلاله يتوصّلون لمعرفة اللّه.

و ابتدأ الخطاب باستفهام توبيخيّ لمنكري المعاد، هل أنّ خلقكم و إعادتكم إلى الحياة بعد الموت أصعب من خلق السّماء؟ أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها.

و الآية في واقعها جواب لما ذكر من قولهم في الآيات السّابقة: أَ إِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ النّازعات:10،أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الأولى،فكلّ إنسان-و مهما بلغت مداركه و مشاعره من مستوى-ليعلم أنّ خلق السّماء و ما يسبح فيها من نجوم و كواكب و مجرّات،لهو أعقد و أعظم من خلق الإنسان،و إذا فمن له القدرة على خلق السّماء و ما فيها من حقائق،أ يعقل أن يكون عاجزا عن إعادة الحياة مرّة أخرى إلى النّاس؟.(19:344)

فضل اللّه :الآيات الكونيّة و قدرة اللّه تعالى:

و تلتفت السّورة إلى المشركين الّذين أراد اللّه من رسوله أن يحدّثهم عن اليوم الّذي ترجف فيه الرّاجفة، و عن حديث موسى الّذي يتضمّن قوّة اللّه في أخذه، ليستشعروا حجمهم الحقير أمام قوّة اللّه.إنّها تخاطبهم مباشرة،ليتطلّعوا إلى ما يعيشونه من الشّعور بالقوّة، أمام الكون الّذي يحيط بهم في ما يجسّده من قدرة اللّه في خلقه،ليدخلوا في مقارنة حسّيّة بين عناصر القدرة فيه،و عوامل الضّعف فيهم،و حجم القوّة الّتي يملكونها إزاء ذلك،لأنّ التّحدّي في الأمور الحسّيّة قد يفرض نفسه عليهم أكثر من التّحدّي في الأمور الغيبيّة.

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ فهل يمكن أن يكون الجواب بأنّكم أشدّ خلقا منها؟إنّ الصّورة لا تحتمل ذلك،لأنّ الإنسان مهما كبر حجمه،و مهما اشتدّت قوّته،فإنّه لا يمثّل شيئا أمام هذه السّماء المترامية الأطراف الّتي بنيها اللّه بقوّته من غير عمد.(24:43)

خلقه

1- قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.

طه:50

ابن عبّاس: شكله،للإنسان إنسانا،و للبعير ناقة،و للحمار أتانا،و للشّاة النّعجة.(262)

خلق لكلّ شيء زوجة،ثمّ هداه لمنكحه و مطعمه و مشربه و مسكنه و مولده.(الطّبريّ 8:421)

سعيد بن جبير: يعني زوّج الإنسان المرأة، و البعير النّاقة،و الحمار الأتان،و الفرس الرّمكة.

ثُمَّ هَدى أي ألهمه كيف يأتي الذّكر الأنثى.

(البغويّ 3:264)

مجاهد :أعطى كلّ شيء صورته،ثمّ هدى كلّ شيء إلى معيشته.(الطّبريّ 8:422)

سوّى خلق كلّ دابّة،ثمّ هداها لما يصلحها فعلّمها إيّاه،و لم يجعل النّاس في خلق البهائم،و لا خلق البهائم

ص: 586

في خلق النّاس،و لكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.

(الطّبريّ 8:422)

الضّحّاك: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، يعني اليد للبطش،و الرّجل للمشي،و اللّسان للنّطق،و العين للبصر،و الأذن للسّمع.(الثّعلبيّ 6:247)

الحسن :أعطى كلّ شيء صلاحه،و هداه لما يصلحه.(البغويّ 3:264)

العوفيّ: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ يعني صورته.

(الثّعلبيّ 6:247)

قتادة :أعطى كلّ شيء ما يصلحه ثمّ هداه له.

(الطّبريّ 8:422)

السّدّيّ: يقول:أعطى كلّ دابّة خلقها زوجا،ثمّ هدى للنّكاح.(الطّبريّ 8:421)

الفرّاء: يقال:أعطى الذّكر من النّاس امرأة مثله من صنفه،و الشّاة شاة،و الثّور بقرة.(2:181)

الجبّائيّ: معناه:أعطى خلقه كلّ شيء من النّعم في الدّنيا ممّا يأكلون،و يشربون،و ينتفعون به،ثمّ هداهم إلى طرق معايشهم،و إلى أمور دينهم، ليتوصّلوا بها إلى نعم الآخرة.(الطّبرسيّ 4:13)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:قال موسى له مجيبا:

ربّنا الّذي أعطى كلّ شيء خلقه،يعني نظير خلقه في الصّورة و الهيئة كالذّكور من بني آدم،أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا،و كالذّكور من البهائم أعطاها نظير خلقها،و في صورتها و هيئتها من الإناث أزواجا،فلم يعط الإنسان خلاف خلقه،فيزوّجه بالإناث من البهائم،و لا البهائم بالإناث من الإنس، ثمّ هداهم للمأتيّ الّذي منه النّسل و النّماء كيف يأتيه، و لسائر منافعه من المطاعم و المشارب،و غير ذلك.

و قد اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك،فقال بعضهم:بنحو الّذي قلنا فيه.

و قال آخرون:معنى ذلك:أعطى كلّ شيء صورته،و هي خلقه الّذي خلقه به،ثمّ هداه لما يصلحه من الاحتيال للغذاء و المعاش.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:أعطى كلّ شيء صورته،و هي خلقه الّذي خلقه به،ثمّ هداه لما يصلحه من الاحتيال للغذاء و المعاش.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:أعطى كلّ شيء ما يصلحه،ثمّ هداه له.

و إنّما اخترنا القول الّذي اخترنا في تأويل ذلك، لأنّه جلّ ثناؤه أخبر أنّه أعطى كلّ شيء خلقه، و لا يعطي المعطي نفسه،بل إنّما يعطي ما هو غيره،لأنّ العطيّة تقتضي المعطي المعطى و العطيّة،و لا تكون العطيّة هي المعطى،و إذا لم تكن هي هو،و كانت غيره، و كانت صورة كلّ خلق بعض أجزائه،كان معلوما أنّه إذا قيل:أعطى الإنسان صورته،إنّما يعني أنّه أعطى بعض المعاني الّتي به مع غيره دعي إنسانا،فكأنّ قائله قال:أعطى كلّ خلق نفسه،و ليس ذلك إذا وجّه إليه الكلام بالمعروف من معاني العطيّة،و إن كان قد يحتمله الكلام.فإذا كان ذلك كذلك،فالأصوب من معانيه أن يكون موجّها إلى أنّ كلّ شيء أعطاه ربّه مثل خلقه، فزوّجه به،ثمّ هداه لما بيّنّا،ثمّ ترك ذكر مثل،و قيل:

أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ كما يقال:عبد اللّه مثل الأسد،ثمّ يحذف مثل،فيقول:عبد اللّه الأسد.(8:421)

الزّجّاج: معناه:خلق كلّ شيء على الهيئة الّتي بها ينتفع،و الّتي هي أصلح الخلق له،ثمّ هداه لمعيشته.

ص: 587

و قد قيل:ثمّ هداه لموضع ما يكون منه الولد.و الأوّل أبين في التّفسير،و هذا جائز،لأنّا نرى الذّكر من الحيوان يأتي الأنثى و لم ير ذكرا قد أتى أنثى قبله فألهمه اللّه عزّ و جلّ ذلك و هداه إلى المأتى.و القول الأوّل ينتظم هذا المعنى،لأنّه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة،و اللّه أعلم.(3:358)

الماورديّ: [نقل بعض الأقوال و أضاف:]

و يحتمل رابعا:أعطى كلّ شيء ما ألهمه من علم أو صناعة و هداه إلى معرفته.(3:406)

الطّوسيّ: و معناه أعطى كلّ شيء حيّ صورته الّتي قدّر له،ثمّ هداه إلى مطعمه و مشربه و مسكنه و منكحه،إلى غير ذلك من ضروب هدايته،في قول مجاهد.

و قيل:معناه:أعطى كلّ شيء مثل خلقه من زوجة،ثمّ هداه لمنكحه من غير أن رأى ذكرا أتى أنثى قبل ذلك.و حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه، و غير ذلك من هدايته.

و قرأ نصير عن الكسائيّ (خلقه) بفتح اللاّم و الخاء،على أنّه فعل ماض،الباقون بسكونها على أنّه مفعول به.

و المعنى:أنّه خلق كلّ شيء على الهيئة الّتي بها ينتفع و الّتي هي أصلح الخلق له،ثمّ هداه لمعيشته و منافعه لدينه و دنياه.(7:177)

نحوه الطّبرسيّ.(4:13)

القشيريّ: و إنّما أجاب موسى عن هذا السّؤال بالاستدلال على فعله سبحانه،فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ليعلم أنّ الدّليل على إثباته-سبحانه-ما دلّت عليه أفعاله.(4:134)

الميبديّ: ...قال موسى:ربّنا الّذي خلق كلّ شيء بالتّمام كما هو حقّه،يعني اليد للبطش،و الرّجل للمشي،و اللّسان للنّطق،و العين للبصر،و القلب للفهم،و خلق كلّ شيء زوجا،...كما قال في موضع آخر: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2.

و قرأ نصير (خلقه) بفتح اللاّم،أي كلّ ما خلقه،ما هو أصلح في معاشه و الانتفاع به،على أنّ(خلقه)فعل ماض من صلة(شىء،)و المفعول الثّاني محذوف لعلم المخاطبين بموضعه.

و قال بعض المفسّرين:(خلقه)الهاء مضاف إلى اللّه تعالى،يعني أعطى خلقه كلّ شيء من النّعم، و أعطى عباده كلّ شيء من نعمة و آلات خدمة،كما قال في موضع آخر: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً البقرة:29.(6:130)

الزّمخشريّ: (خلقه)أوّل مفعولي(اعطى) أي أعطى خليقته كلّ شيء يحتاجون إليه و يرتفقون به،أو ثانيهما أي أعطى كلّ شيء صورته و شكله الّذي يطابق المنفعة المنوطة به،كما أعطى العين الهيئة الّتي تطابق الإبصار،و الأذن الشّكل الّذي هو يوافق الاستماع،و كذلك الأنف و اليد و الرّجل و اللّسان:

كلّ واحد منها مطابق لما علّق به من المنفعة غير ناب عنه.أو أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق و الصّورة؛ حيث جعل الحصان و الحجر زوجين،و البعير و النّاقة و الرّجل و المرأة،فلم يزاوج منها شيئا غير جنسه،

ص: 588

و ما هو على خلاف خلقه.و قرئ (خلقه) صفة للمضاف أو للمضاف إليه،أي كلّ شيء خلقه اللّه لم يخله من عطائه و إنعامه ثُمَّ هَدى أي عرف كيف يرتفق بما أعطى،و كيف يتوصّل إليه.(2:539)

ابن عطيّة: و اختلف المفسّرون في قوله: اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فقالت فرقة:معناه أعطى الذّكران من كلّ الحيوان نوعه و خلقته أنثى، ثُمَّ هَدى للإتيان،و قالت فرقة:بل المعنى:أعطى كلّ موجود من مخلوقاته خلقته و صورته،أي أكمل ذلك له و أتقنه، ثُمَّ هَدى أي يسّر كلّ شيء لمنافعه و مرافقه.و هذا القول أشرف معنى و أعمّ في الموجودات.و قرأت فرقة (خلقه) بفتح اللاّم،و يكون المفعول الثّاني ب(اعطى)مقدّرا،تقديره:كماله أو خلقته.(4:47)

الفخر الرّازيّ: في قوله: اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وجهان:

أحدهما:التّقديم و التّأخير،أي أعطى خلقه كلّ شيء يحتاجون إليه،و يرتفقون به.

و ثانيهما:أن يكون المراد من الخلق:الشّكل و الصّورة المطابقة للمنفعة،فكأنّه سبحانه قال:أعطى كلّ شيء الشّكل الّذي يطابق منفعته و مصلحته.

و قرئ (خلقه) صفة للمضاف أو المضاف إليه، و المعنى:أنّ كلّ شيء خلقه اللّه لم يخله من إعطائه و إنعامه.(22:66)

القرطبيّ: قال موسى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، أي أنّه يعرف بصفاته،و ليس له اسم علم حتّى يقال:فلان،بل هو خالق العالم،و هو الّذي خصّ كلّ مخلوق بهيئة و صورة.[و نقل أقوال المفسّرين ثمّ قال:]

الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال.و روى زائدة عن الأعمش أنّه قرأ (الّذى اعطى كلّ شىء خلقه) بفتح اللاّم،و هي قراءة ابن إسحاق.و رواها نصير عن الكسائيّ و غيره،أي أعطى بني آدم كلّ شيء خلقه ممّا يحتاجون إليه.فالقراءتان متّفقتان في المعنى.

(11:204)

النّيسابوريّ: ...من قرأ(خلقه)بسكون اللاّم:

فإمّا بمعنى«الخليقة»و الضّمير المجرور للّه،و قدّم المفعول الثّاني ليتّصل قوله: ثُمَّ هَدى و الخليقة،أي أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم و المشروب و الملبوس و المنكوح،ثمّ هداهم إلى كيفيّة الانتفاع بها، فيستخرجون الحديد من الجبال،و اللآلئ من البحار، و يركّبون الأغذية و الأدوية و الأسلحة و الأمتعة.

و نظير هذا الكلام قوله: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى الأعلى:2،3،و قوله حكاية عن إبراهيم: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الشّعراء:78، و إمّا أن يكون الخلق بمعنى الصّورة و الشّكل،أي أعطى كلّ شيء صورته و شكله الّذي يطابق المنفعة المنوطة به،فأعطى العين هيئتها الّتي تطابق الإبصار، و الأذن ما يوافق الاستماع،و الأنف للشّمّ،و اليد للبطش،و الرّجل للمشي،بل أعطى رجل الآدميّ شكلا يوافق سعيه،و رجل الحيوانات الأخر شكلا يطابق مشيها،بل أعطى ذوات القرون رجلا توافق

ص: 589

حاجتهنّ،و كذا الخفّ و الحافر و ذوات المخالب.

و قيل:أراد:أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق و الصّورة،فجعل الحصان و الحجر زوجين،و كذا البعير و النّاقة،و الرّجل و المرأة.

و من قرأ (خلقه) بفتح اللاّم صفة للمضاف أو المضاف إليه،و المفعول الثّاني متروك،أي كلّ شيء خلقه اللّه لم يخله من عطائه و إنعامه.[ثمّ ذكر بعض عجائب حكمة اللّه في مخلوقاته](16:131)

نحوه ملخّصا الشّربينيّ.(2:467)

أبو حيّان :[و اكتفى بنقل أقوال السّابقين]

(6:247)

أبو السّعود :أي هو ربّنا الّذي أعطى كلّ شيء من الأشياء خلقه،أي صورته و شكله اللاّئق بما نيط به من الخواصّ و المنافع،أو أعطى مخلوقاته كلّ شيء تحتاج هي إليه و ترتفق به،و تقديم المفعول الثّاني للاهتمام به،أو أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق و الصّورة؛حيث زوّج الحصان بالحجر،و البعير بالنّاقة،و الرّجل بالمرأة،و لم يزوّج شيئا من ذلك بخلاف جنسه.

و قرئ (خلقه) على صيغة الماضي،على أنّ الجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه،و حذف المفعول الثّاني:

إمّا للاقتصار على الأوّل،أي كلّ شيء خلقه اللّه تعالى لم يحرمه من عطائه و إنعامه أو للاختصار من كونه منويّا مدلولا عليه بقرينة الحال أي أعطى كلّ شيء خلقه اللّه تعالى ما يحتاج إليه.(4:285)

الآلوسيّ: (قال)أي موسى عليه السّلام و استبدّ بالجواب من حيث إنّه خصّ بالسّؤال(ربنا)مبتدأ، و قوله تعالى: اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ خبره.

و قيل:هو خبر مبتدإ محذوف،أي هو ربّنا،و الموصول صفته.و الظّاهر أنّه عليه السّلام أراد بضمير المتكلّم نفسه و أخاه عليهما السّلام.و قال بعض المحقّقين:أراد جميع المخلوقات،تحقيقا للحقّ و ردّا على اللّعين،كما يفصح عنه ما في حيّز الصّلة.و(كل شىء)مفعول أوّل ل(اعطى،)و(خلقه)مفعوله الثّاني،و هو مصدر بمعنى اسم المفعول،و الضّمير المجرور ل(شىء) و العموم المستفاد من(كل)يعتبر بعد إرجاعه إليه، لئلاّ يرد الاعتراض المشهور في مثل هذا التّركيب.

و الظّاهر أنّه عموم الأفراد،أي أعطى كلّ شيء من الأشياء الأمر الّذي طلبه بلسان استعداده:من الصّورة و الشّكل و المنفعة و المضرّة و غير ذلك،أو الأمر اللاّئق بما نيط به من الخواصّ و المنافع المطابق له،كما أعطى العين الهيئة الّتي تطابق الإبصار،و الأذن الشّكل الّذي يوافق الاستماع،و كذلك الأنف و اليد و الرّجل و اللّسان كلّ واحد منها مطابق لما علّق به من المنفعة غير ناب عنه.

و قيل:«الخلق»باق على مصدريّته بمعنى الإيجاد، أي أعطى كلّ شيء الإيجاد الّذي استعدّ له أو اللاّئق به،بمعنى أنّه تعالى أوجد كلّ شيء حسب استعداده،أو على الوجه اللاّئق به،و هو كما ترى!

و حمل بعضهم العموم على عموم الأنواع دون عموم الأفراد،و قيل:إنّ ذلك لئلاّ يلزم الخلف،و يرد النّقض بأنّ بعض الأفراد لم يكمل لعارض يعرض له.

ص: 590

و الحقّ أنّ اللّه تعالى راعى الحكمة فيما خلق و أمر، تفضّلا و رحمة لا وجوبا،و هذا ممّا أجمع عليه أهل السّنّة و الجماعة،كما نقل صاحب المواقف و عيون الجواهر:فكلّ شيء كامل في مرتبته حسن في حدّ ذاته،فقد قال تعالى العزيز الرّحيم: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ السّجدة:7،و جعل العموم في هذا عموم الأنواع ممّا لا يكاد يقول به أحد.و قال سبحانه:

ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ الملك:3،أي من حيث إضافته إلى الرّحمن،و خلقه إيّاه على طبق الحكمة بمقتضى الجود و الرّحمة.و التّفاوت بين الأشياء إنّما هو إذا أضيف بعضها إلى بعض،فالعدول عمّا هو الظّاهر من عموم الأفراد إلى عموم الأنواع لما ذكر، ناشئ من قلّة التّحقيق.

و قيل:إنّ سبب العدول كون(اعطى)حقيقة في الماضي،فلو حمل كلّ شيء على عموم الأفراد يلزم أن يكون جميعها قد وجد و أعطي مع أنّ منها بل أكثرها لم يوجد و لم يعط بعد،بخلاف ما إذا حمل على عموم الأنواع،فإنّه لا محذور فيه؛إذ الأنواع جميعها قد وجد و لا يتجدّد بعد ذلك نوع،و إن كان ذلك ممكنا.

و فيه بحث ظاهر،فليفهم.

و روي عن ابن عبّاس و ابن جبير و السّدّيّ:أنّ المعنى أعطى كلّ حيوان ذكر نظيره في الخلق و الصّورة أنثى،و كأنّهم جعلوا كلاّ للتّكثير،و إلاّ فالعموم مطلقا باطل،كما لا يخفى.و عندي أنّ هذا المعنى من فروع المعنى السّابق الّذي ذكرناه.و لعلّ مراد من قاله التّمثيل،و إلاّ فهو بعيد جدّا،و لا يكاد يقوله من نسب اليه.

و قيل:(خلقه)هو المفعول الأوّل،و المصدر بمعنى اسم المفعول أيضا،و الضّمير المجرور للموصول، و(كل شىء)هو المفعول الثّاني،و المعنى:أعطى مخلوقاته سبحانه كلّ شيء يحتاجون إليه و يرتفقون به.و قدّم المفعول الثّاني للاهتمام به من حيث إنّ المقصود الامتنان به،و نسب هذا القول إلى الجبّائيّ.

و الأوّل أظهر لفظا و معنى.

و قرأ عبد اللّه و أناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أبو نهيك و ابن أبي إسحاق و الأعمش و الحسن و نصير عن الكسائيّ و ابن نوح عن قتيبة و سلاّم (خلقه) على صيغة الماضي المعلوم،على أنّ الجملة صفة للمضاف إليه أو المضاف-على شذوذ-و حذف المفعول الثّاني اختصارا لدلالة قرينة الحال عليه،أي أعطى كلّ شيء خلقه تعالى ما يصلحه أو ما يحتاج إليه،و جعل ذلك الزّمخشريّ من باب«يعطي و يمنع»أي كلّ شيء خلقه سبحانه لم يخله من عطائه و إنعامه.و رجّحه في«الكشف»:بأنّه أبلغ و أظهر.

و قيل:الأوّل أحسن صناعة و موافقة للمقام.و هو عندي أوفق بالمعنى الأوّل للقراءة الأولى،و فيما ذكره في«الكشف»تردّد.(16:200)

سيّد قطب :فأمّا موسى عليه السّلام فيردّ بالصّفة المبدعة المنشئة المدبّرة من صفات اللّه تعالى: قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ربّنا الّذي وهب الوجود لكلّ موجود في الصّورة الّتي أوجده بها و فطره عليها.ثمّ هدى كلّ شيء إلى وظيفته الّتي خلقه

ص: 591

لها،و أمدّه بما يناسب هذه الوظيفة و يعينه عليها.

و(ثمّ)هنا ليست للتّراخيّ الزّمنيّ،فكلّ شيء مخلوق و معه الاهتداء الطّبيعيّ الفطريّ للوظيفة الّتي خلق لها، و ليس هناك افتراق زمنيّ بين خلق المخلوق و خلق وظيفته.إنّما هو التّراخي في الرّتبة بين خلق الشّيء و اهتدائه إلى وظيفته،فهداية كلّ شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا.

و هذا الوصف الّذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى عليه السّلام،يلخّص أكمل آثار الألوهيّة الخالقة المدبّرة لهذا الوجود:هبة الوجود لكلّ موجود،و هبة خلقه على الصّورة الّتي خلق بها،و هبة هدايته للوظيفة الّتي خلق لها.و حين يجول الإنسان ببصره و بصيرته-في حدود ما يطيق-في جنبات هذا الوجود الكبير،تتجلّى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبّرة في كلّ كائن صغير أو كبير؛من الذّرّة المفردة إلى أضخم الأجسام،و من الخليّة الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان.

هذا الوجود الكبير المؤلّف ممّا لا يحصى من الذّرّات و الخلايا،و الخلائق و الأحياء،و كلّ ذرّة فيه تنبض،و كلّ خليّة فيه تحيا،و كلّ حيّ فيه يتحرّك، و كلّ كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى.و كلّها تعمل منفردة و مجتمعة داخل إطار النّواميس المودّعة في فطرتها و تكوينها،بلا تعارض و لا خلل و لا فتور في لحظة من اللّحظات.

و كلّ كائن بمفرده كون وحده و عالم بذاته،تعمل في داخله ذرّاته و خلاياه و أعضاؤه و أجهزته،وفق الفطرة الّتي فطرت عليها،داخل حدود النّاموس العامّ،في توافق و انتظام.

و كلّ كائن بمفرده-و دعك من الكون الكبير- يقف علم الإنسان و جهده قاصرا محدودا في دراسة خواصّه و وظائفه،و أمراضه و علاجه.دراستها مجرّد دراسة لا خلقها و لا هدايتها إلى وظائفها،فذلك خارج كلّيّة عن طوق الإنسان.و هو خلق من خلق اللّه،وهبه وجوده على الهيئة الّتي وجد بها،للوظيفة الّتي خلق لها،كأيّ شيء من هاته الأشياء،إلاّ أنّه للإله الواحد قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى. (4:2338)

ابن عاشور :و(كل شىء)مفعول أوّل ل(اعطى)و(خلقه)مفعوله الثّاني.و الخلق:

مصدر بمعنى الإيجاد،و جيء بفعل الإعطاء للتّنبيه على أنّ الخلق و التّكوين نعمة،فهو استدلال على الرّبوبيّة، و تذكير بالنّعمة معا.

و يجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ،و هو الخلق على شكل مخصوص،فهو بمعنى«الجعل»،أي الّذي أعطى كلّ شيء من الموجودات شكله المختصّ به،فكوّنت بذلك الأجناس و الأنواع و الأصناف و الأشخاص من آثار ذلك الخلق.

و يجوز أن يكون(كل شىء)مفعولا ثانيا ل(اعطى)و مفعوله الأوّل(خلقه،)أي أعطى خلقه ما يحتاجونه،كقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ الأنعام:99،فتركيب الجملة صالح للمعنيين.

و الاستغراق المستفاد من(كل)عرفيّ،أي كلّ

ص: 592

شيء من شأنه أن يعطاه أصناف الخلق و يناسب المعطي،أو هو استغراق على قصد التّوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق،مثل:ركب القوم دوابّهم.(16:128)

الطّباطبائيّ: [بحث في معنى الهداية-لاحظ:

ه د ي-ثمّ قال:]

هذا هو الّذي يرشد إليه التّدبّر في الآية الكريمة، و بذلك يعلم حال سائر التّفاسير الّتي أوردت للآية:

كقول بعضهم:إنّ المراد بقوله:(خلقه)مثل خلقه،و هو الزّوج الّذي يماثل الشّيء،و المعنى الّذي خلق لكلّ شيء زوجا،فيكون في معنى قوله: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ الذّاريات:49.

و قول بعضهم:إنّ المراد ب(كل شىء)أنواع النّعم،و هو مفعول ثان ل(اعطى،)و بالخلق:

المخلوق،و هو مفعول أوّل ل(اعطى،)و المعنى:

الّذي أعطى مخلوقاته كلّ شيء من النّعم.

و قول بعضهم:إنّ المراد بالهداية:الإرشاد و الدّلالة على وجوده تعالى و وحدته بلا شريك، و المعنى:الّذي أعطى كلّ شيء من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده،ثمّ أرشد و دلّ بذلك على وجود نفسه و وحدته.

و التّأمّل فيما مرّ يكفيك للتّنبّه على فساد هذه الوجوه،فإنّما هي معان بعيدة عن السّياق،و تقييدات للفظ الآية من غير مقيّد.(14:168)

عبد الكريم الخطيب :قوله: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي خلق كلّ مخلوق على الصّورة الّتي بها يستقيم وجوده،فكلّ شيء مخلوق بتقدير،و حساب.

و قوله: ثُمَّ هَدى هو من تمام الخلق؛حيث أودع الخالق العظيم،في كلّ مخلوق،ما يتهدّى به إلى حفظ ذاته،و بقاء نوعه.

و هذا دليل على أنّ كلّ مخلوق-صغر أو كبر-هو عالم بذاته،في تقدير اللّه سبحانه و تعالى،و تصويره له، و قيامه على أمره.(8:798)

مكارم الشّيرازيّ: ...فأجابه موسى مباشرة بجواب جامع جدّا،و قصير في الوقت نفسه،عن اللّه،ف قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيّين من الخلقة و الوجود،و كلّ واحد منهما دليل و برهان مستقلّ يوصل إلى معرفة اللّه:

الأوّل:أنّ اللّه سبحانه قد وهب لكلّ موجود ما يحتاجه،و هذا أمر في غاية الأهمّيّة ممّا يقتضي تأليف عدّة كتب،بل إنّ كثيرا من الكتب قد ألّفت في هذا المجال.

إنّنا إذا دقّقنا قليلا في النّباتات و الحيوانات الّتي تعيش في كلّ منطقة،سواء الطّيور،أو الحيوانات البحريّة،أو الحشرات و الزّواحف،فسنرى أنّ لكلّ منها انسجاما تامّا مع محيطها الّذي تعيش فيه،و كلّ ما تحتاجه فهو موجود تحت تصرّفها،فإنّ هيكل الطّيور قد هيّأها للطّيران من ناحية شكلها و وزنها و حواسّها المختلفة،و كذلك تكوين و بناء الحيوانات الّتي تعيش في أعماق البحار.

و الثّاني:مسألة هداية و إرشاد الموجودات،و قد جعلها القرآن باستعماله(ثمّ)في الدّرجة الثّانية بعد

ص: 593

تأمين الاحتياجات.

إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أيّ شيء من أسباب الحياة،إلاّ أنّه يجهل كيفيّة الاستفادة منها، و المهمّ أن يعرف طريقة استعمالها،و هذا هو الشّيء الّذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح،و كيف أنّ كلاّ منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته، كيف يبني بيتا،و كيف يتكاثر،و كيف يربّي أولاده و يخفيهم و يبعدهم عن متناول الأعداء،أو يعلّمهم كيف يواجهون الأعداء؟

و البشر-أيضا-لديهم هذه الهداية التّكوينيّة،إلاّ أنّ الإنسان لمّا كان موجودا يمتلك عقلا و شعورا،فقد جعل اللّه سبحانه هدايته التّكوينيّة مع هدايته التّشريعيّة بواسطة الأنبياء متلازمة و متزامنة؛بحيث إنّه إذا لم ينحرف عن ذلك الطّريق،فإنّه سيصل حتما إلى مقصده.و بتعبير آخر فإنّ الإنسان نتيجة لامتلاكه العقل و الإرادة،فإنّ له واجبات و مسئوليّات،و بعد ذلك مناهج تكامليّة ليس للحيوانات مثلها،و لذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التّكوينيّة محتاج إلى الهداية التّشريعيّة.

و خلاصة القول:أنّ موسى عليه السّلام يريد أن يفهم فرعون أنّ عالم الوجود هذا غير منحصر فيك،و لا في أرض مصر،و لا يختصّ بالحاضر أو الماضي،فإنّ لهذا العالم ماضيا و مستقبلا لم أكن و لم تكن فيه،و تلاحظ مسألتان أساسيّتان في هذا العالم:تأمين الحاجات،ثمّ استغلال الطّاقات و القوى في طريق رقي الموجودات، فإنّها تستطيع جيّدا أن تدلّك على ربّنا،و تعرّفك به، و كلّما أمعنت النّظر في هذا المجال،فستحصل على دلالات و براهين كثيرة على عظمته و قدرته.

(10:15)

فضل اللّه : قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى و كان الخطاب لموسى،لأنّه هو الشّخص الأصيل في الموقف في ما تصوّره فرعون من دراسة المسألة،و في ما هو الواقع. قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى فهو الّذي أوجد كلّ شيء،ثمّ لم يهمله ليتركه ضائعا،بل منحه الهدى الّذي يتدخّل في عمق وجوده و تكوينه،فينظّم له حركة نموّه و تكامله و وصوله إلى الغاية المطلوبة لوجوده.و بهذا كانت ربوبيّته للخلق منطلقة من طبيعة الإيجاد الّذي يمنح الموجودات الحياة، و من الإشراف الدّائم و الرّعاية الكاملة لها في رحلة الوجود،ما يوحي بالرّبوبيّة الشّاملة الكاملة الّتي لا تغيب عن الوجود في أيّة لحظة،كما لا يغيب عنها الوجود في أيّ وقت،لاحتياجها الدّائم إلى غناها المطلق.و هكذا قد نجد الهدى قائما في الأشياء بذاتها عبر قوانينها الكونيّة المودعة فيها،و قد نجده في العقل الكامن في الإنسان الّذي يدبّر الوجود بشكل مباشر و بوعي اختياريّ مباشر.(15:121)

2- وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. يس:78

ابن عبّاس: ترك ذكر خلقه الأوّل.(373)

الطّبريّ: يقول:و نسي خلقنا إيّاه كيف خلقناه، و أنّه لم يكن إلاّ نطفة،فجعلناها خلقا سويّا ناطقا،

ص: 594

يقول:فلم يفكّر في خلقنا إيّاه،فيعلم أنّ من خلقه من نطفة حتّى صار بشرا سويّا ناطقا متصرّفا،لا يعجز أن يعيد الأموات أحياء،و العظام الرّميم بشرا كهيئتهم الّتي كانوا بها قبل الفناء.(10:465)

الثّعلبيّ: بدء أمره(8:137)

الماورديّ: يحتمل وجهين:

أحدهما:أي ترك خلقه أن يستدلّ به.

الثّاني:سها عن الاعتبار به.(5:33)

الطّوسيّ: كيف كان في الابتداء؟(8:478)

الميبديّ: أي:خلقنا إيّاه،مصدر مضاف إلى المفعول.(8:247)

الطّبرسيّ: أي و ترك النّظر في خلق نفسه؛إذ خلق من نطفة،ثمّ بيّن ذلك المثل بقوله: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. (4:434)

أبو حيّان :أي نشأته من النّطفة،فذهل عنها و ترك ذكرها على طريق اللّدد و المكابرة،و الاستبعاد لما لا يستبعد.و قرأ زيد بن عليّ (و نسى خالقه) ،اسم فاعل،و الجمهور(خلقه،)أي نشأته.(7:348)

البروسويّ: وَ نَسِيَ خَلْقَهُ عطف على (ضرب)داخل في حيّز الإنكار و التّعجيب،و المصدر مضاف إلى المفعول،أي خلقنا إيّاه من النّطفة،أي ترك التّفكّر في بدء خلقه،ليدلّه ذلك على قدرته على البعث،فإنّه لا فرق بينهما من حيث إنّ كلاّ منهما أحياء موات و جماد.

و قال البقليّ«في خلق الإنسان و الوجوه الحسان»:من علامات قدرته أكثر ممّا يكون في الكون، لأنّ الكونين و العالمين في الإنسان مجموعون،و فيه علمه معلوم،لو عرف نفسه فقد عرف ربّه،لأنّ الخليقة مرآة الحقيقة،تجلّت الحقيقة في الخليقة لأهل المعرفة، و ربّ قلب ميّت أحياه بجمالته بعد موته بجهالته.

(7:437)

الآلوسيّ: أي خلقنا إيّاه على الوجه المذكور الدّالّ على بطلان ما ضربه:إمّا عطف على(ضرب) داخل في حيّز الإنكار و التّعجيب،أو حال من فاعله بإضمار«قد»أو بدونه.و نسيان خلقه بأن لم يتذكّره -على ما قيل-و فيه دغدغة،أو ترك تذكّره لكفره و عناده،أو هو كالنّاسي لعدم جريه على مقتضى التّذكّر.(23:54)

عبد الكريم الخطيب :هو عطف حدث على حدث،عطف خلق اللّه سبحانه الإنسان من نطفة،ثمّ قيام إنسان من هذه النّطفة يجادل اللّه،و يختصمه، و يضرب له الأمثال،احتجاجا و حجّة.

ففاعل الفعل(ضرب)يعود إلى هذا الإنسان الخصيم المبين،الّذي تولّد من النّطفة.[إلى أن قال:]

قوله تعالى: وَ نَسِيَ خَلْقَهُ جملة حاليّة،أي إنّ هذا الكافر ضرب هذا المثل ناسيا خلقه،و لو ذكر خلقه و كيف كان بدؤه،ثمّ كيف صار،لرأى بعينه قبل أن يرى بعقله-إن كان له عقل-أنّ هذه النّطفة الّتي أقامت منه هذا الإنسان الخصيم المبين،هي أقلّ من العظام شأنا،و أبعد منها عن مظنّة الحياة؛إذ كانت النّطفة لا تعدو-في مرأى العين-أن تكون نطفة ماء قذرة أشبه بالمخاط.أمّا العظام فهي تمثّل حياة كاملة،

ص: 595

كانت تسكن في تلك العظام،إنّها عاشت فعلا حياة كاملة،و كان منها إنسان كامل،كهذا الإنسان الّذي يجادل،و يضرب الأمثال للّه.فهذه العظام،تمثّل حياة لها تاريخ معروف.أمّا النّقطة فلا ترى عين هذا الجهول فيها أثرا للحياة.(12:956)

فضل اللّه : وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً في ما طرحه من العظام البالية الّتي تتفتّت،و تساءل متعجّبا من طرح فكرة المعاد من موقع الحقيقة، وَ نَسِيَ خَلْقَهُ فلم يلتفت إلى عمق القدرة و روعة الإبداع في مسألة الإيجاد من عدم،أي لم يسبقه نموذج و لا مثال، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ أي بالية...قالها،و هو مستغرق في غفلته،مشدود إلى القدرات المحدودة المحيطة به،العاجزة عن أيّ شيء من هذا القبيل،من خلال الموقع المادّيّ للقدرة.(19:165)

لاحظ:ح ي ي:«يحيى».

خلقهم

وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ.

الزّخرف:19

لاحظ:ش ه د:«اشهدوا».

بخلقهنّ

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ... الأحقاف:33.

لاحظ:ع ي ي:«يعى».

خلقكم

1- ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.

لقمان:28

ابن عبّاس: ما خَلْقُكُمْ على اللّه إذ خلقكم وَ لا بَعْثُكُمْ إذ يبعثكم إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ (346)

الضّحّاك: ما ابتداء خلقكم جميعا إلاّ كخلق نفس واحدة،و ما بعثكم يوم القيامة إلاّ كبعث نفس واحدة.

(القرطبيّ 14:78)

قتادة :إنّما خلق اللّه النّاس كلّهم و بعثهم كخلق نفس واحدة و بعثها.(الطّبريّ 10:222)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:ما خلقكم أيّها النّاس و لا بعثكم على اللّه إلاّ كخلق نفس واحدة و بعثها؛و ذلك أنّ اللّه لا يتعذّر عليه شيء أراده، و لا يمتنع منه شيء شاءه إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82،فسواء خلق واحد و بعثه،و خلق الجميع و بعثهم...

يقول:إنّما خلق اللّه النّاس كلّهم و بعثهم كخلق نفس واحدة و بعثها،و إنّما صلح أن يقال:إلاّ كنفس واحدة،و المعنى إلاّ كخلق نفس واحدة،لأنّ المحذوف فعل يدلّ عليه قوله: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ، و العرب تفعل ذلك في المصادر،و منه قول اللّه: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الأحزاب:

19،و المعنى كدوران عين الّذي يغشى عليه من الموت، فلم يذكر الدّوران و العين لما وصفت.(10:221)

الزّجّاج: تأويله إلاّ كخلق نفس واحدة،و كبعث نفس واحدة،أي قدرة اللّه على بعث الخلق أجمعين

ص: 596

و على خلق الخلق أجمعين،كقدرته على خلق نفس واحدة و بعث نفس واحدة.(4:200)

الماورديّ: يقال:إنّها نزلت في أبيّ بن خلف و أبي الأشدّين،و منبّه و نبيه ابني الحجّاج بن السّباق،قالوا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:إنّ اللّه خلقنا أطوارا نطفة،ثمّ علقة،ثمّ مضغة، ثمّ عظاما،ثمّ تقول:إنّا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة،فأنزل اللّه هذه الآية،لأنّ اللّه لا يصعب عليه ما يصعب على العباد،و خلقه لجميع العالم كخلقه لنفس واحدة.(4:345)

الطّوسيّ: ما خَلْقُكُمْ معشر الخلق وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلاّ كبعث نفس واحدة،أي لا يشقّ عليه ابتداء جميع الخلق،و لا إعادتهم بعد إفنائهم،و أنّ جميع ذلك من سعة قدرة اللّه كالنّفس الواحدة؛إذ المراد أنّ خلقها لا يشقّ عليه.(8:285)

نحوه الطّبرسيّ.(4:322)

القشيريّ: إيجاد القليل أو الكثير عليه و عنده سيّان،فلا من الكثير مشقّة و عسر،و لا من القليل راحة و يسر، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82،يقوله بكلمته و لكنّه يكوّنه بقدرته،لا بمزاولة جهد،و لا باستفراغ وسع،و لا بدعاء خاطر،و لا بطروء غرض.(5:135)

الميبديّ: أي:قدرة اللّه على خلق الجميع و بعثهم لقدرته على خلق نفس واحدة و بعثها،لا يلحقه نصب قلّوا أم كثروا،يقول لها: كُنْ فَيَكُونُ، لا حاجة إلى آلة و لا استعانة.(7:507)

القرطبيّ: قال الضّحّاك:المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلاّ كخلق نفس واحدة،و ما بعثكم يوم القيامة إلاّ كبعث نفس واحدة.قال النّحّاس:و هكذا قدّره النّحويّون بمعنى إلاّ كخلق نفس واحدة،مثل: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف:82،و قال مجاهد:لأنّه يقول للقليل و الكثير: كُنْ فَيَكُونُ. (14:78)

الشّربينيّ: ما خَلْقُكُمْ أي كلّكم في عزّته و حكمته إلاّ كخلق نفس واحدة،و أعاد النّافي نصّا على كلّ واحد من الخلق و البعث على حدته بقوله تعالى: وَ لا بَعْثُكُمْ أي كلّكم إِلاّ كَنَفْسٍ أي كبعث نفس،و بيّن الأفراد تحقيقا للمراد تأكيدا للسّهولة بقوله تعالى:(واحدة)فإنّ كلماته مع كونها غير نافذة نافذة،و قدرته مع كونها باقية بالغة،فنسبة القليل و الكثير إلى قدرته على حدّ سواء،لأنّه لا يشغله شأن،عن شأن.(3:196)

أبو السّعود :أي إلاّ كخلقها و بعثها في سهولة التّأنّي؛إذ لا يشغله شأن عن شأن،لأنّ مناط وجود الكلّ تعلّق إرادته الواجبة مع قدرته الذّاتيّة حسبما يفصح عنه قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. النّحل:40.(5:193)

نحوه الآلوسيّ.(21:101)

ابن عاشور :استئناف بيانيّ متعلّق بقوله: إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا لقمان:23،لأنّه كلّما ذكر أمر البعث هجس في نفوس المشركين استحالة إعادة الأجسام بعد اضمحلالها،فيكثر في القرآن تعقيب ذكر البعث بالإشارة إلى إمكانه و تقريبه.

ص: 597

و كانوا أيضا يقولون:إنّ اللّه خلقنا أطوارا:نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما و عظما،فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟و كيف يحيي جميع الأمم و الأجيال الّتي تضمّنتها الأرض في القرون الكثيرة؟ [إلى أن قال:]

و ضميرا المخاطبين مراد بهما جميع الخلق،فهما بمنزلة الجنس،أي ما خلق جميع الناس أوّل مرّة و لا بعثهم،أي خلقهم ثاني مرّة إلاّ كخلق نفس واحدة،لأنّ خلق نفس واحدة هذا الخلق العجيب دالّ على تمام قدرة الخالق تعالى،فإذا كان كامل القدرة استوى في جانب قدرته القليل و الكثير و البدء و الإعادة.

و في قوله: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد مجابهتهم بالاستدلال المفحم.

و في قوله: كَنَفْسٍ واحِدَةٍ حذف مضاف دلّ عليه ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ، و التّقدير:إلاّ كخلق و بعث نفس واحدة؛و ذلك إيجاز،كقول النّابغة:

و قد خفت حتّى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

التّقدير:على مخافة وعل.و المقصود:أنّ الخلق الثّاني كالخلق الأوّل في جانب القدرة.(21:124)

الطّباطبائيّ: سوق للكلام إلى إمكان الحشر، و خاصّة من جهة استبعادهم المعاد،لكثرة عدد الموتى و اختلاطهم بالأرض،من غير تميّز بعضهم من بعض.

فقال تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ في الإمكان و التّأتّي،فإنّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن،و لا يعجزه كثرة،و لا يتفاوت بالنّسبة إليه الواحد و الجمع.و ذكر الخلق مع البعث للدّلالة على عدم الفرق بين البدء و العود من حيث السّهولة و الصّعوبة،بل لا يتّصف فعله بالسّهولة و الصّعوبة.

و يشهد لما ذكر إضافة الخلق و البعث إلى ضمير الجمع المخاطب،و المراد به النّاس،ثمّ تنظيره بالنّفس الواحدة.و المعنى:ليس خلقكم معاشر النّاس على كثرتكم و لا بعثكم إلاّ كخلق نفس واحدة و بعثها، فأنتم على كثرتكم و النّفس الواحدة سواء،لأنّه لو أشكل عليه بعث الجميع على كثرتهم-و البعث لجزاء الأعمال-فإنّما يشكل من جهة الجهل بمختلف أعمالكم على كثرتها،و اختلاط بعضها ببعض،لكنّه ليس يجهل شيئا منها،لأنّه سميع لأقوالكم،بصير بأعمالكم،و بعبارة أخرى:عليم بأعمالكم من طريق المشاهدة.(16:233)

مكارم الشّيرازيّ: قال بعض المفسّرين:إنّ جمعا من كفّار قريش كانوا يقولون من باب التّعجّب و الاستبعاد لمسألة المعاد:إنّ اللّه قد خلقنا بأشكال مختلفة،و على مدى مراحل مختلفة،فكنّا يوما نطفة، و بعدها صرنا علقة،و بعدها صرنا مضغة،ثمّ أصبحنا تدريجيّا على هيئات و صور مختلفة،فكيف يخلقنا اللّه جميعا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟فنزلت الآية.إنّ هؤلاء كانوا غافلين في الحقيقة عن مسألة مهمّة،و هي أنّ هذه المفاهيم كالصّعوبة و السّهولة،و الصّغير و الكبير يمكن تصوّرها من قبل موجودات لها قدرة محدودة كقدرتنا،إلاّ أنّها أمام قدرة اللّه اللاّمتناهية

ص: 598

تكون متساوية،فلا يختلف خلق إنسان واحد عن خلق جميع البشر مطلقا،و خلق موجود ما في لحظة واحدة أو على مدى سنين طوال بالنّسبة إلى قدرته المطلقة.

و إذا كان تعجّب كفّار قريش من أنّه كيف يمكن فصل الأجساد عن بعضها و إرجاع كلّ منها إلى محلّه، بعد أن كانت الطّبائع مختلفة،و الأشكال متغايرة، و الشّخصيّات متنوّعة،و ذلك بعد أن تحوّل بدن الإنسان إلى تراب و تطايرت ذرّات ذلك التّراب؟! فإنّ علم اللّه اللاّمتناهي،و قدرته اللاّمحدودة تجيبهم عن سؤالهم،فإنّه قد جعل بين الموجودات روابط و علاقات؛بحيث إنّ الواحد منها كالمجموعة،و المجموعة كالواحد.

و أساسا فإنّ انسجام و ترابط هذا العالم بشكل ترجع كلّ كثرة فيه إلى الوحدة،و خلقة مجموع البشر تتّبع خلقة إنسان واحد.

و إذا كان تعجّب هؤلاء من قصر الزّمان،بأنّه كيف يمكن أن تطوي المراحل الّتي يطويها الإنسان خلال سنين طوال،من كونه نطفة إلى مرحلة الشّباب، في لحظات قصيرة؟فإنّ قدرة اللّه تجيب على هذا التّساؤل أيضا،فإنّنا نرى في عالم الأحياء أنّ أطفال الإنسان يحتاجون لمدّة طويلة ليتعلّموا المشي بصورة جيّدة،أو يصبحوا قادرين على الاستفادة من كلّ أنواع الأغذية،في حين أنّنا نرى الفراخ بمجرّد أن تخرج من البيضة تنهض و تسير،و تأكل دونما حاجة حتّى للأمّ،و هذه الظّاهرة تبيّن أنّ هذه الأمور لا تعني شيئا أمام قدرة اللّه عزّ و جلّ.(13:60)

فضل اللّه : ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ فلا فرق بين خلق الواحد و خلق الجميع في قدرته،كما لا فرق بين الواحد بعد الموت في الإمكان و بعث الجميع،لأنّ الحديث عن الكثرة و القلّة في حجم القدرة،إنّما هو في نطاق القدرات المحدودة،الّتي قد يجهدها رقم كبير،و يريحها رقم صغير،و لكن اللّه سبحانه الّذي يملك القدرة المطلقة الّتي تتحرّك من موقع إرادته الّتي تقول للشّيء:كن،فيكون،لا يجهده الخلق مهما كان كثيرا،ممّا يجعل القليل و الكثير عنده على حدّ سواء.(18:208)

خلاق

1- ...وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ... البقرة:102

ابن عبّاس: نصيب.(15)

مثله مجاهد،و السّدّيّ،و الثّوريّ(الطّبريّ 1:

511)،و الزّمخشريّ(1:301)،و الطّبرسيّ(1:176) و الشّربينيّ(1:83)،و البروسويّ(1:196).

قوام.(الطّبريّ 1:511)

الحسن :ليس له دين.(الطّبريّ 1:511)

قتادة :ليس له في الآخرة حجّة.

(الطّبريّ 1:511)

ص: 599

الطّبريّ: و اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله:

ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، فقال بعضهم:الخلاق، في هذا الموضع:النّصيب.

و قال بعضهم:الخلاق هاهنا:الحجّة.

و قال آخرون:الخلاق:الدّين.

و قال آخرون:الخلاق:هاهنا القوام.

و أولى هذه الأقوال بالصّواب قول من قال:معنى «الخلاق»في هذا الموضع:النّصيب؛و ذلك أنّ ذلك معناه في كلام العرب.

و منه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليؤيّدنّ اللّه هذا الدّين بأقوام لا خلاق لهم»يعني لا نصيب لهم،و لا حظّ في الإسلام و الدّين.[ثمّ استشهد بشعر]

فكذلك قوله: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ما له في الدّار الآخرة حظّ من الجنّة،من أجل أنّه لم يكن له إيمان و لا دين و لا عمل صالح يجازى به في الجنّة و يثاب عليه،فيكون له حظّ و نصيب من الجنّة.و إنّما قال جلّ ثناؤه: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فوصفه بأنّه لا نصيب له في الآخرة،و هو يعني به لا نصيب له من جزاء و ثواب و جنّة دون نصيبه من النّار؛إذ كان قد دلّ ذمّه جلّ ثناؤه أفعالهم-الّتي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب-على مراده من الخبر، و أنّه إنّما يعني بذلك أنّه لا نصيب لهم فيها من الخيرات،و أمّا من الشّرور فإنّ لهم فيها نصيبا.

(1:511)

الزّجّاج: الخلاق:النّصيب الوافر من الخير، و يعني بذلك الّذين يعلمون السّحر،لأنّهم كانوا من علماء اليهود.(1:186)

الفخر الرّازيّ: قال الأكثرون:الخلاق:النّصيب.

قال القفّال:يشبه أن يكون أصل الكلمة من«الخلق» و معناه:التّقدير،و منه خلق الأديم.و منه يقال:قدّر للرّجل كذا درهما رزقا على عمل كذا.

و قال آخرون:الخلاق:الخلاص.[ثمّ استشهد بشعر](3:222)

القرطبيّ: (من)زائدة،و التّقدير:ما له في الآخرة خلاق،و لا تزاد في الواجب،هذا قول البصريّين.و قال الكوفيّون:تكون زائدة في الواجب،و استدلّوا بقوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ نوح:4،و الخلاق:

النّصيب.(2:56)

نحوه الآلوسيّ.(1:345)

أبو حيّان :و الخلاق:النّصيب،قاله مجاهد،أو الدّين،قاله الحسن،أو القوام،قاله ابن عبّاس،أو الخلاص،أو القدر،قاله قتادة،أقوال خمسة.(1:334)

أبو السّعود :أي من نصيب،جملة من مبتدإ و خبر،و(من)مزيدة في المبتدإ و فِي الْآخِرَةِ متعلّق بمحذوف وقع حالا منه،و لو أخّر عنه لكان صفة له،و التّقدير:ما له خلاق في الآخرة.و هذه الجملة في محلّ الرّفع على أنّها خبر للموصول، و الجملة في حيّز النّصب سادّة مسدّ مفعولي(علموا) إن جعل متعدّيا إلى اثنين،أو مفعوله الواحد إن جعل متعدّيا إلى واحد،فجملة وَ لَقَدْ عَلِمُوا إلخ مقسم عليها دون جملة لَمَنِ اشْتَراهُ إلخ.

هذا ما عليه الجمهور،و هو مذهب سيبويه،و قال

ص: 600

الفرّاء-و تبعه أبو البقاء-:إنّ اللاّم الأخيرة موطّئة للقسم و(من)شرطيّة مرفوعة بالابتداء و(اشتراه) خبرها و ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ جواب القسم، و جواب الشّرط محذوف اكتفاء عنه بجواب القسم، لأنّه إذا اجتمع الشّرط و القسم يجاب سابقهما غالبا، فحينئذ تكون الجملتان مقسما عليهما.(1:175)

فضل اللّه :الخلاق:نصيب من الخير.(2:141)

2- فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. البقرة:200

ابن عبّاس: من نصيب في الجنّة بحجّه.(28)

الفرّاء: كان أهل الجاهليّة يسألون المال و الإبل و الغنم،فأنزل اللّه:«منهم من يسأل الدّنيا فليس له في الآخرة خلاق»يعني نصيبا.(1:122)

الطّبريّ: و أمّا معنى«الخلاق»فقد بيّنّاه في غير هذا الموضع،و ذكرنا اختلاف المختلفين في تأويله، و الصّحيح لدينا من معناه بالشّواهد من الأدلّة،و أنّه النّصيب بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع.

(2:311)

الزّجّاج: يعني هؤلاء،و الخلاق:النّصيب الوافر من الخير.(1:274)

الطّوسيّ: و الخلاق:النّصيب من الخير،و أصله:

التّقدير،فهو النّصيب من الخير على وجه الاستحقاق.

(2:171)

الزّمخشريّ: أي من طلب خلاق و هو النّصيب أو ما لهذا الدّاعي في الآخرة من نصيب،لأنّ همّه مقصور على الدّنيا.(1:350)

ابن عطيّة:و الخلاق:النّصيب و الحظّ.(1:276)

الطّبرسيّ: [مثل الطّوسيّ و أضاف:]

و قيل:إنّه من الخلق فهو نصيب ممّا يوجبه الخلق الكريم.[إلى أن قال:]

أي نصيب من الخير موفور.(1:296)

الفخر الرّازيّ: معنى ذلك على وجوه:

أحدها:أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يتوب.

و الثّاني:لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يعفو اللّه عنه.

و الثّالث:لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل اللّه لآخرته،و كذلك لا خلاق لمن أخذ مالا بيمين فاجرة كخلاق من تورّع عن ذلك و اللّه أعلم.

(5:205)

أبو حيّان :احتملت هذه الجملة هنا معنيين:

أحدهما:الإخبار بأنّه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدّنيا.

و الثّاني:أن يكون المعنى إخبارا عن الدّاعي بأنّه ما له في الآخرة من طلب نصيب،فيكون هذا كالتّوكيد لاقتصاره على طلب الدّنيا.(2:105)

أبو السّعود :أي من حظّ و نصيب لاقتصار همّه على الدّنيا،فهو بيان لحاله في الآخرة،أو من طلب خلاق،فهو بيان لحاله في الدّنيا،و تأكيد لقصر دعائه على المطالب الدّنيويّة.(1:252)

البروسويّ: أي نصيب و حظّ،لأنّ همّه مقصور على الدّنيا؛حيث سأل في أعزّ المواقف أحقر المطالب، و أعرض عن سؤال النّعيم الدّائم و الملك العظيم.

(1:319)

ص: 601

الآلوسيّ: إخبار منه تعالى ببيان حال هذا الصّنف في الآخرة،يعني أنّه لا نصيب له فيها و لا حظّ و الخلاق من خلق به،إذا لاق،أو من الخلق،كأنّه الأمر الّذي خلق له و قدّر.

و قيل:الجملة بيان لحال ذلك في الدّنيا،فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له و تأكيدا،أي ليس له في الدّنيا طلب خلاق في الآخرة،و ليس المراد أنّه ليس له طلب في الآخرة للخلاق،ليقال:إنّ هذا حكم كلّ أحد؛إذ لا طلب في الآخرة،و إنّما فيها الحظّ و الحرمان.و يجاب بمنع عدم الطّلب؛إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدّرجات،و الكافرون الخلاص من شدّة العذاب،و(من)صلة،و(له)خبر مقدّم،و الجارّ و المجرور بعده متعلّق بما تعلّق به،أو حال ممّا بعده.

(2:90)

ابن عاشور :و جملة وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ معطوفة على جملة مَنْ يَقُولُ فهي ابتدائيّة مثلها،و المقصود:إخبار اللّه تعالى عن هذا الفريق من النّاس أنّه لا حظّ له في الآخرة،لأنّ المراد من هذا الفريق الكفّار.فقد قال ابن عطيّة:كانت عادتهم في الجاهليّة ألاّ يدعوا إلاّ بمصالح الدّنيا؛إذ كانوا لا يعرفون الآخرة.

يجوز أن تكون الواو للحال،و المعنى:من يقول ذلك في حال كونه لا حظّ له في الآخرة،و لعلّ الحال للتّعجيب.(2:243)

الطّباطبائيّ: تفريع على قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ و(الناس)مطلق،فالمراد به:

أفراد الإنسان أعمّ من الكافر الّذي لا يذكر إلاّ آباءه، أي لا يبتغي إلاّ المفاخر الدّنيويّة،و لا يطلب إلاّ الدّنيا، و لا شغل له بالآخرة،و من المؤمن الّذي لا يريد إلاّ ما عند اللّه سبحانه،و لو أراد من الدّنيا شيئا لم يرد إلاّ ما يرتضيه له ربّه.و على هذا فالمراد بالقول و الدّعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال،و يكون معنى الآية:أنّ من النّاس من لا يريد إلاّ الدّنيا و لا نصيب له في الآخرة،و منهم من لا يريد إلاّ ما يرتضيه له ربّه، سواء في الدّنيا أو في الآخرة،و لهؤلاء نصيب في الآخرة.

و من هنا يظهر وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدّنيا،و ذلك أنّ من يريد الدّنيا لا يقيّده بأن يكون حسنا عند اللّه سبحانه،بل الدّنيا و ما هو يتمتّع به في الحياة الأرضيّة كلّها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه.و هذا بخلاف من يريد ما عند اللّه سبحانه،فإنّ ما في الدّنيا و ما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة و سيّئة،و لا يريد و لا يسأل ربّه إلاّ الحسنة دون السّيّئة.

و المقابلة بين قوله: وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ و قوله: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا البقرة:

202،تعطي أنّ أعمال الطّائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثّانية،كما قال تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً الفرقان:23،و قال تعالى: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها الأحقاف:

20،و قال تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً

ص: 602

الكهف:105.(2:80)

فضل اللّه :و نقف-في هذا المجال-على نموذجين من النّاس:

أحدهما:الّذي يصدق عليه قوله تعالى: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ النّموذج الّذي إذا ذكر اللّه و أراد أن يدعوه في موقفه هذا،لم يذكر إلاّ حياته الدّنيا،و شهواته فيها، و مطامعه و مطامحه...من دون أن يفكّر في الآخرة من قريب أو من بعيد.فهو يطلب من اللّه أن يؤتيه الدّنيا و يقف عندها جامد الإحساس،جائع الأحلام،ظامئ المشاعر.و لا نصيب لهذا في الآخرة،لأنّها ليست واردة في حسابه على كلّ حال،و لذلك فإنّ اللّه لا يحسب حسابه في ثوابه و رضوانه.

ثانيهما:هو مصداق قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النّارِ.... (4:111)

خلاقهم-خلاقكم

...فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا.... التّوبة:69

ابن عبّاس: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فأكلوا بنصيبهم من الآخرة في الدّنيا. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ فأكلتم بنصيبكم من الآخرة في الدّنيا. كَمَا اسْتَمْتَعَ كما أكل اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من المنافقين(بخلاقهم) بنصيبهم من الآخرة.(161)

الحسن:بدينهم.(الطّبريّ 6:413)

الطّبريّ: يقول:فتمتّعوا بنصيبهم و حظّهم من دنياهم و دينهم،و رضوا بذلك من نصيبهم في الدّنيا عوضا من نصيبهم في الآخرة،و قد سلكتم أيّها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم.يقول:فعلتم بدينكم و دنياكم،كما استمتع الأمم الّذين كانوا من قبلكم،الّذين أهلكتم بخلافهم أمري،(بخلاقهم) يقول:كما فعل الّذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم و دينهم.(6:412)

الزّجّاج: قيل:فاستمتعوا بحظّهم من الدّنيا، و قيل:فاستمتعوا بدينهم.و الخلاق:النّصيب هو عند صاحبه وافر الحظّ.(2:460)

الماورديّ: قيل:بنصيبهم من خيرات الدّنيا.

و يحتمل استمتاعهم باتّباع شهواتهم.

و فيه وجه ثالث:أنّه استمتاعهم بدينهم الّذي أصرّوا عليه.(2:380)

الطّوسيّ: معناه:أنّهم تمتّعوا بنصيبهم من الخير العاجل،و باعوا بذلك الخير الآجل،فهلكوا بشرّ استبدال،كما تمتّعتم أيّها المنافقون بخلاقكم،أي بنصيبكم.و الخلاق:النّصيب،سواء كان عاجلا أو آجلا.(5:296)

الزّمخشريّ: فإن قلت:أيّ فائدة في قوله:

فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ، و قوله: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مغن عنه،كما أغنى قوله:

كَالَّذِي خاضُوا عن أن يقال:و خاضوا فخضتم كالّذي خاضوا؟

ص: 603

قلت:فائدته أن يذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدّنيا و رضاهم بها،و التهائهم بشهواتهم الفانية،عن النّظر في العاقبة و طلب الفلاح في الآخرة، و أن يخسّس أمر الاستمتاع و يهجن أمر الرّاضي به، ثمّ يشبّه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم،كما تريد أن تنبّه بعض الظّلمة على سماجة فعله،فتقول:أنت مثل فرعون،كان يقتل بغير جرم،و يعذّب و يعسف،و أنت تفعل مثل فعله.(2:201)

الطّبرسيّ: أي:بنصيبهم و حظّهم من الدّنيا،بأن صرفوها في شهواتهم المحرّمة عليهم،و فيما نهاهم اللّه عنه،ثمّ أهلكوا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ أي فاستمتعتم أنتم أيضا بحظّكم في الدّنيا،كما استمتعوا هم.(3:48)

الفخر الرّازيّ: شبّه المنافقين في عدولهم عن طاعة اللّه تعالى-لأجل طلب لذّات الدّنيا-بمن قبلهم من الكفّار،ثمّ وصفهم تعالى بكثرة الأموال و الأولاد،و بأنّهم استمتعوا بخلاقهم.و الخلاق:

النّصيب،و هو ما خلق للإنسان،أي قدّر له من خير، كما قيل له:قسم،لأنّها قسم و نصيب،لأنّه نصب أي ثبت،فذكر تعالى أنّهم استمتعوا بخلاقهم،فأنتم أيّها المنافقون استمتعتم بخلاقكم،كما استمتع أولئك بخلاقهم.

فإن قيل:ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حقّ الأوّلين مرّة،ثمّ ذكره في حقّ المنافقين ثانيا،ثمّ ذكره في حقّ الأوّلين ثالثا.

قلنا:الفائدة فيه أنّه تعالى ذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدّنيا،و حرمانهم عن سعادة الآخرة،بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة، فلمّا قرّر تعالى هذا الذّمّ عاد فشبّه حال هؤلاء المنافقين بحالهم،فيكون ذلك نهاية في المبالغة.و مثاله:

أنّ من أراد أن ينبّه بعض الظّلمة على قبح ظلمه يقول له:أنت مثل فرعون،كان يقتل بغير جرم و يعذّب من غير موجب،و أنت تفعل مثل ما فعله،و بالجملة فالتّكرير هاهنا للتّأكيد.(16:128)

القرطبيّ: أي انتفعوا بنصيبهم من الدّين،كما فعل الّذين من قبلهم.(8:201)

أبو حيّان :و الخلاق:النّصيب،أي ما قدّر لهم.

(5:68)

الشّربينيّ: أي تمتّعوا بنصيبهم من الدّنيا باتّباع الشّهوات و رضوا بها عوضا عن الآخرة.و الخلاق:

النّصيب،و هو ما خلق للإنسان و قدّر له من خير و شرّ،كما يقال:قسم له. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ أي فتمتّعتم أيّها المنافقون و الكافرون بخلاقكم،فهو خطاب للحاضرين، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذمّ الأوّلين باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدّنيا العاجلة و حرمانهم من سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة،تمهيدا لذمّ المخاطبين بمشابهتهم،و اقتفاء أثرهم.(1:629)

نحوه أبو السّعود(3:167)،و البروسويّ(3:

461)،و الآلوسيّ(10:134).

ص: 604

ابن عاشور:و الخلاق:الحظّ من الخير،و قد تقدّم عند قوله تعالى: فَمِنَ النّاسِ... في سورة البقرة:200.(10:147)

مكارم الشّيرازيّ: ...و كما أنّ هؤلاء قد تمتّعوا بنصيبهم في هذه الحياة الدّنيا،و صرفوا أعمارهم في طريق قضاء الشّهوات و المعصية و الفساد و الانحراف، فإنّكم قد تمتّعتم بنصيبكم كهؤلاء فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ. و الخلاق في اللّغة بمعنى النّصيب و الحصّة،يقول الرّاغب في«مفرداته»:إنّها مأخوذة من مادة«خلق»،و يحتمل-على هذا-أنّ الإنسان قد يستفيد و يتمتّع بنصيبه في هذه الحياة الدّنيا بما يناسب خلقه و خصاله.(6:109)

خلق

1- إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. الشّعراء:137

ابن مسعود:إن هذا إلاّ اختلاق الأوّلين.

(الطّبريّ 9:463)

ابن عبّاس: دين الأوّلين دين آبائنا الأوّلين.

(311)

أساطير الأوّلين.(الطّبريّ 9:463)

مجاهد :كذبهم.(الطّبريّ 9:463)

كدأب الأوّلين.(الماورديّ 4:182)

قتادة :هكذا خلقة الأوّلين،و هكذا كانوا يحيون و يموتون.(الطّبريّ 9:463)

أنّ الأوّلين قبلنا كانوا يموتون فلا يبعثون و لا يحاسبون.(الماورديّ 4:182)

ابن زيد :إن هذا إلاّ أمر الأوّلين و أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة و أصيلا.

(الطّبريّ 9:463)

علقمة:اختلاق الأوّلين.(الطّبريّ 9:463)

الفرّاء: و قراءة الكسائيّ (خلق الاوّلين) و قراءتي خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، فمن قرأ (خلق) يقول:

اختلاقهم و كذبهم،و من قرأ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ يقول:

عادة الأوّلين،أي وراثة أبيك عن أوّل.و العرب تقول:

حدّثنا بأحاديث الخلق،و هي الخرافات المفتعلة و أشباهها،فلذلك اخترت«الخلق».(2:281)

الطّبريّ: و قوله: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك،فقرأته عامّة قرّاء المدينة -سوى أبي جعفر-و عامّة قرّاء الكوفة المتأخّرين منهم: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ: من قبلنا:و قرأ ذلك أبو جعفر،و أبو عمرو ابن العلاء: (ان هذا الاّ خلق الاوّلين) بفتح الخاء و تسكين اللاّم،بمعنى ما هذا الّذي جئتنا به إلاّ كذب الأوّلين و أحاديثهم.

و اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك،نحو اختلاف القرّاء في قراءته،فقال بعضهم:معناه:ما هذا إلاّ دين الأوّلين و عادتهم و أخلاقهم.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:ما هذا إلاّ كذب الأوّلين و أساطيرهم.

عن الشعبيّ،عن علقمة،عن عبد اللّه،أنّه كان يقرأ إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ و يقول:شيء اختلقوه.

و أولى القراءتين في ذلك بالصّواب:قراءة من قرأ

ص: 605

إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. بضمّ الخاء و اللاّم،بمعنى إن هذا إلاّ عادة الأوّلين و دينهم،كما قال ابن عبّاس، لأنّهم إنّما عوتبوا على البنيان الّذي كانوا يتّخذونه، و بطشهم بالنّاس بطش الجبابرة،و قلّة شكرهم ربّهم فيما أنعم عليهم،فأجابوا نبيّهم بأنّهم يفعلون ما يفعلون من ذلك،احتذاء منهم سنّة من قبلهم من الأمم، و اقتفاء منهم آثارهم،فقالوا:ما هذا الّذي نفعله إلاّ خلق الأوّلين،يعنون بالخلق:عادة الأوّلين.و يزيد ذلك بيانا و تصحيحا لما اخترنا من القراءة و التّأويل.

قولهم: وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأنّهم لو كانوا لا يقرّون بأنّ لهم ربّا يقدر على تعذيبهم،ما قالوا: وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. (9:463)

الزّجّاج: و يقرأ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، فمن قرأ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بضمّ الخاء،فمعناه عادة الأوّلين، و من قرأ خلق بفتح الخاء،فمعناه اختلاقهم و كذبهم.

و في (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) وجه آخر،أي خلقنا كما خلق من كان قبلنا،نحيا كما حيوا،و نموت كما ماتوا و لا نبعث، لأنّهم أنكروا البعث.(4:97)

الطّوسيّ: قرأ (خلق الاوّلين) بفتح الخاء ابن كثير و أبو عمرو و الكسائيّ و أبو جعفر.الباقون:بضمّ الخاء و اللاّم.فمن قرأ بفتح الخاء أراد:ليس هذا إلاّ اختلاق الأوّلين،في قول ابن مسعود و من ضمّ الخاء و اللاّم أراد:ليس هذا إلاّ عادة الأوّلين في أنّهم كانوا يحيون و يموتون.

و قال بعضهم:المعنى في(خلق الاوّلين)خلق أجسامهم،و أنكروا أن يكون المعنى إلاّ كذب الأوّلين، لأنّهم يقولون: ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ المؤمنون:24.و ليس الأمر على ما ظنّه،لأنّهم قد سمعوا بالدّعاء إلى الدّين،و كانوا عندهم كذّابين، فلذلك قال: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ الشّعراء:123، و قال: إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام:25، و إنّما قالوا: ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ المؤمنون:24،أي ما سمعنا أنّهم صدّقوا بشيء منه،أو ذكروا آية حقّ و صواب،بل قالوا:باطل،و خطأ.

[إلى أن قال:]

ثمّ قالوا:ليس هذا الّذي تدعوه إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي كذبهم-فيمن فتح الخاء.-و إلاّ عادة الأوّلين و خلقهم.و الخلق:المصدر من قولك:خلق اللّه العباد خلقا.و الخلق:المخلوق،من قولهم:يعلم هذا من خلق النّاس.قال الفرّاء:يقولون هذه الأحاديث:

خلق يعنون المختلقة.قال:و القراءة بضمّ الخاء أحبّ إليّ،لأنّها تتضمّن المعنيين.و الخلق:الاختلاق،و هو افتعال الكذب على التّقدير الّذي يوهم الحقّ.(8:46)

الزّمخشريّ: من قرأ: (خلق الاوّلين) بالفتح، فمعناه:أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين و تخرّصهم،كما قالوا:أساطير الأوّلين.أو ما خلقنا هذا إلاّ خلق القرون الخالية،نحيا كما حيوا و نموت كما ماتوا، و لا بعث و لا حساب.

و من قرأ: خلق بضمّتين و بواحدة فمعناه:ما هذا الّذي نحن عليه من الدّين إلاّ خلق الأوّلين و عادتهم،كانوا يدينونه و يعتقدونه و نحن بهم مقتدون.أو ما هذا الّذي نحن عليه من الحياة و الموت

ص: 606

إلاّ عادة لم يزل عليها النّاس في قديم الدّهر.أو ما هذا الّذي جئت به من الكذب إلاّ عادة الأوّلين كانوا يلفّقون مثله و يسطرونه.(3:122)

مثله الفخر الرّازيّ(24:158)،و نحوه أبو السّعود (5:54).

ابن عطيّة: و اختلفت القراءة في ذلك،فقرأ نافع و عاصم و حمزة و ابن عامر خلق بضمّ اللاّم، فالإشارة بهذا إلى دينهم و عبادتهم و تخرّقهم في المصانع،أي هذا الّذي نحن عليه خلق النّاس و عادتهم،و ما بعد ذلك بعث و لا تعذيب،كما تزعم أنت.و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائيّ و أبو قلابة (خلق الاوّلين) بضمّ الخاء و سكون اللاّم،و رواها الأصمعيّ عن نافع.و قرأ أبو جعفر و أبو عمرو (خلق الاوّلين) بفتح الخاء و سكون اللاّم،و هي قراءة ابن مسعود و علقمة و الحسن و هذا يحتمل وجهين:

أحدهما:و ما هذا الّذي تزعمه إلاّ اختلاق الأوّلين من الكذبة قبلك و كذبهم،فأنت على منهاجهم.

و الثّاني:أن يريدوا:و ما هذه البنية الّتي نحن عليها إلاّ البنية الّتي عليها الأوّلون حياة و موت،و ما ثمّ بعث و لا تعذيب،و كلّ معنى ممّا ذكرته تحتمله كلّ قراءة.و روى علقمة عن ابن مسعود:إلاّ اختلاق الأوّلين.(4:239)

نحوه أبو حيّان.(7:33)

الطّبرسيّ: أي ما هذا الّذي جئتنا به إلاّ كذب الأوّلين الّذين ادّعوا النّبوّة،و لم يكونوا أنبياء،و أنت مثلهم.و من قرأ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بضمّ الخاء،فالمعنى:

ما هذا الّذي نحن عليه من تشييد الأبنية،و اتّخاذ المصانع،و البطش الشّديد،إلاّ عادة الأوّلين من قبلنا.

و قيل:معناه:ما هذا الّذي نحن فيه إلاّ عادة الأوّلين،في أنّهم كانوا يحيون و يموتون،و لا بعث و لا حساب.

و قيل:معناه:ما الّذي تدّعيه من النّبوّة و الرّسالة إلاّ عادة الأوّلين.(4:198)

نحوه البروسويّ.(6:296)

القرطبيّ: ...و قال ابن الأعرابيّ:الخلق:الدّين، و الخلق:الطّبع،و الخلق:المروءة.قال النّحّاس: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ عند الفرّاء،يعني عادة الأوّلين.و حكى لنا محمّد بن الوليد عن محمّد بن يزيد قال: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ مذهبهم و ما جرى عليه أمرهم.قال أبو جعفر:و القولان متقاربان،و منه الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»أي أحسنهم مذهبا و عادة،و ما يجري عليه الأمر في طاعة اللّه عزّ و جلّ.و لا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا،و لا أن يكون أكمل إيمانا من السّيّئ الخلق الّذي ليس بفاجر.

قال أبو جعفر:حكي لنا عن محمّد بن يزيد أنّ معنى خُلُقُ الْأَوَّلِينَ: تكذيبهم و تخرّصهم،غير أنّه كان يميل إلى القراءة الأولى،لأنّ فيها مدح آبائهم، و أكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم، و قولهم: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:23.

و عن أبي قلابة:أنّه قرأ: (خلق) بضمّ الخاء

ص: 607

و إسكان اللاّم تخفيف(خلق).و رواها ابن جبير عن أصحاب نافع عن نافع.

و قد قيل:إنّ معنى خُلُقُ الْأَوَّلِينَ: دين الأوّلين،و منه قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ النّساء:119،أي دين اللّه.و خُلُقُ الْأَوَّلِينَ: عادة الأوّلين:حياة ثمّ موت و لا بعث.و قيل:ما هذا الّذي أنكرت علينا من البنيان و البطش إلاّ عادة من قبلنا، فنحن نقتدي بهم.(13:125)

الآلوسيّ: تعليل لما ادّعوه من المساواة،أي ما هذا الّذي جئتنا به إلاّ عادة الأوّلين يلفّقون مثله و يدعون إليه.[ثمّ نقل ساير الآراء نحو ما سبق]

(19:112)

ابن عاشور :و جملة: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تعليل لمضمون جملة: سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ الشّعراء:136،أي كان سواء علينا فلا نتّبع وعظك،لأنّ هذا خلق الأوّلين.و الإشارة ب(هذا) إلى شيء معلوم للفريقين،حاصل في مقام دعوة هود إيّاهم،و سيأتي بيانه.[ثمّ نقل القراءتين و قال:]

فعلى قراءة الفريق الأوّل(خلق)بضمّتين،فهو السّجيّة المتمكّنة في النّفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شرّ،و قد فسّر بالقوى النّفسيّة،و هو تفسير قاصر،فيشمل طبائع الخير و طبائع الشّرّ،و لذلك لا يعرف أحد النّوعين من اللّفظ إلاّ بقيد يضمّ إليه، فيقال:خلق حسن،و يقال في ضدّه:سوء خلق،أو خلق ذميم،قال تعالى: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم:4،و في الحديث:«و خالق النّاس بخلق حسن».

فإذا أطلق عن التّقييد انصرف إلى الخلق الحسن، كما قال الحريريّ في«المقامة التّاسعة»:«و خلقي نعم العون،و بيني و بين جاراتي بون»أي في حسن الخلق.

و الخلق في اصطلاح الحكماء:ملكة،أي كيفيّة راسخة،في النّفس أي متمكّنة من الفكر،تصدر بها عن النّفس أفعال صاحبها بدون تأمّل.

فخلق المرء:مجموع غرائز،أي طبائع نفسيّة، مؤتلفة من انطباع فكريّ: إمّا جبلّيّ في أصل خلقته، و إما كسبيّ ناشئ عن تمرّن الفكر عليه،و تقلّده إيّاه لاستحسانه إيّاه عن تجربة نفعه،أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبّة ما شاهد.و ينبغي أن يسمّى اختيارا من قول أو عمل لذاته،أو لكونه من سيرة من يحبّه و يقتدي به و يسمّى تقليدا،و محاولته تسمّى تخلّقا.قال سالم بن وابصة:

عليك بالقصيد فيما أنت فاعله

إنّ التّخلّق يأتي دونه الخلق

فإذا استقرّ و تمكّن من النّفس صار سجيّة له، يجري أعماله على ما تمليه عليه،و تأمره به نفسه؛ بحيث لا يستطيع ترك العمل بمقتضاها،و لو رام حمل نفسه على عدم العمل بما تمليه سجيّته،لاستصغر نفسه و إرادته،و حقّر رأيه.و قد يتغيّر الخلق تغييرا تدريجيّا بسبب تجربة انجرار مضرّة من داعيه،أو بسبب خوف عاقبة سيّئة من جرّائه،بتحذير من هو قدوة عنده، لاعتقاد نصحه أو لخوف عقابه.و أوّل ذلك هو المواعظ الدّينيّة.

و معنى الآية على هذا يجوز أن يكون المحكيّ عنهم

ص: 608

أرادوا مدحا لما هم عليه من الأحوال الّتي أصرّوا على عدم تغييرها،فيكون أرادوا أنّها خلق أسلافهم و أسوتهم،فلا يقبلوا فيه عذلا و لا ملاما،كما قال تعالى عن أمثالهم تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا إبراهيم:10،فالإشارة تنصرف إلى ما هم عليه الّذي نهاهم عنه رسولهم.

و يجوز أن يكونوا أرادوا ما يدعو إليه رسولهم:

أي ما هو إلاّ من خلق أناس قبله،أي من عقائدهم و ما راضوا عليه أنفسهم و أنّه عبّر عليها و انتحلها،أي ما هو بإذن من اللّه تعالى كما قال مشركو قريش: إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام:25،و الإشارة إلى ما يدعوهم إليه.

و أمّا على قراءة الفريق الثّاني ف«الخلق»بفتح الخاء و سكون اللاّم مصدر هو الإنشاء و التّكوين، و الخلق أيضا مصدر خلق،إذا كذب في خبره،و منه قوله تعالى: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17،و تقول العرب:حدّثنا فلان بأحاديث الخلق،و هي الخرافات المفتعلة.و يقال له:اختلاق بصيغة الافتعال الدّالّة على التّكلّف و الاختراع،قال تعالى: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ص:7،و ذلك أنّ الكاذب يخلق خبرا لم يقع.

فيجوز أن يكون المعنى:أنّ ما تزعمه من الرّسالة عن اللّه كذب،و ما تخبرنا من البعث اختلاق،فالإشارة إلى ما جاء به صالح.

و يجوز أن يكون المعنى:إنّ حياتنا كحياة الأوّلين نحيا ثمّ نموت،فالكلام على التّشبيه البليغ،و هو كناية عن التّكذيب بالبعث الّذي حذّرهم جزاءه في قوله:

إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الشّعراء:

135،يقولون:كما مات الأوّلون و لم يبعث أحد منهم قطّ فكذلك نحيا نحن ثمّ نموت و لا نبعث.و هذا كقول المشركين: اِئْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الجاثية:

25،فالإشارة في قوله: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ إلى الخلق الّذي هم عليه،كما دلّ عليه المستثنى.فهذه أربعة معان واحد منها مدح،و اثنان ذمّ،و واحد ادّعاء.

(19:178)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ الخلق بضمّ الخاء و اللاّم أو سكونها،قال الرّاغب:الخلق و الخلق-أي بفتح الخاء و ضمّها-في الأصل واحد كالشّرب و الشّرب و الصّرم و الصّرم، لكن خصّ الخلق-بفتح الخاء-بالهيئات و الأشكال و الصّور المدركة بالبصر،و خصّ الخلق-بضمّ الخاء- بالقوى و السّجايا المدركة بالبصيرة،قال تعالى:

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم:4،و قرئ(ان هذا الاّ خلق الاوّلين)،انتهى.

و الإشارة بهذا إلى ما جاء به«هود»و قد سمّوه وعظا،و المعنى ليس ما تلبّست به من الدّعوة إلى التّوحيد و الموعظة إلاّ عادة البشر الأوّلين الماضين من أهل الأساطير و الخرافات،و هذا كقولهم: إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام:25.

و يمكن أن تكون الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشّرك و عبادة الآلهة من دون اللّه،اقتداء بآبائهم الأوّلين،كقولهم: وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ الشّعراء:74.

ص: 609

و احتمل بعضهم أن يكون المراد:ما خلقنا هذا إلاّ خلق الأوّلين نحيا كما حيوا و نموت كما ماتوا، و لا بعث و لا حساب و لا عذاب.و هو بعيد من السّياق.(15:302)

عبد الكريم الخطيب :أي فما هذا الّذي تحدّث به إلاّ أكاذيب و أضاليل،تحدّث بها أناس قبلك، و توعّدوا النّاس بالعذاب،فلم يقع شيء ممّا تحدّثوا به.

(10:146)

مكارم الشّيرازيّ: و ليس الأمر كما تقول، فإنّه لا شيء بعد الموت وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ الشّعراء:138،لا في هذا العالم،و لا في العالم الآخر.[ثمّ ذكر معنى الخلق بنحو ما سبق](11:279)

فضل اللّه :الّذين نلتزم أخلاقهم من عادات و أفكار و قضايا و أوضاع،لأنّهم القاعدة الّتي ننطلق منها و نرتكز عليها في أعمالنا و معتقداتنا.فإذا كانوا قد عبدوا الأصنام،فلا بدّ من أن نعبدها.

و ربّما فسّرها البعض بأنّ المراد هو الإشارة إلى دعوة«هود»إلى التّوحيد و الموعظة،باعتبارها من عادة الأنبياء السّابقين عليه،أو البشر الأوّلين الماضين من أهل الأساطير و الخرافات،و هذا كقولهم: إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام:25،و التّفسير الأوّل أقرب إلى الفهم من التّفسير الثّاني،و اللّه العالم.

(17:141)

2- إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. القلم:4

عائشة:كان خلقه القرآن.(الطّبريّ 12:180)

ابن عبّاس: على دين كريم شريف على اللّه.

(480)

إنّك على دين عظيم،و هو الإسلام.

(الطّبريّ 12:179)

مثله الحسن.(الطّوسيّ 10:75)

دين عظيم.(الطّبريّ 12:179)

مثله ابن زيد(الطّبريّ 12:180)،و الفرّاء:(3:

173).

مجاهد :الدّين.(الطّبريّ 12:179)

الضّحّاك: يعني دينه،و أمره الّذي كان عليه،ممّا أمره اللّه به،و وكّله إليه.(الطّبريّ 12:180)

العوفيّ: أدب القرآن.(الطّبريّ 12:180)

قتادة :هو ما كان يأتمر به من أمر اللّه،و ينتهي عنه ممّا نهى اللّه عنه.(القرطبيّ 18:227)

السّدوسيّ: معناه على دين عظيم بلغة قريش.

(الطّوسيّ 10:75)

الجبّائيّ: الخلق العظيم:الصّبر على الحقّ،و سعة البذل،و تدبير الأمور على مقتضى العقل بالصّلاح، و الرّفق،و المداراة،و تحمّل المكاره في الدّعاء إلى اللّه سبحانه،و التّجاوز،و العفو،و بذل الجهد في نصرة المؤمنين،و ترك الحسد،و الحرص.

(الطّبرسيّ 5:333)

الطّبريّ: يقول:و إنّك يا محمّد لعلى أدب عظيم، و ذلك أدب القرآن الّذي أدّبه اللّه به،و هو الإسلام و شرائعه.و بنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.

(12:179)

ص: 610

الزّجّاج:قيل:على الإسلام،و قيل:على القرآن.

و المعنى-و اللّه أعلم-أنت على الخلق الّذي أمرك اللّه به في القرآن.(5:204)

الماورديّ: فيه ثلاثة أوجه:[نقل الوجهين و أضاف:]

الثّالث:على طبع كريم،و هو الظّاهر.

و حقيقة الخلق في اللّغة،هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب،سمّي خلقا لأنّه يصير كالخلقة فيه، فأمّا ما طبع عليه من الآداب فهو الخيم،فيكون الخلق الطّبع المتكلّف،و الخيم هو الطّبع الغريزيّ.[ثمّ استشهد بشعر](6:61)

الطّوسيّ: و قيل:أدب القرآن.و قالت عائشة:

كانت خلق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما تضمّنه العشر الأوّل من سورة«المؤمنون».فالخلق:المرور في الفعل على عادة، فالخلق الكريم:الصّبر على الحقّ و سعة البذل، و تدبير الأمور على مقتضى العقل،و في ذلك الرّفق و الأناة و الحلم و المداراة.و من وصفه اللّه بأنّه على خلق عظيم فليس وراء مدحه مدح.و قيل:و إنّك لعلى خلق عظيم بحكم القرآن،و كلّ ذلك عطف على جواب القسم.(10:75)

القشيريّ: كما عرّفه اللّه سبحانه أخبار من قبله من الأنبياء،عرّفه أنّه اجتمعت فيه متفرّقات أخلاقهم، فقال له: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

و يقال:إنّه عرض مفاتيح الأرض فلم يقبلها، و رقّاه ليلة المعراج،و أراه جميع المملكة و الجنّة فلم يلتفت إليها،قال تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى النّجم:17،فما التفت يمينا و لا شمالا،و لهذا قال تعالى:

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. و يقال:(على خلق عظيم)لا بالبلاء تنحرف،و لا بالعطاء تنصرف.

احتمل صلوات اللّه عليه في الأذى شجّ رأسه و ثغره، و كان يقول:«اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» و غدا كلّ يقول:نفسي نفسي و هو صلوات اللّه عليه يقول:«أمّتي أمّتي».

و يقال:علّمه محاسن الأخلاق بقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف:199.

سأل صلوات اللّه عليه جبريل:«بما ذا يأمرني ربّي؟قال:يأمرك بمحاسن الأخلاق،يقول لك:صل من قطعك و أعط من حرمك و اعف عمّن ظلمك» فتأدّب بهذا،فأثنى عليه،و قال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. (6:185)

الميبديّ: قال ابن عبّاس و مجاهد:أي على دين عظيم،لا دين أحبّ إليّ و لا أرضى عندي منه،و هو دين الإسلام.و قال الحسن:على أدب القرآن،أي إنّك لعلى الخلق الّذي نزل به القرآن...قال قتادة:و هو ما كان يأتمر به من أمر اللّه و ينتهي عنه من نهي اللّه، و المعنى إنّك على الخلق الّذي أمرك اللّه به في القرآن.

و قيل:معناه كان خلقه يوافق القرآن.

و قيل:سمّى اللّه خلقه عظيما،لأنّه امتثل تأديب اللّه إيّاه،بقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ الأعراف:

199.و جملة ذلك أنّ اللّه تعالى جمع فيه كلّ خلق محمود،لأنّه تعالى ذكره ذكر الأنبياء في سورة الأنعام، ثمّ أثنى عليهم،فقال عزّ و جلّ: أُولئِكَ الَّذِينَ

ص: 611

آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ الأنعام:89،ثمّ أمر محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم باتّباع هداهم،فقال: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام:90،و كان لكلّ واحد منقبة مدح بها،و كان مخصوصا بها فخصّ نوح بالشّكر،و إبراهيم بالخلّة، و موسى بالإخلاص،و إسماعيل بصدق الوعد، و يعقوب و أيّوب بالصّبر،و داود بالاعتذار،و سليمان و عيسى،بالتّواضع.فلمّا أمره اللّه تعالى بالاقتداء بهم،اقتدى بهم،فاجتمع له ما تفرّق في غيره،و حاز مكارم الأخلاق بأسرها،و لهذا قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ اللّه بعثني لتمام مكارم الأخلاق و تمام محاسن الأفعال».[ثمّ ذكر روايات في أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله](10:188)

الزّمخشريّ: استعظم خلقه لفرط احتماله الممضّات من قومه،و حسن مخالقته و مداراته لهم.

و قيل:هو الخلق الّذي أمره اللّه تعالى به،في قوله

تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف:199.[ثمّ ذكر قول عائشة]

(4:141)

ابن عطيّة: و سئلت عائشة رضي اللّه عنها عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:خلقه القرآن أدبه و أوامره، و قال عليّ رضى اللّه عنه:الخلق العظيم:أدب القرآن،و عبّر ابن عبّاس عن الخلق:بالدّين و الشّرع؛و ذلك لا محالة رأس الخلق و و كيده.أمّا أنّ الظّاهر من الآية أنّ الخلق هي الّتي تضادّ مقصد الكفّار،في قولهم:مجنون،أي غير محصّل لما يقول،و إنّما مدحه تعالى بكرم السّجيّة و براعة القريحة و الملكة الجميلة و جودة الضّرائب، و منه قوله عليه السّلام:«بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».و قال جنيد:سمّي خلقه عظيما؛إذ لم تكن له همّة سوى اللّه تعالى،عاشر الخلق بخلقه،و زايلهم بقلبه،فكان ظاهره مع الخلق و باطنه مع الحقّ.

و في وصيّة بعض الحكماء:«عليك بالخلق مع الخلق و بالصّدق مع الحقّ،و حسن الخلق خير كلّه».

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم اللّيل و صائم النّهار»،و قال:«ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن»،و قال:«أحبّكم إلى اللّه أحسنكم أخلاقا»،و العدل و الإحسان و العفو و الصّلة من الخلق.(5:346)

الطّبرسيّ: ...و قيل:معناه:إنّك متخلّق بأخلاق الإسلام،و على طبع كريم.و حقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب.و إنّما سمّي خلقا،لأنّه يصير كالخلقة فيه.فأمّا ما طبع عليه من الآداب،فإنّه الخيم.فالخلق هو الطّبع المكتسب،و الخيم:هو الطّبع الغريزيّ.[ثمّ ذكر نحو الطّوسيّ و أضاف:]

و قيل:سمّي خلقه عظيما،لأنّه عاشر الخلق بخلقه، و زايلهم بقلبه،فكان ظاهره مع الخلق،و باطنه مع الحقّ.و قيل:لأنّه امتثل تأديب اللّه سبحانه إيّاه بقوله:

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف:199.

و قيل:سمّي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه.و يعضده ما روي عنه قال:«إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».و قال:«أدّبني ربّي فأحسن تأديبي».(5:333)

الفخر الرّازيّ: فيه مسائل:

ص: 612

المسألة الأولى:اعلم أنّ هذا كالتّفسير لما تقدّم من قوله: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ القلم:2،و تعريف لمن رماه بالجنون بأنّ ذلك كذب و خطأ؛و ذلك لأنّ الأخلاق الحميدة و الأفعال المرضيّة كانت ظاهرة منه،و من كان موصوفا بتلك الأخلاق و الأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه،لأنّ أخلاق المجانين سيّئة.و لمّا كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها اللّه بأنّها عظيمة، و لهذا قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ص:86،أي لست متكلّفا فيما يظهر لكم من أخلاقي،لأنّ المتكلّف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إلى الطّبع.

و قال آخرون:إنّما وصف خلقه بأنّه عظيم؛ و ذلك لأنّه تعالى قال له: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام:90،و هذا«الهدى»الّذي أمر اللّه تعالى محمّدا بالاقتداء به،ليس هو معرفة اللّه،لأنّ ذلك تقليد،و هو غير لائق بالرّسول،و ليس هو الشّرائع،لأنّ شريعته مخالفة لشرائعهم،فتعيّن أن يكون المراد منه أمره عليه السّلام بأن يقتدي بكلّ واحد من الأنبياء المتقدّمين فيما اختصّ به من الخلق الكريم، فكأنّ كلّ واحد منهم كان مختصّا بنوع واحد.فلمّا أمر محمّد عليه الصّلاة و السّلام بأن يقتدي بالكلّ،فكأنّه أمر بمجموع ما كان متفرّقا فيهم،و لمّا كان ذلك درجة عالية لم تتيسّر لأحد من الأنبياء قبله،لا جرم وصف اللّه خلقه بأنّه عظيم.

و فيه دقيقة أخرى و هي قوله: لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و كلمة(على)للاستعلاء،فدلّ اللّفظ على أنّه مستعل على هذه الأخلاق و مستول عليها،و أنّه بالنّسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنّسبة إلى العبد، و كالأمير بالنّسبة إلى المأمور.

المسألة الثّانية:الخلق ملكة نفسانيّة يسهل على المتّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة.

و اعلم أنّ الإتيان بالأفعال الجميلة غير،و سهولة الإتيان بها غير،فالحالة الّتي باعتبارها تحصل تلك السّهولة هي الخلق.و يدخل في حسن الخلق التّحرّز من الشّحّ و البخل و الغضب،و التّشديد في المعاملات، و التّحبّب إلى النّاس بالقول و الفعل،و ترك التّقاطع و الهجران و التّساهل في العقود كالبيع و غيره، و التّسمّح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهرا له،و حصل له حقّ آخر.

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال:معناه:و إنّك لعلى دين عظيم،و روي أنّ اللّه تعالى قال له:«لم أخلق دينا أحبّ إليّ و لا أرضى عندي من هذا الدّين الّذي اصطفيته لك و لأمّتك»يعني الإسلام.

و اعلم أنّ هذا القول ضعيف؛و ذلك لأنّ الإنسان له قوّتان:قوّة نظريّة و قوّة عمليّة،و الدّين يرجع إلى كمال القوّة النّظريّة،و الخلق يرجع إلى كمال القوّة العمليّة،فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر.و يمكن أيضا أن يجاب عن هذا السّؤال من وجهين:

الوجه الأوّل:أنّ الخلق في اللّغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل.

ص: 613

الوجه الثّاني:أنّا بيّنّا أنّ الخلق هو الأمر الّذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلا،فلمّا كانت الرّوح القدسيّة الّتي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهيّة الحقّة،و عديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة،كانت تلك السّهولة حاصلة في قبول المعارف الحقّة،فلا يبعد تسمية تلك السّهول بالخلق.

المسألة الثّالثة:قال سعيد بن هشام:قلت لعائشة:

«أخبريني عن خلق رسول اللّه،قالت:أ لست تقرأ القرآن؟قلت:بلى،قالت:فإنّه كان خلق النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام»،و سألت مرّة أخرى فقالت:كان خلقه القرآن،ثمّ قرأت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ المؤمنون:1،إلى عشر آيات.و هذا إشارة إلى أنّ نفسه المقدّسة كانت بالطّبع منجذبة إلى عالم الغيب،و إلى كلّ ما يتعلّق بها،و كانت شديدة النّفرة عن اللّذّات البدنيّة و السّعادات الدّنيويّة بالطّبع و مقتضى الفطرة.

اللّهمّ ارزقنا شيئا من هذه الحالة.

و روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت:

«ما كان أحد أحسن خلقا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،ما دعاه أحد من أصحابه و لا من أهل بيته إلاّ قال:لبّيك» فلهذا قال تعالى: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و قال أنس:«خدمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عشر سنين،فما قال لي في شيء فعلته لم فعلت؟و لا في شيء لم أفعله هلاّ فعلت؟».

و أقول:إنّ اللّه تعالى وصف ما يرجع إلى قوّته النّظريّة بأنّه عظيم،فقال: .وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً النّساء:113،و وصف ما يرجع إلى قوّته العمليّة بأنّه عظيم،فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوّتين شيء،فدلّ مجموع هاتين الآيتين على أنّ روحه فيما بين الأرواح البشريّة كانت عظيمة عالية الدّرجة، كأنّها لقوّتها و شدّة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة.(3:80)

نحوه النّيسابوريّ(29:19)و الشّربينيّ(4:353).

القرطبيّ: [نقل أقوال ابن عبّاس و مجاهد ثمّ قال:]

و في صحيح مسلم عن عائشة:أنّ خلقه كان القرآن.[إلى أن قال:]

قلت:ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم،أصحّ الأقوال.(18:227)

أبو حيّان :[اكتفى بنقل أقوال السّابقين]

(8:308)

الفيروزآباديّ: المعنى إنّك لعلى الخلق الّذى آثرك اللّه تعالى به في القرآن.و في«الصّحيحين»أنّ هشام ابن حكيم سأل عائشة عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:كان خلقه القرآن.

و اعلم أنّ الدّين كلّه خلق،فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدّين،و كذا التّصوّف.قال الكتّانيّ: هو خلق،فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التّصوّف.و قيل:حسن الخلق:بذل النّدى،و كفّ الأذى.و قيل:فكّ الكفّ،و كفّ الفكّ.و قيل:بذل الجميل و كفّ القبيح.و قيل:التّخلّي من الرّذائل، و التّحلّي بالفضائل.و هو يقوم على أربعة أركان

ص: 614

لا يتصوّر قيام ساقه إلاّ عليها:الصّبر،و العفّة، و الشّجاعة،و العدل.

فالصّبر يحمله على الاحتمال،و كظم الغيظ، و إماطة الأذى،و الحلم و الأناة و الرّفق،و عدم الطّيش و العجلة.

و العفّة تحمله على اجتناب الرّذائل و القبيح من القول و الفعل،و تحمله على الحياء و هو ركن كلّ خير،و تمنعه من الفحش و البخل و الكذب و الغيبة و النّميميّة.

و الشّجاعة تحمله على عزّة النّفس،و إيثار معالي الأخلاق و الشّيم،و على البذل.

و النّدى الّذي هو شجاعة النّفس و قوّتها على إخراج المحبوب و مفارقته،و تحمله على كظم الغيظ و الحلم،فإنّه بقوّة نفسه و شجاعتها يمسك عنانها، و يكبحها بلجامها عن السّطوة و البطش،كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس الشّديد بالصّرعة إنّما الشّديد الّذي يمسك نفسه عند الغضب»و هذه هي حقيقة الشّجاعة.

و هي ملكة يقتدر معها على قهر خصمه.

و العدل يحمله على اعتدال أخلاقه،و توسّطه بين طرفي الإفراط و التّفريط،فيحمله على خلق الجود و السّخاء الّذي هو توسّط بين الإمساك و التّقتير، و على خلق الحياء الّذي هو توسّط بين الذّلّة و القحة، و على خلق الشّجاعة الّذي هو توسّط بين الجبن و التّهوّر،و على خلق الحلم الّذي هو توسّط بين الغضب و المهانة.و التّوسّط منشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.(بصائر ذوي التّمييز 2:568)

أبو السّعود:لا يدرك شأوه أحد من الخلق، و لذلك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله البشر.[ثمّ نقل قول عائشة](6:285)

البروسويّ: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا يدرك شأوه أحد من الخلق،و لذلك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله البشر.قال بعضهم:لكونك متخلّقا بأخلاق اللّه و أخلاق كلامه القديم،و متأيّد بالتّأييد القدسيّ،فلا تتأثّر بافترائهم،و لا تتأذّ بأذاهم؛إذ باللّه تصبر لا بنفسك،كما قال: .وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ. النّحل:127،و لا أحد أصبر من اللّه.و كلمة (على)للاستعلاء،فدلّت على أنّه عليه السّلام مشتمل على الأخلاق الحميدة،و مستول على الأفعال المرضيّة حتّى صارت بمنزلة الأمور الطّبيعيّة له،و لهذا قال تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ص:86،أي لست متكلّفا فيما يظهر لكم من أخلاقي،لأنّ المتكلّف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إليه الطّبع.و للإنسان صورة ظاهرة لها هيئة يشاهدها البصر الّذي هو في الرّأس،و هي عالم الملك و هي الشّكل.و صورة باطنة لها سيرة يشاهدها البصيرة الّتى هي في القلب،و هي من عالم الملكوت و هي الخلق،فكما أنّ لهيئته الظّاهرة حسنا أو قبحا صوريّا باعتبار أشكالها و أوضاعها و ألوانها،فكذلك لسيرته الباطنة حسن أو قبح معنويّ باعتبار شمائلها و طبائعها.

و من ذلك قسّموا الخلق إلى المحمود و المذموم تارة،و إلى الحسن و القبيح أخرى.و كثيرا ما يطلق

ص: 615

و يراد به المحمود فقط،لأنّه اللاّئق بأن يسمّى خلقا، و من هذا قوله تعالى: خُلُقٍ عَظِيمٍ، و عليه قول الإمام الرّازيّ:الخلق ملكة نفسانيّة يسهل على المتّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة،و نفس الإتيان بالأفعال الجميلة شيء و سهولة الإتيان بها شيء آخر، فالحالة الّتي باعتبارها تحصل تلك السّهولة الخلق، و سمّي خلقا لأنّه لرسوخه و ثباته صار بمنزلة الخلقة الّتي جبل عليها الإنسان،و إن احتاج في كونه ملكة راسخة إلى اعتمال و طول رياضة و مجاهدة،و لذا قالوا:الخلق يتبدّل بالمصاحبة و المعاملة،فيكون الحسن قبيحا و القبيح حسنا على حال المصاحبين و المعاملين،كما في الحديث:«المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».و في حديث آخر:«لا تجالسوا أهل الأهواء و البدع،فإنّ لهم عرّة كعرّة الجرب».

و من ذلك كانت مصاحبة الأخيار مستحسنة مرغّبا فيها،و مصاحبة الأشرار مستقبحة مرهّبا عنها، و كذلك يتبدّل بالسّعي في أسبابه،و لذلك صنّف أطبّاء الأرواح أبوابا في علم الأخلاق لبيان ما هو صحّة روحانيّة،و ما هو مرض روحانيّ،كما ألّف أطبّاء الأشباح فصولا في علم الأبدان لبيان سبب كلّ مرض و علاجه.

و إنّما أفرد«الخلق»و وصفه بالعظمة كما وصف القرآن بالعظيم،لينبّه على أنّ ذلك الخلق الّذي هو عليه السّلام جامع لمكارم الأخلاق.[ثمّ أدام نحو ما قاله الميبديّ في شرح أخلاق الأنبياء و قال:]

كما قال تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام:90،إذ ليس هذا الهدى معرفة اللّه تعالى،لأنّ ذلك تقليد،و هو غير لائق بالرّسول عليه السّلام،و لا الشّرائع،لأنّ شريعته ناسخة لشرائعهم،و مخالفة لها في الفروع،و المراد منه الاقتداء بكلّ منهم فيما اختصّ به من الخلق الكريم لو كان كلّ منهم مختصّا بخلق حسن غالب على سائر أخلاقه،فلمّا أمر بذلك فكأنّه أمر بجمع جميع ما كان متفرّقا فيهم،فهذه درجة عالية لم تتيسّر لأحد من الأنبياء عليهم السّلام،فلا جرم وصفه اللّه بكونه على خلق عظيم،كما قال بعض العارفين:

لكلّ نبيّ في الأنام فضيلة*و جملتها مجموعة لمحمّد و لم يتّصف عليه السّلام بمقتضى قوّته النّظريّة إلاّ بالعلم و العرفان و الإيقان و الإحسان،و لم يفعل بمقتضى قوّته العمليّة إلاّ ما فيه رضى اللّه من فرض أو واجب أو مستحبّ،و لم يصدر منه حرام أو مفسد أو مكروه، فكان هو الملك بل أعلى منه،و يجمع هذا كلّه قول عائشة رضي اللّه عنها لمّا سئلت عن خلقه عليه السّلام، فقالت:كان خلقه القرآن،أرادت به أنّه عليه السّلام كان متحلّيا بما في القرآن من مكارم الأخلاق و محاسن الأوصاف،و متخلّيا عمّا يزجر عنه من السّيّئات و سفساف الخصال،و في رواية قالت[عائشة]للسّائل:

أ لست تقرأ القرآن؟ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ المؤمنون:

1،يعنى اقرأ الآي العشر في سورة المؤمنين فذلك خلقه.و فيه تنبّه للسّامعين على عظام أخلاقه من الإيمان الّذي هو أصل الأخلاق القلبيّة و الصّلاة الّتي هي عماد الأخلاق البدنيّة،و الزّكاة الّتي هي رأس

ص: 616

الأخلاق الماليّة،إلى آخر ما في الآيات.و في«سلسلة الذّهب»للمولى الجاميّ رحمه اللّه:

بود هم بحر كرمت هم كان

گوهرش كان خلقه القرآن

وصف خلق كسى كه قرآنست

خلق را نعت او چه امكانست

و في«التّأويلات النّجميّة»:كان خلقه القرآن،بل كان هو القرآن كما قال العارف بالحقائق:

أنا القرآن و السّبع المثاني

و روح الرّوح لا روح الأواني

و قال الحسين النّوريّ قدّس سرّه:كيف لا يكون خلقه عظيما و قد تجلّى اللّه لسرّه بأنوار أخلاقه؟!

يقول الفقير:كان خلقه عظيما،لأنّه مظهر العظيم، فكان خلق العظيم عظيما،فافهم جدّا.و في«تلقيح الأذهان»لحضرة الشّيخ الأكبر قدّس سرّه الأطهر:

أوتي عليه السّلام جوامع الكلم،لأنّه مبعوث لتتميم مكارم الأخلاق،كما قال عليه السّلام،و لذلك قال اللّه تعالى: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و هو عين كونه صراط المستقيم.

قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ للّه ثلاثمائة و ستّين خلقا من لقيه بخلق منها مع التّوحيد دخل الجنّة».[إلى أن قال:]

قال بعض الكبار:من أراد أن يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ممّن لم يدركه من أمّته،فلينظر إلى القرآن،فإنّه لا فرق بين النّظر فيه و بين النّظر إلى رسول اللّه،فكأنّ القرآن انتشاء صورة جسديّة يقال لها:محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب،و القرآن كلام اللّه و هو صفته،فكأنّ محمّدا عليه السّلام خلعت عليه صفة الحقّ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ النّساء:80.[ثمّ أدام الكلام في حسن الخلق](10:105)

نحوه ملخّصا الآلوسيّ.(29:25)

سيّد قطب :و تتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثّناء الفريد على النّبيّ الكريم،و يثبت هذا الثّناء العلويّ في صميم الوجود،و يعجز كلّ قلم،و يعجز كلّ تصوّر عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربّ الوجود، و هي شهادة من اللّه،في ميزان اللّه،لعبد اللّه،يقول له فيها: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. و مدلول الخلق العظيم هو ما هو عند اللّه ممّا لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين.

و دلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم تبرز من نواح شتّى:

تبرز من كونها كلمة من اللّه الكبير المتعال، يسجّلها ضمير الكون،و تثبت في كيانه،و تتردّد في الملإ الأعلى إلى ما شاء اللّه.

و تبرز من جانب آخر،من جانب إطاقة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم لتلقّيها،و هو يعلم من ربّه هذا،قائل هذه الكلمة ما هو؟ما عظمته؟ما دلالة كلماته؟ما مداها؟ما صداها؟ و يعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة،الّتي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين.

إنّ إطاقة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم لتلقّي هذه الكلمة،من هذا المصدر-و هو ثابت-لا ينسحق تحت ضغطها الهائل- و لو أنّها ثناء-و لا تتأرجح شخصيّته تحت وقعها، و تضطرب تلقّيه لها في طمأنينة،و في تماسك و في توازن،هو ذاته دليل على عظمة شخصيّته فوق كلّ

ص: 617

دليل.

و لقد رويت عن عظمة خلقه في السّيرة،و على لسان أصحابه روايات منوّعة كثيرة.و كان واقع سيرته أعظم شهادة من كلّ ما روي عنه،و لكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كلّ شيء آخر،أعظم بصدورها عن العليّ الكبير،و أعظم بتلقّي محمّد لها-و هو يعلم من هو العليّ الكبير.-و بقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنّا.لا يتكبّر على العباد،و لا ينتفخ، و لا يتعاظم،و هو الّذي سمع ما سمع من العليّ الكبير.

و اللّه أعلم حيث يجعل رسالته،و ما كان إلاّ محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرّسالة الأخيرة بكلّ عظمتها الكونيّة الكبرى،فيكون كفؤا لها،كما يكون صورة حيّة منها.

إنّ هذه الرّسالة من الكمال و الجمال،و العظمة و الشّمول،و الصّدق و الحقّ؛بحيث لا يحملها إلاّ الرّجل الّذي يثني عليه اللّه هذا الثّناء.فتطيق شخصيّته كذلك تلقّي هذا الثّناء،في تماسك و في توازن،و في طمأنينة.طمأنينة القلب الكبير الّذي يسع حقيقة تلك الرّسالة،و حقيقة هذا الثّناء العظيم.ثمّ يتلقّى-بعد ذلك-عتاب ربّه له و مؤاخذته إيّاه على بعض تصرّفاته،بذات التّماسك و ذات التّوازن و ذات الطّمأنينة.و يعلن هذه كما يعلن تلك،لا يكتم من هذه شيئا و لا تلك.و هو هو في كلتا الحالتين النّبيّ الكريم، و العبد الطّائع،و المبلّغ الأمين.

إنّ حقيقة هذه النّفس من حقيقة هذه الرّسالة، و إنّ عظمة هذه النّفس من عظمة هذه الرّسالة،و إنّ الحقيقة المحمّديّة كالحقيقة الإسلاميّة لأبعد من مدى، أيّ مجهر يملكه بشر.و قصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها و لا يحدّد مداها،و أن يشير إلى مسارها الكونيّ دون أن يحدّد هذا المسار.

و مرّة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدّلالة الضّخمة لتلقّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لهذه الكلمة من ربّه،و هو ثابت راسخ متوازن مطمئنّ الكيان.لقد كان-و هو بشر-يثني على أحد أصحابه، فيهتزّ كيان صاحبه هذا و أصحابه من وقع هذا الثّناء العظيم،و هو بشر و صاحبه يعلم أنّه بشر.و أصحابه يدركون أنّه بشر،إنّه نبيّ،نعم.و لكن في الدّائرة المعلومة الحدود،دائرة البشريّة ذات الحدود.فأمّا هو فيتلقّى هذه الكلمة من اللّه،و هو يعلم من هو اللّه.هو بخاصّة يعلم من هو اللّه،هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه، ثمّ يصطبر و يتماسك و يتلقّى و يسير...إنّه أمر فوق كلّ تصوّر و فوق كلّ تقدير.

إنّه محمّد-وحده-هو الّذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة،إنّه محمّد-وحده-هو الّذي يبلغ قمّة الكمال الإنسانيّ المجانس لنفخة اللّه في الكيان الإنسانيّ،إنّه محمّد-وحده-هو الّذي يكافئ هذه الرّسالة الكونيّة العالميّة الإنسانيّة،حتّى لتتمثّل في شخصه حيّة،تمشي على الأرض في إهاب إنسان.إنّه محمّد وحده الّذي علم اللّه منه أنّه أهل لهذا المقام-و اللّه أعلم حيث يجعل رسالته-و أعلن في هذه أنّه على خلق عظيم.و أعلن في الأخرى أنّه-جلّ شأنه و تقدّست ذاته و صفاته-يصلّي عليه هو و ملائكته

ص: 618

إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الأحزاب:56 و هو-جلّ شأنه-وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم.

ثمّ إنّ لهذه اللّفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقيّ في ميزان اللّه،و أصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلاميّة كأصالة الحقيقة المحمّديّة.

و النّاظر في هذه العقيدة،كالنّاظر في سيرة رسولها،يجد العنصر الأخلاقيّ بارزا أصيلا فيها،تقوم عليه أصولها التّشريعيّة و أصولها التّهذيبيّة على السّواء.الدّعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطّهارة و النّظافة و الأمانة و الصّدق و العدل و الرّحمة و البرّ و حفظ العهد،و مطابقة القول للفعل،و مطابقتهما معا للنّيّة و الضّمير،و النّهي عن الجور و الظّلم و الخداع و الغشّ و أكل أموال النّاس بالباطل،و الاعتداء على الحرمات و الأعراض،و إشاعة الفاحشة بأيّة صورة من الصّور.و التّشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس و صيانة العنصر الأخلاقيّ في الشّعور و السّلوك،و في أعماق الضّمير و في واقع المجتمع،و في العلاقات الفرديّة و الجماعيّة و الدّوليّة على السّواء.

و الرّسول الكريم يقول:«إنّما بعثت لأتمّم مكارم...»فيلخّص رسالته في هذا الهدف النّبيل، و تتوارد أحاديثه تترى في الحضّ على كلّ خلق كريم.

و تقوم سيرته الشّخصيّة مثالا حيّا و صفحة نقيّة، و صورة رفيعة،تستحقّ من اللّه أن يقول عنها في كتابه الخالد وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. فيمجّد بهذا الثّناء نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم كما يمجّد به العنصر الأخلاقيّ في منهجه الّذي جاء به هذا النّبيّ الكريم،و يشدّ به الأرض إلى السّماء، و يعلّق به قلوب الرّاغبين إليه-سبحانه-و هو يدلّهم على ما يحبّ و يرضى من الخلق القويم.

و هذا الاعتبار هو الاعتبار الفذّ،في أخلاقيّة الإسلام،فهي أخلاقيّة لم تنبع من البيئة،و لا من اعتبارات أرضيّة إطلاقا،و هي لا تستمدّ و لا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات الّتي كانت قائمة في الجيل.إنّما تستمدّ من السّماء و تعتمد على السّماء،تستمدّ من هتاف السّماء للأرض،لكي تتطلّع إلى الأفق،و تستمدّ من صفات اللّه المطلقة ليحقّقها البشر في حدود الطّاقة،كي يحقّقوا إنسانيّتهم العليا،و كي يصبحوا أهلا لتكريم اللّه لهم و استخلافهم في الأرض،و كي يتأهّلوا للحياة الرّفيعة الأخرى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ القمر:

55،و من ثمّ فهي غير مقيّدة و لا محدودة بحدود من أيّ اعتبارات قائمة في الأرض،إنّما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر،لأنّها تتطلّع إلى تحقيق صفات اللّه الطّليقة من كلّ حدّ و من كلّ قيد.

ثمّ إنّها ليست فضائل مفردة:صدق،و أمانة، و عدل،و رحمة،و برّ.إنّما هي منهج متكامل،تتعاون فيه التّربية التّهذيبيّة مع الشّرائع التّنظيميّة،و تقوم عليه فكرة الحياة كلّها و اتّجاهاتها جميعا،و تنتهي في خاتمة المطاف إلى اللّه،لا إلى أيّ اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة.

و قد تمثّلت هذه الأخلاقيّة الإسلاميّة بكمالها و جمالها و توازنها و استقامتها و اطّرادها و ثباتها في

ص: 619

محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و تمثّلت في ثناء اللّه العظيم،و قوله: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. (6:3656)

ابن عاشور :و الخلق:طباع النّفس،و أكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم يتبع بنعت،و قد تقدّم عند قوله تعالى: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ الشّعراء:

137.

و العظيم:الرّفيع القدر،و هو مستعار من ضخامة الجسم،و شاعت هذه الاستعارة حتّى ساوت الحقيقة.

و(على)للاستعلاء المجازيّ،المراد به:التّمكّن، كقوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ البقرة:5، و منه قوله تعالى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ النّمل:

79، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الزّخرف:43، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ الحجّ:67.[و نقل قول عائشة ثمّ قال:]

و الخلق العظيم:هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق،و هو البالغ أشدّ الكمال المحمود في طبع الإنسان،لاجتماع مكارم الأخلاق في النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فهو حسن معاملته النّاس على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة،فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن.

و لهذا قالت عائشة:«كان خلقه القرآن»،أ لست تقرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ المؤمنون:1،الآيات العشر.و عن عليّ:الخلق العظيم:هو أدب القرآن، و يشمل ذلك كلّ ما وصف به القرآن محامد الأخلاق، و ما وصف به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من نحو قوله: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ آل عمران:159،و قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف:

199،و غير ذلك من آيات القرآن،و ما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن.قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

«إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»،فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم،و لا شكّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أكبر مظهر لما في شرعه،قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها الجاثية:18،و أمره أن يقول: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الأنعام:163.

فكما جعل اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم على خلق عظيم،جعل شريعته لحمل النّاس على التّخلّق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة.

و بهذا يزداد وضوحا معنى التّمكّن الّذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فهو متمكّن منه الخلق العظيم في نفسه،و متمكّن منه في دعوته الدّينيّة.

و اعلم أنّ جمّاع الخلق العظيم الّذي هو أعلى الخلق الحسن هو التّديّن،و معرفة الحقائق،و حلم النّفس،و العدل،و الصّبر على المتاعب،و الاعتراف للمحسن،و التّواضع،و الزّهد،و العفّة،و العفو، و الجمود،و الحياء،و الشّجاعة،و حسن الصّمت، و التّؤدة،و الوقار،و الرّحمة،و حسن المعاملة و المعاشرة.

و الأخلاق كامنة في النّفس،و مظاهرها:

تصرّفات صاحبها في كلامه،و طلاقة وجهه،و ثباته، و حكمه،و حركته و سكونه،و طعامه و شرابه،

ص: 620

و تأديب أهله و من لنظره (1)،و ما يترتّب على ذلك من حرمته عند النّاس،و حسن الثّناء عليه و السّمعة.

و أمّا مظاهرها في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ففي ذلك كلّه و في سياسته أمّته،و فيما خصّ به من فصاحة كلامه، و جوامع كلمه.(29:60)

مغنيّة:ما وصف سبحانه أحدا من رسله بهذا الوصف إلاّ محمّدا،و يتلخّص معناه بقول الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:«أدّبني ربّي فأحسن تأديبي»أي إنّ اللّه قد اتّجه بأخلاق محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلى نفس الهدف الّذي خلقها اللّه من أجله.(7:387)

الطّباطبائيّ: الخلق هو الملكة النّفسانيّة الّتي تصدر عنها الأفعال بسهولة،و ينقسم إلى الفضيلة -و هي الممدوحة كالعفّة و الشّجاعة،-و الرّذيلة -و هي المذمومة كالشّره و الجبن-لكنّه إذا أطلق فهم منه الخلق الحسن.[ثمّ ذكر قول الرّاغب في معنى الخلق و قال:]

و الآية و إن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلّى اللّه عليه و آله و تعظّمه،غير أنّها بالنّظر إلى خصوص السّياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعيّة المتعلّقة بالمعاشرة،كالثّبات على الحقّ،و الصّبر على أذى النّاس،و جفاء أجلافهم،و العفو و الإغماض،و سعة البذل و الرّفق،و المداراة و التّواضع،و غير ذلك.و قد أوردنا في آخر الجزء السّادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه صلّى اللّه عليه و آله.

و ممّا تقدّم يظهر أنّ ما قيل:إنّ المراد بالخلق:

الدّين و هو الإسلام،غير مستقيم إلاّ بالرّجوع إلى ما تقدّم.(19:369)

عبد الكريم الخطيب :هو تقرير لما تضمّنه قوله تعالى: وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ القلم:3،فهذا الأجر غير الممنون،هو ثمرة لهذا الخلق العظيم،الّذي كان عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و حسب رسول اللّه بهذا الوصف الكريم،من اللّه سبحانه و تعالى،حسبه بهذا شرفا و عزّا،حيث توجّه ربّه جلّ و علا،بتاج الكمال كلّه؛إذ ليس بعد حسن الخلق حلية تتحلّى بها النّفوس،أو تاج تتوّج به الرّءوس،ففي مغارس الخلق الحسن،كانت رسالات المرسلين،و من أجل حماية هذه المغارس،و إطلاع ثمرها،كانت دعوة الرّسل، و كان جهادهم الّذي توّج بدعوة سيّد الرّسل،و جهاد خاتم النّبيّين،و في هذا يقول صلوات اللّه و سلامه عليه:

«إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».(15:1081)

مكارم الشّيرازيّ: و تعرض الآية وصفا آخر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذلك بقوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

تلك الأخلاق الّتي لا نظير لها،و يحار العقل في سمّوها و عظمتها من صفاء لا يوصف،و لطف منقطع النّظير،و صبر و استقامة و تحمّل لا مثيل لها،و تجسيد لمبادئ الخير؛حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه،ثمّ يطلب من النّاس العمل بما دعا إليه و الالتزام به.

عند ما دعوت-يا رسول اللّه-النّاس لعبادة اللّه، فقد كنت أعبد النّاس جميعا،و إذ نهيتهم عن سوء أوا.

ص: 621


1- كذا.

منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع،تقابل الأذى بالنّصح،و الإساءة بالصّفح،و التّضرّع إلى اللّه بهدايتهم،و هم يؤلمون بدنك الطّاهر رميا بالحجارة، و استهزاء بالرّسالة،و تقابل وضعهم للرّماد الحارّ على رأسك الشّريف بدعائك لهم بالرّشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ و منبعا للعطف و منهلا للرّحمة،فما أعظم أخلاقك!

(خلق)من مادّة«الخلقة»بمعنى الصّفات الّتي لا تنفكّ عن الإنسان،و هي ملازمة له،كخلقة الإنسان.

و فسّر البعض الخلق العظيم للنّبيّ ب:الصّبر في طريق الحقّ،و كثرة البذل و العطاء،و تدبير الأمور، و الرّفق و المداراة،و تحمّل الصّعاب في مسير الدّعوة الإلهيّة،و العفو عن المتجاوزين،و الجهاد في سبيل اللّه، و ترك الحسد و البغض و الغلّ و الحرص،و بالرّغم من أنّ جميع هذه الصّفات كانت متجسّدة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب،بل أشمل منها جميعا.

و فسّر الخلق العظيم أيضا ب«القرآن الكريم»أو «مبدإ الإسلام»و من الممكن أن تكون الموارد السّابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

و على كلّ حال فإنّ تأصّل هذا الخلق العظيم في شخصيّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله هو دليل واضح على رجاحة العقل و غزارة العلم له،و نفي جميع التّهم الّتي تنسب من قبل الأعداء إليه صلّى اللّه عليه و آله.(18:474)

فضل اللّه: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ في رحابة صدرك،و رأفة قلبك،و رحمة إحساسك،و لين كلامك،و رقّة شعورك،و حرصك على من حولك، و حزنك على كلّ الآلام الّتي تعرض لهم،و انفتاحك على كلّ النّاس،من أصدقاء و أعداء،بالكلمة الّتي هي أحسن،و الأسلوب الّذي هو أفضل،و النّصيحة الّتي هي أقوم،و البسمة الّتي هي أحلى،و العطيّة الّتي هي أغلى،و الرّوح الّتي هي أصفى،و القلب الّذي هو أنقى،و القوّة في غير قسوة،و الرّفق في غير ضعف، و الصّبر في غير خوف،و التّواضع في غير ذلّ،و العزّة في غير كبر...و هكذا كان الرّسول الّذي تتحرّك أخلاقه في عمق رسالته،و تنطلق إنسانيّته في ساحة مسئوليّته،و تلتقي شخصيّته بكلّ الآفاق الرّحبة في أبعاد حركته.

و بهذا كان التّجسيد الحيّ لكلّ أخلاقيّة الرّسالة، حتّى تحوّل إلى قرآن يتحرّك بين النّاس،ليقدّم الفكرة بالكلمة،و يعمّق الكلمة بالقدوة،فكانت كلماته رسالة،و كانت أفعاله شريعة،و كان سكوته عمّا يراه و يسمعه و تقريره له دينا يدان به،و كانت عظمته في خلقه المنفتح على النّاس هي نفسها عظمته في نفسه و في خلقه الرّساليّ الرّوحيّ في خشوعه لربّه،في كلّ نبضة من نبضات قلبه،و كلّ همسة من همسات روحه،و كلّ دمعة من دموع عينيه،و كلّ ابتهال في سبحات الصّلاة و الدّعاء من ابتهالات وجدانه.

(23:40)

ص: 622

مخلّقة

يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... الحجّ:5

ابن مسعود:إذا وقعت النّطفة في الرّحم،بعث اللّه ملكا،فقال:يا ربّ مخلّقة،أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة،مجّتها الأرحام دما،و إن قال:مخلّقة،قال:يا ربّ فما صفة هذه النّطفة،أذكر أم أنثى؟ما رزقها؟ما أجلها؟أ شقيّ أو سعيد؟قال:فيقال له:انطلق إلى أمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النّطفة.فينطلق الملك فينسخها،فلا تزال معه حتّى يأتي على آخر صفتها.

(الطّبريّ 9:110)

المخلّقة:ما صار خلقا،و غير مخلّقة:ما دفعته الأرحام من النّطف،فلم يصر خلقا.(الماورديّ 4:7)

ابن عبّاس: (مخلقة:)خلق تمام، وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ و هي السّقط.(277)

المخلّقة:ما كان حيّا،و غير المخلّقة السّقط.

(القرطبيّ 12:9) أبو العالية : مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ السّقط.

(الطّبريّ 9:111)

الشّعبيّ: النّطفة و المضغة إذا نكست في الخلق الرّابع،كانت نسمة مخلّقة،و إذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلّقة.(الطّبريّ 9:111)

مجاهد :(مخلقة:)السّقط مخلّقة.

(الطّبريّ 9:110)

السّقط،مخلوق و غير مخلوق.(الطّبريّ 9:110)

مصوّرة و غير مصوّرة كالسّقط.(الماورديّ 4:6)

الضّحّاك: يعني التّامّ في شهوره،و غير التّام.

(الماورديّ 4:6)

الإمام الباقر عليه السّلام:المخلّقة هم الذّرّ الّذين خلقهم اللّه في صلب آدم صلّى اللّه عليه،أخذ عليهم الميثاق ثمّ أجراهم في أصلاب الرّجال و أرحام النّساء، و هم الّذين يخرجون إلى الدّنيا حتّى يسألوا عن الميثاق.

و أمّا قوله: وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فهم كلّ نسمة لم يخلقهم اللّه عزّ و جلّ في صلب آدم،حين خلق الذّرّ و أخذ عليهم الميثاق،و هم النّطف من العزّل و السّقط قبل أن ينفخ فيه الرّوح و الحياة و البقاء.

(الطّباطبائيّ 14:355)

قتادة :تامّة و غير تامّة.(الطّبريّ 9:110)

ابن زيد :المخلّقة الّتي خلق اللّه فيها الرّأس و اليدين و الرّجلين،و غير مخلّقة:الّتي لم يخلق فيها شيء.(القرطبيّ 12:9)

الفرّاء: و قوله: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... يقول:

تماما و سقطا.و يجوز مخلّقة و غير مخلّقة على الحال:

و الحال تنصب فى معرفة الأسماء و نكرتها.كما تقول:

هل من رجل يضرب مجرّدا.فهذا حال و ليس بنعت.

(2:215)

ابن الأعرابي:(مخلقة)قد بدأ خلقها، وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لم تصوّر بعد.(القرطبيّ 12:9)

الطّبريّ: و اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله:

مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فقال بعضهم:هي من صفة

ص: 623

النّطفة.قال:و معنى ذلك:فإنّا خلقناكم من تراب،ثمّ من نطفة مخلّقة و غير مخلّقة.

قالوا:فأمّا المخلّقة فما كان خلقا سويّا،و أمّا غير مخلّقة،فما دفعته الأرحام،من النّطف،و ألقته قبل أن يكون خلقا.

و قال آخرون:معنى ذلك:تامّة و غير تامّة.

و قال آخرون:معنى ذلك المضغة مصوّرة إنسانا و غير مصوّرة،فإذا صوّرت فهي مخلّقة،و إذا لم تصوّر فهي غير مخلّقة.

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال:

المخلّقة المصوّرة خلقا تامّا،و غير مخلّقة:السّقط قبل تمام خلقه،لأنّ المخلّقة و غير المخلّقة من نعت المضغة و النّطفة بعد مصيرها مضغة،لم يبق لها حتّى تصير خلقا سويّا إلاّ التّصوير،و ذلك هو المراد بقوله:

مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ خلقا سويّا،و غير مخلّقة بأن تلقيه الأمّ مضغة و لا تصوّر و لا ينفخ فيها الرّوح.

(9:110)

الزّجّاج: و معنى مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ وصف الخلق أو منهم من يتمّم مضغته فتخلق له الأعضاء الّتي تكمل آلات الإنسان،و منهم من لا يتمّم اللّه خلقه.

(3:412)

الميبديّ: (مخلقة)يعني مخلوقة،و التّشديد لتكرار الفعل من السّمع و البصر،و الأكفّ و الفمّ و غير ذلك.[و نقل أقوال ابن عبّاس و قتادة و مجاهد ثمّ قال:]

و ذلك أنّ اللّه إذا أراد أن يخلق الحياة في الولد أظهر فيه خطوطا،ثمّ يصير كلّ خطّ عضوا.و قيل:المخلّقة:

الولد الّذي تأتي به المرأة لوقت،و غير المخلّقة:

السّقط،يسقط قبل وقته.(6:332)

الزّمخشريّ: و المخلّقة:المسوّاة الملساء من النّقصان و العيب.يقال:خلق السّواك و العود،إذا سوّاه و ملسه من قولهم:صخرة خلقاء،إذا كانت ملساء كأنّ اللّه تعالى يخلق المضغ متفاوتة:منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب،و منها ما هو على عكس ذلك،فيتبع ذلك التّفاوت تفاوت النّاس في خلقهم و صورهم و طولهم و قصرهم و تمامهم و نقصانهم.و إنّما نقلناكم من حال إلى حال و من خلقة إلى خلقة.(3:5)

نحوه الشّربينيّ.(2:537)

ابن عطيّة: و قوله تعالى(مخلقة)معناه متمّمة البنية(و غير مخلقة)غير متمّمة أي الّتي تستسقط، قاله مجاهد و قتادة و الشّعبيّ و أبو العالية،فاللّفظة بناء مبالغة من«خلق»و لمّا كان الإنسان فيه أعضاء متباينة،و كلّ واحد منها مختصّ بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل،لأنّ فيه خلقا كثيرة.و قرأ ابن أبي عبلة (مخلّقة) بالنّصب و (غير) بالنّصب في الرّاء

و يتّصل بهذا الموضوع من الفقه أنّ العلماء اختلفوا في أمّ الولد إذا أسقطت مضغة لم تصوّر هل تكون أمّ ولد بذلك؟فقال مالك و الأوزاعيّ و غيرهما:

هي أمّ ولد بالمضغة إذا علم أنّها مضغة الولد،و قال

ص: 624

الشّافعيّ و أبو حنيفة:لا حتّى يتبيّن فيه خلق،و لو عضو واحد.(4:109)

نحوه أبو حيّان.(6:352)

الفخر الرّازيّ: المخلّقة:المسوّاة الملساء السّالمة من النّقصان و العيب،يقال:خلق السّواك و العود،إذا سوّاه و ملسه،من قولهم:صخرة خلقاء،إذا كانت ملساء.

ثمّ للمفسّرين فيه أقوال:

أحدها:أن يكون المراد من تمّت فيه أحوال الخلق و من لم تتمّ،كأنّه سبحانه قسّم المضغة إلى قسمين:

أحدهما:تامّة الصّور و الحواسّ و التّخاطيط.

و ثانيهما:النّاقصة في هذه الأمور.

فبيّن أنّ بعد أن صيّره مضغة،منها ما خلقه إنسانا تامّا بلا نقص،و منها ما ليس كذلك،و هذا قول قتادة و الضّحّاك،فكأنّ اللّه تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها:

ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب،و منها ما هو على عكس ذلك،فتبع ذلك التّفاوت تفاوت النّاس في خلقهم و صورهم و طولهم و قصرهم و تمامهم و نقصانهم.

و ثانيها:المخلّقة:الولد الّذي يخرج حيّا،و غير المخلّقة:السّقط،و هو قول مجاهد.

و ثالثها:المخلّقة:المصوّرة،و غير المخلّقة:أي غير المصوّرة،و هو الّذي يبقى لحما من غير تخطيط و تشكيل.و احتجّوا بما روى علقمة عن عبد اللّه.[ثمّ نقل قول ابن مسعود المتقدّم]

و رابعها:قال القفّال:التّخليق مأخوذ من الخلق، فما تتابع عليه الأطوار و توارد عليه الخلق بعد الخلق، فذاك هو المخلّق لتتابع الخلق عليه،قالوا:فما تمّ فهو المخلّق و ما لم يتمّ فهو غير المخلّق،لأنّه لم يتوارد عليه التّخليقات.

و القول الأوّل أقرب،لأنّه تعالى قال في أوّل الآية: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ و أشار إلى النّاس،فيجب أن تحمل مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على من سيصير إنسانا؛و ذلك يبعد في السّقط،لأنّه قد يكون سقطا و لم يتكامل فيه الخلقة.

فإن قيل:هلاّ حملتم ذلك على السّقط لأجل قوله:

وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ و ذلك كالدّلالة على أنّ فيه ما لا يقرّه في الرّحم،و هو السّقط؟

قلنا:إنّ ذلك لا يمنع من صحّة ما ذكرنا في كون المضغة مخلّقة و غير مخلّقة،لأنّه بعد أن تمّم خلقة البعض و نقص خلقة البعض،لا يجب أن يتكامل ذلك بل فيه ما يقرّه اللّه في الرّحم،و فيه ما لا يقرّه و إن كان قد أظهر فيه خلقة الإنسان،فيكون من هذا الوجه قد دخل فيه السّقط.(23:8)

القرطبيّ: قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال الفرّاء:(مخلقة:)تامّة الخلق،(و غير مخلقة) السّقط...قال ابن العربيّ:إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق،فإنّ النّطفة و العلقة و المضغة مخلّقة،لأنّ الكلّ خلق اللّه تعالى،و إن رجعنا إلى التّصوير الّذي هو منتهى الخلقة كما قال اللّه تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ المؤمنون:14،فذلك ما قال ابن زيد.

ص: 625

قلت:التّخليق من الخلق،و فيه معنى الكثرة،فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق،و إذا كان نطفة فهو مخلوق،و لهذا قال اللّه تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ المؤمنون:14،-و اللّه أعلم.-و قد قيل:إنّ قوله: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السّقط،أي منهم من يتمّ الرّبّ سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع،و منهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام.و قيل:«المخلّقة»أن تلد المرأة لتمام الوقت.(12:9)

أبو السّعود :(مخلقة)بالجرّ صفة(مضغة) أي مستبينة الخلق مصوّرة(و غير مخلقة)أي لم يستبن خلقها و صورتها بعد.و المراد تفصيل حال المضغة و كونها أوّلا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء،ثمّ ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا.و كان مقتضى التّرتيب السّابق المبنيّ على التّدرّج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدّم غير المخلّقة على المخلّقة،و إنّما أخّرت عنها لأنّها عدم الملكة.هذا و قد فسّرتا بالمسوّاة و غير المسوّاة،و بالتّامّة و السّاقطة؛ و ليس بذاك.و في جعل كلّ واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً المؤمنون:14،مزيد دلالة على عظيم قدرته تعالى، و كسر لسورة استبعادهم.(4:367)

البروسويّ: [نحو أبي السّعود و قال:]

و يؤيّده قول حضرة النّجم:في«التّأويلات» (مخلقة)أي منفوخة فيها الرّوح،(غير مخلقة)أي صورة لا روح فيها.و فى الحديث:«إنّ أحدكم يجمع خلقه»أي يحرز و يقرّ مادّة خلقه«في بطن أمّه»أي في رحمها،من قبيل ذكر الكلّ و إرادة الجزء«أربعين يوما».(6:6)

الآلوسيّ: [نقل كلام أبي السّعود و الزّمخشريّ و قال:]

و عن مجاهد و قتادة و الشّعبيّ و أبي العالية و عكرمة:أنّ المخلّقة الّتي تمّ لها مدّة الحمل،و توارد عليها خلق بعد خلق،و غير المخلّقة الّتي لم يتمّ لها ذلك و سقطت.و استدلّ له بما أخرجه الحكيم التّرمذيّ في«نوادر الأصول»و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن مسعود.[ثمّ نقل قوله:]

و هو في حكم المرفوع،و المراد أنّهم خلقوا من جنس هذه النّطفة الموصوفة بالتّامّة و السّاقطة،لا أنّهم خلقوا من نطفة تامّة و من نطفة ساقطة؛إذ لا يتصوّر الخلق من النّطفة السّاقطة و هو ظاهر.و كان التّعرّض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة،و في جعل كلّ واحدة من هذه المراتب...[و ذكر مثل أبي السّعود](17:116)

ابن عاشور :قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ صفة(مضغة،)و ذلك تطوّر من تطوّرات المضغة.

أشار إلى أطوار تشكّل تلك المضغة،فإنّها في أوّل أمرها تكون غير مخلّقة،أي غير ظاهر فيها شكل الخلقة،ثمّ تكون مخلّقة،و المراد:تشكيل الوجه ثمّ الأطراف،و لذلك لم يذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النّطفة و العلقة؛إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين

ص: 626

بخلاف المضغة.و إذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق،تعيّن أنّ كلا الوصفين لا زمان للمضغة، فلا يستقيم تفسير من فسّر«غير المخلّقة»بأنّها الّتي لم يكمل خلقها فسقطت.

و التّخليق:صيغة تدلّ على تكرير الفعل،أي خلقا بعد خلق،أي شكلا بعد شكل.

و قدّم ذكر«المخلّقة»على ذكر«غير المخلّقة» على خلاف التّرتيب في الوجود،لأنّ المخلّقة أدخل في الاستدلال،و ذكر بعده غير المخلّقة،لأنّه إكمال للدّليل،و تنبيه على أنّ تخليقها نشأ عن عدم.فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء،و هو المقصود من الكلام.(17:143)

الطّباطبائيّ: و المخلّقة على ما قيل:تامّة الخلقة، غير المخلّقة:غير تامّتها،و ينطبق على تصوير الجنين الملازم لنفخ الرّوح فيه،و عليه ينطبق القول بأنّ المراد بالتّخليق التّصوير.(14:344)

فضل اللّه : مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي تامّة الخلق من حيث اكتمال الصّورة في الجنين و نفخ الرّوح فيه،أو غير تامّة من حيث عدم اكتمال الحياة فيه.

(16:19)

اختلاق

ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ.

ص:7

ابن عبّاس: اختلقه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم من تلقاء نفسه.

(381)

نحوه السّدّيّ(الطّبريّ 10:554)،و الميبديّ(8:

323).

تخريص.(الطّبريّ 10:553)

مجاهد :كذب.(الطّبريّ 10:553)

قتادة :إلاّ شيء تخلقه.(الطّبريّ 10:554)

ابن زيد :إن هذا إلاّ كذب.(الطّبريّ 10:554)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين في القرآن:ما هذا القرآن إلاّ اختلاق،أي كذب اختلقه محمّد و تخرّصه.

و بنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.

(10:553)

الزّجّاج: أي إلاّ تقوّل.(4:322)

الماورديّ: أي كذب اختلقه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(5:79)

نحوه أبو السّعود.(5:350)

الزّمخشريّ: أي افتعال و كذب.أنكروا أن يختصّ بالشّرف من بين أشرافهم و رؤسائهم،و ينزّل عليه الكتاب من بينهم،كما قالوا: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الزّخرف:31، و هذا الإنكار ترجمة عمّا كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أتي من شرف النّبوّة من بينهم.(3:361)

ابن عطيّة: و قولهم: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ إشارة إلى جميع ما يخبر به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم عن اللّه تعالى.(4:494)

الطّبرسيّ: أي تخرّص و كذب و افتعال(4:466)

نحوه الفخر الرّازيّ(26:178)،و أبو حيّان(7:

385)و الشّربينيّ(3:401)و الطّباطبائيّ(17:183).

القرطبيّ: أي كذب و تخرّص،عن ابن عبّاس

ص: 627

و غيره.يقال:خلق و اختلق،أي ابتدع.و خلق اللّه عزّ و جلّ الخلق من هذا،أي ابتدعهم على غير مثال.

(15:152)

البروسويّ: أي كذب اختلقه من عند نفسه، قال في«المفردات»:و كلّ موضع استعمل فيه«الخلق» في وصف الكلام فالمراد به الكذب،و من هذا امتنع كثير من النّاس إطلاق لفظ«الخلق»على القرآن، و على هذا،قوله: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ. (8:6)

الآلوسيّ: أي افتعال و افتراء من غير سبق مثل له.(23:168)

ابن عاشور :و جملة إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ مبيّنة لجملة ما سَمِعْنا بِهذا و هذا هو المتحصّل من كلامهم المبدوء ب اِمْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ص:6،فهذه الجملة كالفذلكة لكلامهم.

و الاختلاق:الكذب المخترع الّذي لا شبهة لقائله.(23:116)

عبد الكريم الخطيب :أي كذب و افتراء على اللّه؛إذ لو كان اللّه يأبى أن يكون معه آلهة لما قبل أن يكون المسيح،و أمّ المسيح إلهين معه.(12:1050)

مكارم الشّيرازيّ: (اختلاق)مشتقّة من (خلق)و تعني إبداء أمر لم تكن له سابقة،كما تطلق هذه الكلمة على الكذب؛و ذلك لأنّ الكذّاب غالبا ما يطرح مواضيع لا وجود لها،و لهذا فإنّ المراد من كلمة (اختلاق)أنّ التّوحيد الّذي دعا إليه هذا النّبيّ مجهول بالنّسبة لنا و لآبائنا الأوّلين،و هذا دليل على بطلانه.

ملاحظة

الخوف من الجديد الخوف من القضايا و الأمور المستحدثة و الجديدة كانت-على طول التّاريخ- أحد الأسباب المهمّة الّتي تقف وراء إصرار الأمم الضّالّة على انحرافاتها،و عدم استسلامها لدعوات أنبياء اللّه؛إذ أنّهم يخافون من كلّ جديد،و لهذا كانوا ينظرون لشرائع الأنبياء بنظرة سيّئة جدّا،و حتّى الآن هناك أمم كثيرة تحمل آثارا من هذا التّفكير الجاهليّ، في الوقت الّذي لم تكن فيه دعوة الرّسل للتّوحيد أمرا جديدا،و لا يمكن أن تكون حداثة الشّيء دليلا على بطلانه،فيجب أن نتّبع المنطق،و نستسلم للحقّ،أينما كان و ممّن كان.

و الأمر العجيب أنّ مسألة الخوف من الأمر الجديد-مع شديد الأسف-قد طالت بعض العلماء أيضا-إذ يتّخذون موقفا معارضا للنّظريّات العلميّة الحديثة،و يقولون: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ.

و هذا الأمر شوهد بصورة خاصّة في تأريخ الكنيسة المسيحيّة؛إذ أنّهم كانوا يتّخذون مواقف سلبيّة تجاه الاكتشافات العلميّة لعلماء الطّبيعة،و كان أحدهم«غاليلو»إذ تعرّض لأشدّ هجمات الكنيسة على أثر إعلانه عن أنّ الأرض تدور حول الشّمس و حول نفسها؛حيث كانوا يقولون:إنّ هذا الكلام بدعة.و أكثر ما يثير العجب أنّ بعض العلماء الكبار، كانوا عند ما يتوصّلون إلى حقائق علميّة جديدة، يعمدون إلى البحث في أمّهات الكتب لعلّهم يعثرون على علماء سابقين يوافقونهم في الرّأي؛و ذلك خوفا

ص: 628

من تعرّضهم لهجمات المعارضين.و بهذا الأسلوب استطاع كثير من العلماء إبداء وجهة نظرهم،و كأنّها قديمة و ليست بجديدة،و هذا أمر مؤلم جدّا.

و مثال هذا الحديث يمكن مشاهدته في كتاب «الأسفار»فيما ورد عن النّظرية المعروفة ب«الحركة الجوهريّة»لصدر المتألّهين الشّيرازيّ.

على أيّة حال فإنّ طريقة التّعامل مع القضايا الحديثة و الابتكارات الجديدة أدّى إلى وقوع خسائر كبيرة في المجتمع الإنسانيّ و في عالم العلم و المعرفة، و على أصحاب العلاقة أن يعملوا بجدّ لإصلاح هذا الأمر،و إزالة الرّسوبات الجاهليّة من أفكار الرّأي العامّ.

إلاّ أنّ هذا الحديث لا يعني قبول كلّ رأي جديد لكونه جديدا،حتّى و لو كان بلا أساس؛إذ يصبح حينئذ نفس التّمسّك بالجديد بلاء عظيما كعشق القديم،فالاعتدال الإسلاميّ يدعونا إلى عدم الإفراط أو التّفريط في العمل.(14:411)

فضل اللّه :و افتراء على طريقة الأساطير الّتي اختلقها الأوّلون.و قيل:إنّ المراد بها النّصرانيّة، و لكنّها لم تكن متداولة لديهم.(19:239)

الوجوه و النّظائر

هارون الأعور:تفسير«الخلق»على سبعة وجوه:

فوجه منها:خلق:يعني دينا،فذلك قوله في النّساء:119، وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ يعني دين اللّه،و يعني أنّ قائل هذا إبليس.و قال في الرّوم:

30: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ يعني لدين اللّه.

الوجه الثّاني:الخلق:يعني الخلق،التّخرّص بالكذب،فذلك قوله عزّ و جلّ في الشّعراء:137:

إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ يعني ب خُلُقُ الْأَوَّلِينَ لتخرّصهم الكذب.و قال في العنكبوت:17 وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً يعني:تخرّصون كذبا؛و في ص:7، إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ يعني اختلقه تخرّصه من تلقاء نفسه.

الوجه الثّالث:الخلق:يعني التّصوير،فذلك قوله لعيسى صلّى اللّه عليه و سلّم وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ المائدة:110،يعني تصوّر من الطّين كهيئة الطّير.و في آل عمران:47،و في النّحل:20، وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ يعني هم يصوّرون.مثلها في الفرقان:3.

الوجه الرّابع:الخلق يعني النّطق،فذلك قوله عزّ و جلّ: أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فصّلت:21،يقول:أنطقكم في الدّنيا.

الوجه الخامس:الخلق:يعني الجعل،فذلك قوله في الشّعراء:166، .وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ يعني:و تذرون الّذي جعل لكم من ازواجكم،يعني:و تذرون الّذي جعل لكم من ازواجكم،يعني من فروج نسائكم.

الوجه السّادس:يعني البعث،فذلك في الصّافّات:

11، أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً يعني بعثا في الآخرة.و قال:

بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يس:81،يعني في الآخرة.

الوجه السّابع:الخلق في الدّنيا،فذلك قوله:

ص: 629

اَلَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الأنعام:1، فخلقهما و لم يكونا شيئا.و قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:12،يعني خلق الخلق حين خلقهم الرّبّ عزّ و جلّ في الدّنيا.(281)

نحوه الدّامغانيّ.(300)

الحيريّ: باب الخلق،و له اثنا عشر وجها:

أحدها:إيجاد من العدم،كقوله: يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة:

21،و قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ البقرة:

164،و قوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الأنعام:1،و قوله: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها لقمان:10.

و الثّاني:التّسخير،كقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً البقرة:29.

و الثّالث:التّصوير،كقوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ آل عمران:49،و قوله: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ المائدة:110،و قوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ص:75.

و الرّابع:الدّين،كقوله: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ النّساء:

119،و قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ الرّوم:30.

و الخامس:التّقدير،كقوله: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المؤمنون:14.

و السّادس:الكذب،كقوله: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ الشّعراء:137،و قوله: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً العنكبوت:17،و قوله: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ص:7.

و السّابع:الجعل،كقوله: وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ الشّعراء:166.

و الثّامن:البعث،كقوله: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً الصّافّات:11،و قوله: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ

النّازعات:27.

و التّاسع:الإنطاق،كقوله: وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فصّلت:21.

و العاشر:التّقلّب،كقوله: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ الأنبياء:33.

و الحادي عشر:التّحويل،كقوله: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً المؤمنون:14.

و الثّاني عشر:المخلوق،كقوله: هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي لقمان:11.(224)

حبيش تفليسيّ: [نحو هارون الأعور إلاّ أنّه أضاف وجها آخر فقال:]

و الوجه الرّابع:الخلق بمعنى التّقدير:كما قال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المؤمنون 14،يعني أحسن المقدّرين.(90)

الفيروزآباديّ: و«الخلق»ورد فى القرآن على ثمانية أوجه:[نحو هارون الأعور إلاّ أنّه أضاف:]

الثّامن:بمعنى حقيقة الخلقة خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الزّمر:5، ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ لقمان:28 أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ الرّعد:16،و له نظائر.

(بصائر ذوي التّمييز 2:569)

ص: 630

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة:الخلق،بمعنى التّقدير، و الخلق:بمعنى الملاسة

فمن الأوّل قولهم:خلق الأديم يخلقه خلقا،أي قدّره لما يريد قبل القطع،و قاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفّا.و الخليقة:الحفيرة المخلوقة في الأرض، أي المقدّرة.

و الخلق و الخلق و الخليقة:السّجيّة و الطّبيعة، و الخلقة:الفطرة،لأنّ صاحبه-كما قال ابن فارس- قد قدّر عليه.يقال:تخلّق فلان بخلق كذا،أي استعمله من غير أن يكون مخلوقا في فطرته،و فلان يتخلّق بغير خلقه:يتكلّفه،و خالق النّاس:عاشرهم على أخلاقهم،و هذه خليقته الّتي خلق بها و خلقها و الّتي خلق:أراد الّتي خلق صاحبها؛و الجمع:خلائق،و إنّه لكريم الطّبيعة و الخليقة و السّليقة.

و الخلاق:الحظّ و النّصيب من الخير و الصّلاح، لأنّه مقدّر لكلّ أحد.يقال:رجل لا خلاق له،أي لا نصيب له و لا رغبة له في الخير،و لا في الآخرة،و لا صلاح في الدّين.

و الخلق:المروءة،لأنّ صاحبه ممّن يقدّر فيه ذلك و ترى فيه مخايله.يقال:هذا الأمر مخلقة لك،أي مجدرة،و إنّه مخلقة من ذلك،و إنّه لخليق أن يفعل ذلك،و بأن يفعل ذلك،و لأن يفعل ذلك،و من أن يفعل ذلك،أي جدير به و حريّ،و قد خلق لذلك، و أخلق به:أجدر به!و هو خليق له:شبيه.يقال:ما أخلقه!أي ما أشبهه!

و الخلق:تقدير الشّيء و إنشاؤه على مثال مبدع.

يقال:خلق اللّه الشّيء يخلقه خلقا،أي أحدثه بعد أن لم يكن،و هو تعالى الخالق و الخلاّق.و الخليقة:الخلق.

يقال:هم خليقة اللّه و هم خلق اللّه؛و الجمع:خلائق.

و رجل خليق و مختلق:حسن الخلق،و امرأة خليق و خليقة و مختلقة:ذات جسم و خلق،و قد خلقت خلاقة،أي تمّ خلقها.

و الخلق:الكذب،و هو اختلاقه و اختراقه، و تقديره في النّفس-كما قال ابن فارس-يقال:خلق الكذب و الإفك يخلقه و تخلّقه،أي افتراه و ابتدعه، و حدّثنا فلان بأحاديث الخلق،و هي الخرافات من الأحاديث المفتعلة،و رجل خالق:صانع،و هنّ الخالقات للنّساء،و هذه قصيدة مخلوقة:منحولة إلى غير قائلها.

و من الثّاني يقال:خلق الشّيء خلقا و اخلولق، أي املاسّ و لان و استوى،و خلقه هو،و سهم مخلّق:

أملس مستو،و جبل أخلق:ليّن أملس،و صخرة خلقاء بيّنة الخلق:ملساء،ليس فيها وصم و لا كسر.

و الخلائق:حمائر الماء،و هي صخور أربع عظام ملس تكون على رأس الرّكيّة،يقوم عليها النّازع و الماتح، و هضبة خلقاء:مصمتة ملساء لا نبات فيها،و قدح مخلّق:مستو أملس مليّن.يقال:خلّقته،أي ملّسته، و احلولق الرّسم:استوى بالأرض.

و امرأة خلّق و خلقاء:مثل الرّتقاء،لأنّها مصمتة كالصّفاة الخلقاء،و هو مثل بالهضبة الخلقاء،لأنّها مصمتة مثلها،و خلقاء الجبهة و المتن و خليقاؤهما:

ص: 631

مستواهما،و ما املاسّ منهما.يقال:سحبوا على خلقاوات جباههم،و الخليقاء من الفرس:حيث لقيت جبهته قصبة أنفه من مستدقّها،و هي كالعرنين من الإنسان.و الخلقاء:السّماء،لملاسّتها و استوائها.

و الخلقة:السّحابة المستوية المخيلة للمطر،يقال:

نشأت لهم سحابة خلقة و خليقة:فيها أثر المطر، و اخلولق السّحاب:استوى و ارتتقت جوانبه و صار خليقا للمطر،كأنّه ملّس تمليسا،و اخلولقت السّماء أن تمطر:قاربت و شابهت.

و الخلوق:البلى،لأنّه مملّس.يقال:خلق الشّيء و الثّوب يخلق خلوقا و خلوقة،و خلق يخلق خلاقة، و خلق يخلق خلقا،و أخلق إخلاقا،أي بلي، و أخلقته أنا:أبليته.و يقال على المثل:أخلق الدّهر الشّيء،أي أبلاه،و كذلك أخلق السّائل وجهه.

و شيء خلق:بال،الذّكر و الأنثى فيه سواء،لأنّه في الأصل مصدر الأخلق،و هو الأملس.يقال:ثوب خلق،و جبّة خلق،و دار خلق.و أخلق فلان فلانا:

أعطاه ثوبا خلقا،و أخلقته ثوبا:كسوته ثوبا خلقا؛ و الجمع:خلقان و أخلاق.يقال:ثوب أخلاق،و ملاءة أخلاق،و برمة أخلاق،و حبل أخلاق،و قربة أخلاق.

و الخلوق و الخلاق:ضرب من الطّيب،و قد تخلّق و خلّقته،أي طليته بالخلوق،لأنّ الشّيء يملس إذا خلّق،يقال:خلّقت المرأة جسمها،أي طلته بالخلوق، و قد تخلّقت المرأة بالخلوق.

2-و زعم«آرثر جفري»في مفرداته أنّ لفظ «الخلاق»ليس عربيّا،كما هو ديدنه في كثير من الألفاظ،غير أنّه لم يبتّ في أصله،بل اكتفى بعرض أشتات من الآراء المموّهة،تستند إلى الحدس و الظّنّ، و لا تزيد القارئ إلاّ حيرة.

و قد ارتكز في زعمه هذا على حجج واهية،و هي:

أ-بعد معنى الخلاق عن الخلق،أي الإنشاء و الإبداع.

ب-مشابهته للمفردات العبريّة و الآراميّة و السّريانيّة لفظا و معنى.

ج-استناد المعاجم العربيّة إلى القرآن في بيان معناه.

د-تأثّر القرآن بالأديان السّابقة في استعمال هذا اللّفظ،و خصوصا فيما يخصّ نصيب الإنسان في الآخرة،و لكن فاته:

أ-تعذّر رجوع مشتقّات المادّة الواحدة إلى أصل واحد في كثير من الموادّ العربيّة،كما ذهب إلى ذلك ابن فارس في«المقاييس اللّغويّة»و منها هذه المادّة.بيد أنّ الخلاق-أي النّصيب-من الخلق-أي التّقدير- لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه،كما قال ابن فارس.

ب-رجوع العربيّة و سائر أخواتها السّامية إلى أرومة واحدة،فليس من الغريب أن تشابه إحداهما الأخرى في الألفاظ و المعاني.

ج-ضرورة استناد المعاجم العربيّة إلى القرآن في بيان معاني الألفاظ؛إذ إنّها ما صنّفت إلاّ لأجله،و هذا لا يغيب عن البادي و الحاضر.كما أنّ المعاجم الّتي فصّلت بين مفردات العربيّة و مفردات القرآن- كمعجم المنجد-تلجأ إليه حينما يعزّ عليها البيان،إلاّ

ص: 632

أنّها تستعمل لفظ«قيل»في المثال!بدل«قال اللّه»أو «جاء في الآية»، سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً الإسراء:43.

د-استمداد الإسلام بعض المعارف من الأديان السّماويّة الّتي سبقته،غير أنّه هذّبها،أو أضاف إليها، أو خالفها،فأضحت علومه كاملة سابغة،و هذا هو سرّ كفّة علومه لكفّة سائر الأديان.

و بهذا تتهافت آراء«جفري»و تتناقض، و يتهاوى ما ارتكز عليه: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ التّوبة:109

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

جاء منها مجرّدا(الماضي)معلوما 150 مرّة و مجهولا 7 مرّات،و(المضارع)معلوما 23 مرّة و مجهولا 4 مرّات،و(الفاعل)12 مرّة،و المبالغة (خلاّق)مرّتين.و المصدر(خلق)52 مرّة،و(خلاق) 5 مرّات،و اسم المصدر(خلق)مرّتين.

و مزيدا من التّفعيل المفعول(مخلّقة)مرّتين،و من الافتعال المصدر(اختلاق)مرّة،في 124 آية:

1-خلق الإنسان من طين

1- إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ص:71

2- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً...

الأنعام:2

3- فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ الصّافّات:11

4- اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ السّجدة:7

5- وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً الإسراء:61

6- قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ* قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ص:75،76

7- ...ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ* قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف:11،12

8- ...وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي... المائدة:110

9- أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ... آل عمران:49

2-خلق الإنسان من صلصال

10- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ

الرّحمن:14

11- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:26

12- وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:28

13- قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:33

ص: 633

3-خلق الإنسان من تراب

14- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ الرّوم:20

15- وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً... فاطر:11

16- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:59

17- قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً...

الكهف:37

4-خلق الإنسان من نطفة و سائر أطواره

18- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النّحل:4

19- أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يس:77

20- إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً الدّهر:2

21- مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ عبس:19

22- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ المؤمنون:12-16

23- أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى* ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى* أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى القيامة:36-40

24- يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً... الحجّ:5،6

25- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ المؤمن:67،68

26- أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ* فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ* إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ* فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ

المرسلات:20

27- فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ...

الطّارق:5،6

28- وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً الفرقان:54

29- اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ العلق:1-2

5-تسويته و ساير حالاته

30- سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى الأعلى:1-3

ص: 634

31- وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ...

الأعراف:11

32- هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى... الحشر:24

33- ...وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً... الأعراف:69

34- ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً* وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً نوح:13،14

35- اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الرّوم:54

6-خلق الإنسان في الأرحام

36- ...وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ... البقرة:228

7-خلق الإنسان من نفس واحدة

37- يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... النّساء:1

38- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها... الأعراف:189

39- خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ... الزّمر:6

8-خلق الإنسان أزواجا

40- وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الذّاريات:49

41- وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ الزّخرف:12

42- سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ يس:36

43- وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً النّبأ:8

44- يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا... الحجرات:13

45- وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى

النّجم:45

46- وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى اللّيل:3 و 4

47- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها... الرّوم:21

48- وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ الشّعراء:166

9-خلق الإنسان من جملة من خلق

49- يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة:21

50- ...بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ... المائدة:18

51- وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ

الشّعراء:184

10-خلق الإنسان أوّل مرّة

52- ...وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

فصّلت:21

53- وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ

ص: 635

مَرَّةٍ... الأنعام:94

54- ...لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...

الكهف:48

55- أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ... ق:15

11-خلق الإنسان ممّا يعلمون و ما يعملون

56- كَلاّ إِنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ

المعارج:39

57- وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ

الصّافّات:96

12-خلق الإنسان للرّحمة و الهداية

58- وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ... هود:118،119

59- اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الشّعراء:78

60- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ... التّغابن:2

13-خلق الإنسان حجّة للتّوحيد و المعاد

61- فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ

فصّلت:15

62- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ الزّخرف:87

63- أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ

النّحل:17

64- ...وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ فصّلت:37

65- ...أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ الأعراف:54

66- ...كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ الأنبياء:104

14-خلق الموت و الحيات

67- اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الملك:2

68- وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً...

النّحل:70

69- اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ... الرّوم:40

70- مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى طه:55

71- ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ لقمان:28

15-بدء خلق الإنسان و إعادته

72- ...إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالْقِسْطِ... يونس:4

73- قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ

يونس:34

74- أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ

النّمل:64

75- أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ

ص: 636

يُعِيدُهُ... العنكبوت:19

76- قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ العنكبوت:20

77- اَللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الرّوم:11

78- وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... الرّوم:27

16-خلق جديد

79- وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ... الرّعد:5

80- وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ السّجدة:10

81- ...يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ سبأ:7

82- أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ق:15

83 و 84- وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً الإسراء:49 و 98

85 و 86- ...إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ إبراهيم:19،فاطر:16

17-خلق الملائكة و الجانّ

87- أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ

الصّافّات:150

88- وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ... الزّخرف:19

89- وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ

الذّاريات:56

90- وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الرّحمن:15

91- وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ

الحجر:27

92- وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ

الأنعام:100

18-خلق الأنعام و الدّوابّ

93- أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ يس:71

94- وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ* وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ* وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ النّحل:5-7

95- وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ النّحل:8

96- وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً

الفرقان:48 و 49

97- أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ

الغاشية:17

98- إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ الجاثية:3 و 4

99- وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ

ص: 637

يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ النّور:45

100- وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ

يس:41،42

19-خلق السّماوات و الأرض

101- خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ... لقمان:10

102- وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ المؤمنون:17

103- اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً...

الملك:3

104- أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً نوح:15

20-خلق اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر

105- وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ الأنبياء:33

21-اللّه خالق كلّ شيء و هو الخلاّق العليم

106- ...وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً

الفرقان:2

107 و 108- ...وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ... الأنعام:101 و 102

109- ...قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ الرّعد:16

110- اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ الزّمر:62

111- ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ

المؤمن:62

112- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ الحجر:86

113- ...بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ يس:81

22-اللّه يخلق ما يشاء

114- ...قالَ كَذلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:47

115- ...يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ المائدة:17

116 ...وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ النّور:45

117- وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ...

القصص:68

118- لَوْ أَرادَ اللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ الزّمر:4

119- لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ

الشّورى:49

120- ...يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فاطر:1

23-الخلق بالحقّ من دون تفاوت

121- ...ما خَلَقَ اللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يونس:5

122- ...ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ

ص: 638

لا يَعْلَمُونَ الدّخان:39

123- ...وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ آل عمران:191

124- أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ المؤمنون:115

125- نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ

الواقعة:57

126- ...ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ الملك:3

127- ...وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ... النّساء:119

128- وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ يس:68

24-خلق اللّه و خلق غير اللّه

129- هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لقمان:11

130- مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ المؤمنون:91

131- ...أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ... الرّعد:16

132- أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ الأعراف:191

133- وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ النّحل:20

134- وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ... الفرقان:3

135- إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً... العنكبوت:17

136- أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ

الطّور:35

25-أحسن الخالقين

137- أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ الصّافّات:125

26-الخلاق

138- ...وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ... البقرة:102

139- ...فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ البقرة:200

140- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ آل عمران:77

141- كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ التّوبة:69

27-الخلق

142- وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم:4

143- قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ

ص: 639

اَلْواعِظِينَ* إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ* وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ الشّعراء:136-138

28-الاختلاق

144- ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ص:7

29-المخلّقة
اشارة

الآية رقم 24: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ

و يلاحظ أوّلا أنّ آيات الخلق-و أكثرها مكّيّ- تنقسم حسب المعنى إلى خمسة محاور:الخلق،و الخلاق و الخلق،و المخلّقة،و الاختلاق:

المحور الأوّل:«الخلق»و بحوثه تبلغ إلى 27 صنفا نبحثها حسب عناوينها:

الصّنف الأوّل:خلق الإنسان من طين؟

و جاءت فيها تسع آيات(1-9)نسبة إلى قائلها:

فأوّلها منسوب إلى اللّه تعالى في أربع آيات:

(1) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ص:71

(2) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً...

الأنعام:2

(3) فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ الصّافّات:11

(4) اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ السّجدة:7

[بحوث حول (الطين)]

و فيها بحوث:

1-جاء(طين)فيها جميعا نكرة مشعرة بالحقارة إزالة لكبر الإنسان و نخوته،و هذا ملحوظ أيضا في «خلقه من ماء و نطفة»،و نحوها.فكلّها جاءت نكرة

2-(1)و للفخر الرّازيّ فيها سؤالات،أهمّها أنّ اللّه ذكر فيها خلق الإنسان من طين و في غيرها من تراب؟و أجاب-و نحوه أبو حيّان-بأنّها مراحل خلقته الأربع الأبعد فالأبعد:و أبعدها التّراب،ثمّ الطّين،ثمّ الحمإ المسنون،ثمّ الصّلصال فلاحظ.

و يأتي نفس هذا السّؤال و الجواب في خلق الإنسان من ماء و نطفة و علقة و نحوها.

3-جاء في(1)خلق الإنسان-و كذا في(12)- بصيغة(خالق)كما جمع فيهما بين(خالق)و(بشر) و جاء في غيرهما بألفاظ أخرى؟

قال أبو السّعود:«إنّ في(خالق)من الدّلالة على أنّه تعالى فاعل له البتّة من غير صارف يلويه، و لا عاطف يثنيه».

و عليه فلا بعد في أنّ ذكر«بشر»معه-و هو رمز لجسمه-تسجيل له أيضا،لأنّ خلق الجسم أسهل من خلق النّفس و الرّوح المستفاد من«إنسان».

و كذا تنكير«خالق و بشر»في الآيتين،يشدّد هذا التّسهيل و التّسجيل.

و الآيتان خطاب من اللّه للنّبيّ عليه السّلام بسياق واحد:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مع تفاوت بينهما بعده بلفظي«طين و صلصال»ممّا دلّ على أنّ الإنسان معرض للتّغيير إعلاما لهم بأنّ هذا المخلوق بشر و جسم متغيّر،يخالفهم جنسا فأثار إنكارهم و تسائلهم.

4-قال المفسّرون:المراد بخلقهم من طين في(2)

ص: 640

و(3)خلق أبيهم آدم منه،و هو الظّاهر في جميع الآيات،و يشهد به قوله في(1)و(12): إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، و في(4): بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، و كذا قوله نقلا عن إبليس في(6): خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، و ما رواه أبو حيّان عن ابن سعد في الطّبقات عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«النّاس ولد آدم و آدم من تراب».و نحوها رواية أخرى عنه عليه السّلام رواها الشّربينيّ.و قال العكبريّ:«في الكلام حذف مضاف أي خلق أصلكم».

و قيل:«إنّ النّطفة الّتي خلق منها الإنسان أصلها من طين،ثمّ يقلّبها اللّه نطفة»حكاه ابن عطيّة ذيل(1) عن جماعة ثمّ قال:«و القول الأوّل أليق بالشّريعة...».

و عن الفخر الرّازيّ توجيهه ببيان سلسلة توالد النّطفة من الأغذية الّتي أصلها نباتيّة من تراب.و قال:

«و هذا الوجه عندي أقرب إلى الصّواب».و ردّ عليه الآخرون،فلاحظ.

5-و قال القشيريّ في(2):«أثبت الأصل و أودعها عجائب السّير،و أظهر عليها ما لم يظهر على مخلوق، فالعبرة بالوصل لا بالأصل،فالوصل قربة و الأصل تربة،الأصل من حيث النّطفة و القطرة،و الوصل من حيث القربة و النّصرة».

و قال فيها القرطبيّ: «و بالجملة فلمّا ذكر جلّ و عزّ خلق العالم الكبير-يعني قبلها في: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ... الأنعام:1،-ذكر بعده خلق العالم الصّغير و هو الإنسان،و جعل فيه ما في العالم الكبير،على ما بيّنّاه في البقرة في آية التّوحيد».

6-و قال الفخر الرّازيّ في(3):«يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصّانع تعالى[أي بعد بيان خلق السّماوات و الأرض].

و يحتمل أن يكون المراد منه ذكر الدّليل على صحّة المعاد و صحّة الحشر».ثمّ شرح الوجه الأوّل.

و عدّها رشيد رضا كلاما مستأنفا على الالتفات عن وصف الخالق،إلى خطاب المشركين و تذكيرهم بما هو ألصق بهم،من دلائل التّوحيد و البعث،و هو خلقهم من تراب.

و لكل من سيّد قطب،و ابن عاشور،و الطّباطبائيّ، و عبد الكريم الخطيب،و مكارم الشّيرازيّ،و فضل اللّه كلام فيها،فلاحظ.

7-قارن اللّه في(3)بين خلق الإنسان و خلق ما ذكر ما قبلها في الآيتين 5 و 6 من هذه السّورة،من خلق السّماوات و الأرض و تزيين السّماء الدّنيا بزينة الكواكب،اتّكالا على قضاء المشركين أنفسهم بين الأمرين.

فالمراد ب أَمْ مَنْ خَلَقْنا حسب السّياق السّماوات و الأرض و النّجوم،و عليها حملها جملة من المفسّرين و منهم البغويّ و استشهد ب لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ المؤمن:57،و أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها النّازعات:27.

و بعضهم حملها على الملائكة و الشّياطين رعاية لكلمة(من)و هي لذوي العقول.و حملها الطّوسيّ و غيره على الأمم الماضية-و لم يسبق ذكر لهم-

ص: 641

و حملها الزّمخشريّ-و نحوه الطّبرسيّ-على جميع ذلك،و قال:«و غلّب أولي العقل على غيرهم،فقال:

(من خلقنا)،و الدّليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء:(فاستفتهم...)بالفاء المعقّبة...».

و فيه أنّ«الملائكة»لم يذكروا قبلها،و إنّما ذكر «الشّياطين»في الآية:7، وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ و الّذي يسهّل الأمر عدم الدّليل على الالتزام بالسّياق،اكتفاء بما ذكر في سائر الآيات من ذكر الملائكة و الأمم الماضية و نحوهم.

8-و هذه الآية ردّ على إنكارهم البعث بعد الموت،فيما حكاه عنهم في الآية:16،من هذه السّورة: وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ... و عليه حملها الزّمخشريّ و غيره؛حيث قال:«أو احتجاج عليهم بأنّ الطّين اللاّزب الّذي خلقوا منه تراب،فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا: أَ إِذا كُنّا تُراباً الرّعد:5، و هذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث».

و كذا الفخر الرّازيّ حيث حمل الآيات قبلها على إثبات الصّانع،و هذه الآية على البعث،و استدلّ على جوازه عقلا و نقلا في كلام طويل،كما بحث في ألفاظ هذه الآية فلاحظ.

و يشهد بذلك التّوصيف ب طِينٍ لازِبٍ الدّالّ على حقارة أصلهم و سهولة تكوينه كما قال الزّمخشريّ:«شهادة عليهم بالضّعف و الرّخاوة».

و قال الفخر الرّازيّ: «إنّ هذه الأجسام قابلة للحياة،إذ لو لم يكن قابلة للحياة لما صارت حيّة في المرّة الأولى...-إلى أن قال-:«و فيه دقيقة أخرى و هي أنّ القوم قالوا-إنكارا للبعث-:كيف يعقل تولّد الإنسان لا من النّطفة و لا من الأبوين؟فكأنّه قيل لهم:إنّكم لمّا أقررتم بحدوث العالم...فلا بدّ و أن تعترفوا بأنّ الإنسان الأوّل إنّما حدث لا من الأبوين.

فقد سقط قولكم:الإنسان كيف يحدث من غير النّطفة و من غير الأبوين،و أيضا قد اشتهر عند الجمهور أنّ آدم مخلوق من الطّين اللاّزب،و من قدر على خلق الحياة في الطّين اللاّزب فكيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذّوات؟»ثمّ ذكر ما سبق في الآية:(1)من الخلاف في خلق الإنسان من طين هل خلق أبوهم منه أو خلق كلّ واحد وحده؟

و هناك قول آخر:إنّ المراد بها تهديدهم بالهلاك كالأمم الهالكة قبلهم-دون البعث-قال الرّمّانيّ- و نحوه الواحديّ و البغويّ-:«من الأمم الماضية فقد هلكوا و هم أشدّ خلقا منهم».و قال الطّوسيّ:«فإنّه تعالى قد أهلك الأمم الماضية».و قال الطّبرسيّ-بعد أن فسّر أَمْ مَنْ خَلَقْنا بالأمم الماضية-:يريد أنّهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم،و قد أهلكناهم بالعذاب...».

و قال أبو حيّان:«و قيل: أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الأمم الماضية كقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ق:36،و قوله: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً التّوبة:69».

و يظهر من فضل اللّه أنّه أرجعها إلى مسألة التّوحيد؛حيث قال بعد بيان ضعف خلقة الإنسان:

ص: 642

«فإذا كان كذلك،فإنّ عليهم أن يتواضعوا للّه الّذي خلقهم و يوحّدوه،فلا يشركوا به شيئا».و لا شاهد في الآية،و لا فيما قبلها و بعدها على ذلك.اللّهمّ إلاّ أن تحمل بإطلاقها على الوجوه الثّلاثة جميعا،و هو بعيد أيضا.

9-و أمّا الآية:(4)فالبحث في صدرها يأتي في خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، و البحث هنا في خلق الإنسان من طين،فبيّنه بذكر بدء خلقه: بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، و هذا كالصّريح في خلق آدم من طين-كما سبق-لا خلق كلّ إنسان من طين.

10-تشريفا و تعظيما لخلق الإنسان من طين بدء البحث بأنّ اللّه أحسن كلّ شيء خلقه،فلا نقص في خلقه الأشياء و من جملتها الإنسان،فلا يظنّ أن خلقه من طين ينقصه بل يزيده حسنا؛حيث دلّ على كمال قدرة الخالق،فخلق نخبة خلقه من طين،و هو الإنسان بما فيه من المزايا حتّى عدّ خلقه أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4،و حتّى عدّ العالم الصّغير قبال العالم الكبير الّذي انطوى فيه:

*و فيك انطوى العالم الأكبر*

قال ابن عاشور:«و هو أي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ارتقاء في الاستدلال مشوب بامتنان على النّاس،أن أحسن خلقهم في جملة إحسان خلق كلّ شيء،و بتخصيص خلق الإنسان بالذّكر.و المقصود أنّه الّذي خلق كلّ شيء و خاصّة الإنسان خلقا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا،و أخرج أصله من تراب،ثمّ كوّن فيه نظام النّسل من ماء فكيف تعجزه إعادة أجزائه؟».

و قال مكارم الشّيرازيّ: «...و في البداية تقول- الآية-لبيان خلق الإنسان و مراحل تكامله بشكل خاصّ: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ و أعطى كلّ شيء ما يحتاجه...».

11-و يظهر من آخر كلام ابن عاشور:«فكيف تعجزه إعادة أجزائه»،أنّ الآية احتجاج لإثبات البعث مع أنّها من تتمّة آيات الاحتجاج لإثبات الصّانع،ابتداء من 4: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ، و انتهاء ب 9: ثُمَّ سَوّاهُ...، ثمّ بدأ بعدها بذكر البعث في 10: وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.... و الّذي يسهّل الخطب هو العلاقة الماسّة بين الأمرين:التّوحيد و البعث في القرآن،فما هو حجّة على أحدهما حجّة على الآخر.

و ثانيها منسوب إلى إبليس في ثلاث آيات:

(5) وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً الإسراء:61

(6) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ* قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. ص:75-76

(7) ...ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ* قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. الأعراف:12،11

[بحوث حول (السجدة لآدم)]

و فيها بحوث:

1-كرّر اللّه فيها-و كلّها مكّيّ-أمره الملائكة

ص: 643

بالسّجود لآدم و تخلّف إبليس عنها،و جاء في آيات أخرى و ليس فيها خلقه من طين،و هي:في سورة الحجر الآيات:30-33،و في الكهف الآية:50،و في طه الآية:116،و كلّها مكّيّ أيضا،و في البقرة-و هي مدنيّة-الآية:34.و التّكرار دليل على الاهتمام به.

2-سكت اللّه في(5)عن سؤاله إبليس لم لم يسجد كما سكت فيها عن موازنة إبليس بين خلقه من نار و خلق آدم من طين،و اكتفى بقوله: أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً.

3-و جاء فيها عوضا عن خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ:

لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً و كلّها نقل بالمعنى،و مثله كثير في القرآن،و لا سيّما في خلال القصص.و من جملتها جاء في(5 و 7): قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ، و في(1): إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، و في(6): قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ....

4-و في(6 و 7)تفاوت بالنّفي و الإثبات: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، و ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ و سنبحثه.

و فيهما تفاوت آخر إذ جاء في(6): أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، و في(7): أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، لكن جواب إبليس فيهما واحد: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

5-جاء في(7): ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ بالنّفي، و السّياق يقتضي الإثبات،كما جاء في(6): ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ. و أجيب أوّلا بزيادة(لا)،و لا يصحّ الزّيادة بلا موجب،و ثانيا بتقدير فعل في الكلام،كأنّه قال:ما منعك عن السّجود و أن لا تسجد؟و لها نظائر في القرآن.

6-قالوا:لا يوافق جوابه السّؤال بالمطابقة في (6 و 7)-فيقول:«منعني فضلي عليه»-بل بالتّضمين إذ ذكر ما هو موجب لفضله عليه،فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.... قال الطّوسيّ: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواب لمن يقول:«أيّكما خير؟»و لكن فيه معنى الجواب...».

7-و قد بحثوا كثيرا في قياس إبليس و حجّته صغرى و كبرى،فإنّه ظنّ أنّ النّار أشرف من الطّين، و أنّه لم يجز أن يسجد الأشرف للأدون،و كلاهما خطأ، لأنّ الطّين خير من النّار،لكونه أكثر نفعا منها للنّاس؛ إذ منه تخرج أرزاقهم،و أنّ السّجدة لآدم أمر من اللّه لمصالح العباد،لا لتعيين الأشرف و الأدون.

و قد أطال الفخر الرّازيّ البحث فيها بتوضيح حجّة إبليس أوّلا،و أنّها مركّبة من ثلاث مقدّمات، و أبطل جميعها،فلاحظ.

8-و قد اعتبروا حجّة إبليس قياسا و جعلوها حجّة على بطلان القياس،فبحثوا حول القياس.مع أنّ كلامه ليس قياسا بل حجّة عقليّة،فإنّ القياس تشبيه أمر بأمر و إلحاقه به حكما،و ليس هنا تشبيه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بعموم القياس للحجج العقليّة، و بكونه مرادفا للرّأي،و هكذا كان عند القدماء.

و يشهد به ما رواه الآلوسيّ عن أبي نعيم و غيره عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«أوّل من قاس أمر الدّين برأيه إبليس...».

9-و قد ذكر رشيد رضا أنّ جواب إبليس يتضمّن ضروبا من الجهل:اعتراضه على ربّه، و الاحتجاج عليه،و جعله امتثال أمر الرّبّ مشروطا

ص: 644

باستحسان العبد له،و الاستدلال على الخيريّة بالمادّة الّتي كان منها التّكوين،و شرحها.

10-و ذكر ابن عاشور:«أنّ اللّه تعالى علم استحقاق آدم لسجود الملائكة له بما أودع فيه من القوّة الّتي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزّكاء و التّقديس.

و أمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره...».

11-و نبّه الطّباطبائيّ على أنّ ما أجاب به إبليس ربّه هو أوّل معصية،و أنّ جميع المعاصي ترجع إلى دعوى الإنّيّة و منازعة اللّه في كبريائه،و شرحه.

و ثالثها منسوب إلى عيسى عليه السّلام في خلقه الطّير من الطّين في آيتين:

(8) ...وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي... المائدة:110

(9) أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ... آل عمران:49

[بحوث حول (انتساب الخلق الى غير الله)]

و فيهما بحوث:

1-نسب خلق الطّير فيهما إلى عيسى عليه السّلام، و هذا يناقض خلق كلّ شيء من اللّه تعالى؟فأجاب عنه الطّوسيّ(4:59)،و الطّبرسيّ(2:262)و غيرهما،بأنّ«الخلق»هو تقدير الشّيء و تصويره، و هذا يصدر من اللّه و من غيره.

و أمّا الإنشاء و إبراز العين من العدم الصّرف إلى الوجود،فهذا لا يكون إلاّ من اللّه،قاله أبو حيّان(2:

465).و ادّعى ابن عاشور(3:400)أنّه مجاز مشهور،أو هو مشترك بينهما.

و المراد به في الآيتين تصوير الطّين بهيئة الطّير، و سمّاه خلقا،لأنّه كان بتقديره و تصويره.و قد فسّر ابن عبّاس-و تبعه آخرون-الخلق فيهما بالتّصوير أيضا.

و عليه فليس عمل عيسى بنفسه إعجازا،لأنّه يصدر من كلّ أحد،و إنّما الإعجاز في كونه طيرا بإذن اللّه،و ليس هذا من عمل عيسى.و في: وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي نسب إبراء الأكمه و الأبرص إلى عيسى تجوّزا،لأنّه قيّده بإذنه، فمقدّمات الإبراء من عيسى،و الإبراء من اللّه.هذا بناء على ما هو الحقّ أنّ معجزات الأنبياء هي فعل اللّه تصدر على أيديهم و ليست فعلهم.

و يظهر من فضل اللّه(6:30)أنّه نسب خلق الطّير أيضا إلى نفسه.و لا يصحّ،لأنّه قال: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ فنسب خلق هيئة الطّير و النّفخ فيه إلى نفسه،و نسب كونه طيرا إلى إذن اللّه تعالى.

نعم يظهر من(8)أنّ خلقه كهيئة الطّير بإذن اللّه أيضا: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي، و هذا لا ينفيه عن عيسى.

2-بحثوا كثيرا في اختلاف القراءة في(9): أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... بفتح الألف (انّى)و كسرها؛حيث وجّهوا الفتح بأنّه بدل من قبلها: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ...، و وجّهوا الكسر بأنّه قطع و استيناف،أو تفسير له،كما فسّر قوله: كَمَثَلِ آدَمَ بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ آل عمران:59،و الأمر فيه

ص: 645

سهل كما قال ابن عطيّة(1:438):«و هذا كلّه يتقارب في المعنى».

3-و قد بحثها الفخر الرّازيّ(8:58)-كعادته- خلال مسائل،و جمع فيها كلّ ما ذكر غيره،و قد بحث طويلا في«رابعها»في معنى الخلق لغة،و ختمها بالبحث في لفظ«الخالق»هل يختصّ باللّه،أو يعمّ غيره،فلاحظ.

الصّنف الثّاني:خلق الإنسان من«صلصال».

في أربع آيات(10-13):

(10) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ

الرّحمن:14

(11) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:26

(12) وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:28

(13) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:33

[بحوث حول (مادة خلقة الانسان)]

و فيها بحوث:

1-خلقه من«صلصال»في الثّلاث الأولى قول اللّه و في(13)قول إبليس،و الخلق فيها جميعا فعل اللّه.

2-جاء في(10) مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ، و فيما بعدها: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. قال الطّبرسيّ(5:200):«الصّلصال:الطّين اليابس الّذي يسمع منه صلصلة،و الفخّار:الطّين الّذي طبخ بالنّار حتّى صار خزفا».و قال في(3:335):«الصّلصال:

الطّين اليابس أخذ من الصّلصلة،و هي القعقعة.

و يقال:لصوت الحديد و لصوت الرّعد:صلصلة، و هي صوت شديد متردّد في الهواء،و«صلّ يصلّ»إذا صوّت،و استشهد بشعر.و يقال:الصّلصال المنتن أخذ من صلّ اللّحم و«أصلّ»إذا أنتن.و«الحمأ»:جمع حمأة،و هو الطّين المتغيّر إلى السّواد؛يقال:حمئت البئر و أحمأتها أنا.و«المسنون»:المصبوب،من سننت الماء على وجهه،أي صببته.و يقال:سننت-بالسّين غير معجمة-أرسلت الماء».[لاحظ ف خ ر،و:ص ل ص ل و:ح م ء،و:س ن ن]

و يدلّ الجميع على أنّه أخذ من طين منتن جافّ أسود،و كلّها مشعر بالحقارة و الدّناءة،و تنكير (صلصال،)و(حمإ،)و(مسنون)فيها مثل- تنكير(طين)فيما قبلها-تحقير.

3-جاء في(10 و 11)(الانسان)معرّفا بلام الجنس و أريد به جنس الإنسان دون شخص«آدم»، و في(12 و 13)«بشر»منكّرا و أريد به«آدم»و هذا الفرق جار في غيرها من الآيات كما يأتي.

الثّالث:خلق الإنسان من تراب

في 6 آيات(14-19):

(14)- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ الرّوم:20

(15)- وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً... فاطر:11

(24)- يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... الحجّ:5

ص: 646

(25)- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ... المؤمن:67

(16)- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:59

(17)- قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً... الكهف:37

و قد سبق البحث فيها في:ت ر ب(ج 7 ص 708) فيما يرجع إلى«تراب»و بقيت بحوث:

1-كلّها مكّيّ،و واحدة منها:(24)مختلف فيها، و واحدة(16)مدنيّة.

2-أربع منها:(14 و 15 و 24 و 25)خطاب من اللّه إلى النّاس جميعا:(خلقكم)و(خلقناكم،)و واحدة خطاب من أحد الرّجلين-و هو مؤمن- للآخر أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، و واحدة حديث من اللّه في خلق عيسى كآدم من تراب: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ.

3-جاء فيها جميعا(من تراب)نكرة مجرورا مثل(طين)و(صلصال)و(حمإ مسنون)تحقيرا و تسهيلا.

4-جاء مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فيما سوى (14 و 16)و ليس فيهما ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.

5-و قد سبق أنّ المراد من أمثال هذه الآيات خلق أصلهم و هو«آدم»من تراب،دون خلقهم أنفسهم،إلاّ أنّ عطف ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، على مِنْ تُرابٍ ربّما يومئ إلى خلق أنفسهم من تراب و لا عبرة بها،و ليس العطف ب(ثمّ)الدّالّ على الفضل دليلا على رجوع مِنْ تُرابٍ إلى أصلهم،لأنّ «المضغة»في بعضها معطوفة على«النّطفة»ب«ثمّ».

6-في الآية(14)قال القشيريّ: «خلق آدم من التّراب ثمّ من(آدم)الذّرّيّة،فذكّرهم نسبتهم لئلاّ يعجبوا بأحوالهم.

و يقال:الأصل تربة،و لكنّ العبرة بالتّربية لا بالتّربة،القيمة لما منه لا لأعيان المخلوقات.اصطفى و اختار«الكعبة»فهي أفضل من الجنّة؛الجنّة جواهر و يواقيت،و البيت حجر!و لكنّ البيت مختاره و هذا المختار حجر!و اختار الإنسان،و هذا المختار مدر و الغنيّ غنيّ لذاته،غنيّ عن كلّ غير من رسم و أثر».

7-و في الآية عن ابن زيد أنّها نزلت في جواب نصارى نجران؛حيث قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«هل علمت أحدا ولد من غير أب فيكون عيسى كذلك؟» أ كان لآدم أب أو أمّ؟

و حكاه الطّوسيّ عن وفد نجران تفصيلا،و عن الفرّاء أنّها جواب لقول النّصارى:إنّ عيسى ابن اللّه.

و قال الطّبرسيّ: «...فليس هو بأبدع و لا أعجب من ذلك فكيف أنكروا هذا و أقرّوا بذلك؟».

و قال الزّمخشريّ: «عن بعض العلماء أنّه أسر بالرّوم،فقال لهم:لم تعبدون عيسى؟قالوا:لأنّه لا أب له.قال:فآدم أولى،لأنّه لا أبوين له.قالوا:كان يحيي الموتى.قال:فحزقيل أولى،لأنّ عيسى أحيا أربعة نفر، و أحيا حزقيل ثمانية آلاف.قالوا:كان يبرئ الأكمه و الأبرص.قال:فجرجيس أولى لأنّه طبخ و أحرق ثمّ

ص: 647

قام سالما».

و قال سيّد قطب:«إنّ ولادة عيسى عجيبة حقّا بالقياس إلى مألوف البشر.و لكنّ أيّة غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر؟[ثمّ ذكر موضع أهل الكتاب قبال خلق عيسى إلى أن قال:]

و هذه هي طريقة«الذّكر الحكيم»في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطريّ الواقعيّ البسيط،في أعقد القضايا الّتي تبدو بعد هذا الخطاب،و هي اليسر الميسور...».

و قال ابن عاشور:«...و هو أقطع دليل بطريق الإلزام،لأنّهم قالوا بإلهيّة عيسى من أجل أنّه خلق بكلمة من اللّه و ليس له أب،فقالوا:هو ابن اللّه،فأراهم اللّه أنّ آدم أولى بأن يدّعى له ذلك،فإذا لم يكن آدم إلها مع أنّه خلق بدون أبوين،فعيسى أولى بالمخلوقيّة من آدم.

و محلّ التّمثيل كون كليهما خلقا من دون أب، و يزيد آدم بكونه من دون أمّ أيضا،فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشّبه بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ... و إنّما قال:(عند الله)أي نسبته إلى اللّه لا يزيد على آدم شيئا في كونه خلقا غير معتاد لكم...».

8-و قالوا جملة: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ليست صلة لآدم-و هو معرفة-حتّى يستشكل بأنّ الصّلاة للنّكرات،و إنّما هي على الانقطاع و التّفسير لا موضع له من الإعراب،مثل: ...كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً الجمعة:5،و احتمل فيها الحال أيضا.

9-قال الزّمخشريّ: «فإن قلت:كيف شبّه به و قد وجد هو من غير أب و وجد آدم من غير أب و أمّ؟

قلت:هو مثله في أحد الطّرفين،فلا يمنع اختصاصه دونه بالطّرف الآخر من تشبيهه به،لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف،و لأنّه شبّه به في أنّه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرّة،و هما في ذلك نظيران.و لأنّ الوجود من غير أب و أمّ أغرب و أخرق للعادة من الوجود بغير أب،فشبّه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم و أحسم لمادّة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب ممّا استغربه».

10-طرح الفخر الرّازيّ فيها مسائل و ذكر في ثالثتها أنّ اللّه ذكر في كيفيّة خلق آدم وجوها كثيرة، فذكر ثمانية مع آياتها:التّراب،و الماء،و الطّين،و سلالة من طين،و طين لازب،و صلصال،و من عجل،و من كبد.

و ينبغي الفرق بين الأخيرين-عجل و كبد-عمّا قبله،لأنّ المراد بهما التّشبيه،و أنّ الإنسان مفطور و ملازم لهما،كأنّه خلق منهما.

ثمّ حكى عن الحكماء أنّ آدم خلق من تراب لوجوه:ليكون متواضعا و ستّارا،و أشدّ التصاقا بالأرض،و لأخلق لخلافة أهل الأرض،لإظهار القدرة؛حيث خلق الشّياطين من النّار الّتي هي أضوأ الأجرام،و ابتلاهم بظلمات الضّلالة،و خلق الملائكة من الهواء الّذي هو ألطف الأجرام،و أعطاهم كمال الشّدّة و القوّة،و خلق آدم عليه السّلام من التّراب الّذي هو أكثف الأجرام،ثمّ أعطاه المحبّة و المعرفة و النّور و الهداية.[ثمّ ذكر خلق السّماوات و وصفها إلى أن قال:]

ص: 648

خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشّهوة،و الغضب،و الحرص.ثمّ إنّه تعالى مزج بين الأرض و الماء ليمتزج الكثيف باللّطيف فيصير طينا.

ثمّ جعله طينا لازبا،ثمّ أثبت له صفات ثلاث:

صلصال،و الحمإ،و تغيّر رائحته-المسنون-ثمّ قال:

«فهذه جملة الكلام في التّوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السّلام».

11-و طرح في رابعتها أنّ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يقتضي أن يكون خلق آدم متقدّما على قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ. و أجاب عنه بوجوه، و منه ما حكاه عن القاضي:«الجواب الصّحيح أن يقال:لمّا كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سمّاه آدم عليه السّلام قبل ذلك،تسمية لما سيقع بالواقع»

و أجاب عنه مغنيّة-بعد أن قال:«كلام اللّه يجب أن يحمل على أحسن المحامل»-بأنّ اللّه خلق آدم على مراحل،منها خلقه من طين بلا روح،ثمّ جعل فيه الرّوح،فيكون المعنى:أيّها الطّين كن إنسانا من لحم و دم و عاطفة و إدراك.

و ذكر الفخر الرّازيّ إشكالا آخر:و هو أنّه كان ينبغي أن يقال: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و قال:

(فيكون)فأوّلها إلى أنّ ما قال له:(كن)فإنّه يكون لا محالة.

12-و قال فيها القشيريّ:«خصّهما-آدم و عيسى-بتطهير الرّوح عن التّناسخ في الأصلاب، و أفرد آدم بصفة البدء،و عيسى عليه السّلام بتخصيص نفخ الرّوح فيه على وجه الإعزاز،و هما و إن كانا كبيري الشّأن،فنقص الحدثان و المخلوقيّة لازم لهما: قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

13-شبّه ابن عربيّ خلق الإنسان أوّلا من تراب ثمّ بالتّناسل بكثير من الحيوانات الّتي تتولّد خلقا في ساعة ثمّ تتناسل.

و قد فرّق بين منيّ الرّجل بأنّه أحرّ كثيرا من منيّ المرأة،و فيه القوّة العاقدة أقوى،و منيّ المرأة أقوى في اللّبن،فإذا اجتمعا تمّ العقد،و تمكّن وجود مزاج إناثيّ قويّ يناسب مزاج الذّكوريّ...فلاحظ.

14-استظهر القرطبيّ منها صحّة القياس،و قال:

«إنّ التّشبيه واقع على أنّ عيسى خلق من غير أب كآدم،لا على أنّه خلق من تراب،و الشّيء قد يشبّه بالشّيء و إن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد...»فلاحظ.

15-قال الطّباطبائيّ: «إنّها لا تلخيص لموضع الحاجة ممّا ذكره من قصّة عيسى في تولّده تفصيلا-في 25 آية من آل عمران ابتداء من 35: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ إلى 58: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ -و الإيجاز بعد الإطناب و خاصّة في مورد الاحتجاج و الاستدلال،من مزايا الكلام، فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصّته...فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد و أعظم ممّا قيل في آدم،و هو أنّه بشر خلقه اللّه من غير أب...إنّ كيفيّة خلقه يضاهي كيفيّة خلق آدم، و كيفيّة خلقه أنّه جمع أجزاءه من تراب،ثمّ قال له:

(كن)فتكوّن تكوّنا بشريّا من غير أب.

ص: 649

فالبيان بحسب الحقيقة منحلّ إلى حجّتين تفي كلّ واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهيّة عن المسيح عليه السّلام:

إحداهما:أنّ عيسى مخلوق للّه على ما يعلمه اللّه

ثانيتهما:أنّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم-إلى أن قال-و يظهر من الآية أنّ خلقة عيسى كخلقة آدم، خلقة طبيعيّة كونيّة و إن كانت خارقة للسّنّة الجارية...».

16-و ذكر عبد الكريم الخطيب اختلاف النّصارى في المسيح،و أنّ اليهود اتّهموه بأنّه ولد على فراش الإثم و الفاحشة،و أنّ النّصارى قصرت عقولهم عن إدراك قدرة اللّه،و قالوا:إنّه تجسّد اللّه نفسه،و أنّها عمليّة شبيهة بعمليّة الحلول الّتي آمن بها كثير من قدماء المصريّين و البراهمة و غيرهم من الأمم،و أمّا المسلمون فقد جاءهم القرآن الخبر اليقين عن المسيح عليه السّلام.

17-و نبّه فضل اللّه على أنّ النّاس في أغلب أحوالهم يتعاملون مع المألوف و يرفضون غيره،كما رفضوا المعاد: قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ المؤمنون:82،و كذلك تعاملوا مع خلقة عيسى الّتي أثارت كثيرا من الجدل و الدّهشة، فجاءت الآية ليصرف تفكيرهم في خلقة عيسى عن المألوف و عن عمليّة التّناسل الطّبيعيّة إلى قدرة اللّه على خلق إنسان بلا أب،كما خلق آدم بلا أب و أمّ.

18-في الآية(17)طرح الفخر الرّازيّ بحثين:

الأوّل:أنّ أحد الرّجلين شكّ في المعاد بقوله: وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً، و الآخر كفّره بقوله: أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، فدلّت على أنّ الشّاكّ في المعاد كافر.

الثّاني:أنّ الاستدلال يحتمل وجهين:

أحدهما:الطّريقة المتّبعة في القرآن،و هي أنّ الّذي قدر على الابتداء قادر على الإعادة.

و ثانيهما:أنّه لم يخلقك عبثا،بل للعبوديّة،فوجب حصول الثّواب و العقاب للمطيع و العاصي.

فقد احتمل علاقتها بالمعاد نظرا إلى ما قبلها، و بالتّوحيد نظرا إلى ما بعدها: لكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً الكهف:38.و لا مانع من الجمع بينهما،كما هو المتّبع في القرآن.

و قد ركّز ابن كثير على علاقتها بالتّوحيد تنظيرا ب: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ البقرة:28.

19-و قد حمل أكثرهم خلقه من تراب-كما سبق في عيرها-على خلق أصله منه،و حملها المراغيّ على تغذيته من النّبات و الحيوان،و تغذيتهما من التّراب.و كلاهما محتمل كما سبق في غيرها من الآيات.

20-نبّه ابن عاشور و غيره أنّ الاستفهام في أَ كَفَرْتَ للتّعجّب و الإنكار،و ليس على حقيقته، لأنّ قائله كان يعلم أنّ صاحبه مشرك بدليل قوله:

وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. و أنّ المراد بالكفر:الإشراك الّذي من جملة معتقداته إنكار البعث،و لهذا عبّر عن اللّه ب اَلَّذِي خَلَقَكَ، لأنّ مضمون الصّلة فيها

ص: 650

يصرفهم عن الإشراك،فإنّهم كانوا يعترفون بأنّ اللّه خلقهم،فما كان غيره مستحقّا للعبادة،و العلم بالخلق الأوّل يصرف الإنسان عن إنكار الخلق الثّاني كما قال: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ق:15،و قال: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الرّوم:27.فكان مضمون الصّلة تعريضا بجهل المخاطب.

21-و نبّه الطّباطبائيّ خلال البحث عن أصل خلقه من تراب و نطفة على أنّ ما زاد على ذلك من صيرورة الإنسان سويّا ذا صفات و آثار موهبة من اللّه محضا،لا يملك الإنسان شيئا منها،آتاها إيّاه و لم يخرج بذلك عن ملك اللّه،و لا انقطع عنه،فليس الإنسان في شيء منها،و من الأسباب الكونيّة مستقلاّ عن اللّه،فهو المالك لما ملكك،فما لك تكفر به و تستر ربوبيّته، و أين أنت و الاستقلال؟

و ما نبّه عليه يناسب تماما قول الرّجل لصاحبه قبلها في الآية:34، فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً. و قد شرح مكارم الشّيرازيّ محاورة الرّجلين بنحو ممّا سبق تفصيلا.

22-و سياق هذه الآيات إثبات الصّانع إلاّ آيتين،فالآية(24)لإثبات البعث إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ و الآية:(16) لإثبات خلق عيسى بلا أب فلاحظ.

الصّنف الرّابع:خلق الإنسان من نطفة،و ماء و علق،و تطويره و تصويره و بصطه في 18 آية:(18- 35)و هي أقسام:

أوّلها:خلقه من نطفة:كرّر في 12 آية بتفاوت:

فقد ذكرت وحدها في أربع منها(18-21):

(18) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النّحل:4

(19) أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يس:77

(20) إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً الدّهر:2

(21) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ عبس:19

[بحوث حول (الشرك و الخلقة)]

و فيها بحوث:

1-سياق الأولى نفي الشّرك و الدّعوة إلى التّوحيد،لأنّ ما قبلها: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ* خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ و ما بعدها 5-8 آيات نعم اللّه على العباد:

وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها -إلى - وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.

و سياق الثّانية فيما قبلها التّحذير من الشّرك بتذكار نعم اللّه و تنديدهم بالشّرك في 71-74: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً -إلى - أَ فَلا يَشْكُرُونَ* وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. و فيما بعدها إثبات المعاد: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ.

ثمّ ندّد عليهم فيهما جميعا بقوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ تشديدا في إصرارهم على رفض التّوحيد و المعاد حتّى بلغ حدّ الخصومة.

و سياق الثّالثة من أوّل السّورة إثبات التّوحيد:

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً

ص: 651

مَذْكُوراً، و في بعدها«المعاد»بذكر جزاء المؤمنين و عقاب الكافرين في الآيات 5-22: إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ -إلى - وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.

و سياق الرّابعة إثبات الأمرين أيضا ابتداء من 17: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ إلى 42-و هي آخر السّورة-: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.

2-الاستفهام في(19 و 21)للتّقرير و التّعجيب، و تنكير(نطفة)فيها و في غيرها للتّحقير،كما سبق في(تراب)و(صلصال)و غيرهما.

3-فرّع على كلّ واحدة منها بخاتمة،أو بفذلكة، ففي الأوليين: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ: «الفاء و إذا الفجائيّة»فيهما للتّعجيب و التّغريب لأمر هو خلاف الانتظار منهم.

و في الثّالثة: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً تذكار بغرابة كونه سميعا بصيرا عن كونه نطفة أمشاج.

و في الرّابعة:(فقدره)أي قدّره أطوارا،غريبا عن كونه نطفة.و سياق الجميع التّسجيل و التّشديد على الأمرين:التّوحيد و المعاد بفنون من التّعبير:

أ-توصيف(نطفة)في الثّالثة ب أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ أي أخلاط من ماء الرّجل و المرأة،أو من الطّبائع المختلفة يختبره بالتّكاليف.[لاحظ الطّبرسيّ (5:406)]

ب-تكرار(خلقه)في الرّابعة: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ، و بدئها بقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ البالغ في الإنكار بالجمع بين اللّعن و التّعجيب.

قال أبو السّعود فيها:«شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عليه من مبدإ فطرته إلى منتهى عمره،من فنون النّعم الموجبة لقضاء حقّها بالشّكر و الطّاعة مع إخلاله بذلك،و في الاستفهام عن مبدإ خلقه،ثمّ بيانه بقوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقير له...».

و قال ابن عاشور:«و جملة مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بيان لجملة قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ عبس:17،لأنّ مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث،و ذلك الإنكار من أكبر أصول كفرهم.

و جيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال و جواب للتّشويق إلى مضمونه،و لذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه،على الطّريقة المتقدّمة في قوله تعالى:

عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ النّبأ:1 و 2-إلى أن قال:-و نظيره قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ... الطّارق:5 و 6-إلى أن قال:-و قدّم الجارّ و المجرور في قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ محاكاة لتقديم المبيّن في السّؤال الّذي اقتضى تقديمه كونه استفهاما يستحقّ صدر الكلام،مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق،لما في تقديمه من التّنبيه للاستدلال على عظيم حكمة اللّه تعالى،إذ كوّن أبدع مخلوق معروف من أهون شيء و هو النّطفة...».

و قال الطّباطبائيّ: «...و الاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله: ما أَكْفَرَهُ من العجب،و العجب إنّما هو في الحوادث الّتي لا يظهر لها سبب،فأفيد أوّلا:أنّ من العجب إفراط الإنسان في كفره،ثمّ سئل ثانيا:هل في

ص: 652

خلقته إذ خلقه اللّه ما يوجب له الإفراط في الكفر؟ فأجيب بنفيه و أن لا حجّة له يحتجّ بها،و لا عذر يعتذر به-إلى أن قال:-و بالجملة الاستفهام توطئة للجواب الّذي في قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ».

و قال الخطيب:«هو كشف عن شناعة ضلال هذا الضّالّ،و كفره بربّه إنّه من ضلاله البعيد،ينسى أنّ له خالقا خلقه من عدم أو ما يشبه العدم».

ثانيها:تسلسل خلقه من نطفة ثمّ مضغة و ما بعدها في أربع آيات:

(22) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ المؤمنون:12-16

(23) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى* ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى* أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى القيامة:36-40

(24) يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الحجّ:5 و 6

(25) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ... المؤمن:67،68

[بحوث حول(ارتباط الخلقة و المعاد]

و فيها بحوث:

1-في جميعها تأكيد قدرة اللّه تعالى قدرة بالغة بهذا التّسلسل الغريب فلها علاقة ماسّة بالتّوحيد،إلاّ أنّ سياقها لإثبات المعاد و البعث بشهادة ما جاء في ذيلها،أو في آية بعدها.و كذا ما جاء في صدر الثّانية:

إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ.

2-بدأ اللّه هذه السّلسلة في أولاها ب سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، و في الأخيرتين ب مِنْ تُرابٍ، و في الثّانية ب نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى و سكت عمّا قبلها من التّراب.

3-ذكر اللّه في الأولى و الثّالثة جميع السّلسلة،بدأ بطين أو تراب ثمّ نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة،و اختلفتا بعد مُضْغَةً فجاء في الأولى بعدها: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ...، و في الثّالثة: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ -و سنبحثها في المحور الرّابع-ثمّ أدام السّلسلة فيهما إلى موته.

أمّا في الثّانية فقال بعد: نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى.

ص: 653

و قال في الرّابعة بعد(علقة) ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً و لم يذكر(مضغة)فيها.

4-اختصّت الأولى بالتّعبير عن خلق النّطفة ب: جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثمّ بتكرار(خلقنا) في علقة و مضغة و عظام ممّا يعدّ شاهدا على أنّ الخلق -كما سبق-هو التّقدير دون الإيجاد و التّكوين، و اكتفى في غيرها ب(ثمّ).

و اختصّت أيضا بالإيماء إلى نفخ الرّوح فيها- على خلاف فيه-ممّا دلّ على أنّه تعالى أحسن الخالقين: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.

5-اختصّت الأخيرتان بإخراجه من الرّحم طفلا: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ -أو يخرجكم - طِفْلاً ممّا يثير عاطفة الإنسان بتذكاره بدأ طفولته،و هو لا يقدر على عمل،و قد كلّف اللّه أمّه بحضانته.

فنجد اهتماما كبيرا في القرآن بخلق الإنسان بتكراره بأشكال و فنون مختلفة لكي يتذكّر الإنسان مبدأه و معاده،و للّه في كلامه فنون شتّى.

6-قال القشيريّ في الأولى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا...: «قطرة أجزاؤها متماثلة،و نطفة أبعاضها متشاكلة،ثمّ جعل بعضها لحما و بعضها عظما، و بعضها شعرا،و بعضها ظفرا،و بعضها عصبا،و بعضها جلدا،و بعضها مخّا و بعضها عرقا،ثمّ خصّ كلّ عضو بهيئة مخصوصة،و كلّ جزء بكيفيّة معلومة».

ثمّ ذكر اختلاف صفات الإنسان الّتي يتقاصر عنها الحصر و العدّ،و ذكر الخلاف في خَلْقاً آخَرَ، و وجه تخصيص فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ بخلق الإنسان دون خلق السّماوات و الأرضين،و العرش و الكرسيّ،و غيرها من المخلوقات في الدّنيا و الآخرة.و ختم كلامه بقوله:«و يقال:إن لم يقل لك:

إنّك أحسن المخلوقات في هذه الآية،فلقد قال في آية أخرى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4.

و يقال:إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات و أحسن المخلوقين،و لم يثن عليك بذلك،فلقد أثنى على نفسه بقوله: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، و ثناؤه على نفسه و تمدّحه بذلك أعزّ و أجلّ من أن يثني عليك.

و يقال:لمّا ذكر نعتك،و تارات حالك في ابتداء خلقك-و لم يكن منك لسان شكر ينطق،و لا بيان مدح ينطلق-،ناب عنك في الثّناء على نفسه،فقال:

فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ».

و للمفسّرين بحث طويل في أَحْسَنُ الْخالِقِينَ هل يدلّ على أنّ هناك خالق غير اللّه؟و أكثرهم أخذوا«الخلق»فيها و في غيرها-كما سبق-بمعنى التّقدير-دون التّكوين-و هو يصدر من الإنسان أيضا.و للفخر الرّازيّ بحث طويل فيه،و في مسألة خلق أعمال الإنسان،فلاحظ.

7-و للفخر الرّازيّ كلام في علاقتها بما قبلها من الآيات الدّالّة على الأمر بعبادة اللّه،و أنّ العبادة لا تصحّ إلاّ بعد معرفة الإله الخالق،فعقّبها بما يدلّ على وجوه و اتّصافه بصفات الجلال،فذكر أنّ الدّلائل أنواع،و النّوع الأوّل منها الاستدلال بتقلّب أدوار

ص: 654

الخلقة،و هي تسعة و ذكرها فلاحظ.

ثالثها:خلق الإنسان من ماء في ثلاث آيات:(26 -28):

(26)- أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ* إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ* فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ المرسلات:20-23

(27) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ الطّارق:5،6.

(28) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً الفرقان:54

[بحوث حول (اثبات المعاد)]

و فيها بحوث:

1-سياق الأوليين إثبات المعاد بقرينة: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قبل الأولى و بعدها،و ذيل الثّانية:

إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ. أمّا الثّالثة فللتّوحيد و نفي الشّرك،لقوله بعدها: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ.

2-المراد ب(الماء)بصريح الأوليين:النّطفة، و هي ظاهرة في الأخيرة.و قيل:المراد به الماء المختلط بالطّين في خلق آدم،و هو بعيد لقوله: فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً.

3-كرّر«الخلق»بلفظه في الثّانية: مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، و بلفظ«جعل»في الأولى و الأخيرة: فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، و فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً.

4-لاحظ معنى«المهين»و قَرارٍ مَكِينٍ في الأولى،و مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ في الثّانية،و نَسَباً وَ صِهْراً في الثّالثة في موادّها:م ه ن،م ك ن،د ف ق،ص ل ب،ت ر ب، ن س ب،ص ه ر.

و رابعها:خلقه من(علق)في آية واحدة:

(32) اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ العلق:1-5

[بحوث حول (اول الآيات التى نزلت)]

و فيها بحوث:

1-المشهور أنّ هذه الآيات أوّل ما نزل من القرآن.و قد جمع اللّه فيها بين القراءة،و الخلق، و التّعليم،و الإنسان،و ربّك-و كرّرها مرّتين-و القلم و العلق،و هذه عماد الخلقة و عمدتها.

2-و العلق:هو العلقة الّتي جاءت في سلسلة خلق الإنسان في الآيات السّابقة،جيء به مذكّرا فاصلا ل(خلق).

3-أكّد المفسّرون أنّ«القراءة و القلم و التّعليم» فيها استهلال لمقاصد القرآن و الإسلام بأنّه دين العلم و القراءة و القلم لقوم أمّيّين،معروفين بالأمّيّة بين الأمم المعاصرة لهم.

و الجدير بالذّكر أنّ صدر سورة القلم: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ، النّازلة بعد تلك الآيات-كما ذكره المفسّرون-جاء فيه:«القلم و السّطر»أيضا تأكيدا لتلك المقاصد القيّمة.

و خامسها:أطوار خلقه و هي أنواع:

منها:تسويته في آيتين:

(23) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى القيمة:38

ص: 655

و(30) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى الأعلى:1 و 2

قال الطّبرسيّ(5:402):«فسوّى خلقه،و صورته و أعضاءه الباطنة و الظّاهرة في بطن أمّه،و قيل:فسوّاه إنسانا بعد الولادة و أكمل قوّته.و قيل:معناه:فخلق الأجسام فسوّاها للأفعال و جعل لكلّ جارحة عملا يختصّ بها».و قال في(5:474):«أي فسوّى بينهم في باب الإحكام و الإتقان.و قيل:خلق كلّ ذي روح فسوّى يديه و عينيه و رجليه عن الكلبيّ.و قيل:خلق الإنسان فعدّل قامته عن الزّجّاج،يعني أنّه لم يجعله منكوسا كالبهائم و الدّوابّ.و قيل:خلق الأشياء على موجب إرادته و حكمته فسوّى صنعها لتشهد على وحدانيّته».و الظّاهر أنّ إطلاق الآيتين يشمل كلّ ذلك و نظائرها،لاحظ:س و ي:«فسوّى».

و منها تقديره و هدايته و تيسيره في آيتين أيضا:

(21) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ عبس:18-20

(30) اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى الأعلى:2،3

قال الطّبرسيّ(5:474):«أي قدّر الخلق على ما خلقهم فيه من السّور و الهيئات،و أجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق و الأقوات،ثمّ هداهم إلى دينه بمعرفة توحيده بإظهار الدّلالات و البيّنات.و قيل:

معناه قدّر أقواتهم و هداهم لطلبها.و قيل:قدّرهم على ما اقتضته حكمته فهدى،أي أرشد كلّ حيوان إلى ما فيه منفعته و مضرّته حتّى أنّه سبحانه هدى الطّفل إلى ثدي أمّه و هدى الفرخ حتّى طلب الرّزق من أبيه و أمّه...و قيل:قدّرهم ذكورا و إناثا عن مجاهد.و قيل:

قدّر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقلّ أو أكثر...».

و قال في(5:438):(«فقدره)أطوارا نطفة ثمّ علقة إلى آخر خلقة،و على حدّ معلوم من طوله، و قصره،و سمعه،و بصره،و حواسّه،و أعضائه،و مدّة عمره،و رزقه،و جميع أحواله ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي ثمّ يسرّ سبيل الخروج من بطن أمّه حتّى خرج منه،عن ابن عبّاس و قتادة.و قيل:ثمّ السّبيل أي سبيل الدّين يسّره و طريق الخير و الشّرّ بيّن له...».

و عندنا أنّ إطلاق التّقدير كالتّسوية يشمل جميع حالات الإنسان.و أمّا الهداية و التّيسير هنا بقرينة السّياق ما فطر عليه من مصالحه و مضارّه باختيار و غير اختيار،دون الهداية الدّينيّة.لاحظ:ق د ر:

«قدّره»،و:ي س ر:«يسّره»،و:ه د ي:«فهدى».

و منها تصويره و بصطه في ثلاث آيات:

(31) وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ...

الأعراف:11

(32) هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى... الحشر:24

(33) ...وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً... الأعراف:69

و قد جمع اللّه في الأوليين بين الخلق و التّصوير فيناسب المقام.و جاء تصوير الإنسان بدون«الخلق» في خمس آيات أخرى،لاحظ:ص و ر.و فيها بحوث:

1-قال ابن عاشور في(31):«و الخطاب للنّاس

ص: 656

كلّهم،و المقصود منه المشركون،لأنّهم الغرض في هذه السّورة.و تأكيد الخبر ب(اللاّم)و(قد)للوجه الّذي تقدّم في قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ» -أي التّأكيد-و قد بحث في كلمات الآية،فلاحظ.

2-عطف فيها(صورناكم)على(خلقناكم) بحرف(ثمّ)و أشكل الأمر على المفسّرين؛إذ لو أريد بها خلق كلّ إنسان فخلقة و تصويره في الرّحم متلازمان،لا ينفكّ أحدهما عن الآخر؟فالتجئوا إلى تأويلها بوجوه:

أ-و هو قول أكثرهم-خلقنا آدم من تراب و صوّرناكم في الأرحام،أي أصلاب آبائهم و بطون أمّهاتهم.

ب-خلقناكم في أصلاب الرّجال و صوّرناكم في أرحام النّساء أي أصلاب آبائهم و بطون أمّهاتهم.

ج-خلقناكم نطفا في أصلاب الرّجال و ترائب النّساء ثمّ صوّرناكم عند اجتماع النّطفتين في الأرحام.

د-خلق الإنسان في الرّحم-من النّطفة إلى العظام و اللّحم-ثمّ صوّره ففتق سمعه و بصره و أصابعه و طوله و قصره و نحوها.و هذا منسوب إلى الإمام الباقر عليه السّلام.

ه-أنّ(ثمّ)هنا بمعنى الواو-قاله الأخفش- و خطّأه الخليل و سيبويه،و جميع من يوثق بعربيّته.

و-أنّ(ثمّ)لترتيب الإخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها.

ز-أنّ هذا خطاب إلى النّاس باعتبار سلفهم آدم، فالخلق و التّصوير كلاهما لآدم و زوجه.و اختاره المحقّقون و أصرّ عليه الطّبريّ بناء على عادة العرب في نسبة أعمال السّلف إلى الخلف،كما قال تعالى لليهود على عهد رسول اللّه: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ البقرة:63.

و احتجّ بما جاء بعدها: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، و قد أمرهم بالسّجود لآدم قبل خلق ذرّيّته و تصويرهم.و ردّه الطّباطبائيّ بأنّ هذا يجوز إذا اشترك القبيلان في ذلك بنوع من الاشتراك لا بمجرّد النّسب و السّبق و اللّحوق فلاحظ.

و قد أطال الطّبريّ الكلام في(ثمّ)إلى أن قال:

«و قد وجّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك إلى أنّه من المؤخّر الّذي معناه التّقديم،و زعم أنّ معنى ذلك:و لقد خلقناكم،ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم،ثمّ صوّرناكم.و ذلك غير جائز في كلام العرب، لأنّها لا تدخل(ثمّ)في الكلام إلاّ و هي مراد بها التّقديم على ما قبلها من الخبر...».

و قد أطال الفخر الرّازيّ و القرطبيّ و من جاء بعدهما،و لا سيّما سيّد قطب و الطّباطبائيّ حول الآية فلاحظ.

3-و بحث مغنيّة هنا في نظريّة النّشوء و الارتقاء لدارون،فلاحظ.

4-و قال الطّباطبائيّ في الانتقال من الخطاب بالعموم: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ إلى الخصوص ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ إنّه يفيد حقيقتين:

الأولى:أنّ السّجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم.

ص: 657

و الثّانية:أنّ خلق آدم كان خلقا للجميع،كما قال: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ السّجدة:7،8،و قوله:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ...

المؤمن:67.

و قد حكى أقوال المفسّرين في الآية عن الطّبرسيّ،و قال:«و أمّا ما نقله أخيرا من أقوالهم فوجوه سخيفة غير مفهومة من لفظ الآية،و لعلّ القائلين بها لا يرضون أن يتأوّل في كلامهم أنفسهم بمثل هذه الوجوه،فكيف يحمل على مثلها أبلغ الكلام»؟!

5-قال القرطبي في(32):(الخالق)هنا المقدّر.

و(البارئ)المنشئ المخترع.و(المصور)مصوّر الصّور و مركّبها على هيئات مختلفة.فالتّصوير مرتّب على الخلق و البراية،و تابع لهما.و قد جعل بعض النّاس الخلق بمعنى التّصوير،و ليس كذلك،و إنّما التّصوير آخرا و التّقدير أوّلا،و البراية بينهما.و منه قول الحق: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ المائدة:110.

و قال ابن كثير:«الخلق:التّقدير،و البرء:هو الفري،و هو التّنفيذ و إبراز ما قدّره و قرّره إلى الوجود،و ليس كلّ من قدّر شيئا و رتّبه يقدر على تنفيذه و إيجاده سوى اللّه عزّ و جلّ».

و قال الكاشانيّ: «كلّما يخرج من العدم إلى الوجود فيفتقر إلى تقدير أوّلا،و إلى الإيجاد على وفق التّقدير ثانيا،و إلى التّصوير بعد الإيجاد ثالثا،فاللّه سبحانه هو الخالق البارئ المصوّر بالاعتبارات الثّلاثة».

و قال سيّد قطب:«الخلق:التّصميم و التّقدير.

و البرء:التّنفيذ و الإخراج،فهما صفتان متّصلتان، و الفارق بينهما لطيف دقيق.

(المصور)و هي كذلك صفة مرتبطة بالصّفتين قبلها-إلى أن قال-و توالي هذه الصّفات المترابطة اللّطيفة الفروق،يستجيش القلب لمتابعة عمليّة الخلق و الإنشاء و الإيجاد و الإخراج مرحلة مرحلة حسب التّصوّر الإنسانيّ،فأمّا في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل و لا خطوات...و نقل قول الكشّاف و ابن العربيّ فلاحظ».

و قال ابن عاشور:«و جملة اَللّهُ الْخالِقُ تفيد قصرا بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق لا شركاؤهم...».و قد حكى أقوال الآخرين في معنى هذه الصّفات.و قال:«و قد يظنّ أنّ هذه الأسماء مترادفة،و لا ينبغي أن يكون كذلك...».

و قال الطّباطبائيّ: («الخالق:)هو الموجد للأشياء عن تقدير،و(البارئ)المنشئ للأشياء ممتازا بعضها من بعض،و(المصور:)المعطي لها صورا يمتاز بها بعضها من بعض،و الأسماء الثّلاثة تتضمّن معنى الإيجاد باعتبارات مختلفة و بينها ترتّب:فالتّصوير فرع البرء،و البرء فرع الخلق و هو ظاهر...».

6-و قد جمع اللّه في(33)بين الخلق و البصط- بسط-و هو طول القامة.لاحظ:ب س ط:«بسطة».

و منها:خلقه أطوارا،آيتان:

ص: 658

(34) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً* وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً نوح:13،14

(35) اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الرّوم:54

و قد ذكر الطّبرسيّ في الأولى أنّ المراد بها أطوار خلقته من النّطفة إلى ما بعدها،أو حالات الإنسان من الصّبيّ إلى الشّيخوخة،أو صفاته من الفقر و الغناء و الصّحّة و المرض،أو الطّول و القصر ثمّ قال:«و الآية محتملة للجميع».لاحظ:ط و ر:«أطوارا».و يبيّن معناه قوله في الآية(40): خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ

و أمّا الثّانية:فخصّت الأطوار بالضّعف و القوّة و الشّباب و الشّيخوخة،فلاحظ.

الصّنف الخامس:خلق الإنسان في الأرحام آيتان:

(39) ...يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ... الزّمر:6

(36) ...وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ... البقرة:228

[بحوث حول (سياق الآيات المكية و غيرها)]
اشارة

و فيهما بحوث:

1-الأولى مكّيّة سياقها إثبات الصّانع،كما تشهد به الآيات قبلها،و الثّانية مدنيّة سياقها التّشريع.

2-جاء في الأولى تعبيرا عن«الرّحم»: بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ، و في الثّانية(ارحامهن،)و هذه بيان لمواضع خلقهم حقيقة،و هي(ارحامهن،)و الأولى لمواضع أرحامهنّ،و هي البطون،فالأولى حقيقة و الثّانية مجاز.

3-ذكروا في(39): خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أطوار الخلقة ممّا يفسّرها الآيات(24)و(25)-و قد سبق بحثهما-و ذكر ابن عاشور فيها أطوارا عشرة ابتداء في الثّلاث الأولى من النّطفة ثمّ العلقة ثمّ المضغة،و انتقالا من«الرّابع-العاشر»إلى تعيين مقدار طوله من كلّ شهر،فلاحظ.

4-و احتملوا في«خلقا بعد خلق»خلقه في ظهر آدم،ثمّ في بطون الأمّهات،أو خلقه في ظهر الأب، ثمّ في بطن الأمّ.و كلاهما مخالف لصريح الآية:و هو أنّ الخلق بعد الخلق كلاهما في بطون الأمّهات يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ.

5-و قال ابن عاشور-و نحوه غيره-:«و التّعبير بصيغة المضارع(يخلقكم)لإفادة تجدّد الخلق و تكرّره-و استمراره-مع استحضار صورة هذا التّطوّر العجيب استحضارا بالوجه و الإجمال الحاصل للأذهان على حسب اختلاف مراتب إدراكها،و يعلم تفصيله علماء الطّبّ و العلوم الطّبيعيّة».ثمّ ذكر حديثا عن النّبيّ عليه السّلام،فلاحظ.

6-و قال فيها الطّباطبائيّ:«بيان لكيفيّة خلق من تقدّم ذكره من البشر و الأنعام-أي قبلها: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ -و في الخطاب تغليب أولي العقل على غيرهم...».

و يظهر منه أنّ جملة: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ عنده شاملة لخلق الأنعام أيضا،مع أنّ الظّاهر أنّها من تتمّة صدر الآية خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ

ص: 659

مِنْها زَوْجَها، و أنّ جملة وَ أَنْزَلَ لَكُمْ... معترضة بينهما،فهي لا تشمل الأنعام لكي يكون الخطاب في (يخلقكم)من باب التّغليب،فلاحظ.

7-ظاهر ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ في(36) الولد كما صرّح به بعضهم.لكنّ كثيرا منهم فسّروه ب«الحمل و الحيض»و بعضهم ب«الحيض»فقط.وجه الأوّل-كما قال ابن عبّاس بنقل الواحديّ-:«إنّ المرأة السّوء تكتم الحمل شوقا منها إلى الزّوج و تستبطئ العدّة،لأنّ عدّة ذات الحمل أن تضع حملها...».و كما قال قتادة:«كانت عادتهنّ في الجاهليّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزّوج الجديد،ففي ذلك نزلت الآية».و عند رشيد رضا:أنّ الولد كان يلحق في الجاهليّة بالثّاني مع علمهم بأنّه من الزّوج الأوّل فحرّمه اللّه.

و وجه ذكر الحيض كما قال الآخرون:«أن تقول لزوجها المطلّق-و قد أراد رجعتها قبل الحيضة الثّالثة -:قد حضت الحيضة الثّالثة،كاذبة لتبطل حقّه بقيلها الباطل في ذلك».

و لكن ذكر حقّ الرّجعة متأخّر عنها في الآية و ليس فيها شرط الطّلاق الثّالث قبل الحيض.قال تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً... فلاحظ:كلام الطّبريّ و ابن عاشور و مغنيّة.

و قال القشيريّ: «يعني إن انقطع بينكما السّبب فلا تقطعوا ما أثبت اللّه من النّسب».

8-و قد استفادوا منها أنّ الحيض و الولد هو الّذي ائتمن عليه النّساء.و قد روى الطّبرسيّ عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه قال:«قد فوّض اللّه إلى النّساء ثلاثة أشياء:الحيض و الطّهر و الحمل».

الصّنف السّادس:خلق النّاس من نفس واحدة،ثلاث آيات:

(37) يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ... النّساء:1

(38) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها... الأعراف:18

(39) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها... الزّمر:6

قالوا:إنّ المراد ب«النّفس الواحدة»آدم،لأنّ جميع النّاس خلقوا منه.و قد بناه ابن عاشور على أن يراد بالجمع:(خلقكم)الكلّ المجموعيّ،أي جملة ما يصدق عليه الضّمير،أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة.و احتمل أن يكون المراد منه الكلّ الجميعيّ، أي خلق كلّ أحد منكم من نفس واحدة،فتكون النّفس الواحدة هي الأب،أي أبو كلّ واحد من المخاطبين،على نحو قوله: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى الحجرات:13.

و هذا بعيد جدّا.و الشّاهد عليه قوله فيها جميعا:

وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها أو وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها، فهذا السّياق جاء في خلق حوّاء من آدم أو من جنس آدم،كما يأتي في الصّنف السّابع:«خلق الإنسان

ص: 660

أزواجا».

الصّنف السّابع:خلق الإنسان أزواجا عشر آيات،و هي ثلاثة أقسام:

[اقسام الآيات حول خلق الانسان]
أ-خلق الأزواج من كلّ شيء ثلاث آيات:

(47) وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الذّاريات:49

(48) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ الزّخرف:12

(49) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ يس:36

ظاهر(40)أنّ اللّه خلق من كلّ شيء زوجين فيشمل الإنسان و الحيوان و النّبات و غيرها.قال الطّبرسيّ(5:160):«أي خلقنا من كلّ شيء صنفين:

مثل اللّيل و النّهار،و الأرض و السّماء،و الشّمس و القمر،و الجنّ و الإنس،و البرّ و البحر،و النّور و الظّلمة و قيل:الزّوجين الذّكر و الأنثى».

و قال الفخر الرّازيّ: «و الزّوجان إمّا الضّدّان، فإنّ الذّكر و الأنثى كالضّدّين و الزّوجان منهما كذلك،و إمّا المتشاكلان،فإنّ كلّ شيء له شبيه و نظير و ضدّ و ندّ».و حكى من المنطقيّين:«خلق نوعين من الجوهر مثلا:المادّيّ و المجرّد،و من المادّيّ النّامي و الجامد،و من النّامي:المدرك و النّبات،و من المدرك:

النّاطق و الصّامت...».

و قال الطّباطبائيّ: «الزّوجان:المتقابلان يتمّ أحدهما بالآخر،فاعل و منفعل كالذّكر و الأنثى.

و قيل:المراد مطلق المتقابلات كالذّكر و الأنثى،و السّماء و الأرض،و اللّيل و النّهار،و قيل:الذّكر الأنثى».

و ظاهر(41)أنّ اللّه خلق الأزواج كلّها،و لم يقل:

وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فليس فيها تلك الشّمول.

قال الطّبرسيّ: «يعني أزواج الحيوان من ذكر و أنثى.و قيل:معناه خلق الأشكال جميعها من الحيوان و الجماد،فمن الحيوان الذّكر و الأنثى،و من غير الحيوان ممّا هو كالمقابل:كالحلو و المرّ،و الرّطب و اليابس،و غير ذلك.و قيل:الأزواج:الشّتاء و الصّيف و اللّيل و النّهار.و الجنّة و النّار».

و قال الفخر الرّازيّ نقلا عن ابن عبّاس:

«الأزواج:الضّروب كالحلو و الحامض-إلى أن حكى عن بعض المحقّقين-كلّ ما سوى اللّه فهو زوج كالفوق و التّحت...إلى و الرّبيع و الخريف...».

و قال الطّباطبائيّ: «و قيل:المراد بالأزواج:

أصناف الموجودات.و قيل:المراد:الزّوج من كلّ شيء،فكلّ ما سوى اللّه كالفوق و تحت و اليمين و اليسار و الذّكر و الأنثى،زوج».

أمّا ظاهر(42)فاختصاص الأزواج بالنّبات و الإنسان و ممّا لا يعلمون،فلا يشمل كلّ الأشياء بل يشمل الإنسان و الحيوان و النّبات.و أمّا(ما لا يعلمون)فالظّاهر أنّه من جنس الحيوان و النّبات دون سائر الأشياء.

و عندنا أنّها لا تشمل ما سوى الإنسان و الحيوان و النّبات بقرينة الآية(42).و كون كلّ الأشياء صنفين متقابلين في نفسها حقيقة،لكن لا يعبّر عنها بالأزواج، بل بالأصناف و الأنواع.فلا بدّ من تخصيص كُلِّ

ص: 661

شَيْءٍ في(40)بذلك.و لكنّ الفخر الرّازيّ أبى أن تكون الآية(42)خاصّة بما ذكر،فلاحظ.و الّذي يدلّ على ما ذكرنا أنّ الأزواج في القرآن أطلق على الحيوان و النّبات مرّات: وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً الشّورى:11،و ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ...

الأنعام:143،و وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الرّعد:3، فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ الرّحمن:52،فلاحظ:زوج.

ب-خلق الإنسان زوجين ذكرا و أنثى،

أربع مرّات:

(43) وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً النّبأ:8

(44) يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا... الحجرات:13

(45) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى

النّجم:45

(46) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّى اللّيل:3،4

و الظّاهر من الجميع أنّ النّاس خلقوا أزواجا،أي ذكرا و أنثى،و قوله في(44): خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى يحتمل ذلك بأن تكون(من)بيانيّة،و يحتمل أنّ النّاس كلّهم خلقوا من بشرين:ذكر و أنثى،أي آدم و زوجه أو أب و أمّ،كما جاء في التّفاسير،فتكون (من)صلة ل(خلقناكم).و لو فسّرت هذه الآية بسائر الآيات فالوجه الأوّل متعيّن.و لم يذكره إلاّ الطّباطبائيّ،لاحظ:أ ن ث:«الأنثى».

ج-خلق زوج الإنسان منه و له،أربع
اشارة

آيات:

(37) ...وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... النّساء:1

(47) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها... الرّوم:21

(48) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ الشّعراء:66

(39) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها... الزّمر:6

هذه الآيات مختلفة مفهوما،فصريح الثّانية أنّ اللّه خلق للنّاس من أنفسهم أزواجا ليسكنوا إليها، و المراد بها:أنّ أزواجهم من جنسهم إنسان؛إذ ليست أزواجهم مخلوقات من أجسامهم.و ما حكاه الفخر الرّازيّ عن بعضهم أنّ المراد بها خلق حوّاء من آدم بعيد جدّا.

و يمكن حمل الأولى عليها أيضا،فمعنى وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها خلقها من جنسها،لكن جاء في الرّوايات كيفيّة خلق حوّاء من آدم،فلاحظ.و هو الظّاهر من الرّابعة إلاّ أن يؤوّل إلى الثّانية،و لا يبعد.

و أمّا الثّالثة فصريحة في أنّ أزواجهم خلقن لهم ليسكنوا إليها-كما جاء في الأولى-فلا علاقة لها بخلق الأزواج من جنسهم و لا من جسمهم.

الصّنف الثّامن:الإنسان من جملة من خلق، ثلاث آيات:

(49) يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة:21

ص: 662

(50) ...بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ... المائدة:18

(51) وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ

الشّعراء:184

ظاهر الأولى أنّ المخاطبين من جملة من خلق قبلهم من البشر،و هذا صريح الثّانية و الثّالثة.

الصّنف التّاسع:خلق الإنسان أوّل مرّة، أربع آيات:

(52) ...وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

فصّلت:21

(53) وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ... الأنعام:94

(54) ...لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...

الكهف:48

(55) أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ... ق:15

و سياق الجميع الاحتجاج بالحياة الدّنيا-و هي الخلق الأوّل-على الحياة الآخرة،و هذا صريح الرّابعة أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ...

الصّنف العاشر:خلق الإنسان ممّا يعلمون و خلق ما يعملون،آيتان:

(56) كَلاّ إِنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ

المعارج:39

(57) أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ الصّافّات:95 و 96

[بحوث حول اقسام الآيات المذكورة]

و فيها بحثان:

1-المراد بالأولى:خلق الإنسان من النّطفة و غيرها،ممّا هو معلوم لكلّ إنسان عيانا،و من الآيات القرآنيّة.

أمّا الثّانية فهي معركة الآراء بين الأشاعرة و بين غيرهم من المعتزلة و الإماميّة و الأباضيّة،و كلّ من ينكر الجبر في الأعمال.

قال الفخر الرّازيّ(29:148):«احتجّ الأصحاب -يعني الأشاعرة-بقوله: وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ على أنّ فعل العبد مخلوق للّه تعالى».و ذكر أنّ(ما تعملون)عند النّحويّين في تقدير المصدر أي إنّ اللّه خلقكم و خلق عملكم.و قد أطال الكلام فيها إثباتا و نفيا فلاحظ.مع أنّ ظاهر الآية لو لا صريحها بلحاظ ما قبلها أنّ المراد ب(ما تعملون)ما كانوا ينحتون من الأصنام،فإنّ أصلها-و هو الحجر أو الخشب-مخلوق للّه تعالى.قاله الطّبرسيّ(4:450):ثمّ قال:«فليس لأهل الجبر تعلّق بهذه الآية في الدّلالة على أنّ اللّه سبحانه خالق لأفعال العباد،لأنّ من المعلوم أنّ الكفّار لم يعبدوا نحتهم الّذي هو فعلهم،و إنّما كانوا يعبدون الأصنام الّتي هي الأجسام...».و لهذا البحث مجال واسع في خلال الآيات الأخرى أيضا،نشير إليها في مواضعها.

2-و قال الطّباطبائيّ: «...الأظهر كون(ما)في قوله:(ما تنحتون)موصولة،و التّقدير ما تنحتونه و كذا في قوله:(و ما تعملون.)و جوّز بعضهم كون (ما)فيها مصدريّة و هو في أوّلهما بعيد جدّا».ثمّ نبّه على أنّه لا منافاة بين اختيار الإنسان فيما يريده و بين تعلّق إرادة اللّه بنفس عملهم،و أنّها لو أفادت الجبر،

ص: 663

لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا و تقبيحا،و كانت الحجّة لهم لا عليهم فلاحظ.

الصّنف الحادي عشر:خلق الإنسان للرّحمة و الهداية،ثلاث آيات:

(58) وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ... هود:118،119

(59) اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الشّعراء:78

(60) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ... التّغابن:2

ظاهر قوله في الأولى: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي خلقهم للرّحمة.و قال الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء في مقال له في مجلّة«رسالة الإسلام»:«أي للرّحمة أو للاختلاف على الخلاف».

و ظاهر الثّانية أنّ الّذي خلق الإنسان هو الّذي يهديه.و المراد بالهداية:إمّا الهداية الفطريّة،أو التّوفيق لمن كان من أهله،أو الهداية الشّرعيّة بإرسال الأنبياء و إنزال الكتب،دون الهداية الجبريّة قبال الإضلال، كما هو ظاهر أمثال قوله: فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبراهيم:4، و كلّها مؤوّل،لاحظ:-ه د ي،و:ض ل ل:«يهدى و يضلّ».

و ظاهر الثّالثة أنّ الكفر و الإيمان هما من عمل العبد،فدلّت على الاختيار،و أنّه لا دخل للّه جبرا فيهما.

الصّنف الثّاني عشر:خلق الإنسان حجّة للتّوحيد و المعاد،ستّ آيات:

(61) فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فصّلت:15

(62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ الزّخرف:87

(63) أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ

النّحل:17

(64) ...وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ فصّلت:37

(65) ...أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ الأعراف:54

(66) ...كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ الأنبياء:104

و كلّها مكّيّة،و كذلك أغلب آيات التّوحيد و المعاد،لأنّهما الأصلان اللّذان كان المشركون يصرّون على إنكارهما،و القرآن يؤكّد إثباتهما.

و الأربع الأولى تدعو إلى التّوحيد عقيدة و عبادة، و الخامسة تدعو إليه عقيدة و تشريعا لو أريد ب (الامر)فيها التّشريع،و إن أريد التّكوين فترجع إلى العقيدة و العبادة.لاحظ:أ م ر:«الأمر».

و أمّا الأخيرة فصريحة في المعاد.

الصّنف الثّالث عشر:خلق الموت و الحياة، خمس آيات و كلّها مكّيّة:

(67) اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الملك:2

ص: 664

(68) وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً...

النّحل:70

(69) اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ الرّوم:40

(70) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى طه:55

(71) ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ لقمان:28

و فيها بحوث:

1-هذه الآيات ككثير من آيات المعاد مكّيّة أيضا،و قد صرّح في أولاها بخلق الموت و الحياة،أمّا في غيرها فالوفاة و الموت و الإعادة و البعث عدل للخلق فيختصّ الخلق بالحياة الدّنيا.

2-و قد دلّت الأولى على سرّ الحياة و الموت، و هو الابتلاء: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، و دلّت الثّانية على شيء من أطوار حياة الإنسان وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ...، و دلّت الثّالثة على معاشه ثُمَّ رَزَقَكُمْ.

3-جاء التّعبير عن الحياتين بالموت و الحياة في الأولى،و في الثّالثة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، و بالخلق و التّوفّي في الثّانية وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ، و بالخلق و الإعادة في الأرض، و الإخراج منها في الرّابعة،و بالخلق و البعث في الخامسة ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ، و للّه في كتابه و كلامه فنون و شئون و حكم و أسرار.

4-و سياق الجميع تأكيد علم اللّه و قدرته على إحياء الموتى،و قد صرّح به في ذيل الثّانية إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ. و مثلها في الخامسة إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إنّ خلق و بعث جميع النّاس كخلق و بعث نفس واحدة في السّهولة و البساطة.و أمّا في الأخيرة فجاء مكان اَللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ و هذا تأكيد لكمال علمه.

5-و احتجّ في الثّالثة بذلك على رفض الشّرك:

هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ....

الصّنف الرّابع عشر:بدء خلق الإنسان و إعادته:سبع آيات،و كلّها مكّيّ:

(72) ...إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالْقِسْطِ... يونس:4

(73) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ

يونس:34

(74) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ

النّمل:64

(75) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... العنكبوت:19

(76) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ العنكبوت:20

(77) اَللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الرّوم:11

ص: 665

(78) وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... الرّوم:27

و قد جمع اللّه فيها بين الخلق و الإعادة،و كرّره في (73)،و عوّض في(76)عن«الإعادة»ب ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، و المراد بها جميعا خلق الإنسان في الحياة الدّنيا و إعادته في الآخرة.لاحظ:

ب د ء:«يبدءوا»و:ع و د:«يعيده».

الصّنف الخامس عشر:خلق جديد:ثمان آيات،و كلّها مكّيّ أيضا:

(79) وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ... الرّعد:5

(80) وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ... السّجدة:10

(81) ...يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ سبأ:7

(82) أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ق:15

(83 و 84) وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً الإسراء:49 و 98

(85 و 86) ...إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ إبراهيم:19،فاطر:16

و فيها بحوث:

1-المراد ب«الخلق الجديد»في السّتّ الأولى البعث بعد الموت،و في الأخيرتين،خلق جديد في الدّنيا بعد إذهاب الموجودين منهم،فلا علاقة لهما بالدّار الآخرة.

2-و السّتّ الأولى كلّها ردّ لمنكري البعث استبعادا أو استهزاء أو تعجّبا منهم: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ.

3-و قد أكّد في(91)على قدرته تعالى على البعث بالخلق الأوّل،و هو إحياؤهم في الدّنيا:

أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ.

و قال الحسن و غيره-قال الآلوسيّ: ليس بالحسن-إنّ المراد ب بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ آدم عليه السّلام.

و احتمل الفخر الرّازيّ أنّه خلق السّماوات قائلا:

«لأنّه الخلق الأوّل.و كأنّه تعالى قال-قبلها-: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ ق:6،ثمّ قال:(أ فعيينا)بهذا الخلق،و يدلّ على هذا قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ الأحقاف:33»،ثمّ قال:«و يؤيّد هذا الوجه أنّ اللّه تعالى قال بعد هذه الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق:16،فهو كالاستدلال بخلق الإنسان،و هو معطوف بحرف«الواو»على ما تقدّم من الخلق،و هو بناء السّماء و مدّ الأرض و تنزيل الماء و إنبات الجنّات».

و قال فضل اللّه:«في بداية خلق الإنسان و خلق الكون كلّه في نظام متقن و تدبير حكيم»و شرحه؛ و الوجه الأوّل هو الأقرب.

4-و ذكر الفخر أيضا في الآية لتعريف(الخلق الأول)و تنكير خَلْقٍ جَدِيدٍ وجهين:

أحدهما:أنّ الخلق الأوّل معلوم لكلّ أحد، و الخلق الجديد غير معلوم لهم.

ص: 666

و ثانيهما:أنّه بيان لإنكارهم للخلق الثّاني من كلّ وجه،كأنّهم قالوا:أ يكون لنا خلق ما على وجه الإنكار بالكلّيّة...

و قال أبو السّعود-و تبعه البروسويّ و الكاشفيّ- :«و تنكير(خلق)لتفخيم شأنه و الإشعار بخروجه عن حدود العادات،و الإيذان بأنّه حقيق بأن يبحث عنه و يهتمّ بمعرفته».و قال ابن عاشور:«و تنكير (لبس)للنّوعيّة و تنكير خَلْقٍ جَدِيدٍ كذلك،أي ما هو إلاّ خلق من جملة ما يقع من خلق اللّه الأشياء-إلى أن قال-:و في هذا الوصف تورّك عليهم و تحميق لهم من إحالتهم البعث،أي اجعلوه خلقا جديدا كالخلق الأوّل،و أيّ فارق بينهما».

5-و قال البروسويّ: «و اعلم أنّ هذا الخلق الجديد حاصل في الدّنيا أيضا سواء كان في الأعراض أو في الأجسام،و هو مذهب الصّوفيّة و مذهب المتكلّمين،فإنّهم جوّزوا انتفاء الأجسام في كلّ آن و مشاهدة بقائها بتجدّد الأمثال،أي الأجسام الأخر أي كما جوّزوا انتفاء الأعراض في كلّ آن و مشاهدة بقائها بتجدّد الأمثال أي الأعراض الأخر...».ثمّ ذكر أنّ الشّيخ الأكبر أورده في الاستدلال على تجدّد الجواهر كالتّجدّد الّذي يقوله الأشعريّ في الأعراض.

و هذا أجنبيّ عن الآية سواء كان صوابا أو خطأ كما قال البروسويّ نفسه:«لعمري أنّ الآية بمعزل عمّا يقول: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق:16».

و قال الطّباطبائيّ: «و المراد بالخلق الجديد:تبديل نشأتهم الدّنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النّظام الطّبيعيّ الحاكم في الدّنيا...»،و شرحه.

6-و من مباحث الإعراب قالوا في(92 و 93):

لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً إنّ(خلقا)مصدر مفعول مطلق ل(مبعوثون)من غير لفظه أي بعثا جديدا،أو هو بمعنى«مخلوقا»فيكون حالا منه،و وحّد(خلقا) لكونه مصدرا،معناه:«مخلوقين جديدين».و هذا هو المناسق لمثل:«بعثه نبيّا»فإنّ نبيّا حال من«بعث».

الصّنف السّادس عشر:خلق الملائكة و الجانّ، ستّ آيات و كلّها مكّيّة سوى(99)لاختلاف في سورة الرّحمن.

(87) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ

الصّافّات:150

(88) وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ... الزّخرف:19

(89) وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ

الذّاريات:56

(90) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ

الرّحمن:15

(91) وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ

الحجر:27

(92) وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ

الأنعام:100

و فيها بحوث:

1-جاء في الأوليين خلق الملائكة رفضا لقول

ص: 667

المشركين:إنّهم إناث أو بنات،و أنّ اللّه اصطفى المشركين بالبنين،أي لهم بنون و للّه البنات،تحقيرا منهم البنات،و تفضيلا أنفسهم على اللّه تبارك و تعالى.

و جاءت حكاية هذا الزّعم الباطل عن المشركين في آيات أخرى مثل: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ النّحل:57،و فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ الصّافّات:149،و إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى النّجم:27.لاحظ:أ ن ث:«الأنثى»و:ب ن ت:

«البنات»،و لاحظ:تفسير سائر الآيات في:ج ن ن:

«الجنّ»،و«الجانّ»،و:أ ن س:«الإنس».

2-في الآية(88)اختلفوا كثيرا في قراءة كلمة (خلقهم)و معناها على وجوه:

أوّلها:(خلقهم)فعلا-و نسبها الطّبريّ إلى قرّاء الأمصار،و عدّها أولى القراءتين بالصّواب-و يؤيّدها قراءة ابن مسعود (و هو خلقهم) و هي جملة حاليّة عمّا قبلها: جَعَلُوا لِلّهِ، و جملة وَ خَرَقُوا لَهُ عطف عليه.و الضّمير(هم)إمّا راجع إلى الجاعلين،أي المشركين الّذين جعلوا للّه شركاء الجنّ،فالمعنى:جعلوا الجنّ شركاء للّه في خلقهم.و الحال أنّ اللّه خلقهم وحده لا يشركه في خلقه إيّاهم أحد غيره.

و إمّا إلى المجعولين أي الجنّ،فالمعنى جعلوا الجنّ شركاء للّه،و الحال أنّ اللّه خلق الجنّ،و أنّهم مخلوقون للّه،فكيف شاركوا اللّه في خلقه إيّاهم،و هم مخلوقون له.و قد رجّحه الطّبريّ على الاحتمال الأوّل،لأنّ فيه فائدة،و هي الحجّة عليهم بأنّ الجنّ مخلوقون، و المخلوق لا يكون شريكا للخالق.و الاحتمال الأوّل لا حجّة فيه.إضافة إلى أنّ رجوع الضّمير إلى الأقرب -و هو الجنّ-أولى.و هذا وجه وجيه.

و احتمل بعضهم رجوع الضّمير إلى الفريقين:

الإنس و الجنّ جميعا،أي كيف جعلوا للّه شركاء،و اللّه خلق الجنسين و هو الخالق للكلّ،و لا بأس به.

و ثانيها:(خلقهم)بسكون اللاّم و فتح القاف مصدرا مضافا إلى الفاعل-و هو المشركون الجاعلون للّه شركاء-و منصوبا عطفا على(الجن)أي،و اللّه خلق الجنّ و خلق ما خلقه المشركون من الأصنام،أو ما اختلقوه من القول الباطل،و هو جعل الجنّ شركاء للّه تعالى.أو ما نسبوه من القبائح إلى اللّه و قالوا: وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها الأعراف:28،و قرئ أيضا (خلقهم) بسكون اللاّم و كسر القاف،عطفا على(للّه)أي و جعلوا للّه شركاء،و لخلقهم،أي الأصنام المخلوقة لهم؛حيث أشركوها مع اللّه في خلقه إيّاهم.

و كلّها بعيدة و لا سيّما الأخير؛إذ لم يعهد من المشركين إشراك الأصنام في خلق النّاس،فإنّهم كانوا يعترفون بأنّ الخالق لهم هو اللّه تعالى وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ الزّخرف:87، بل كانوا مع اعترافهم بذلك يشركون الأصنام و غيرها في العبادة،فيحتجّ اللّه عليهم في هذه الآية و أمثالها بأنّه إذا كان اللّه هو خالقهم وحده،فلا بدّ أن يعبدوه وحده، و لا يشركوا في عبادته غيره.

3-قال الكلبيّ في هذه الآية(97):«نزلت في الزّنادقة قالوا:إنّ اللّه و إبليس شريكان،و اللّه خالق

ص: 668

النّور و النّاس و الدّوابّ و الأنعام،و إبليس خالق الظّلمة و السّباع و العقارب و الحيّات».

و قال الطّبرسيّ بعد أن ذكر نحو الطّبريّ: «و قيل:

إنّ المعنيّ بالآية المجوس».فذكر قولهم:من نسبة الخيرات إلى اللّه و المؤذيات و الشّرور إلى الشّيطان تعبيرا عنهما ب:«يزدان و أهرمن».و كذا أشار إلى قول الثّنويّة القائلين بالنّور و الظّلمة.

و الظّاهر من كلام الفخر الرّازيّ أنّه جعل الآية خاصّة بالمجوس-و احتمله النّيسابوريّ أيضا-و ردّ عليهم في كلام طويل بأنّ خالق إبليس عندهم هو اللّه، فلا بدّ و أن يعترفوا بأنّ اللّه هو خالق الشّرور أيضا، فلاحظ.

و عندنا أنّ هذه الآية من سورة الأنعام،و هي أطول سورة في الرّدّ على المشركين بمكّة،و ليس لها دخل بالمجوس.نعم ما جاء فيها من إبطال الشّرك يصلح أن يكون إبطالا لقول المجوس و غيرهم،من أصناف المشركين في العالم،و هو باقون إلى اليوم، و لا سيّما في قارتي آسيا و إفريقيا.

الصّنف السّابع عشر:خلق الأنعام و الدّوابّ و ما يركبون:ثمان آيات،و كلّها مكّيّ إلاّ الأخيرة.

(93) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ* وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ* وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ يس:71-73

(94) وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ* وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ* وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ النّحل:5-7

(95) وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ النّحل:8

(96) وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً

الفرقان:48،49

(97) أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ

الغاشية:17

(98) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ الجاثية:3،4

(99) وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ النّور:45

(100) وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ

يس:42

و فيها بحوث:

1-قد نبّه اللّه فيها على منافعها،و أجمعها الأولى (93)فذكر فيها من منافعها الملك: فَهُمْ لَها مالِكُونَ، و تذليلها للرّكوب:و الأكل من لحومها و الشّرب من ألبانها،و غيرها من المنافع وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ....

و ذكر في الثّانية(94)منافع،و منها الدّفء-

ص: 669

اللّباس و كلّما يتغطّى به و الأكل: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ، و الزّينة: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ، و حمل الأثقال:

وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ....

و ذكر في الثّالثة(95)من منافعها:الرّكوب و الزّينة: لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً و في الخامسة(100) الرّكوب فقط كالفلك: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ، فجمع اللّه فيها بين ما يركبونه برّا و بحرا.

و لم يذكر في الرّابعة(96)لها المنافع،لكنّه عطف عليها«الأناسيّ»فجمع بينهما في السّقي من ماء السّماء حياة لها و لبلدة ميّتة: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً.

فأكّد اللّه في ثلاث منها(94 و 95 و 100)من منافعها:على ركوبها أو حمل الأثقال،و في اثنتين (94 و 96)على الأكل أو الشّرب منها،و في اثنتين أيضا(94 و 95)على زينتها أو جمالها.

2-عبّر عنها ب«الأنعام»في ثلاث:(93 و 94 و 96)،و ب(دابة)في اثنتين(98)و(99)أمّا(98):

فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ، فجمع فيها بين خلق الإنسان و الدّوابّ،و بين خلق السّماوات و الأرض في كونها جميعا آيات للمؤمنين و الموقنين.

و أمّا(99): وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ...، فخصّها بأنّها خلقت من ماء كالإنسان،و بأنّها على أقسام في المشي على بطنها،أو رجليها أو أربع، و أضاف إليها: يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ.

و اكتفى في اثنين منها بتسمية الأنعام:ففي(95)- تفسيرا لما قبلها من الأنعام-: وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ، و في(97): أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ مشيرا إلى كيفيّة خلقها دون فوائدها،و إن أضمرت فيها.

3-و من البديع أنّه تعالى قارن في ثلاث منها(94) و(96 و 100)بين خلق الإنسان و خلق الأنعام:

فعطف(الانعام)على(الانسان)في(94): خَلَقَ الْإِنْسانَ... وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها. و كذلك في(98):

وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ و-عكسها-عطف (اناسى)على(انعاما)في(96).و عطف خلق (ما يركبون)على حمل ذرّيّتهم في(100): حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ... و خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ و هي رابعتها.

و إن أريد من(كل دابة)في(99)الإنسان و الحيوان جميعا،فهي خامستها.

4-و قد أطال المفسّرون في ذكر منافع الأنعام و خصائصها،و لا سيّما في خلق الإبل؛لاحظ:

النّصوص هنا و لاحظ:أ ب ل:«الإبل».

و قد نبّه بعضهم على أنّ الأنعام أربعة استنادا إلى:

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً...* ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ...* وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ الأنعام:142-144.

و جاء في الآية(95): وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها فهي من جملة«الحمولة»في تلك الآيات.

ص: 670

5-و من مباحث القراءة و الإعراب فيها أوّلا:أنّ الأنعام في(94): وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها منصوب-كما قالوا-بفعل مضمر يفسّره(خلقها.)قال الآلوسيّ:

«و هو أرجح من الرّفع في مثل هذا الموضع لتقدّم الفعليّة-و قرئ به في الشّواذّ-أو على العطف على (الانسان)-أي في الآية قبلها خَلَقَ الْإِنْسانَ، و ما بعد بيان ما خلق لأجله و الّذي بعده تفصيل لذلك».و هذا راجع إلى رأي النّحاة في«باب الاشتغال»فلاحظ.

ثمّ طرح الآلوسيّ-كغيره-الخلاف في جملة:

لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ هل هي جملة مستأنفة، و(لكم)خبر مقدّم و ما بعدها مبتدأ مؤخّر-و هو الظّاهر-أو(لكم)متعلّق ب(خلق،)و فِيها دِفْءٌ. مبتدأ مؤخّر و خبر مقدّم،و الجملة حال عمّا قبلها،أو(فيها)بناء على الاحتمال الأوّل حال عن (دفء.)و ذكر وجوها أخرى بعيدة،فلاحظ.

و ثانيا:في(99): وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، قرئ(خلق)و (خالق) .و قال الطّبريّ:«و هما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى؛و ذلك أنّ الإضافة في قراءة من قرأ ذلك (خالق) تدلّ على أنّ معنى ذلك المضيّ،فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب».

و قال أبو زرعة فيمن قرأ خلق: «و حجّتهم أنّ المقصود من ذلك هو التّنبيه على الاعتبار بما بعد الفعل من المخلوقات،و إذا كان ذلك كذلك فأكثر ما يأتي فيه الفعل على«فعل»ثمّ استشهد بآيات مثل:(37) اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها النّساء:1.ثمّ قال في حجّة من قرأ (خالق كلّ دابّة) فلفظ قوله:(خالق)أعمّ و أجمع،لأنّه يشتمل على ما مضى و ما يحدث ممّا هو كائن.و يدلّ عليه قوله:

خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ» الأنعام:102.

و الحقّ أنّ القراءتين-كما قال الطّبريّ- مشهورتان جائزتان،و ما حكاه أبو زرعة حجّة لهما، و الطّبريّ لا يجوّز قراءة إذا كانت غير مشهورة.

و قال القرطبيّ: «قيل:إنّ المعنيين في القراءتين صحيحان،أخبر اللّه عزّ و جلّ بخبرين،و لا ينبغي أن يقال في هذا:إحدى القراءتين أصحّ من الأخرى.

و قد قيل:إنّ(خلق)لشيء مخصوص،و إنّما يقال:

(خالق)على العموم،كما قال اللّه عزّ و جلّ: اَلْخالِقُ الْبارِئُ الحشر:24،و في الخصوص: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الأنعام:1،و كذا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ الأعراف:

189،فكذا يجب أن يكون وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ».

و ما قال من الجمع بين المعنيين أخذا بكلا القراءتين خلاف ما شاع في القراءات،بل ينبغي الأخذ بإحداهما على سبيل التّخيير.نعم إذا كانت القراءتان مشهورتين،فلا يصحّ أن يقال:إحداهما أصحّ من الأخرى،أمّا الأخذ بكليهما معا فلا.

و أيضا تخصيصه(خلق)بشيء مخصوص و(خالق)بالعموم موضع نظر،نعم إذا جاء(خالق) بدون مفعول،كما في اَلْخالِقُ الْبارِئُ فيحمل على العموم رعاية للسّياق،دون لفظ(الخالق.)

ص: 671

6-و اختلفوا في المراد ب(99): كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. فقال الرّمّانيّ:«إنّ أصل الخلق من ماء،ثمّ قلّب إلى النّار فخلق منها الجنّ،و إلى النّور فخلق منها الملائكة،و إلى الطّين فخلق منه من خلق و ما خلق».

و قال القشيريّ: «يريد خلق كلّ حيوان من ماء، يخرج من صلب الأب و تريبة الأمّ».ثمّ ذكر كيفيّة قسمة الماء على الجوارح تفصيلا،ثمّ قال:«فالنّظر في هذا-مع العبرة-يوجب سجود البصيرة و قوّة التّحصيل».

و قال الواحديّ: «يعني كلّ حيوان يشاهد في الدّنيا،و لا يدخل الجنّ و الملائكة لأنّا لا نشاهدهم».

و نحوه الميبديّ و أضاف:«و قيل:يريد به جميع المخلوقات،و أصل جميع الخلق من الماء؛و ذلك أنّ اللّه تعالى خلق ماء ثمّ جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة،و بعضه نارا فخلق منها الجنّ،و بعضه طينا فخلق منه آدم».

و قال البروسويّ: «و المعنى خلق كلّ حيوان يدبّ على الأرض(من ماء)هو جزء مادّته،أي أحد العناصر الأربعة،على أن يكون التّنوين للوحدة الجنسيّة،فدخل فيه آدم المخلوق من تراب،و عيسى المخلوق من روح أو من ماء مخصوص هو النّطفة،أي ماء الذّكر و الأنثى،على أن يكون التّنوين للوحدة النّوعيّة،فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكلّ؛إذ من الحيوان ما يتولّد لا عن نطفة».

و الحقّ أنّها تعمّ-كما اعترف به-كلّ حيوان يدبّ على وجه الأرض،و لا تشمل آدم و عيسى أصلا كما سبق.

و لا وجه للفرق بين كون التّنوين للوحدة الجنسيّة أو النّوعيّة،و لا بجعله الماء جزء مادّة كلّ دابّة،لأنّ المراد خلق كلّ دابّة من النّطفة،و هي تمام مادّتها لا جزءها.

7-و استشكل الفخر الرّازيّ فيها بأنّ كثيرا من الحيوانات غير مخلوقة من الماء و النّطفة،و ذكر من جملتها الملائكة،و قال:«فهم أعظم الحيوانات عددا و هم مخلوقون من النّور»و ذكر الجنّ المخلوقون من النّار،و آدم المخلوق من التّراب،و عيسى المخلوق من الرّيح.

و أجاب عنه بوجوه،أحسنها عندنا ما هو ظاهر الآية؛بحيث لا ينبغي الشّكّ فيها:أنّ المراد ب(دابة)الّتي تدبّ على وجه الأرض،و هي إمّا مخلوقة من النّطفة-و هي الغالبة عليها-أو تعيش بالماء،فلا تشمل الملائكة و الجنّ و آدم و عيسى.

و الحقّ أنّ(دابة)-كما قال:-هي ما تدبّ على وجه الأرض،و أنّ السّؤال في الآية خاصّ بالحيوانات غير المخلوقة من النّطفة،فلا تشملها الآية إلاّ بحملها على الغالب،و لا تشمل سائر ما ذكر أصلا.

و العجب من الرّازيّ حيث عدّ الملائكة أعظم الحيوانات،و هي لا تدبّ على الأرض!!

8-و لبعض المتأخّرين نكات في الآية:

أ-قال البروسويّ: «فإن قيل:ما الحكمة في خلق كلّ شيء من الماء-دابّة ليست كلّ شيء؟-.

قيل:لأنّ الخلق من الماء أعجب،لأنّه ليس شيء

ص: 672

من الأشياء أشدّ طوعا من الماء-و شرحه ثمّ قال:- قيل:فاللّه تعالى أخبر أنّه يخلق من الماء ألوانا من الخلق و هو قادر على كلّ شيء...».

و نقول:لو أريد من الماء«النّطفة»كما هو الظّاهر، فالتّركيز على خبثها أكثر من كونها أشدّ طوعا، لا سيّما في الإنسان كسرا لنخوته.

ب-قال سيّد قطب:«و هذه الحقيقة الضّخمة الّتي عرضها القرآن بهذه البساطة،حقيقة أنّ كلّ دابّة خلقت من ماء،قد تعني وحدة العنصر الأساسيّ في تركيب الأحياء جميعا،و هو الماء،و قد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أنّ الحياة خرجت من البحر و نشأت أصلا في الماء.ثمّ تنوّعت الأنواع،و تفرّعت الأجناس.

و لكنّنا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنيّة الثّابتة على النّظريّات العلميّة القابلة للتّعديل و التّبديل،لا نزيد على هذه الإشارة شيئا،مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنيّة،و هي أنّ اللّه خلق الأحياء كلّها من الماء».

و لنا كلام في مسألة تطبيق القرآن على النّظريّات العلميّة الحديثة نبحثه إن شاء اللّه في«المدخل».

ج-و قد نبّه ابن عاشور على أنّ الآية دلّت على تساوي خلق الحيوان في أصل التّكوين من ماء التّناسل،و اختلافه في أوّل حالاته،و هو المشي.

و إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر القبلي:

وَ اللّهُ خَلَقَ مفيد لأمرين:التّحقيق بالتّقديم و التّجدّد بكون الخبر فعليّا.و بإظهار اسم الجلالة- دون الإضمار-للتّنويه على هذا الخلق العجيب، و باختيار الفعل الماضي(خلق)لتقرير أنّ هذا متقرّر منذ القدم،مع تكراره بقوله بعده: يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ

د-و قال الطّباطبائيّ: «بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيئته تعالى محضا،حيث يخلق كلّ دابّة من ماء، ثمّ تختلف حالهم في المشي-إلى أن قال-و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثّلاثة-و فيهم غير ذلك- إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار».

ه:و قال مغنيّة:«...و محلّ الشّاهد في الدّابّة على قدرة اللّه و عظمته أنّ الماء عنصر أساسيّ في تكوين الدّابّة و تركيبها،و حقيقة الماء واحدة مع أنّ الدّابّة الّتي خلقت منه متنوّعة:فمنها من يمشي-إلى أن قال- إنّ الدّوابّ جميعا من أدنى نوع إلى أعلاه يسير على أكمل نظام،و يفعل ما يلائمه و يتّفق مع مصلحته.

و هذا دليل على أنّ وراء ذلك خالقا عظيما و مدبّرا حكيما».

و-و قال فضل اللّه:«فالماء أصل الحياة ترجع إليه كلّ الموجودات الحيّة بشكل مباشر أو غير مباشر، دون أن يعني ذلك وحدة الشّكل و الجوهر،بل التّنوّع في طبيعتها،و في أشكالها،و في وظيفتها في حركة الحياة،ممّا يوحي بعظمة القدرة الّتي تحقّق التّنوّع من موقع الوحدة».

ز-و نضيف نحن إلى ما ذكر:أنّ اللّه غلّب الإنسان على سائر الدّوابّ،فأتى ب(من)دون«ما»في جميع الأنواع،مع أنّ أكثرها من غير ذوي العقول،و هي أضعاف الإنسان أنواعا و أعدادا،تغليبا للأشرف على

ص: 673

غيره،دون الأكثر على الأقلّ.

الصّنف الثّامن عشر:خلق السّماوات و الأرض،أربع آيات،و كثير غيرها،لاحظ:أ ر ض:

«الأرض».

(101) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها...

لقمان:10

(102) وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ المؤمنون:17

(103) اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً...

الملك:3

(104) أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً نوح:15

لم يذكر في الأولى عدد السّماوات،بل نبّه على أنّها خلقت بغير عمد تراها،فلها عمد غير مرئيّة لنا، و هي القوّة الجاذبة النّاشئة من الشّمس،حسب ما أثبته علماء النّجوم.

و أكّد في الثّلاث الأخيرة عددها و هي سبع،مع تفاوت:فقيّدها في(102)ب سَبْعَ طَرائِقَ و في الأخيرتين ب(طباقا)،و معناهما واحد:

فقد قال الطّبرسيّ: «كلّ سماء طريقة،و سمّيت بذلك لتطارقها،و هو أنّ بعضها فوق بعض...».و قال (4:322):(طباقا)أي واحدة فوق الأخرى...».

الصّنف التّاسع عشر:خلق اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر آية واحدة مكّيّة:

(105) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ الأنبياء:33

و قد جاء في آيات أخرى اختلاف اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر فلاحظ:خ ل ف:«الاختلاف».

و الظّاهر أنّ جملة كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ راجعة إلى الشّمس و القمر دون اللّيل و النّهار،و إن احتمل شمولها لهما أيضا،فتكون إشارة إلى وجود اللّيل و النّهار في كلّ فلك تبعا لسبح الشّمس و القمر فيها.

الصّنف العشرون:اللّه خالق كلّ شيء،و هو الخلاّق العليم:ثمان آيات،و كلّها مكّيّ:

(106) ...وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً

الفرقان:2

(107 و 108) ...وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ...

الأنعام:101،102

(109) ...أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ الرّعد:16

(110) اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ الزّمر:62

(111) ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ المؤمن:62

(112) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ الحجر:86

(113) ...بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ يس:81

و فيها بحوث:

1-جاء«الخلق»فيها بخمس صيغ:(خلق)في الأوليين،و(خالق)في أربع بعدهما و(خلقوا)

ص: 674

و(خلق)،مرّتين في الرّابعة و(خلاق)في الأخيرتين.

و الفرق بينها أنّ(خلق)و إن كان ماضيا إلاّ أنّ الزّمان غير ملحوظ هنا،بل لوحظ نفس الخلق في أيّ زمان يقع.و(خالق)دالّ على الدّوام في جميع الأزمان.و كذلك(خلق)و أمّا(الخلاق)فصيغة مبالغة دالّ على كثرة خلقه و كثرة مخلوقاته،و على أنّ «الخلق»صفة ثابتة له تعالى.و سياق الجميع حصر الخلق باللّه،لأنّه إذا كان خالق كلّ شيء-كما في السّتّ الأولى-فلا يبقى شيء يخلقه غير اللّه،و لتعريف الخبر(هو الخلاق)في الأخيرتين.

2-لقد تكرّر كُلَّ شَيْءٍ في الثّانية: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فتعلّق أوّلهما ب(خلق)و ثانيهما ب(عليم)و كذا في الخامسة:

(110)و(كل شىء)في أوّلها متعلّق ب(خالق) و في آخرها ب(وكيل.)

و تكرّر«الخلق»في الرّابعة(109)أربع مرّات بثلاث صيغ:(خلقوا)و(خالق)كلّ منهما مرّة، و(خلق)مرّتين،و هذا تأكيد شمول خلق اللّه لكلّ شيء و نفيه عن غيره.

3-جاء تذييلا لخلق كلّ شيء في الأولى فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً و في الثّانية وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، و في الثّالثة فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ و في الرّابعة وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ و في الخامسة:(110) وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، و في السّادسة(111) لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و كلّها بيان لعموم علمه و قدرته و حكمته في خلق كلّ شيء،و ما يلزمه من الوحدة و التّوحيد صفة و عبادة له تعالى.

و أمّا في الأخيرتين فضمّ(العليم)إلى(الخلاق) تأكيدا لإتقان خلقه إلى جانب كثرته،و جاء(العليم) بدل«العلاّم»-و هو بمعناه-رعاية لفواصل الآيات المتّصلة بالأولى و المنفصلة عن الثّانية،فلاحظ.

4-لقد بحثوا كثيرا في خلق أعمال العباد ذيل الآيات،دفاعا للأشاعرة أو المعتزلة،فلاحظ النّصوص و لا سيّما نصّ الفخر الرّازيّ ذيل الرّابعة، و هو الّذي يدافع بشدّة عن أتباع مذهبه:الأشاعرة في هذه المسألة و غيرها،و قد سبق بعضها.

هذه آراء جماعة من المتكلّمين،غير الإماميّة و سيأتي رأيهم.و أمّا الفلاسفة و من أخذ بآرائهم من المفسّرين مثل صدر المتألّهين و العلاّمة الطّباطبائيّ، فإنّهم ملتزمون بسراية سلسلة العلل و المعاليل في كلّ شيء حتّى ينتهي إلى اللّه،و من ذلك أفعال العباد،كما صرّح به الطّباطبائيّ عند بحثه في تفسير آيات«ان الله خالق كل شيء»-و قد أوردنا نصّه بطوله-فإنّه عمّمها لذوات أفعال العباد،و استثنى منها أوصاف الحسن و القبح الّتي تعرض لهذه الأفعال،فإنّها أمور اعتباريّة عنده و تختلف بحسب الشّرائع و العادات، و ليست شيء منها ذاتيّة للأفعال،و بذلك دفع شبهة صدور القبائح عن اللّه تعالى،و هذا عين ما اختاره الأشاعرة-القائلين بأنّ أفعال العباد من خلق اللّه- فإنّهم يسمّونه«كسبا»

و كانت للعلاّمة الطّباطبائيّ أبحاث خاصّة في الاعتباريّات في دروسه-و قد حضرناها-و طبعت

ص: 675

باللّغة الفارسيّة في سلسلة كتب له،و نحن قد أردنا بهذا البحث الموجز أن ننبّه على أنّ أفعال العباد عند الشّيعة الإماميّة ليست مخلوقة للّه،بل،هي ناشئة عن اختيارهم،الّذي فوّضه اللّه لهم محدودا بأن لا يمنعهم عن فعلهم أو عن مشيئتهم فله تعالى أن يحيل بينهم و بينهما و هذا معنى«الأمر بين الأمرين»أي بين الجبر و الاختيار فالإمامية ليسوا مجبّرة كالأشاعرة و لا مفوّضة كالمعتزلة.

و أنّ تلك الآيات لا تشمل أفعال العباد رأسا و بذلك ترتفع شبهة صدور القبائح عن اللّه،نعم كلام العلاّمة الطّباطبائيّ أنّ في أوصاف تلك الأفعال حسنا و قبحا أمور اعتباريّة حقّ في نفسه.

الصّنف الواحد و العشرون:اللّه يخلق ما يشاء:ثمان آيات،و الثّلاث الأولى مدنيّة و الباقي مكّيّ.

(114) ...قالَ كَذلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:47

(115) ...يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ المائدة:17

(116) ...يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ النّور:45

(117) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ...

القصص:68

و ذيل(35) يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ

(118) لَوْ أَرادَ اللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ الزّمر:4

(119) لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ

الشّورى:49

(120) ...يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فاطر:1

و فيها بحوث:

1-جاء في السّبع الأولى يَخْلُقُ ما يَشاءُ فعلا مضارعا دالاّ على الدّوام،دون الاستقبال،مثل (يزيد)في الأخيرة: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ، و(يشاء)في الجميع.فالأفعال الثّلاثة فيها للدّوام، و مثلها كثير في القرآن.

2-عقّب(ما يشاء)في الأولى بما دلّ على قدرته و اختياره و مضيّ أمره: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و في الثّانية و الثّالثة و الثّامنة بما دلّ على قدرته المطلقة: اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، و في الرّابعة بما دلّ على اختياره: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ، و في الخامسة بما دلّ على منتهى علمه و قدرته: وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ، و كلاهما صيغة مبالغة.و في السّادسة بما دلّ على وحدته و قهره:

سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ، و تعريف الخبر فيها يفيد الحصر.و في السّابعة بما دلّ على اختياره في جعل الولد أناثا و ذكورا: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، و عبّر عن خلقها ب(يهب)إشعارا بأنّهما هبة من اللّه،مع تقديم(اناثا)و تنكيره، و تأخير(الذكور)و تعريفه،و في كلّها نكات.

أمّا في الأخيرة فنبّه على أنّه يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما

ص: 676

يَشاءُ لأنّ ما قبلها: ...جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ أي يزيد في عدد أجنحتها ما يشاء.

3-فقد دلّت هذه الآيات على ملازمة اختيار اللّه في مشيئته.لقدرته المطلقة و علمه المحيط و رحمته الواسعة.

الصّنف الثّاني و العشرون:الخلق بالحقّ من دون تفاوت:ستّ آيات،و كلّها مكّيّ سوى الثّالثة:

(121) ...ما خَلَقَ اللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يونس:5

(122) ...ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ الدّخان:39

(123) ...وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ آل عمران:191

(124) أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ المؤمنون:115

(125) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ

الواقعة:57

(126) اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ الملك:3

و فيها بحوث:

1-الكلام في الحقّ و الباطل طويل،لاحظ:«ح ق ق،و:ب ط ل»،و أمّا العبث و التّفاوت فنكتفي هنا بما ذكره الطّبرسيّ و نوكل التّفصيل إلى:ع ب ث:

«عبثا»،و:ف و ت:«تفاوت».

قال الطّبرسيّ في(124) خَلَقْناكُمْ عَبَثاً: «أي لعبا و باطلا لا لغرض و حكمة أ يحسب الإنسان أن يترك سدى...».

و قال في(126) فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ:

«أي اختلاف و تناقض من طريق الحكمة بل أفعاله كلّها سواء في الحكمة،و إن كانت متفاوتة في الصّور و الهيئات...».

2-جاء«الخلق»فعلا ماضيا في الجميع،و مصدرا في الثّالثة(123)و الأخيرة: خَلْقِ السَّماواتِ و خَلْقِ الرَّحْمنِ. و المصدر مضاف في أولاهما إلى المفعول،و في الأخيرة إلى الفاعل.

3-جاءت الجملة الفعليّة في الأوليين بصورة الاستثناء نفيا و إثباتا: ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ تأكيدا للحقّ،و جاء تأكيده في الثّالثة في سياق الدّعاء:

رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً بعد التّفكّر،و في الرّابعة (132)بصورة الاستفهام الإنكاريّ: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، و في الخامسة(132)بصورة التّوبيخ على عدم التّصديق: فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ، و في السّادسة بصورة النّفي المطلق: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ، و حرف(من)فيها تسجيل لنفي التّفاوت و النّقص في خلقه.

4-جاء خلق اللّه في الأولى فعلا مفردا منسوبا إلى لفظ الجلالة،و جاء في ثلاث-الثّانية و الرّابعة و الخامسة-(خلقنا)منسوبا إلى ضمير الجمع،و في الثّالثة فعل خطاب مفرد(خلقت)بعد توجيه الخطاب

ص: 677

إلى اللّه جمعا(ربّنا)،و في الأخيرة مصدرا مضافا إلى (الرّحمن) خَلْقِ الرَّحْمنِ و كلّ ذلك تأكيد أنّ خلقه تعالى حقّ كلّه و خير لا نقص فيه أصلا،و أنّ مصدره رحمة اللّه تعالى.

الصّنف الثّالث و العشرون:تغيير خلق اللّه، و النّكس في الخلق،آيتان،مكّيّة و مدنيّة:

(135) ..وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ... النّساء:119

(136) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ يس:68

و فيهما بحوث:

1-الأولى ذمّ لتغيير النّاس خلق اللّه و أنّه من تلقاء الشّيطان،و أمره إيّاهم بذلك،و قبلها و بعدها:

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً* لَعَنَهُ اللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً* وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً* يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً، و كلّها بيان لطرق إضلال الشّيطان النّاس.

و الثّانية مدح للّه بقدرته على نكس هذا الإنسان الّذي وصف اللّه نفسه حين خلقه ب أَحْسَنُ الْخالِقِينَ و ذلك بأن يعمّره اللّه فينكّسه في خلقه أي في جسمه و في مقدوراته.و جاء قبلها: وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنّى يُبْصِرُونَ * وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ و كلّها بيان لقدرته تعالى على تشويش خلق الإنسان لو شاء.

2-و الآية الأولى مدنيّة،و لكنّها من تتمّة آية ذمّ الشّرك،فقد جاء قبلها: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً* إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً. ثمّ ذكر طرق إضلال الشّيطان كما تقدّم.و عليه فيبدو أنّ الشّرك كان موجودا في المدينة كما كان في مكّة و بنفس أساليبها و عاداتها.فهذه الآيات بمثابة شرح ما سبقتها من الآيات المكّيّة في إبطال الشّرك،و ما نشأ عنها من العادات و التّقاليد الشّيطانيّة.

3-قالوا في بيان فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ فليغيّرنّ خلق اللّه من البهائم بإخصائهم إيّاها-،و فيه نزلت الآية عند ابن عبّاس،و يؤيّده: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ -و هو فقء عين الحامي و إعفاؤه عن الرّكوب،و الوشم،و قشر الوجه-و اختاره الحسن -و دين اللّه،و اختاره الطّبريّ و الطّوسيّ احتجاجا ب فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الرّوم:30

و سياق الآية تشديدا في الإنكار يناسب الوجه الأخير-أي الدّين-دون سائر الوجوه،إلاّ ما نصّ عليه في الآية: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ. و يوافقه ما حكاه الزّجّاج:«قيل:إنّ معناه:أنّ اللّه خلق الأنعام ليركبوها و يأكلوها،فحرّموها على أنفسهم،و خلق الشّمس و القمر و الأرض و الحجارة سخرة للنّاس

ص: 678

ينتفعون بها،فعبدها المشركون،فغيّروا خلق اللّه-أي دين اللّه-لأنّ اللّه فطر الخلق على الإسلام،خلقهم من بطن آدم كالذّرّ،و أشهدهم أنّه ربّهم فآمنوا،فمن كفر فقد غيّر فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها».

و قد عمّمها ابن عطيّة فقال:«و ملاك تفسير هذه الآية أنّ كلّ تغيير ضارّ فهو في الآية،و كلّ تغيير نافع فهو مباح».

و قد قسّم الفخر الرّازيّ تغيير دين اللّه-و قد اختاره هو في معنى الآية كما سبق-إلى قسمين:

الأوّل:الكفر بما فطر النّاس عليه من التّوحيد،و الثّاني:

تبديل الحلال حراما و الحرام حلالا.إلى أن أضاف وجها آخر من تخريج الآية،و هو أنّ دخول الضّرر و المرض في الشّيء على ثلاثة أوجه:التّشويش، و النّقصان،و البطلان،فادّعى الشّيطان إلقاء أكثر الخلق في المرض على إحدى هذه الوجوه،فأشار اللّه في الآية إليها ب لَأُمَنِّيَنَّهُمْ إلى التّشويش و هو مرض روحانيّ،و إلى النّقصان ب لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ و إلى البطلان ب وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ لأنّ التّغيير يوجب البطلان،فلاحظ كلماتهم،و هي كالمكرّرة.

الصّنف الرّابع و العشرون:خلق اللّه و خلق غير اللّه:عشر آيات،و كلّها مكّيّ،و سياقها جميعا نفي الشّرك للّه في خلقه،أو في ألوهيّته

(129) هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لقمان:11

(130) مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ المؤمنون:91

(131) ...أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ... الرّعد:16

(132) أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ الأعراف:191

(133) وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ النّحل:20

(134) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ... الفرقان:3

(135) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً... العنكبوت:17

(136) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ

الطّور:35

(137) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ

الصّافّات:125

قد قلنا:إنّها جميعا في نفي الشّريك للّه في خلقه أو في ألوهيّته،فهي قسمان:

القسم الأوّل:ما دلّ على نفي الشّرك للّه في خلقه، و لازمه نفي الشّريك له في عبادته،كما صرّح به في بعضها.و يشمل هذا القسم الثّمان الأولى،فقد أنكر اللّه فيها صريحا أو إيماء لآلهتهم الّذين يعبدونها أن يخلقوا شيئا،فقال في الأولى-بعد ذكر خلق اللّه السّماوات و الأرض و ما فيها من الدّوابّ و النّبات-: هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، أي ما يعبدونها من الأصنام لم يخلقوا شيئا،و إنّهم في عبادتهم إيّاها

ص: 679

يرتكبون ظلما مبينا.

و قال في الثّانية: وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ...، أي ليس هناك مع اللّه إله آخر خلق مثل خلق اللّه حتّى يشتبه الأمر على المشركين حيث اتّخذوا هذا الإله الآخر إلها فعبدوه.

و قال في الرّابعة: أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ، و نحوها في الخامسة و السّادسة،فقابل اللّه فيها بين آلهتهم الّتي لم يخلقوا شيئا و هم مخلوقون، و بين اللّه الخالق لكلّ شيء،فصرّح فيها بالشّطر الأوّل و هو عدم خلقهم شيئا و هم مخلوقون،و قدّر الشّطر الثّاني و هو أنّ اللّه خالق.

و قال في السّابعة: أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا فركّز على الموازنة بين خلقتهم،و ما خلق اللّه من السّماوات و الأرض،فإنّها أشدّ و أقوى من خلقهم.

و قال في الثّامنة: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ، فركّز على أنّ اللّه خلقهم دون أن يكونوا خلقوا من غير خالق أم هم خلقوا أنفسهم.و هاتان الآيتان محتملتان لنفي الشّرك الّذي ارتكبوه،أو رفض ما أنكروه من البعث بعد الموت،و لا يستفاد من سياقهما سوى أنّهم مخلوقون للّه تعالى،و هذا أقرب إلى إثبات التّوحيد.

أمّا القسم الثّاني:فالآيتان الأخيرتان: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً و أَ تَدْعُونَ بَعْلاً، فإنّهما إنكار و تنديد للشّرك في العبادة،و لا مساس لهما بالشّرك في الخلق.و قوله في الأولى: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً، أي تكذبون في أنّ الأصنام آلهة،أو أنتم تصنعونها و تسمّونها آلهة.

الصّنف الخامس و العشرون:اللّه أحسن الخالقين:آيتان مكّيّتان

(ذيل 22) ...ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المؤمنون:14

137 أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ

الصّافّات:125

و فيهما بحوث:

1-كلاهما وصف اللّه تعالى أولاهما مدح بليغ لخلق الإنسان،و الثّانية ذمّ بليغ لصنع النّاس حيث بدّلوا عبادة أحسن الخالقين بعبادة«بعل»،فقد جاء قبلها و بعدها: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ* أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ* اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. فما هو وجه المناسبة بين هذين الأمرين:خلق الإنسان و عبادة«بعل»الوجه الّذي أوجب فيهما توصيف اللّه بهذا الوجه الجليل:

أَحْسَنُ الْخالِقِينَ؟

فيخطر بالبال أنّهما نقطتان متقابلتان-مدحا و ذمّا-كبيرتان أمام اللّه تعالى،فإنّه في الأولى جاء عقيب فَتَبارَكَ اللّهُ مدحا للّه،و في الثّانية عقيب أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ ذمّا للمشركين.

و إحداهما-و هو خلق الإنسان-تعبير أوج الخلقة،فإنّ اللّه تعالى خلق العالم و خلق فيه الإنسان كالنّتيجة للخلقة،فوصف نفسه في خلقه ب(احسن)

ص: 680

اَلْخالِقِينَ، كما أنّه خلق الإنسان لمعرفته و عبادته وحده،كما قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ الذّاريات:56،فجاء في الحديث:«أي يعرفوه فإذا عرفوه عبدوه».فخلق الإنسان أعلى و أغلى خلق اللّه،كما أنّه خلق أيضا في أحسن تقويم:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4، و لازمه أن يكون غاية خلقه و الغرض منه أعلى الغايات،فاللّه أحسن الخالقين في خلق الإنسان و أحسن الخالقين في عبادته إيّاه.فهذه المناسبة اللّطيفة أوجبت توصيف اللّه ب أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.

2-لقد بحثوا كثيرا في أنّ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ يقتضي تعدّد الخالقين،فهل هناك خالقون غير اللّه؟

و قد استدلّت المعتزلة بها على أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم،و قد أشكل الأمر على الأشاعرة فبسطوا القول في تأويلها،و أكثرهم تأكيدا به الفخر الرّازيّ حيث أجاب عنها بوجوه.لاحظ:«خلق كلّ شيء»، و«خلق الإنسان من طين».

3-قال القشيريّ: «...خلق السّماوات و الأرضين بجملتها،و العرش و الكرسيّ،مع المخلوقات من الجنّة و النّار بكلّيّتها.ثمّ لمّا أخبر بذلك لم يعقّبه بهذا التّمدّح الّذي ذكره بعد نعت خلقه بني آدم تخصيصا لهم و تمييزا،و إفرادا لهم من بين المخلوقات».

و نقول:إنّه خصّ خلق الإنسان بهذا الوصف،لأنّ الإنسان أقرب إليه بنفسه و بخلقته من كلّ شيء.

المحور الثّاني:الخلاق أربع آيات،و كلّها مدنيّ:

(138) ...وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ... البقرة:102

(139) ...فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ البقرة:200

(140) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ آل عمران:77

(141) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ التّوبة:69

و فيها بحوث:

1-أكثرهم قالوا:الخلاق:النّصيب،و حكى الطّبريّ اختلافهم في معناه:الخلاق:النّصيب،الحجّة، الدّين،القوام-و غيره أضاف«الخلاص»-ثمّ عدّ أولاها بالصّواب:النّصيب،لأنّه معناه في كلام العرب.

2-و اختصاص هذه اللّفظة بالمدنيّات حيث جاءت في أوّل سورة مدنيّة-و هي البقرة-و في آخرها و هي التّوبة عند كثير منهم-فتطمئنّ النّفس بأنّها اصطلاح مدنيّ.

3-و قد جاءت فيها جميعا ذمّا و عقوبة:إمّا في الآخرة،كما صرّح بها في الثّلاث الأولى بنفي «الخلاق»منهم في الآخرة،أو في الدّنيا كما في الأخيرة،فقد كرّر«الخلاق»فيها ثلاث مرّات تنديدا،

ص: 681

و كلّها في النّصيب السّوء في الدّنيا.

4-و هناك قول بإرجاع(خلاق)إلى معنى «الخلق»،فقد حكى الفخر الرّازيّ عن القفّال أنّه قال:

«يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق و معناه:

التّقدير،و منه خلق الأديم،و منه يقال:قدّر للرّجل كذا درهما رزقا على عمل كذا».

المحور الثّالث:الخلق آيتان مكّيّتان:

(142) وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم:4

(143) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ* إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ* وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ الشّعراء:136-138

و فيهما بحوث:

1-الأولى خاصّة بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله دالّة على نهاية المدح؛حيث وصفه اللّه ب خُلُقٍ عَظِيمٍ، و الثّانية خاصّة بقوم عاد دالّة على نهاية الذّمّ؛حيث قالوا في جواب دعوة نبيّهم هود: سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ* إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ* وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.

2-قال الماورديّ-و نحوه الطّبرسيّ-:«و حقيقة الخلق في اللّغة،هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب،سمّي خلقا لأنّه يصير كالخلقة فيه.فأمّا ما طبع عليه من الآداب فهو الخيم،فيكون الخلق الطّبع المتكلّف،و الخيم هو الطّبع الغريزيّ».

و قال الفخر الرّازيّ-و نحوه الطّباطبائيّ-:

«الخلق ملكة نفسانيّة يسهّل على المتّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة.و اعلم أنّ الإتيان بالأفعال الجميلة غير،و سهولة الإتيان بها غير،فالحالة الّتي باعتبارها تحصل تلك السّهولة هي الخلق».

و قال ابن عاشور:«و الخلق:طباع النّفس،و أكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم يتبع بنعت».

و قال مكارم الشّيرازيّ: «(خلق)من مادّة «الخلقة»بمعنى الصّفات الّتي لا تنفكّ عن الإنسان، و هي ملازمة له،كخلقة الإنسان».

و يظهر منه إرجاع«الخلق»إلى«الخلق»،و أنّها غير مكتسبة بل ما طبع عليه الإنسان.و هذا خلاف ما سبقه من الأقوال،فلاحظ.

3-فسّروا«الخلق»بالدّين و الإسلام و الأدب و الشّرع،و الطّبع و أدب القرآن،و أحسنها الأخلاق.

4-لقد أطال المفسّرون بيانا ل خُلُقٍ عَظِيمٍ في أخلاق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و روى أكثرهم حديث أمّ المؤمنين عائشة:«كان خلقه القرآن»،و هذا أوجزها و أجمعها.

و في حديث آخر عنها:«ما تضمّنه العشر الأول من سورة المؤمنون».و يقال:ما جاء في قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف:

199.

و قال القشيريّ: «اجتمعت فيه متفرّقات أخلاق الأنبياء».

و قال الزّمخشريّ: «استعظم خلقه لفرط احتماله الممضّات من قومه و حسن مخالقته و مداراته لهم».

و قد جمع الفخر الرّازيّ-كعادته-ما قيل فيها، و من جملتها:«إنّ اللّه تعالى وصف ما يرجع إلى قوّته النّظريّة بأنّه عظيم،فقال: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ

ص: 682

وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً النّساء:113،و وصف ما يرجع إلى قوّته العمليّة بأنّه عظيم فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوّتين شيء...».

و قد عدّد الفيروزآباديّ فيها الصّفات الجميلة و آثارها المطلوبة،فلاحظ.

و قال أبو السّعود:«لا يدرك شأوه أحد من الخلق، و لذلك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله البشر».

و حكى البروسويّ عن بعضهم:لكونك متخلّقا بأخلاق اللّه،و أخلاق كلامه القديم،و متأيّدا بالتّأييد القدسيّ...».و قد أطال الكلام فيها.و حكى عن بعض العارفين:

لكلّ في الأنام فضيلة

و جملتها مجموعة لمحمّد

و عن الجاميّ:

بود هم بحر كرمت هم كان

گوهرش كان خلقه القرآن

و حكى عن«التّأويلات النّجميّة»:«كان خلقه القرآن،بل كان هو القرآن،كما قال العارف بالحقائق:

أنا القرآن و السّبع المثاني

و روح الرّوح لا روح الأواني

[إلى أن قال:]

يقول الفقير:كان خلقه عظيما،لأنّه مظهر العظيم، فكان خلق العظيم عظيما».و حكى كلمات أخرى عن آخرين،فلاحظ.

و قال سيّد قطب:«و تتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثّناء الفريد على النّبيّ الكريم،و يثبت هذا الثّناء العلويّ في صميم الوجود،و يعجز كلّ قلم،و يعجز كلّ تصوّر،عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربّ الوجود،و هي شهادة من اللّه،في ميزان اللّه...».

و قد أطال الكلام إلى أن قال:«إنّه محمّد-وحده -هو الّذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة...».

و قد تمثّلت هذه الأخلاقيّة الإسلاميّة بكمالها و جمالها و توازنها و استقامتها و اطّرادها و ثباتها في محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و تمثّلت في ثناء اللّه العظيم،و قوله: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

و قال ابن عاشور:«و الخلق العظيم:هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق،و هو البالغ أشدّ الكمال المحمود في طبع الإنسان،لاجتماع مكارم الأخلاق في النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فهو حسن معاملته النّاس على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة،فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن».

و قال الطّباطبائيّ: «و الآية و إن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلّى اللّه عليه و آله و تعظّمه،غير أنّها بالنّظر إلى خصوص السّياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعيّة المتعلّقة بالمعاشرة،كالثّبات على الحقّ و الصّبر على أذى النّاس،و جفاء أجلافهم و العفو و الإغماض و سعة البذل و الرّفق و المداراة و التّواضع و غير ذلك،و قد أوردنا في آخر الجزء السّادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه صلّى اللّه عليه و آله».

و قال عبد الكريم الخطيب في ارتباطها لما قبلها:

«هو تقرير لما تضمّنه قوله تعالى: وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ

ص: 683

مَمْنُونٍ القلم:3،فهذا الأجر غير الممنون،هو ثمرة لهذا الخلق العظيم،الّذي كان عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و حسب رسول اللّه بهذا الوصف الكريم،من اللّه سبحانه...».

و لاحظ كلام مغنيّة و فضل اللّه أيضا في توصيف «الخلق العظيم»له عليه السّلام.

هذا موجز الكلام في الآية الأولى،و أمّا الثّانية و هي: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ففيها بحوث أيضا:

1-حكى الطّبريّ-كغيره-اختلاف القراءة فيها:

(خلق)و عدّها أولى بالصّواب،و(خلق).كما حكى اختلاف تأويلها ب«دين الأوّلين و عادتهم»و اختاره أو«كذب الأوّلين و أساطيرهم و اختلاقهم».

و قد خصّ الزّجّاج المعنى الأوّل بالقراءة الأولى، و الثّانية بالقراءة الثّانية،و تبعه الطّوسيّ و أضاف:

«و قال بعضهم:المعنى في(خلق الأوّلين):خلق أجسامهم،و أنكروا أن يكون المعنى إلاّ كذب الأوّلين، لأنّهم يقولون: ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ المؤمنون:24،و ليس الأمر على ما ظنّه،لأنّهم قد سمعوا بالدّعاء إلى الدّين،و كانوا عندهم كذّابين، فلذلك قال: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ الشّعراء:123، و قال: إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام:25، و إنّما قالوا: ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ المؤمنون:24،أي ما سمعنا أنّهم صدّقوا بشيء منه،أو ذكروا آية حقّ و صواب،بل قالوا:باطل،و خطأ.[إلى أن قال:]

ثمّ قالوا:ليس هذا الّذي تدعوه إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي كذبهم،فيمن فتح الخاء.و إلاّ عادة الأوّلين و خلقهم...».ثمّ نقل معنى«الخلق»عن أهل اللّغة،فلاحظ.

2-و اختلفوا أيضا في معنى«الخلق»هنا-كالآية الأولى-:الدّين،و الطّبع،و المروءة،و نحوها.

و المناسب هنا بقرينة السّياق الكذب،كما سبق.

3-قال ابن عاشور-و نحوه الطّباطبائيّ-:

«و جملة إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تعليل لمضمون جملة سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ الشّعراء:136،و الإشارة ب(هذا)إلى شيء معلوم للفريقين حاصل في مقام دعوة هود إيّاهم...».

4-و قال فيها أيضا-كالآية الأولى-:«فإذا أطلق عن التّقييد انصرف إلى الخلق الحسن،كما قال الحريريّ في«المقامة التّاسعة»:«و خلقي نعم العون، و بيني و بين جاراتي بون»أي في حسن الخلق،ثمّ ذكر معنى الخلق عند الحكماء فلاحظ.

5-و احتمل في معنى الآية أنّهم أرادوا مدحا لأنفسهم بأنّ أحوالهم هي خلق أسلافهم و أسوتهم، كما احتمل أنّهم أرادوا بها أنّ ما يدعوهم إليه النّبيّ عليه السّلام هو خلق أناس قبلهم،كما قال مشركو قريش:

إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام:25.و هذا هو الظّاهر عندنا.

المحور الرّابع:المخلّقة،آية واحدة مختلف فيها نزولا:

(17) يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ

ص: 684

مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... الحجّ:5

و فيها بحوث:

1-لم يأت في القرآن(مخلقة)إلاّ مرّتين في هذه الآية من سورة الحجّ المختلف فيها نزولا مكّيّا و مدنيّا، فيحتمل اختصاص هذه الكلمة بإحدى المدينتين.

2-ليست المخلّقة بمعنى الخلق،بل بمعنى آخر من هذه المادّة،إلاّ بناء على ما نقله الطّبرسيّ(4:471) عن ابن عبّاس و قتادة قالا:«تامّة الخلق و غير تامّة الخلق»و عليه فالمخلّقة من«التّفعيل»و هذا الباب قد يأتي بمعنى الكامل في مادّته مثل«قطّع»و يرجع إليه ما حكاه الطّبرسيّ بعدها:«و قيل:مصوّرة و غير مصوّرة،و هي ما كان سقطا لا تخطيط فيه و لا تصوير، عن مجاهد».

و هي بمعنى آخر-بناء على ما قال الفخر الرّازيّ- :«المخلّقة:المسوّاة الملساء السّالمة من النّقصان و العيب.يقال خلق السّواك و العود،إذا سوّاه و ملّسه؛ من قولهم:صخرة خلقاء،إذا كانت ملساء».

3-و هي وصف ل(مضغة)و هي آخر مراحل خلقة الإنسان قبل نفخ الرّوح فيه،و لا توصف النّطفة و العلقة بهما،لأنّهما لم يبلغا مبلغا مستعدّا للتّمام و النّقصان.

4-و قد ذكر الفخر الرّازيّ في تفسيرها أقوالا:

أوّلها:التّامّة و النّاقصة-و هي راجعة إلى معنى الخلق-و قال:فتبع ذلك التّفاوت،تفاوت النّاس في خلقهم و صورهم و طولهم و قصرهم و تمامهم و نقصانهم.

و ثانيها:المخلّقة:الولد الّذي يخرج حيّا،و غير المخلّقة:السّقط،و هو قول مجاهد.

و ثالثها:المخلّقة:المصوّرة،و غير المخلّقة،أي غير المصوّرة،و هو الّذي يبقى لحما من غير تخطيط.

المحور الخامس:الاختلاق آية واحدة مكّيّة:

(144) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ص:7

قالوا:الاختلاق:الكذب و التّخرّص.يقال:خلق و اختلق،أي ابتدع.و قد حكى البروسويّ عن المفردات:«و كلّ موضع استعمل فيه الخلق في وصف الكلام فالمراد به الكذب،و من هذا امتنع كثير من النّاس إطلاق لفظ الخلق على القرآن،و على هذا، قوله: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ».

و أرجعه بعضهم إلى معنى«الخلق».قال القرطبيّ:

«و خلق اللّه عزّ و جلّ الخلق من هذا،أي ابتدعهم على غير مثال».

و لم يأت«الاختلاق»في القرآن إلاّ مرّة واحدة في سورة مكّيّة فلعلّه اصطلاح مكّيّ.

و يلاحظ ثانيا:أنّ هذا العدد الكبير:(144)آية في مادّة:«خ ل ق»بما لها من المحاور الخمسة،يحكي عن اهتمام القرآن بمسألة الخلق،و هو من أبرز مظاهر قدرة اللّه و علمه و حكمته،كما أنّه من أظهر أدلّة توحيده خالقا و إلها.و 18 منها مدنيّة و 4 مختلف فيها.و الباقي و هي 122 آية مكّيّة،و كما قلنا كرارا مكّة كانت دار الشّرك،فالتّأكيد فيها بما يدعو إلى توحيد اللّه أوقع و ألزم.

ص: 685

و قد عمّ الخلق جميع الكائنات،و من أعظمها خلق الإنسان الّذي وصف اللّه نفسه في خلقه ب أَحْسَنُ الْخالِقِينَ كما وصف نفسه به في التّحريص على عبادته وحده،لأنّها الغرض من خلقه.

و ثالثا:جاءت بعض نظائر هذه المادّة في القرآن، و هي:

[بعض نظائر هذه المادّة في القرآن]
الخلق:النّاس:

الأنام: وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ الرّحمن:10

العالم: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الفاتحة:2

البريّة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البيّنة:7

الخلق:الصّنع:

الإنشاء: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ الملك:23

الإبداع: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

البقرة:117

الخلق:التّسهيل:

التّسخير: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ الحجّ:65

التّذليل: وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ يس:72

الخلق:القياس:

التّقدير: وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ

فصّلت:10

الخلق:المين و الكذب:

الافتراء: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً النّساء:48

الكذب: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللّهِ

الزّمر:32

الزّور: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ الحجّ:30

البهتان: ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ النّور:16

الإفك: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ النّور:11

الخرص: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ الأنعام:148

التّقوّل: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ الحاقّة:44،45

التّفنيد: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ

يوسف:94

الحظّ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ النّساء:11

النّصيب: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ النّساء:7

الكفل: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها النّساء:85

الخلق:العادة:

الجبلّة: وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ

الشّعراء:184

الفطرة: فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها

الرّوم:30

ص: 686

خ ل ل

اشارة

8 ألفاظ،13 مرّة:8 مكّيّة،5 مدنيّة

في 11 سورة:7 مكّيّة،4 مدنيّة

خلّة 1:-1 خلالهما 1:1

خلال 2:2 خلالكم 1:-1

خلاله 2:1-1 خليلا 3:1-2

خلالها 2:2 الاخلاّء 1:1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الاختلال من«الخلّ»الّذي يتّخذ من عصير العنب و التّمر.

و الخلّ:طريق نافذ بين رمال متراكمة سمّي به، لأنّه يتخلّل،أي ينفذ.

و الخلّ في العنق:عرق متّصل بالرّأس.

و الخلّ:الثّوب البالي،إذا رأيت فيه طرقا.

و خللت الثّوب و نحوه:أخلّه بخلال،أي شككته بخلال.

و الخلال:اسم خشبة أو حديدة يخلّ بها.

و الخلّ:خلول الجسم،أي تغيّره و هزاله.و رجل خلّ؛و جمعه:خلون،أي مهزولون.

و الخلل:منفرج ما بين كلّ شيئين.و خلل السّحاب:ثقبه،و هي مخارج مصبّ القطر،و الجمع:

الخلال،قال اللّه جلّ ذكره: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ النّور:43.

و خلال الدّار:ما حوالي جدرها،و ما بين بيوتها، و منه قوله جلّ و عزّ: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ الإسراء:5.

و تقول:رأيته خلل الدّناس.

و خلل كلّ شيء:ما بدا لك من بين كلّ شيء من نقبه،أي من جوبه.

و الخلل في الحرب و في الأمر كالوهن.

ص: 687

و الخلل:الرّقّة في النّاس.و الخلل:ما يبقى من الطّعام بين الأسنان،جماعته كالواحد.

و أخلّ بهم فلان،إذا غاب عنهم.و أخلّ الوالي بالثّغور،إذا قلّل الجند بها.

و نزلت به خلّة،أي حاجة و خصاصة.

و اختلّ إلى فلان،أي احتيج إليه،من الخلّة،و هي الحاجة.

و أخلّ بك فلان،إذا أدخل عليك الضّرورة.

و الخليل :الفقير الّذي أصابته ضارورة في ماله، و غير ذلك.

و اختللت:افتقرت.و اختللت إلى رؤيتك.أي اشتقت.

و الخلّة من النّبات:ما ليس بحمض.

و الخلّة:العرفج،و كلّ شجر يبقى في الشّتاء و هو مثل العلقى.

و خللته بالرّمح و اختللته:طعنته به.

و الخلّة:الخصلة؛و الجميع:الخلال،و الخلاّت.

و الخلّة:المرأة يخالّها الرّجل.

و الخلاّن:جماعة الخليل.و خاللته مخالّة و خلالا؛و الخلّة:الاسم.

و فلان خلّي،و فلانة:خلّتي،بمنزلة:حبّي و حبّتي.

و الخلّ:الرّجل الخليل.

و الخلال:البلح،بلغة أهل البصرة،و هو الأخضر من البسر قبل أن يشقح.الواحدة:خلالة.

و الخلّة:جفن السّيف المغشّى بالأدم؛و الجميع:

الخلل.

و المخلخل:موضع الخلخال.

و لسان الرّجل و سيفه:خليلاه في كلام العرب.

و الخلخال من الحليّ: ما تتخلخل به الجارية.

[و استشهد بالشّعر 5 مرّات](4:139)

ابن شميّل: الخلّة إنّما هي الأرض.و يقال:

أرض خلّة.

و خلل الأرض:الّتي لا حمض بها.

و لا يقال للشّجر خلّة،و لا تذكّر،و هي الأرض الّتي لا حمض بها،و ربّما كان بها عضاه،و ربّما لم تكن.

(الأزهريّ 6:568)

الخلل من داخل سير الجفن ترى من خارج؛ واحدها:خلّة،و هو نقش و زينة.(الأزهريّ 6:571)

الكسائيّ: الخلّ:الطّريق في الرّمل،و الخلّ:

الرّجل القليل اللّحم،و قد خلّ لحمه خلاّ و خلولا.

مثله الأصمعيّ.(الأزهريّ 6:570)

و حكي عن بعضهم:كان له ودّا و خلاّ.و أكثر ما سمعت ودّا و خلاّ.(إصلاح المنطق:36)

أبو عمرو الشّيبانيّ: قد خلّ جسمه يخلّ خلولا،إذا شفّه السّفر.

هم مخلّون من الرّبيع،إذا لم يصيبوا مربعا.

(1:226)

إنّ في درعك لخلّة فأصلحها،و هي السّقطة، يسقط بعض الحلق.(1:227)

و يقال:إنّها لخالّة اللّحم،أي قليلة اللّحم،و إن كانت سمينة:بيّنة الخلول.

ص: 688

و المخلول من الإبل:ابن مخاض،يخلّ في أنفه لئلاّ يرضع.

التّخليل:أن تتبع القثّاء و البطّيخ فتنظر كلّ شيء منه لم ينبت،وضعت آخر في موضعه،يقال:خلّلوا قثّاءكم.(1:233)

المخلّون:الّذين لا يرعون رمثا و لا حمضا،و هي تسمّى:الأكول.(1:234)

قد أخلّه الحزن،إذا أدقّه.

و إنّه لخلّ الجسم،أي دقيق الجسم.و إنّها لخلّة الجسم،للمرأة.(1:238)

الخلّة:ما لم يكن فيه ملح و لا حموضة.و الحمض:

ما كان فيه حموضة و ملوحة.(الأزهريّ 6:568)

و يقال:هذا فصيل خلّ:للّذي لم يصب ربيعا عامه،فهو أعجف،و يقال:هذا فصيل خلّ،أي سمين.

(الأضداد:196)

مثله الأصمعيّ.(الأضداد:43)

الفرّاء: الخلّة:الخمرة القارصة.

و الخلّة:الخصاصة في الوشيع،و هي الفرجة في الخصّ.

و الخلّة:الرّملة اليتيمة المنفردة من الرّمل.

(الأزهريّ 6:567)

الأصمعيّ: في حديث عبد اللّه:«عليكم بالعلم فإنّ أحدكم لا يدري متى يختلّ إليه».يقول:متى يحتاج إليه،و هو من الخلّة و الحاجة.

و أملّ عليّ أعرابيّ وصيّته،فقال:«و إنّ نخلاتي للأخلّ الأقرب»يعني الأحوج من أهل بيته.و كان الكسائيّ يذهب بذلك إلى«الخلّة».

و الخلّة من النّبات:ما أكلته الإبل من غير الحمض،و العرب تقول:الخلّة:خبز الإبل،و الحمض:

فاكهتها،و هو كلّ نبت فيه ملوحة،فإذا ملّت الخلّة حوّلت إلى الحمض لتذهب عنها تلك الملالة،ثمّ تعاد إلى الخلّة.(أبو عبيد 2:197)

يقال:فلان كريم الخلّة و الخلّ و المخالّة،أي كريم الإخاء و المصادقة.

فلان خلّتي و فلانة خلّتي،الذّكر و الأنثى فيها سواء.

الخلّ:القليل اللّحم.

الخليل: الفقير المحتاج.

الخلّة:ما حلا من النّبت.

و يقال:جاءت إبل بني فلان مختلّة أي قد أكلت الخلّة،و جاءوا مخلّين،إذا جاءوا و قد أكلت إبلهم الخلّة.

خلّ كساءه و ثوبه يخلّه خلاّ إذا شكّه بالخلال.

[و استشهد بالشّعر مرّتين](القاليّ 1:195)

الخلّة:الحاجة.و يقال:ما أخلّك إلى هذا؟أي ما أحوجك إليه؟

يقال لابنة المخاض:خلّة،و الذّكر:خلّ.

يقال للرّجل إذا مات له ميّت:اللّهمّ أخلف على أهله بخير،و اسدد خلّته،يريد الفرجة الّتي ترك.[ثمّ استشهد بشعر]

الخلّ:الخير،و الخمر:الشّرّ.(الأزهريّ 6:569)

تخلّلت القوم،إذا دخلت بين خللهم و خلالهم،

ص: 689

و منه تخلّل الأسنان.(الأزهريّ 6:572)

إذا أرادوا أن يمنعوا الفصيل من الرّضاع خلّوه:

أدخلوا في أنفه من داخل خلالا محدّد الرّأس،بأسفله حجنة.فإن لم يصنعوا ذلك،صرّوا أمّهاتها.

(الحربيّ 1:263)

إذا وضع البسر في الشّمس و نضج بالخلّ في حرّه، فذلك المعمق،و أهل نجد يسمّونه:المخلّل.

(الحربيّ 2:744)

[من أسماء رحاب الشّجر]:خلّة عرفج.

(ابن دريد 3:467)

اللّحيانيّ: يقال:خاللته مخالّة و خلالا.

يقال للمهزول القليل اللّحم:إنّه لخلّ الجسم و خليل الجسم و مختلّ الجسم.

الزق بالأخلّ فالأخلّ،أي بالأفقر فالأفقر.

و العرب تقول:الخلّة تدعو إلى السّلّة.

يقال:إنّ شراب بني فلان ليست بخمطة و لا خلّة، أي ليست بحامضة.و جمع خلّة:خلّ.و الخمطة:الّتي أخذت شيئا من الرّيح كريح النّبق و التّفّاح.

و يقال:خلّل الشّراب،إذا صار خلاّ،و كذلك كلّ شيء من الأشربة حمض فقد خلّل.

يقال:قد عمّ فلان و خلّ و خلّل،و المخلّل:الّذي يخصّ.

يقال:طعنته فاختللت فؤاده.

الخلّة:جفن السّيف،و جمعها خلل.

و يقال:وجدت في فمي خلّة فتخلّلت،و هو ما يبقى بين الأسنان من الطّعام؛و الجمع:خلل.

و يقال:أكل خلالته.

خلّل بين أصابعه بالماء و خلّل لحيته إذا توضّأ.

و يقال:خلّ الفصيل يخلّه خلاّ إذا جعل في أنفه عودا لئلاّ يرضع.

و الخلّ:الطّريق في الرّمل.

و الخلّ و الخمر:الخير و الشّرّ،يقال:ما لفلان بخلّ و لا خمر،أي ليس عنده خير و لا شرّ.[و استشهد بالشّعر 3 مرّات](القاليّ 1:196-197)

الخلالة:المخالّة.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:فيه خلّة صالحة و خلّة سيّئة.

(الأزهريّ 6:569)

قال أبو زياد:جاءوا بخلّة لهم،فلا أدري أعني الطّائفة من الخلّ،أم هي لغة فيه كخمر و خمرة؟

و يقال للخمر:أمّ الخلّ.[ثمّ استشهد بشعر]

(ابن سيده 4:510)

الخلّة يكون من الشّجر و غيره.

جاءت الإبل مختلّة،أي أكلت الخلّة،و اشتهت الحمض.(ابن سيده 4:512)

جلسنا خلال بيوت الحيّ،و خلال دور القوم،أي جلسنا بين البيوت و وسط الدّور.و كذلك يقال:سرنا خلل العدوّ و خلالهم،أي بينهم.(ابن سيده 4:513)

به خلّة شديدة،أي خصاصة.و حكي عن العرب:

اللّهمّ اسدد خلّته.

ما أخلّك اللّه إلى هذا؟أي ما أحوجك؟

ابن سيده 4:515)

إنّه لكريم الخلّ و الخلّة،كلاهما بالكسر،أي

ص: 690

المصادقة و الموادّة و الإخاء.(ابن سيده 4:516)

و المختلّ،كالخلّ.

و الخلّة:الأنثى من الإبل.(ابن سيده 4:518)

أبو عبيد: الخليل سمّي خليلا،لأنّه يخالّ صاحبه من الخلّة و هي الصّداقة.يقال منه:خاللت الرّجل خلالا و مخالّة.[ثمّ استشهد بشعر]

و عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:إنّما المرء بخليله،أو قال:على دين خليله،[شكّ أبو عبيد] فلينظر امرؤ من يخالّ،و كذلك القعيدة من المقاعدة، و الشّريب و الأكيل من المشاربة و المؤاكلة،و على هذا كلّ هذا الباب.(1:344)

في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ مصدّقا أتاه بفصيل مخلول في الصّدقة،فقال النّبيّ: انظروا إلى فلان أتانا بفصيل مخلول،فبلغه فأتاه بناقة كوماء».

قوله:المخلول:هو المهزول الّذي قد خلّ جسمه، و أظنّ أنّ أصل هذا أنّهم ربّما خلّوا لسان الفصيل لكيلا يرضع من أمّه متى شاء،حتّى يطلقوا عنه الخلال فيرضع حينئذ،ثمّ يفعلون به مثل ذلك أيضا فيصير مهزولا لهذا.و أمّا الكوماء،فإنّها النّاقة العظيمة السّنام.(1:415)

في حديث عبد اللّه:«عليكم بالعلم فإنّ أحدكم لا يدري متى يختلّ إليه».

[ذكر كلام الأصمعيّ و الكسائيّ فيه،و أضاف:] فأراد الكسائيّ بقوله:متى يختلّ إليه:متى يشتهي ما عنده كشهوة الإبل للخلّة.و قول الأصمعيّ في هذا أعجب إليّ و أشبه بالمعنى.[ثمّ استشهد بشعر](2:197)

الخلّ و الخمر:الخير و الشّرّ.يقال في مثل:ما فلان بخلّ و لا خمر،أي لا خير فيه و لا شرّ عنده.

(الأزهريّ 6:570)

و الخلل:جفون السّيوف،واحدها:خلّة.

الأزهريّ 6:571)

ليس من شيء من الشّجر العظام بحمض و لا خلّة.

(ابن سيده 4:512)

و أخلّت النّخلة،إذا أساءت الحمل.

(الجوهريّ 4:1689)

ابن الأعرابيّ: الخلّة من النّبات:ما كان حلوا من المرعى.

و الخلال أيضا جمع الخلّة،و هي الخصلة.يقال:

فلان كريم الخلال و لئيم الخلال،و هي الخصال.

و يقال،خلّ ثوبه بخلال يخلّه خلاّ فهو مخلول،إذا شكّه بالخلال.

و فصيل مخلول،إذا غرز خلال على أنفه لئلاّ يرضع أمّه،و ذلك أنّها تزبنه إذا أوجع ضرعها الخلال.

و الخلال:المخالّة و المصادقة.

الخليل: الحبيب،و الخليل :الصّادق،و الخليل :

النّاصح،و الخليل :الرّفيق،و الخليل :الأنف،و الخليل :

السّيف،و الخليل :الرّمح،و الخليل :الفقير،و الخليل :

الضّعيف الجسم؛و هو المخلول،و الخلّ أيضا.

(الأزهريّ 6:570)

الخلّة:بنت مخاض.

و يقال:أتانا بقرص كأنّه فرسن خلّة،يعني السّمينة.

ص: 691

اللّحم المخلول،هو المهزول.

و خلّ الرّجل،إذا احتاج.(الأزهريّ 6:573)

و الخلّة:هو من الشّجر خاصّة.(ابن سيده 4:512)

و الخلّ:الصّديق المختصّ؛و الجمع:أخلال.[ثمّ استشهد بشعر](ابن سيده 4:516)

و فلان ذو خلّة،أي مشته لأمر من الأمور.

ابن منظور 11:215)

أبو نصر الباهليّ: المختلّ الجسم:النّحيف الجسم يقال:ما أخلّك إلى هذا؟أي ما أحوجك إليه؟

يقال:في فلان خلّة حسنة،أي خصلة.

(القاليّ 1:196)

أخلّ بموعده،إذا لم يوف به.

الخلّة و الخلالة واحد:و هو ما يبقى بين الأسنان من الطّعام؛و الجمع:خلل.(القاليّ 1:197)

ابن السّكّيت: المخلّ مثل المقتر.يقال:أخلّ يخلّ إخلالا،و الاسم:الخلّة.(16)

[و رجل]مختلّ الجسم:ضامر الجسم.

و يقال:خلّ جسمه و هو يخلّ خلاّ و اختلّ أيضا اختلالا.(146)

[في باب صفة الخمر]هي الخمر و الشّمول و الخمطة و الخلّة.(211)

و يقال:للخمر:ليست بخمطة و لا خلّة.(216)

و يقال:صادقت الرّجل مصادقة،و خاللته مخالّة و خلالا،و بيني و بينه خلّة و خلّ و خلالة.

و يقال:هو خلّتي،أي صديقي،و هي خلّتي،و هو خليلي.[ثمّ استشهد بشعر](467)

و الخلّ:الطّريق في الرّمل.(471)

و هذه امرأة في رجلها خلخال...

الخلخال:ما كان من شيء من فضّة أو من غيرها، و أكثر ما يكون من قرون أو عاج.(655)

و الخلّ:خلّك الشّيء بالخلال.

و الخلّ:الّذي يصطبغ به.

و الخلّ:الخليل.

و الخلّ من الرّجال:المختلّ الجسم.

(إصلاح المنطق:6)

و يقال:ما أحبّ إليّ خلّة فلان،يعني مودّته و مؤاخاته و خلالته و خلالته و خلولته،مصدر خليل.[ثمّ استشهد بشعر](إصلاح المنطق:112)

و أرض مخلّة:كثيرة الخلّة ليس بها حمض.

(الجوهريّ 4:1687)

شمر:تخلّلت ديارهم:مشيت خلالها،و تخلّلت الرّمل،أي مضيت فيه.

و أخللت بالمكان و غيره،إذا تركته و غبت عنه.

و فلان مختلّ الجسم،أي نحيف الجسم.

و في رأي فلان خلل،أي فرجة.

و الخلال:البلح،و هي بلغة أهل البصرة؛واحدتها خلالة.

و في الحديث:«أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أتي بفصيل مخلول....»

المخلول:المهزول،و قيل:هو الفصيل الّذي خلّ أنفه،لئلاّ يرضع أمّه.و أمّا المهزول فلا يقال له:مخلول؛ لأنّ المخلول هو السّمين ضدّ المهزول،و المهزول:هو الخلّ و المختلّ.(الأزهريّ 6:572)

ص: 692

ابن بزرج:الخلل:ما دخل بين الأسنان من الطّعام،و الخلال:ما أخرجته به.[ثمّ استشهد بشعر]

مثله أبو عبيد.(الأزهريّ 6:571)

الدّينوريّ: و العرب تسمّي الأرض إذا لم يكن بها حمض خلّة،و إذا لم يكن بها من النّبات شيء يقولون:علونا أرضا خلّة،و أرضين خللا.

و العرب تقول:الخلّة خبز الإبل،و الحمض لحمها، أو فاكهتها،أو خبيصها،و إنّما تحوّل إلى الحمض إذا ملّت الخلّة.(ابن سيده 4:512)

[الخلالة]هي ما يبقى في أصول السّعف من التّمر الّذي ينتثر.(ابن سيده 4:513)

المبرّد: الخلّ:موضع،و أصله الطّريق في الرّمل.

(2:261)

ثعلب :ما له خلّ و لا خمر،أي ما له خير و لا شرّ.

(ابن سيده 4:511)

[في]حديث ابن مسعود:«تعلّموا القرآن فإنّه لا يدرى أحدكم متى يختلّ إليه».

يكون من شيئين:أحدهما من الخلّة الّتي هي الحاجة،أي متى يحتاج إليه،و يكون من الخلّة و هي النّبات الحلو،و يكون معناه:متى يشتهى ما عنده، مشبّه بالإبل،لأنّها ترعى الخلّة فإذا ملّتها عدلوا بها إلى الحمض،فإذا ملّت الحمض اشتهت الخلّة.

و من أمثالهم:«جاءوا مخلّين فلاقوا حمضا»أي جاءوا مشتهين لقتالنا فلاقوا ما كرهوا.

(أمالي المرتضى 2:185)

كراع النّمل:و الخلّ أيضا:الحمض.[ثمّ استشهد بشعر](ابن سيده 4:511)

الخلّة:الخصلة تكون في الرّجل.

(ابن سيده 4:515)

الزّجّاج: خلّ الجسم يخلّ،إذا نقص و دقّ.

و أخلّ الرّجل في الشّيء،إذا قصّر فيه.

و خللت يد فلان،أي قطعتها.

و أخللت الرّجل،أي أعرته ما ينتفع به من ناقة يركبها،أو فرس يغزو عليها.(فعلت و أفعلت:14)

و أخلّ القوم و هم مخلّون،إذا رعت إبلهم الخلّة، و هو ما فيه حلاوة من المرعى.(فعلت و أفعلت:46)

الخليل: المحبّ الّذي ليس في محبّته خلل.

و قيل للصّداقة:خلّة،لأنّ كلّ واحد منهما يسدّ خلل صاحبه في المودّة و الحاجة إليه.

و الخلّ:الّذي يؤتدم به يسمّى خلاّ،لأنّه اختلّ عنه طعم الحلاوة.(الأزهريّ 6:573)

ابن دريد :الخلّ:معروف عربيّ صحيح؛و في الحديث:«نعم الإدام الخلّ».

و الخلّ:الرّجل الخفيف النّحيف الجسم.

و الخلّ:الطّريق في الرّمل.

و الخلّ:عرق في العنق.

و الخلّ و الخليل واحد،و كذلك الخلّة و الخلّة أيضا.

و يقال:الخلّ و الخلّة،في المذكّر و المؤنّث.

و الخلّة:المودّة.

و الخلّ:مصدر خللت الشّيء أخلّه خلاّ،إذا جمعت سجوفه و أطرافه بخلال.

ص: 693

و أخللت بالرّجل،إذا خذلته في وقت حاجته.

و الخلّة؛و الجمع:خلل:بطائن كانت تغشّى بها أجفان السّيوف،تنقش بالذّهب و غيره.

و الخلّة:الحاجة.و الرّجل أخلّ و مختلّ.و في بعض كتب صدقات السّلف:«للأخلّ الأقرب».

و الخلّة:الخصلة.في فلان خلّة حسنة؛و الجمع:

خلال.

و الخليل :المحتاج.

و الخلّة:ضدّ الحمض.و إذا رعت الإبل الخلّة فأهلها مخلّون.

و مثل من أمثالهم إذا جاء الرّجل:متهدّدا قالوا له:

«أنت مختلّ فتحمّض».

و الخلّة:الخمر الحامضة،أو المتغيّر طعمها.

و الخلال:مصدر خاللته مخالّة و خلالا.

فأمّا الخليل فالّذي سمعت فيه أنّ معناه:أصفى المودّة و أصحّها.و لا أزيد فيه شيئا لأنّه في القرآن.[و استشهد بالشّعر 12 مرّة](1:68)

الخلل في الشّيء:الضّعف فيه.(3:189)

الهمذانيّ: تقول:لمّ فلان الشّعث،و ضمّ النّشر...

و أصلح الخلل...و سدّ الفرج و الخلل.

و الوصم،و الخلل،و الفساد،و الفتق:واحد.(1،2)

يقال:هما أخوا صفاء...و قريعا خلّة.(33)

يقال:القوم أودّاء و أحبّاء و أخلاّء و أصفياء و خلاّن و أخدان.(123)

ابن الأنباريّ: الخلّ:بطائن جفون السّيوف.

(71)

القاليّ: و الخلّة:الحاجة.و يقال للرّجل إذا مات:

اللّهمّ أخلف على أهله بخير و اسدد خلّته،يريد الفرجة.[ثمّ استشهد بشعر](1:196)

و يقال:فلان مختلّ الحال.

و العرب تقول:أنت مختلّ فتحمّض.(1:197)

قال شبيب بن شبّة لخالد بن صفوان:من أحبّ إخوانك إليك؟قال:من سدّ خللي،و غفر زللي،و قبل عللي.(1:198)

الأزهريّ: قال اللّيث:الاختلال من الخلّ،من عصير العنب و التّمر.

قلت:لم أسمع لغيره أنّه يقال:اختلّ العصير،إذا صار خلاّ،و كلامهم الجيّد:خلّل شراب فلان،إذا فسد،فصار خلاّ.

و الخلّة:الصّداقة.

و يقال:خاللت الرّجل خلالا.(6:567)

و الخلّة:كلّ نبت حلو.

و يقال:جاءت الإبل مختلّة،إذا أكلت الخلّة.

قلت:و من أطيب الخلّة عند العرب الحليّ و الصّلّيان،و لا تكون الخلّة إلاّ من العروة،و هو كلّ نبت له أصل في الأرض يبقى عصمة للنّعم إذا أجدبت السّنة،و هي العلقة عند العرب.و العرفج،و الحلمة من الخلّة أيضا.

و العرب تقول:الخلّة:خبز الإبل،و الحمض فاكهتها،و تضرب الخلّة مثلا للدّعة و السّعة،و يضرب الحمض مثلا للشّرّ و الحرب.[و نقل كلام ابن شميّل ثمّ قال:]

ص: 694

و لو أتيت أرضا ليس بها شيء من الشّجر،و هي جرز من الأرض،قلت:إنّها الخلّة.(6:568)

و خللت الكساء أخلّه خلاّ،إذا شددته بخلال.

(6:570)

و يقال:جلسنا خلال الحيّ و خلال دورهم،أي جلسنا بين البيوت،و وسط الدّور،و كذلك سرنا خلال العدوّ،أي بينهم.

و يقال:طعنته فاختللت فؤاده بالرّمح،أي انتظمته.

و يقال:اقسم هذا المال في الأخلّ فالأخلّ،أي في الأفقر فالأفقر.

و يقال:ثوب خلخال و هلهال و خلخل،إذا كانت فيه رقّة.(6:572)

الرّمّانيّ: [ردّا لقول أبي عليّ:«يقال للمؤمن إنّه خليل اللّه»قال:]

لا يقال ذلك إلاّ لنبيّ،لأنّ اللّه عزّ و جلّ يختصّه بوحيه،و لا يختصّ به غيره.و الأنبياء كلّهم أخلاّء اللّه.

(أبو هلال:236)

الصّاحب:الاختلال من الخلّ،من عصير العنب و التّمر.

و خلّل شراب فلان تخليلا:فسد.و«ما فلان بخلّ و لا خمر»أي لا خير عنده و لا شرّ.

و أمّ الخلّ:الخمر.

و الخلّ:الطّريق النّافذ بين الرّمال المتراكمة.

و التّخلّل:النّفاذ.

و الخلّ في العنق:عرق متّصل بالرّأس،و الثّوب البالي،و ولد المربع.

و خللت الشّيء أخلّه بالخلال،أي شككته.

و الخلال:اسم ما يخلّ به،حديدة كانت أو خشبة.

و خللته بالرّمح:طعنته به.

و الخلّة:أن يختلّ الثّور الكلب بقرنه.

و فلان يأكل خلله و خلّته و خلالته،أي ما خرج من أسنانه عند التّخلّل.

و الخلل:منفرج ما بين كلّ شيئين؛و الجميع:

الخلال.و الخلّ:الّذي فيه الخلل.

و خلال الدّار:حوالي حدودها.

و الخلل:الرّقّة في النّاس،و في الأمر و الحرب، كالوهن.

و أخلّ بهم:غاب عنهم.

و الخلّة:الخصاصة و الحاجة.

و اختلّ إلى فلان أي احتيج إليه.

و اختلّ بك فلان:أدخل عليك الضّرورة.

و الخليل :الرّجل الفقير.

و أخلّ فلان فلانا،أي أحوجه.و خلّ الرّجل و أخلّ.

و الخلّة:الخصلة،و الجميع:الخلال،و بنت المخاض،و بنت اللّبون،و الذّكر:خلّ.

و يقولون:أتانا بقرص كأنّه خفّ خلّة،أي بقرص صغير.

و قيل:الخلّة:العظيمة من الإبل،و الهضبة أيضا.

و الخلّة:من النّبات ما ليس بحمض،و هو العرفج.

و كلّ شجر يبقى في الشّتاء:فهو خلّة.

ص: 695

و المخلّ:الّذي ترعى إبله الخلّة.

و يقولون:الخلّة خبز الإبل،و الحمض فاكهتها.

و الخلّ:خلول الجسم تغيّرا و هزالا،رجل خلّ و قوم خلول.

و الخلّة مخالّة الخليلين،خاللته مخالّة و خلّة و خلالا.و هو خلّي و خلّتي،أي حبّي.و كان لي ودّا و خلاّ أي خليلا.و الخلاّن و الأخلال:جماعة الخليل.

و يسمّى القلب و الكبد:خليلا،و الأنف كذلك.

و الخلال:البلح،و هو الأخضر من البسر؛ الواحدة:خلالة.

و يقال للكرابة:الخلالة.

و أخلّت النّخلة إخلالا:أساءت حملها.

و الخلّة:جفن السّيف المغشّى بالأدم.

و الخلل:السّيور الّتي تلبس ظهور سيتي القوس.

و الخلخال:معروف،و هو الخلخل و الخلخل.

و المخلخل:موضع الخلخال من السّاق.

و المخلّل:الّذي يخصّ من عمّ في دعائه،و خلّل.

و المخلولة:الفصال،تخلّ عن أمّهاتها،أي تقطع.

و تخلخل الثّوب بلي،و ثوب خلخل و خلخال.

و خللت من كذا،إذا أخطأته.و خلّ البعير من الرّبيع:أخطأه فهزله.

و طائر خلّ:ليس له ريش.

و الخلل:اللّيل.(4:174)

الخطّابيّ: في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنّه بعث رجلا على الصّدقة،فجاءه بفصيل مخلول أو محلول سيّئ الحال مهزول».

قوله:فصيل مخلول،هو المضرور المنهوك.يقال:

رجل خلّ،إذا كان بادي الضّرّ و الهزال.و ثوب خلّ، و هو الّذي أخذ منه البلى.و منه سمّي الفقير:خليلا.

و فيه وجه آخر:و هو أن يكون«المخلول»هو الّذي فطم حديثا؛و ذلك أنّهم إذا أرادوا فطامه عمدوا إلى خلال،فشدّوه فوق أنفه،و تركوه ناتئا منه،حتّى إذا أراد الرّضاع،نخس الخلال ضرع النّاقة فزبنته، فيهزل عند ذلك الفصيل.[و استشهد بالشّعر مرّتين]

(1:387)

في حديث عامر أنّه قال:«إن كان رسول اللّه يبعثنا و ما لنا طعام إلاّ السّلف من التّمر،فنقسمه قبضة قبضة،حتّى ينتهي إلى تمرة تمرة.قال له عبد اللّه بن عامر:ما عسى أن تنفعكم تمرة تمرة؟قال:لا تقل ذاك فو اللّه ما عدا أن فقدناها اختللناها».

و قوله:«اختللناها»،معناه:افتقرنا إليها،أو طلبناها طلب خلّة،و الخلّة:حاجة الفقر.

و منه الحديث:«تفقّهوا فإنّ أحدكم لا يدري متى يختلّ إليه»أي يحتاج إلى علمه.و يقال رجل خليل بمعنى فقير.[ثمّ استشهد بشعر](2:362)

الجوهريّ: الخلّ:معروف.و الخلّ:طريق في الرّمل،يذكّر و يؤنّث.

يقال:حيّة خلّ،كما يقال:أفعى صريمة.

و الخلّ:الرّجل النّحيف المختلّ الجسم.

و الخلّ:الثّوب البالي.

و الخلّة:الخصلة.

و الخلّة:الحاجة و الفقر.

ص: 696

يقال:أتاهم بقرص كأنّه فرسن خلّة؛و الأنثى:

خلّة أيضا.

و يقال للميّت:اللّهمّ اسدد خلّته،أي الثّلمة الّتي ترك.

و الخلّة:الخمر الحامضة.

و الخلّة بالضّمّ:ما حلا من النّبت.يقال:الخلّة:خبز الإبل،و الحمض فاكهتها،و يقال:لحمها.و إذا نسبت إليها قلت:بعير خلّيّ،و إبل خلّيّة.

و الخلّة:الخليل،يستوي فيه المذكّر و المؤنّث،لأنّه في الأصل:مصدر قولك:خليل بيّن الخلّة و الخلولة.

و قد جمع على خلال،مثل قلّة و قلال.

و الخلّة بالكسر:واحدة خلل السّيوف،و هي بطائن كانت تغشّى بها أجفان السّيوف،منقوشة بالذّهب و غيره.و هي أيضا سيور تلبس ظهور سيتي القوس.

و الخلّة أيضا:ما يبقى بين الأسنان.

و الخلّ:الودّ و الصّديق.

و الخلل بالتّحريك:الفرجة بين الشّيئين؛و الجمع:

الخلال،مثل جبل و جبال.و قرئ بهما جميعا قوله تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ النّور:43، و (خلله) و هي فرج في السّحاب يخرج منها المطر.

و الخلل أيضا:فساد في الأمر.

و الخلال:العود الّذي يتخلّل به،و ما يخلّ به الثّوب أيضا؛و الجمع:الأخلّة.و في الحديث:«إذا الخلال نبايع».

و الخلال أيضا:المخالّة و المصادقة.

و الخلال بالفتح:البلح.

و الخليل :الصّديق؛و الأنثى خليلة.

و الخليل :الفقير المختلّ الحال.

و الخلالة بالضّمّ:ما يقع من التّخلّل.يقال:فلان يأكل خلالته و خلله و خلله،أي ما يخرجه من بين أسنانه إذا تخلّل.و هو مثل.

و الخلالة و الخلالة و الخلالة:الصّداقة و المودّة.

و خللت لسان الفصيل أخلّه،إذا شققته لئلاّ يرتضع،و لا يقدر على المصّ.

و فصيل مخلول،أي مهزول.و في الحديث:«أنّ مصدّقا أتاه بفصيل مخلول».و يقال:أصله أنّهم كانوا يخلّون الفصيل لئلاّ يرتضع،فيهزل لذلك.

و الخلّ:خلّك الكساء على نفسك بالخلال.

و خلّ الرّجل:افتقر و ذهب ماله،و كذلك أخلّ به.

يقال:ما أخلّك إلى هذا؟أي ما أحوجك؟

و أخللت الإبل،أي رعيتها في الخلّة.

و أخلّت النّخلة،إذا أساءت الحمل.[و نقل قول أبي عبيد في أخلّت النّخلة،ثمّ أضاف:]

و أنا أظنّه من الخلال،كما يقال:أبلح النّخل و أرطب.

و أخلّ الرّجل بمركزه،أي تركه.

و اختلّ إلى الشّيء،أي احتاج إليه.و منه قول ابن مسعود رضى اللّه عنه:«عليكم بالعلم فإنّ أحدكم لا يدري متى يختلّ إليه»أي متى يحتاج النّاس إلى ما عنده.

و اختلّ جسمه،أي هزل.

و اختلّه بسهم،أي انتظمه.

ص: 697

و تخلّل بالخلال بعد الأكل.

و تخلّل الشّيء،أي نفذ.

و تخلّل المطر،إذا خصّ و لم يكن عامّا.

و تخلّلت القوم،إذا دخلت بين خللهم و خلالهم.

و الخلخال:واحد خلاخيل النّساء.و الخلخل لغة فيه،أو مقصور منه.

و التّخليل:اتّخاذ الخلّ.

و تخليل اللّحية و الأصابع في الوضوء،فإذا فعل ذلك قال:تخلّلت.

و الخلّ:عرق في العنق.[و استشهد بالشّعر 11 مرّات](4:1686)

ابن فارس: الخاء و اللاّم أصل واحد يتقارب فروعه،و مرجع ذلك إمّا إلى دقّة أو فرجة.و الباب في جميعها متقارب.

فالخلال واحد الأخلّة.و يقال:فلان يأكل خلله و خلالته،أي ما يخرجه الخلال من أسنانه.و الخلّ:

خلّك الكساء على نفسك بالخلال.

فأمّا الخليل الّذي يخالّك،فمن هذا أيضا،كأنّكما قد تخاللتما،كالكساء الّذي يخلّ.

و من الباب:الرّجل الخلّ،و هو النّحيف الجسم.

و يقال لابن المخاض:خلّ،لأنّه دقيق الجسم.و الخلّ:

الطّريق في الرّمل،لأنّه يكون مستدقّا.و منه الخلال، و هو البلح.

فأمّا الفرجة فالخلل بين الشّيئين.و يقال خلّل الشّيء،إذا لم يعمّ.و منه الخلّة:الفقر؛لأنّه فرجة في حاله.و الخليل :الفقير.

و الخلّة:جفن السّيف؛و الجمع:خلل.فأمّا الخلل و هي السّيور الّتي تلبس ظهور السّيتين فذلك لدقّتها، كأنّ كلّ واحدة منها خلّة.

و الخلّ:عرق في العنق متّصل بالرّأس.و الخلخال من الباب أيضا،لدقّته.[و استشهد بالشّعر مرّتين]

(2:155)

أبو هلال :الفرق بين الخلّة و الفقر:أنّ الخلّة الحاجة،و المختلّ المحتاج.و سمّيت الحاجة خلّة، لاختلال الحال بها،كأنّما صار بها خلل يحتاج إلى سدّه.

و الخلّة أيضا:الخصلة الّتي يختلّ إليها أي يحتاج.

و الخلّة:المودّة الّتي تتخلّل الأسرار معها بين الخليلين.و سمّي الطّريق في الرّمل:خلاّ،لأنّه يتخلّل لانعراجه.

و الخلّ:الّذي يصطبغ،به،لأنّه يتخلّل ما عيّن فيه بلطفه و حدّته،و خلّلت الثّوب خلاّ و خللا،و جمع الخلل:خلال و في القرآن: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ النّور:43.

و الخلال ما يخلّ به الثّوب،و ما يخرج به الشّيء من خلل الأسنان.فالفقر أبلغ من الخلّة،لأنّ الفقر ذهاب المال،و الخلّة:الخلل في المال.(146)

الفرق بين الخلّة و الصّداقة:أنّ الصّداقة اتّفاق الضّمائر على المودّة،فإذا أضمر كلّ واحد من الرّجلين مودّة صاحبه،فصار باطنه فيها كظاهره سمّيا:صديقين، و لهذا لا يقال:اللّه صديق المؤمن كما أنّه وليّه.و الخلّة:

الاختصاص بالتّكريم،و لهذا قيل إبراهيم خليل اللّه

ص: 698

لاختصاص اللّه إيّاه بالرّسالة،و فيها تكريم له.

و لا يجوز أن يقال:اللّه خليل إبراهيم،لأنّ إبراهيم لا يجوز أن يخصّ اللّه بتكريم.و قال أبو عليّ رحمه اللّه تعالى:يقال للمؤمن:إنّه خليل اللّه.(236)

الهرويّ: يقال:دعا فلان فخلّل،أي خصّ.

و قيل: الخليل :الفقير،فكأنّه لم يجعل فقره و حاجته إلاّ إليه،و الخلّة:الحاجة.

و في الحديث:«اللّهمّ سادّ الخلّة»أي اللّهمّ جابر الخلّة،و هي الحاجة.و الخلل:كلّ فرجة تقع في شيء،و الخلّة:الصّداقة.

و في الحديث:«يخرج الدّجّال إلى خلّة بين الشّام و العراق»أي إلى سبيل بينهما.إنّما قيل:خلّة،لأنّ السّبيل خلّ ما بين البلدين،أي أخذ مخيط ما بينهما.

يقال:خطت اليوم خيطة،أي سرت سيرة.(2:593)

الثّعالبيّ: الخلالة:ما يسقط من الفمّ عند التّخلّل.(80)

خلّ الكساء،إذا شدّه بخلال.(260)

الخلّ:الطّريق في الرّمل.(289)

أبو سهل الهرويّ: الخلّة بالضّمّ:المودّة،و الخلّة أيضا:ما كان حلوا من المرعى،و هو ضدّ الحمض، و هو ما كانت فيه ملوحة.

و الخلّة بالفتح:الخصلة،و الخلّة أيضا:الحاجة، و هي الفقر.(التّلويح:63)

و فلان يأكل خلله بكسر الخاء،و خلالته بضمّ الخاء،أي ما يخرج من بين أسنانه إذا تخلّل،لشحّه و قذره.(التّلويح:89)

الشّريف المرتضى:الخلّة:الحاجة،و الخلّة أيضا:الخصلة.

و الخلّة بالضّمّ:المودّة،و الخلّة أيضا،ما كان حلوا من المرعى.

و الخلّة بالكسر:ما يخرج من الأسنان بالخلال.

و الخليل :الحبيب،من المودّة و المحبّة،و الخليل أيضا:الفقير.كلا الوجهين قد ذكر في قوله تعالى: وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً النّساء:125،و منه حديث ابن مسعود:«تعلّموا القرآن...»

و الخلّة أيضا:بنت المخاض،و الذّكر:الخلّ.

و يقال:جسم خلّ،إذا كان مهزولا.و يقال أيضا:فصيل مخلول،إذا شدّ لسانه حتّى لا يرضع.

و يقال:خللته فهو خليل و مخلول،و مثله أجررته.

[و استشهد بالشّعر مرّتين](2:185)

و خلال الشّيء:خروقه و فروجه.(2:304)

ابن سيده: الخلّ:ما حمض من عصير العنب و غيره.قال ابن دريد:هو عربيّ صحيح،قال:و في الحديث:«نعم الإدام الخلّ»واحدته:خلّة،يذهب بذلك إلى الطّائفة منه.

و الخلّة:الخمر عامّة.و قيل:الخلّة:الخمرة الحامضة،و هو القياس.

و قيل:الخلّة:الخمرة المتغيّرة الطّعم من غير حموضة؛و جمعها:خل.

و خلّلت الخمر و غيرها من الأشربة:حمضت و فسدت.

و خلّل الخمر:جعلها خلاّ.و خلّل البسر:وضعه

ص: 699

في الشّمس ثمّ نضحه بالخلّ،ثمّ جعله في جرّة.

و ما فلان بخلّ و لا خمر،أي لا خير فيه و لا شرّ عنده،و هو مثل.

و الاختلال:اتّخاذ الخلّ.

و الخلاّل:بائع الخلّ،و صانعه.

و حكى ابن الأعرابيّ: الخلّة:الخمرة الحامضة، يعني بالخمرة:الخمير.فردّ ذلك عليه،و قيل:إنّما هي الخمرة،بفتح الخاء،يعني بذلك الخمر بعينها.

و الخلّ أيضا:الحمض.

و الخلّة من النّبات:ما كانت فيه حلاوة.و قيل:

المرعى كلّه حمض و خلّة،فالحمض:ما كانت فيه ملوحة.و الخلّة:ما سوى ذلك.

و إبل خلّيّة و مخلّة و مختلّة:ترعى الخلّة،و في المثل:«إنّك مختلّ فتحمّض»أي انتقل من حال إلى حال.

و أخلّ القوم:رعت إبلهم الخلّة.

و قالت بعض نساء الأعراب،و هي تتمنّى بعلا:

«إن ضمّ قضقض،و إن دسر أغمض،و إن أخلّ أحمض».قالت لها أمّها:لقد فررت لي شرّة الشّباب جذعة.تقول:إن أخذ من قبل أتبع ذلك بأن يأخذ من دبر.

و خلّ الإبل يخلّها خلاّ و أخلّها:حوّلها إلى الخلّة.

و اختلّت الإبل:احتبست في الخلّة.

و الخلّة:شجرة شاكة،و هي الخلّة الّتي ذكرتها إحدى المتخاصمتين إلى ابنة الخسّ حين قالت:مرعى إبل أبي الخلّة.فقالت لها ابنة الخسّ:سريعة الدّرّة و الجرّة.

و خلّة العرفج:منبته و مجتمعه.

و الخلل:منفرج ما بين كلّ شيئين.و خلّل بينهما:

فرّج.

و خلل السّحاب و خلاله:مخارج الماء منه،و في التّنزيل: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ النّور:43، قال اللّحيانيّ:هذا هو المجتمع عليه.

و الخلّة:الثّقبة الصّغيرة،و قيل:هي الثّقبة ما كانت.

و هو خللهم و خلالهم،أي بينهم.

و خلال الدّار:ما حوالي جدرها و ما بين بيوتها، و في التّنزيل: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ الإسراء:5.

و تخلّل القوم:دخل بين خللهم و خلالهم.

و تخلّل الرّطب:طلبه خلال السّعف بعد انقضاء الصّرام،و اسم ذلك الرّطب:الخلالة.

و خلّل فلان أصابعه بالماء:أسال الماء بينها في الوضوء،و كذلك خلّل لحيته،إذا توضّأ فأدخل الماء بين شعرها.و في الحديث:«خلّلوا أصابعكم لا تخلّلها نار قليل بقياها».

و خلّ الشّيء يخلّه خلاّ فهو مخلول و خليل، و تخلّله:ثقبه و نفذه.

و الخلال:ما خلّه به؛و الجمع:أخلّة.

و الأخلّة أيضا:الخشبات الصّغار اللّواتي يخلّ بها ما بين شقاق البيت.

و الخلال:عود يجعل في لسان الفصيل لئلاّ يرضع،خلّه يخلّه خلاّ.و قيل:خلّه:شقّ لسانه،ثمّ

ص: 700

أدخل فيه ذلك العود.

و خلّ الكساء و غيره يخلّه خلاّ:شدّه بخلال، و قيل:خلّ الشّيء يخلّه خلاّ:جمع أطرافه بخلال.

و الخلّ:الطّريق النّافذ بين الرّمال المتراكمة.

و قيل:الخلّ:الطّريق بين الرّملتين،و قيل:هو الطّريق في الرّمل أيّا كان؛و الجمع:أخلّ و خلال.

و اختلّه بالرّمح:نفذه.

و تخلّله به:طعنه طعنة إثر أخرى.

و عسكر خالّ و متخلخل:غير متضامّ،كأنّ فيه منافذ.

و الخلل:الوهن في الأمر،و هو من ذلك،كأنّه ترك منه موضع لم يبرم و لا أحكم.

و في رأيه خلل،أي انتشار و تفرّق.

و أمر مختلّ:واهن.

و أخلّ بالشّيء:أجحف.

و أخلّ بالمكان و غيره:غاب عنه و تركه.

و أخلّ الوالي بالثّغور:قلّل الجند بها.

و أخلّ به:لم يف له.

و الخلل:الرّقّة في النّاس.

و الخلّة:الحاجة و الفقر.

و في المثل:«الخلّة تدعو إلى السّلّة».السّلّة:

السّرقة،و قد خلّ الرّجل و أخلّ به،و رجل مخلّ و مختلّ و خليل و أخلّ:معدم فقير محتاج.

و اختلّ إلى كذا:احتاج،و منه قول ابن مسعود:

«تعلّموا العلم فإنّ أحدكم لا يدري متى يختلّ إليه، و يختلّ».

و الخلّة كالخصلة.قال ابن دريد:«الخلّة:الخصلة، يقال:في فلان خلّة حسنة»،فكأنّه إنّما ذهب بالخلّة إلى الخصلة الحسنة خاصّة.و قد يجوز أن يكون مثّل بالحسنة لمكان فضلها على السّمجة؛و الجمع:خلال.

و خلّ في دعائه و خلّل،كلاهما:خصّ.

و الخلّة:الصّداقة المختصّة الّتي ليس فيها خلل، تكون في عفاف الحبّ و دعارته؛و جمعها:خلال،و هي الخلالة و الخلالة و الخلولة.

و قد خالّ الرّجل و المرأة مخالّة و خلالا،و قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ إبراهيم:31،قيل:هو مصدر خاللت،و قيل:هو جمع خلّة،كجلّة و جلال.

و الخلّة:الصّديق،الذّكر و الأنثى و الواحد و الجميع في ذلك سواء.و قد ثنّى بعضهم الخلّة.

و الخلّ:الصّديق المختصّ؛و الجمع:أخلال.

و الخليل،كالخلّ،و قولهم:إبراهيم عليه السّلام خليل اللّه،و الجمع:أخلاّء و خلاّن،و الأنثى خليلة،و الجمع:

خليلات و خلائل.

و خليل الرّجل:قلبه.

و الخلّ:المهزول،و السّمين،ضدّ،يكون في النّاس و الإبل؛و الأنثى خلّة.

خلّ لحمه يخلّ و يخلّ خلاّ و خلولا،و اختلّ، و ذلك في الهزال خاصّة.

و أمّا ما جاء في الحديث:«أنّه أتي بفصيل مخلول» فقيل:هو الّذي قد نحل جسمه؛و الأصحّ أنّه المشقوق اللّسان لئلاّ يرضع.

ص: 701

و ثوب خلّ:بال فيه طرائق.

و الخلّ:ابن المخاض،و الأنثى خلّة.

و الخلّ:عرق في العنق متّصل بالرّأس.

و الخلل:بقيّة الطّعام بين الأسنان؛واحدة:خلّة، و قيل:خللة،الأخيرة عن كراع.و يقال له أيضا:

الخالّ،و الخلالة،و الخلّة،و قد تخلّله.

و المختلّ:الشّديد العطش.

و الخلال:البلح؛واحدته:خلالة.

و أخلّت النّخلة:أطلعت الخلال،و أخلّت أيضا:

أساءت الحمل.

و الخلّة:جفن السّيف المغشّى بالأدم.

و أمّا قوله:

*بيض الوجوه خرق الأخلّة*

فزعم ابن الأعرابيّ أنّ الأخلّة:جمع خلّة،أعني جفن السّيف،و لا أدري كيف تكون الأخلّة جمع خلّة، لأنّ«فعلة»لا تكسّر على«أفعلة»،هذا خطأ.فأمّا الّذي أوجّه أنا عليه«الأخلّة»،فأن تكسّر خلّة على خلال كطبّة و طباب،و هي الطّريقة من الرّمل أو السّحاب،ثمّ يكسّر«خلال»على أخلّة،فتكون حينئذ أخلّة جمع جمع.و عسى أن يكون«الخلال»لغة في خلّة السّيف،فتكون أخلّة جمعها المألوف،و قياسها المعروف،إلاّ أنّي لا أعرف«الخلال»لغة في الخلّة.

و كلّ جلدة منقوشة خلّة.

و الخلّة:السّير الّذي يكون في ظهر سية القوس.

و الخلخل و الخلخل من الحليّ معروف.

و الخلخال كالخلخل.

و المخلخل:موضع الخلخال.

و تخلخلت المرأة:لبست الخلخال.

و رمل خلخال:فيه خشونة.

و ثوب خلخال:رقيق.

و خلخل العظم:أخذ ما عليه من اللّحم.

و خليلان:اسم،رواه أبو الحسن.[و استشهد بالشّعر 26 مرّة](4:510)

الخلل و الخلال:ما بين السّنين إذا تباعدتا.

(الإفصاح 1:62)

و الخلال:عرض يعرض في كلّ حلو فيغيّر طعمه إلى الحموضة.(الإفصاح 1:414)

الخلالة:بقيّة الطّعام بين الأسنان،و الخلال:ما تخلّل به الأسنان.و تخلّل فلان بعد الأكل:أخرج الخلالة.(الإفصاح 1:441)

الخلّة:واحدة الخلل،و هي جلود خضر تلبس باطن الجفن.(الإفصاح 1:593)

و الخلّة:هي من النّبات ما سوى الحمض،و قيل:

ما كانت فيه حلاوة.و العرب تقول:الخلّة خبز الإبل، و الحمض لحمها و فاكهتها.و إنّما تحوّل إلى الحمض إذا ملّت الخلّة،و ليس شيء من الشّجر العظام بحمض و لا خلّة.

و قيل:كلّ ما ملح من الشّجر كلّه،و كانت ورقته حيّة،إن غمزتها انفقأت ماء،و كان ذفر الرّيح،ينقي الثّوب إذا غسل به و اليد:فهو حمض.

و المرعى كلّه عشبا كان أو شجرا:خلّة و حمض.

(الإفصاح 2:1103)

ص: 702

الطّوسيّ: الخلّة خالص المودّة.

و الخلل:الأفراج بين الشّيئين.

و خللته بالخلال أخلّه خلاّ،إذا صككته به.

و اختلّت حاله اختلالا،لانحرافه بالفقر.

و تخلّل الطّرق تخلّلا إذا قطع فرجة بعد فرجة.

و أخلّ به إخلالا.

و خالّه يخالّه مخالّة:إذا صافاه المودّة.

و الخلّ:معروف،لتخلّله بحدّته،و لطفه فيما ينساب فيه.

و الخلّ:الرّجل الخفيف الجسم.و الخلّ:الطّريق في الرّمل.و الخلّ:عرق في العنق يتّصل بالرّأس.

و الخليل :الخالص المودّة،من الخلّة،لأنّه من تخلّل الأسرار بينهما.و قيل:لأنّه يمتنع من الشّوب في المودّة بالنّقيصة.و الخليل أيضا:المحتاج،من الخلّة.

و الخلّة:جفن السّيف.و في فلان خلّة،أي خصلة.

و الخلّة:خلاف الحصن،لأنّه مرعى بتخلّله الماشية للاعتداء به.

و خلّل أصابعه تخليلا.

و الخلال:البلح.و أصل الباب:الخلل:الانفراج.

(2:306)

نحوه الطّبرسيّ.(1:359)

الرّاغب: الخلل:فرجة بين الشّيئين؛و جمعه:

خلال،كخلل الدّار و السّحاب و الرّماد و غيرها.قال تعالى في صفة السّحاب: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ النّور:43، فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ الإسراء:5، وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ التّوبة:47،أي سعوا وسطكم بالنّميمة و الفساد.

و الخلال لما تخلّل به الأسنان و غيرها يقال خلّ سنّه و خلّ ثوبه بالخلال يخلّه،و لسان الفصيل بالخلال ليمنعه من الرّضاع،و الرّميّة بالسّهم،و في الحديث:«خلّلوا أصابعكم».

و الخلل في الأمر كالوهن فيه،تشبيها بالفرجة الواقعة بين الشّيئين.و خلّ لحمه يخلّ خلاّ و خلالا صار فيه خلل؛و ذلك بالهزال.

و الخلّ:الطّريق في الرّمل،لتخلّل الوعورة،أي الصّعوبة إيّاه،أو لكون الطّريق متخلّلا وسطه.

و الخلّة أيضا:الخمر الحامضة،لتخلّل الحموضة إيّاها.

و الخلّة:ما يغطّى به جفن السّيف لكونه في خلالها.

و الخلّة:الاختلال العارض للنّفس:إمّا لشهوتها لشيء أو لحاجتها إليه،و لهذا فسّر الخلّة بالحاجة و الخصلة.

و الخلّة:المودّة،إمّا لأنّها تتخلّل النّفس أي تتوسّطها،و إمّا لأنّها تخلّ النّفس فتؤثّر فيه تأثير السّهم في الرّميّة،و إمّا لفرط الحاجة إليها.يقال منه:

خاللته مخالّة و خلالا فهو خليل،و قوله تعالى:

وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً النّساء:125،قيل:سمّاه بذلك لافتقاره إليه سبحانه في كلّ حال،الافتقار المعنيّ بقوله: إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ القصص:

24،و على هذا الوجه قيل:اللّهمّ أغنني بالافتقار إليك و لا تفقرني بالاستغناء عنك.و قيل:بل من الخلّة و استعمالها فيه كاستعمال المحبّة فيه.

ص: 703

قال أبو القاسم البلخيّ: «هو من الخلّة لا من الخلّة،قال:و من قاسه بالحبيب فقد أخطأ،لأنّ اللّه يجوز أن يحبّ عبده،فإنّ المحبّة منه الثّناء،و لا يجوز أن يخالّه.و هذا منه اشتباه فإنّ الخلّة من تخلّل الودّ نفسه و مخالطته،و لهذا يقال:تمازج روحانا.و المحبّة البلوغ بالودّ إلى حبّة القلب،من قولهم:حببته،إذا أصبت حبّة قلبه.لكن إذا استعملت المحبّة في اللّه فالمراد بها مجرّد الإحسان.و كذا الخلّة،فإن جاز في أحد اللّفظين جاز في الآخر.فأمّا أن يراد بالحبّ حبّة القلب،و الخلّة التّخلّل فحاشا له سبحانه أن يراد فيه ذلك.

و قوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ البقرة:254، أي لا يمكن في القيامة ابتياع حسنة و لا استجلابها بمودّة؛و ذلك إشارة إلى قوله سبحانه: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى النّجم:39،و قوله: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ إبراهيم:31،فقد قيل:هو مصدر من خاللت،و قيل:هو جمع،يقال:خليل،و أخلّة و خلال؛ و المعنى كالأوّل.[و استشهد بالشّعر 3 مرّات](153)

ابن القطّاع:و خلّ الرّجل خلّة،و خلّ به:افتقر.

و خلّ الجسم يخلّ و يخلّ خلاّ:نقص،و هزل، و أيضا سمن،ضدّ.و خلّ الجسم أيضا:نقص.

و خللت الرّجل بالرّمح:طعنته،و الثّوب:شككته بالخلال،و لسان الفصيل:ربطته لتمنعه الرّضاع، و الموضع:نفذه،و الشّيء:خصّ،يقال:عمّ الشّيء و خلّ.

و أخللت بك و بالشّيء:قصّرت،و بالمكان:

تركته،و القوم:رعت إبلهم الخلّة،و هي ما حلا من النّبات،و النّخل:أساءت الحمل،و الأرض:كثرت خلّتها.

و ما أخلّك إلى هذا؟أي ما أحوجك إليه؟من «الخلّة»و هي الحاجة،و الرّجل:افتقر.

و خلّ الرّجل أيضا:افتقر،يخلّ و يخلّ.(1:312)

و خلخلت العظام:أخذت ما عليها من اللّحم.

و تخلخلت الجارية:لبست خلخالين.(1:328)

الزّمخشريّ: هو خليلي و خلّي و خلّتي،و هم أخلاّئي و خلاّني،و بيننا خلّة قديمة.

و تقول:إذا جاءت الخلّة ذهبت الخلّة.

و خاللته مخالّة و خلالا.

و فيه خلل.و قد اختلّ المكان.

و الودق يخرج من خلل السّحاب و من خلاله.

و هذه خلّة صالحة.

و فيه خلال حسنة.

و رعت الإبل الخلّة و اختلّت.

و سلّوا السّيوف من الخلل،و هي الجفون.

و خلّل أسنانه و تخلّل،و أكل خلالته.

و خلّل أصابعه.و دعا فخلّل،أي خصّ.

و خلّلت الخمر:صارت خلاّ.

و خلّ الثّوب:شكّه بالخلال،و هو ما يخلّ به من عود أو حديدة.و أخلّ بمركزه:تركه.و أخلّ بقومه:

غاب عنهم.

و تخلّل الثّوب:بلي و رقّ.

و من المجاز:اختلّ:افتقر.و نزلت به خلّة.

و اختللت إليه:احتجت.

ص: 704

و أقسّم هذا المال في الأخلّ فالأخلّ،و هو الأفقر.

و اختلّ أمره.

و بدا فيه خلل.

و ما فلان بخلّ و لا خمر،أي ليس بشيء.

و خمر خلّة:حامضة.(أساس البلاغة:119)

ابن الشّجريّ: الخلّة في الكلام على معان:

أحدها:الحاجة،و الثّاني:الخصلة،و الثّالث:

الاختلال.

و أصل الخلل:الفرجة بين الشّيئين.(1:44)

المدينيّ: في حديث أبي بكر:«أنّه كان له كساء فدكيّ،فكان إذا ركب خلّه عليه».قال الأصمعيّ:خلّ كساءه يخلّه خلاّ،و الخلال للأكسية:خشب يجعل كالمدارى،يجمع به الشّقاق بعضها إلى بعض.

و قال غيره:خللت الكساء و غيره،إذا شددته بخشبة دقيقة الرّأس أو حديدة،و خللته بالرّمح:طعنته فانتظمته به.

و في الحديث:«التّخلّل من السّنّة».و هو استعمال الخلال لإخراج ما بين الأسنان من الطّعام،و هو الخلالة،و الخلل بالكسر:جمع:خلّة.

و قد يستعمل في غير الأسنان أيضا،كما في الحديث الآخر:«خلّلوا بين الأصابع لا يخلّل اللّه بينهما بالنّار».

و في حديث آخر:«رحم اللّه المتخلّلين من أمّتي في الوضوء و الطّعام».

و أنّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يخلّل لحيته،و أصله:إدخال الشّيء خلال الشّيئين،و خلال الشّيء و خلله:

وسطه،كالبلال و البلل.

و الخلل:منفرج ما بين الشّيئين؛و الجمع:خلال.

و منه قوله عزّ و جلّ: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ الإسراء:5،أي حوالي حدودها و أوساطها أيضا.

و في الدّعاء للميّت:«اللّهمّ اسدد خلّته»أي الفرجة الّتي تركها،و أصلح ما كان فيه خلل من أمره.

و الخلّة:الحاجة،تقول العرب:«الخلّة تدعو إلى السّلّة»،تعني السّرقة.

و في حديث المقدام رضى اللّه عنه:«ما هذا بأوّل ما أخللتم بي»أي ما أوهنتموني،و لم تعينوني فيه.

و الخلل في الحرب و الأمر و غيرهما كالوهن و الفساد.و أخلّ الوالي بالثّغر:أقلّ الجند فيه،و أخلّ بالشّيء:تركه و غاب عنه.

في حديث سنان بن سلمة رضى اللّه عنه قال:«إنّا نلتقط الخلال»يعني البلح،و هو البسر أوّل ما يدرك من الرّطب،واحدها:خلالة بالفتح فيهما.(1:612)

ابن الأثير: فيه:«إنّي أبرأ إلى كلّ ذي خلّة من خلّته».الخلّة بالضّمّ:الصّداقة و المحبّة الّتي تخلّلت القلب فصارت خلاله،أي في باطنه.و الخليل :

الصّديق،«فعيل»بمعنى«فاعل»،و قد يكون بمعنى «مفعول».و إنّما قال ذلك،لأنّ خلّته كانت مقصورة على حبّ اللّه تعالى،فليس فيها لغيره متّسع و لا شركة من محابّ الدّنيا و الآخرة.

و هذه حال شريفة لا ينالها أحد بكسب و اجتهاد، فإنّ الطّباع غالبة،و إنّما يخصّ اللّه بها من يشاء من عباده،مثل سيّد المرسلين صلوات اللّه و سلامه عليه.

ص: 705

و من جعل«الخليل»مشتقّا من«الخلّة»و هي الحاجة و الفقر،أراد:إنّي أبرأ من الاعتماد و الافتقار إلى أحد غير اللّه تعالى.

و في رواية«أبرأ إلى كلّ خلّ من خلّته»بفتح الخاء و بكسرها،و هما بمعنى الخلّة و الخليل.

و الحديث الآخر:«المرء بخليله،أو قال:على دين خليله،فلينظر امرؤ من يخالل»و قد تكرّر ذكره في الحديث.

و قد تطلق الخلّة على الخليل،و يستوي فيه المذكّر و المؤنّث،لأنّه في الأصل مصدر.تقول:خليل بيّن الخلّة و الخلولة.[ثمّ استشهد بشعر]

و منه حديث حسن العهد:«فيهديها في خلّتها»أي أهل ودّها و صداقتها.

و منه الحديث الآخر:«فيفرّقها في خلائلها»جمع خليلة.

و منه حديث بدر و قتل أميّة بن خلف:«فتخلّلوه بالسّيوف من تحتي»أي قتلوه بها طعنا،حيث لم يقدروا أن يضربوه بها ضربا.

و فيه:«إنّ اللّه يبغض البليغ من الرّجال الّذي يتخلّل الكلام بلسانه،كما تتخلّل الباقرة الكلأ بلسانها»هو الّذي يتشدّق في الكلام و يفخّم به لسانه، و يلفّه كما تلفّ البقرة الكلأ بلسانها لفّا.(2:72)

الصّغانيّ: الخلّ و المخلول:السّمين و المهزول.

(الأضداد:229)

الرّازيّ: [نحو الجوهريّ ملخّصا و أضاف:]خلّ كساءه على نفسه بالخلال،من باب ردّ.[إلى أن قال:]

لم يذكر[الجوهريّ]اختلّ الأمر بمعنى وقع فيه الخلل.(206)

القرطبيّ: الخلّة:خالص المودّة،مأخوذة من تخلّل الأسرار بين الصّديقين.و الخلالة و الخلالة و الخلالة:الصّداقة و المودّة.[ثمّ استشهد بشعر]

يقال:أتاهم بقرص كأنّه فرسن خلّة؛و الأنثى:

خلّة أيضا.[ثمّ أدام نحو المتقدّمين](3:266)

الفيّوميّ: الخلّ:معروف؛و الجمع:خلول مثل:

فلس و فلوس،سمّي بذلك لأنّه اختلّ منه طعم الحلاوة.يقال:اختلّ الشّيء،إذا تغيّر و اضطرب.

و الخليل :الصّديق؛و الجمع:أخلاّء.

و الخليل :الفقير المحتاج.

و الخلّة بالفتح:الفقر و الحاجة،و الخلّة مثل الخصلة وزنا و معنى؛و الجمع:خلال،و الخلّة:الصّداقة بالفتح أيضا؛و الضّمّ لغة.

و الخلل بفتحتين:الفرجة بين الشّيئين؛و الجمع:

خلال،مثل:جبل و جبال.

و الخلل:اضطراب الشّيء،و عدم انتظامه.

و الخلّة بالضّمّ:ما خلا من النّبت.

و خلّل الشّخص أسنانه تخليلا،إذا أخرج ما يبقى من المأكول بينها؛و اسم ذلك الخارج:خلالة بالضّمّ.

و الخلال مثل كتاب:العود يخلّل به الثّوب و الأسنان.

و خللت الرّداء خلاّ،من باب«قتل»ضممت طرفيه بخلال؛و الجمع:أخلّة مثل سلاح و أسلحة.

و خلّلته بالتّشديد مبالغة.

ص: 706

و خلّلت النّبيذ تخليلا:جعلته خلاّ،و قد يستعمل لازما أيضا،فيقال:خلّل النّبيذ،إذا صار بنفسه خلاّ و تخلّل النّبيذ في المطاوعة.

و خلّل الرّجل لحيته:أوصل الماء إلى خلالها،و هو البشرة الّتي بين الشّعر،و كأنّه مأخوذ من تخلّلت القوم،إذا دخلت بين خللهم و خلالهم.

و أخلّ الرّجل بكذا:تركه و لم يأت به،و أخلّ بالمكان:تركه ذا خلل منه،و أخلّ بالشّيء:قصّر فيه.

و أخلّ:افتقر،و اختلّ إلى الشّيء:احتاج إليه.

(1:180)

الفيروزآباديّ: الخلّ:ما حمض من عصير العنب و غيره،عربيّ صحيح.و الطّائفة منه:خلّة، و أجوده خلّ الخمر،مركّب من جوهرين حارّ و بارد، نافع للمعدة و اللّثة و القروح الخبيثة و الحكّة و نهش الهوامّ و أكل الأفيون و حرق النّار و أوجاع الأسنان، و بخار حارّه للاستسقاء و عسر السّمع و الدّويّ و الطّنين.

و الخلّ أيضا:الطّريق ينفذ في الرّمل،أو النّافذ بين رملتين،أو النّافذ في الرّمل المتراكم،و يؤنّث؛جمعه:

أخلّ و خلال،و النّحيف المختلّ الجسم،كالخليل، و الثّوب البالي،و عرق في العنق،و في الظّهر،و ابن المخاض كالخلّة.و هي بهاء أيضا،و القليل الرّيش من الطّير،و الحمض،و المهزول،و السّمين،ضدّ،و الفصيل و الشّرّ،و الشّقّ في الثّوب.

و رمال الخلّ:قرب لينة.

و الخلّة:الثّقبة الصّغيرة،أو عامّ،و الرّملة المنفردة، و الخمر،أو حامضتها،أو المتغيّرة بلا حموضة؛جمعه:

خلّ،و قرية باليمن،و المرأة الخفيفة،و مكانة الإنسان الخالية بعد موته.

و خلّلت الخمر و غيرها من الأشربة تخليلا:

حمضت و فسدت،و العصير:صار خلاّ،كاختلّ، و الخمر:جعلها خلاّ،لازم متعدّ،و البسر:وضعه في الشّمس ثمّ نضحه بالخلّ،فجعله في جرّة.

و ماله خلّ و لا خمر:خير و لا شرّ.

و الاختلال:اتّخاذ الخلّ.و الخلاّل:بائعه.

و الخلّة،بالضّمّ:شجرة شاكة،و من العرفج:منبته و مجتمعه،و ما فيه حلاوة من النّبت،و كلّ أرض لم يكن بها حمض؛جمعه:كصرد.

و إبل خلّيّة و مخلّة و مختلّة:ترعاها.

و أخلّوا:رعتها إبلهم.

و خلّ الإبل،و أخلّها:حوّلها إليها.

و اختلّت الإبل:احتبست فيها.

و الخلل:منفرج ما بين الشّيئين،و من السّحاب:

مخارج الماء.

كخلاله.و هو خللهم و خلالهم،بكسرهما،و يفتح الثّاني:بينهم.

و خلال الدّار أيضا:ما حوالي حدودها،و ما بين بيوتها.

و تخلّلهم:دخل بينهم،و الشّيء:نفذ،و المطر:

خصّ و لم يكن عامّا،و القوم:دخل خلالهم، و الرّطب:طلبه بين خلال السّعف،و ذلك الرّطب:

خلال و خلالة،بضمّهما.

ص: 707

و خلّل أصابعه و لحيته:أسال الماء بينهما.

و خلّ الشّيء،فهو مخلول و خليل،و تخلّله:ثقبه و نفذه.

و ككتاب:ما خلّه به؛جمعه:أخلّة،و ما تخلّل به الأسنان،و عود يجعل في لسان الفصيل لئلاّ يرضع.

و خلّه:شقّ لسانه فأدخل فيه ذلك العود، و الكساء:شدّه بخلال.

و اختلّه بالرّمح:نفذه و انتظمه.

و تخلّله به:طعنه طعنة إثر أخرى.

و عسكر خالّ و متخلخل:غير متضامّ.

و الخلل:الوهن في الأمر،و الرّقّة في النّاس، و الانتشار،و التّفرّق في الرّأي.

و أمر مختلّ:واه.

و أخلّ بالشّيء:أجحف،و بالمكان و غيره:غاب عنه و تركه،و الوالي بالثّغور:قلّل الجند بها، و بالرّجل:لم يف له.

و الخلّة:الحاجة،و الفقر،و الخصاصة،و في المثل:

«الخلّة تدعو إلى السّلّة»،أي:إلى السّرقة.

خلّ و أخلّ،بالضّمّ:احتاج.

و رجل مخلّ و مختلّ و خليل و أخلّ:معدم فقير.

و اختلّ إليه:احتاج.و ما أخلّك اللّه إليه:ما أحوجك.و الأخلّ:الأفقر.

و الخلّة:الخصلة؛جمعه:خلال.

و بالضّمّ:الخليلة،و الصّداقة المختصّة لا خلل فيها،تكون في عفاف،و في دعارة؛جمعه:خلال، ككتاب؛و الاسم:الخلولة و الخلالة،مثلّثة،و قد خالّه مخالّة و خلالا،و يفتح.

و إنّه لكريم الخلّ و الخلّة،بكسرهما،أي المصادقة و الإخاء.

و الخلّة أيضا:الصّديق،للذّكر و الأنثى،و الواحد و الجميع.

و الخلّ،بالكسر و الضّمّ:الصّديق المختصّ،أو لا يضمّ إلاّ مع ودّ،يقال:كان لي ودّا و خلاّ؛جمعه:

أخلال،كالخليل،جمعه:أخلاّء و خلاّن.أو الخليل :

الصّادق،أو من أصفى المودّة و أصحّها،و هي:بهاء؛ جمعها:خليلات و خلائل.

و خليلك:قلبك،أو أنفك.

و خلّ:خصّ،ضدّ عمّ،و لحمه يخلّ و يخلّ خلاّ و خلولا.

و اختلّ:نقص و هزل.

و كعنب و كتاب و ثمامة:بقيّة الطّعام بين الأسنان؛الواحدة:خلّة،بالكسر،و خللة،و قد تخلّله.

و المختلّ:الشّديد العطش.

و كسحاب:البلح.

و أخلّت النّخلة:أطلعته،و أساءت الحمل أيضا، ضدّ.

و كغراب:عرض يعرض في كلّ حلو فيغيّر طعمه إلى الحموضة.

و الخلّة،بالكسر:جفن السّيف المغشّى بالأدم،أو بطانة يغشّى بها جفن السّيف،و السّير يكون في ظهر سية القوس،و كلّ جلدة منقوشة،جمعه:خلل و خلال،جمع جمعه:أخلّة.

ص: 708

و الخلخل،و يضمّ،و كبلبال:حلي معروف.

و المخلخل:موضعه من السّاق.

و تخلخلت:لبسته.

و ثوب خلخال و خلخل:رقيق.

و خلخال:بلدة بأذربيجان قرب السّلطانيّة.

و خلخل العظم:أخذ ما عليه من اللّحم.

و خليلان،بضمّ النّون:مغنّ.(3:380)

[نحو الرّاغب و أضاف:]

و الخلّة:منصب لا يقبل الشّركة و القسمة،فغار الخليل على خليله أن يكون فى قلبه موضع لغيره، فأمره بذبح الولد ليخرج المزاحم من قلبه،فلمّا وطّن نفسه على ذلك و عزم عليه عزما جازما حصل مقصود الآمر،فلم يبق فى ذبح الولد مصلحة،فحال بينه و بينه، و فداه بالذّبح العظيم.و قيل له: يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا الصّافّات:104،105،أي عملت عمل المصدّق إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ من بادر إلى طاعتنا أقررنا عينه،كما قرّت عيناك بامتثال أوامرنا و إبقاء الولد و سلامته إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الصّافّات:106.

و هو اختيار المحبوب محبّه و امتحانه إيّاه ليؤثر مرضاته فيتمّ نعمته عليه،فهو بلاء محنة و منحة معا.

و الخلّة آخر درجات الحبّ و خاتمة أقسامه العشرة الّتي أوّلها:العلاقة،و ثانيها:الإرادة و ثالثها:

الصّبابة،و رابعها:الغرام،و خامسها:الوداد، و سادسها:الشّغف،و سابعها:العشق،و ثامنها:

التّتيّم.و تاسعها:التّعبّد-فحقيقة العبوديّة الحبّ التّامّ مع الذّلّ التّامّ و الخضوع للمحبوب-و عاشرها:

الخلّة الّتي انفرد بها الخليلان إبراهيم و محمّد عليهما السّلام.(بصائر ذوي التّمييز 2:556)

الطّريحيّ: و اختلف في معنى وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً النّساء:125،فقيل:نبيّا مختصّا به،قد تخلّل من أمره.و قيل:فقيرا محتاجا إليه.

و يقال:هو عبارة عن اصطفائه و اختصاصه بكرامة تشبه الخليل عند خليله.و في الحديث:«اتّخذ اللّه إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا،و نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا،و رسولا قبل أن يتّخذه خليلا،و خليلا قبل أن يجعله إماما،فلمّا جمع له هذه الأشياء،قال:

إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:124».

و في حديث وصف المؤمن:«مأمور بفكرته ضنين بخلّته»أي بخيل بها.و هو يحتمل وجهين:فتح الخاء، بمعنى لا يعرض له حاجة عند النّاس.و ضمّها،أي بمودّته و صداقته.

و الخلّة و الفقر و القتر و الضّيقة و العيلة و الحاجة كلّها نظائر.

و الخلّ:معروف،و هو أنواع.و الخلّ بالكسر:

الخليل.[و أدام نحو المتقدّمين](5:364)

العدنانيّ: الخلخال،الخلخل،الخلخل.

الحلية الّتي تلبسها المرأة في رجلها يسمّونها:

خلخالا،و الصّواب هو:

أ-الخلخال،قال امرؤ القيس:

كأنّي لم أركب جوادا للذّة

و لم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ص: 709

و ممّن ذكر الخلخال أيضا:المبرّد في«الكامل»، و محمّد الزّبيديّ في«لحن العوام»و كلاهما استشهد بقول خالد بن يزيد:

تجول خلاخيل النّساء و لا أرى

لرملة خلخالا يجول و لا قلبا

و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و تثقيف اللّسان لابن مكّيّ الصّقلّيّ،و المختار،و اللّسان، و القاموس،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن،و الوسيط.

ب-و الخلخل:جامع الكرمانيّ،و الصّحاح، و المختار،و اللّسان،و القاموس،و التّاج،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن،و الوسيط.و استشهد الصّحاح،و اللّسان،و التّاج بالشّطر التّالي:

*برّاقة الجيد صموت الخلخل*

ج-و الخلخل:الجامع للكرمانيّ،و اللّسان، و القاموس،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن.

و قد ذكر«المتن»اسما رابعا هو:«الخلخال»، و قد عثر هنا،لأنّني لم أجد الخاء مكسورة في المعاجم الأخرى.

و يجمع الخلخال على:خلاخيل،و الخلخل على:

خلاخل.قال المتنبّي:

من طاعني ثغر الرّجال جآذر

و من الرّماح دمالج و خلاخل

(1:204)

مجمع اللّغة :الخلّة:الصّداقة الخالصة الّتي تخلّلت القلب؛و جمعها:خلال.و خالّة مخالّة و خلالا:

صادقه على هذا النّحو.

و الخليل :الصّديق المخلص الّذي تخلّلت صداقته القلب،و هو الّذي أصفى المودّة و أصحّها،أو هو الحبيب،و الجمع:أخلاّء.

الخلل:منفرج ما بين كلّ شيئين؛و جمعه:خلال.

(1:362)

نحوه محمّد إسماعيل إبراهيم.(1:173)

المصطفويّ: و التّحقيق:أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة هو الانفراج،و يعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة «لابرلا داشتن».و هذا المفهوم ملحوظ في جميع موارد استعمالها.

و مفهوم الهزال و النّقص و الاحتياج و الفقر و البلى:كلّها من مصاديق الأصل الواحد،بشرط أن يلاحظ في كلّ واحد منها قيد الانفراج و التخلّل، لا مطلق تلك المفاهيم،بمعنى أن يكون تحصّل كلّ منها في إثر تحقّق انفراج بعد القوّة و القدرة و الاتّصال و الاستحكام و التّماميّة،فيختلف المعاني بحسب الموارد.

و أمّا الخليل بمعنى الصّديق،فالأصل فيه كون الشّخص ذا انفراج،و هذا كناية عن كونه صاحب أسرار و رموز يلقى إليه ما يستر عن غيره.و من لوازم هذا المعنى:المصادقة و المؤاخاة و الاختصاص و المودّة.

و هذا هو الفرق بينه و بين الصّديق و الرّفيق و الحبيب و المؤاخي و غيرها،فيلاحظ في كلّ منها خصوصيّة موادّها من الصّدق و الرّفق و الحبّ و الأخوّة و غيرها.

ص: 710

فالخليل في مقام المصاحبة و المؤانسة:هو من يكون مختصّا بكونه صاحب أسرار الإنسان و رموزه، مودعا إليه ما يكتمه من أقواله و أحواله.و أمّا الخليل في سائر الموارد و المقامات فيطلق على الفقير و المحتاج و الضّعيف و الأنف و الحبيب،و ما يكون من مصاديق الأصل أو من لوازمه.

و أمّا«الاختلال»،فالحقيقة فيه،هو ما أصّلناه وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً النّساء:125،أي مودع أسراره و موضع حقائقه،و يفهم منه كمال الاختصاص و الاصطفاء.و من هذا المعنى الآية الكريمة يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ الفرقان:28،و هكذا اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ الزّخرف:67 و الآية وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً الإسراء:73،فيراد المصاحب الخاصّ الّذي يلقى إليه مكنوناته و أسراره.

و لا يخفى أنّ اتّخاذ الخليل من اللّه و للّه يدلّ على كمال الإلهامات الغيبيّة و تمام المعارف و الإفاضات الإلهيّة،و هذا المعنى أعلى مقام و أسنى مرتبة للعبد.

و أمّا اتّخاذه من جانب العبد فلا يدلّ على مقام و لا مرتبة،بل فيه دلالة على عدم تحقّق صداقة و لا رفاقة و لا إخاء حقيقيّ،و إلقاء أسراره و ما يخفيه في قلبه لا يوجب مقاما إن لم يوجب انحطاطا زائدا،و لذا ترى قولهم: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً الفرقان:28.

فظهر لطف التّعبير بالمادّة في الموردين.[إلى أن قال:]

و الفرق بين الخلل و الفرجة و الوسط:أنّ النّظر في الوسط إلى جهة التّوسّط،أي الوقوع في وسط،و هو يعمّ الفرجة و غيرها.

و الفرجة عبارة عن التّوسّع و الانفتاح بين شيئين، و النّظر فيها إلى جهة التّوسّع.

و أمّا الخلل فقلنا:إنّه عبارة عن الفرج الواقعة في شيء من دون نظر إلى توسّط أو توسّع،و أنّ الدّقّة و اللّطف فيه أزيد.فالتّعبير بالمادّة في الآيات إشارة إلى تأكّد الدّقّة في التّخلّل...

و أمّا الخلّ بمناسبة تخلّل و فتور و ضعف حادث في الخمر و حدّته و غليانه،فيصير بذلك التّخلّل الحادث خلاّ.

فلحاظ التّخلّل«لابرلا داشتن»معتبر و منظور في جميع موارد استعمال المادّة.(3:120)

النّصوص التّفسيريّة

خلّة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ. البقرة:254

ابن عبّاس: لا مخالّة وَ لا شَفاعَةٌ للكافرين.

(36)

قتادة :قد علم اللّه أنّ ناسا يتحابّون في الدّنيا و يشفع بعضهم لبعض،فأمّا يوم القيامة،فلا خلّة إلاّ خلّة المتّقين.(الطّبريّ 3:5)

نحوه الواحديّ.(1:364)

ص: 711

زيد بن عليّ: و لا خليل.(151)

مقاتل: وَ لا خُلَّةٌ فيه ليعطيه بخلّة ما بينهما.

(1:212)

اليزيديّ: الخلّة:المودّة و المحبّة،و الخليل مشتقّ من ذلك.(96)

أبو عبيدة :مصدر الخليل،و تقول:فلان خلّتي، أي خليلي.[ثمّ استشهد بشعر](1:78)

ابن قتيبة :أي و لا صداقة تنفع يومئذ،و منه الخليل.(93)

القمّيّ: أي الصّداقة.(1:84)

مثله النّحّاس(1:259)،و الثّعلبيّ(2:227)، و البغويّ(1:344)،و الشّربينيّ(1:167)،و نحوه الآلوسيّ(3:4).

الطّبريّ: أعلمهم تعالى ذكره أنّ ذلك اليوم مع ارتفاع العمل الّذي ينال به رضى اللّه أو الوصول إلى كرامته بالنّفقة من الأموال؛إذ كان لا مال هنا لك يمكن إدراك ذلك به،يوم لا مخالّة فيه نافعة كما كانت في الدّنيا،فإنّ خليل الرّجل في الدّنيا قد كان ينفعه فيها بالنّصرة له على من حاوله بمكروه و أراده بسوء، و المظاهرة له على ذلك،فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك،لأنّه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من اللّه،بل اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الزّخرف:67،كما قال اللّه تعالى ذكره.و أخبرهم أيضا أنّهم يومئذ،مع فقدهم السّبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدّنيا بالنّفقة من أموالهم و العمل بأبدانهم،و عدمهم النّصراء من الخلاّن، و الظّهراء من الإخوان،لا شافع لهم يشفع عند اللّه.

(3:5)

الزّجّاج: الخلّة:الصّداقة،و يجوز(لا بيع فيه و لا خلّة و لا شفاعة)على الرّفع بتنوين و نصب بغير تنوين.

و يجوز(لا بيع فيه و لا خلّة و لا شفاعة)بنصب الأوّل بغير تنوين،و عطف الثّاني على موضع الأوّل، لأنّ موضعه نصب،إلاّ أنّ التّنوين حذف لعلّة قد ذكرناها،و يكون دخول(لا)مع حروف العطف مؤكّدا،لأنّك إذا عطفت على موضع ما بعد(لا)عطفته بتنوين،تقول:لا رجل و غلاما لك.[ثمّ استشهد بشعر]

(1:335)

السّجستانيّ: أي مودّة و صداقة متناهية في الإخلاص.(28)

نحوه الطّريحيّ.(5:36)

الهرويّ: و لا صداقة،و هي المخالّة و الخلال.

(2:592)

أبو زرعة:قرأ ابن كثير و أبو عمرو (لا بيع فيه و لا خلّة و لا شفاعة) نصب بغير تنوين على النّفي و التّبرئة.و قرأ الباقون بالرّفع و التّنوين.

اعلم أنّ(لا)إذا وقعت على نكرة جعلت هي و الاسم الّذي بعدها كاسم واحد،و بني ذلك على الفتح،فإذا كرّرت جاز الرّفع و النّصب.و إذا لم تكرّر فالوجه فيه الفتح،قال اللّه جلّ و عزّ: لا رَيْبَ فِيهِ البقرة:2.

من رفعه جعله جوابا لقول القائل:هل فيه بيع؟

ص: 712

هل فيه خلّة؟و من نصب جعله جوابا لقول القائل:

هل من بيع فيه؟هل من خلّة؟فجوابه:(لا بيع فيه و لا خلّة)لأنّ«من»لمّا كانت عاملة جعلت(لا)عاملة، و لمّا كانت جواب«هل»لم تعملها إذ كانت«هل» غير عاملة.(1:141)

القيسيّ: كلّ هذه الجمل في موضع النّعت المكرّر ل(يوم)،و الفتح و الرّفع في هذا بمنزلة فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ البقرة:197.(1:106)

نحوه السّمين.(1:611)

الرّاغب: أي لا يمكن في القيامة ابتياع حسنة و لا استجلابها بمودّة.و ذلك إشارة إلى قوله سبحانه:

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى النّجم:39،و قوله:

لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ إبراهيم:31.(154)

الزّمخشريّ: حتّى يسامحكم أخلاّؤكم به.

(1:384)

مثله النّسفيّ(1:128)،و نحوه أبو السّعود(1:

295)،و الكاشانيّ(1:259)،و البروسويّ(1:

396)،و شبّر(1:258)و القاسميّ(1:657).

ابن عطيّة: أخبر اللّه تعالى بعدم الخلّة يوم القيامة،و المعنى خلّة نافعة تقتضي المساهمة كما كانت في الدّنيا،و أهل التّقوى بينهم في ذلك اليوم خلّة، و لكنّها غير محتاج إليها و خلّة غيرهم لا تغني من اللّه شيئا.(1:339)

نحوه أبو حيّان(2:276)،و الثّعالبيّ(1:195).

الطّبرسيّ: أي و لا صداقة،لأنّهم بالمعاصي يصيرون أعداء.و قيل:لأنّ شغله بنفسه يمنع من صداقة غيره،و هذه كقوله: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الزّخرف:67.(1:360)

نحوه ابن جزيّ.(1:89)

أبو البركات: قرئ بالرّفع و البناء على الفتح.

فالرّفع بالابتداء أو على أن يجعل(لا)بمعنى«ليس» و(فيه)الخبر.و البناء على الفتح لما بيّنّا من قبل.

و يجوز فيه في العربيّة عدّة أوجه،و القراءة سنّة متّبعة،و كلّ هذه الجمل في موضع الوصف المكرّر ل(يوم)،و العائد من الصّفة إلى الموصوف الهاء في (فيه).(1:168)

ابن الجوزيّ: [ذكر القراءتين و أضاف:]

و الخلّة:الصّداقة،و قيل:إنّما نفى هذه الأشياء، لأنّه عنى عن الكافرين،و هذه الأشياء لا تنفعهم، و لهذا قال: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ. (1:302)

الفخر الرّازيّ: أمّا قوله: وَ لا خُلَّةٌ فالمراد المودّة،و نظيره من الآيات قوله تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الزّخرف:

67،و قال: وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ البقرة:166.

[و غيرهما من الآيات إلى أن قال:]

و اعلم أنّ قوله: وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ عامّ في الكلّ،إلاّ أنّ سائر الدّلائل دلّت على ثبوت المودّة و المحبّة بين المؤمنين،و على ثبوت الشّفاعة للمؤمنين...

و اعلم أنّ السّبب في عدم الخلّة و الشّفاعة يوم القيامة أمور:

أحدها:أنّ كلّ أحد يكون مشغولا بنفسه،على ما

ص: 713

قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ عبس:37.

و الثّاني:أنّ الخوف الشّديد غالب على كلّ أحد، على ما قال: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ... الحجّ:2.

و الثّالث:أنّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر و الفسق صار مبغضا لهذين الأمرين،و إذا صار مبغضا لهما صار مبغضا لمن كان موصوفا بهما.

(6:221)

القرطبيّ: أخبر اللّه تعالى:أن لا خلّة في الآخرة و لا شفاعة إلاّ بإذن اللّه.

[ثمّ ذكر القراءات نحو أبي زرعة و أضاف:]

و يجوز في غير القرآن«لا بيع فيه و لا خلّة»و يجوز أن تبنى الأوّل و تنصب الثّاني و تنوّنه،فتقول:

«لا رجل فيه و لا امرأة».

و وجه خامس:أن ترفع الأوّل و تبني الثّاني، كقولك:لا رجل فيه و لا امرأة.[ثمّ استشهد بالشّعر 3 مرّات](3:266)

البيضاويّ: و لا خلّة حتّى يعينكم عليه أخلاّؤكم أو يسامحوكم به...و إنّما رفعت ثلاثتها مع قصد التّعميم،لأنّها في التّقدير جواب:هل فيه بيع أو خلّة أو شفاعة،و قد فتحها ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب على الأصل.(1:132)

النّيسابوريّ: [نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]

ثمّ إنّه لمّا نفى الخلّة و الشّفاعة مطلقا،ذكر عقيبه قوله: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ ليدلّ على أنّ ذلك النّفي مختصّ بالكافرين.(3:10)

الخازن :أي و لا مودّة و لا صداقة وَ لا شَفاعَةٌ، و ظاهر هذا يقتضي نفي الخلّة و الشّفاعة،و قد دلّت النّصوص على ثبوت المودّة و الشّفاعة بين المؤمن، فيكون هذا عامّا مخصوصا.(1:225)

ابن كثير :لا تنفعه خلّة أحد،يعني صداقته،بل و لا نسابته،كما قال: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ... المؤمنون:101.(1:540)

المشهديّ: و لا خلّة حتّى يستغني بالأخلاّء.

(1:602)

الشّوكانيّ: الخلّة:خالص المودّة،مأخوذة من تخلّل الأسرار بين الصّديقين،أخبر سبحانه أنّه لا خلّة في يوم القيامة نافعة،و لا شفاعة مؤثّرة إلاّ لمن أذن اللّه له.(1:343)

رشيد رضا :أمّا البيع و الخلّة و الشّفاعة، فللمفسّرين في بيان المراد بنفيها طريقان:

أحدهما:أنّ المراد بالبيع:الكسب بأيّ نوع من أنواع المبادلة و المعاوضة،و المراد بالخلّة،و هي الصّداقة و المحبّة للقرابة و غيرهما لازمها،و هو ما يكون وراءها من الكسب و الصّلة و الهديّة و الوصيّة و الإرث...

و أمّا الطّريق الثّاني:فقد فسّروا فيه البيع بالافتداء،و جعلوا فيه الخلّة و الشّفاعة على ظاهرهما [إلى أن قال:]

و لا خلّة يحمل فيها خليل شيئا من أوزار خليله، أو يهبه شيئا من حسناته....(3:16)

ص: 714

نحوه حجازي(3:5)،و المراغيّ(3:9)،و محمّد عبد المنعم الجمّال(1:254).

طنطاوي:و لا أخلاّء تفزعون إليهم،و لا أصدقاء تستصرخونهم فيصرخونكم.(1:233)

فريد وجدي:هي المحبّة الّتي لا خلل فيها،جمعها:

خلال،و الاسم:الخلولة و الخلالة.(53)

ابن عاشور :و الخلّة بضمّ الخاء:المودّة و الصّحبة و يجوز كسر الخاء-و لم يقرأ به أحد-و تطلق الخلّة بالضّمّ على الصّديق تسمية بالمصدر،فيستوي فيه الواحد و غيره و المذكّر و غيره.

فيجوز أن يراد هنا بالخلّة المودّة،و نفي المودّة في ذلك لحصول أثرها و هو الدّفع عن الخليل،كقوله تعالى: وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً لقمان:33،و يجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه و هو النّفع كقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ الشّعراء:88.

و قرأ الجمهور لا بَيْعٌ فِيهِ و ما بعده بالرّفع،لأنّ المراد بالبيع و الخلّة و الشّفاعة الأجناس لا محالة؛إذ هي من أسماء المعاني الّتي لا آحاد لها في الخارج،فهي أسماء أجناس لا نكرات،و لذلك لا يحتمل نفيها إرادة نفي الواحد حتّى يحتاج عند قصد التّنصيص على إرادة نفي الجنس إلى بناء الاسم على الفتح،بخلاف نحو:لا رجل في الدّار،و لا إله إلاّ اللّه،و لهذا جاءت الرّواية في قول إحدى صواحب أمّ زرع«زوجي كليل تهامه لا حرّ و لا قرّ و لا مخافة و لا سآمة» بالرّفع لا غير،لأنّها أسماء أجناس،كما في هذه الآية.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب بالفتح لنفي الجنس نصّا،فالقراءتان متساويتان معنى.و من التّكلّف هنا قول البيضاويّ:إنّ وجه قراءة الرّفع وقوع النّفي في تقدير جواب لسؤال قائل:هل بيع فيه أو خلّة أو شفاعة؟[و استشهد بالشّعر مرّتين](2:489)

مغنيّة:المراد بالخلّة:المودّة الّتي تستدعي التّساهل و التّسامح.(1:390)

محمود صافي: اسم مصدر من فعل«خالّه»أي صادقه،فهي بمعنى الصّداقة،كأنّها تتخلّل الأعضاء، أي تدخل خلالها.و يحتمل أن تكون بمعنى اسم الفاعل،أي«مصادق»بكسر الدّال،أو بمعنى اسم المفعول،أي«مصادق»بفتح الدّال،و وزن خلّة«فعلة» بضمّ فسكون.(3:21)

طه الدّرّة: لا خُلَّةٌ: لا صداقة،هذا و الخليل :

الصّديق الّذي صفت مودّته،فتجد من خلاله مثل ما يجد من خلالك،و يسعى لمصلحتك كما يسعى لمصلحته،بل قد يؤثرك على نفسه،و يبذل روحه من أجلك.و هو معدوم في هذا الزّمن الّذي فسد أهله، و صاروا خلاّ ودودا.[إلى أن قال:]

و ممّا هو جدير بالذّكر أنّ كلّ صداقة لا تكون على أساس من التّقوى،تنقلب عداوة في الدّنيا و الآخرة، خذ قوله تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الزّخرف:67،و انظر نتيجة صداقة إبليس اللّعين في سورة إبراهيم و سورة ق.[و استشهد بالشّعر مرّتين](2:21)

عبد الكريم الخطيب :ليس هناك من صديق أو

ص: 715

معين يمدّ يده إلى غيره بشيء ممّا عنده،فلكلّ امرئ يومئذ شأن يغنيه.(2:315)

مكارم الشّيرازيّ: و لا هذه الصّدقات المادّيّة الّتي تكسبونها في الدّنيا بأموالكم تنفعكم في شيء هناك،لأنّ أصدقاءكم أنفسهم يعانون نتائج أعمالهم، و لا يدفعون من أنفسهم للآخرين.(2:168)

فضل اللّه :لا مجال للصّدقات الّتي يتوسّل بها الإنسان و يلجأ إليها لتدعم موقفه،و لتقضي له حاجاته.(5:26)

خلال

1- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ.

إبراهيم:31

جاءت بمعنى الآية السّابقة:فلاحظ

2- فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً.

الإسراء:5

ابن عبّاس: فقتلوكم وسط الدّيار في الأزقّة.

(233)

زيد بن عليّ: معناه:بين الدّيار.(247)

مثله السّجستانيّ.(106)

و هكذا ورد تفسير«خلال»في الآية عند أكثر المفسّرين.راجع:دور:«ديار».

خلاله

1- فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ. النّور:43

ابن عبّاس: ينزل من خلال السّحاب.(297)

نحوه مقاتل.(3:203)

زيد بن عليّ: أي من بين السّحاب.(291)

نحوه أبو عبيدة.(2:68)

ابن زيد :الخلال:السّحاب.(الطّبريّ 9:338)

الطّبريّ: فترى المطر يخرج من بين السّحاب، و هو الودق.و الهاء في قوله: مِنْ خِلالِهِ من ذكر السّحاب،و الخلال:جمع خلل.و ذكر عن ابن عبّاس و جماعة،أنّهم كانوا يقرءون ذلك(من خلله)...و أمّا أهل الأمصار فإنّهم على القراءة الأخرى مِنْ خِلالِهِ و هي الّتي نختار،لإجماع الحجّة من القرّاء عليها.(9:338)

نحوه الزّجّاج.(4:49)

الثّعلبيّ: وسطه،و هو جمع خلل.(7:112)

نحوه البغويّ.(3:422)

الواحديّ: جمع خلل،و هو مخارج القطر.

(3:323)

الزّمخشريّ: من فتوقه و مخارجه،جمع خلل، كجبال في جبل.و قرئ (من خلله) .(3:70)

نحوه الفخر الرّازيّ(24:12)،و الآلوسيّ(18:

190).

و هكذا ورد تفسير خِلالِهِ عند أكثر المفسّرين، فلا حاجة لتكراره.

2-و بهذا المعنى جاءت الآية:48،من سورة الرّوم: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.

ص: 716

خلالها

1- أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. الإسراء:91

ابن عبّاس: وسطها.(241)

مثله الثّعلبيّ(6:135)،و نحوه الواحديّ(3:

127)،و الآلوسيّ(15:168).

الطّبريّ: يعني بقوله: خِلالَها تَفْجِيراً بينها في أصولها،تفجيرا بسبب أبنيتها.(8:146)

الطّوسيّ: أي في خلالها و وسطها تشقيقا.

(6:519)

ابن عطيّة: ظرف،و معناه أثناءها و في داخلها.

(3:484)

و هكذا معناها عند أكثر المفسّرين،و جميعه متقارب.

2- أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً.

النّمل:61

جاءت بنفس معنى الآية:91،من سورة الإسراء.

خلالهما

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً. الكهف:33

جاءت بنفس معنى الآية:91،من سورة الإسراء.

خلالكم

وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ. التّوبة:47

ابن عبّاس: لساروا على الإبل وسطكم.

(159)

نحوه أبو الهيثم(الأزهريّ 6:569)،و الرّاغب (153)

قتادة :و لأوضعوا بينكم،خلالكم بالفتنة.

(الطّبريّ 6:383)

نحوه اليزيديّ(164)،و ابن قتيبة(187).

مقاتل:يتخلّل الرّاكب الرّجلين حتّى يدخل بينهما،فيقول ما لا ينبغي.(2:173)

الطّبريّ: و لأسرعوا بركائبهم السّير بينكم.

(6:383)

نحوه السّجستانيّ.(78)

الزّجّاج: لأسرعوا،فيما يخلّ بكم.(2:451)

و هكذا ورد المعنى عند أكثر المفسّرين.

خليلا

1- وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً. النّساء:125

النّبيّ: صلّى اللّه عليه و سلّم يا جبريل لم اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا؟ قال:لإطعامه الطّعام يا محمّد.(الواحديّ 2:122)

ابن عبّاس: مصافيا.(81)

نحوه البغويّ.(1:705)

صفيّا بالرّسالة و النّبوّة.(الواحديّ 2:121)

الإمام الباقر عليه السّلام:لمّا اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا أتاه ببشارة الخلّة ملك الموت في صورة شابّ أبيض، عليه ثوبان أبيضان،يقطر رأسه ماء و دهنا،فدخل إبراهيم عليه السّلام الدّار فاستقبله خارجا من الدّار،و كان

ص: 717

إبراهيم رجلا غيورا،و كان إذا خرج في حاجة أغلق بابه و أخذ مفتاحه معه،فخرج ذات يوم في حاجة، و أغلق بابه ثمّ رجع ففتح بابه،فإذا هو برجل قائم كأحسن ما يكون من الرّجال،فأخذه فقال:يا عبد اللّه ما أدخلك داري؟فقال:ربّها أدخلنيها،فقال إبراهيم:

ربّها أحقّ بها منّي فمن أنت؟قال:أنا ملك الموت،قال:

ففزع ابراهيم عليه السّلام فقال:جئتني لتسلبني روحي؟فقال:

لا،و لكنّ اللّه اتّخذ عبدا خليلا فجئته ببشارة،فقال إبراهيم:فمن هذا النّبيّ لعلّي أخدمه حتّى أموت؟ فقال:أنت هو،قال:فدخل على سارة فقال:إنّ اللّه اتّخذني خليلا.(العيّاشيّ 1:446)

الإمام الصّادق عليه السّلام:اذا سافر أحدكم فقدم من سفره فليأت أهله بما تيسّر و لو بحجر،فإنّ إبراهيم صلوات اللّه عليه و آله كان إذا ضاق أتى قومه،و إنّه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم أزمّة فرجع كما ذهب،فلمّا قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا،إرادة أن يسكن به من روح سارة،فلمّا دخل منزله حطّ الخرج عن الحمار و افتتح الصّلاة،فجاءت سارة فانفتحت الخرج فوجدته مملوء دقيقا،فاعتجنت منه و اختبزت،ثمّ قالت لإبراهيم:انفتل من صلاتك فكل،فقال لها:أنّى لك هذا؟قالت:من الدّقيق الّذي في الخرج،فرفع رأسه إلى السّماء فقال:أشهد أنّك الخليل.(العيّاشيّ 1:445)

[إنّما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا]لكثرة سجوده على الأرض.(الكاشانيّ 1:467)

إنّما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا،لأنّه لم يردّ أحدا، و لم يسأل أحدا قطّ غير اللّه عزّ و جلّ.(الطّباطبائيّ 5:96)

أنّه[اللّه]إنّما اتّخذ إبراهيم خليلا لطاعته و مسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إلى خلّته.

(مكارم الشّيرازيّ 3:414)

مقاتل:و الخليل :الحبيب،لأنّ اللّه أحبّه في كسره الأصنام و جداله قومه،و اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا قبل ذبح ابنه،فلمّا رأته الملائكة حين أمر بذبح ابنه،أراد المضيّ على ذلك،قالت الملائكة:لو أنّ اللّه عزّ و جلّ اتّخذ عبدا خليلا؛لاتّخذ هذا خليلا محبّا،و لا يعلمون أنّ اللّه عزّ و جلّ اتّخذه خليلا؛و ذلك أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأصحابه رضي اللّه عنهم:إنّ صاحبكم خليل الرّحمن، يعني نفسه،فقال المنافقون لليهود:أ لا تنظرون إلى محمّد يزعم أنّه خليل اللّه؟لقد اجترأ،فأنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً، و إنّما إبراهيم عبد من عباده مثل محمّد،و اتّخذ إبراهيم خليلا حين ألقي في النّار،فذهب حرّ النّيران يومئذ من الأرض كلّها.(1:410)

الفرّاء: يقول القائل:ما هذه الخلّة؟فذكر أنّ إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم كان يضيف الضّيفان و يطعم الطّعام، فأصاب النّاس سنة جدب فعزّ الطّعام.فبعث إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم إلى خليل له بمصر كانت الميرة من عنده،فبعث غلمانه معهم الغرائر و الإبل ليميره،فردّهم،و قال:

إبراهيم:لا يريد هذا لنفسه،إنّما يريده لغيره.قال:

فرجع غلمانه،فمرّوا ببطحاء لينة.فاحتملوا من رملها فملئوا الغرائر؛استحياء من أن يردّوها فارغة،فردّوا على إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبروه الخبر و امرأته نائمة،فوقع

ص: 718

عليه النّوم همّا،و انتبهت و النّاس على الباب يلتمسون الطّعام.فقالت للخبّازين:افتحوا هذه الغرائر و اعتجنوا،ففتحوها فإذا أطيب طعام،فعجنوا و اختبزوا.و انتبه إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم فوجد ريح الطّعام،فقال:

من أين هذا؟فقالت امرأة إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم:هذا من عند خليلك المصريّ،فقال:إبراهيم:هذا من عند خليلي اللّه لا من عند خليلي المصريّ.قال:فذلك خلّته.

(1:289)

الإمام الهاديّ عليه السّلام:[اتّخذ اللّه خليلا]لكثرة صلواته على محمّد و أهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين.(الكاشانيّ 1:467)

الجبّائيّ: كلّ نبيّ فهو خليل اللّه،لأنّه خصّه بما لم يخصّ به غيره.(الطّوسيّ 3:341)

الطّبريّ: و اتّخذ اللّه إبراهيم وليّا.فإن قال قائل:

و ما معنى الخلّة الّتي أعطيها إبراهيم؟قيل:ذلك من إبراهيم عليه السّلام العداوة في اللّه و البغض فيه،و الولاية في اللّه و الحبّ فيه،على ما يعرف من معاني الخلّة.و أمّا من اللّه لإبراهيم،فنصرته على من حاوله بسوء، كالّذي فعل به إذ أراده نمرود بما أراده به من الإحراق بالنّار،فأنقذه منها،أو على حجّته عليه إذ حاجّه، و كما فعل بملك مصر إذ أراده عن أهله،و تمكينه ممّا أحبّ،و تصييره إماما لمن بعده من عباده،و قدوة لمن خلّفه في طاعته و عبادته،فذلك معنى مخالّته إيّاه.

و قد قيل:سمّاه اللّه خليلا من أجل أنّه أصاب أهل ناحيته جدب،فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل- و قال بعضهم:من أهل مصر-في امتيار طعام لأهله من قبله،فلم يصب عنده حاجته،فلمّا قرب من أهله مرّ بمفازة ذات رمل،فقال:لو ملأت غرائري من هذا الرّمل لئلاّ أغمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، و ليظنّوا أنّي قد أتيتهم بما يحبّون!ففعل ذلك،فتحوّل ما في غرائره من الرّمل دقيقا.فلمّا صار إلى منزله نام و قام أهله،ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا،فعجنوا منه و خبزوا،فاستيقظ فسألهم عن الدّقيق الّذي منه خبزوا،فقالوا:من الدّقيق الّذي جئت به من عند خليلك،فعلم،فقال:نعم هو من خليلي اللّه.قالوا:

فسمّاه اللّه بذلك خليلا...(4:296)

الزّجّاج: الخليل :المحبّ الّذي ليس في محبّته خلل،فجائز أن يكون إبراهيم سمّي خليل اللّه،بأنّه الّذي أحبّه اللّه و اصطفاه محبّة تامّة كاملة.

و قيل أيضا:الخليل الفقير،فجائز أن يكون فقير اللّه،أي الّذي لم يجعل فقره و فاقته إلاّ إلى اللّه مخلصا في ذلك.قال اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ فاطر:15.[إلى أن قال:]

و جاء في التّفسير أنّ إبراهيم كان يضيف الضّيفان و يطعم المساكين الطّعام.[و ذكر قصّة الجدب نحو الطّبريّ](2:112)

نحوه ملخّصا الهرويّ.(2:592)

البلخيّ: هو من الخلّة لا من الخلّة،و من قاسه بالحبيب فقد أخطأ،لأنّ اللّه يجوز أن يحبّ عبده،فإنّ المحبّة منه الثّناء،و لا يجوز أن يخالّه.(الرّاغب:153)

الطّوسيّ: و معنى الخليل يحتمل أمرين:

أحدهما:المحبّة،مشتقا من«الخلّة»بضمّ الخاء،

ص: 719

و المعنى:اتّخذ اللّه إبراهيم محبّا.و تكون خلّة إبراهيم:

موالاته لأولياء اللّه و معاداته لأعدائه.و خلّة اللّه له نصرته على من أراده بسوء،مثل ما أراد نمرود من إحراقه بالنّار،فأنقذه اللّه منها،و أعلى حجّته عليه.

و كما فعل بملك مصر حين راوده عن أهله،و جعله إماما لمن بعده من عباده،و قدوة لهم.

و الثّاني:أن يكون ذلك مشتقّا من«الخلّة»الّتي هي الفقر بفتح الخاء.[إلى أن قال:]

و إنّما خصّ اللّه تعالى إبراهيم بأنّه خليله من الفقر،و إن كان الخلق كلّهم فقراء إلى رحمته،تشريفا له بالنّسبة إليه و اختصاصه به؛من حيث إنّه فقير إليه لا يرجو لسدّ خلّته سواه،و خصّ إبراهيم من بين سائر الأنبياء بأنّه خليل اللّه على المعنيين.(3:340)

القشيريّ: و قوله: وَ اتَّخَذَ اللّهُ... جرّد الحديث عن كلّ سعي و كدّ و طلب و جهد؛حيث قال:

وَ اتَّخَذَ اللّهُ... فعلم أنّ الخلّة لبسة يلبسها الحقّ، لا صفة يكتسبها العبد.

و يقال: الخليل :المحتاج بالكلّيّة إلى الحقّ في كلّ نفس ليس له شيء منه،بل هو باللّه للّه في جميع أنفاسه و أحواله،اشتقاقا من الخلّة الّتي هي الخصاصة،و هي الحاجة.

و يقال:إنّه من«الخلّة»الّتي هي المحبّة،و الخلّة أن تباشر المحبّة جميع أجزائه،و تتخلّل سرّه حتّى لا يكون فيه مساغ للغير.

فلمّا صفّاه اللّه سبحانه عليه السّلام،و أخلاه منه،نصبه للقيام بحقّه بعد امتحانه عن كلّ شيء ليس اللّه سبحانه.(2:62)

الرّاغب: قيل:سمّاه بذلك لافتقاره إليه سبحانه في كلّ حال،الافتقار المعنيّ بقوله: إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ القصص:24،و على هذا الوجه قيل:

اللّهمّ أغنني بالافتقار إليك و لا تفقرني بالاستغناء عنك.و قيل:بل من«الخلّة»و استعمالها فيه كاستعمال المحبّة فيه.[ذكر كلام البلخيّ ثمّ قال:]

و هذا منه اشتباه،فإنّ الخلّة من تخلّل الودّ نفسه و مخالطته.[ثمّ استشهد بشعر]

و لهذا يقال:تمازج روحانا.و المحبّة البلوغ بالودّ إلى حبّة القلب من قولهم:حببته،إذا أصبت حبّة قلبه، لكن إذا استعملت المحبّة في اللّه فالمراد بها مجرّد الإحسان و كذا الخلّة،فإن جاز في أحد اللّفظين جاز في الآخر،فأمّا أن يراد بالحبّ حبّة القلب،و الخلّة التّخلل فحاشا له سبحانه أن يراد فيه ذلك.(153)

الزّمخشريّ: وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً مجاز عن اصطفائه و اختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله.و الخليل :المخالّ و هو الّذي يخالّك،أي يوافقك في خلالك و يسايرك في طريقك من الخلّ:

و هو الطّريق في الرّمل،أو يسدّ خللك كما تسدّ خلله أو يداخلك خلال منازلك و حجبك.

فإن قلت:ما موقع هذه الجملة؟قلت:هي جملة اعتراضيّة لا محلّ لها من الإعراب،كنحو ما يجيء في الشّعر من قولهم:

*و الحوادث جمّة*

فائدتها تأكيد وجوب اتّباع ملّته،لأنّ من بلغ من

ص: 720

الزّلفى عند اللّه أن اتّخذه خليلا،كان جديرا بأن تتّبع ملّته و طريقته.و لو جعلتها معطوفة على الجملة قبلها، لم يكن لها معنى.

و قيل:إنّ إبراهيم عليه السّلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت النّاس يمتار منه.[و ذكر قصّة الجدب الّتي مرّت](1:566)

نحوه ملخّصا البيضاويّ(1:246)،و أبو السّعود (2:201)،و البروسويّ(2:293).

ابن عطيّة: لمّا ذكر اللّه تعالى إبراهيم بأنّه الّذي يجب اتّباعه،شرّفه بذكر الخلّة،و إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم سمّاه اللّه خليلا إذ كان خلوصه و عبادته و اجتهاده على الغاية الّتي يجري إليها المحبّ المبالغ،و كان لطف اللّه به و رحمته و نصرته له بحسب ذلك.و ذهب قوم إلى أنّ إبراهيم سمّي خليلا من«الخلّة»بفتح الخاء أي لأنّه أنزل خلّته و فاقته باللّه تعالى.

و قال قوم:سمّي خليلا،لأنّه فيما روي في الحديث...[و ذكر قصّة الجدب و أضاف:]

و في هذا ضعف،و لا تقتضي هذه القصّة أن يسمّى بذلك اسما غالبا،و إنّما هو شيء شرّفه اللّه به كما شرّف محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم فقد صحّ في كتاب مسلم و غيره أنّ اللّه اتّخذه خليلا.(2:117)

الطّبرسيّ: [نحو المتقدّمين و أضاف:]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما اتّخذ إبراهيم خليلا لطاعته و مسارعته إلى رضاه،لا لحاجة منه سبحانه إلى خلّته.(2:116)

ابن الجوزيّ: و في سبب اتّخاذ اللّه له خليلا ثلاثة أقوال:

أحدها:أنّه اتّخذه خليلا لإطعامه الطّعام.[نقل حديث النّبيّ المتقدّم] و الثّاني:أنّ النّاس أصابتهم سنة،فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطّعام،و كانت له ميرة من صديق له بمصر.[و ذكر القصّة كما مرّت]

و الثّالث:أنّه اتّخذه خليلا لكسره الأصنام، و جداله قومه،قاله مقاتل.(2:212)

الفخر الرّازيّ: و فيه مسائل:

المسألة الأولى:في تعلّق هذه الآية بما قبلها،و فيه وجهان:

الأوّل:أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا بلغ في علوّ الدّرجة في اللين أن اتّخذه اللّه خليلا كان جديرا بأنّ يتّبع خلقه و طريقته.

و الثّاني:أنّه لمّا ذكر ملّة إبراهيم و وصفه بكونه حنيفا ثمّ قال عقيبه: وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً أشعر هذا بأنّه سبحانه إنّما اتّخذه خليلا،لأنّه كان عالما بذلك الشّرع آتيا بتلك التّكاليف.و ممّا يؤكّد هذه قوله:

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:124،و هذا يدلّ على أنّه سبحانه إنّما جعله إماما للخلق،لأنّه أتمّ تلك الكلمات.

و إذا ثبت هذا فنقول:لمّا دلّت الآية على أنّ إبراهيم عليه السّلام إنّما كان بهذا المنصب العالي،و هو كونه خليلا للّه تعالى بسبب أنّه كان عاملا بتلك الشّريعة، كان هذا تنبيها على أنّ من عمل بهذا الشّرع لا بدّ و أن

ص: 721

يفوز بأعظم المناصب في الدّين،و ذلك يفيد التّرغيب العظيم في هذا الدّين.

فإن قيل:ما موقع قوله: وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً؟

قلنا:هذه الجملة اعتراضيّة لا محلّ لها من الإعراب و نظيره ما جاء في الشّعر من قوله:

*و الحوادث جمّة*

و الجملة الاعتراضيّة من شأنها تأكيد ذلك الكلام،و الأمر هاهنا كذلك على ما بيّنّاه.

المسألة الثّانية:ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها:

الأوّل:أنّ خليل الإنسان هو الّذي يدخل في خلال أموره و أسراره،و الّذي دخل حبّه في خلال أجزاء قلبه،و لا شكّ أنّ ذلك هو الغاية في المحبّة.

قيل:لمّا أطلع اللّه إبراهيم عليه السّلام على الملكوت الأعلى و الأسفل و دعا القوم مرّة بعد أخرى إلى توحيد اللّه،و منعهم عن عبادة النّجم و القمر و الشّمس،و منعهم عن عبادة الأوثان،ثمّ سلّم نفسه للنّيران و ولده للقربان و ماله للضّيفان جعله اللّه إماما للخلق و رسولا إليهم،و بشّره بأنّ الملك و النّبوّة في ذرّيّته،فلهذه الاختصاصات سمّاه خليلا،لأنّ محبّة اللّه لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات و المنافع إليه.

الوجه الثّاني:في اشتقاق اسم«الخليل»أنّه الّذي يوافقك في خلالك.

أقول:روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«تخلّقوا بأخلاق اللّه»فيشبّه أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا بلغ في هذا الباب مبلغا لم يبلغه أحد ممّن تقدّم لا جرم خصّه اللّه بهذا التّشريف.

الوجه الثّالث:قال صاحب«الكشّاف»:إنّ «الخليل»هو الّذي يسايرك في طريقك،من الخلّ و هو الطّريق في الرّمل،و هذا الوجه قريب من الوجه الثّاني.أو يحمل ذلك على شدّة طاعته للّه و عدم تمرّده في ظاهره و باطنه عن حكم اللّه،كما أخبر اللّه عنه بقوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ البقرة:131.

الوجه الرّابع:الخليل هو الّذي يسدّ خللك كما تسدّ خلله،و هذا القول ضعيف،لأنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا كان خليلا مع اللّه امتنع أن يقال:إنّه يسدّ الخلل،و من هاهنا علمنا أنّه لا يمكن تفسير الخليل بذلك.

أمّا المفسّرون فقد ذكروا في سبب نزول هذا اللّقب وجوها:

الأوّل:أنّه لمّا صار الرّمل الّذي أتى به غلمانه دقيقا،قالت امرأته:هذا من عند خليلك المصريّ،فقال إبراهيم:بل هو من خليلي اللّه.

و الثّاني:قال شهر بن حوشب:هبط ملك في صورة رجل،و ذكر اسم اللّه بصوت رخيم شجيّ،فقال إبراهيم عليه السّلام:اذكره مرّة أخرى،فقال:لا أذكره مجّانا، فقال:لك مالي كلّه،فذكره الملك بصوت أشجى من الأوّل،فقال:اذكره مرّة ثالثة و لك أولادي،فقال الملك:أبشر فإنّي ملك لا أحتاج إلى مالك و ولدك، و إنّما كان المقصود امتحانك،فلمّا بذل المال و الأولاد على سماع ذكر اللّه لا جرم اتّخذه اللّه خليلا.

ص: 722

الثّالث:روى طاوس عن ابن عبّاس أنّ جبريل و الملائكة لمّا دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه،و ظنّ الخليل أنّهم أضيافه،و ذبح لهم عجلا سمينا و قرّبه إليهم،و قال كلوا على شرط أن تسمّوا اللّه في أوّله و تحمدوه في آخره،فقال:جبريل:

أنت خليل اللّه،فنزل هذا الوصف.

و أقول:فيه عندي وجه آخر،و هو أنّ جوهر الرّوح إذا كان مضيئا مشرقا علويّا قليل التّعلّق باللّذّات الجسمانيّة و الأحوال الجسدانيّة،ثمّ انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدّس الشّريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانيّة،و أفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسيّة و الجلايا الإلهيّة،صار مثل هذا الإنسان متوغّلا في عالم القدس و الطّهارة،متبرّئا عن علائق الجسم و الحسّ،ثمّ لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشّريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلاّ اللّه،و لا يسمع إلاّ اللّه،و لا يتحرّك إلاّ باللّه، و لا يسكن إلاّ باللّه،و لا يمشي إلاّ باللّه،فكان نور جلال اللّه قد سرى في جميع قواه الجسمانيّة و تخلّل فيها، و غاص في جواهرها،و توغّل في ماهيّاتها،فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقّا بأنّه«خليل»لما أنّه تخلّلت محبّة اللّه في جميع قواه.و إليه الإشارة بقول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في دعائه:«اللّهمّ اجعل في قلبي نورا و في سمعي نورا و في بصري نورا و في عصبي نورا».

المسألة الثّالثة:قال بعض النّصارى:لمّا جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معيّن على سبيل الإعزاز و التّشريف،فلم لا يجوز إطلاق اسم الابن في حقّ عيسى عليه السّلام على سبيل الإعزاز و التّشريف.

و جوابه:أنّ الفرق أنّ كونه خليلا عبارة عن المحبّة المفرطة،و ذلك لا يقتضي الجنسيّة،أمّا الابن فإنّه مشعر بالجنسيّة،و جلّ الإله عن مجانسة الممكنات، و مشابهة المحدثات.(11:57)

نحوه النّيسابوريّ(5:152)،و الخازن(1:502).

ابن عربيّ: يخالّه،أي يداخله في خلال ذاته و صفاته،بحيث لا يذر منها بقيّة أو يسدّ خلله،و يقوم بدل ما يفنى منه عند تكميله و فقر إليه،فالخليل و إن كان أعلى مرتبة من الصّفيّ،لكنّه أدون من الحبيب، لأنّ الخليل محبّ يوشك أن يتوهّم فيه بقيّة غيريّة، و الحبيب محبوب لا يتصوّر فيه ذلك،و لهذا ألقي في نار العشق دونه.(1:289)

القرطبيّ: خليل«فعيل»بمعنى فاعل،كالعليم بمعنى العالم.و قيل:هو بمعنى«المفعول»كالحبيب بمعنى المحبوب،و إبراهيم كان محبّا للّه و كان محبوبا للّه.

و قيل:الخليل من الاختصاص،فاللّه عزّ و جلّ أعلم اختصّ إبراهيم في وقته للرّسالة.و اختار هذا النّحّاس قال:و الدّليل على هذا قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«و قد اتّخذ اللّه صاحبكم خليلا»يعني نفسه.[إلى أن قال:]

و قيل:الخليل المحتاج،فإبراهيم خليل اللّه على معنى أنّه فقير محتاج إلى اللّه تعالى،كأنّه الّذي به الاختلال.[و استشهد بشعر ثمّ ذكر قول الزّجّاج و غيره إلى أن قال:]

و قيل:إنّه أضاف رؤساء الكفّار،و أهدى لهم هدايا،و أحسن إليهم،فقالوا له:ما حاجتك؟قال:

ص: 723

حاجتي أن تسجدوا سجدة،فسجدوا فدعا اللّه تعالى و قال:اللّهمّ إنّي قد فعلت ما أمكنني،فافعل اللّهمّ ما أنت أهل لذلك،فوفّقهم اللّه تعالى للإسلام،فاتّخذه اللّه خليلا لذلك.

و يقال:لمّا دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميّين، و جاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه،و قالوا:إنّا لا نأكل شيئا بغير ثمن،فقال لهم:أعطوا ثمنه و كلوا،قالوا:و ما ثمنه؟قال:أن تقولوا في أوّله:باسم اللّه،و في آخره:

الحمد للّه،فقالوا فيما بينهم:حقّ على اللّه أن يتّخذه خليلا،فاتّخذه اللّه خليلا.[ثمّ ذكر أقوالا قد مرّت]

(5:400)

النّسفيّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و في الحديث:«اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا لإطعامه الطّعام،و إفشائه السّلام،و صلاته باللّيل و النّاس نيام».و قيل:أوحى إليه:إنّما اتّخذتك خليلا لأنّك تحبّ أن تعطي و لا تعطى،و في رواية:لأنّك تعطي النّاس و لا تسألهم.(1:253)

أبو حيّان: هذا مجاز عن اصطفائه و اختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله،و تقدّم اشتقاق الخليل في«المفردات».و الجمهور:على أنّها من«الخلّة»و هي المودّة الّتي ليس فيها خلل.و قول محمّد بن عيسى الهاشميّ:إنّه إنّما سمّي خليلا،لأنّه تخلّى عمّا سوى خليله.فإن كان فسّر المعنى فيمكن، و إن كان أراد الاشتقاق فلا يصحّ،لاختلاف المادّتين.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:يا جبريل بم اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا؟قال:لإطعامه الطّعام و الكرامة الّتي أكرمه اللّه بها،ذكروها في قصّة مطوّلة عن ابن عبّاس مضمونها:أنّ اللّه قلب له غرائر الرّمل دقيقا حواري عجن،و خبز و أطعم النّاس منه.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:اتّخذ اللّه ابراهيم خليلا و موسى نجيّا و اتّخذني حبيبا،ثمّ قال:و عزّتي و جلالي لأوثرنّ حبيبي على خليلي و نجيّي.لمّا أثنى على من اتّبع ملّة ابراهيم أخبر بمزيّته عنده و اصطفائه،ليكون ذلك أدعى إلى اتّباعه،لأنّ من اختصّه اللّه بالخلّة جدير بأن يتّبع،أو ليبيّن أنّ تلك الخلّة إنّما سببها حنيفيّة إبراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحقّ،كقوله: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات،و نبّه بذلك على أنّ من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه.

و ليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، لأنّ الجملة قبلها معطوفة على صلة(من)،و لا تصلح هذه للصّلة،و إنّما هي معطوفة على الجملة الاستفهاميّة الّتي معناها الخبر،أي لا أحد أحسن دينا ممّن أسلم وجهه للّه،نبّهت على شرف المنبع و فوز المتّبع.[ثمّ ذكر كلام الزّمخشريّ في كون الجملة اعتراضيّة و قال:]

فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضّوء،فيمكن أن يصحّ قوله،كأنّه يقول:اعترضت الكلام.و إن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح؛إذ لا يعترض إلاّ بين مفتقرين كصلة و موصول،و شرط و جزاء،و قسم و مقسم عليه،

ص: 724

و تابع و متبوع،و عامل و معمول،و قوله:«كنحو ما يجيء في الشّعر من قولهم:و الحوادث جمّة»فالّذي نحفظه أنّ مجيء الحوادث جمّة إنّما هو بين مفتقرين نحو قوله:

و قد أدركتني و الحوادث جمّة

أسنّة قوم لا ضعاف و لا عزل

و نحو قول الآخر:

ألا هل أتاها و الحوادث جمّة

بأنّ امرأ القيس بن تملك بيقرا

و لا نحفظه جاء آخر كلام.(3:356)

ابن كثير :و هذا من باب التّرغيب في اتّباعه، لأنّه إمام يقتدى به،حيث وصل إلى غاية ما يتقرّب به العباد له،فإنّه انتهى إلى درجة الخلّة الّتي هي أرفع مقامات المحبّة،و ما ذاك إلاّ لكثرة طاعته لربّه،كما وصفه به في قوله: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى النّجم:37، [إلى أن قال:]

و إنّما سمّي خليل اللّه لشدّة محبّته لربّه عزّ و جلّ، لما قام له به من الطّاعة الّتي يحبّها و يرضاها.

(2:402)

الشّربينيّ: أي صفيّا خالص المحبّة له،و إنّما أعاد ذكره و لم يضمره تفخيما له،و تنصيصا على أنّه الممدوح.[ثمّ أدام الكلام نحو السّابقين](1:335)

نحوه المشهديّ(2:633)و طه الدّرّة(3:142).

الكاشانيّ: [ذكر بعض الأخبار المتقدّمة و أضاف:]

أقول:لا تنافي بين هذه الأخبار،لأنّها كلّها مشترك في معنى انقطاعه إلى اللّه،و استغنائه عمّا سواه،و أنّه الموجب لاتّخاذ اللّه إيّاه خليلا.و ممّا يدلّ على هذا المعنى ما ورد في بعض الرّوايات:أنّ الملائكة قال بعضهم لبعض:اتّخذ ربّنا من نطفة خليلا،و قد أعطاه ملكا عظيما جزيلا.[ثمّ ذكر قصّة عجيبة عن كرم إبراهيم لذلك الملائكة كلّهم](1:467)

الشّوكانيّ: أي جعله صفوة له،و خصّه بكرامته [ثمّ أدام نحو القرطبيّ](1:661)

الآلوسيّ: [نحو المتقدّمين و أضاف:]

و لا يجوز العطف-خلافا لمن زعمه-على وَ مَنْ أَحْسَنُ إلخ،سواء كان استطرادا أو اعتراضا و توكيدا لمعنى قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ و بيانا لأنّ الصّالحات ما هي؟و أنّ المؤمن من هو،لفقد المناسبة،و الجامع بين المعطوف و المعطوف عليه و أدائه ما يؤدّيه من التّوكيد و البيان.و لا على صلة(من)لعدم صلوحه لها،و عدم صحّة عطفه على وَ هُوَ مُحْسِنٌ أظهر من أن يخفى.و جعل الجملة حاليّة بتقدير«قد» خلاف الظّاهر،و العطف على(حنيفا)لا يصحّ إلاّ بتكلّف.[ثمّ ذكر اشتقاق كلمة الخليل،و أسباب التّسمية،إلى أن قال:]

و الظّاهر من كلام المحقّقين أنّ الخلّة مرتبة من مراتب المحبّة،و أنّ المحبّة أوسع دائرة،و أنّ من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه السّلام،و هي المرتبة الثّابتة له صلّى اللّه عليه و سلّم و أنّه قد حصل لنبيّنا عليه الصّلاة و السّلام من مقام الخلّة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه السّلام،و في الفرع ما في الأصل و زيادة،و يرشدك إلى ذلك أنّ التّخلّق

ص: 725

بأخلاق اللّه تعالى الّذي هو من آثار الخلّة عند أهل الاختصاص،أظهر و أتمّ في نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم منه في إبراهيم عليه السّلام،فقد صحّ أنّ خلقه القرآن و جاء عنه صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:

«بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»،و شهد اللّه تعالى له بقوله: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم:3،و منشأ إكرام الضّيف الرّحمة و عرشها المحيط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كما يؤذن بذلك قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ الأنبياء:107،و لهذا كان الخاتم عليه الصّلاة و السّلام.

و قد روى الحاكم و صحّحه عن جندب أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقول قبل أن يتوفّى:«إنّ اللّه تعالى اتّخذني خليلا،كما اتّخذ إبراهيم خليلا»و التّشبيه على حدّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة:183،في رأي.و قيل:إنّ«يتوفّى» لا دلالة فيه على أنّ مقام الخلّة بعد مقام المحبّة كما لا يخفى.

و في لفظ الحبّ و الخلّة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما،و يرشده إلى معرفة أنّ أيّ الدّائرتين أوسع.و ذهب غير واحد من الفضلاء إلى أنّ الآية من باب الاستعارة التّمثيليّة لتنزّهه تعالى عن صاحب و خليل،و المراد اصطفاه و خصّصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله.و أمّا في الخليل وحده فاستعارة تصريحيّة على ما نصّ عليه الشّهاب،إلاّ أنّه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام.

و ادّعى بعضهم أنّه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام بالخليل حقيقة على معنى الصّادق،أو من أصفى المودّة و أصحّها أو نحو ذلك،و عدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصّلاة و السّلام مع أنّ مقام الخلّة بالمعنى المشهور عند العارفين غير مختصّ به،بل كلّ نبيّ خليل اللّه تعالى:إمّا لأنّ ثبوت ذلك المقام له عليه الصّلاة و السّلام على وجه لم يثبت لغيره كما قيل،و إمّا لزيادة التّشريف و التّعظيم كما نقول.

و اعترض بعض النّصارى بأنّه إذا جاز إطلاق «الخليل»على إنسان تشريفا،فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك.

و أجيب بأنّ الخلّة لا تقتضي الجنسيّة بخلاف البنوّة فإنّها تقتضيها قطعا،و اللّه تعالى هو المنزّه عن مجانسة المحدثات.(5:154)

محمّد عبده:أي اصطفاه لتوحيده و إقامة دينه في زمن و بلاد غلبت عليها الوثنيّة،و قوم أفسد الشّرك عقولهم و دنس فطرتهم،فكان إبراهيم خالصا مخلصا للّه،و بهذا المعنى سمّاه اللّه خليلا.و إذا أراد اللّه أن يكرم عبدا من عباده أطلق عليه ما شاء،و إلاّ فإنّ المعنى المتبادر من لفظ«الخليل»في استعمالنا له يتنزّه اللّه عنه،فإنّ الخلّة بين الخليلين إنّما تتحقّق بشيء من المساواة بينهما،و هي من مادّة التّخلّل الّذي هو بمعنى الامتزاج و الاختلاط.(رشيد رضا 5:438)

نحوه المراغيّ.(5:167)

القاسميّ: [نحو الشّربينيّ و غيره،و أضاف بعد نقل كلام الفخر الرّازيّ في الاشتقاق و قال:]

قال الإمام العلاّمة شمس الدّين بن القيّم في كتابه «الجواب الكافي»:الخلّة تتضمّن كمال المحبّة و نهايتها؛

ص: 726

بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه،و هي منصب لا يقبل المشاركة بوجه ما،و هذا المنصب خاصّة للخليلين صلوات اللّه و سلامه عليهما:إبراهيم و محمّد،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ اللّه اتّخذني خليلا كما اتّخذ إبراهيم خليلا».(5:1578)

رشيد رضا :[ذكر كلام محمّد عبده ثمّ قال:]

أقول:يطلق الخليل بمعنى الحبيب أو المحبّ لمن يحبّه،إذا كانت هذه المحبّة خالصة من كلّ شائبة؛ بحيث لم تدع في قلب صاحبها موضعا لحبّ آخر،و هو من الخلّة بالضّمّ،أي المحبّة و المودّة الّتي تتخلّل النّفس و تمازجها.[ثمّ استشهد بشعر]

و قد كان إبراهيم كامل الحبّ للّه،و لذلك عادى أباه و قومه و جميع النّاس في حبّه تعالى و الإخلاص له.

و قيل:إنّ الخليل هنا مشتقّ من«الخلّة»بفتح الخاء و هي الحاجة لأنّ إبراهيم ما كان يشعر بحاجته إلى أحد غير اللّه عزّ و جلّ حتّى قال في الحاجات العادية الّتي تكون بالتّعاون بين النّاس: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ الشّعراء:

78،79،و الأوّل أظهر و أكمل.

و المراد بذكر هذه الخلّة الإشارة إلى أعلى مراتب الإيمان الّتي كان عليها إبراهيم،ليتذكّر الّذين يدعون اتّباعه من اليهود و النّصارى و العرب ما كان عليه من الكمال،و ما هم عليه من النّقص،و لذلك ذكر أهل الأثر أنّ هذه الآية نزلت في سياق الرّدّ على أولئك المتفاخرين بدينهم،المتبجّح كلّ منهم بأنّه على ملّة إبراهيم.

و المعنى أنّ إبراهيم قد اتّخذه اللّه خليلا بأن منّ عليه بسلامة الفطرة و قوّة العقل و صفاء الرّوح و كمال المعرفة بالوحي،و الفناء في التّوحيد،فأين أنتم من ذلك؟و لا تكاد توجد كلمة في اللّغة تمثّل هذه المعاني غير كلمة«الخليل»،و أمّا لوازم هذه الكلمة في استعمال البشر الّتي هي خاصّة بهم فينزّه اللّه عنها بأدلّة العقل و النّقل.(5:439)

ابن عاشور :عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتّبع دينه زيادة تنويه بدين إبراهيم،فأخبر أنّ اللّه اتّخذ إبراهيم خليلا.و الخليل في كلام العرب:الصّاحب الملازم الّذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتقّ من الخلال،و هو النّواحي المتخلّلة للمكان فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ النّور:43، فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً الكهف:33.هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل.و يقال:خلّ و خلّ بكسر الخاء و ضمّها؛و مؤنّثه:خلّة بضمّ الخاء.و لا يقال بكسر الخاء،قال كعب:

*أكرم بها خلّة لو أنّها صدقت*

و جمعها:خلائل.و تطلق الخلّة بضمّ الخاء على الصّحبة الخالصة لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ البقرة:254،و جمعها:خلال مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ إبراهيم:31.و معنى اتّخاذ اللّه إبراهيم خليلا شدّة رضى اللّه عنه؛إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخلّة الحقيقيّة تستحيل على اللّه،فأريد لوازمها و هي الرّضى،و استجابة الدّعوة،و ذكره بخير،و نحو ذلك.(4:262)

ص: 727

مغنيّة:لقد اختصّ اللّه إبراهيم عليه السّلام بمنزلة عظمى تكاد تكون فوق النّبوّة و الرّسالة،قال الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام:«إنّ اللّه اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا،و اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا،و اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا».(2:448)

محمّد عبد المنعم:[خليلا]وليّا،و الخلّة من إبراهيم:حبّه في اللّه و بغضه في اللّه،و الخلّة من اللّه:

نصرته له على من عاداه.(1:616)

عبد الكريم الخطيب :جملة استثنائيّة تقرّر ما لإبراهيم عند اللّه من منزلة،تلك المنزلة الّتي تجعل اتّباع ملّته و موالاته ممّا يرضى اللّه عنه و يحمده.

و الخليل هو الصّاحب الّذي يسدّ خلل صاحبه، و يكمل وجوده،أو يتخلّل مشاعره،و يخلص إلى مواطن سرّه.

و اتّخاذ اللّه سبحانه إبراهيم خليلا،يراد به لازم هذه المخالّة،و هي:إضفاء الإحسان،و الرّحمة من جانب اللّه تعالى على إبراهيم،و هذا لطف من اللّه، و تكريم لهذا النّبيّ الكريم،و تلك منزلة عليا من منازل القرب من اللّه،لا تكاد تدانيها منزلة.(3:912)

مكارم الشّيرازيّ: ما هو معنى الخليل؟

إنّ كلمة«خليل»قد تكون مشتقّة من المصدر «خلّة»على وزن«حجّة»الّذي يعني الصّداقة،و قد يكون اشتقاقها من المصدر«خلّة»على وزن«ضربة» بمعنى الحاجة.

و قد اختلف المفسّرون في أيّ المعنيين أقرب إلى مفهوم الآية موضوع البحث.

فرأى البعض منهم أنّ المعنى الثّاني أقرب لحقيقة هذه الآية،لأنّ إبراهيم عليه السّلام كان يؤمن بأنّه محتاج إلى اللّه في كلّ شئونه بدون استثناء،و لكن مفسّرين آخرين يرون أنّه ما دامت الآية تتحدّث عن منزلة وهبها اللّه لنبيّه إبراهيم،فالمقصود بكلمة«الخليل» الواردة هو«الصّديق»لأنّنا لو قلنا:إنّ اللّه قد انتخب إبراهيم صديقا له،يكون أقرب كثيرا إلى الذّهن من قولنا:إنّ اللّه انتخب إبراهيم ليكون محتاجا إليه،لأنّ الحاجة إلى اللّه لا تقتصر على إبراهيم وحده،بل يشاركه و يساويه فيها جميع المخلوقات،فالكلّ محتاجون إلى اللّه دون استثناء،و كما تقول الآية:15، من سورة فاطر: يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ و هذا على عكس الصّداقة،و الخلّة مع اللّه الّتي لا يتساوى فيها كلّ المخلوقات.[و استشهد على ذلك بروايات قد مرّت ثمّ قال:]

و تفيد روايات أخرى أنّ إبراهيم قد حاز هذه الدّرجة لكثرة سجوده للّه،و إطعامه للجياع و إقامة صلاة اللّيل،أو لسعيه في طريق مرضاة اللّه و طاعته.

(3:413)

فضل اللّه :تلك الصّداقة الّتي منحها اللّه لهذا النّبيّ العظيم،تكريما لتضحيته و إخلاصه و فنائه في ذات اللّه.

[ثمّ استشهد برواية الإمام الصّادق عليه السّلام الثّانية الّتي مرّت و أضاف:]

و تلك هي العلاقة الّتي يمنحها اللّه للمخلصين من عباده،و ربّما كان الحديث عن هذا الجانب من شخصيّة إبراهيم،للإيحاء بأنّ الإسلام العميق المتمثّل

ص: 728

في روحه و حياته هو الّذي رفعه إلى هذه الدّرجة، و هو الّذي ينبغي للمؤمنين أن يعيشوه و يحصلوا عليه، ليصلوا إلى بعض مراقي هذا السّموّ الّذي يقرّبهم إلى اللّه في الدّرجات العلى.

و ذلك ما ينبغي للتّربية الإسلاميّة أن تتّجه إليه في بناء شخصيّة الإنسان المسلم،ليعيش الإسلام من خلال هذا المعنى العميق الممتدّ في الفكر و الرّوح و الشّعور و الحياة،لا من خلال الألفاظ الجامدة الّتي تؤطّرها الاصطلاحات بإطار لا يوحي بأيّة حيويّة تلامس الأعماق.إنّها العبوديّة المطلقة أمام اللّه بإزاء الحرّيّة المطلقة أمام عباده،لتكون العلاقة بالكون و الحياة و الإنسان تعبيرا عن العلاقة باللّه،و ليكون الإحسان إلى الحياة في كلّ مجالاتها الفكريّة و العمليّة تجسيدا للإحسان كقيمة روحيّة يعبد بها الإنسان ربّه في المحراب الكبير في الكون كلّه،بعيدا عن كلّ شخص و عن كلّ عرض زائل.(7:480)

2- وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. الإسراء:73

ابن عبّاس: صفيّا بمتابعتك إيّاهم،نزلت هذه الآية في ثقيف.(240)

الإمام الصّادق عليه السّلام:أي صديقا لو أقمت غيره.

(القمّيّ 2:24)

ابن قتيبة :أي لو فعلت ذاك لودّوك.(259)

الثّعلبيّ: أي قالوك و صافوك.(6:118)

الماورديّ: فيه وجهان:

أحدهما:صديقا،مأخوذ من الخلّة بالضّمّ،و هي الصّداقة،لممالأته لهم.

الثّاني:فقيرا،مأخوذ من الخلّة بالفتح،و هي الفقر لحاجة إليه.(3:260)

الخازن :أي والوك و وافوك و صافوك.(4:140)

أبو السّعود :أي لو اتّبعت أهواءهم لكنت لهم وليّا،و لخرجت من ولايتي.(4:149)

و كذا ورد تفسيرها عند أكثر المفسّرين.

3- يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً. الفرقان:28

ابن عبّاس: مصافيا في الدّين.(302)

مجاهد :الخليل هاهنا:الشّيطان.

(الطّوسيّ 7:486)

القرطبيّ: الصّاحب و الصّديق.(13:26)

الاخلاّء

اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ.

الزّخرف:67

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:الأخلاّء أربعة:مؤمنان و كافران، فمات أحد المؤمنين فسئل عن خليله،فقال:ما علمته إلاّ أمّارا بالمعروف نهّاء عن المنكر،اللّهمّ اهده كما هديتني،و أمته على ما أمتّني عليه.و سئل الكافر عن خليله،فقال:ما علمته إلاّ أمّارا بالمنكر،نهّاء عن المعروف،اللّهمّ أضلله كما أضللتني،و أمته على ما أمتّني عليه،فإذا كان يوم القيامة أثنى كلّ واحد على صاحبه شرّا.(الزّجّاج 4:418)

ص: 729

نحوه الإمام علي عليه السّلام.(الطّبريّ 11:208)

ابن عبّاس: كلّ خلّة هي عداوة إلاّ خلّة المتّقين.

(الطّبريّ 11:208)

مجاهد :كلّ خلّة على معصية اللّه في الدّنيا متعادون.(الطّبريّ 11:208)

الإمام الصّادق عليه السّلام:ألا كلّ خلّة كانت في الدّنيا في غير اللّه،عزّ و جلّ فإنّها تصير عداوة يوم القيامة، إِلاَّ الْمُتَّقِينَ فإنّ خلّتهم لمّا كانت في اللّه تبقى نافعة أبد الآباد.

و في«مصباح الشّريعة»قال:عليه السّلام:«اطلب مؤاخاة الأتقياء و لو في ظلمات الأرض،و إن أفنيت عمرك في طلبهم،فإنّ اللّه عزّ و جلّ لم يخلق أفضل منهم على وجه الأرض من بعد النّبيّين،و ما أنعم اللّه تعالى على عبد بمثل ما أنعم به من التّوفيق لصحبتهم،قال تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ». (الكاشانيّ 4:399)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:المتخالّون يوم القيامة على معاصي اللّه في الدّنيا،بعضهم لبعض عدوّ،يتبرّأ بعضهم من بعض،إلاّ الّذين كانوا تخالّوا فيها على تقوى اللّه.(11:208)

نحوه الواحديّ.(4:80)

القمّيّ: يعني:الأصدقاء،يعادي بعضهم بعضا.

(2:287)

الطّوسيّ: يعني من كانت خلّته في دار الدّنيا في غير طاعة اللّه بل كانت في معصية اللّه،فانّ تلك الخلّة تنقلب عليه عداوة،لأنّ صاحبها يتبيّن فساد تلك الخلّة يوم القيامة.و إنّما كان كذلك،لأنّ كلّ واحد من المتخالّين في غير طاعة اللّه يزيّن لصاحبه خلاف الحقّ، و يدعوه إلى ما يوبقه و يورثه سوء العاقبة،بدل ما كان يلزمه من النّصيحة له في الدّعاء إلى ترك القبيح و فعل الحسن.ثمّ استثنى من جملة الأخلاّء الّذين أخبر عنهم أنّهم يصيرون أعداء إِلاَّ الْمُتَّقِينَ لأنّ من كانت مخالّته في طاعة اللّه و على ما أمر اللّه به،فإنّها تتأكّد ذلك اليوم و لا تنقلب عداوة.(9:214)

نحوه الطّبرسيّ.(5:55)

القشيريّ: ما كان لغير اللّه فمآله إلى الضّياع.

و الأخلاّء الّذين اصطحبوا على مقتضى الهوى بعضهم لبعض عدوّ،يتبرّأ بعضهم من بعض،فلا ينفع أحد أحدا،و أمّا الأخلاّء في اللّه فيشفع بعضهم في بعض، و يتكلّم بعضهم في شأن بعض،أولئك المتّقون الّذين استثناهم بقوله: إِلاَّ الْمُتَّقِينَ.

و شرط الخلّة في اللّه:ألاّ يستعمل بعضهم بعضا في الأمور الدّنيويّة،و لا يرتفق بعضهم ببعض،حتّى تكون الصّحبة خالصة للّه لا لنصيب في الدّنيا.

و يكون قبول بعضهم بعضا لأجل اللّه،و لا تجري بينهم مداهنة،و بقدر ما يرى أحدهم في صاحبه من قبول لطريق اللّه يقبله،فإن علم منه شيئا لا يرضاه اللّه لا يرضى ذلك من صاحبه،فإذا عاد إلى تركه عاد هذا إلى مودّته.و إلاّ فلا ينبغي أن يساعده على معصيته، كما ينبغي أن يتّقيه بقلبه،و ألاّ يسكن إليه لغرض دنيويّ،أو لطمع أو لعوض.(5:373)

الزّمخشريّ: أي تنقطع في ذلك اليوم كلّ خالّة

ص: 730

بين المتخالّين في غير ذات اللّه،و تنقلب عداوة و مقتا إلاّ خلّة المتصادقين في اللّه،فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوّة،إذا رأوا ثواب التّحابّ في اللّه تعالى و التّباغض في اللّه.

و قيل: إِلاَّ الْمُتَّقِينَ إلاّ المجتنبين أخلاّء السّوء.

(3:495)

نحوه البيضاويّ(2:371)،و النّسفيّ(4:123)، و الخازن(6:117)،و الشّربينيّ(3:571)،و المشهديّ (9:365)،و فريد وجدي(654)،و مغنيّة(6:559).

ابن عطيّة: ثمّ صرف تعالى بعض حال القيامة، و إنّها لهول مطلعها و الخوف المطبق بالنّاس فيها يتعادى و يتباغض كلّ خليل كان في الدّنيا على غير تقى،لأنّه يرى أنّ الضّرر دخل عليه من قبل خليله.

و أمّا المتّقون فيرون أنّ النّفع دخل بهم من بعضهم على بعض،هذا معنى كلام عليّ رضي اللّه عنه.(5:63)

نحوه الثّعالبيّ.(3:152)

الفخر الرّازيّ: و المعنى(الاخلاء)في الدّنيا (يومئذ)يعني في الآخرة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أنّ الخلّة إذا كانت على المعصية و الكفر صارت عداوة يوم القيامة، إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يعني الموحّدين الّذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان و التّقوى،فإنّ خلّتهم لا تصير عداوة.

و للحكماء في تفسير هذه الآية طريق حسن، قالوا:إنّ المحبّة أمر لا يحصل إلاّ عند اعتقاد حصول خير أو دفع ضرر،فمتى حصل هذا الاعتقاد حصلت المحبّة لا محالة،و متى حصل اعتقاد أنّه يوجب ضررا حصل البغض و النّفرة،إذا عرفت هذا فنقول:

تلك الخيرات الّتي كان اعتقاد حصولها يوجب حصول المحبّة:إمّا أن تكون قابلة للتّغيّر و التّبدّل،أو لا تكون كذلك.فإن كان الواقع هو القسم الأوّل، وجب أن تبدّل تلك المحبّة بالنّفرة،لأنّ تلك المحبّة إنّما حصلت لاعتقاد حصول الخير و الرّاحة.فإذا زال ذلك الاعتقاد،و حصل عقيبه اعتقاد أنّ الحاصل هو الضّرر و الألم،وجب أن تتبدّل تلك المحبّة بالبغضة،لأنّ تبدّل العلّة يوجب تبدّل المعلول.أمّا إذا كانت الخيرات الموجبة للمحبّة،خيرات باقية أبديّة،غير قابلة للتّبدّل و التّغيّر،كانت تلك المحبّة أيضا محبّة باقية آمنة من التّغيّر.إذا عرفت هذا الأصل،فنقول:

الّذين حصلت بينهم محبّة و مودّة في الدّنيا،إن كانت تلك المحبّة لأجل طلب الدّنيا و طيّباتها و لذّاتها، فهذه المطالب لا تبقى في القيامة،بل يصير طلب الدّنيا سببا لحصول الآلام و الآفات في يوم القيامة،فلا جرم تنقلب هذه المحبّة الدّنيويّة بغضة و نفرة في القيامة.

أمّا إن كان الموجب لحصول المحبّة في الدّنيا الاشتراك في محبّة اللّه و في خدمته و طاعته،فهذا السّبب غير قابل للنّسخ و التّغيّر،فلا جرم كانت هذه المحبّة باقية في القيامة،بل كأنّها تصير أقوى و أصفى و أكمل و أفضل ممّا كانت في الدّنيا،فهذا هو التّفسير المطابق لقوله تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ. (27:224)

ابن عربيّ: الخلّة:إمّا أن تكون خيريّة أو لا، و الخيريّة:إمّا أن تكون في اللّه،أو للّه،و غير الخيريّة:

ص: 731

إمّا أن يكون سببها اللّذّة النّفسانيّة،أو النّفع العقليّ.

و القسم الأوّل:هو المحبّة الرّوحانيّة الذّاتيّة المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل،لقربها من الحضرة الأحديّة،و تساويها في الحضرة الواحديّة الّتي قال فيها:«فما تعارف منها ائتلف»فهم إذا برزوا في هذه النّشأة و اشتاقوا إلى أوطانهم في القرب، و توجّهوا إلى الحقّ،و تجرّدوا عن ملابس الحسّ و موادّ الرّجس،فلمّا تلاقوا تعارفوا،و إذا تعارفوا،تحابّوا، لتجانسهم الأصليّ و تماثلهم الوضعيّ،و توافقهم في الوجهة و الطّريقة،و تشابههم في السّيرة و الغريزة، و تجرّدهم عن الأغراض الفاسدة و الأغراض الذّاتيّة الّتي هي سبب العداوة،و انتفع كلّ منهم بالآخر في سلوكه و عرفانه و تذكّره لأوطانه،و التذّ بلقائه و تصفّى بصفائه،و تعاونوا في أمور الدّنيا و الآخرة، فهي الخلّة التّامّة الحقيقيّة الّتي لا تزول أبدا كمحبّة الأولياء و الأنبياء و الأصفياء و الشّهداء.

و القسم الثّاني:هو المحبّة القلبيّة المستندة إلى تناسب الأوصاف و الأخلاق و السّير الفاضلة، و نشأته في الاعتقادات و الأعمال الصّالحة،كمحبّة الصّلحاء و الأبرار فيما بينهم،و محبّة العرفاء و الأولياء إيّاهم،و محبّة الأنبياء العامّة أممهم.

و القسم الثّالث:هو المحبّة النّفسانيّة المستندة إلى اللّذّات الحسّيّة و الأغراض الجزئيّة،كمحبّة الأزواج لمجرّد الشّهوة،و محبّة الفجّار و الفسّاق المتعاونين في اكتساب الشّهوات و اجتلاب الأموال.

و القسم الرّابع:هو المحبّة العقليّة المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش،و تيسير المصالح الدّنيويّة، كمحبّة التّجّار و الصّنّاع،و محبّة المحسن إليه للمحسن، فكلّ ما استند إلى غرض فان و سبب زائل،زال بزواله و انقلب عند فقدانه عداوة،لتوقّع كلّ من المتحابّين ما اعتاد من صاحبه من اللّذّة المعهودة و النّفع المألوف، مع عدمه و امتناعه لزوال سببه.

و لمّا كان الغالب على أهل العالم أحد القسمين الأخيرين،أطلق الكلام قال: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ، لانقطاع أسباب الوصلة بينهم،و انتفاء الآلات البدنيّة عنهم،و امتناع حصول اللّذّة الحسّيّة و النّفع الجسمانيّ،و انقلابهما حسرات و آلاما و ضررا و خسرانا،قد زالت اللّذّات و الشّهوات،و بقيت العقوبات و التّبعات.فكلّ يمحق صاحبه و يبغضه،لأنّه يرى ما به من العذاب منه و بسببه،ثمّ استثنى المتّقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلّتهم،كما قال: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ ص:24، وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ سبأ:13.

و لعمري إنّ القسم الأوّل أعزّ من الكبريت الأحمر،و هم الكاملون في التّقوى،البالغون إلى نهايتها،الفائزون بجميع مراتبها،اجتنبوا أوّلا المعاصي، ثمّ الفضول ثمّ الأفعال ثمّ الصّفات ثمّ الذّوات،فما بقيت منهم إلاّ نفس الحبّ.

و أمّا الفريق الثّاني فاقتصروا على الرّتبة الأولى، و قنعوا بظاهر التّقوى،فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النّعيم،و تسلّوا عن الدّنيا و ما فيها بالفضل الجسيم، فبقي محبّاتهم فيما بينهم لبقاء أسبابها،و هي الصّفات

ص: 732

المتماثلة و الهيئات المتشابهة في ابتغاء مرضات اللّه و طلب ثوابه،و اجتناب سخط اللّه و عقابه،فهم العباد المرتضون،أي كلا القسمين لاشتراكهما في طلب الرّضا،فلذلك نسبهم إلى نفسه بقوله: يا عِبادِ لا خَوْفٌ على الفريقين،لأمنهم من العقاب،و لا هم يحزنون على فوات لذّات الدّنيا،لكونهم على ألذّ منها و أبهج،و أحسن حالا و أجمل،و إن تفاوت حالهم في اللّذّة و السّرور،و الفرح و الحبور،بما لا يتناهى، و شتّان بين محمّد و محمّد.(2:452)

نحوه القاسميّ.(14:5283)

ابن جزيّ: جمع خليل،و هو الصّديق.[ثمّ أدام الكلام نحو ابن عطيّة](4:32)

نحوه المراغيّ.(25:107)

أبو حيّان :و المعنى أنّه ينقطع كلّ خلّة و تنقلب الأخلّة إلاّ المتّقين،فإنّها لا تزداد إلاّ قوّة.و قيل:

إِلاَّ الْمُتَّقِينَ إلاّ المجتنبين أخلاّء السّوء،و ذلك أنّ أخلاّء السّوء كلّ منهم يرى أن الضّرر دخل عليه من خليله،كما أنّ المتّقين يرى كلّ منهم النّفع دخل عليهم من خليله.(8:26)

أبو السّعود :(الأخلاء)المتحابّون في الدّنيا على الإطلاق أو في الأمور الدّنيويّة(يومئذ)يوم إذ تأتيهم السّاعة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لانقطاع ما بينهم من علائق الخلّة و التّحابّ،لظهور كونها أسبابا للعذاب، إِلاَّ الْمُتَّقِينَ فإنّ خلّتهم في الدّنيا لمّا كانت في اللّه تبقى على حالها بل تزداد بمشاهدة كلّ منهم آثار خلّتهم من الثّواب و رفع الدّرجات.

و الاستثناء على الأوّل متّصل،و على الثّاني منقطع.(6:41)

نحوه الشّوكانيّ.(4:703)

البروسويّ: و الخلّة:المودّة،لأنّها تتخلّل النّفس، أي تتوسّطها.[ثمّ أدام نحو المتقدّمين](8:387)

الآلوسيّ: و المراد:أنّ المحبّات تنقطع يوم إذ تأتيهم السّاعة،و لا يبقى إلاّ محبّة المتّقين،و هم المتصادقون في اللّه عزّ و جلّ،لما أنّهم يرون ثواب التّحابّ في اللّه تعالى و اعتبار الانقطاع،لأنّ الخلّ حال كونه خلاّ محال أن يصير عدوّا.و قيل:المعنى:الأخلاّء تنقطع خلّتهم ذلك اليوم إلاّ المجتنبين أخلاّء السّوء.

و الفرق بين الوجهين:أنّ المتّقي في الأوّل هو المحبّ لصاحبه في اللّه تعالى فاتّقى الحبّ أن يشوبه غرض غير إلهيّ،و في الثّاني هو من اتّقى صحبة الأشرار.

(25:97)

سيّد قطب :إنّ عداء الأخلاّء لينبع من معين ودادهم.لقد كانوا في الحياة الدّنيا يجتمعون على الشّرّ،و يملي بعضهم لبعض في الضّلال،فاليوم يتلاومون،و اليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضّلال و عاقبة الشّرّ،و اليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون من حيث كانوا أخلاّء يتناجون! إِلاَّ الْمُتَّقِينَ فهؤلاء مودّتهم باقية،فقد كان اجتماعهم على الهدى و تناصحهم على الخير و عاقبتهم إلى النّجاة.

و بينما الأخلاّء يتلاحون و يختصمون،يتجاوب الوجود كلّه بالنّداء العلويّ الكريم للمتّقين.

(5:3201)

ص: 733

ابن عاشور:و(الأخلاء:)جمع خليل،و هو الصّاحب الملازم.[إلى أن قال:]

و تعريف(الأخلاء)تعريف الجنس،و هو مفيد استغراقا عرفيّا،أي الأخلاّء من فريقي المشركين و المؤمنين،أو الأخلاّء من قريش المتحدّث عنهم.و إلاّ فإنّ من الأخلاّء غير المؤمنين من لا عداوة بينهم يوم القيامة،و هم الّذين لم يستخدموا خلّتهم في إغراء بعضهم بعضا على الشّرك و الكفر و المعاصي،و إن افترقوا في المنازل و الدّرجات يوم القيامة.(25:287)

نحوه عبد الكريم الخطيب.(13:158)

الطّباطبائيّ: (الأخلاء:)جمع:خليل،و هو الصّديق؛حيث يرفع خلّة صديقه و حاجته.و الظّاهر أنّ المراد بالأخلاّء:المطلق الشّامل للمخالّة و التّحابّ في اللّه،كما في مخالّة المتّقين أهل الآخرة،و المخالّة في غيره كما في مخالّة أهل الدّنيا،فاستثناء المتّقين متّصل.

و الوجه في عداوة الأخلاّء غير المتّقين:أنّ من لوازم المخالّة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهامّ أموره،فإذا كانت لغير وجه اللّه كان فيها الإعانة على الشّقوة الدّائمة و العذاب الخالد،كما قال تعالى حاكيا عن الظّالمين يوم القيامة: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي الفرقان:

28،29،و أمّا الأخلاّء من المتّقين فإنّ مخالّتهم تتأكّد و تنفعهم يومئذ.

و في الخبر النّبويّ: إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام و قلّت الأنساب و ذهبت الأخوّة إلاّ الأخوّة في اللّه،و ذلك قوله: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ. (18:120)

حجازي:(الأخلاء)جمع:خليل،و هو الصّاحب و الصّديق.[إلى أن قال:]

المعنى:يبيّن اللّه سبحانه و تعالى أنّ في طبع الإنسان و غريزته استشارة غيره،و خاصّة في مهمّات الأمور.

و قد كان النّاس يتشاورون في شأن الدّعوة الإسلاميّة،فمنهم من كان صديقه يدعوه إلى الخير، و يحثّه على سلوك الطّريق المستقيم،و منهم من كان صديقه و خليله يدعوه إلى الشّرّ و يحثّه عليه.فإذا رأى يوم القيامة أنّ عمله كان خطأ،و أنّ مشورة خليله كانت وبالا عليه،أنحى باللاّئمة على صديقه،بل يصير عدوّا من ألدّ أعدائه،و ينسب إليه كلّ أفعاله، طالبا من اللّه عقابه أشدّ العقاب.و قد قصّ القرآن علينا صورا كثيرة ممّا سيحصل بين التّابعين و المتبوعين و القادة و العامّة.(25:48)

مكارم الشّيرازيّ: إنّ هذه الآية الّتي تصف مشهدا من مشاهد القيامة،تبيّن بوضوح أنّ المراد من «السّاعة»في الآية السّابقة،هو يوم القيامة أيضا، اليوم الّذي تنفصم فيه عرى العلاقات الأخويّة و الصّداقة و الرّفقة،إلاّ العلاقات الّتي قامت للّه و في اللّه و باسمه.

إنّ تبدّل مثل هذه المودّة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعيّ،لأنّ كلاّ منهم يرى صاحبه أساس تعاسته و سوء عاقبته،فأنت الّذي دلّلتني على هذا الطّريق و دعوتني إليه،و أنت الّذي زيّنت الدّنيا في نظري و رغّبتني فيها و أطمعتني.

ص: 734

نعم،أنت الّذي أغرقتني في بحر الغفلة و الغرور، و جعلتني جاهلا بمصيري،غافلا عنه.

و هكذا يقول كلّ واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب،إلاّ المتّقين الّذين تبقى روابط أخوّتهم، و أواصر مودّتهم خالدة،لأنّها تدور حول محور القيم و المعايير الخالدة،و تتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر،فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

من الطّبيعيّ أنّ الأخلاّء يعين بعضهم بعضا في أمور الحياة،فإن كانت خلّتهم على أساس الشّرّ و الفساد، فهم شركاء في الذّنب و الجريمة،و إن كانت على أساس الخير و الصّلاح،فهم شركاء في الثّواب و العطيّة.و على هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدّل الخليل من القسم الأوّل إلى عدوّ،و من القسم الثّاني إلى خليل يشتدّ حبّه و مودّته أكثر من ذي قبل.

(16:87)

فضل اللّه :لأنّ علاقتهم في الدّنيا كانت مفتوحة على الكفر و الضّلال،بعضهم يضلّ بعضهم الآخر و يساعده على ارتكاب المعصية،بسبب الفكر الكافر أو الضّالّ الّذي يلتزمون به.فإذا وقفوا يوم القيامة وجها لوجه أمام استحقاق المصير في ساحة العذاب، حمّل بعضهم المسئوليّة للبعض الآخر ليتخفّف بذلك من المسئوليّة،و تبرّأ بعضهم من بعض،لما يحمله في قلبه من حقد تجاه من أضلّه،فهم لا يطيقون النّظر إلى بعضهم،كما قال اللّه سبحانه: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها الأعراف:38،أو يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ* وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ عبس:34-36.

و هكذا تتحوّل الصّداقة إلى عداوة، إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الّذين عاشوا الحياة على التّعاون في البرّ و التّقوى،الّذي يفتح قلوبهم على الحقّ و الخير و الهدى،في طريق اللّه الّذي يجمعهم على الإيمان في الدّنيا،و ينتهي بهم إلى رضوان اللّه و نعيمه في الآخرة، ما يجعل الصّداقة تمتدّ بهم إلى الآخرة،لأنّ الأساس الّذي ارتكزت عليه علاقتهم لا ينقطع بانتهاء الحياة الدّنيا،بل يتّصل بمضمونه الرّوحيّ بالآخرة،ليناديهم اللّه بالنّداء الحميم الّذي يفتح قلوبهم على الخير كلّه.

(20:262)

الوجوه و النّظائر

الحيريّ: الخلال على وجهين:

أحدهما:الوسط،كقوله: وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ التّوبة:47،و قوله: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ الإسراء:

5.

و الثّاني:المصادقة،كقوله: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ إبراهيم:31.(241)

الدّامغانيّ: الخلّة و الخلال على ثلاثة أوجه:

فوجه منها: الخليل :المصافي،قوله: وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً النّساء:125،يعني مصافيا.

و الوجه الثّاني:الخلّة:المخالّة،و هي الصّداقة، قوله: وَ لا خُلَّةٌ البقرة:254،أي لا مخالّة وَ لا شَفاعَةٌ كقوله: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ إبراهيم:

31،أي لا مخالّة للكافرين.

و الوجه الثّالث:الخلّة:الإقبال بالوجه،قوله:

ص: 735

أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يوسف:9، أي يقبل عليكم أبوكم بوجهه.(315)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة:الخلل،و هو منفرج ما بين كلّ شيئين؛و الجمع:خلال.يقال:خلّل بينهما،أي فرّج،و خلل السّحاب و خلاله:فرج فيه يخرج منها الماء،و في رأي فلان خلل،أي فرجة،على التّشبيه.

و الخلّة:الخصاصة في الوشيع،و هي الفرجة في الخصّ،و الخلّة:الثّقبة الصّغيرة.يقال:خلّ الشّيء يخلّه خلاّ،فهو مخلول و خليل،و تخلّله،أي ثقبه و نفذه،و تخلّل الشّيء:نفذ،و اختلّه بالرّمح:نفذه، و طعنته فاختللت فؤاده بالرّمح،أي انتظمته،و تخلّله به:طعنه طعنة إثر أخرى،و خللته بالرّمح:طعنته به.

و يقال للرّجل إذا مات له ميّت:اللّهمّ اخلف على أهله بخير،و اسدد خلّته،يريد به الفرجة الّتي ترك بعده من الخلل الّذي أبقاه في أموره.

و خلال الدّار:ما حوالي جدرها و ما بين بيوتها.

يقال:تخلّلت ديارهم،أي مشيت خلالها،تخلّلت الرّمل:مضيت فيه،و تخلّل القوم:دخل بين خللهم و خلالهم،و جلسنا خلال الحيّ و خلال دور القوم:

جلسنا بين البيوت و وسط الدّور،و سرنا خلل العدوّ و خلالهم:بينهم.

و التّخليل:تفريق شعر اللّحية و أصابع اليدين و الرّجلين في الوضوء.و أصله من إدخال الشّيء في خلال الشّيء،و هو وسطه،يقال:خلّل لحيته،أي توضّأ فأدخل الماء بين شعرها،و أوصل الماء إلى بشرته بأصابعه،و تخلّل:خلّل لحيته و أصابعه في الوضوء،خلّل فلان أصابعه بالماء:أسال الماء إلى بينها في الوضوء.

و الخلال:ما خلّ به الثّوب.يقال:خلّ ثوبه بخلال يخلّه خلاّ،أي شكّه بالخلال،فهو مخلول،و خلّ الكساء و غيره يخلّه خلاّ:جمع أطرافه بخلال؛ و الجمع:أخلّة.و الأخلّة:الخشبان الصّغار اللّواتي يخلّ بها ما بين شقاق البيت.

و الخلال:عود يجعل في لسان الفصيل،لئلاّ يرضع و لا يقدر على المصّ،و قد خلّه يخلّه خلاّ،و خلّه:شقّ لسانه ثمّ جعل فيه ذلك العود،و فصيل مخلول:غرز خلال على أنفه،لئلاّ يرضع أمّه؛و ذلك أنّها تزجيه إذا أوجع ضرعها الخلال،و خللت لسانه أخلّه.

و الخلال:العود الّذي يتخلّل به،يقال:تخلّل بالخلال بعد الأكل.و الخلل:بقيّة الطّعام بين الأسنان؛ واحدته:خلّة أو خللة،يقال:وجدت في فمي خلّة فتخلّلت.و الخلالة:ما يقع من التّخلّل.يقال:فلان يأكل خلالته و خلله و خللته،أي ما يخرجه من بين أسنانه إذا تخلّل.

و الخلال:البلح،واحدته:خلالة،لأنّه اختلال عارضة للنّخلة.يقال:اختلّت النّخلة،أي أطلعت الخلال،و أخلّت أيضا:أساءت الحمل.

و الخلالة:ما يبقى في أصول السّعف من التّمر الّذي ينتثر،تشبيها بما يقع من التّخلّل.يقال:تخلّل الرّطب،أي طلبه خلال السّعف بعد انقضاء الصّرام.

ص: 736

و الخلّ:طريق في الرّمل،لأنّه يتخلّل،أي ينفذ، يذكّر و يؤنّث؛و الجمع:أخلّ و خلال.يقال:حيّة خلّ.

و الخلّ:عرق في العنق متّصل بالرّأس،تشبيها بالطّريق في الرّمل،و كذلك الثّوب البالي إذا رأيت فيه طرقا،يقال:ثوب خلّ،أي بال فيه طرائق.

و الخلّة:بطانة يغشّى بها جفن السّيف،تنقش بالذّهب و غيره؛و الجمع:خلل و خلال،لأنّه يتخلّلها، و الخلّة أيضا:السّير الّذي يكون في ظهر سية القوس.

و الخلّة:المرعى الّذي فيه حلاوة،أي ما لم يكن فيه ملح و لا حموضة.يقال:أخلّ القوم،أي رعت إبلهم الخلّة،فهم مخلّون،و خلّ الإبل يخلّها خلاّ و أخلّها:

حوّلها إلى الخلّة،و بعير خلّي و إبل خلّيّة و مخلّة و مختلّة:ترعى الخلّة.يقال:جاءت الإبل مختلّة،أي أكلت الخلّة و اشتهت الحمض،و اختلّت الإبل:

احتبست في الخلّة،و في المثل:«إنّك مختلّ فتمحّض»، أي انتقل من حال إلى حال.

و الخلّة:الأرض الّتي لا حمض بها.يقال:علونا أرضا خلّة و أرضين خللا أي أرضا ما بها حمض، و إن لم يكن بها نبات،و أرض مخلّة:كثيرة الخلّة ليس بها حمض،و كذا خلل الأرض.

و الخلّ:ما حمض من عصير العنب و غيره،سمّي خلاّ لأنّه اختلّ منه طعم الحلاوة؛واحدته:خلّة.يقال:

جاءوا بخلّة لهم،و الخلاّل:بائع الخلّ و صانعه.

و التّخليل و الاختلال:اتّخاذ الخلّ من عصير العنب و التّمر.يقال:خلّل البسر،أي جعله في الشّمس ثمّ نضجه بالخلّ ثمّ جعله في جرّة،و اختلّ العصير:صار خلاّ،و في المثل:«ما فلان بخلّ و لا خمر»،أي ما له خير و لا شرّ.

و الخلّة:الخمرة القاصرة،لتخلّل الحموضة إيّاها، -كما قال الرّاغب-و الجمع:خلّ.يقال:خلّل الخمر، أي جعلها خلاّ،و خلّلت الخمر و غيرها من الأشربة:

فسدت و حمضت،و شراب فلان قد خلّل يخلّل تخليلا،أي فسد و صار خلاّ.

و الخلّ:الرّجل القليل اللّحم،و هو الخليل و المختلّ؛و الأنثى:خلّة،و اللّحم المخلول:المهزول، كأنّه اختلّ منه السّمن،يقال:خلّ لحمه يخلّ و يخلّ خلاّ و خلولا و اختلّ،أي قلّ و نحف،و اختلّ جسمه:

هزل.

و الخلّ:ابن المخاض،لأنّه دقيق الجسم،و الخلّة:

ابنة المخاض،و قيل:ابن المخاض أيضا،الذّكر و الأنثى فيه سواء،على التّشبيه بالرّجل النّحيف،لأنّه دقيق الجسم.

و الخلّة:الحاجة و الفقر.قال الرّاغب:«الخلّة:

الاختلال العارض للنّفس،إمّا لشهوتها لشيء أو لحاجة إليه»،و في المثل:«الخلّة تدعو إلى السّلّة»،أي الحاجة تدعو إلى السّرقة،و به خلّة شديدة:خصاصة، و فلان ذو خلّة:محتاج أو مشته لأمر من الأمور،و هو خليل و أخلّ.و أخلّ الرّجل:افتقر و ذهب ماله، و كذلك أخلّ به،فهو مخلّ،و ما أخلّك اللّه إلى هذا،أي ما أحوجك إليه،و اختلّ إلى كذا،فهو مختلّ،و اقسم هذا المال في الأخلّ فالأخلّ،أي في الأفقر فالأفقر.

و الخلّة:الخصلة،لأنّها تتخلّل نفس الإنسان.

ص: 737

يقال:في فلان خلّة حسنة و خلّة سيّئة،و الجمع:

خلال.يقال:فلان كريم الخلال و لئيم الخلال.

و الخلّة:الصّداقة المختصّة الّتي ليس فيها خلل؛ و الجمع:خلال،و هي الخلالة و الخلالة و الخلالة و الخلولة،لأنّها تتخلّل القلب فتصير خلاله،أي في باطنه.

و الخلّة:الزّوجة،لأنّ التّزوّج خلّة،أي صداقة.

يقال:فلان خلّتي و فلانة خلّتي و خلّي،و قد خالّ الرّجل و المرأة و خاللهما خلالا و مخالّة.

و الخلّ:الودّ و الصّدّيق،للذّكر و الأنثى؛و الجمع:

أخلال.يقال:إنّه لكريم الخلّ و الخلّة،أي كريم المصادقة و الموادّة و الإخاء.

و الخليل :الخلّ و المخلول،و هو المحبّ الّذي ليس في محبّته خلل؛و الجمع:أخلاّء و خلاّن؛و الأنثى:

خليلة،و جمعها:خليلات.يقال:خاللته مخالّة و خلالا.

و الخلل:الفساد و الوهن في الأمر،و هو من ذلك، كأنّه ترك منه موضع لم يبرم و لا أحكم.يقال:في رأيه خلل،أي انتشار و تفرّق،و عسكر خالّ و متخلّل:

غير متضامّ،كأنّه فيه منافذ،و أمر مختلّ:واهن،و أخلّ الوالي بالثّغور:قلّل الجند فيها،و أخلّ بالشّيء:

أجحف،و أخلّ به:لم يف له،و أخلّ بالمكان و بمركزه و غيره:غاب عنه و تركه.

2-و استعمل المولّدون لفظ«المخلّل»و هو- عندهم-ما ينقع في الخلّ ثمّ يؤكل،كالخيار و الزّيتون و نحوهما؛و جمع على مخلّلات،و ورد هذا اللّفظ في كتاب«ألف ليلة و ليلة»أيضا.

و استعمله الزّبيديّ في مادّة«ك م خ»،فقال:

«الكامخ:أدام،و هو بالفارسيّة:كامه،كما في شفاء الغليل،و منهم من خصّه بالمخلّلات الّتي تستعمل لتشهّي الطّعام».

و يطلق عليه العامّة في العراق لفظ«الطّرشي»، و هو فارسيّ،أي الحامض،إلاّ أنّ الفرس يبدّلون الطّاء تاء في كلامهم،و يرسمون هذا اللّفظ بالتّاء أيضا.

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

لم يأت منها فعل في القرآن،بل جاء منها(خلال) ظرفا مثل(بين)7 مرّات،و صفة مشبّهة:(خليل) مفردا 3 مرّات،و جمعا:(الاخلاّء)مرّة،و اسم المصدر مفردا:(خلّة)بضمّ الخاء،و جمعا:(خلال)جمع:خلّة بكسرها،كلّ منهما مرّة في 13 آية:

1-خلال

1- ...وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ...

التّوبة:47

2- ...فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ... الإسراء:5

3- ...ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ... النّور:43

4- ...وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ... الرّوم:48

5- ...أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً... الإسراء:91

6- أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها

ص: 738

أَنْهاراً... النّمل:61

7- ...وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً... الكهف:33

2-الخليل و الخلّة و الأخلاّء

8- ...وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً... النّساء:125

9- وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً... الإسراء:72

10- يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً...

الفرقان:28

11- اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الزّخرف:67

12- ...مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ... ابراهيم:31

13- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ... البقرة:254

يلاحظ أوّلا:أنّ هذه المادّة جاءت في محورين:

الأوّل:الخلال:و هو ما بين الأشياء،و جاء في الآيات:(1-7)،و فيها بحوث:

1-فسّر«الخلال»في(1)بالبين و الوسط: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، و هو قول أغلب المفسّرين،فيكون (خلالكم)ظرف ل(اوضعوا،)أي أسرعوا فيما بينكم.قال الشّيخ الطّوسيّ:«و معنى الإيضاع هاهنا إسراعهم في الدّخول بينهم للتّضريب بنقل ذات بينكم».

و فسّر بفعل أيضا،و التّقدير:لأسرعوا فيما يخلّ بكم،قال القمّيّ:«يهربوا عنكم»،و قال مجاهد:

«لا رفضوا»،أي تفرّقوا عنكم.

و لفّق كثير من المفسّرين بين الإيضاع و الخلال، فتارة غلّبوا الأوّل على الثّاني،كقول ابن عبّاس:

«لساروا على الإبل وسطكم»،و أخرى بالعكس، كقول مقاتل:«يتخلّل الرّاكب الرّجلين حتّى يدخل بينهما».و ولّد صاحب«المعجم الوسيط»معنى ممّا يؤول إليه التّلفيق بين هذين اللّفظين،فقال:«أوضع بين القوم:أفسد»و هو ممّا انفرد بذكره دون سواه.

2-ذهب المفسّرون إلى أنّ«خلال»ظرف ل(جاسوا)في(2): فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ، و هو ظاهر كلام ابن عبّاس:«فقتلوكم وسط الدّيار»، و قول الطّبريّ:«فتردّدوا بين الدّور و المساكن».

و ذهب بعض اللّغويّين إلى أنّ(خلال)هاهنا مفعول به ل(جاسوا،)و هو ظاهر كلام الجوهريّ:

«الجوس:مصدر قولك:جاسوا خلال الدّيار،أي تخلّلوها فطلبوا ما فيها،كما يجوس الرّجل الأخبار، أي يطلبها»،و قال النّحّاس:«قال أبو جعفر:المعروف عند أهل اللّغة أنّه يقال:جسنا دور بني فلان و حسناها».

و قرئ (خلل) ،و هو جمع:«خلال»،و«خلال» مفرد أيضا،و الكلّ بمعنى الوسط و البين،كما تقدّم في اللّغة و التّفسير.غير أنّ أبا السّعود قال في خِلالَ الدِّيارِ: في أوساطها،إشارة منه إلى أنّه يريد «خلال»جمعا.و لكنّ لفظ الوسط اسم جامد يستعمل في الإفراد و التّثنية و الجمع و التّذكير و التّأنيث على حدّ سواء،و له شواهد كثيرة في القرآن و الحديث و اللّغة،انظر«و س ط».

ص: 739

3-تشابهت(3)و(4)في وحدة الموضوع، و اختلفتا في بعض الألفاظ و في السّياق،فالآية(3) سردت مراحل تكوين المطر و بيان موارده: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ، و كذلك الآية (4): اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.

4-تقدّم لفظ«الخلال»على المفعول في الآيات الثّلاث الأخيرة،فجاء في(5)متقدّما على المفعول المطلق: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً لرعاية الرّويّ،و في(6)على المفعول الأوّل: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً للموافقة بينه و بين لفظ قَراراً في الجرس،و في(7)على المفعول به: وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً لرعاية الرّويّ.

الثّاني:الخليل و الأخلاّء،و الخلّة و الخلال في الآيات(8-13)،و فيها بحوث:

1-الخلّة من اللّه مؤازرة،و من المؤمن معاشرة، و من الكافر مماكرة،فخليل اللّه صفيّ،و خليل المؤمن رضيّ،و خليل الكافر شقيّ.و كان أوّل من حاز هذا المقام السّامق و اللّقب الرّائق إبراهيم عليه السّلام؛إذ قال تعالى في(8): وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً، كما كان أوّل من حاز لقب«الأسوة الحسنة»من قبل،و ذلك قوله جلّ و غزّ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ الممتحنة:4.

و خلّة المؤمن دائمة،و خلّة الكافر متصرّمة،و إن دامت في الدّنيا فلا تدوم في الآخرة،قال تعالى في(11) واصفا الخلّتين: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ، و لسان حال الكافر يوم القيامة في (10): يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً.

و أبى اللّه أن يخالّ رسوله الكافر؛إذ لا ثبات لودّه، و لا بقاء لعهده،فقال في(9): وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً.

2-اختلف في(خلال)في(12): قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ، قال الواحديّ:«الخلال:«فعال»من المخالّة،و هو مصدر الخليل،هذا قول جميع أهل اللّغة،و قال أبو عليّ الفارسيّ:يجوز أن يكون جمع خلّة،مثل:برمة.

و برام،و علبة و علاب».

و لعلّ القول الثّاني هو الأقرب،و علّة الجمع موافقة رءوس الآي،فيكون بمعنى الآية(13)،و اللّه أعلم.

3-ذهب أغلب المفسّرين إلى أنّ(خلة)في (13)اسم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ، تبعا لما شاع في اللّغة،و ذهب ابن عبّاس إلى أنّه مصدر،كما هو ظاهر قوله:«لا مخالّة(و لا شفاعة)للكافرين»،و تبعه

ص: 740

الطّبريّ في ذلك أيضا،إذ قال بعض اللّغويّين:خاللته مخالّة و خلّة و خلالا،فجعلوه مصدرا خلافا للمشهور.

ثانيا:اثنتان من المحور الأوّل«خلال»مدنيّتان و الباقي مكّيّ،و اثنتان من المحور الثّاني أيضا مدنيّتان، و الباقي مكّيّ.و قد غلبت المكّيّة منها على المدنيّة بأكثر من ضعفين،و لكنّها بمهوريها مشتركة بين البلدين.

ثالثا:من نظائر الخلال في القرآن:

الخلال:ما بين شيئين:

الفرج: كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ

ق:6

الخرق: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً الإسراء:37

الوسط: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً العاديات:5

بين: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ البقرة:68

الخلال:الخلّة و المخاللة:

الحبّ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ص:32

الودّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا مريم:96

الصّداقة: وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ الشّعراء:101

الأخوّة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات:10

ص: 741

ص: 742

خ ل و-ي

اشارة

7 ألفاظ،28 مرّة:12 مكّيّة،16 مدنيّة

في 18 سورة:10 مكّيّة،8 مدنيّة

خلا 2:1-1 الخالية 1:1

خلوا 7:1-6 فخلّوا 1:-1

خلت 15:7-8 تخلّت 1:1

يخل 1:1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :خلا يخلو خلاء فهو خال.

و الخلاء من الأرض:قرار خال لا شيء فيه.

و الرّجل يخلو خلوة.

و استخليت الملك فأخلاني،أي خلا معي،و أخلى لي مجلسه،و خلاّني،و خلالي.و فلان خلا لفلان،أي خادعه.

و خلّى مكانه،أي مات.

و خلّيت عنه،أي أرسلته.و خلا قرن،أي مضى، فهو خال.

و الخلى مقصور،هو الحشيش،و اختليته.و به سمّيت المخلاة؛و الواحدة بالهاء.

و اختلاء السّيف:إبانته اليد و الرّجل.

و الخليّ: الّذي لا همّ له.

و خاليت فلانا،إذا صارعته.

و واحدة الخلى:خلاة.

و أنت خلو منه،و هي خلو منه؛و يجمع:أخلاء.

و الخليّ و الخليّة:الموضع الّذي يعسّل فيه النّحل، و الكوّارة الّتي تتّخذ من طين.

و الخلاء،ممدود البراز.

و أخليت فلانا و صاحبه،و خلّيت بينهما.

و الخليّة:السّفينة تسير من ذاتها من غير جذب؛ و جمعها:خلايا.

ص: 743

و الخليّة:النّاقة خلت من ولدها و رعت ولد غيرها.و يقال:هي الّتي ليس معها ولد.

و الخلاء في الإبل كالحران في الدّابّة،خلأت النّاقة خلاء،أي لم تبرح مكانها تعسّرا منها.

و قد يقال للإنسان:خلا يخلو خلوّا،إذا لزم مكانه فلم يبرح.

و ما في الدّار خلا زيدا،نصب و جرّ،فإذا أدخلت «ما»فيه لم تجرّ،لأنّه قد بيّن الفعل.

و ما أردت مساءتك خلا أنّي وعظتك،أي إلاّ أنّي وعظتك.[و استشهد بالشّعر 7 مرّات](4:306)

اللّيث:خالاني فلان مخالاة،أي خالفني.

خلا المكان و الشّيء يخلو خلوّا و خلاء و أخلى، إذا لم يكن فيه أحد،و لا شيء فيه،و هو خال.

[و استشهد بالشّعر مرّتين](الأزهريّ 7:569)

إذا سوّيت الخليّة من طين،فهي كوارة.

و يقال:خليّ أيضا بغير هاء.

و الخليّة من السّفن:الّتي لا يسيّرها ملاّحها و تسير من غير جذب.(الأزهريّ 7:574)

الخلى:هو الحشيش الّذي يحتشّ من بقول الرّبيع،و قد اختليته.و به سمّيت المخلاة؛و الواحدة:

خلاة.(الأزهريّ 7:575)

ابن شميّل: و قد خلت الدّار و أخلت.

و وجدت فلانة مخلية،أي خالية.

و لقيت فلانا بخلاء من الأرض،أي بأرض خالية.

(الأزهريّ 7:568)

ربّما عطفوا ثلاثا و أربعا على فصيل،و بأيّتهنّ شاءوا تخلّوا،و هي الخليّة.(الأزهريّ 7:573)

أبو عمرو الشّيبانيّ: خلا لك الشّيء،و أخلى، بمعنى فرغ.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:576)

الأصمعيّ: يقال:خاليته خلاء،أي تاركته.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:570)

الخلى:الرّطب من الحشيش و به سمّيت:المخلاة، فإذا يبس فهو حشيش.(الأزهريّ 7:575)

الخالي من الرّجال:الّذي لا زوجة له.[ثمّ استشهد بشعر]

و القرون الخالية،هم المواضي.

(الجوهريّ 6:2331)

في حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما:«الخليّة ثلاث».كان الرّجل في الجاهليّة يقول للمرأة:أنت خليّة،فكانت تطلّق بهذه الكلمة،و قد بقي حكمها في الإسلام،إذا نوى بها الطّلاق وقع.و أصله ما ذكرناه، أي لا زوج لك.(المدينيّ 1:615)

ابن بزرج:امرأة خليّة،و نسوة خليّات:لا أزواج لهنّ و لا أولاد.

امرأة خلوة،و امرأتان خلوتان،و نسوة خلوات، أي عزبات.

و رجل خليّ،و رجلان خليّان و رجال أخلياء:

لا نساء لهم.(الأزهريّ 7:573)

اللّحيانيّ: خلوت بفلان أخلو به خلوة و خلاء.

و قال بعضهم:أخليت بفلان أخلي به إخلاء،بمعنى خلوت به.

و تركته مخليا بفلان،أي خاليا به.

ص: 744

و خلت الدّار خلاء،إذا لم يبق فيها أحد.و أخلاها اللّه إخلاء.

و يقال:خلا فلان على اللّبن أو على اللّحم،إذا لم يأكل معه شيئا.و كنانة تقول:أخلى على اللّبن.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:أنا خليّ من هذا،و خلاء.فمن قال:

«خليّ»ثنّى و جمع و أنّث.

و من قال:«خلاء»لم يثنّ و لم يجمع و لم يؤنّث.

(الأزهريّ 7:571)

الخليّة:النّاقة تنتج و هي غزيرة،فيجرّ ولدها من تحتها و يجعل تحت أخرى،و تخلّى هي للحلب لكرمها.(الأزهريّ 7:573)

الخليّة:السّفينة العظيمة؛و جمعها:خلايا.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:تخلّيت من هذا الأمر تخلّيا.

و استخليت بفلان:في معنى خلوت.

(الأزهريّ 7:574)

خليت الخلا أخليه خليا أي نزعته.

و أعطني مخلاة أخلي فيها.

و يقال:أخلى اللّه الماشية يخليها إخلاء،أي أنبت لها ما تأكل من الخلى.(الأزهريّ 7:575)

تميم تقول:خلا فلان على اللّبن و على اللّحم،إذا لم يأكل معه شيئا و لا خلطه به.

و كنانة و قيس يقولون:أخلى فلان على اللّبن و اللّحم.

الوجه في«خلو»لا يثنّى و لا يجمع و لا يؤنّث، و قد ثنّى بعضهم و جمع و أنّث،و ليس بالوجه.

(ابن سيده 5:297)

الخليّة:كلمة تطلّق بها المرأة.يقال لها:أنت بريّة و خليّة،فيقال:قد خلت المرأة من زوجها.

(ابن سيده 5:299)

ابن الأعرابيّ: الخليّة:النّاقة تنتج فينحر ولدها عمدا،ليدوم لهم لبنها،فتستدرّ بحوار غيرها.فإذا درّت نحّي الحوار،و احتلبت.

و ربّما جمعوا من الخلايا ثلاثا و أربعا على حوار واحد،و هو التّلسّن.(الأزهريّ 7:573)

الخليّة:ما يعسّل النّحل فيه من راقود أو طين،أو خشب منقورة.(الأزهريّ 7:574)

خلا الرّجل على بعض الطّعام،إذا اقتصر عليه.

اخلولى فلان،إذا دام على أكل اللّبن.

و الخلاة كلّ بقلة قلعتها.

خليت الخلا أخليه خليا،أي نزعته.

خليت القدر،إذا القيت تحتها حطبا.

و خليتها إذا طرحت فيها اللّحم.

و خليت فرسي،إذا حششت عليه الحشيش.

و خليت الفرس،إذا ألقيت في فيه اللّجام.

(الأزهريّ 7:575)

خلا فلان،أي مات.

و خلا،إذا أكل الطّيّب.و خلا،إذا تعبّد.

و خلا،إذا تبرّأ من ذنب قرف به.

(الأزهريّ 7:576)

ابن السّكّيت: يقال قد أخليت المكان،إذا

ص: 745

صادفته خاليا،و قد خليت الخلا:إذا جززته.

(إصلاح المنطق:235)

و الخليّة:أن تعطف ناقتان أو ثلاث على ولد واحد،فيدررن عليه فيرضع من واحدة،و يتخلّى أهل البيت لأنفسهم واحدة أو ثنتين.

(إصلاح المنطق:345)

و الخلا:الرّطب؛الواحدة خلاة.و الحشيش هو اليابس،و لا يقال له و هو رطب:حشيش.و يقال:

لمعة قد أحشّت،أي قد أمكنت لأنّ تحتشّ،و ذلك إذا يبست.(إصلاح المنطق:367)

و يقال للوعاء إذا فرغ فلم يكن فيه شيء:قد خلا وعاء فلان،و قد صفر صفرا،و هو يصفر صفرا شديدا.

(إصلاح المنطق:410)

خليت دابّتي أخليها،إذا جززت لها الخلى.

(الجوهريّ 6:2332)

شمر:يقال:وجدت الدّار مخلية،أي خالية

و يقول الرّجل للرّجل:اخل معي حتّى أكلّمك، و اخلني حتّى أكلّمك،أي كن معي خاليا.

(الأزهريّ 7:568)

و في حديث ابن مسعود:«إذا أدركت من الجمعة ركعة فإذا سلّم الإمام فأخل وجهك،و ضمّ إليها ركعة أخرى».

قوله:«أخل وجهك»:معناه فيما بلغنا استره بإنسان أو بشيء،و صلّ ركعة أخرى.و يقال:أخل أمرك،و اخل بأمرك،أي تفرّد به،و تفرّغ له.

(الهرويّ 2:593)

الدّينوريّ: الخلوتان:شفرتا النّصل؛واحدتهما:

خلوة.(ابن سيده 5:300)

ابن دريد :رجل خلو من كذا و كذا،إذا كان متخلّيا منه؛و الجمع:أخلاء

و بنو خلاوة:بطن من العرب.(2:242)

و خلاوة:اسم.

و الخلى:الرّطب.

و الخلاء:مصدر تخالى القوم خلاء،إذا كانوا حلفاء ثمّ تباينوا.

و مكان خلاء:فارغ.

و عسكر خال:متضعضع قليل الأهل.

و الخلاء:خلاء النّاقة،و هو كالحران في الخيل، و لا يقال للجمل.[ثمّ استشهد بشعر](3:240)

الأزهريّ: و يقال:استخليت فلانا،أي قلت له:

اخلني.

و تقول:افعل كذا،و خلاك ذمّ،أي لا يدركك ذمّ...[و نقل قول الخليل :«خاليت فلانا،أي صارعته ثمّ قال:]

قلت:كأنّه إذا صارعه خلا كلّ واحد منهما لصاحبه،فلم يستعن واحد منهما على صاحبه أحدا.

و يقال:عدوّ مخال،أي ليس له عهد.

و يقال:خاليت العدوّ،أي تركت ما بيني و بينه من الموادعة،و خلا كلّ واحد منّا من العهد.

و العرب تقول:«ويل للشّجيّ من الخليّ».

و الخليّ: الّذي لا همّ له الفارغ.

و يقال:هو خلو من هذا الأمر،أي خارج.و هما

ص: 746

خلو،و هم خلو.

و قال بعضهم:هما خلوان من هذا الأمر و هم أخلاء،و ليس بالوجه.

و يقال:خلت المرأة من زوجها.

و يقال للمرأة:«أنت خليّة بريّة».فتطلق بها المرأة إذا نوي طلاقها.

و قد شاهدت الخلايا في حلائبهم.

و سمعتهم يقولون:بنو فلان قد خلوا،و هم يخلون.

و الخليّة:النّاقة تنتج فينحر ولدها ساعة يقع في الأرض،قبل أن تشمّه أمّه،و يدنى منها ولد ناقة نتجت قبلها،فتعطف عليه،ثمّ ينظر إلى أغزر النّاقتين،فتجعل خليّة،و لا يكون للحوار منها إلاّ قدر ما يدرّها، و تترك الأخرى للحوار يرضعها متى شاء،و تسمّى البسوط؛و جمعها:بسط.

و الغزيرة الّتي يتخلّى بلبنها أهلها:هي الخليّة.

[و نقل قول الخليل في معنى«الخليّة»ثمّ قال:]

قلت:و غيره يقول:الخليّة:العظيمة من السّفن، و هذا هو الصّحيح.[و استشهد بالشّعر 5 مرّات]

(7:568-576)

الصّاحب:خلا الشّيء يخلو خلاء،أي فرغ، و هو خال.

و الخلاء من الأرض:قرار خال.

و خلا الرّجل يخلو خلوة.

و استخليت فلانا فأخلاني،أي خلا معي.و خلا بي و خلالي،و هو خلو من الأمر و خليّ،و هم أخلاء منه،و هنّ أخلاء كذلك.

و أخل إليك،أي الزم شأنك؛و اخل به.

و مثل:«أخل إليك ذئب أزلّ».

و أخليت:أصبت خلاء،أي خلوة.

و خلوت على اللّبن و أخليت عليه،إذا أكله وحده.«الذّئب خاليا أشدّ».

و خاليت فلانا:صارعته.و كذلك المخالاة في كلّ أمر،و هي المخادعة أيضا.و الموادعة و هو في اللّحم:

أن يخالي الرّجل الطّعام كلّه راغبا عنه إلى اللّحم.

و في المثل:«لا يدري الشّقيّ بمن يخالي».

و تسمّى الشّفرتان من حديدة السّهم:الخلوتين؛ الواحدة خلوة.

و في المثل في براءة السّاحة:«أنا منه فالج بن خلاوة»أي أنا منه بريء خال.

و خلا لك الشّيء و أخلى:بمعنى.

و امرأة مخلية:لا زوج لها.

خلّيت عن الشّيء:أرسلته.و تبرّأت منه.

و خلا فلان:مضى.و القرون الخالية:المواضي.

و في المثل:«عبد و خلّي في يديه»أي يملكه من لا يستأهله.

و الخلا:الحشيش من بقول الرّبيع تختليه.و به سمّيت المخلاة،لأنّهم كانوا يختلون لدوابّهم فيها.

و أخلت الأرض:كثر خلاها.

و السّيف يختلي الأيدي و الأرجل،إذا أبانها.

يقولون:فلان حلو الخلا،أي حسن الكلام.[ثمّ استشهد بشعر]

و الخليّ: الّذي لا همّ له،ويل للشّجيّ من الخليّ.

ص: 747

و الخليّ: موضع العسل من الكوّارة.

و الخلاء:البراز.

و الخليّة من النّوق:الّتي خلّت عن ولدها و رئمت ولد غيرها.و قيل:هي الّتي ليس معها ولد.

و ناقة مخلاء،إذا خلّيت عن ولدها.و هي من السّفن:الّتي لا يسيّرها ملاّحها،تسير من ذات نفسها؛ و الجميع:الخلايا.

و الخلاء في الإبل:كالحران في الدّابّة،خلأت النّاقة تخلأ خلاء.

و تقول:ما في الدّار أحد خلا زيدا،و يجرّ أيضا.

و ما أردت مساءتك خلا أنّي وعظتك:في معنى إلاّ أنّي.

و مثل:«افعل ذاك و خلاك ذمّ»أي جاوزك و حيّاك،من:خلا فوه.

و الإخلاء:دعاء الكلب.

و يقال:«لو كان في التّخلئ ما نفعه».و التّخلئ:

الدّنيا.(4:414)

الخطّابيّ: في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:أنّ معاوية بن حيدة القشيريّ قال:قلت:يا رسول اللّه ما آيات الإسلام؟ قال:«أن تقول:أسلمت وجهي إلى اللّه و تخلّيت،و تقيم الصّلاة،و تؤتي الزّكاة،كلّ مسلم عن مسلم محرم أخوان نصيران»،فقلت:يا نبيّ اللّه،هذا ديننا، قال:«هذا دينكم،و أين ما تحسن يكفك».

قوله:«تخلّيت»معناه:تبرّأت من الشّرك و انقطعت عنه.و في هذا حجّة لمن ذهب إلى أنّ المشرك لا يكون مسلما حتّى يتكلّم بالشّهادة و يتبرّأ من دينه، لأنّ بعض أهل الشّرك يؤمن باللّه و هو يندّ معه و يؤمن برسوله،و هو لا يراه خاتم الأنبياء.(1:322)

[في حديث:]في الحرم:«لا يختلى خلاها».

و الخلا مقصور:الحشيش،و المخلى:الحديدة الّتي يحتشّ بها من الأرض،و به سمّيت المخلاة.فأمّا الخلاء ممدودا،فهو المكان الخالي.(3:244)

الجوهريّ: خلا الشّيء يخلو خلوّا.

و خلوت به خلوة و خلاء.

و خلوت به،أي سخرت به.

و خلوت إليه،إذا اجتمعت معه في خلوة.قال اللّه تعالى: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ البقرة:14،و يقال:

(الى)هنا بمعنى«مع»،كما قال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ الصّفّ:14.

و قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ فاطر:24،أي مضى و أرسل.

و تقول:أنا منك خلاء،أي براء.إذا جعلته مصدرا لم تثنّ و لم تجمع،و إذا جعلته اسما على«فعيل»ثنّيت و جمعت و أنّثت،فقلت:أنا خليّ منك،أي بريء منك.

و في المثل:«خلاؤك أقنى لحيائك»،أي منزلك إذا خلوت فيه ألزم لحيائك.

و الخلاء ممدود:المتوضّأ.

و الخلاء أيضا:المكان لا شيء به.

و الخليّة:النّاقة تطلق من عقالها و يخلّى عنها.

و يقال للمرأة:أنت خليّة،كناية عن الطّلاق.

و الخليّة:النّاقة تعطف مع أخرى على ولد واحد، فتدرّان عليه و يتخلّى أهل البيت بواحدة يحلبونها.

ص: 748

و الخليّة أيضا:السّفينة العظيمة.

و تقول:أنا خلو من كذا،أي خال.

و الخليّة أيضا:بيت النّحل الّذي تعسّل فيه.

و«خلا»كلمة يستثنى بها،و تنصب ما بعدها و تجرّ.تقول:جاءوني خلا زيدا،تنصب بها،إذا جعلتها فعلا و تضمر فيها الفاعل،كأنّك قلت:خلا من جاءني من زيد.و إذا قلت:خلا زيد فجررت،فهي عند بعض النّحويّين حرف جرّ بمنزلة«حاشا»،و عند بعضهم مصدر مضاف.

و أمّا«ما خلا»فلا يكون فيما بعدها إلاّ النّصب، تقول:جاءوني ما خلا زيدا،لأنّ خلا لا تكون بعد«ما» إلاّ صلة لها،و هي معها مصدر،كأنّك قلت:جاءوني خلوّ زيد،أي خلوّهم من زيد،تريد:خالين من زيد.

و قولهم:«افعل كذا و خلاك ذمّ»،أي أعذرت و سقط عنك الذّمّ.

و خلاوة:أبو بطن من أشجع،و هو خلاوة بن سبيع بن بكر بن أشجع.

و في المثل:«أنا من هذا الأمر فالج بن خلاوة»أي بريء منه.

و الخليّ: الخالي من الهمّ،و هو خلاف الشّجيّ.

و الخلى مقصورا:الرّطب من الحشيش؛الواحدة:

خلاة.

و جاء في المثل:«عبد و خلى في يديه»أي إنّه مع عبوديّته غنيّ.

قال يعقوب:و لا تقل:و خلي في يديه.

و تقول:خليت الخلى و اختليته،أي جززته و قطعته،فانخلى.

و المخلى:ما يجزّ به الخلى.

و المخلاة:ما يجعل فيه الخلى.

و السّيف يختلي،أي يقطع.

و المختلون و الخالون:الّذين يختلون الخلى و يقطعونه.

و أخلت الأرض،أي كثر خلاها.

و أخليت المكان:صادفته خاليا.

و استخلاه مجلسه،أي سأله أن يخليه له.

و أخليت،أي خلوت.و أخليت غيري،يتعدّى و لا يتعدّى.

و أخليت عن الطّعام،أي خلوت عنه.

و خاليت الرّجل:تاركته.

و تخلّيت:تفرّغت.

و خلّيت عنه،و خليت سبيله،فهو مخلّى.و رأيته مخلّيا.[و استشهد بالشّعر 4 مرّات](6:2330)

أبو هلال :الفرق بين التّرك و التّخلية:أنّ التّرك هو ما ذكرنا.[لاحظ:ت ر ك]

و التّخلية للشّيء نقيض التّوكيل به.يقال:خلاه، إذا أزال التّوكيل عنه،كأنّه جعله خاليا لا أحد معه.

ثمّ صارت التّخلية عند المتكلّمين:ترك الأمر بالشّيء و الرّغبة فيه،و النّهي عن خلافه.و يقولون:

القادر مخلّى بينه و بين مقدوره،أي لا مانع له منه،شبّه بمن ليس معه موكّل يمنعه من تصرّفاته.(91)

الهرويّ: يقال:خلوت إليه و خلوته به و خلون معه،بمعنى واحد.

ص: 749

و في الحديث:«أسلمت وجهي إلى اللّه و تخلّيت» أي تبرّأت من الشّرك،و انقطعت عنه.

و في حديث عمر:«في خلايا العسل فيها العشر».

الخلايا:مواضع تعسّل فيها النّحل؛واحدتها:خليّة، و هي مثل الرّاقود.(2:593)

أبو سهل الهرويّ: و خلى الرّجل على الشّيء و أخلى عليه،إذا لم يخالط به غيره.

و خلا المكان يخلو،أي صار خاليا.

و أخلى المكان،إذا كثر فيه الخلا-و هو الكلأ- و هو مخلّ.(فعلت و أفعلت:197)

ابن سيده: خلا المكان خلوّا،و خلاء،و أخلى، إذا لم يكن فيه أحد.

و استخلى،ك«خلا»،من باب:علا قرنه و استعلاه،و من قوله تعالى: وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ الصّافّات:14،من تذكرة أبي عليّ.

و مكان خلاء:لا أحد به.

و أخلى المكان:جعله خاليا؛و أخلاه:وجده كذلك.

و خلا الرّجل،و أخلى:وقع في موضع خال لا يزاحم فيه.و في المثل:«الذّئب مخليا أشدّ».

و خلا لك الشّيء،و أخلى لك:فرغ.

و خلا على بعض الطّعام:اقتصر.

و الخلاء:المتوضّأ،لخلوّه.

و استخلى الملك فأخلاه،و خلا به.

و خلا الرّجل بصاحبه،و إليه،و معه،-عن أبي إسحاق،-خلاء و خلوّا و خلوة،الأخيرة عن اللّحيانيّ.

و قيل:الخلاء و الخلوّ:المصدر،و الخلوة:الاسم.

و أخلى به،كخلا،هذه عن اللّحيانيّ.

و حكي عن بعض العرب:تركته مخليا لفلان،أي خاليا به.

و استخلى به،كخلا عنه أيضا.

و خلّى بينهما،و أخلاه معه.

و كنّا خلوين،أي خاليين.

و أنت خليّ من هذا الأمر،أي خال فارغ،و في المثل.«ويل للشّجيّ من الخليّ».و الجمع:خليّون، و أخلياء.

و الخلو،كالخليّ.

و الأنثى:خلوة و خلو؛و الجمع:أخلاء.

و الخالي:العزب،و كذلك الأنثى بغير هاء؛ و الجمع:أخلاء.

و خلّى الأمر،و تخلّى منه و عنه،و خالاه:تركه.

و خالى فلانا:تركه.

و الخليّة،و الخليّ: ما يعسّل فيه النّحل من غير ما يعالج لها من العسّالات.

و قيل:الخليّة:ما كان مصرّعا،و قد تقدّم.

و قيل:الخليّة و الخليّ: خشبة تنقر فيعسّل فيها النّحل.

و الخليّة:أسفل شجرة.يقال لها:الخزمة،كأنّه راقود.

و قيل:هو مثل الرّاقود يعمل لها من طين.و في الحديث:«في خلايا النّحل:إنّ فيها العشر».

ص: 750

و الخليّة من الإبل:الّتي خلّيت للحلب.

و قيل:هي الّتي عطفت على ولد.

و قيل:هي الّتي خلت عن ولدها بموت أو نحر، فتستدرّ بغير ولدها و لا ترضعه،إنّما تعطف على حوار تستدرّ به من غير أن ترضعه،فسمّيت:خليّة،لأنّها لا ترضع ولدها و لا غيره.

و قيل:الخليّة:ناقة أو ناقتان أو ثلاث يعطفن على ولد واحد فيدررن عليه،فيرضع الولد من واحدة،و يتخلّى أهل البيت لأنفسهم واحدة أو اثنتين يحلبونها.

و تخلّى خليّة:اتّخذها لنفسه.

و الخليّة من الإبل:المطلقة من عقال.و رفع إلى عمر رجل،و قد قالت له امرأته:شبّهني،فقال:«كأنّك ظبية،كأنّك حمامة،فقالت:لا أرضى حتّى تقول:خليّة طالق،فقال ذلك،فقال عمر:خذ بيدها فإنّها امرأتك».

لمّا لم تكن نيّته الطّلاق،و إنّما غالطته بلفظ يشبه لفظ الطّلاق.

و الخليّة:السّفينة الّتي تسير من غير أن يسيّرها ملاّح.و قيل:هي الّتي يتبعها زروق صغير.

و قيل:الخليّة:العظيمة من السّفن.

و خلا الشّيء خلوّا:مضى.

و تخلّى عن الأمر،و من الأمر:تبرّأ.

و خلى عن الشّيء:أرسله.

و خلى مكانه:مات.

و لا أخلى اللّه مكانك:تدعو له بالبقاء.

و«خلا»من حروف الاستثناء،تجرّ ما بعدها و تنصبه،فإذا قلت:ما خلا زيدا،فالنّصب لا غير.

و أنا من هذا الأمر كفالج بن خلاوة،أي خلاء.

و خلاوة:اسم رجل،مشتقّ من ذلك.

و بنو خلاوة:بطن من أشجع.

و خلا به:سخر منه.[و استشهد بالشّعر 6 مرّات]

(5:296)

الطّوسيّ: و أصله[الخلو]:الانفراد،و منه خلا الرّجل بنفسه،إذا انفرد.و خلا المكان من أهله،أي انفرد منهم.و حدّ الخلوّ:حصول الشّيء وحده.

و الفرق بين الخلوّ و الفراغ:أنّ الخلوّ إذا لم يكن مع الشّيء غيره،و قد يفرغ منه و هو معه،فإذا قلت:خلا منه،فليس معه.(1:477)

مثله الطّبرسيّ.(1:215)

الرّاغب: الخلاء:المكان الّذي لا ساتر فيه،من بناء و مساكن و غيرهما.

و الخلوّ يستعمل في الزّمان و المكان،لكن لما تصوّر في الزّمان المضيّ،فسّر أهل اللّغة:خلا الزّمان بقولهم:مضى الزّمان و ذهب.[ثمّ ذكر آيات و قال:]

و ناقة خليّة:مخلاة عن الحلب،و امرأة خليّة:

مخلاة عن الزّوج.

و قيل للسّفينة المتروكة بلا ربّان:خليّة،و الخليّ:

من خلاّه الهمّ،نحو المطلّقة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الخلاء:الحشيش المتروك حتّى ييبس.

و يقال:خليت الخلاء:جززته،و خليت الدّابّة:

جززت لها.و منه استعير:سيف يختلي،أي يقطع ما يضرب به قطعه للخلا.(158)

نحوه الفيروزآباديّ(بصائر ذوي التّمييز 2:571)

ص: 751

الزّمخشريّ: خلا المكان خلاء،و خلا من أهله، و عن أهله.

و خلوت بفلان،و إليه،و معه،خلوة،و خلا بنفسه:انفرد.

و استخليت الملك فأخلاني،أي خلا معي، و أخلى لي مجلسه،و خلا لك الجوّ.

و مكان خلاء،و بات في البلد الخلاء،و الأرض الفضاء.

و هو خلو من هذا الأمر،و هي خلوة و هم أخلاء.

و هو خليّ من الهمّ،و هي خليّة منه،و هم خليّون، و هنّ خليّات.

و خلوت على اللّبن و على اللّحم،إذا أكلته وحده ليس معه غيره من تمر أو خبز.

و خلّيته و خلّيت عنه:أرسلته.

و خلّيت فلانا و صاحبه،و خلّيت بينهما.

و خاليته مخالاة:وادعته.

و تخلّى من الدّنيا و خالاها مخالاة،و ما أحسن مخالاتك الدّنيا!

و خلا شبابك:مضى،و هو من القرون الخالية.

و تقول:كان ذلك في القرون الأوالي،و الأمم الخوالي.

و افعل ذلك و خلاك ذمّ.

و ما أردت مساءتك خلا أنّي وعظتك.

و العسل في الخليّة و في الخلايا.

و علفته الخلى،و هو الحشيش.

و اختليته:اجتززته.

و خلّيت دابّتي:حششت له و ملأت له المخلاة،و علّقوا على دوابّهم المخالي.

و المخلاء في المخلاة و هو ما يقطع به الخلى.

و أخليت الدّابّة:علفته الخلى.

و من المجاز:خلّى فلان مكانه:مات.

و لا أخلى اللّه مكانك:دعاء بالبقاء.

و خلّى سبيله:تركه.

و خلا به:سخر منه و خدعه،لأنّ السّاحر و الخادع يخلوان به،يريانه النّصح و الخصوصيّة.

و أخلى الفرس اللّجام:ألقمه إيّاه إلقام الخلى.

و فلان حلو الخلى،إذا كان حسن الكلام.

و أخلى القدر:أو قد تحتها بالبعر،كأنّه جعله خلى لها.

و ما كنت خلاة لموعد.

و هذا سيف يختلي الأيدي و الأرجل.[و استشهد بالشّعر 5 مرّات](أساس البلاغة:119)

الطّبرسيّ: يقال:خلوت إليه،و خلوت معه.

و يقال:خلوت به،على ضربين:أحدهما:بمعنى خلوت معه،و الآخر:بمعنى سخرت منه.(1:51)

المدينيّ: في حديث الرّؤيا:«أ ليس كلّكم يرى القمر مخليا به».يقال:خلوت به و معه و إليه، و أخليت به إذا انفردت به،أي يراه كلّكم منفردا، كقوله:«لا تضارّون في رؤيته».

و في حديث أمّ حبيبة،رضي اللّه عنها:«لست لك بمخلية»أي لم أجدك خاليا من الأزواج غيري.

ص: 752

يقال:أخليت،أي أصبت خلا و خلوة،و خلا لك الشّيء و أخلى،إذا أمكنك خاليا،و أخليت المكان:

صادفته خاليا،و ليس من قولهم:امرأة مخلية:خلت من الزّوج فهي عزب،و كذلك رجل خليّ: لا زوج له.

و في حديث جابر رضى اللّه عنه:«تزوّجت امرأة قد خلا منها»أي أسنّت و تخلّت من عمرها.

في حديث تحريم مكّة:«لا يختلى خلاها»أي لا يقطع.و الخلا مقصور:النّبت الرّقيق كلّه رطبا،لأنّه يخلى و يختلى،أي يقطع،فإذا يبس فهو حشيش.

و أخلت الأرض:أكثرت إنبات الخلا،و المخلاة من ذلك،لأنّهم يختلون فيها،و القطعة منها:خلاة، كالشّهدة و الجبنة من الشّهد و الجبن.

و في الحديث:«فاستخلاه البكاء».قال أبو عمر:

هو بالخاء المعجمة،و بالحاء لا شيء.يقال:أخلى فلان على شرب اللّبن،إذا لم يأكل غيره.

في حديث عمر:«أنت خليّة طالق».هي النّاقة تخلّى عن عقالها؛و طلقت من العقال تطلق طلقا،فهي طالق.

في حديث ابن عمر:«كان يختلي لفرسه».أي يجتزّ الخلا،و هو الرّطب.و لامه ياء،تقول:خليت الخلا.

(1:614)

ابن الأثير: و في الحديث:«فلمّا خلا سنّي و نثرت له ذا بطني»تريد أنّها كبرت و أولدت له.

و في حديث معاوية القشيريّ: قلت:يا رسول اللّه، ما آيات الإسلام؟قال:«أن تقول أسلمت وجهي إلى اللّه و تخلّيت».التّخلّي:التّفرّغ.يقال:تخلّى للعبادة، و هو«تفعّل»من الخلوّ،و المراد:التّبرّؤ من الشّرك، و عقد القلب على الإيمان.

و منه حديث أنس:«أنت خلو من مصيبتي».

الخلو بالكسر:الفارغ البال من الهموم،و الخلو أيضا:

المنفرد.

و منه الحديث:«إذا كنت إماما أو خلوا».

و منه حديث ابن مسعود:«إذا أدركت من الجمعة ركعة،فإذا سلّم الإمام فأخل وجهك و ضمّ إليها ركعة».يقال أخل أمرك،و اخل بأمرك،أي تفرّغ له، و تفرّد به.و ورد في تفسيره:استتر بإنسان أو بشيء و صلّ ركعة أخرى.و يحمل الاستتار على أن لا يراه النّاس مصلّيا ما فاته،فيعرفوا تقصيره في الصّلاة،أو لأنّ النّاس إذا فرغوا من الصّلاة انتشروا راجعين، فأمره أن يستتر بشيء،لئلاّ يمرّوا بين يديه.

و في حديث ابن عمر:في قوله تعالى: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ الزّخرف:77،قال:فخلّى عنهم أربعين عاما،ثمّ قال: اِخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ المؤمنون:

108،أي تركهم و أعرض عنهم.

و حديث ابن عبّاس:«كان أناس يستحيون أن يتخلّوا فيفضوا إلى السّماء».يتخلّوا:من الخلاء،و هو قضاء الحاجة،يعني يستحيون أن ينكشفوا عند قضاء الحاجة تحت السّماء.

و في حديث تحريم مكّة:«لا يختلى خلاها».

الخلا،مقصور:النّبات الرّطب الرّقيق ما دام رطبا، و اختلاؤه:قطعه.و أخلت الأرض:كثر خلاها،فإذا يبس فهو حشيش.

ص: 753

و منه حديث ابن عمر:«كان يختلي لفرسه»أي يقطع له الخلا.

و منه حديث عمرو بن مرّة:«إذا اختليت في الحرب هام الأكابر»أي قطعت رءوسهم.

و في حديث معتمر:«سئل مالك عن عجين يعجن بدرديّ،فقال:إن كان يسكر فلا»فحدّث الأصمعيّ به معتمرا،فقال:أو كان كما قال:

رأى في كفّ صاحبه خلاة

فتعجبه و يفزعه الجرير

الخلاة:الطّائفة من الخلا،و معناه:أنّ الرّجل يندّ بعيره فيأخذ بإحدى يديه عشبا،و بالأخرى حبلا، فينظر البعير إليهما فلا يدري ما يصنع؛و ذلك أنّه أعجبته فتوى مالك،و خاف التّحريم لاختلاف النّاس في المسكر،فتوقّف و تمثّل بالبيت.

و في حديث ابن عمر:«الخليّة ثلاث»كان الرّجل في الجاهليّة يقول لزوجته:أنت خليّة،فكانت تطلق منه؛و هي في الإسلام من كنايات الطّلاق،فإذا نوى بها الطّلاق وقع.يقال:رجل خليّ،لا زوجة له،و امرأة خليّة لا زوج لها.

و منه حديث عمر:«أنّه رفع إليه[إلى آخر ما سبق]».

أراد ب«الخليّة»هاهنا:النّاقة تخلّى من عقالها، و طلقت من العقال تطلق طلقا فهي طالق.

و قيل:أراد ب«الخليّة»:الغزيرة،يؤخذ ولدها فيعطف عليه غيرها،و تخلّى للحيّ يشربون لبنها.

و الطّالق:النّاقة الّتي لا خطام عليها،و أرادت هي مخادعته بهذا القول ليلفظ به فيقع عليها الطّلاق،فقال له عمر:خذ بيدها فإنّها امرأتك،و لم يوقع عليها الطّلاق،لأنّه لم ينو به الطّلاق،و كان ذلك خداعا منها.

و في حديث أمّ زرع:«كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع في الألفة و الرّفاء لا في الفرقة و الخلاء»يعني أنّه طلّقها و أنا لا أطلّقك.

و في حديث عمر:«إنّ عاملا له على الطّائف كتب إليه:إنّ رجالا من فهم كلّموني في خلايا لهم أسلموا عليها،و سألوني أن أحميها لهم».

الخلايا:جمع:خليّة،و هو الموضع الّذي تعسّل فيه النّحل،و كأنّها الموضع الّتي تخلي فيه أجوافها.

و منه حديثه الآخر:«في خلايا العسل العشر».

و في حديث عليّ: «و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا».

يقال:افعل ذلك و خلاك ذمّ،أي أعذرت و سقط عنك الذّمّ.

و في حديث بهز بن حكيم:«إنّهم ليزعمون أنّك تنهى عن الغيّ و تستخلي به»أي تستقلّ به و تنفرد.

و منه الحديث:«لا يخلو عليهما أحد بغير مكّة إلاّ لم يوافقاه»يعني الماء و اللّحم،أي ينفرد بهما.يقال:

خلا و أخلى.و قيل:يخلو يعتمد،و أخلى إذا انفرد.

(2:74)

الفيّوميّ: خلا المنزل من أهله يخلو خلوّا و خلاء،فهو خال،و أخلى بالألف لغة،فهو مخل.

و أخليته:جعلته خاليا و وجدته كذلك،و خلا الرّجل بنفسه،و أخلى بالألف لغة.

و خلا بزيد خلوة:انفرد به،و كذلك خلا بزوجته

ص: 754

خلوة.و لا تسمّى خلوة إلاّ بالاستمتاع بالمفاخذة، و حينئذ تؤثّر في أمور الزّوجيّة،فإن حصل معها وطء، فهو الدّخول.

و خلا من العيب خلوّا:برئ منه،فهو خليّ؛و هذا يؤنّث و يثنّى و يجمع،و يقال:خلاء،مثل:سلام، و خلو مثل:حمل.

و خلت المرأة من مانع النّكاح خلوّا،فهي خليّة و نساء خليّات،و ناقة خليّة:مطلقة من عقالها،فهي ترعى حيث شاءت.و منه:يقال في كنايات الطّلاق:

هي خليّة.

و خليّة النّحل معروفة؛و الجمع:خلايا،و تكون من طين أو خشب.و قال اللّيث:هي من الطّين كوارة بالكسر.و خليّ بغير هاء.

و الخلا:بالقصر،الرّطب من النّبات؛الواحدة:

خلاة،مثل:حصى و حصاة.

قال في«الكفاية»:الخلا:الرّطب،و هو ما كان غضّا من الكلإ،و أمّا الحشيش فهو اليابس.

و اختليت الخلا اختلاء:قطعته؛و خليته خليا- من باب رمى-مثله،و الفاعل مختل و خال

و في الحديث:«لا يختلى خلاها»أي لا يجزّ، و الخلاء بالمدّ مثل:الفضاء،و الخلاء أيضا:المتوضّأ.

(1:181)

الفيروزآباديّ: خلا المكان خلوّا و خلاء و أخلى و استخلى:فرغ.

و مكان خلاء:ما فيه أحد.

و أخلاه:جعله أو وجده خاليا.

و خلا:وقع في موضع خال لا يزاحم فيه كأخلى، و على بعض الطّعام:اقتصر.

و استخلى الملك فأخلاه و به،و استخلى به،و خلا به و إليه و معه خلوا و خلاء و خلوة:سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل،و أخلاه معه:و وجدهما خلوين بالكسر:خاليين.

و كغنيّ: الفارغ؛جمعه:خليّون و أخلياء،و من لا زوجة له.

و الخلو بالكسر:الخليّ أيضا،و هي خلوة و خلو؛جمعه:أخلاء.

و الخالي:العزب و العزبة،جمعه؛أخلاء.

و خلى الأمر و تخلّى منه و عنه و خالاه:تركه.

و الخليّة و الخليّ: ما يعسّل فيه النّحل،أو مثل الرّاقود من طين،أو خشبة تنقر ليعسّل فيها،أو أسفل شجرة تسمّى الخزمة،كأنّه راقود.

و الخليّة من الإبل:المخلاّة للحلب،أو الّتي عطفت على ولد أو خلت من ولدها،فتستدرّ بغيره و لا ترضعه،بل تعطف على حوار تستدرّ به من غير إرضاع،أو الّتي تنتج،و هي غزيرة فيجرّ ولدها من تحتها،فيجعل تحت أخرى و تخلّى هي للحلب.أو ناقة أو ناقتان أو ثلاث يعطفن على واحد،فيدررن عليه، فيرضع الولد من واحدة،و يتخلّى أهل البيت بما بقي، أي يتفرّغ.

و المطلقة من عقال،و السّفينة العظيمة،أو الّتي تسير من غير أن يسيّرها ملاّح،أو الّتي يتبعها زورق صغير،و كناية عن الطّلاق.

ص: 755

و خلا مكانه:مات و مضى،و عن الأمر و منه:

تبرّأ،و عن الشّيء:أرسله،و به:سخر منه.

و خلا:من حروف الاستثناء.

و أنا منه فالج بن خلاوة بالفتح،أي خلاء بريء.

و الخلاوة:بطن من تجيب،منهم مالك بن عبد اللّه ابن سيف الخلاويّ.

و الخلاء:المتوضّأ،و المكان لا شيء به.

و خلاؤك أقنى لحيائك،أي منزلك إذا خلوت فيه ألزم لحيائك.

و جاءوني خلوّ زيد،أي خلوّهم منه،أي خالين منه.(4:326)

الطّريحيّ: و في الحديث:«إنّ اللّه خلو من خلقه و خلقه خلو منه»بكسر الخاء و تسكين اللاّم،و المراد:

المباينة الذّاتيّة و الصّفاتيّة بين الخالق و المخلوق،فكلّ منهما خلو من شبه الآخر.

و فى حديث عليّ عليه السّلام:«فيخلّينى أدور معه كيف دار».قيل:هو إمّا من«الخلوة»أو من«التّخلية»أي يتركني أدور معه كيف دار.

و عن بعض الأفاضل:أنّه ليس المراد الدّوران الحسّيّ،بل العقليّ،و المعنى:أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يطلعني على الأسرار المصونة عن الأغيار،و يتركني أخوض معه في المعارف اللاّهوتيّة،و العلوم الملكوتيّة،الّتي جلّت عن أن تكون شرعة لكلّ وارد،أو يطّلع عليها جماعة إلاّ واحدا بعد واحد،انتهى.

و في الدّعاء:«لا تخلّني من يدك»هو بالخاء المعجمة و تشديد اللاّم،من«التّخلية».و جوّزوا أن يراد النّعمة،و حينئذ يقرأ بتخفيف اللاّم،أي لا تجعلني خاليا من نعمتك.

و فى الحديث:«و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا دخل الخلاء نزع خاتمه»،و اختلف فيه أنّه مختصّ بالبنيان أو يعمّ الصّحراء،و لفظ«دخل»يخصّه.

و تخلّى:تغوّط،و منه الحديث:«لا يقطع الصّلاة إلاّ أربعة».و عدّ منها الخلاء،يعني الغائط فقط،لمقابلته بالبول و الرّيح و الصّوت.

و«خلا من العيب خلوّا»برئ منه،فهو خليّ.

و اختليته:اقتطعته،و منه حديث مكّة:«لا يختلى خلاها»أي لا يجزّ نبتها الرّقيق و لا يقطع ما دام رطبا، و إذا يبس،فهو حشيش.

و في حديث عليّ عليه السّلام:«ستعقبون منّي جثة خلاء»أي لا روح معها،و معناه الموت.

و خلأت النّاقة خلأ و خلاء بالمدّ و الكسر:حرنت و بركت من غير علّة.

و منه حديث سراقة:«ما خلأت و لا حرنت و لكن حبسها حابس الفيل».

و منه حديث الحديبيّة:«خلأت القصوى»أي حرنت و تصعّبت.

و خوالي الأعوام:مواضيها،من إضافة الصّفة إلى الموصوف.[ثمّ ذكر نحو السّابقين](1:129)

العدنانيّ: خلّى الأمر.

الفعل«خلّى»الّذي استعمله المتنبّي بمعنى«ترك».

[ثمّ استشهد بشعر]

يقول السّامرّائيّ: إنّ هذا الفعل«خلّى»بمعنى

ص: 756

ترك،أوشك أن يزول من الفصحى في عصرنا، و لا تستعمله إلاّ العامّة.و معناه في الفصحى اليوم هو بمعنى أخلى الدّار،أي جعلها خالية،و الحقيقة هي:

أ-انفرد السّامرّائيّ بقوله:إنّ جملة«خلّى الدّار» تعني:أخلاها،و قد عدت إلى الصّحاح،و مفردات الرّاغب الأصفهانيّ،و المختار،و اللّسان،و القاموس، و التّاج،و المدّ،و المحيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن، و الوسيط،فلم أجد واحدا منها ذكر أنّ جملة«خلّى الدّار»تعني أخلاها.

ب-أجمع هؤلاء كلّهم على أنّ جملة:«خلّى الأمر»تعني تركه.

و في حديث ابن عمر في قوله تعالى: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ الزّخرف:77،قال:فخلّى عنهم أربعين عاما، ثمّ قال: اِخْسَؤُا فِيها المؤمنون:108،أي تركهم و أعرض عنهم.

ج-لا يزال كثير من الكتّاب و الشّعراء المعاصرين-في البلاد العربيّة كافّة-يستعملون الفعل «خلّى»بمعنى ترك.

المخلاة:الخلى،هو النّبات الرّقيق ما دام رطبا؛ واحدته:خلاة،أو هي كلّ بقلة تقلع.و يسمّون ما نضع فيه الخلى،أو الشّعير،أو غيرهما للدّابّة:مخلاة.

و الصّواب:مخلاة:الصّحاح،و الأساس،و المختار، و اللّسان،و القاموس،و التّاج،و المتن.

أمّا جمع المخلاة فهو:المخالي.(205)

خلا به،استخلى به،خلا إليه،خلا معه.

و يقولون:اختلى المضيف بالضّيف،و الصّواب:

استخلى به،و خلا به،و خلا إليه،و خلا معه:خلاء و خلوة و خلوا،كما جاء في:الصّحاح،و القاموس، و التّاج،و متن اللّغة،و أقرب الموارد.و شذّ اللّسان عنها فذكر:«خلوّا»بدلا من:خلوا،و اكتفى الأساس بذكر المصدرين الأوّلين«خلاء و خلوة».و أرجّح أنّ هناك خطأ مطبعيّا في اللّسان،لأنّ خلوّا هو مصدر:

خلا المكان يخلو خلاء،و خلوّا،الّذي يعني:فرغ و رحل ساكنوه.

أمّا معنى«خلا به،و إليه،و معه،و استخلى به» فهو:انفرد به،أو اجتمع به في خلوة.

و من معاني الفعل«اختلى»:

1-جزّ الخلى و قطعه،الخلى:الرّطب من الحشيش.و في حديث ابن عمر:«كان يختلي لفرسه»، أي يقطع له الخلى.و في حديث تحريم مكّة:«لا يختلى خلاها»أي لا يجزّ و لا يقطع.

2-اختلى السّيف رأسه:قطعه.

(معجم الأخطاء الشّائعة:85)

مجمع اللّغة :1-خلا يخلو خلوّا:مضى.

2-و خلا إليه يخلو خلوّا:انفرد به.

3-و الأيّام الخالية:الأيّام الماضية.

4-و خلا لكذا يخلو:فرغ له و لم يشتغل بغيره.

5-و خلّى سبيله:كفّ عنه أو أطلقه.

6-و تخلّى عنه تخلّيا:تركه.(1:363)

محمّد إسماعيل إبراهيم:خلا إلى فلان خلوة:

انفرد به.

خلا المكان:فرغ بعد أن رحل ساكنوه عنه.

ص: 757

الشّيء:مضى.

و خلا بنفسه:انفرد بها، يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يوسف:9،أي لا يكون أمام وجه أبيكم غيركم فتخلص لكم محبّته.

خلّوا سبيلهم:أطلقوا سراحهم.

ألقت الأرض ما فيها و تخلّت:أفرغت ما في جوفها و خلت منه خلوّا تامّا،و كأنّها نأت عنه.

الأيّام الخالية:الماضية.(1:174)

محمود شيت:أ-خلا الإناء و الموضع:فرغ ممّا به.

ب-أخلى المكان و الإناء و غيرهما:خلا.

ج-تخلّى عن الأمر:تركه،و عن الموضع:انسحب منه.

د-الخلاء:الفضاء الواسع الخالي من الأرض.

و من الأمكنة:الّذي لا أحد به،و لا شيء فيه.

ه-الخليّة:بيت النّحل الّذي تعسّل،و من السّفن:الّتي تسير من غير ملاّح.و السّفينة العظيمة، و الّتي يتبعها زورق صغير،جمعه:خلايا.

و الخليّة الحيوانيّة في علم الأحياء:وحدة بناء الحيوان.

و-و المخالي:يقال:عدوّ مخالي:ليس له عهد.

(2:814)

المصطفويّ: التّحقيق أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة:هو الفراغ عمّا كان عليه،و إتمام ما له من الاشتغال و الوظيفة،حتّى ينتهي و لم يبق منه أثر باق.

و هذه الخصوصيّة لا بدّ أن يلاحظ في جميع موارد استعمالها.

و أمّا مفاهيم مطلق البراءة و الخلوة و الانفراد و التّعرّي و المضيّ و التّرك و نظائرها،فليست من الحقيقة،بل معاني مجازيّة.

و ليعلم أنّ المعنى المذكور للمادّة المعتلّة بالواو، و قد خلطوا بين هذه المادّة و بين المعتلّة بالياء و المهموزة،فإنّ الخلى يائيّا،بمعنى الجزّ،و منه المخلاة بمعنى ما يجعل فيه الخلى،أي النّبات و العشب المجزوز، و يعلّق على عنق الدّابّة.

و الخلأ مهموزا:بمعنى الاستقرار،فيقال:خلأ فيه، أي لم يبرح مكانه. وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ فاطر:24.[إلى غيرها من الآيات]

فيراد فراغهم عمّا عليهم من الشّغل و الوظيفة، و انتهاء جريانهم في أمورهم الدّنيويّة و بلوغهم إلى غاية ما لهم من المقرّرات و المقدّرات.و كذلك السّنن في بلوغها إلى غاياتها،و تفرّغها و تماميّتها في جريانها.

فقد عبّر في هذه الموارد بهذه المادّة:فإنّ المنظور (1)فيها هو الإشارة إلى جريان الأمور و البلوغ إلى غاياتها.و أمّا إذا كان المنظور هو الإشارة إلى موضوع بنفسه قد سبق،فيعبّر بمادّة المضيّ،كما في آية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ الأنفال:38،أي ابتلاؤهم و هلاكهم.

فظهر لطف التّعبير بالمادّة في الآيات الكريمة،د.

ص: 758


1- يعني فإنّ المقصود...لأنّ«المنظور»هنا اصطلاح فارسيّ بمعنى المقصود.

و أكثر المفسّرين قد غفلوا عن هذه اللّطيفة،و لم يفرّقوا بين الموردين.

و يدلّ عليه:مضافا إلى تفهّم الخصوصيّة المذكورة من نفس الكلمة،أنّ مفهوم المضيّ لا يستقيم في بعض الموارد كما في: وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ النّور:34، سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ الأحزاب:38، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ آل عمران:

137، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ آل عمران:144، فإنّ قيد(من قبل)زائدة،إذا كان اللّفظ(خلا)بمعنى المضيّ.

و ممّا يجب أن يتوجّه إليه:أنّ مفهوم اللّفظ لا يتغيّر بصلة حرف من الحروف،بل يضاف معنى ذلك الحرف إلى مفهوم اللّفظ،فيقال:خلا فيه،خلا منه،خلا إليه، فمفهوم الفراغ محفوظ في الموارد،و إنّما يضاف إليه معنى الظّرفيّة أو الابتدائيّة أو الانتهاء.

فتفسير بعضهم الآية الكريمة: وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ البقرة:76،أو وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ البقرة:14،بالانتهاء إليهم،ليس بوجيه،فإنّ الانتهاء يستفاد من حرف«إلى»،لا من الفعل،و المعنى:و إذا فرغوا منتهيا إليهم.

اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يوسف:9،أي يفرغ عن جريان أمره و يتوجّه بتمام توجّهه إليكم.

و التّخلية:«تفعيل»،يقال:خلاّه فتخلّى،أي جعله فارغا عمّا كان عليه من الاشتغال،فتفرّغ و حصل له الفراغ،و بلغ إلى الغاية فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ التّوبة:5، أي اجعلوهم في مسلكهم و طريق برنامجهم فارغين.

وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ الانشقاق:4،أي حصل له الفراغ،و بلغ مجرى أمرها إلى الغاية.

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ الحاقّة:24،أي في أيّام تمّت جريانها، و فرغتم عنها،و انتهت إلى نهاياتها.

و الفرق بين هذه المادّة و المضيّ و الفراغ:أنّ المضيّ أعمّ من أن يكون للشّيء الماضي جريان،أو انتهاء إلى غاية أم لا.

و الفراغ إنّما يتحصّل بعد تماميّة الخلوّ و بعد انتهاء الجريان في أمر.(3:123)

النّصوص التّفسيريّة

خلا

1- وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ... البقرة:76

ابن عبّاس: إذا رجع السّفلة إلى رؤسائهم.(12)

الطّبريّ: أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الّذين وصف اللّه صفتهم إلى بعض منهم،فصاروا في خلاء من النّاس غيرهم،و ذلك هو الموضع الّذي ليس فيه غيرهم،قالوا يعني قال بعضهم لبعض: أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ. (1:413)

مثله الطّوسيّ(1:315)،و الطّبرسيّ(143:1).

الثّعلبيّ: رجع بعضهم إلى بعض،أي كعب بن الأشراف و كعب بن أسيد و وهب بن يهودا و غيرهم

ص: 759

من رؤساء اليهود،و لاموهم على ذلك.(1:222)

نحوه الواحديّ(1:161)،و البغويّ(1:135)، و الخازن(1:64)،و الشّربينيّ(1:72).

الماورديّ: فيهم قولان:أحدهما:أنّهم اليهود،إذا خلوا مع المنافقين،قال لهم المنافقون:أ تحدّثون المسلمين،بما فتح اللّه عليكم.

و الثّاني:أنّهم اليهود،قال بعضهم لبعض:

أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ. (1:148)

أبو حيّان :أي و إذا انفرد بعضهم ببعض،أي الّذين لم ينافقوا إلى من نافق.و(الى)قيل:بمعنى«مع» أي و إذا خلا بعضهم مع بعض.و الأجود أن يضمّن (خلا)معنى«فعل»يعدّى ب«إلى»أي انضوى إلى بعض،أو استكان،أو ما أشبهه،لأنّ تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف.(1:273)

أبو السّعود :أي بعض المذكورين،و هم السّاكتون منهم،أي إذا فرغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجّهين و منضمّين إلى بعض آخر منهم،و هم منافقوهم؛بحيث لم يبق معهم غيرهم.و هذا نصّ على اشتراك السّاكتين في لقاء المؤمنين-كما أشير إليه آنفا -إذا لخلوّ إنّما يكون بعد الاشتغال،و لأنّ عتابهم معلّق بمحض الخلوّ.و لو لا أنّهم حاضرون عند المقاولة، لوجب أن يجعل سماعهم لها من تمام الشّرط،و لأنّ فيه زيادة تشنيع لهم على ما أتوا من السّكوت ثمّ العتاب.

(1:152)

نحوه الآلوسيّ.(1:299)

البروسويّ: مضى و رجع.(1:167)

المراغيّ: أي إذا اجتمع بعض ممّن لم ينافق إلى بعض ممّن نافق،قال الأوّلون-عاتبين على الآخرين من المنافقين،و عاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين، بما بيّنت لهم التّوراة من الإيمان بالنّبيّ،الّذي يجيء مصدّقا لما معهم،كي يقيموا عليهم الحجّة من كتاب ربّهم،من قبل أنّ ما حدّثوا به موافق لما في القرآن-:

و لو لا أنّ محمّدا نبيّ،لما علم بهذا الّذي حكاه عنهم.

(1:150)

2- إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ. فاطر:24

ابن عبّاس: مضى.(366)

مثله البيضاويّ(2:271)،و النّسفيّ(3:339)، و أبو السّعود(5:279)،و المشهديّ(8:340)، و البروسويّ(7:340)،و شبّر(5:205)،و الآلوسيّ (22:188).

مقاتل:ما من أمّة إلاّ جاءهم رسول.

(الواحديّ 3:504)

ابن جريج:إلاّ العرب.(الماورديّ 4:470)

ابن قتيبة :أي سلف فيها نبيّ.(361)

مثله الماورديّ(4:470)،و الواحديّ(3:504)، و القرطبيّ 14:340)،و نحوه البغويّ(3:692)، و الخازن(5:247)،و الشّربينيّ(3:323).

الجبّائيّ: في ذلك دلالة على أنّه لا أحد من المكلّفين إلاّ و قد بعث اللّه إليهم رسولا،و أنّه أقام الحجّة على جميع الأمم.(الطّوسيّ 8:425)

ص: 760

الطّبريّ: يقول:و ما من أمّة من الأمم الدّائنة بملّة،إلاّ خلا فيها من قبلك نذير ينذرهم بأسنا على كفرهم باللّه.(10:408)

نحوه القاسميّ(14:4981)،و المراغيّ(22:124)

القمّيّ: لكلّ زمان إمام.[تأويل](2:209)

الطّوسيّ: أي ليس من أمّة في ما مضى،إلاّ مضى فيها مخوّف من معاصي اللّه.و قال قوم:المعنى إلاّ خلا فيها نذير منهم.

و قال آخرون:نذير من غيرهم،و هو رسول إليهم،كما أرسل نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله إلى العرب و العجم.

(8:425)

القشيريّ: أي و ما من أمّة ممّن كانوا من قبلك إلاّ بعثنا فيهم نذيرا.و في وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافّة بالحقّ.

بَشِيراً وَ نَذِيراً تضمّنت الآية بيان أنّه لم يخل زمانا و لا قوما من شرع.و في وقته صلّى اللّه عليه و سلّم أفرده بأن أرسله إلى كافّة الخلائق.(5:201)

الميبديّ: الآية تدلّ على أنّ كلّ وقت لا يخلو من حجّة حبريّة (1)و أنّ أوّل النّاس آدم،و كان مبعوثا إلى أولاده،ثمّ لم يخل بعده زمان من صادق مبلّغ عن اللّه، أؤامر يقوم مقامه في البلاغ و الأداء حين الفترة،و قد قال اللّه تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً القيمة:36،لا يؤمر و لا ينهى.

فإن قيل:كيف تجمع بين هذه الآية و بين قوله:

لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ يس:6؟

الجواب:أنّ مع الآية ما من أمّة من الأمم الماضية، إلاّ و قد أرسلت إليهم رسولا ينذرهم على كفرهم، و يبشّرهم على إيمانهم،أي سوى أمّتك الّتي بعثناك إليهم،يدلّ على ذلك قوله: وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ سبأ:44،و قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يس:6.

و قيل:المراد:ما من أمّة هلكوا بعذاب الاستئصال،إلاّ بعد أن أقيم عليهم الحجّة بإرسال الرّسول بالإعذار و الإنذار.(8:175)

الزّمخشريّ: فإن قلت:كم من أمّة في الفترة بين عيسى و محمّد عليهما الصّلاة و السّلام و لم يخل فيها نذير؟

قلت:إذا كانت آثار النّذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس،و حين اندرست آثار نذارة عيسى بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم.(3:306)

ابن عطيّة: معناه:أنّ دعوة اللّه تعالى قد عمّت جميع الخلق،و إن كان فيهم من لم تباشره النّذارة،فهو ممّن بلغته،لأنّ آدم بعث إلى بنيه،ثمّ لم تنقطع النّذارة إلى وقت محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.و الآيات الّتي تتضمّن أنّ قريشا لم يأتهم نذير،معناه:نذير مباشر،و ما ذكره المتكلّمون من فرض أصحاب الفترات و نحوهم،فإنّما ذلك بالفرض،لا أنّه توجد أمّة لم تعلم أنّ في الأرض دعوة إلى عبادة اللّه.(4:436)

نحوه أبو حيّان(7:310)،و الثّعالبيّ(3:21).

الطّبرسيّ: أي مضى فيها مخوّف يخوّفهمة.

ص: 761


1- كذا و لعلّه خبريّة.

و ينذرهم فأنت مثلهم نذير لمن جحد،بشير لمن وحّد.

(4:405)

السّمين:قوله: إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ خبر مِنْ أُمَّةٍ و حذف من هذا ما أثبته في الأوّل،إذ التّقدير إلاّ خلا فيها نذير و بشير.(5:465)

ابن كثير :أي و ما من أمّة خلت من بني آدم،إلاّ و قد بعث اللّه تعالى إليهم النّذر و أزاح عنهم العلل،كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ الرّعد:7، و كما قال تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ النّحل:36، و الآيات في هذا كثيرة.(5:575)

الكاشانيّ: مضى فيها نذير من نبيّ أو وصيّ نبيّ.

(4:236)

مكارم الشّيرازي:(خلا):من«الخلاء»و هو المكان الّذي لا ساتر فيه،من بناء و مساكن و غيرهما.

و الخلوّ يستعمل في الزّمان و المكان،لكن لمّا تصوّر في الزّمان المضيّ،فسّر أهل اللّغة خلوّ الزّمان بقولهم:

مضى الزّمان و ذهب.و لأنّ الزّمان في مرور،قيل عن الأزمنة الماضية:الأزمنة الخالية،لأنّه لا أثر منها،و قد خلت الدّنيا منها.

و عليه،فإنّ جملة: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ بمعنى أنّ كلّ امّة من الأمم السّالفة كان لها نذير.

و كذلك فإنّ من الجدير بالملاحظة-طبقا للآية -أنّ كلّ الأمم كان فيها نذير إلهيّ،أي كان فيها نبيّ، مع أنّ البعض تلقّى ذلك بمعنى أوسع؛بحيث يشمل العلماء و الحكماء،الّذين ينذرون النّاس أيضا،و لكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.

على كلّ حال،فليس معنى هذا الكلام أن يبعث في كلّ مدينة أو منطقة رسول،بل يكفي أن تبلغ دعوة الرّسل و كلامهم أسماع المجتمعات المختلفة؛إذ أنّ القرآن يقول: خَلا فِيها نَذِيرٌ و لم يقل:خلا منها نذير.

و عليه فلا منافاة بين هذه الآية الّتي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الأمم،مع الآية:44،من سورة سبأ، و الّتي تقول: وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ و الّتي يقصد منها كون المنذر منهم.(14:65)

فضل اللّه :لأنّ اللّه لم يترك أحدا من خلقه،إلاّ و قد أقام عليه الحجّة من خلال المنذرين،الّذين يرسلهم إلى النّاس كافّة،و لكن قد تقف الحواجز و الموانع،الّتي تمنعهم من الوصول لإبلاغ الرّسالة إلى النّاس كافّة،ممّا يضعه المستكبرون أمامهم من حواجز،فمن بلغته الرّسالة فقد قامت عليه الحجّة، و من لم تبلغه الرّسالة كان من المستضعفين الّذين وكّلهم اللّه إليه.(19:103)

خلوا

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.

البقرة:14

الطّبريّ: فإن قال لنا قائل:أ رأيت قوله: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فكيف قيل: خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ و لم يقل:خلوا بشياطينهم،فقد علمت أنّ

ص: 762

الجاري بين النّاس في كلامهم:خلوت بفلان أكثر و أفشى من:خلوت إلى فلان،و من قولك:إنّ القرآن أفصح البيان؟

قيل:قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب، فكان بعض نحويّي البصرة يقول:يقال:خلوت إلى فلان،إذا أريد به خلوت إليه في حاجة خاصّة، لا يحتمل إذا قيل كذلك إلاّ الخلاء إليه في قضاء الحاجة.

فأمّا إذا قيل:خلوت به،احتمل معنيين:أحدهما:

الخلاء به في الحاجة.و الآخر:في السّخريّة به.فعلى هذا القول: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ لا شكّ أفصح منه،لو قيل:و إذا خلوا بشياطينهم،لما في قول القائل:

إذا خلوا بشياطينهم من التباس المعنى على سامعيه، الّذي هو منتف عن قوله: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فهذا أحد الأقوال.

و القول الآخر:فأن توجّه معنى قوله: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ: و إذا خلوا مع شياطينهم؛إذ كانت حروف الصّفات يعاقب بعضها بعضا،كما قال اللّه مخبرا عن عيسى بن مريم:إنّه قال للحواريّين: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ الصّفّ:14،يريد مع اللّه،و كما توضع«على»في موضع«من»و«في»و«عن» و«الباء».[ثمّ استشهد بشعر]

و أمّا بعض نحويّي أهل الكوفة،فإنّه كان يتأوّل.

أنّ ذلك بمعنى:و إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا،و إذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم،فيزعم أنّ الجالب ل «إلى»المعنى الّذي دلّ عليه الكلام،من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم،لا قوله:(خلوا،)و على هذا التّأويل لا يصلح في موضع «إلى»غيرها،لتغيّر الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.

و هذا القول عندي أولى بالصّواب،لأنّ لكلّ حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره، فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره،إلاّ بحجّة يجب التّسليم لها،و ل«إلى»في كلّ موضع دخلت من الكلام حكم،و غير جائز سلبها معانيها في أماكنها.

(1:164)

الزّجّاج: و في قوله: خَلَوْا إِلى وجهان:إن شئت أسكنت الواو و خففت الهمزة و كسرتها،فقلت:

خَلَوْا إِلى و إن شئت ألقيت الهمزة و كسرت الواو، فقلت:«خلولى»و كذلك يقرأ أهل الحجاز و هو جيّد بالغ.(1:89)

الماورديّ: و في قوله: إِلى شَياطِينِهِمْ ثلاثة أوجه:

أحدها:معناه مع شياطينهم،فجعل(الى)موضع «مع»،كما قال تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ آل عمران:52،أي مع اللّه.

و الثّاني:و هو قول بعض البصريّين:إنّه يقال:

خلوت إلى فلان،إذا جعلته غايتك في حاجتك، و خلوت به:يحتمل معنيين:أحدهما هذا.و الآخر:

السّخريّة و الاستهزاء منه.

فعلى هذا يكون قوله: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ أفصح،و هو على حقيقته مستعمل.

ص: 763

و الثّالث:و هو قول بعض الكوفيّين:إنّ معناه إذا انصرفوا إلى شياطينهم،فيكون قوله:(الى)مستعملا في موضع لا يصحّ الكلام إلاّ به.(1:76)

الطّوسيّ: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ يعني أصحابهم،قالوا: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ يعني نسخر منهم.يقال:خلوت إليه،و خلوت معه.

و يقال:خلوت به على ضربين:أحدهما:بمعنى خلوت معه،و الآخر:بمعنى سخرت منه.

و خلوت إليه في قضاء الحاجة لا غير،و خلوت به:له معنيان:أحدهما:هذا،و الآخر:سخرت منه.

قال الاخفش:و قد تكون(الى)في موضع«الباء» و«على»في موضع«عن».[ثمّ استشهد بشعر]

فعلى هذا يحتمل أن تكون الآية:خلوا مع...[إلى أن قال:]

و قال بعض الكوفيّين:إنّ معنى(اذا خلوا)إذا انصرفوا خالين،فلأجل ذلك قال: إِلى شَياطِينِهِمْ على المعنى،و هو مليح.(1:78)

نحوه الطّبرسيّ.(1:51)

الواحديّ: يقال:خلوت بفلان،أخلو به خلوة و خلاء،و خلوت معه و خلوت إليه بمعنى واحد.

(1:90)

البغويّ: رجعوا،و يجوز أن يكون من الخلوة.

(1:89)

الزّمخشريّ: و خلوت بفلان و إليه،إذا انفردت معه.و يجوز أن يكون من خلا،بمعنى:مضى.و خلاك ذمّ،أي عداك و مضى عنك،و منه القرون الخالية،و منه خلوت به:إذا سخرت منه،و هو من قولك:خلا فلان بعرض فلان يعبث به.و معناه:و إذا أنهوا السّخريّة بالمؤمنين إلى شياطينهم،و حدّثوهم بها،كما تقول:

أحمد إليك فلانا و أذمّه إليك.(1:184)

ابن عطيّة: وصلت(خلوا)ب(الى)،و عرفها أن توصل بالباء،فتقول:خلوت بفلان من حيث نزلت.

(خلوا)في هذا الموضع منزلة ذهبوا و انصرفوا؛إذ هو فعل معادل لقوله:(لقوا.)[ثمّ استشهد بشعر]

قال مكّيّ: يقال:خلوت بفلان،بمعنى سخرت به، فجاءت(الى)في الآية زوالا عن الاشتراك في الباء.

و قال قوم:(الى)بمعنى«مع».و في هذا ضعف، و يأتي بيانه إنشاء اللّه في قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ آل عمران:52.

و قال قوم:(الى)بمعنى الباء؛إذ حروف المعاني يبدل بعضها من بعض.و هذا ضعيف يأباه الخليل و سيبويه و غيرهما.(1:96)

نحوه القرطبيّ.(1:206)

البيضاويّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و عدّي ب(الى)لتضمين معنى الإنهاء.(1:25)

النّسفيّ: خلوت بفلان و إليه،إذا انفردت معه، و ب(الى)أبلغ،لأنّ فيه دلالة الابتداء و الانتهاء،أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم.و يجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى.(1:21)

ابن جزيّ: تعدّي(خلا)ب(الى)ضمّن معنى مشوا و ذهبوا أو ركنوا،و قيل:(الى)بمعنى«مع»،أو بمعنى الباء،وجه.(1:38)

ص: 764

أبو حيّان:و قرأ الجمهور(خلوا الى)بسكون الواو و تحقيق الهمزة،و قرأ ورش بإلقاء حركة الهمزة على الواو و حذف الهمزة.و يتعدّى(خلا)ب«الباء» و ب«إلى»و الباء أكثر استعمالا،و عدل إلى«إلى» لأنّها إذا عدّيت بالباء احتملت معنيين:أحدهما:

الانفراد،و الثّاني:السّخريّة؛إذ يقال في اللّغة:خلوت به،أي سخرت منه،و«إلى»لا يحتمل إلاّ معنى واحدا، و«إلى»هنا على معناها من انتهاء الغاية،على معنى تضمين الفعل،أي صرفوا خلاهم إلى شياطينهم.

قال الأخفش:خلوت إليه:جعلته غاية حاجتي، و هذا شرح معنى.و زعم قوم،منهم النّضر بن شميّل:

أنّ«إلى»هنا بمعنى«مع»أي و إذا خلوا مع شياطينهم، كما زعموا ذلك في قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ النّساء:2، مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ آل عمران:52،أي مع أموالكم و مع اللّه.[ثمّ استشهد بشعر]

و لا حجّة في شيء من ذلك.

و قيل:«إلى»بمعنى الباء،لأنّ حروف الجرّ ينوب بعضها عن بعض،و هذا ضعيف،إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه،و الخليل،و تقرير هذا في النّحو.(1:69)

السّمين:و الأكثر في«خلا»أن يتعدّى ب «الباء»،و قد يتعدّى ب«إلى»،و إنّما تعدّى في هذه الآية ب«إلى»لمعنى بديع،و هو أنّه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين:أحدهما:الانفراد،و الثّاني:السّخريّة و الاستهزاء.تقول:خلوت به،أي سخرت منه.و إذا تعدّى ب«إلى»كان نصّا في الانفراد فقط،أو تقول:

ضمّن خلا معنى صرف،فتعدّى ب«إلى»،و المعنى صرفوا خلاهم إلى شياطينهم،أو تضمّن معنى ذهبوا و انصرفوا.[ثمّ استشهد بشعر]

و قيل:هي هنا بمعنى«مع»كقوله: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ و قيل:هي بمعنى«الباء».

و هذان القولان إنّما يجوزان عند الكوفيّين،و أمّا البصريّون فلا يجيزون التّجوّز في الحروف،لضعفها.

و قيل:المعنى و إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم،ف«إلى»على بابها،قلت:و تقدير«من المؤمنين»لا يجعلها على بابها إلاّ بالتّضمين المتقدّم.

و الأصل في(خلوا)خلووا،فقلبت الواو الأولى الّتي هي لام الكلمة ألفا لتحرّكها و انفتاح ما قبلها، فبقيت ساكنة،و بعدها واو الضّمير ساكنة،فالتقى ساكنان،فحذف أوّلهما و هو الألف،و بقيت الفتحة دالّة عليها.(1:123)

ابن كثير :يعني:إذا انصرفوا و ذهبوا و خلصوا إلى شياطينهم،فضمّن(خلوا)معنى انصرفوا،لتعديته ب«إلى»،ليدلّ على الفعل المضمر و الفعل الملفوظ به.

و منهم من قال:«إلى»هنا بمعنى«مع»و الأوّل أحسن، و عليه يدور كلام ابن جرير.(1:89)

نحوه الشّوكانيّ.(1:57)

البروسويّ: أي مضوا أو اجتمعوا على الخلوة، و«إلى»بمعنى«مع»،أو انفردوا و،«إلى»بمعنى«الباء» أو«مع»،تقول:خلوت بفلان و إليه:إذا انفردت معه.

(1:62)

ص: 765

الآلوسيّ: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت به و إليه،إذا انفردت معه،أو من قولهم في المثل:

«اطلب الأمر و خلاك ذمّ»،أي عداك و مضى عنك، و منه:قد خلت من قبلكم سنن.و على الثّاني المفعول الأوّل هاهنا محذوف،لعدم تعلّق الغرض به،أي إذا خلوهم،و تعديته إلى المفعول الثّاني ب«إلى»لما في المضيّ عن الشّيء معنى الوصول إلى الآخر.

و احتمال أن يكون من خلوت به:-أي سخرت منه،فمعنى الآية إذا أنهوا السّخريّة معهم و حدّثوهم، كما يقال:أحمد إليك فلانا،و أذمّه إليك-ممّا لا ينبغي أن يخرج عليه كلام ربّ العزّة،و إن ذكره الزّمخشريّ و البيضاويّ و غيرهما،إذ لم يقع صريحا(خلا)بمعنى سخر في كلام من يوثق به،و قولهم:خلا فلان بعرض فلان يعبث به،ليس بالصّريح؛إذ يجوز أن يكون (خلا)على حقيقته،أو بمعنى تمكّن منه على ما قيل.

و الدّالّ على السّخريّة يعبث به.

و زعم النّضر بن شميّل أنّ«إلى»هنا بمعنى«مع» و لا دليل عليه،كالقول بأنّها بمعنى الباء،على أنّ سيبويه و الخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف.

نعم إنّ الخلوة كما في«التّاج»تستعمل ب«إلى» و«الباء»و«مع»بمعنى واحد.و يفهم من كلام الرّاغب أنّ أصل معنى الخلوّ:فراغ المكان و الحيّز عن شاغل، و كذا الزّمان،و ليس بمعنى المضيّ،و إذا أريد به ذلك، كان مجازا،و ظاهر كلام غيره أنّه حقيقة.و ضعيفان يغلبان قويّا.(1:156)

ابن عاشور :(خلوا)بمعنى انفردوا،فهو فعل قاصر،و يعدّى بالباء و باللاّم و«من»و«مع»بلا تضمين،و يعدّى ب«إلى»على تضمين معنى آب أو خلص،و يعدّى بنفسه على تضمين تجاوز و باعد، و منه ما شاع من قولهم:«افعل كذا و خلاك ذمّ»أي إنّ تبعة الأمر أو ضرّه لا تعود عليك.و قد عدّي هنا ب «إلى»يشير إلى أنّ الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم و مرجعهم،و أنّ لقاءهم للمؤمنين إنّما هو صدقة و لمحات قليلة،أفاد ذلك كلّه قوله:(لقوا)و(خلوا) و هذا من بديع فصاحة الكلمات و صراحتها.

(1:287)

خلت

1- تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ. البقرة:134

الطّبريّ: يعني تعالى ذكره بقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ: إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و ولدهم.

يقول لليهود و النّصارى:يا معشر اليهود و النّصارى،دعوا ذكر إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و المسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، و لا تنحلوهم كفر اليهوديّة و النّصرانيّة فتضيفونها إليهم،فإنّهم أمّة،و يعني ب«الأمّة»في هذا الموضع:

الجماعة،و القرن من النّاس، قَدْ خَلَتْ: مضت لسبيلها.

و إنّما قيل للّذي قد مات فذهب:قد خلا،لتخلّيه من الدّنيا،و انفراده عمّا كان من الأنس بأهله و قرنائه

ص: 766

في دنياه.

و أصله من قولهم:«خلا الرّجل»إذا صار بالمكان الّذي لا أنيس له فيه،و انفرد من النّاس،فاستعمل ذلك في الّذي يموت على ذلك الوجه.(1:614)

نحوه الخازن.(1:98)

الزّجّاج: مضت،كما تقول لثلاث خلون من الشّهر،أي مضين.(1:213)

القيسيّ: تِلْكَ أُمَّةٌ ابتداء و خبر،و قَدْ خَلَتْ نعت ل(امة)و كذلك لَها ما كَسَبَتْ نعت ل(امة)أيضا،و يجوز أن يكون منقطعا لا موضع له من الإعراب.(1:73)

نحوه القرطبيّ(2:139)،و العكبريّ(1:120)

الواحديّ: مضت،و منه فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ الحاقّة:24،يعني الماضية المتقدّمة.(1:217)

نحوه البغويّ.(1:171)

ابن عطيّة: قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ في موضع رفع نعت ل(امة)و معناه:ماتت و صارت إلى الخلاء من الأرض.(1:214)

الطّبرسيّ: أي جماعة قد مضت،يعني إبراهيم و أولاده.(1:215)

ابن الجوزيّ: أي مضت،يشير إلى إبراهيم و بنيه،و يعقوب و بنيه.(1:149)

الفخر الرّازيّ: (خلت)سلفت و مضت و انقرضت،و المعنى أنّي اقتصصت عليكم أخبارهم، و ما كانوا عليه من الإسلام و الدّعوة إلى الإسلام، فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه،فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم،و إن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم.

(4:87)

نحوه النّيسابوريّ.(1:463)

أبو حيّان :معنى(خلت:)ماتت و انقضت و صارت إلى الخلاء،و هو الأرض الّذي لا أنيس به.

و المخاطب هم اليهود و النّصارى الّذين ادّعوا لإبراهيم و بنيه اليهوديّة و النّصرانيّة.و الجملة من قوله:(قد خلت،)صفة ل(امة.)(1:404)

نحوه السّمين(1:382)،و أبو السّعود(1:203)، و البروسويّ(1:240).

الآلوسيّ: (خلت)أي مضت،و لستم مأمورين بمتابعتهم.(1:392)

ابن عاشور :قوله:(قد خلت)صفة ل(امة،) و معنى(خلت:)مضت،و أصل الخلاء:الفراغ،فأصل معنى(خلت:)خلا منها المكان،فأسند الخلوّ إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقليّ،لنكتة المبالغة،و الخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصّالحة،و إلاّ فإنّ كونها خلت ممّا لا يحتاج إلى الإخبار به،و لذا فقوله: لَها ما كَسَبَتْ الآية، بدل من جملة قَدْ خَلَتْ بدل مفصّل من مجمل.

و الخطاب موجّه إلى اليهود،أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متّبعين طريقتهم.(1:715)

فضل اللّه :ذهبت مع التّاريخ بعد أن عاشت تجاربها،و قامت بمسئوليّاتها،و أدّت رسالاتها،و تحرّكت في الدّروب الّتي فتحتها،أو كانت مفتوحة لها.

(3:44)

ص: 767

2- تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ. البقرة:141

الطّبريّ: أي مضت لسبيلها،فصارت إلى ربّها، و خلت بأعمالها و آمالها،لها عند اللّه ما كسبت من خير في أيّام حياتها.(1:628)

الطّوسيّ: قيل في تكرار قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ قولان:

أحدهما:أنّه عنى بالأوّل[آية:138]:إبراهيم و من ذكر معه من الأنبياء.و الثّاني:عنى به أسلافهم،من آبائهم الّذين هم على ملّتهم.

و القول الثّاني:أنّ الجواب إذا اختلفت أوقاته، فكان الثّاني في غير موطن الأوّل،و كان بعد مدّة من وقوع الأوّل بحسب ما اقتضاه الحال،لم يكن ذلك معيبا عند أهل اللّغة،و لا عند العقلاء.

و الاعتراض عليهم بقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أنّه إذا لم تشكّوا أن يكون فرضهم غير فرض الأمّة الّتي قد خلت قبلكم،و لا تحتجّوا بأنّه لا يجوز أن يخالفوا عليه،و لو سلّم لكم أنّهم كانوا على ما تذكرونه،ما جاز لكم أن تتركوا ما نقل لكم اللّه عنه على لسان رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله؛إذ للّه تعالى أن ينسخ من الشّريعة ما شاء،على ما يعلم في ذلك من وجوه الحكمة،و عموم المصلحة.

و قيل:إنّ ذلك ورد مورد الوعظ لهم،بأنّه إذا كان لا يؤخذ الإنسان إلاّ بعمله،فينبغي أن تحذروا على أنفسكم،و تبادروا بما يلزمكم،و لا تتّكلوا على فضائل الآباء و الأجداد،فإنّ ذلك لا ينفعكم إذا خالفتم أمر اللّه،فيما أوجب عليكم.

و المعنيّ بقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ على قول قتادة و الرّبيع:إبراهيم عليه السّلام و من ذكر معه.و على قول الجبّائيّ،و غيره:من سلف من آبائهم الّذين كانوا على ملّتهم اليهوديّة و النّصرانيّة.(1:491)

القشيريّ: حالت بينكم و بينهم حواجز من القسمة؛فهم على الفرقة و الغفلة أسّسوا بنيانهم، و أنتم على الزّلفة و الوصلة ضربتم خيامكم.و عتيق فضلنا لا يشبه طريد قهرنا.(1:143)

الواحديّ: قد مضت هذه الآية،و أعيدت هاهنا ،لأنّ الحجاج إذا اختلفت مواطنه،حسن تكريره للتّذكير.(1:224)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا حاجّ اليهود في هؤلاء الأنبياء عقّبه بهذه الآية لوجوه:

أحدها:ليكون وعظا لهم و زجرا،حتّى لا يتّكلوا على فضل الآباء،فكلّ واحد يؤخذ بعمله.

و ثانيها:أنّه تعالى بيّن أنّه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح،لم يستنكر أن تختلف المصالح،فينقلكم محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم من ملّة إلى ملّة أخرى.

و ثالثها:أنّه تعالى لمّا ذكر حسن طريقة الأنبياء الّذين ذكرهم في هذه الآيات،بيّن أنّ الدّليل لا يتمّ بذلك،بل كلّ إنسان مسئول عن عمله،و لا عذر له في ترك الحقّ،بأن توهّم أنّه متمسّك بطريقة من تقدّم، لأنّهم أصابوا أم أخطئوا لا ينفع هؤلاء و لا يضرّهم، لئلاّ يتوهّم أنّ طريقة الدّين التّقليد.

ص: 768

فإن قيل:لم كرّرت الآية؟قلنا:فيه قولان:

أحدهما:أنّه عنى بالآية الأولى:إبراهيم و من ذكر معه.

و الثّانية:أسلاف اليهود.

قال الجبّائيّ: قال القاضي:هذا بعيد،لأنّ أسلاف اليهود و النّصارى لم يجر لهم ذكر مصرّح،و موضع الشّبهة في هذا القول،أنّ القوم لما قالوا:في إبراهيم و بنيه:إنّهم كانوا هودا،فكأنّهم قالوا:إنّهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود،فصار سلفهم في حكم المذكورين،فجاز أن يقول: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ و يعينهم و لكن ذلك كالتّعسّف،بل المذكور السّابق هو إبراهيم و بنوه،فقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ يجب أن يكون عائدا إليهم.

و القول الثّاني:أنّه متى اختلفت الأوقات و الأحوال و المواطن لم يكن التّكرار عبثا.فكأنّه تعالى قال:ما هذا إلاّ بشر،فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدّين،لا يسوّغ التّقليد في هذا الجنس، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمّة،فلها ما كسبت.

و انظروا فيما دعاكم إليه محمّد عليه الصّلاة و السّلام، فإنّ ذلك أنفع لكم،و أعود عليكم،و لا تسألون إلاّ عن عملكم.(4:100)

القرطبيّ: كرّرها،لأنّها تضمّنت معنى التّهديد و التّخويف،أي إذا كان أولئك الأنبياء-على إمامتهم و فضلهم-يجازون بكسبهم،فأنتم أحرى،فوجب التّأكيد،فلذلك كرّرها.(2:147)

النّسفيّ: كرّرت،للتّأكيد،أو لأنّ المراد بالأوّل الأنبياء،و بالثّاني أسلاف اليهود و النّصارى.(1:79)

أبو حيّان :تقدّم الكلام على شرح هذه الجمل، و تضمّنت معنى التّخويف و التّهديد،و ليس ذلك بتكرار،لأنّ ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره.و إذا كان كذلك فقد اختلف السّياق، فلا تكرار.[ثمّ قال نحو الفخر الرّازيّ](1:416)

أبو السّعود :تكرير للمبالغة في الزّجر عمّا هم عليه من الافتخار بالآباء،و الاتّكال على أعمالهم.

و قيل:الخطاب السّابق لهم،و هذا لنا تحذير عن الاقتداء بهم.و قيل:المراد بالأمّة الأولى:الأنبياء، و بالثّانية:أسلاف اليهود.(1:209)

نحوه شبّر.(1:153)

الآلوسيّ: تكرير لما تقدّم،للمبالغة في التّحذير عمّا استحكم في الطّباع من الافتخار بالآباء، و الاتّكال عليهم،كما يقال:اتّق اللّه اتّق اللّه،أو تأكيد و تقرير للوعيد،يعني أنّ اللّه تعالى يجازيكم على أعمالكم،و لا تنفعكم آباؤكم و لا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم،بل عن أعمال أنفسكم.

و قيل:الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب،و في هذه الآية لنا،تحذيرا عن الاقتداء بهم.

و قيل:المراد ب«الأمّة»في الأوّل:الأنبياء،و في الثّاني:أسلاف اليهود،لأنّ القوم لمّا قالوا في إبراهيم و بنيه:إنّهم كانوا ما كانوا،فكأنّهم قالوا:إنّهم على مثل طريقة أسلافنا،فصار سلفهم في حكم المذكورين، فجاز أن يعنوا بالآية.و لا يخفى ما في ذلك من التّعسّف الظّاهر.(1:401)

ص: 769

مغنيّة:هذه الآية تقدّم ذكرها بالحرف الواحد برقم:138،وردت هناك،لبيان أنّ إخلاص إبراهيم صلّى اللّه عليه و آله و عظمته،لا تجدي اليهود و النّصارى شيئا، و جاءت هذه الآية هنا،لبيان أنّ أعمال اليهود و النّصارى تباين عقيدة إبراهيم و عمله؛إذن دعواهم بأنّهم على ملّة إبراهيم كذب و افتراء.(1:216)

الطّباطبائيّ: أي أنّ الغور في الأشخاص،و أنّهم ممّن كانوا لا ينفع حالكم،و لا يضرّكم السّكوت عن المحاجّة و المجادلة فيهم،و الواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه.

و تكرار الآية مرّتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجّة،الّتي لا تنفع لحالهم شيئا،و خصوصا مع علمهم بأنّ إبراهيم كان قبل اليهوديّة و النّصرانيّة،و إلاّ فالبحث عن حال الأنبياء و الرّسل بما ينفع البحث فيه، كمزايا رسالاتهم و فضائل نفوسهم الشّريفة،ممّا ندب إليه القرآن،حيث يقصّ قصصهم و يأمر بالتّدبّر فيها.

(1:314)

3- وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ... آل عمران:144

الطّبريّ: يعني تعالى ذكره بذلك:و ما محمّد إلاّ رسول كبعض رسل اللّه،الّذين أرسلهم إلى خلقه، داعيا إلى اللّه و إلى طاعته،الّذين حين انقضت آجالهم ماتوا و قبضهم اللّه إليه.يقول جلّ ثناؤه:فمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم إنّما هو فيما اللّه به صانع،من قبضه إليه عند انقضاء مدّة أجله،كسائر رسله إلى خلقه،الّذين مضوا قبله، و ماتوا عند انقضاء مدّة آجالهم.(3:455)

الزّجّاج:أي قد مضت من قبله الرّسل،المعنى:أنّه يموت كما ماتت الرّسل قبله.(1:473)

نحوه الواحديّ(1:499)،و الميبديّ(2:298).

الزّمخشريّ: و المعنى:فسيخلو كما خلوا،و كما أنّ أتباعهم بقوا متمسّكين بدينهم بعد خلوّهم،فعليكم أن تتمسّكوا بدينه بعد خلوّه،لأنّ الغرض من بعثة الرّسل تبليغ الرّسالة و إلزام الحجّة،لا وجوده بين أظهر قومه.(1:468)

نحوه الفخر الرّازيّ(9:21)،و البيضاويّ(1:

184)،و النّسفيّ(1:185)،و الخازن(1:360)، و البروسويّ(2:104)،و القاسميّ(4:986).

ابن عطيّة: معناه مضت و سلفت،و صارت إلى الخلاء من الأرض.(1:516)

الطّبرسيّ: يعني أنّه بشر،اختاره اللّه لرسالته إلى خلقه،قد مضت قبله رسل بعثوا،فأدّوا الرّسالة و مضوا و ماتوا،و قتل بعضهم،و أنّه يموت كما ماتت الرّسل قبله،فليس الموت بمستحيل عليه،و لا القتل

و قيل:أراد أنّ أصحاب الأنبياء لم يرتدّوا عند موتهم،أو قتلهم،فاقتدوا بهم.(1:513)

أبو حيّان :هذا استمرار في عتبهم آخر،أنّ محمّدا رسول كمن مضى من الرّسل،بلّغ عن اللّه كما بلّغوا.

و ليس بقاء الرّسل شرطا في بقاء شرائعهم،بل هم يموتون و تبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم.فكما مضت الرّسل و انقضوا،فكذلك حكمهم،هو في ذلك واحد.

(3:68)

السّمين:في هذه الجملة وجهان:أظهرهما:أنّها في

ص: 770

محلّ رفع صفة ل(رسول.)

و الثّاني:أنّها في محلّ نصب على الحال من الضّمير المستكنّ في(رسول.)و فيه نظر،لجريان هذه الصّفة مجرى الجوامد،فلا تتحمّل ضميرا.(2:221)

أبو السّعود : قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صفة ل(رسول)منبئة عن كونه في شرف الخلوّ،فإنّ خلوّ مشاركيه في منصب الرّسالة من شواهد خلوّه عليه الصّلاة و السّلام لا محالة،كأنّه قيل:قد خلت من قبله أمثاله،فسيخلو كما خلوا.(2:41)

نحوه الآلوسيّ.(4:73)

رشيد رضا :حاصل المعنى أنّ محمّدا ليس إلاّ بشرا رسولا قد خلت،و مضت الرّسل من قبله فماتوا، و قد قتل بعض النّبيّين كزكريّا و يحيى،فلم يكن لأحد منهم الخلد،و هو لا بدّ أن تحكم عليه سنّة اللّه بالموت، فيخلو كما خلوا من قبله؛إذ لا بقاء إلاّ للّه وحده، و لا ينبغي للمؤمن الموحّد أن يعتقده لغيره.(4:161)

ابن عاشور :مضت و انقرضت،كقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ آل عمران:137.(3:237)

فضل اللّه :فقد مضت الرّسل من قبله،و قاموا بمسئوليّاتهم الرّساليّة خير قيام،و ماتوا و قتل بعضهم، و سيموت محمّد صلّى اللّه عليه و آله أو يقتل،كما ماتت الرّسل أو قتلت من قبله،و استمرّت الرّسالات من بعدهم، و لم تتجمّد عندهم.(6:295)

4- قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النّارِ... الأعراف:38

الطّوسيّ: و معنى الخلوّ:انتفاء الشّيء عن مكانه، فكلّ ما انتفى من مكانه،فقد خلا منه،و كذلك (خلت)بمعنى مضت،لأنّها إذا مضت بالهلاك،فقد خلا مكانها منها.(4:427)

البغويّ: مضت.(2:191)

مثله الطّبرسيّ.(2:417)

ابن عطيّه:و قوله(فى النار)يصحّ تعلّقه ب(ادخلوا)و يصحّ أن يتعلّق ب(امم)أي في أمم ثابتة أو مستقرّة،و يصحّ تعلّقه بالذّكر الّذي في (خلت.)و معنى قَدْ خَلَتْ على هذا التّعلّق،أي قد تقدّمت و مضى عليها الزّمن،و عرفها فيما تطاول من الآباد.و قد تستعمل و إن لم يطل الوقت؛إذ أصلها في من مات من النّاس،أي صاروا إلى خلاء من الأرض، و على التّعليقين الأوّلين لقوله:(فى النار)فإنّما (خلت)حكاية عن حال الدّنيا،أي ادخلوا في النّار في جملة الأمم السّالفة لكم في الدّنيا الكافرة.

(2:398)

ابن الجوزيّ: في قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ قولان:

أحدهما:مضت إلى العذاب.

و الثّاني:مضت في الزّمان،يعني كفّار الأمم الماضية.(3:194)

الفخر الرّازيّ: أي تقدّم زمانهم زمانكم.

(14:73)

الخازن :يعني قد مضت و سلفت.و إنّما قال:(قد خلت)و لم يقل:قد خلوا،لأنّه أطلق الضّمير على

ص: 771

الجماعة،يعني في جملة جماعة قد خلت من قبلكم، يعني من الجنّ و الإنس.(2:187)

أبو حيّان :أي تقدّمتكم في الحياة الدّنيا،أو تقدّمتكم،أي تقدّم دخولها في النّار.(4:295)

5- وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ... الرّعد:6

الشّريف الرّضيّ: و هذه استعارة،و المراد بها:

مضيّ المثلات و هي العقوبات،للأمم السّالفة قبلهم، و تقدّمها أمامهم.و قولهم:خلت الدّار،أي مضى سكّانها عنها.و خلواهم،أي مضوا عن الدّار و تركوها.و قولهم:القرون الخالية،أي الماضية.

(تلخيص البيان:63)

الطّوسيّ: أي مضت بانقضائها،كمضيّ أهل الدّار عنها.يقال:خلت الدّيار بهلاك أهلها و خلوّهم بخلوّ مكانهم منها.(6:222)

و بهذا المعنى جاء في أكثر التّفاسير.

6- لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.

الحجر:13

راجع:س ن ن:«سنّة».

يخل

اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ. يوسف:9

ابن عبّاس: يقول:يقبل عليكم أبوكم بوجهه.

(195)

ابن قتيبة:أي يفرغ لكم من الشّغل بيوسف.

(212)

مثله ابن الجوزيّ.(4:184)

الثّعلبيّ: يخلص،و يصفو لكم.(5:199)

نحوه القرطبيّ(9:131)،و أبو السّعود(3:368).

الطّوسيّ: جواب الأمر في قوله: اُقْتُلُوا يُوسُفَ. و لا يجوز فيه غير الجزم،لأنّه ليس فيه ضمير.و المعنى:أنّكم متى قتلتموه أو طرحتموه في أرض أخرى،خلا لكم أبوكم و حنّ عليكم.

(6:102)

نحوه الطّبرسيّ.(3:213)

الواحديّ: يقبل بكلّيّته عليكم،و يخلص لكم عن شغله بيوسف،يعنون أنّ يوسف شغله عنّا و صرف وجهه إليه،فإذا فقده أقبل علينا بالمحبّة،و أخطئوا في هذا التّدبير،لأنّه لمّا فقد يوسف أعرض عنهم بالكلّيّة.(2:601)

الميبديّ: أي يصف مودّته لكم،و يقبل بكلّيّته عليكم.(5:16)

الزّمخشريّ: يقبل عليكم إقبالة واحدة، لا يلتفت عنكم إلى غيركم.و المراد:سلامة محبّته لهم ممّن يشاركهم فيها،و ينازعهم إيّاها،فكان ذكر «الوجه»لتصوير معنى إقباله عليهم،لأنّ الرّجل إذا أقبل على الشّيء أقبل بوجهه.و يجوز أن يراد ب«الوجه»:الذّات،كما قال تعالى: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الرّحمن:27،و قيل: يَخْلُ لَكُمْ يفرغ لكم من الشّغل بيوسف.(2:305)

ص: 772

نحوه البيضاويّ(1:488)،و النّسفيّ(2:213) و الشّربينيّ(2:92).

ابن عطيّه:استعارة،أي إذا فقد يوسف رجعت محبّته إليكم،و نحو هذا قول العربيّ:حين أحبّته أمّه، لمّا قتل إخوته،و كانت قبل لا تحبّه-:«الثّكل أرأمها» أي عطفها عليه.(3:222)

نحوه أبو حيّان.(5:284)

الفخر الرّازي:و المعنى:أنّ يوسف شغله عنّا و صرف وجهه إليه،فإذا أفقده أقبل علينا بالميل و المحبّة.(18:94)

الخازن :و المعنى:أنّه شغله حبّ يوسف عنكم، فإذا فعلتم ذلك بيوسف أقبل يعقوب بوجهه عليكم، و صرف محبّته إليكم.(3:217)

البروسويّ: (يخل)بالجزم جواب للأمر،أي يخلص.[ثمّ ذكر نحو الزّمخشريّ](4:219)

نحوه شبّر.(3:262)

الآلوسيّ: بالجزم جواب الأمر،و«الوجه»:

الجارحة المعروفة.و في الكلام كناية تلويحيّة عن خلوص المحبّة.و من هنا قيل:أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم،و المراد:سلامة محبّته لهم ممّن يشاركهم فيها،و ينازعهم إيّاها،و قد فسّر«الوجه»بالذّات و الكناية بحالها،خلا أنّ الانتقال إلى المقصود بمرتبتين على الأوّل،و بمرتبة على هذا.

و قيل:«الوجه»بمعنى الذّات،و في الكلام كناية عن التّوجّه و التّقيّد بنظم أحوالهم،و تدبير أمورهم، لأنّ خلوّه لهم يدلّ على فراغه عن شغل يوسف عليه السّلام،فيشتغل بهم و ينظّم أمورهم.و لعلّ الوجه الأوجه،هو الأوّل.(12:191)

القاسميّ: جواب الأمر كناية عن خلوص لهم،لأنّه يدلّ على إقباله عليهم بكلّيّته،و على فراغه عن الشّغل بيوسف،فيشتغل بهم.(9:3514)

رشيد رضا :فيكن كلّ توجّهه إليكم،و كلّ إقباله عليكم،بخلوّ الدّيار ممّن يشغله عنكم أو يشارككم في عطفه و حبّه.و هذه الجملة من فرائد درر الكلام البليغ،بتصويرها حصر الحبّ و توجّه الإقبال و العطف بصورة الضّروريّات الّتي لا اختيار للرّأي و لا للإرادة فيها،لا من ظاهر الحسّ،و لا من وجدان النّفس بعد وقوع هذه الجناية،الّتي تقتضي إعراض الوجه،و أعراض الكراهة و المقت.

(12:261)

نحوه المراغيّ.(12:118)

ابن عاشور :و جزم(يخل)في جواب الأمر، أي إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم.

و الخلوّ:حقيقة الفراغ،و هو مستعمل هنا مجازا في عدم التّوجّه لمن لا يرغبون توجّهه له،فكأنّ الوجه خلا من أشياء كانت حالّة فيه.و اللاّم في قوله:(لكم) لام العلّة،أي يخل وجه أبيكم لأجلكم،بمعنى أنّه يخلو ممّن عداكم فينفرد لكم.و هذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبّته لهم دون مشارك.(12:25)

الطّباطبائيّ: أي افعلوا به أحد الأمرين حتّى يخلو لكم وجه أبيكم،و هو كناية عن خلوص حبّه لهم،بارتفاع المانع الّذي يجلب الحبّ و العطف إلى

ص: 773

نفسه،كأنّهم و يوسف إذا اجتمعوا و أباهم،حال يوسف بينه و بينهم،و صرف وجهه إلى نفسه،فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم،و اختصّ حبّه بهم،و انحصر إقباله عليهم.(11:95)

مكارم الشّيرازيّ: المسألة الدّقيقة الأخرى في هذه الآية:أنّهم قالوا: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ، و لم يقولوا:يخل لكم قلب أبيكم،و ذلك لأنّهم لم يطمئنّوا إلى أنّ أباهم ينسى يوسف بهذه السّرعة.

فيكفي أن يتوجّه إليهم أبوهم،و لو ظاهرا!

و هناك احتمال آخر لهذا التّعبير،و هو أنّ الوجه و العينين نافذتان إلى القلب،فمتى ما خلا الوجه لهم، فإنّ القلب سيخلو و يتوجّه إليهم بالتّدريج.(7:127)

الخالية

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ.

الحاقّة:24

سعيد بن جبير: أيّام الصّوم.

(الزّمخشريّ 4:153)

مثله مجاهد و وكيع و عبد العزيز بن رفيع.

(أبو حيّان 8:325)

قتادة :إنّ أيّامكم هذه أيّام خالية،هي أيّام فانية، تؤدّي إلى أيّام باقية،فاعملوا في هذه الأيّام،و قدّموا فيها خيرا إن استطعتم،و لا قوّة إلاّ باللّه.

(الطّبريّ 12:218)

ابن زيد :أيّام الدّنيا بما عملوا فيها.

(الطّبريّ 12:219)

الطّبريّ: في أيّام الدّنيا الّتي خلت فمضت.

(12:218)

الطّوسيّ: أي الماضية في دار التّكليف.

(10:103)

الواحديّ: الماضية،يريد:أيّام الدّنيا.(4:347)

نحوه الزّمخشري(4:153)،و الطّبرسيّ 5:346)، و ابن الجوزيّ(8:352)،و البيضاويّ(2:501)، و أبو السّعود(6:296).

الفخر الرّازيّ: المراد منها:أيّام الدّنيا و(الخالية:)الماضية،و منه قوله: وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي الأحقاف:17،و تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ البقرة:141.(30:113)

أبو حيّان :يعني أيّام الدّنيا.و قال مجاهد و ابن جبير و وكيع و عبد العزيز بن رفيع:أيّام الصّوم،أي بدل ما أمسكتم عن الأكل و الشّرب لوجه اللّه تعالى.

و الظّاهر العموم في قوله: بِما أَسْلَفْتُمْ أي من الأعمال الصّالحة.(8:325)

البروسويّ: أي الماضية في الدّنيا.و عن مجاهد:أيّام الصّيام،فيكون المعنى:كلوا و اشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل و الشّرب لوجه اللّه في أيّام الصّيام،لا سيّما في الأيّام الحارّة،و هو الأولى،لأنّ الجزاء لا بدّ و أن يكون من جنس العمل و ملائما له، كما قال بعض الكبار:لم يقل:اشهدوا و لا اسمعوا،و إنّما جوّزوا من حيث عملوا.[إلى أن قال:]

و فيه إشارة إلى أيّام الأزل الخالية عن الأعمال و العلل و الأسباب،أي كلوا من نعيم الوصال،

ص: 774

و اشربوا من شراب الفيض،بما أسلفه اللّه لكم في الأزل و القدم من العناية؛إذ بتلك العناية قمتم مع الحقّ في جميع الأحوال.(10:143)

الآلوسيّ: أي الماضية،و هي أيّام الدّنيا.و قيل:

أي الخالية من اللّذائذ،أي الحقيقيّة،و هي أيّام الدّنيا أيضا.

و قيل:أي الّتي أخليتموها من الشّهوات النّفسانيّة.و حمل عليه ما روي عن مجاهد و ابن جبير و وكيع من تفسير هذه الأيّام بأيّام الصّيام.

و أخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفيّ قال:بلغني أنّه إذا كان يوم القيامة،يقول اللّه تعالى:يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدّنيا،و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة و غارت أعينكم و خمصت بطونكم،فكونوا اليوم في نعيمكم،و كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيّام الخالية.

و الظّاهر أنّ(ما)على تفسير اَلْأَيّامِ الْخالِيَةِ بأيّام الصّيام،غير محمولة على العموم،و العموم في الآية هو الظّاهر.(29:48)

فخلّوا

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. التّوبة:5

ابن عبّاس: دعوهم و إتيان مسجد الحرام.

(الزّمخشريّ 2:175)

الطّبريّ: فدعوهم يتصرّفون في أمصاركم، و يدخلون البيت الحرام.(6:320)

نحوه الثّعلبيّ(5:12)،و البغويّ(2:318)، و الخازن(3:51).

الواحديّ: حتّى يذهبوا حيث شاءوا.(2:479)

الزّمخشريّ: فأطلقوا عنهم بعد الأسر و الحصر، أو فكفّوا عنهم و لا تتعرّضوا لهم.[ثمّ استشهد بشعر]

(2:175)

مثله النّسفيّ.(2:117)

الطّبرسيّ: أي دعوهم يتصرّفون في بلاد الإسلام،لهم ما للمسلمين،و عليهم ما عليهم.و قيل:

معناه:و خلّوا سبيلهم إلى البيت،أي دعوهم يحجّوا معكم.(3:7)

الفخر الرّازيّ: قوله: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ قيل:إلى البيت الحرام،و قيل:إلى التّصرّف في مهمّاتهم، إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و آمن.

و فيه لطيفة،و هو أنّه تعالى ضيّق عليهم جميع الخيرات،و ألقاهم في جميع الآفات،ثمّ بيّن أنّهم لو تابوا عن الكفر و أقاموا الصّلاة و آتوا الزّكاة،فقد تخلّصوا عن تلك الآفات في الدّنيا،فنرجو من فضل اللّه أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضا.(15:226)

البيضاويّ: فدعوهم و لا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك.و فيه دليل على أنّ تارك الصّلاة و مانع الزّكاة لا يخلّى سبيله.(1:406)

نحوه أبو السّعود(3:124)،و البروسويّ (3:387).

ص: 775

أبو حيّان:كناية عن الكفّ عنهم و إجرائهم مجرى المسلمين في تصرّفاتهم؛حيث ما شاءوا و لا تتعرّضوا لهم.[ثمّ استشهد بشعر]

أو يكون المعنى فأطلقوهم من الأسر و الحصر.

و الظّاهر الأوّل،لشمول الحكم لمن كان مأسورا و غيره.(5:10)

الآلوسيّ: أي فاتركوهم و شأنهم،و لا تتعرّضوا لهم بشيء ممّا ذكر.و قيل:المراد:خلّوا بينهم و بين البيت،و لا تمنعوهم عنه.و الأوّل أولى.و قد جاءت تخلية السّبيل في كلام العرب كناية عن التّرك.[ثمّ استشهد بشعر و قال:]

ثمّ يراد منها في كلّ مقام ما يليق به.(10:51)

الطّباطبائيّ: و تخلية السّبيل كناية عن عدم التّعرّض لسالكيه،و إن عادت مبتذلة بكثرة التّداول، كأنّ سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرّض المتعرّضين،فإذا خلّى عنها كان ذلك ملازما أو منطبقا على عدم التّعرّض لهم.

و قوله: إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لقوله:

فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إمّا من جهة الأمر الّذي يدلّ عليه بصورته،أو من جهة المأمور به الّذي يدلّ عليه بمادّته، أعني تخلية سبيلهم.و المعنى على الأوّل:و إنّما أمر اللّه بتخلية سبيلهم لأنّه غفور رحيم،يغفر لمن تاب إليه و يرحمه.

و على الثّاني:خلّوا سبيلهم،لأنّ تخليتكم سبيلهم من المغفرة و الرّحمة،و هما من صفات اللّه العليا، فتتّصفون بذلك بصفة ربّكم.

و أظهر الوجهين هو الأوّل.(9:153)

فضل اللّه :و لا تعرّضوا لهم بسوء.و ربّما نستوحي من هذه الفقرة أنّ على المسلمين إذا أخذوا المشركين،أن لا يبادروهم بالقتل،بل ينبغي لهم أن يدخلوا معهم في حوار جديد،حول التزامهم بالإسلام، و تراجعهم عن خطّ الشّرك؛و ذلك كآخر محاولة في هذا الاتّجاه،فإذا أذعنوا و تراجعوا عمّا هم فيه، فلا سبيل لهم عليهم،ما دام اللّه قد قبلهم و أدخلهم في أمانه و شملهم برضوانه. إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(11:25)

تخلّت

وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ. الانشقاق:4

راجع:ل ق ي:«القت».

الأصول اللّغويّة

الأصل في هذه المادّة:الخلاء،و هو البراز من الأرض.يقال:ألفيت فلانا بخلاء من الأرض،أي بأرض خالية.و مكان خلاء:لا أحد به و لا شيء فيه.

يقال:خلا المكان و الشّيء يخلو خلوّا و خلاء، و أخلى و استخلى،إذا لم يكن فيه أحد و لا شيء فيه، و هو خال،و أخليته أنا:جعلته خاليا،و وجدته كذلك.و الخلاء:المتوضّأ لخلوّه،و خلت الدّار خلاء:

لم يبق فيها أحد،و أخلاها اللّه إخلاء،و وجدت الدّار مخلية:خالية،و قد خلت و أخلت،و خلا الرّجل و أخلى:وقع في موضع خال لا يزاحم فيه،و أخليت:

خلوت،و أخليت غيري.

ص: 776

و الخلوة:الاسم من الخلاء.يقال:خلا الرّجل بصاحبه و إليه و معه خلوّا و خلاء و خلوة،أي اجتمع معه في خلوة،و استخلى الملك فأخلاه و خلا به، و استخلاه مجلسه:سأله أن يخليه له،و أخليت بفلان أخلي به إخلاء:خلوت به.و يقول الرّجل للرّجل:

اخل معي حتّى أكلّمك،أي كن معي خاليا، و استخليت فلانا:قلت له:أخلني.

و الخلاء:التّفرّغ و الانفراد.يقال:خلا لك الشّيء و أخلى،أي فرغ و انفرد،و اخل بأمرك و أخل أمرك:

تفرّد به و تفرّغ له،و أنت خلاء من هذا الأمر، و تخلّيت:تفرّغت،و خلا على بعض الطّعام:اقتصر عليه،و أخليت عن الطّعام:خلوت عنه،و أخلى فلان على شرب اللّبن:لم يأكل غيره.

و الخلاء:التّرك،لأنّه انفراد.يقال:خاليته خلاء، أي تركته،و خالاني فلان مخالاة:خالفني،و خلّى الأمر و تخلّى منه و عنه:تركه و تفرّغ،و خاليت فلانا:

صارعته،و كذلك المخالاة في كلّ أمر،لأنّه متاركة.

و خلّى عن الشّيء:أرسله و خلّى سبيله،فهو مخلّى عنه،و رأيته مخلّيا،و تخلّى للعبادة:تبرّأ من الشّرك و عقد القلب على الإيمان،و أنا منك خلاء:

براء،و أنا خليّ منك:بريء منك،و خاليت العدوّ:

تركت ما بيني و بينه من المواعدة،و خلا كلّ واحد منهما من العهد،و عدوّ مخال:ليس له عهد.

و الخلو:الخالي.يقال:هو خلو من هذا الأمر، و هما خلو،و هي خلو و خلوة؛و الجمع:أخلاء،و هو الخليّ،أي الفارغ الّذي لا همّ له.يقال:أنت خليّ من هذا الأمر،أي خال فارغ من الهمّ؛و الجمع:خليّون و أخلياء.

و الخليّة من الإبل:الّتي خلت عن ولدها بموت أو نحر،فتستدرّ بولد غيرها و لا ترضعه،إنّما تعطف على حوار تستدرّ به من غير أن ترضعه،فسمّيت خليّة لأنّها لا ترضع ولدها و لا غيره،أو لأنّها خلت من ولدها الأوّل-كما قال ابن فارس-و هي ناقة مخلاء،أي أخليت عن ولدها،و تخلّى خليّة:اتّخذها لنفسه،و الخليّة:المطلقة من عقال.

و الخليّة أيضا:كلمة تطلّق بها المرأة،تشبيها بالخليّة من الإبل،لأنّها إذا طلّقت فقد خلت عن بعلها، يقال:أنت بريّة و خليّة،كناية عن الطّلاق،تطلق بها المرأة إذا نوى الرّجل طلاقا،و قد خلت المرأة من زوجها.

و امرأة خليّة و نساء خليّات:لا أزواج لهنّ و لا أولاد،و امرأة خلوة و امرأتان خلوتان و نساء خلوات:عزبات،و رجل خليّ و خليّان و أخلياء:

لا نساء لهم،و الخالي:العزب الّذي لا زوجة له،و كذلك الأنثى بغير هاء؛و الجمع:أخلاء،و هو على التّشبيه.

و الخليّة:السّفينة الّتي تسير من غير أن يسيّرها ملاّح؛و الجمع:خلايا،تشبيها بالمرأة الّتي خلت عن بعلها.

و الخليّة و الخليّ: ما تعسّل فيه النّحل من غير ما يعالج لها من العسّالات،من راقود أو طين أو خشبة منقورة؛و الجمع:خلايا،سمّيت بذلك لأنّها تخلّى للنّحل،كما تخلّى الخليّة من الإبل،و هي المطلقة من

ص: 777

العقال.

و الخلوّ:المضيّ،لأنّه قد خلا و فرغ منه.يقال:

خلا الشّيء خلوّا،أي مضى.و القرون الخالية:هم المواضي،يقال:خلا قرن فقرن،أي مضى.

و الخلوّ:الموت،و هو من ذلك.يقال:خلا فلان، أي مات،و خلّى فلان مكانه:مات،و لا أخلى اللّه مكانك،تدعو له بالبقاء.

و خلا:كلمة من حروف الاستثناء تجرّ ما بعدها و تنصبه،لأنّ المستثنى بها متروك و ساقط من الكلام.

يقال:افعل كذا و خلاك ذمّ،أي أعذرت و سقط عنك الذّمّ،و ما في الدّار أحد خلا زيدا و زيد،و جاءوني ما خلا زيدا،النّصب فحسب،لأنّ خلا لا تكون بعد«ما» إلاّ صلة لها،و هي معها مصدر.

2-و الخلى:الرّطب من النّبات و الحشيش، و الخلي:إلقاء اللّجام في فم الفرس،و إلقاء الحطب تحت القدر،و القطع أيضا.و كلّ ذلك من«خ ل ي»، غير أنّ ابن فارس ألحق هذا الأصل بمادّة«خ ل و»، و عدّه شاذّا عن هذا الباب.

3-و استعمل المولّدون الفعل«خلّى»بمعنى بقي، فهم يقولون:خلّيكم عندي،أي أبقوا عندي،كما جاء في كتاب«ألف ليلة و ليلة»،و خلّيك واقفا:ابق حيث أنت،و اللّه يخلّيك:يبقيك،و هو مستعمل كثيرا في لهجة أهل العراق،و كذا قولهم:خلّ بالك،أي انتبه.

و استعملوه أيضا بمعنى التّرك،فقالوا:خلّيني أفوت،أي اتركني أمرّ،و خلّى الفرصة تفوته:تركها، و خلّينا من هذا الكلام:اتركنا و شأنه،و خلاّه و شأنه:

تركه يفعل ما يشاء،و خلّى بينه و بين الشّيء:ترك له ذلك و سمح له فيه.

كما استعملوا الفعل«تخلّى»في معان أخرى،منها قولهم:تخلّى عن صاحبه،أي خذله،و تخلّى له عن حقّه:تنازل له عن حقّه،و تخلّى:خرج إلى الخلاء، و الخلاء عندهم:المرحاض،و هو الخلوة أيضا.

4-و للمصطفويّ-كعادته-تفصيل آخر في هذه المادّة خاصّ به فلاحظ.

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

جاء منها مجرّدا«الماضي»:(خلا و خلوا و خلت) 24 مرّة،و«المضارع»و«الأمر»و اسم الفاعل (خالية)كلّ منها مرّة،و مزيدا من التّفعّل«الماضي» مرّة،في 28 آية:

1-خلوّ بمعنى المضيّ

1 و 2- تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ... البقرة:134 و 141

3- كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ... الرّعد:30

4- قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النّارِ... الأعراف:38

5- ...وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ... فصّلت:25

6- أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ... الأحقاف:18

7- ...أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ

ص: 778

قَبْلِي... الأحقاف:17

8- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة:214

9- فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ... يونس:102

10- وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ النّور:34

11- ...وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ

فاطر:24

12- ...وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ...

الرّعد:6

13- وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ...

الأحقاف:21

14- وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... آل عمران:144

15- مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... المائدة:75

16- قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ...

آل عمران:137

17- لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ

الحجر:13

18- ...سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ...

المؤمن:85

19 و 20- ...سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ...

الأحزاب:38 و 62

21- سُنَّةَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً الفتح:23

22- كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ الحاقّة:24

2-الخلوة

23- ...وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ البقرة:76

24- ...وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ... البقرة:14

25- ...وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ... آل عمران:119

26- اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ... يوسف:9

3-التّخلية

27- ...فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ... التّوبة:5

4-التّخلّي

28- وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ الانشقاق:3،4

يلاحظ أوّلا:أنّ هذه المادّة جاءت في ثلاثة محاور:

الأوّل:المضيّ و الذّهاب في(1)إلى(22)،و فيها بحوث:

1-وردت بهذا المعنى أفعال ماضية في جميع هذه الآيات إلاّ الآية(22)،فقد ورد فيها اسم فاعل:

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ. و ورد الفعل(خلت)مقترنا بالحرف(قد)و مسندا إلى

ص: 779

لفظ مفرد مؤنّث في(1-3)و(17 و 18 و 21)،و إلى جمع مؤنّث سالم في(12)،و جمع تكسير مؤنّث في(4- 6)و(16)،و جمع تكسير مذكّر في(7)و(13- 15)كما ورد مسبوقا باسم الموصول(الذين)و متلوّا بلفظ(من قبل،)و مسندا إلى«واو»الجمع في(8- 10)و(19 و 20).و ورد مسبوقا بالحرف(الاّ) و متلوّا بشبه الجملة(فيها)و مسندا إلى(نذير)في (11).

2-أسندت هذه الأفعال إلى الأنبياء في(1)و(2):

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، و هم إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و ذرّيّتهم كما تقدّم ذكرهم في الآيات السّابقة.و في(11):

وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ، و(13): وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ، و(14)و(15): قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، و(19)و(20): سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ.

و أسندت أيضا إلى الأمم السّالفة في(3): قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ، و(7): وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي، و(8)و(10): اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.

و(9) اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، و(20) اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ.

و أسندت إلى الجنّ و الإنس في(4): فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ، و في(5)و(6):

فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و إلى المثلات في(12): وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ.

كما أسندت إلى سنّة الأمم السّالفة في(17):

وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، و(18): قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ، و(21): قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ. و إلى السّنن في (16): قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ.

3-و أخيرا أسندت-كوصف-إلى الأيّام في (22): هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ، و هي من جملة من أوتي كتابه بيمينه في 6 آيات من سورة «الحاقّة»،ابتداء من الآية:19: فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ إلى الآية:24: هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ...، قبالا لما جاء بعدها من عقاب من أوتي كتابه بشماله في 12 آية،ابتداء من:25 وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ...، إلى 37: لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ فكأنّ عقابهم ضعف جزاء أصحاب اليمين.و بتعبير أصحّ:إنذار أصحاب الشّمال جاء ضعفا لتبشير أصحاب اليمين،بلاغا للتّهويل،و تماما للتّذكير.

و المراد ب اَلْأَيّامِ الْخالِيَةِ: أيّام الدّنيا اللاّتي قد أسلفوا فيها الأعمال الصّالحة.و فسّرها بعضهم ب«أيّام الصّيام»مناسقا ل كُلُوا وَ اشْرَبُوا.

قال البروسويّ: «المعنى:كلوا و اشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل و الشّرب لوجه اللّه في أيّام الصّيام، لا سيّما في الأيّام الحارّة.و هو الأولى،لأنّ الجزاء لا بدّ و أن يكون من جنس العمل و ملائما له...».و هذا الوجه و إن لا يخلو من لطف إلاّ أنّ الظّاهر-كما قال أبو حيّان-العموم،و لا سيّما أنّ الآية مكّيّة نزلت قبل فرض الصّيام.

و قيل: اَلْأَيّامِ الْخالِيَةِ: الخالية من اللّذائذ الحقيقيّة.و عليه فالخالية بمعنى الخلوّ دون المضيّ،

ص: 780

فتدخل الآية في المحور الثّاني.

4-يلحظ أنّ الخلوّ يعني المضيّ زمانا في هذه الآيات-كما فسّره المفسّرون-غير أنّ الخلوّ في اللّغة يستعمل في المكان،لأنّه من الخلاء،و هو البراز من الأرض-كما تقدّم-فقولهم:مكان خلاء:لا أحد به و لا شيء فيه،أي يحكم معناه بخلوّ المكان من شيء ما بتاتا.بينما المضيّ يعني الذّهاب بنفاذ.يقال:مضى في الأمر مضاء،أي نفذ،و أمضى الأمر:أنفذه،و منه قوله: وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ الزّخرف:8،فالمضيّ هنا نقيض الاستقبال،و ليس فيه معنى المكان كالخلوّ، انظر«م ض ي».

الثّاني:الانفراد و الفراغ في(23-26)و(28)، و فيها بحوث:

1-ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ تعدية الخلوّ ب(إلى)على أصله في(23): وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ، و(24): وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ، لقولهم:

خلوت بفلان و إليه،أي انفردت به،و أنّ تعديته بالحرف(إلى)أبلغ،لأنّ فيه دلالة الابتداء و الانتهاء.

و ذهب بعض آخر منهم إلى أنّ تعديته بالباء أكثر استعمالا و أفشى بين النّاس،و عدل الباء ب(إلى)هنا، لأنّ قولهم:خلوت به،يشترك في معنى:انفردت به، و سخرت منه،فاستعملت(إلى)فرارا من الاشتراك المعنويّ في الباء.

و ذهب آخرون إلى الإبدال،فبعض يرى أنّ(إلى) مبدل من الباء،أو من«مع»،و نظيره قوله: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ آل عمران:52،أي مع اللّه.و بعض آخر يرى أنّ الفعل(خلا)مبدل من معنى فعل آخر معدّى ب(إلى)،مثل:رجع،و انضوى،و استكان، و مضى،و اجتمع،و ذهب،و انصرف،و انتهى،و مشى،و ركن،و خلص،و آب،و غيرها من الأفعال الّتي تتضمّن هذا المعنى.

و فضّل أبو حيّان أن يضمّن(خلا)معنى فعل يعدّى ب(إلى)،لأنّه أولى من تضمين حرف له،كما قال.

2-جاء الفعل(خلا)غير معدّى بحرف في(25):

وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، و هو على الأصل.يقال:خلا المكان و الشّيء خلوّا و خلاء، إذا لم يكن فيه أحد و لا شيء فيه،فكأنّه صار في الخلاء،أي البراز من الأرض،غير أنّ إسناد الخلوّ إلى «الواو»العائد على المنافقين على سبيل المجاز.

و ذهب الطّبريّ إلى هذا الرّأي؛حيث قال:

«فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون»،و قدّر سائر المفسّرين حرفا حسب الأقوال الثّلاثة المتقدّمة، فقال الخازن:«خلا بعضهم إلى بعض»على القول الأوّل،و قال الزّمخشريّ:«خلوا بعضهم ببعض»على الثّاني،و قال الثّعلبيّ:«خلوا و كان بعضهم مع بعض» على الثّالث.

3-الآية(23): وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ في سياق الآيات بشأن بني إسرائيل،فهي محاورة بين بني إسرائيل أنفسهم،و لا دخل للمنافقين فيها-كما احتمله الماورديّ-حيث قال:«فيهم قولان:أحدهما:أنّهم

ص: 781

اليهود،إذا خلوا مع المنافقين،قال لهم المنافقون:

أَ تُحَدِّثُونَهُمْ...

و وضّحه أبو حيّان،فقال:«إذا انفرد بعضهم إلى بعض،أي الّذين لم ينافقوا إلى من نافق».فاعتبر في اليهود منافقين،و لا داعي إلى ذلك،بل الظّاهر أنّ بعض اليهود كانوا إذا واجهوا المسلمين،يحدّثونهم بما جاء في كتبهم بشأن النّبيّ عليه السّلام،فذكّرهم و لامهم بعض آخر منهم حين خلا إليهم:بأنّ ما تحدّثونهم سوف يصير حجّة لهم عليكم.

4-ذكروا في تفسير(26): يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ عبارات شتّى-تصويرا و تجسيما لحالة إقبال أبيهم إليهم و سعيا لبيان لطف الكلمة و جمال المعنى- ترجع إلى واحد:فقالوا:يقبل عليكم أبوكم بوجهه، يفرغ لكم من الشّغل بيوسف،يخلص و يصفو لكم، خلا لكم أبوكم و حسّن عليكم،يقبل بكلّيّته عليكم و يخلص لكم عن شغله بيوسف:يعنون أنّ يوسف شغله عنّا و صرف وجهه إليه فإذا فقده أقبل علينا بالمحبّة،يصف مودّته لكم،يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم،و المراد:سلامة محبّته لهم ممّن يشاركهم فيها و ينازعهم إيّاها،فكان ذكر «الوجه»لتصوير معنى إقباله عليهم...

و يجوز أن يراد ب«الوجه»الذّات،كما قال:

وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الرّحمن:27،استعارة أي إذا فقد يوسف رجعت محبّته إليكم.و نحو هذا قول العربيّ -حين أحبّته أمّه لمّا قتل إخوته و كانت قبل لا تحبّه-:

«الثّكل أرأمها»أي عطفها عليه.و في الكلام كناية تلويحيّة عن خلوص المحبّة...و قد فسّر«الوجه» بالذّات-و الكناية بحالها-خلا أنّ الانتقال إلى المقصود بمرتبتين على الأوّل-كون الوجه بمعنى الجارحة-و بمرتبة على هذا،و نحوها.

و قال الطّباطبائيّ: «...و هو كناية عن خلوص حبّه لهم بارتفاع المانع الّذي يجلب الحبّ و العطف إلى نفسه،كأنّهم و يوسف إذا اجتمعوا و أباهم،حال يوسف بينه و بينهم و صرف وجهه إلى نفسه،فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم».

5-و قال مكارم الشّيرازيّ: «...قالوا: وَجْهُ أَبِيكُمْ و لم يقولوا:«يخلو لكم قلب أبيكم»ذلك لأنّهم لم يطمئنّوا إلى أنّ أباهم ينسى يوسف بهذه السّرعة،فيكفي أن يتوجّه إليهم أبوهم و لو ظاهرا!

و هناك احتمال آخر لهذا التّعبير،و هو أنّ الوجه و العينين نافذتان إلى القلب،فمتى ما خلا الوجه لهم، فإنّ القلب سيخلو،و يتوجّه إليهم بالتّدريج».

و عندنا احتمال آخر لهذا التّعبير،و هو أنّ الوجه و العينين نافذتان إلى القلب،فمتى ما خلا الوجه لهم، فإنّ القلب سيخلو،و يتوجّه إليهم بالتّدريج.

و عندنا:أنّ هذا البحث لا حاجة إليه بعد أنّ«خلوّ الوجه»له معنى معروف أقرب إلى المحبّة القلبيّة من إقبال الجارحة،و هو كناية عن المحبّة،فإذا حمل «الوجه»على الجارحة ينتفي جمال المعنى.

6-حذفت لام الفعل(يخل)للجزم في (26): اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ، و هو جواب شرط مقدّر،أي إن تقتلوا يوسف

ص: 782

أو تطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم،فهم استجلبوا محبّة أبيهم بقتل أخيهم!و هذا ديدن بني إسرائيل قديما و حديثا،فالغاية عندهم تبرّر الوسيلة،فهم يقتلون الفلسطينيّين في هذه الأيّام لتخلو لهم ديارهم،كما قال الصّهيونيّ ابن غوريون:اقتلوا الفلسطينيّين و اجتثّوا دابرهم حتّى تخلو الأرض منهم!

7-زيد الخلوّ«تاء»في أوّله و«لاما»في عينه في (28): وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ، فازداد معناه تبعا لذلك،فنقل إلى«التّفعّل»،و من معاني هذا الباب التّكلّف،كما يظهر هنا بوضوح،أي إنّ الأرض بالغت و تكلّفت في الخلوّ،فلم يبق شيء فيها،نحو:تكرّم و ترحّم و تحلّم الرّجل،أي تكلّف الكرم و الرّحمة و الحلم،و بالغ في هذه الصّفات.

و قيل:إنّ الأرض تخلّت ممّن على ظهرها من الأحياء،و قيل من الجبال و البحار و الكنوز،و هذا يناسب ما تكلّفت له من الخلوّ،لخطورة الإنسان عند اللّه،و عظم الجبال و البحار،و نفاسة الكنوز.

الثّالث:التّرك و التّخلية في(27) فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ و فيه بحوث:

1-ناجز الإسلام الكفر الحرب في سورة التّوبة، فأعلن النّفير العامّ فيها لمكافحة المشركين قاطبة، و تشدّد في محاصرتهم و تضييق الخناق عليهم،فأعذر و أنذر،و أمر المسلمين بقتلهم؛حيث كانوا بعد انسلاخ الأشهر الحرم،و منعهم من دخول المسجد الحرام، و اشترط عليهم التّوبة و إقامة الصّلاة و إيتاء الزّكاة لتخلية سبيلهم.و هذا مصداق على منعة الإسلام في الجزيرة العربيّة و ذروة تألّقه،و كان أتباعه بادئ ذي بدء أذلاّء ضعفاء: وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ الأنفال:

26.

2-و لهم في تفسير فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ عبارات شتّى،ترجع إلى معنى واحد:فقالوا:دعوهم و إتيان المسجد الحرام،دعوهم يتصرّفون في أمصاركم، و يدخلون البيت الحرام،حتّى يذهبوا حيث شاءوا، فأطلقوا عنهم بعد الأسر و الحصر أو فكّوا عنهم و لا تتعرّضوا لهم،دعوهم يتصرّفون في بلاد الإسلام لهم ما للمسلمين و عليهم ما عليهم،خلّوا سبيلهم إلى البيت،أي دعوهم يحجّون معكم،دعوهم و لا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك،كناية عن الكفّ عنهم و إجرائهم مجرى المسلمين في تصرّفاتهم حيث شاءوا، و لا تتعرّضوا لهم أو يكون المعنى فأطلقوهم من الأسر و الحصر،و الظّاهر الأوّل،فاتركوهم و شأنهم و لا تتعرّضوا لهم بشيء ممّا ذكر،و قد جاءت تخلية السّبيل في كلام العرب كناية عن التّرك،تخلية السّبيل كناية عن عدم التّعرّض لسالكيه و إن عادت مبتذلة بكثرة التّداول،كأنّ سبيلهم مسدود مشغول بتعرّض المتعرّضين،فإذا خلّى عنها كان ذلك ملازما أو منطبقا على عدم التّعرّض لهم،و لا تعرّضوا لهم بسوء

3-قال الفخر الرّازيّ: «و فيه لطيفة:و هو أنّه تعالى ضيّق عليهم جميع الخيرات،و ألقاهم في جميع الآفات،ثمّ بيّن أنّهم لو تابوا عن الكفر و أقاموا الصّلاة و آتوا الزّكاة فقد يخلّصوا عن تلك الآفات في الدّنيا،

ص: 783

فنرجو من فضل اللّه أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضا».

4-و قال البيضاويّ: «و فيه دليل على أنّ تارك الصّلاة و مانع الزّكاة لا يخلّى سبيله».

5-و قال الطّباطبائيّ: «قوله: إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لقوله: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ: إمّا من جهة الأمر الّذي يدلّ عليه بصورته،أو من جهة المأمور به الّذي يدلّ عليه بمادّته،أعني تخلية سبيلهم.و المعنى على الأوّل:إنّما أمر اللّه بتخلية سبيلهم،لأنّه غفور رحيم،و على الثّاني لأنّ تخلية سبيلهم من المغفرة و الرّحمة...».

ثانيا:جاءت من المحور الأوّل:«خلوّ بمعنى المضيّ» 11 آية مدنيّة،و 9 آيات مكّيّة،و اثنتان-و هما(3) و(17)-مختلف فيها لاختلافهم في سورة الرّعد كلاّ أو بعضا،و عندنا أنّها مكّيّة.لاحظ«المدخل»بحث المكّيّ و المدنيّ.

و عليه فالمكّيّ و المدنيّ ممّا جاء بمعنى«المضيّ» متساويان عددا،و هو وصف للأمم الماضية الّتي حدّث اللّه عنهم في المكّيّ و المدنيّ على السّواء،إلاّ في(22) فهو وصف في الآخرة للأيّام الماضية في الدّنيا.

و جاءت من المحور الثّاني«الانفراد و الفراغ»5 آيات:ثلاث منها مدنيّة و اثنتان-و هما(26 و 28)- مكّيّتان:فواحدة من المدنيّات(42)جاءت بشأن المنافقين الّذين قطنوا المدينة،و واحدة بشأن اليهود الّذين حدّث اللّه عنهم في البقرة تفصيلا،و واحدة- و هي(25)-جاءت في اتّخاذ البطانة من الكفّار من قبل المؤمنين في المدينة،و أكثرهم من ضعفاء الإيمان، لو لم يكونوا من المنافقين.و أمّا المكّيّتان فواحدة(26) من قصّة يوسف عليه السّلام،و الأخرى:(28)في وصف الآخرة.و أكثر القصص و وصف الدّار الآخرة مكّيّ.

و أمّا في المحور الثّالث:فآية واحدة مدنيّة تشريع، فلاحظ.

ثالثا:من نظائر الخلوّ في القرآن الألفاظ الآتية، طبق المحاور الثّلاثة الآنفة الذّكر:

الذّهاب: وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً

الأنبياء:87

المضيّ: وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ الحجر:65

الفراغ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ الانشراح:7

الخواء: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً النّمل:52

التّرك: وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا يوسف:17

الوذر: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً نوح:26

الودع: وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ

الأحزاب:48

ص: 784

خ م د

اشارة

لفظان مكّيّتان،في سورتين مكّيّتين

خامدون 1:1 خامدين 1:1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :خمد القوم،إذا لم تسمع لهم حسّا،و قوم خمود.

و خمدت النّار خمودا:سكن لهبها،و إذا طفئت قيل:همدت.(4:235)

أبو زيد :[في حديث]:«أنّ موسى عليه السّلام لمّا أتى الشّجرة رأى نارا،فجاء يقبس منها،فمالت نحوه،ثمّ لم يكن شيء أوشك من خمودها».

خمدت النّار تخمد خمودا،فإذا طفئت قيل:

همدت،فإذا صار رمادا،قيل:هبا يهبو،و هو هاب.

(الحربيّ 2:671)

الأصمعيّ: إذا سكن لهب النّار و لم يطفأ جمرها، قيل:خمدت،تخمد خمودا.فإن طفئت البتّة،قيل:

همدت همودا.(الأزهريّ 7:290)

ابن السّكّيت: و قد خمدت النّار،تخمد خمودا، إذا ذهب لهبها.(إصلاح المنطق:190)

الجاحظ:و خمدت[النّار]تخمد خمودا،إذا سكن لهبها و بقي جمرا حارّا.(5:132)

الزّجّاج: ما تكلّم فيه ب«فعلت»دون«أفعلت» و ما اختير فيه فعلت على أفعلت...[منها]و خمدت النّار تخمد.(فعلت و أفعلت:55)

ابن دريد :و خمدت النّار خمودا،إذا سكن التهابها فهي خامدة؛و المصدر:الخمود.

و خمد المريض،إذا أغمي عليه.

ص: 785

و خمدت الحمّى،إذا سكن فورانها؛و المصدر:

الخمود.

و الخمّود في وزن«فعّول»:موضع يدفن فيه الجمر.(2:202)

باب ما جاء على«فعّول»فألحق بالخماسيّ للزّوائد و التّضعيف الّذي فيه،و هو مفتوح كلّه إلاّ:

السّبّوح،و القدّوس،و الذّرّوح...

و[منها]خمّود:مكان تدفن فيه النّار حتّى تخمد.

(3:397)

القاليّ: يقال:خمدت النّار،إذا سكن لهبها و لم يطفأ جمرها،و همدت،إذا طفئ جمرها.(2:330)

الأزهريّ: و في نوادر الأعراب:يقال:رأيته مخمدا،و مخبتا،و مخلدا،و مخبطا،و مسبطا، و مهديا،إذا رأيته مضربا لا يتحرّك،و أخمد فلان ناره.

(7:290)

الصّاحب:نار خامدة،خمدت خمودا:سكن لهبها و بقي جمرها.

و قوم خمود:سكوت لا يسمع لهم حسّ.

و فلان مخمد:مطرق.

و خمّود:مكان تدفن فيه النّار حتّى تخمد.

(4:308)

الجوهريّ: خمدت النّار،تخمد خمودا:سكن لهبها و لم يطفأ جمرها.و همدت،إذا طفئ جمرها.

و أخمدتها أنا.

و خمدت الحمّى:سكن فورانها.

و خمد المريض:أغمي عليه أو مات.

و الخمّود،على وزن«التّنّور»:موضع تدفن فيه النّار لتخمد.(2:469)

ابن فارس: الخاء و الميم و الدّال أصل واحد، يدلّ على سكون الحركة و السّقوط.خمدت النّار خمودا،إذا سكن لهبها.و خمدت الحمّى،إذا سكن وهجها.و يقال للمغمى عليه:خمد.(2:215)

أبو هلال :الفرق بين أخمدت النّار و أطفأتها:أنّ الإخماد يستعمل في الكثير،و الإطفاء في الكثير و القليل.يقال:أخمدت النّار و أطفأت النّار.و يقال:

أطفأت السّراج،و لا يقال:أخمدت السّراج.

و طفئت النّار يستعمل في الخمود مع ذكر النّار، فيقال:خمدت نيران الظّلم.و يستعار الطّفء في غير ذكر النّار،فيقال:طفئ غضبه،و لا يقال:خمد غضبه؛ و في الحديث:«الصّدقة تطفئ غضب الرّبّ».

و قيل:الخمود يكون بالغلبة و القهر،و الإطفاء بالمداراة و الرّفق،و لهذا يستعمل الإطفاء في الغضب، لأنّه يكون بالمداراة و الرّفق،و الإخماد يكون بالغلبة، و لهذا يقال:خمدت نيران الظّلم و الفتنة.

و أمّا الخمود و الهمود فالفرق بينهما:أنّ خمود النّار أن يسكن لهبها و يبقى جمرها،و همودها:ذهابها البتّة.و أمّا الوقود بضمّ الواو فاشتعال النّار،و الوقود بالفتح ما يوقد به.(247)

أبو سهل الهرويّ: و خمدت النّار و غيرها تخمد:

إذا سكن لهبها و ذهب ضوؤها و لم يطفأ جمرها.

(التّلويح:4)

ابن سيده: [نحو الجوهريّ و أضاف:]

ص: 786

و قوم خامدون:لا تسمع لهم حسّا،من ذلك.

(5:148)

خمدت الحمّى:سكن فوارها.

(الإفصاح 1:524)

الخمود:الهمود،و قد خمدت الثّمرة كسمع و نصر

(الإفصاح 2:1179)

الرّاغب: قوله تعالى: جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ كناية عن موتهم،من قولهم:خمدت النّار خمودا:طفئ (1)لهبها.و عنه استعير خمدت الحمّى:سكنت.(158)

الزّمخشريّ: نار خامدة،و قد خمدت خمودا:

سكن لهبها و ذهب حسيسها،و للنّار وقدة،ثمّ خمدة.

و من المجاز:خمدت الحمّى:سكنت.

و خمد فلان:مات،أو أغمي عليه، فَإِذا هُمْ خامِدُونَ. (أساس البلاغة:120)

الفيّوميّ: خمدت النّار خمودا من باب«قعد»:

ماتت فلم يبق منها شيء.قيل:سكن لهبها و بقي جمرها.

و أخمدتها بالألف و خمدت الحمّى:سكنت.

و خمد الرّجل:مات أو أغمي عليه.(1:181)

الفيروزآباديّ: خمدت النّار ك«نصر»و«سمع»، خمدا و خمودا:سكن لهبها و لم يطفأ جمرها، و أخمدتها.و ك«تنّور»:مدفنها لتخمد فيه.

و خمد المريض:أغمي عليه،و الحمّى:سكن فورانها.

و أخمد:سكن و سكت.(1:302)

مجمع اللّغة :خمدت النّار تخمد و خمدت تخمد خمدا و خمودا:سكن لهيبها،و من ذلك خمد فلان:

مات أو أغمي عليه،فهو خامد و هم خامدون.

(1:364)

النّصوص التّفسيريّة

خامدون

إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ.

يس:29

ابن عبّاس: ميّتون،لا يتحرّكون.(370)

و هكذا أكثر التّفاسير.

قتادة :هلكى.(القرطبيّ 15:22)

الهرويّ: أي ساكنة أنفاسهم قد ماتوا و صاروا بمنزلة الرّماد.(2:594)

الطّبرسيّ: أي ساكنون قد ماتوا.قيل:إنّهم لمّا قتلوا حبيب بن مري النّجّار غضب اللّه عليهم،فبعث جبرئيل حتّى أخذ بعضادتي باب المدينة،ثمّ صاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم لا يسمع لهم حسّ كالنّار إذا طفئت.(4:422)

الفخر الرّازيّ: فيه إشارة إلى سرعة الهلاك؛ فإنّ خمودهم كان مع الصّيحة و في وقتها لم يتأخّر، و وصفهم بالخمود في غاية الحسن و ذلك لأنّ الحيّ فيه الحرارة الغريزيّة،و كلّما كانت الحرارة أوفر كانت

ص: 787


1- هكذا في الأصل...و الظّاهر:طفئ،بالبناء للفاعل،كما في كتب اللّغة.

القوّة الغضبيّة و الشّهوانيّة أتمّ،و هم كانوا كذلك.

أمّا الغضب فإنّهم قتلوا مؤمنا كان ينصحهم،و أمّا الشّهوة فلأنّهم احتملوا العذاب الدّائم بسبب استيفاء اللّذّات الحاليّة؛فإذن كانوا كالنّار الموقدة،و لأنّهم كانوا جبّارين مستكبرين كالنّار و من خلق منها، فقال: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ.

و فيه وجه آخر:و هو أنّ العناصر الأربعة يخرج بعضها عن طبيعته الّتي خلقه اللّه عليها،و يصير العنصر الآخر بإرادة اللّه،فالأحجار تصير مياها،و المياه تصير أحجارا،و كذلك الماء يصير هواء عند الغليان و السّخونة،و الهواء يصير ماء للبرد-و لكن ذلك في العادة بزمان-و أمّا الهواء فيصير نارا،و النّار تصير هواء بالاشتعال و الخمود في أسرع زمان،فقال:

خامدين بسببها،فخمود النّار في السّرعة كإطفاء سراج أو شعلة.(26:62)

القرطبيّ: أي ميّتون،هامدون،تشبيها بالرّماد الخامد.و قال قتادة:هلكى.و المعنى واحد.(15:22)

البيضاويّ: ميّتون،شبّهوا بالنّار رمزا إلى أنّ الحيّ كالنّار السّاطعة،و الميّت كرمادها.[ثمّ استشهد بشعر](2:279)

مثله الكاشانيّ(4:252)،و نحوه أبو السّعود(5:

296)،و الشّوكانيّ(4:459)،و القاسميّ(14:4999).

أبو حيّان :أي فاجأهم الخمود إثر الصّيحة لم يتأخّر،و كنّي بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم كنار خمدت بعد توقّدها.(7:332)

النّسفيّ: ميّتون كما تخمد النّار.و المعنى:أنّ اللّه كفى أمرهم بصيحة ملك،و لم ينزل لإهلاكهم جندا من جنود السّماء،كما فعل يوم بدر و الخندق.(4:6)

صدر المتألهين :[نحو الطّبرسيّ و أضاف:]

و في قوله تعالى:(خامدون)استعارة لطيفة

حيث شبّه الرّوح الإنسانيّ القائم بالطّبيعة البشريّة بنار اشتعلت من فتيلة،ثمّ أثبت له الخمود الحاصل للفتيلة في بعض الأوقات،من النّفخ الحاصل من الفم الإنسانيّ في نحو الأنبوبة و غيرها،و ربما يكون معه صوت،و لأجل ذلك عبّر عن إهلاك النّفوس بالنّفخ، كما في قوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يس 51،و كذا عن إحيائها،لأنّ بالنّفخ كما يخمد النّار كذلك قد يشتعل، على حسب اختلاف أنحاء النّفخ.و هذا من سوانح وقت كتابتي هذه،و لم أر في كلام أحد.(5:70)

البروسويّ: [نحو البيضاويّ و أضاف:]

قال في«الكواشيّ»:لم يقل:«هامدون»و إن كان أبلغ،لبقاء أجسادهم بعد هلاكهم.(7:388)

الآلوسيّ: و في ذلك استحقار لهم و لإهلاكهم، و إيماء إلى تفخيم شأن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم[إلى أن قال:]

و(اذا)فجائيّة،و فيها إشارة إلى سرعة هلاكهم؛ بحيث كان مع الصّيحة.و قد شبّهوا بالنّار على سبيل الاستعارة المكنيّة،و«الخمود»تخييل.و في ذلك رمز إلى أنّ الحيّ كشعلة النّار،و الميّت كالرّماد.[ثمّ استشهد بشعر]

و يجوز أن تكون الاستعارة تصريحيّة تبعيّة في الخمود،بمعنى البرودة و السّكون،لأنّ الرّوح لفزعها عند الصّيحة تندفع إلى الباطن دفعة واحدة،ثمّ تنحصر

ص: 788

فتنطفئ الحرارة الغريزيّة لانحصارها.و لعلّ في العدول عن«هامدون»إلى(خامدون)رمزا خفيّا إلى البعث بعد الموت.

و الظّاهر أنّه لم يؤمن منهم سوى حبيب،و أنّهم هلكوا عن آخرهم.و في بعض الآثار أنّه آمن الملك و آمن قوم من حواشيه،و من لم يؤمن هلك بالصّيحة.

و هذا بعيد،فإنّه كان الظّاهر أن يظاهر أولئك المؤمنون الرّسل كما فعل حبيب،و لكان لهم في القرآن الجليل ذكر ما بوجه من الوجوه.اللّهمّ إلاّ أن يقال:إنّهم آمنوا خفية،و كان لهم ما يعذرون به عن المظاهرة.و مع هذا لا يخلو بعد عن بعد.(23:2)

ابن عاشور :و مجيء(اذا)الفجائيّة في الجملة المتفرّعة على إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً لإفادة سرعة الخمود إليهم بتلك الصّيحة...

و الخمود:انطفاء النّار،استعيرت للموت بعد الحياة المليئة بالقوّة و الطّغيان،ليتضمّن الكلام تشبيه حال حياتهم بشبوب النّار،و حال موتهم بخمود النّار، فحصل لذلك استعارتان:إحداهما صريحة مصرّحة، و أخرى ضمنيّة مكنيّة،و رمزها الأولى،و هما الاستعارتان اللّتان تضمّنها قول لبيد:

و ما المرء إلاّ كالشّهاب و ضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

فكان هذا الإيجاز في الآية بديعا،لحصول معنى بيت لبيد في ثلاث كلمات.و هذا يشير إلى حدث عظيم حدث بأهل أنطاكية عقب دعوة المرسلين،و هو كرامة لشهداء أتباع عيسى عليه السّلام.(22:219)

الطّباطبائيّ: الخمود:السّكوت.(17:80)

عبد الكريم الخطيب :إنّها صيحة الموت،الّتي يقضي بها على النّاس،مؤمنهم،و كافرهم.(12:926)

خامدين

فَما زاَلَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ. الأنبياء:15

ابن عبّاس: ميّتين لا يتحرّكون.هذه قصّة أهل قرية نحو اليمن يقال لها:حضور،بعث اللّه إليهم نبيّا فقتلوا ذلك النّبيّ عليه السّلام فسلّط اللّه عليهم بخت نصّر فقتلهم،و لم يترك فيهم عينا تطرف.(269)

نحوه البغويّ.(3:240)

(خامدين:)خمود النّار إذا طفئت.

(الطّبريّ 9:10)

نحوه الطّوسيّ(7:235)،و الواحديّ(3:232).

[في خبر:]أنّ نافع بن الأزرق قال له:أخبرني عن قوله:(خامدين)قال:ميّتين،قال:و هل تعرف العرب ذلك؟قال:نعم أ ما سمعت لبيد بن ربيعة:

خلوا ثيابهم على عوراتهم.

فهم بأفنية البيوت خمود

(الدّرّ المنثور 5:618)

مجاهد :[نحو ابن عبّاس و أضاف:]

(خامدين)بالسّيف.(الطّبريّ(9:11)

قتادة :حتّى دمّر اللّه عليهم و أهلكهم.

حتّى هلكوا.(الطّبريّ(9:10)

أبو عبيدة :مجاز الخامد مجاز الهامد،كما يقال:

ص: 789

للنّار إذا طفئت:خمدت النّار.(2:36)

ابن قتيبة :قد ماتوا فسكنوا و خمدوا.(284)

الطّبريّ: هالكين،قد انطفأت شرارتهم و سكنت حركتهم،فصاروا همودا كما تخمد النّار فتطفأ.(9:10)

الهرويّ: حصدوا بالسّيف و الموت حتّى خمدوا، و خمود الإنسان موته.(2:594)

الشّريف الرّضيّ: قال سبحانه: حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ و لم يقل:خامدا،كما قال تعالى:

فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ الشّعراء:4،و لم يقل:

خاضعة،لأنّه سبحانه ردّ معنى(خاضعين)على أصحاب الأعناق لا على الأعناق،و كذلك تجوز ردّ معنى(خامدين)على القوم الّذين أهلكوا لا على النّبات الّذي به شبّهوا.(تلخيص البيان:113)

الحوفيّ: (خامدين)نعت ل(حصيدا)على أن يكون(حصيدا)بمعنى محصودين،يعني وضع المفرد و يراد به الجمع.و يجوز أن يجعل(خامدين)حالا من الهاء و الميم.(أبو حيّان 6:301)

الماورديّ: و الخمود:الهمود،كخمود النّار إذا أطفئت،فشبّه خمود الحياة بخمود النّار،كما يقال لمن مات:قد طفئ تشبيها بانطفاء النّار.(2:49)

نحوه القرطبيّ.(11:275)

ابن عطيّة: أي موتى دون أزواج مشبّهين بالنّار إذا طفيت.(4:76)

الطّبرسيّ: ساكني الحركات ميّتين،كما تخمد النّار إذا انطفأت.(4:41)

نحوه شبّر.(4:189)

ابن الجوزيّ: ميّتين،كخمود النّار إذا طفئت.

(5:342)

نحوه الشّربينيّ.(2:499)

العكبريّ: و(خامدين)بمنزلة:هذا حلو حامض و يجوز أن يكون صفة ل(حصيدا.)(2:913)

السّكّاكيّ: و لما أنّ الاستعارة مبناها على التّشبيه تتنوّع إلى خمسة أنواع تنوّع التّشبيه إليها:

استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسّيّ أو بوجه عقليّ و استعارة معقول لمعقول،و استعارة محسوس لمعقول،و استعارة معقول لمحسوس.و كذلك قوله:

حَصِيداً خامِدِينَ فأصل الخمود للنّار.

(164،165)

البيضاويّ: ميّتين،من خمدت النّار،و هو مع (حصيدا)بمنزلة المفعول الثّاني،كقولك:جعلته حلوا حامضا؛إذ المعنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد و الخمود،أو صفة له،أو حال من ضميره.(2:68)

نحوه النّسفيّ.(3:74)

أبو السّعود :[نحو العكبريّ،و البيضاويّ،إلاّ أنّه قال:]

أو حال من الضّمير المنصوب في(جعلناهم،)أو من المستكنّ في(حصيدا،)أو صفة ل(حصيدا) لتعدّده معنى،لأنّه في حكم جعلناهم أمثال حصيد.

(4:327)

البروسويّ: (خامدين)حال من المنصوب في (جعلناهم)أي ميّتين،من خمدت النّار،إذا أطفئ لهبها،و منه استعير خمدت الحمّى،أي سكنت حرارتها

ص: 790

و زالت شهوة الموت،لخمود النّار و انطفائها،فأطلق عليها الخمود،ثمّ اشتقّ منه(خامدين.)(5:459)

الآلوسيّ: [له بحث لاحظ:ح ص د:«حصيدا»]

(17:17)

القاسميّ: أي هالكين بإخماد نار أرواحهم.

(11:4254)

المراغيّ: أي كالنّار الّتي خمدت و انطفأت.

و خمدت حركاتهم،و هدأت أصواتهم،و لم ينبسوا ببنت شفة.(17:12)

عزّة دروزة :هالكين،لا نأمة و لا حركة لهم.

(6:160)

ابن عاشور :و الخامد:اسم فاعل من خمدت النّار تخمد بضمّ الميم،إذا زال لهيبها...

شبّهوا حين هلاكهم بالنّار الخامدة،فتضمّن تشبيههم قبل ذلك بالنّار المشبوبة في القوّة و البأس، كما شبّه بالنّار في قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ المائدة:64،و قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً البقرة:17.فحصل تشبيهان بليغان و ليسا باستعارتين مكنيتين،لأنّ ذكر المشبّه فيهما مانع من تقوّم حقيقة الاستعارة خلافا للعلاّمتين:التّفتازانيّ و الجرجانيّ في شرحيهما «للمفتاح»متمسّكين بصيغة جمعهم،في قوله تعالى:

(جعلناهم)فجعلا ذلك استعارتين مكنيتين؛إذ شبّهوا بزرع حين انعدامه و نار ذهب قوّتها،و حذف المشبّه بهما و رمز إليهما بلازم كلّ منهما،و هو الحصد و الخمود فكان(حصيدا)وصفا في المعنى للضّمير المنصوب في(جعلناهم.)

فالحصيد هنا وصف ليس منزلا منزلة الجامد كالّذي في قوله تعالى: وَ حَبَّ الْحَصِيدِ ق:9، و بذلك لم يكن قوله تعالى:(حصيدا)من قبيل التّشبيه البليغ؛إذ لم يشبّهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنّهم محصودون،استعارة مكنيّة،مثل نظيره في قوله تعالى:(خامدين)الّذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكّر،و مبنى الاستعارة على تناسي التّشبيه.و هذا تكلّف منهما و لم أدر ما ذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التّكلّف.(17:22)

الطّباطبائيّ: ساكنين،ساكتين،كما تخمد النّار، لا يسمع لهم صوت،و لا يذكر لهم صيت.(14:256)

عبد الكريم الخطيب :...إلى أن تخمد أنفاسهم، و يصبحوا جثثا هامدة،كحصاد هشيم،تذروه الرّياح.

(9:855)

بنت الشّاطئ:[ذكرت قول ابن عبّاس:في قوله تعالى:(خامدين:)ميّتين،ثمّ قالت:]

و لم يأت في القرآن من المادّة،غير هذه الكلمة في الآيتين:الأنبياء:15،يس:29،و تفسيرها بالموت يبدو قريبا.[ثمّ ذكرت قول الرّاغب و قالت:]

و على قرب تفسير خمودهم بالموت-حقيقة أو مجازا-يلفتنا أنّ البيان القرآنيّ لم يستعمل الكلمة إلاّ مرّتين،و في هذا السّياق بعينه لأصحاب القرية و قرية كانت ظالمة،و قد استعمل الموت نحو مائة و عشرين مرّة بمختلف الصّيغ:الفعل الماضي ثلاثيّا و رباعيّا،و مضارعهما،و أمر الثّلاثيّ،و الاسم

ص: 791

و المصدر:موت و ممات،و اسمي المرّة و الهيئة:موته و ميتة،و ميّت،و أموات و موتى و ميّتون...

واضح من سياقها أنّ البيان القرآنيّ يستعمل الموت مقابلا للحياة،فهو تعالى الّذي يحيي و يميت، خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً الملك:2،و كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ الأنبياء:35.

و طبيعة الموت المحتوم على كلّ المخلوقات،ليست الملحوظة في الّذين حقّت عليهم-بظلمهم-لعنة القصم الماحق لا يبقى و لا يذر،و الهلاك المباغت لا مفرّ منه.

و دلالة الأخذ المباغت،صريحة في صَيْحَةً واحِدَةً بآية يس،و في(اذا)الفجائيّة في آية الأنبياء.

فالخمود في هذا السّياق هو همود يباغت من أخذتهم صيحة واحدة،و هم في عنفوان الحياة و غرور الأمل، و ضجيج التّكالب على التّرف،و هو شلل الحركة فيمن يركضون،التماسا لمهرب لما رأوا بأس اللّه،حين لا يجدي ركضهم و لا ينفعهم إقرارهم بظلمهم حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ. (الإعجاز البيانيّ:397)

مكارم الشّيرازيّ: جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ فيلقونهم على الأرض كالزّرع المحصود،و تبدّل مدينتهم المليئة بالحركة الدّائبة و العمران إلى قبور مهدّمة مظلمة،فيصبحوا خامدين.(10:120)

فضل اللّه :في حالة سكون،لا مجال فيها للحركة، و لا مظهر فيها للحياة.(15:196)

راجع:ح ص د:«حصيدا».

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة:الخمود،أي سكون لهب النّار.يقال:خمدت النّار تخمد خمودا،أي سكن لهبها و لم يطفأ جمرها،و أخمد فلان ناره:سكّن لهبها، و الخمّود:موضع تدفن فيه النّار حتّى تخمد.

و يقال مجازا:خمدت الحمّى،أي سكن فورانها، و خمد المريض:أغمي عليه أو مات،و قوم خامدون:

لا تسمع لهم حسّا،و المخمد:السّاكن السّاكت.يقال:

رأيته مخمدا و مخبتا و مخلدا و مبسطا و مهديا،إذا رأيته ساكنا لا يتحرّك.

2-و تقول العامّة:خمد فلان،أي نام،و خمدت أنفاسه:مات،و خمد:فتر و قلّ نشاته.

الاستعمال القرآنيّ

جاء منها اسم الفاعل جمعا مرّتين،في آيتين:

1- فَما زاَلَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ الأنبياء:15

2- إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ يس:29

يلاحظ أوّلا:أنّ الخمود استعمل بمعنى الموت في الآيتين،على النّحو الآتي:

1-جاء في(1): حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ، و الجمع في(خامدين)مطابق لرويّ الآيات،و يحتمل ثلاثة وجوه:

الأوّل:أن يكون نعتا ل(حصيدا،)و يردّ عليه أنّ النّعت جمع و المنعوت مفرد،و حكم النّعت أن يطابق

ص: 792

المنعوت في التّوحيد و التّثنية و الجمع و التّذكير و التّأنيث و غير ذلك،إلاّ أن يقال:الحصيد هنا بمعنى المحصودين،فيستقيم المعنى.

و الثّاني:أن يكون بدلا من«الحصيد»،و هو بدل كلّ من كلّ،أي إن قيل:جعلناهم حصيدا،أو جعلناهم خامدين،استقام المعنى،لتطابقهما و تساويهما فيه.

و الثّالث:أن يكون حالا من الضّمير في (جعلناهم،)أي(هم)و هو الأقرب،لأنّ(حصيدا) مفعول ثان ل(جعلناهم،)فوقع أثره على أجسامهم، فحصدوا كما يحصد الزّرع و(خامدين)وصف لحالهم بعد الموت،أي خمدت أنفاسهم كما يخمد لهب النّار.

و قدّر الزّمخشريّ الكلام بقوله:أي جعلناهم مثل الحصيد،كما تقول:جعلناهم رمادا،أي مثل الرّماد.و ذهب إلى أنّ أصل الكلام:هم حصيد خامدون،فالضّمير مبتدأ و ما بعده خبران له،ثمّ دخل عليه«جعل»،فنصب الضّمير و الخبرين على المفعوليّة فاجتمعت ثلاثة مفاعيل.و هذا لم يعهد في اللّغة، فتمحّل له بجعل معنى الحصيد و الخمود واحدا في المماثلة،و قاسه بقولهم:جعلته حلوا حامضا،أي جعلته جامعا للطّعمين،فقوله أقرب إلى التّأويل،كما ترى.

2-قوله: حَصِيداً خامِدِينَ من التّشبيه البليغ، أي كأنّهم في استئصالهم كالزّرع المحصود و النّار الخامدة،فالحصاد اجتثاث النّبات و تصرّم حياته، و الخمود انطفاء النّار و سكونها،فما وجه الجمع بينهما؟

إنّ(حصيدا)إشارة إلى اكتمال أجل هؤلاء الكافرين،كما هو موعد صرام النّبات،و لفظ (خامدين)إشارة إلى احتراق أجسامهم و تحوّلها إلى رماد،كما يحترق الحصيد و الحطام.

3-اقترن الخمود بالصّيحة في(2): إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ، و فسّرت الصّيحة بصيحة جبرئيل،و الخمود بالموت،و هو تشبيه بخمود النّار بعد توقّدها.

بيد أنّ الصّيحة وردت في خصوص قوم صالح،في قوله: فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ* وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ هود:66،67،و إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر:31.

و ورد في موضع آخر أنّهم أهلكوا بالصّاعقة:

وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ* فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ الذّاريات:

43،44.

و هذا يعني أنّ المراد بالصّيحة الواردة في خصوص ثمود هي الصّاعقة،أي النّار السّاقطة من السّماء.

و لعلّ الصّيحة في هذه الآية هي الصّاعقة أيضا، فيكون الخمود هنا حقيقيّا،و ليس خمودا مجازيّا،أي أخذتهم صاعقة فأحرقتهم و صاروا رمادا فجأة،و اللّه أعلم.

ثانيا:و الآيتان مكّيّتان جاءتا خلال قصّتين من الأمم الماضية،عذابا لهم.

ثالثا:جاءت بعض نظائر الخمود في القرآن،

ص: 793

و هي:

الهمود: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ

الحجّ:5

الخبوّ: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً

الإسراء:97

الإطفاء: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ

المائدة:64

ص: 794

خ م ر

اشارة

4 ألفاظ،7 مرّات:2 مكّيّتان،5 مدنيّة

في 5 سور:1 مكّيّة:4 مدنيّة

الخمر 3:-3 خمرا 2:2

خمر 1:-1 بخمرهنّ 1:-1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :اختمر الخمر،أي أدرك،و مخمّرها:

متّخذها،و خمرتها:ما غشي المخمور من الخمار و السّكر.

و اختمر الطّيب و العجين خمرة.

و وجدت منه خمرة طيّبة إذا اختمر الطّيب،أي وجد طيبه.

و الشّارب يصيبه خمرة،و قد خمر و خمر.

و خمرت العجين و الطّيب:تركته حتّى يجود.

و اختمرت المرأة بالخمار.

و الخمرة:الاختمار،و هما مصدران.

و المختمرة من الضّأن:السّوداء و رأسها أبيض، و من المعز أيضا.

و أخمره البيت:ستره،و خمرت البيت أي سترته.

و الخميرة:فتاق الخمير.

و خامره الدّاء:خالط جوفه.

و خمّرت الإناء:غطّيته،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

«خمّروا شرابكم و لو بعود».

و في الحديث:«لا تجد المؤمن إلاّ في إحدى ثلاث:

في مسجد يعمره،أو بيت يستره (1)أو معيشة يدبّرها».

و المستخمر:الشّرّيب،هذليّة.

و دخل في غمار النّاس و خمارهم،و دخل في

ص: 795


1- الظّاهر:«أو بيت يخمّره»،بمعنى يستره.كما ذكره الخطّابيّ و كتب الحديث.

خمار النّاس و خمرهم،أي جماعتهم فخفي فيهم.

و الخمر:وهدة يختفي فيها الذّئب.

و الخمرة:شىء منسوج مثل السّعف أصغر من المصلّى.

و استخمرت فلانا:استعبدته.

و خمرت الدّابّة أخمرها:أسقيتها خمرا.

و الخمر:أن تخرز ناحيتا أديم المزادة،ثمّ يعلّى بخرز آخر،فذاك الخمر.[و استشهد بالشّعر 3 مرّات]

(4:262)

اللّيث:الخمر:معروف،و اختمارها:إدراكها و غليانها.

خمرت العجين و الطّيب خمرة،كخمر يخمر.

(الأزهريّ 7:374)

معمر بن سليمان:لقيت أعرابيّا و معه عنب، فقلت:ما معك؟قال:خمر.(الهرويّ 2:595)

الكسائيّ: خمرت العجين و فطرته،و هي الخمرة:للّذي يجعل في العجين يسمّيه النّاس:الخمير.

و كذلك خمرة النّبيذ و الطّيب.(الأزهريّ 7:374)

دخلت في خمار النّاس و خمارهم و خمرهم،أي في جماعتهم و كثرتهم.(الأزهريّ 7:379)

ابن شميّل: الخمر:ما واراك من شيء،أو ادّرأت به.

الوهدة:خمر،و الأكمة:خمر،و الجبل:خمر، و الشّجر:خمر،و كلّ ما واراك فهو خمر.

(الأزهريّ 7:377)

أبو عمرو الشّيبانيّ: قال العدويّ،و أبو المسلّم:

هذا الخمر؛فذكّر الخمر.(1:228)

خمرته:استحييت منه.[ثمّ استشهد بشعر)

(1:237)

في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«خمّروا آنيتكم..»التّخمير:

التّغطية.

مثله الأصمعيّ.(أبو عبيد 1:145)

الفرّاء: خمر الرّجل:إذا دخل في الخمر.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:377)

أبو زيد :وجدت منه خمرة الطّيب بفتح الميم، يعني ريحه.(الأزهريّ 7:374)

خامر الرّجل المكان و خمّره،إذا لم يبرحه.

(الأزهريّ 7:375)

النّعجة إذا ابيضّ رأسها من بين جسدها فهي مخمّرة،و رخماء أيضا.(الأزهريّ 7:378)

الأصمعيّ: الخمرة:الاستخفاء.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:377)

اللّحيانيّ: و خبز خمير،و خبزة خمير،كلاهما بغير هاء.(ابن سيده 5:186)

أبو عبيد: فى حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«خمّروا آنيتكم...».التّخمير:التّغطية؛و منه الحديث الآخر:

أنّه أتي بإناء من لبن فقال:«لو لا خمّرته و لو بعود تعرضه.عليه»قال الأصمعيّ:تعرضه،بضمّ الرّاء.

(1:145)

في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنّه كان يسجد على الخمرة»

الخمرة:شيء منسوج يعمل من سعف النّخل و يرمّل بالخيوط،و هو صغير على قدر ما يسجد عليه

ص: 796

المصلّي أو فويق ذلك،فإن عظم حتّى يكفي الرّجل لجسده كلّه في صلاة أو مضجع أو أكثر من ذلك، فحينئذ حصير و ليس بخمرة.(1:167)

قد جاءت في الأشربة آثار كثيرة بأسماء مختلفة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه،و كلّ له تفسير؛فأوّلها:

الخمر،و هي ما غلى من عصير العنب.فهذا ممّا لا اختلاف في تحريمه بين المسلمين،إنّما الاختلاف في غيره.و منها:السّكر،و هو نقيع التّمر الّذي لم تمسّه النّار،و فيه يروى عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال:

«السّكر خمر».و منها:البتع،و هو الّذي جاء فيه الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و هو نبيذ العسل.و منها:الجعة و هو نبيذ الشّعير.و منها:المزر،و هو من الذّرّة...

و عن ابن عمر أنّه فسّر هذه الأشربة الأربعة و زاد:و الخمر من العنب،و السّكر من التّمر.

و منها:السّكركة،و قد روي فيه عن الأشعريّ التّفسير،فقال:إنّه من الذّرّة.

و من الأشربة أيضا:الفضيخ،و هو ما افتضخ من البسر من غير أن تمسّه النّار،و فيه يروى عن ابن عمر:

ليس بالفضيخ و لكنّه الفضوخ.

حدّثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس أنّه قال:نزل تحريم الخمر و ما كانت غير فضيخكم،هذا الّذي تسمّونه الفضيخ.قال:فإن كان مع البسر تمر فهو الّذي يسمّى الخليطين،و كذلك إن كان زبيبا و تمرا فهو مثله.

و من الأشربة:المنصّف،و هو أن يطبخ عصير العنب قبل أن يغلى حتّى يذهب نصفه.و قد بلغني أنّه كان يسكر فإن كان يسكر فهو حرام.و إن طبخ حتّى يذهب ثلثاه و يبقى الثّلث فهو الطّلاء،و إنّما سمّي بذلك،لأنّه شبّه بطلاء الإبل في ثخنه و سواده.و بعض العرب يجعل الطّلاء الخمر بعينها،[ثمّ استشهد بشعر]

و كذلك الباذق،و قد يسمّى به الخمر المطبوخ، و هو الّذي يروى فيه الحديث عن ابن عبّاس أنّه سئل عن الباذق،فقال:سبق محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم الباذق،و ما أسكر فهو حرام.و إنّما قال ابن عبّاس ذلك،لأنّ الباذق كلمة فارسيّة عرّبت فلم نعرفها.

و كذلك البختج أيضا إنّما هو اسم بالفارسيّة عرّب،و هو الّذي يروى فيه الرّخصة.عن إبراهيم أنّه أهدي له بختج،فكان نبيذه و يلقي فيه العكر،و هو الّذي يسمّيه النّاس اليوم:الجمهوريّ،و هو إذا غلي و قد جعل فيه الماء فقد عاد إلى مثل حاله الأولى،و لو كان غلي و هو عصير لم يخالطه الماء،لأنّ السّكر الّذي كان زائله أراه قد عاد إليه،و إنّ الماء الّذي خالطه لا يحلّ حراما.أ لا ترى أنّ عمر إنّما أحلّ الطّلاء حين ذهب سكره و شرّه و حظّ شيطانه،و هكذا يروى عنه.

فإذا عاوده ما كان فارقه فما أغنت عنه النّار و الماء، و هل كان دخولهما هاهنا إلاّ فضلا.

و من الأشربة:نقيع الزّبيب،و هو الّذي يروى فيه عن سعيد بن جبير و غيره:هي الخمر اجتنبها.

و هذا الجمهوريّ عندي شرّ منه،و لكنّه ممّا أحدث النّاس بعد،و ليس ممّا كان في دهر أولئك فيقولون فيه.

و من الأشربة:المقذيّ،و هو شراب من أشربة

ص: 797

أهل الشّام،و زعم الهيثم بن عديّ أنّ عبد الملك بن مروان كان يشربه،و لست أدري من أيّ شيء يعمل، في أنّه يسكر

و منها:شراب،يقال له:المزّاء-ممدود-و قد جاء في بعض الحديث ذكره،و قالت فيه الشّعراء...

و قد أخبرني محمّد بن كثير أنّ لأهل اليمن شرابا، يقال له:الصّعف،و هو أن يشدخ العنب ثمّ يلقى في الأوعية حتّى يغلي،فجهّالهم لا يرونها خمرا لمكان اسمها.

و هذه الأشربة المسمّاة كلّها عندي كناية عن أسماء الخمر،و لا أحسبها إلاّ داخلة في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ ناسا من أمّتي يشربون الخمر باسم يسمّونها به».

و قد بقيت أشربة سوى هذه المسمّاة ليست لها أسماء،منها:نبيذ الزّبيب بالعسل،و نبيذ الحنطة،و نبيذ التّين،و طبيخ الدّبس و هو عصير التّمر.فهذه كلّها عندي لاحقة بتلك المسمّاة في الكراهة و إن لم تكن سمّيت،لأنّها كلّها تعمل عملا واحدا في السّكر،و اللّه أعلم بذلك.

و ممّا يبيّنه قول عمر بن الخطّاب:«الخمر ما خامر العقل».

و قد أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد اللّه بن المبارك أنّ رجلا صلّى و في ثوبه من النّبيذ المسكر قدر الدّرهم أو أكثر:أنّه يعيد الصّلاة.(1:302)

و في حديث معاذ:«من استخمر قوما أوّلهم أحرار و جيران مستضعفون...».

كان عبد اللّه بن المبارك يقول:استخمر:استعبد.

و قال محمّد بن كثير:هذا كلام عندنا معروف باليمن لا يكاد يتكلّم بغيره،يقول الرّجل:أخمرني كذا و كذا، أي أعطيه وهبه لي،ملّكني إيّاه،و نحو هذا.

فيقول معاذ:من استخمر قوما،يقول:أخذهم قهرا و تملّكا عليهم،و هذا كقول ابن المبارك:

استعبدهم.يقول:فما وهب الملك من هؤلاء لرجل فقصره الرّجل في بيته حتّى جاء الإسلام و هو عنده، فهو له،و ما كان مهملا يعطي الخراج يعني الضّريبة فهو حرّ.(2:242)

ابن الأعرابيّ: تخمّرت أطناننا:أي طابت روائح أبداننا بالبخور.الخامر:الّذي يكتم شهادته

رجل خمر،أي مخامر.[ثمّ استشهد بشعر]

(الأزهريّ 7:376)

من طارق يأتي على خمرة

أو حبّة تنفع من يعتبر

على خمرة:على غفلة.(الأزهريّ 7:377)

المخامرة:أن يبيع الرّجل غلاما حرّا على أنّه عبده.(الأزهريّ 7:378)

سمّيت الخمر خمرا لأنّها تركت فاختمرت، و اختمارها:تغيّر ريحها.(الجوهريّ 2:649)

و مكان خمر:كثير الخمر؛على النّسب.[ثمّ استشهد بشعر](ابن سيده 5:187)

و أخمر الشّيء:أغفله.(ابن سيده 5:188)

ابن السّكّيت: دخل في غمرة النّاس،و خمر النّاس«أي جماعتهم و كثرتهم.(37)

ص: 798

و يقال:قد خمرت العجين أخمره خمرا،إذا جعلت فيه الخمير.و قد خمر عنّي شهادته،إذا كتمها.

و قد خمر عنّي يخمر خمرا،إذا توارى عنك.

(إصلاح المنطق:205)

و خمّير:كثير الشّرب للخمر.

(إصلاح المنطق:219)

و يقال:توارى الصّيد منّي في ضراء الوادي:

و هو شجره،و توارى في خمر الوادي،و خمره:ما واراه من جرف،أو حبل من حبال الرّمل،أو شجر،أو شيء منه.

و منه قيل:دخل في خمار النّاس،أي فيما يواريه و يستره منهم.

و يقال للرّجل إذا ختل صاحبه:هو يدبّ له الضّراء و يمشي له الخمر.

و يقال:مكان خمر،إذا كان كثير الخمر.

(إصلاح المنطق:408)

و في أمثال العرب:«خامري أمّ عامر».

و معنى خامري:ادخلي الخمرة،و هو ما واراك من الشّجر.(الأزهريّ 7:375)

خمرت العجين أخمره خمرا:إذا جعلت فيه الخميرة.و قد خمر شهادته:إذا كتمها.

و قد خمر عنّي يخمر خمرا،إذا توارى.

(الأزهريّ 7:377)

شمر:الدّاء المخامر:المخالط،خامره الدّاء،إذا خالطه.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 7:376)

يقال:دخلت في غمرتهم و خمرتهم،أي جماعتهم.(الأزهريّ 7:379)

الدّينوريّ: زعم بعض الرّواة أنّه رأى يمانيّا قد حمل عنبا،فقال له:ما تحمل؟فقال:خمرا،فسمّى العنب خمرا.(ابن سيده 5:185)

ثعلب :و الخمرّ بكسر الخاء و الميم و شدّ الرّاء:

لغة في الخمار.[ثمّ استشهد بشعر](ابن سيده 5:187)

كراع النّمل:و امرأة طيّبة الخمرة بالطّيب.

(ابن سيده 5:186)

الطّبريّ: و الخمر:كلّ شراب خمّر العقل فستره و غطّى عليه،و هو من قول القائل:خمرت الإناء إذا غطّيته.

و خمر الرّجل إذا دخل في الخمر.و يقال:«هو في خمار النّاس و غمارهم»يراد به دخل في عرض النّاس.

و يقال للضّبع:«خامري أمّ عامر»أي استتري.

و ما خامر العقل من داء و سكر فخالطه و غمره فهو خمر؛و من ذلك أيضا«خمار المرأة»،و ذلك لأنّها تستر به رأسها فتغطّيه.و منه يقال:«هو يمشي لك الخمر»أي مستخفيا.[ثمّ استشهد بشعر](2:369)

مثله الماورديّ.(1:276)

الزّجّاج: و تأويل الخمر في اللّغة:أنّه كلّ ما ستر العقل.يقال لكلّ ما ستر الإنسان من شجر و غيره:

خمر،و ما ستره من شجر خاصّة:ضرى،«مقصور».

و يقال:دخل فلان في خمار،أي في الكثير الّذي يستتر فيه.

و خمار المرأة:قناعها،و إنّما قيل له:خمار،لأنّه

ص: 799

يغطّي.

و الخمرة:الّتي يسجد عليها،و إنّما سمّيت بذلك، لأنّها تستر الوجه عن الأرض.

و قيل للعجين:قد اختمر،لأنّ فطرته قد غطّاها الخمر (1)،أعني الاختمار يقال قد اختمر العجين و خمّرته،و فطرته و أفطرته فهذا كلّه يدلّ على أنّ كلّ مسكر خمر و كلّ مسكر مخالط العقل و مغطّ عليه، و ليس يقول أحد للشّارب إلاّ:مخمور من كلّ سكر و به خمار،فهذا بيّن واضح.(1:291)

نحوه النّحّاس(1:173)،و الشّوكانيّ(1:287).

ابن دريد :و الخمر معروفة،و إنّما سمّيت خمرا، لأنّها تخامر العقل زعموا،أي تخالطه و تداخله،من قولهم:خامره الحزن مخامرة،و المخامرة:المقارنة.

و مثل من أمثالهم:«خامري أمّ عامر»،يقال ذلك للضّبع حتّى تخرج إلى من يصيدها تخدع.

و كلّ إناء صببت فيه شيئا و تركته حتّى يتغيّر طعمه فقد خمّرته تخميرا.و قال بعض أهل اللّغة:

تخميره:تغطيتك إيّاه.[ثمّ استشهد بشعر]

و الخمار:ما يصيب شارب الخمر من الفترة.

و إنّما سمّي خمارا لأنّه شبّه بالدّاء،فأخرج على أصله مثل الصّداع و الزّكام و ما أشبهه.

و دخلت في خمار النّاس و في غمارهم.

و الخمرة:ورس و أشياء من الطّيب،تطليه المرأة على وجهها ليحسن لونها.

يقال:تخمّرت المرأة تخمّرا.و قالوا:الخمرة هي الغمرة،و هي الأصل.

و الخمار:المقنعة و نحوها؛و إنّها لحسنة الخمرة.

و اختمرت،إذا تقنّعت بالخمار.

و مثل من أمثالهم:«إنّ العوان لا تعلّم الخمرة».

و الخمّار:بيّاع الخمر،و رجل خمّير:مدمن للخمر.

و الخمر:ما واراك من شجر.و يقال:أخمر القوم، إذا تواروا في الشّجر،و كذلك أخمر الذّئب،إذا توارى في موضع فيه شجر.

و فرس مخمّر،إذا ابيضّ رأسه و سائره من أيّ لون كان.

و قد سمّت العرب مخمرا و خميرا.

و الخمرة:شبيهة بالسّجّادة الصّغيرة.و في الحديث:

«أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يسجد على الخمرة»،و كذا فسّر في الحديث،و اللّه أعلم.(2:213)

و أخمرت الشّهادة و خمّرتها،إذا كتمتها.

(3:436)

و تقول العرب:أخرج الرّجل من سرّ خميره سرّا، أي باح.و اجعله في سرّ خميرك،أي اكتمه.(3:466)

القاليّ: الخمر:ما واراك من الشّجر و غيره.

(2:170)

الأزهريّ: [قيل:]خميرة اللّبن:روبته الّتي تصبّ عليه ليروب سريعا رءوبا.(7:375)

و الخمار:ما تغطّي به المرأة رأسها،و قد تخمّرت بالخمار،و هي حسنة الخمرة.ر.

ص: 800


1- الظّاهر:التّخمّر.

[قيل:]أخمر فلان عليّ ظنّة،أي أضمرها.[ثمّ استشهد بشعر](7:379)

و من أمثالهم:«ما فلان بخلّ و لا خمر»أي ما عنده خير و لا شرّ.(7:380)

الصّاحب:[نحو الخليل و أضاف:]

و خمرت العجين و الطّين أخمره و أخمره خمرا:

و هو أن تتركه فلا تستعمله حتّى يجود.

و أتانا بأطعمة خمرى:من الخمير.

و ما شمّ خمارك،أي ما سبعك.

و المخمّرة من الضّأن:سوداء و رأسها أبيض.

و الخمر:الّذي خامر عقله جهل.

و أخمرني كذا أي ملّكني إيّاه.

و خمرته أخمره:استحييت منه.

و الخمر:وهدة يختفي بها السّبع.و يقولون:دبّ له الخمر.

و خمرت الإبل في الخمر،و أخمرتها أنا:غيّبتها فيه.

و خمّر اللّبن:ركبته رغوة.

و المخمر:مزود أو جفنة للعجين.

و خمر عليّ الخبر،أي خفي.

و خمر عنّي:توارى و خفي.

و يقولون:«اجعله في سرّ خميرة»أي حيث لا يقدر عليه أحد.

و أخمرت الشّهادة:كتمتها.

و خامر الرّجل المكان،و خمر،إذا لم يبرحه.و منه قولهم:«خامري أمّ عامر»أي خالطي.(4:340)

الخطّابيّ: في حديث:«...فابغنا مكانا خمرا...».

الخمر:ما واراك من الشّجر،و مكان خمر،أي أشب.(1:413)

في حديث عمر أنّه قال:«إنّ سمرة بن جندب باع خمرا،قاتل اللّه سمرة،أ لم يعلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشّحوم فجملوها فباعوها».

ذكره أبو عبيد في كتابه،و اقتصر على تفسير اللّفظ،و لم يعرض للمعنى،و هو عندي ممّا لا يجوز جهله.

و وجه ذلك،-و اللّه أعلم-أنّه نقم على سمرة بيع العصير ممّن يتّخذه خمرا،لما يروى من الكراهية في ذلك،و لا يجوز عليه-و هو رجل من الصّحابة-أن يستحلّ بيع الخمر بعينها،أو يجهل تحريمه،مع الاستفاضة و الشّهرة في علم ذلك.و قد يلزم«العصير »اسم الخمر مجازا،لأنّه يؤول خمرا،و منه قول اللّه تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً يوسف:36،يريد، و اللّه-أعلم-عنبا يؤول إلى خمر.[إلى أن قال:]

و فيه وجه آخر:و هو أن يكون سمرة باع خمرا قد كان عالجها فصارت خلاّ،فرآه عمر خمرا لا يحلّ بيعه، على معنى نهيه صلّى اللّه عليه عن تحليل الخمر،يدلّ على صحّة هذا التّأويل تمثيل عمر فعله بفعل اليهود في اجتمالهم ثروب الشّحم و إذابتهم لها حتّى يكون ودكا،متوهّمين أنّها إذا خرجت عن أن يلزمها اسم الأصل،خرجت عن أن يلزمها حكم الأصل.تقول:

فكما لم يكن فعل اليهود مزيلا لحرمتها،كذلك فعل

ص: 801

سمرة في تحليل الخمر لا يكون مبيحا لبيعها.فهذا موضع المضاهاة لفعل اليهود،و اللّه أعلم.(2:84)

في حديث معاذ،أنّ عائذ اللّه بن عمرو قال:دخلت المسجد يوما مع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أخمر ما كانوا أو أجمر ما كانوا...».

قوله:أخمر و أجمر كلاهما متقاربان،و المعني:

أوفر ما كانوا و أكثرهم عددا،إلاّ أنّ أخمر بالخاء أحسنهما،و هو مأخوذ من قول الرّجل:دخلت في خمار النّاس،أي في دهمائهم و جماعتهم.

و الخمر:كلّ ما واراك و سترك من شجرة و غيره، و لهذا المعنى سمّيت الخمر؛و ذلك لأنّها تخمّر في إنائها،أي تغطّى.و يقال:إنّما سمّيت خمرا لأنّها تخمّر عقل شاربها،أي تستره و تغطّيه.(2:312)

في حديث سلمان:«...و طير السّماء على أرفه خمر الأرض تقع»الخمر:كلّ ما واراك و سترك من شجر و غيره.و يقال في الرّجل الذّليل:إنّه لا يدبّ إلاّ في خمر،و لا يشرب إلاّ من كدر.و إنّما أريد به الشّجر هاهنا،لأنّه مأوى الطّير و مسقطه،و هذا مثل ضربه، يريد به الاعتذار إليه،يقول:مقامي في وطني أرفق بي.

(2:355)

و في الحديث:«لا تجد المؤمن إلاّ في إحدى ثلاث:

في مسجد يعمره،أو بيت يخمّره،أو معيشة يدبّرها» أي يستره و يصلح من شأنه.(3:203)

الجوهريّ: خمرة و خمر و خمور،مثل تمرة و تمر و تمور.يقال:خمرة صرف...

و يقال:سمّيت بذلك لمخامرتها العقل.

و ما عند فلان خلّ و لا خمر،أي خير و لا شرّ.

و الخمّير:الدّائم الشّرب للخمر.

و الخمار:بقيّة السّكر.تقول منه:رجل خمر،أي في عقب خمار.و يقال:هو الّذي خامره الدّاء.

و خمر عنّي الخبر،أي خفي.

و المخمور:الّذي به خمار.

و الخمرة بالضّمّ:سجّادة تعمل من سعف النّخل و ترمل بالخيوط.

و الخمرة:لغة في الغمرة:شيء يتطلّى به لتحسين اللّون.

و خمرة النّبيذ و الطّيب:ما يجعل فيه من الخمر و الدّرديّ.

و خمرة العجين:ما يجعل فيه من الخميرة.

و يقال:دخل في خمار النّاس و خمارهم:لغة في غمار النّاس و غمارهم،أي في زحمتهم و جماعتهم و كثرتهم.

و الخمار للمرأة.تقول منه:اختمرت المرأة و إنّها لحسنة الخمرة.

و في المثل:«إنّ العوان لا تعلّم الخمرة (1)».

و الخمر بالتّحريك:ما واراك من شيء.يقال توارى الصّيد منّي في خمر الوادي.

و أخمرت الأرض:أي كثر خمرها.

و أخمرت الشّيء:أضمرته.

و خمر النّاس:زحمتهم،مثل خمارهم.ف.

ص: 802


1- يضرب للمجرّب العارف.

و يقال أيضا:وجدت خمرة الطّيب،أي ريحه.

و قد خمر عنّي فلان بالكسر يخمر،إذا توارى عنك.

و مكان خمر،إذا كان كثير الخمر.

و الخمير و الخميرة:الّذي يجعل في العجين.

تقول:خمرت العجين أخمره و أخمره خمرا:جعلت فيه الخميرة.يقال:عندي خبز خمير،و حيس فطير أي خبز بائت.

و خمر فلان شهادته،أي كتمها.

و التّخمير:التّغطية.يقال:خمّر وجهك،و خمّر إناءك.

و المخمّرة:الشّاة يبيضّ رأسها و يسودّ سائر جسدها،مثل الرّخماء.

و المخامرة:المخالطة.

و خامر الرّجل المكان،أي لزمه.

و يقال للضّبع:«خامري أمّ عامر»أي استتري.

و استخمر فلان فلانا،أي استعبده.و منه حديث معاذ[و قد سبق عن أبي عبيدة]

و باخمراء:موضع بالبادية،و بها قبر إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.[و استشهد بالشّعر مرّتين](2:649)

نحوه ملخّصا الرّازيّ.(208)

ابن فارس: الخاء و الميم و الرّاء أصل واحد يدلّ على سكون التّغطية و المخالطة في ستر.فالخمر:

الشّراب المعروف.[ثمّ ذكر بعض قول الخليل و قال:]

و«فلان يدبّ لفلان الخمر»و ذلك كناية عن الاغتيال.و أصله ما وارى الإنسان من شجر.

و الخمار:خمار المرأة.و امرأة حسنة الخمرة،أي لبس الخمار.و في المثل:«العوان لا تعلّم الخمرة».

و التّخمير:التّغطية.

و يقال في القوم إذا تواروا في خمر الشّجر:قد أخمروا.

فأمّا قولهم:«ما عند فلان خلّ و لا خمر»فهو يجري مجرى المثل،كأنّهم أرادوا:ليس عنده خير و لا شرّ.

فأمّا المخمّرة من الشّاء:فهي الّتي يبيضّ رأسها من بين جسدها،و هو قياس الباب،لأنّ ذلك البياض الّذي برأسها مشبّه بخمار المرأة.

و يقال:خامره الدّاء،إذا خالط جوفه.[و ذكر قول الخليل و زاد:]

و المخامرة:المقاربة

و في المثل:«خامري أمّ عامر»،و هي الضّبع.

و الخمرة:شيء من الطّيب تطلي به المرأة على وجهها ليحسن به لونها.

و الخمرة:السّجّادة الصّغيرة.و في الحديث:«أنّه كان يسجد على الخمرة».

و ممّا شذّ عن هذا الأصل«الاستخمار»،و هو الاستعباد.يقال:استخمرت فلانا،إذا استعبدته.و هو في حديث معاذ:«من استخمر قوما»،أي استعبدهم [و استشهد بالشّعر 5 مرّات](2:215)

الهرويّ: قوله: أَعْصِرُ خَمْراً يوسف:36،قال أهل اللّغة:الخمر في لغة عمان:اسم للعنب،فكأنّه

ص: 803

قال:إنّي أعصر عنبا.[ثمّ استشهد بشعر]

الخمر:ما خامر العقل أي خالطه،و خمر العقل، أي ستره،و هو المسكر من الشّراب.

و الخمر بفتح الميم:ما سترك من شجر أو بناء أو غيره،يقال:هو يمشي له الخمر.

و منه حديث سهل بن حنيف قال:«انطلقت أنا و فلان نلتمس الخمر».

و في حديث آخر:«فابغنا مكانا خمرا»أي أشجارا.

و في الحديث:«أو بيت يخمّره أي يستره».

و في الحديث:«و دخلت عليه المسجد،و النّاس أخمر ما كانوا»أي أوفى ما كانوا.يقال:رجل في خمار النّاس،أي في دهمائهم.و من رواه«أجمر» بالجيم،أي أجمع ما كانوا،يقال:تخمّر القوم،و تخمّروا، أي تجمّعوا.(2:594)

ابن سيده: خامر الشّيء الشّيء:قاربه و خالطه.

و رجل خمر:خامره داء.و أراه على النّسب.

و الخمر:ما أسكر من عصير العنب،لأنّها خامرت العقل.

قال أبو حنيفة:قد تكون الخمر من الحبوب.

فجعل الخمر من الحبوب.و أظنّه تسمّحا منه،لانّ حقيقة الخمر إنّما هي للعنب دون سائر الأشياء.

و الأعرف في الخمر التّأنيث،و قد تذكّر،و العرب تسمّي العنب خمرا،و أظنّ ذلك لكونها منه،حكاه أبو حنيفة.قال:و هي لغة يمانيّة،و قال في قوله تعالى:

إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً يوسف:36،إنّ الخمر هنا:

العنب،و أراه سمّاها باسم ما فى الإمكان أن تؤول إليه،و العرب كثيرا ما تسمّي الشّيء باسم ما يؤول إليه.

و الجمع:خمور،و هي الخمرة.

و المخمّر:متّخذ الخمر.

و خمر الرّجل و الدّابّة،يخمره خمرا:سقاه الخمر.

و الخمّار:بائعها.

و عنب خمريّ: يصلح للخمر.

و لون خمريّ: يشبه لون الخمر.

و اختمار الخمر:إدراكها و غليانها.

و خمرتها،و خمارها:ما خالط من سكرها.

و قيل:خمرتها،و خمارها:ما أصابك من ألمها و صداعها و أذاها.

و رجل مخمور:أصابه ذلك،و قد خمر خمرا، و خمر.

و رجل مخمّر،كمخمور.

و تخمّر بالخمر:تسكّر به.

و مستخمر،و خمّير:شرّيب للخمر دائما.

و ما فلان بخلّ و لا خمر،أي لا خير فيه و لا شرّ عنده.

و الخمرة،و الخمرة:ما خامرك من الرّيح، و قد خمرته.

و قيل:الخمرة و الخمرة:الرّائحة الطّيّبة.

و خمر العجين و الطّيب و نحوهما،يخمره و يخمره خمرا،و هو خمير؛و خمّره:ترك استعماله حتّى يجود.

ص: 804

و قد اختمر الطّيب و العجين.

و اسم ما خمر به:الخمرة.

و طعام خمير،و مخمور في أطعمة خمرى.

و الخمير و الخميرة:الخمرة.

و خمرة النّبيذ:عكره.

و خامر الرّجل بيته،و خمّره:لزمه فلم يبرحه.

و خمر الشّيء يخمره خمرا،و أخمره:ستره.

و خمر شهادته،و أخمرها:كتمها.

و أخرج من سرّ خميره سرّا،أي باح به.

و اجعله في سرّ خميرك،أي اكتمه.

و الخمر:ما واراك من الشّجر و الجبال و نحوهما.

و قد خمر عنّي خمرا،فهو خمر،أي خفي و توارى.

و أخمرته الأرض عنّي،و منّي،و عليّ: وارته.

و أخمر القوم:تواروا بالخمر.

و خمر النّاس،و خمرتهم،و خمارهم، و خمارهم:جماعتهم و كثرتهم.

و الخمار:النّصيف؛و جمعه:أخمرة،و خمر، و خمر.

و الخمرة:من الخمار،كاللّحفة:من اللّحاف.و في المثل:إنّ العوان لا تعلّم الخمرة.

و تخمّرت بالخمار،و اختمرت:لبسته.

و خمّرت به رأسها:غطّته.

و كلّ مغطّى:مخمّر.

و المخمّرة من الشّياه:البيضاء الرّأس،و قيل:هي النّعجة السّوداء و رأسها أبيض؛مشتقّ من خمار المرأة.

و فرس مخمّر:أبيض الرّأس و سائر لونه ما كان.

و يقال:ما شمّ خمارك؟أي ما أصابك؟يقال ذلك للرّجل إذا تغيّر عمّا كان عليه.

و خمر عليه خمرا،و أخمر:حقد.

و خمر الرّجل يخمره:استحيا منه.

و الخمر:أن تخرز ناحيتا المزادة ثمّ تعلّى بخرز آخر.

و الخمرة:حصيرة تنسج من السّعف أصغر من المصلّى.

و قيل:الخمرة:الحصير الصّغير الّذي يسجد عليه.

و الخمرة:الورس و أشياء من الطّيب تطلي به المرأة وجهها ليحسن لونها و قد تخمّرت.

و الخمرة:بزر الكعابر الّتي تكون في عيدان الشّجر.و استخمر الرّجل:استعبده.

و أخمره الشّيء:أعطاه إيّاه أو ملّكه.

و اليخمور:الأجوف المضطرب من كلّ شيء.

و اليخمور،أيضا:الودع؛واحدته:يخمورة.

و مخمر،و خمير:اسمان.

و ذو الخمار:اسم فرس الزّبير بن العوامّ،شهد عليه يوم الجمل.[و استشهد بالشّعر 3 مرّات]

(5:185)

الطّوسيّ: و أمّا اشتقاقه في اللّغة:تقول:خمرت الدّابّة أخمرها خمرا،إذا سقيتها الخمر،و خمرت العجين و الطّين أخمره خمرا:إذا تركته فلم تستعمله حتّى يجود.

ص: 805

و أخمر القوم إخمارا،إذا تواروا في الشّجر.

و يقال لما سترك من شجر:خمرى،مقصورا.

و اختمرت المرأة،و خمرت إذا لبست الخمار، و هي المقنعة.

و خامره الحزن مخامرة،إذا خلطه.

و خمّر الإناء و غيره تخمّرا (1)،إذا غطّيته.

و استخمرت فلانا:إذا استعبدته.

و الخمار:بخار يعقبه شرب الخمر.

و المخامرة:المقاربة.

و الخمر:ما واراك من الشّجر،و غيره.

و الخمر:شبيه بالسّجّادة.

و المخمّرة من الغنم:سوداء و رأسها أبيض.

و دخل في خمار النّاس،إذا دخل في جماعة، فخفي فيهم.

و أصل الباب السّتر.(2:212)

نحوه ملخّصا الطّبرسيّ.(1:315)

الخمر:عصير العنب المشتدّ،و هو العصير الّذي يسكر كثيره و قليله.

و الخمر حرام،و تسمّى خمرا؛لأنّها بالسّكر تغطّي على العقل.

و الأصل في الباب:التّغطية،من قول أهل اللّغة:

خمّرت الإناء،إذا غطّيته.و منه:دخل في خمار النّاس، إذا خفي فيما بينهم بسترهم له.

و الخمير:العجين الّذي يغطّى حتّى يختمر، و خمار المرأة،لأنّها تغطّي رأسها به.

و خامره الحزن،إذا خالطه منتشرا في قلبه.

و استخمرت فلانا أي استعبدته.و الأصل فيه:

أمرته أن يتّخذ الخمر،ثمّ كثر حتّى جرى في كلّ شيء يأمر به.

و على هذا الاشتقاق يجب أن يسمّى النّبيذ و كلّ مسكر على اختلاف أنواعه:خمرا،لاشتراكها في المعنى،و أن يجري عليها أجمع جميع أحكام الخمر.(4:17)

الرّاغب: أصل الخمر:ستر الشّيء،و يقال لما يستر به:خمار.لكنّ الخمار صار في التّعارف اسما لما تغطّي به المرأة رأسها؛و جمعه:خمر،قال تعالى:

وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ النّور:31.

و اختمرت المرأة و تخمّرت،و خمّرت الإناء:

غطّيته،و روي:«خمّروا آنيتكم».

و أخمرت العجين:جعلت فيه الخمير.و الخميرة سمّيت،لكونها مخمورة من قبل.

و دخل في خمار النّاس،أي في جماعتهم السّاترة لهم.و الخمر سمّيت لكونها خامرة لمقرّ العقل،و هو عند بعض النّاس اسم لكلّ مسكر.و عند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب و التّمر،لما روي عنه صلّى اللّه عليه و سلّم:«الخمر من هاتين الشّجرتين:النّخلة و العنبة»،و منهم من جعلها اسما لغير المطبوخ.ثمّ كمّيّة الطّبخ الّتي تسقط عنه اسم الخمر مختلف فيها.

و الخمار:الدّاء العارض من الخمر،و جعل بناؤه بناء الأدواء كالزّكام و السّعال.

و خمرة الطّيب:ريحه.س.

ص: 806


1- هكذا في الأصل و الصّواب:تخميرا..و هو القياس.

و خامره و خمره:خالطه،و لزمه،و عنه استعير:

«خامري أمّ عامر».(159)

الزّمخشريّ: خامر الماء اللّبن:خالطه.

و خمّرتها:ألبستها الخمار،فتخمّرت و اختمرت، و هي حسنة الخمرة.و خمرت العجين و النّبيذ فاختمر.و جعل فيه الخمرة و الخمير و الخميرة.

و وجدت خمرة الطّيب:رائحته.

و سارّه فخمر أنفه.

و صلّى على الخمرة،و هي سجّادة صغيرة.

و من المجاز:خامرت فلانا:خالطته.

و خامرت المكان:لم أبرحه.

و خمر شهادته:كتمها.

و شاة مخمّرة:بيضاء الرّأس.

و اجعل هذا السّرّ في سرّ خميرك،أي استره.

(أساس البلاغة:120)

«كان صلّى اللّه عليه و سلّم:يسجد على الخمرة».هي السّجّادة الصّغيرة من الحصير،لأنّها مرملة مخمّرة خيوطها بسعفها.(الفائق 1:395)

في حديث:«من استخمر قوما أوّلهم أحرار و جيران مستضعفون...».استخمر:استعبد و تملّك، و أخمرني كذا:ملّكنيه،كلمة يمانيّة.

يعني إذا استعبد الرّجل في الجاهليّة قوما بني أحرار،و قوما استجاروا به،فاستضعفهم و استعبدهم.

فإنّ من قصره،أي من احتبسه و اختاره منهم في بيته، و استجرأه في خدمته،إلى أن جاء الإسلام،فهو عبد له،و من لم يحتبسه،و كان مهملا،قد ضرب عليه الخراج،-و هو الضّريبة،-فهو حرّ بمجيء الإسلام.(الفائق 1:397)

[في حديث]:«...أخمر ما كانوا...».[و ذكر حديث معاذ و قد سبق]

أي أكثر ما كانوا و أوفر.و حقيقته:أستر ما كانوا، من خمر شهادته يخمرها،و يخمرها،أي ستروا بدهمائهم أرض المسجد.

و روي بالجيم،من:أجمر القوم،إذا اجتمعوا.

(الفائق 1:398)

[في حديث]سلمان رضي اللّه عنه:«...و طير السّماء على أرفه خمر الأرض يقع»و روي:أرفه خمر الأرض.

الخمر:ما واراك من شجر،يريد أنّ وطنه أرفق به و أرفه،له فلا يفارقه.(الفائق 2:73)

و في حديث:«...فابغنا مكانا خمرا...».يقال:

مكان خمر،أي ذو خمر كثير،و قد خمر المكان؛ و خمر في الخمر:توارى فيه.(الفائق 2:153)

المدينيّ: في حديث قيس الأرحبيّ:«ملّكه على عربهم و خمورهم».أي أهل القرى،و لعلّه من قولهم:استخمرته،أي أخذته قهرا،و أخمرني كذا،أي أعطنيه و ملّكنيه،على لغة أهل اليمن،لأنّ أهل القرى مغلوبون مغمورون،لما عليه من الخراج و المؤن، و لكونهم مقيمين،لا يستطيعون البراح.

في الحديث:«أنّه كان يمسح على الخفّ و الخمار».

قال حميد بن الطّويل:يعني العمامة.

و لعلّ ذلك،لأنّ الرّجل يغطّي رأسه بها،كما أنّ

ص: 807

المرأة تغطّيه بخمارها.و هذا إذا كان قد اعتمّ عمّة العرب،فأدارها تحت الحنك فلا يستطيع نزعها في كلّ وقت،فتصير كالخفّين غير أنّه يحتاج إلى مسح القليل من الرّأس،ثمّ يمسح على العمامة بدل الاستيعاب.

في حديث عمرو لمعاوية:«ما أشبه عينك بخمرة هند».أي هيئة الاختمار.(1:617)

ابن الأثير: منه حديث سهل بن حنيف:

«انطلقت أنا و فلان نلتمس الخمر».الخمر بالتّحريك:كلّ ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.

و منه حديث الدّجّال:«حتّى ينتهوا إلى جبل الخمر».هكذا يروى بالفتح،يعني الشّجر الملتفّ، و فسّر في الحديث أنّه جبل بيت المقدس لكثرة شجره.

و منه حديث أويس القرنيّ: «أكون في خمار النّاس»أي في زحمتهم حيث أخفى و لا أعرف.

و في حديث أمّ سلمة:«قال لها و هي حائض:

ناوليني الخمرة»و هي مقدار ما يضع الرّجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص،و نحوه من النّبات.و لا تكون خمرة إلاّ في هذا المقدار، و سمّيت خمرة،لأنّ خيوطها مستورة بسعفها،و قد تكرّرت في الحديث؛هكذا فسّرت.

و قد جاء في سنن أبي داود عن ابن عبّاس،قال:

جاءت فأرة فأخذت تجرّ الفتيلة،فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على الخمرة الّتي كان قاعدا عليها،فأحرقت منها مثل موضع درهم.و هذا صريح في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها.

و في المثل:«إنّ العوان لا تعلّم الخمرة»أي المرأة المجرّبة لا تعلّم كيف تفعل.[و فيه أحاديث أخرى فلاحظ](2:77)

الفيّوميّ: الخمار:ثوب تغطّي به المرأة رأسها؛ و الجمع:خمر،مثل كتاب و كتب.

و اختمرت المرأة و تخمّرت:لبست الخمار.

و الخمر معروفة تذكّر و تؤنّث،فيقال:هو الخمر و هي الخمر،و قال الأصمعيّ: الخمر أنثى،و أنكر التّذكير.

و يجوز دخول الهاء،فيقال:الخمرة،على أنّها قطعة من الخمر،كما يقال:كنّا في لحمة و نبيذة و عسلة،أي في قطعة من كلّ شيء منها.

و يجمع الخمر على الخمور،مثل:فلس و فلوس.

و يقال:هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل،أي غطّاه.

و اختمرت الخمر:أدركت و غلت.

و خمّرت الشّيء تخميرا:غطّيته و سترته.

و الخمرة وزان غرفة:حصير صغيرة،قدر ما يسجد عليه.

و خمرت العجين خمرا،من باب«قتل»:جعلت فيه الخمير،و خمر الرّجل شهادته:كتمها.(181)

الفيروزآباديّ: الخمر:ما أسكر من عصير العنب،أو عامّ كالخمرة،و قد يذكّر.و العموم أصحّ، لأنّها حرّمت،و ما بالمدينة خمر عنب،و ما كان شرابهم إلاّ البسر و التّمر.

سمّيت خمرا،لأنّها تخمر العقل و تستره،أو لأنّها تركت حتّى أدركت و اختمرت،أو لأنّها تخامر

ص: 808

العقل،أي تخالطه.و العنب،و السّتر،و الكتم، كالإخمار،و سقي الخمر،و الاستحياء،و ترك العجين و الطّين و نحوه حتّى يجود كالتّخمير.

و الفعل،كضرب و نصر،و هو خمير،و قد اختمر.

و بالكسر:الغمر،و بالتّحريك:ما واراك من شجر و غيره،و جبل بالقدس.

و خمر،كفرح:توارى،كأخمر.

و أخمرته الأرض عنّي و منّي و عليّ: وارته، و جماعة النّاس و كثرتهم،كخمرتهم و خمارهم، و يضمّ،و التّغيّر عمّا كان عليه،و أن تخرز ناحية المزادة،و تعلّى بخرز آخر.

و ككتف:المكان الكثير الخمر.

و الخمرة،بالضّمّ:ما خمر فيه كالخمير و الخميرة، و عكر النّبيذ،و حصيرة صغيرة من السّعف، و الورس،و أشياء من الطّيب تطّلي بها المرأة لتحسّن وجهها.

و ما خامرك،أي خالطك من الرّيح كالخمرة، محرّكة،و الرّائحة الطّيّبة،-و يثلّث،-و ألم الخمر و صداعها و أذاها كالخمار،أو ما خالط من سكرها.

و المخمّر،كمحدّث:متّخذها.و الخمّار:بائعها.

و اختمارها:إدراكها،و غليانها.

و الخمار،بالكسر:النّصيف،كالخمرّ،كطمرّ،و كلّ ما ستر شيئا فهو خماره؛جمعه:أخمرة و خمر و خمر.

و ما شمّ خمارك؟أي ما غيّرك عن حالك،و ما أصابك؟و الخمرة منه:كاللّحفة من اللّحاف.

و«العوان لا تعلّم الخمرة»يضرب للمجرّب العارف.

و وعاء بزر الكعابر:الّتي تكون في عيدان الشّجر.

و جاءنا على خمرة بالكسر،و خمر،محرّكة:في سرّ و غفلة و خفية.

و تخمّرت به،و اختمرت:لبسته.

و التّخمير:التّغطية.

و المختمرة:الشّاة البيضاء الرّأس،و كذا الفرس.

و أخمر:حقد،و ذحل،و فلانا الشّيء:أعطاه،أو ملّكه إيّاه،و الشّيء:أغفله،و الأمر:أضمره، و الأرض:كثر خمرها،و العجين:خمّره.

و اليخمور:الأجوف المضطرب،و الودع.

و مخمر،كمنبر:اسم.و كزبير:ماء فوق صعدة،...

و ذو مخمر أو مخبر:ابن أخي النّجاشيّ،خدم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.

و ذات الخمار،بالكسر:عين بتهامة.

و ذو الخمار:عوف بن الرّبيع بن ذي الرّمحين،لأنّه قاتل في خمار امرأته،و طعن كثيرين،فإذا سئل واحد:

من طعنك؟قال:ذو الخمار،...

و المخامرة:الإقامة،و لزوم المكان،و أن تبيع حرّا على أنّه عبد،و المقاربة،و المخالطة،و الاستتار.

و منه:«خامري أمّ عامر»،و هي الضّبع،و يقال:

«خامري حضاجر أتاك ما تحاذر»،هكذا وجدناه، و الوجه:خامر،بحذف الياء أو تحاذرين،بإثباتها.

و استخمره:استعبده.و المستخمر:الشّارب.

و تخمر،كتنصر:من أعلامهنّ.

و ما هو بخلّ و لا خمر:لا خير عنده و لا شرّ.

ص: 809

و باخمرى،كسكرى:بلدة قرب الكوفة،بها قبر إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ.

و خمران،بالضّمّ:ناحية بخراسان.(2:23)

الطّريحيّ: الخمر:معروف...و التّخمير:التّغطية و منه:«ركو مخمّر»أي مغطّى.

و الخمر فيما اشتهر بينهم:كلّ شراب مسكر، و لا يختصّ بعصير العنب.

قال في«القاموس»:و العموم أصحّ،لأنّها حرّمت و ما في المدينة خمر،و ما كان شرابهم إلاّ التّمر و البسر،انتهى كلامه.

و يشهد له ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«الخمر من خمسة:العصير من الكرم، و النّقيع من الزّبيب،و البتع من العسل،و المزر من الشّعير،و النّبيذ من التّمر».

و روي في«الكافيّ»بسند صحيح،و كذا في «التّهذيب»بسند صحيح أيضا إلى أبي الحسن الماضي عليه السّلام،قال:«إنّ اللّه لم يحرّم الخمر لاسمها،و لكن حرّمها لعاقبتها،فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر».

قوله: وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ النّور:31،أي مقانعهنّ،جمع خمار،و هي المقنعة،سمّيت بذلك،لأنّ الرّأس يخمّر بها،أي يغطّى.و كلّ شيء غطّيته فقد خمّرته؛و جمع الخمار:خمر،ككتاب و كتب.

و اختمرت المرأة:أي لبست خمارها و غطّت رأسها...

و قد تكرّر في الحديث ذكر الخمرة و السّجود عليها،و هي بالضّمّ سجّادة صغيرة تعمل من سعف النّخل و تزمّل بالخيوط.و في النّهاية هي مقدار ما يضع الرّجل عليه وجهه في سجوده،و لا يكون خمرة إلاّ هذا المقدار.

و منه:«كان أبي يصلّي على الخمرة يضعها على الطّنفسة».

و منه:«السّجود على الأرض فريضة و على الخمرة سنّة».

و خمرة العجين:ما يجعل فيه من الخمرة؛ و الخمير:العجين.

و«الخمر»بالتّحريك:ما واراك من خزف أو جبل أو شجر.

و منه قوله عليه السّلام:«لا تمسك بخمرك و أنت تصلّي» أي لا يستند إليه في صلاتك.

و«دخل في خمار النّاس»أي فيما يواريه و يستره منهم.

و خمّر وجهه بالتّثقيل،أي غطّاه و ستره.

و الخمرة:الخمر،و منه حديث ابن أبي العوجاء لأصحابه:سألتكم تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة...(3:291)

مجمع اللّغة :1-الخمر:الشّراب المسكر،و قد سمّي العنب خمرا لأنّه يؤول إليها.

2-و قد أطلق القرآن كلمة خمر على شراب في الجنّة ليس فيه غول.

3-الخمار:ثوب تغطّي به المرأة رأسها؛و الجمع:

خمر،مثل كتاب و كتب.(1:364)

ص: 810

محمّد إسماعيل إبراهيم:الخمر:كلّ ما يسكر و يخامر العقل،سواء صنع من تخمير العنب أو غيره.

[ثمّ أدام نحو مجمع اللّغة](1:175)

العدنانيّ: هذه الخمر،هذا الخمر

و يخطّئون من يقول:هذا الخمر قديم،و يقولون:

إنّ الصّواب هو:هذه الخمر قديمة،اعتمادا على:

1-قوله تعالى في الآية:15،من سورة محمّد:

وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ، أي لذيذة، و لم يقل:لذّ.

2-و على قول الأصمعيّ الّذي أنكر التّذكير، و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و فقه اللّغة للثّعالبيّ،و المختار.

و لكن:

أجاز تأنيث كلمة الخمر و تذكيرها كلّ من:أدب الكاتب في باب:«ما يذكّر و ما يؤنّث»،و مفردات الرّاغب الأصفهانيّ،و الصّاغانيّ،و اللّسان،و المصباح، و القاموس،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد الّذي جاء فيه:

أ-اختمرت الخمر:غلت و أدركت«لم يقل:غلى و أدرك».

ب-و القطعة منه خمرة«.و لم يقل:«منها».

و الإفصاح في فقه اللّغة في باب:«الخمر»،و المتن، و الوسيط.

و لكنّ التّأنيث أقوى من التّذكير،كما قال الصّاغانيّ،و اللّسان و القاموس،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و المتن،و الوسيط.

أمّا إذا أردنا إدخال التّاء المربوطة على الخمر «الخمرة»،فإنّها لا تكون إلاّ مؤنّثة،فنقول:هذه خمرة،أي قطعة من الخمر.

و تجمع الخمر:على خمور.(205)

المصطفويّ: التّحقيق:أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة،هو السّتر بحيث يكون بطريق الاتّصال و المخالطة،كما أنّ السّتر هو مستعمل غالبا في جهة الخارج.و يغلب على المواراة السّتر حتّى يخفيه، و يغلب على التّغطية السّتر من جهة الباطن،و على الغشي السّتر حتّى يستوليه و يحلّ به.

و الظّاهر أن يكون الخمر في الأصل مصدرا من المجرّد،و الخمار مصدرا من المخامرة.و جهة التّسمية:

أنّ الخمر يستر القوى و الحواسّ الظّاهرة من الإنسان، و ينفذ إلى الباطن،و يغطّي العقل،فجعل اسما لكلّ مسكر يسكر الحواسّ و القوى الإنسانيّة من باطن.

و أمّا الخمار:فإنّه يستر الرّأس،و هو لباس للرّأس و ساتر له.و لمّا كان«فاعل»يدلّ على دوام الفعل،و ستر الرّأس كستر سائر البدن،كان لازما؛ فيعبّر عن لباس الرّأس بالخمار،فصار اسما له كالقميص و غيره.

فخصوصيّة المادّة-السّتر مع جهة الاتّصال و المخالطة-لا بدّ أن يلاحظ في جميع موارد الاستعمال:

فالاختمار للخمر:كون الخمر بالغا إلى حدّ كمال السّتر و المخالطة و لو بالقوّة.

و التّخمير:جعل الشّيء خامرا و ساترا،و منه المخمّر.و الخمرة فعلة:ما يخمر به على جهة الاتّصال

ص: 811

كالحصير السّاتر المتّصل بالتّراب و الأرض،و كالطّيب السّاتر للون البشرة و الوجه،و هكذا.

و حديث الخمرة:يدلّ على جواز السّجود لما يصحّ السّجود عليه خارجا عن الأرض،و منه التّربة المنسوبة إلى أرض كربلاء لسيّد الشّهداء عليه السّلام،و هي من مصاديق الخمرة،مضافا إلى كونها من مصاديق التّراب الطّاهر الشّريف.

و أمّا الاختمار و التّخمّر بمعنى لبس الخمار:فمن الاشتقاق الانتزاعيّ.

فظهر أنّ تفسير المادّة بمطلق السّتر و التّغطية و المواراة و الكتمان و الغشي و لزوم المكان و المخالطة و المقاربة:من باب التّقريب إلى الحقيقة.[إلى أن قال:]

و لا يخفى أنّ حقيقة مفهوم الخمر هو ما كان ساترا دقيقا و نافذا،و ليست جهة الأخذ من مادّة مأخوذة في مفهومه.

و لا يبعد أن يكون إشارة إلى جهة معنويّة روحانيّة،كالتّوجّه و الانجذاب و الحضور و غيرها ممّا فيه جهة التّحويل و الإسكار،فيكون هذا المعنى أيضا مصداقا لمفهوم الأصل الّذي ذكرناه،و لا نحتاج إلى تأويل.(3:129)

النّصوص التّفسيريّة

الخمر
اشارة

1- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ... البقرة:219

ابن عبّاس: نزلت في شأن عمر ابن الخطّاب لقوله:اللّهمّ أرنا رأيك في الخمر،فقال اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ عن شرب الخمر و القمار.(30)

يَسْئَلُونَكَ...، ثمّ أنزل: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى... النّساء:43،فكانوا يدعونها، فإذا صلّوا العشاء شربوها،فلا يصبحون حتّى يذهب عنهم السّكر،فإذا صلّوا الغداة شربوها،فما يأتي الظّهر حتّى يذهب عنهم السّكر،ثمّ إنّ ناسا شربوها، فقاتل بعضهم بعضا،و تكلّموا بما لا يرضى اللّه،فأنزل اللّه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ... فحرّم اللّه الخمر و نهى عنها،و أمر باجتنابها،كما أمر باجتناب الأوثان.

(النّحّاس 1:171)

عبد اللّه بن عمر:أنزل اللّه عزّ و جلّ في الخمر ثلاثا:فكان أوّل ما أنزل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ...، فقالوا:يا رسول اللّه، ننتفعها و نشربها كما قال اللّه جلّ و عزّ في كتابه.ثمّ نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،قالوا:يا رسول اللّه،لا نشربها عند قرب الصّلاة.ثمّ نزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ المائدة:90،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

«حرّمت الخمر».(الطّبريّ 2:374)

لمّا نزلت الآية الّتي في سورة المائدة حرّمت الخمر،فخرجنا بالحباب إلى الطّريق فمنّا من كسر حبّه،و منّا من غسله بالماء و الطّين،و لقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا،كلّما مطرت استبان فيها لون

ص: 812

الخمر و فاحت منها ريحها.(البغويّ 1:277)

أنس بن مالك:حرّمت[الخمر]و لم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها إليهم يوم حرّمت عليهم،و لم يكن شيء أثقل عليهم من تحريمها، فأخرجنا الحباب إلى الطّريق...[فقال نحو ابن عمر]

(الثّعلبيّ 2:143)

سمّيت خمرا،لأنّهم كانوا يدعونها في الدّنان حتّى تختمر و تتغيّر.(الثّعلبيّ 2:148)

لقد حرّمت الخمر،و إنّما عامّة خمورهم يومئذ الفضيخ.و ما كان بالمدينة يصنعون الخمر،و ما عندهم من العنب ما يتّخذون،و إنّما نسمع الخمور في بلاد الأعاجم،و كنّا نشرب الفضيخ من التّمر و البسر.

و الفضيخ:ما افتضخ من التّمر و البسر من غير أن تمسّه النّار.(الثّعلبيّ 2:149)

ابن المسيّب:إنّما سمّيت الخمر،لأنّها تركت حتّى صفا صفورها،و رسب كدرها.(الثّعلبيّ 2:149)

الإمام السّجّاد عليه السّلام:الخمر من ستّة أشياء:

التّمر،و الزّبيب،و الحنطة،و الشّعير،و العسل، و الذّرّة.(العيّاشيّ 1:218)

سعيد بن جبير: لمّا نزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فكرهها قوم لقوله: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، و شربها قوم لقوله: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ، حتّى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،فكانوا يدعونها في الصّلاة و يشربونها في غير حين الصّلاة حتّى نزلت:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ المائدة:90،فقال عمر:

ضيعة لك!اليوم قرنت بالميسر.(الطّبريّ 2:374)

الشّعبيّ: نزلت في الخمر أربع آيات: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فتركوها،ثمّ نزلت: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً النّحل:67،فشربوها ثمّ نزلت الآيتان: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ... إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:90،91.(الطّبريّ 2:375)

مجاهد :لمّا نزلت هذه الآية شربها بعض النّاس،و تركها بعض،حتّى نزل تحريمها في سورة المائدة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ... هذا أوّل ما عيبت به الخمر.(الطّبريّ 2:375)

عكرمة :قال اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،و يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ... فنسختها الآية الّتي في المائدة،فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ....

مثله الحسن.(الطّبريّ 2:374)

الحسن :حرّمت الخمر بهذه الآية.

(ابن العربيّ 1:150)

الإمام الباقر عليه السّلام:«ما بعث اللّه نبيّا قطّ إلاّ و في علم اللّه تعالى أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر و لم يزل الخمر حراما و إنّما ينقلون من خصلة ثمّ خصلة،و لو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين.قال:ليس أحد أرفق من اللّه تعالى،فمن رفقه

ص: 813

تبارك و تعالى أنّه ينقلهم من خصلة إلى خصلة،و لو حمل عليهم جملة لهلكوا.(الكاشانيّ 1:228)

قتادة :قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فذمّهما اللّه و لم يحرّمهما،لما أراد أن يبلغ بهما من المدّة و الأجل ثمّ أنزل اللّه في سورة النّساء أشدّ منها: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فكانوا يشربونها،حتّى إذا حضرت الصّلاة سكتوا عنها، فكان السّكر عليهم حراما ثمّ أنزل اللّه جلّ و عزّ في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ إلى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فجاء تحريمها في هذه الآية،قليلها و كثيرها،ما أسكر منها و ما لم يسكر و ليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها.(الطّبريّ 2:375)

زيد بن عليّ: أنزل اللّه عزّ و جلّ في الخمر ثلاث مرّات:فأوّل ما أنزل،قال اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ...، فشربها من المسلمين من شاء اللّه منهم على ذلك،حتّى شرب رجلان فدخلا في الصّلاة، فجعلا يهجران كلاما لا يدري«عوف»[و هو راوي الحديث]ما هو،فأنزل اللّه عزّ و جلّ فيهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم،و جعلوا يتّقونها عند الصّلاة،حتّى شربها فيما زعم أبو القموص رجل،فجعل ينوح على قتلى بدر...فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع، حتّى انتهى إليه،فلمّا عاينه الرّجل،فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شيئا كان بيده ليضربه،قال:أعوذ باللّه من غضب اللّه و رسوله!و اللّه لا أطعمها أبدا!فأنزل اللّه تحريمها:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:90،91.فقال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه انتهينا،انتهينا!

نحوه بتفاوت يسير السّدّيّ.(الطّبريّ 2:374)

الرّبيع:قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ...، لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ ربّكم يقدّم في تحريم الخمر»ثمّ نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ ربّكم يقدّم في تحريم الخمر»ثمّ نزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ المائدة:90،فحرّمت الخمر عند ذلك.

(الطّبريّ 2:376)

هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.

(الفخر الرّازيّ 6:43)

الإمام الصّادق عليه السّلام:«إنّ الخمر رأس كلّ إثم و مفتاح كلّ شرّ.إنّ اللّه جعل للشّرّ أقفالا فجعل مفاتيحها الشّراب.ما عصي اللّه بشيء أشدّ من شرب المسكر،إنّ أحدهم ليدع الصّلاة الفريضة،و يثب على أمّه و أخته و بنته و هو لا يعقل.

و إنّه أشرّ من ترك الصّلاة،لأنّه يصير في حال لا يعرف معها ربّه.

يغفر اللّه في شهر رمضان لكلّ أحد إلاّ لثلاثة:

ص: 814

صاحب مسكر أو صاحب شاهين،أو مشاحن...».

(الكاشانيّ 1:227)

أبو حنيفة:الخمر عبارة عن عصير العنب الشّديد الّذي قذف بالزّبد.(الفخر الرّازيّ 6:43)

ابن زيد :قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ الآية كلّها،نسخت ثلاثة،في سورة المائدة،و بالحدّ الّذي حدّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و ضرب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.

قال:كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يضربهم بذلك حدّا،و لكنّه كان يعمل في ذلك برأيه،و لم يكن حدّا مسمّى و هو حدّ، و قرأ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ المائدة:90.

(الطّبريّ 2:376)

الإمام الكاظم عليه السّلام:[في حديث:]«عن عليّ بن يقطين قال:سأل المهديّ[والد الرّشيد]أبا لحسن عليه السّلام عن الخمر،هل هي محرّمة في كتاب اللّه تعالى،فإنّ النّاس إنّما يعرفون النّهي عنها و لا يعرفون التّحريم لها؟فقال له أبو الحسن عليه السّلام:بل هي محرّمة في كتاب اللّه يا أمير المؤمنين!فقال له:في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ يا أبا الحسن؟فقال:قول اللّه تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:33،إلى أن قال:و أمّا(الاثم)فإنّها الخمر بعينها و قد قال اللّه في موضع آخر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ، فأمّا الإثم في كتاب اللّه فهي الخمر و الميسر،و إثمهما أكبر كما قال اللّه تعالى.فقال المهديّ:يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشميّة.قال:قلت له:صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين! الحمد للّه الّذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت.

قال:فو اللّه ما صبر المهديّ أن قال لي:صدقت يا رافضيّ».(الكاشانيّ 1:228)

«إنّ أوّل ما نزل في تحريم الخمر،قول اللّه جلّ و عزّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فلمّا نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها و تحريم الميسر و الأنصاب و الأزلام، و علموا أنّ الإثم ممّا ينبغي اجتنابه،و لا يحمل اللّه عزّ و جلّ عليهم من كلّ طريق،لأنّه قال: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ ثمّ أنزل اللّه عزّ و جلّ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ المائدة:90،و كانت هذه الآية أشدّ من الأولى،و أغلظ في التّحريم.

ثمّ ثلّث بآية أخرى،فكانت أغلظ من الأولى و الثّانية و أشدّ،فقال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:91،فأمر اللّه عزّ و جلّ باجتنابها، و فسّر عللها الّتي لها،و من أجلها حرّمها.

ثمّ بيّن اللّه عزّ و جلّ تحريمها،و كشفه في الآية الرّابعة مع ما دلّ عليه في هذه الآي المذكورة المتقدّمة،بقوله عزّ و جلّ: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:33.

و قال اللّه عزّ و جلّ في الآية الأولى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ، ثمّ قال في الآية الرّابعة: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ

ص: 815

اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ فخبّر عزّ و جلّ أنّ الإثم في الخمر و غيرها،و أنّه حرام؛و ذلك أنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أراد أن يفترض فريضة،أنزلها شيئا بعد شيء،حتّى يوطّن النّاس أنفسهم عليها،و يسكنوا إلى أمر اللّه جلّ و عزّ و نهيه فيها،و كان ذلك من فعل اللّه عزّ و جلّ على وجه التّدبير فيهم أصوب و أقرب لهم إلى الأخذ بها،و أقلّ لنفارهم عنها».(2:169)

الشّافعيّ: كلّ شراب مسكر فهو خمر.

(الفخر الرّازيّ 6:43)

الإمام الهاديّ عليه السّلام:كلّ مسكر حرام.

(العيّاشيّ 1:218)

الطّبريّ: يعني بذلك جلّ ثناؤه:يسألك أصحابك يا محمّد عن الخمر و شربها.[ثمّ قال في معنى الخمر ما سبق عنه في النّصوص اللّغويّة،فراجع](2:369)

الزّجّاج: الخمر المجمع عليه،و قياس كلّ ما عمل عملها أن يقال له:خمر و أن يكون في التّحريم بمنزلتها[ثمّ ذكر اللّغة و قد سبق إلى أن قال:]

و قد لبّس على أبي الأسود الدّؤليّ فقيل له:إنّ هذا المسكر الّذي سمّوه بغير الخمر حلال،فظنّ أنّ ذلك كما قيل له،ثمّ قاده طبعه إلى أن حكم بأنّهما واحد،فقال:

دع الخمر تشربها الغواة فإنّني

رأيت أخاها مغنيا لمكانها

فإن لا تكنه أو يكنها فإنّه

أخوها غذته أمّه بلبانها

قال قوم:زهّد فيها في هذا الموضع،و بيّن تحريمها في قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ... إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:

91،90،و معنى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ التّحضيض على الانتهاء و التّهديد على ترك الانتهاء.

و قال قوم:لا،بل تحرم بما بيّن هاهنا ممّا دلّ عليه الكتاب في موضع آخر،لأنّه قال: إِثْمٌ كَبِيرٌ و قد حرّم اللّه الإثم نصّا،فقال: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:33.

و إنّما بيّنّا تحريم الخمر و إن كان مجمعا عليه، ليعلم أنّ نصّ ذلك في الكتاب.فأمّا الإثم الكبير الّذي في الخمر فبيّن،لأنّها توقع العداوة و البغضاء،و تحول بين المرء و عقله الّذي يميّز به و يعرف ما يجب لخالقه.

(1:291)

النّحّاس: عن ابن عمر:أنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ...

إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

حرّمت.و قال عمرو بن شرحبيل:فقال عمر:انتهينا، فإنّها تذهب المال،و العقل.

و أهل التّفسير يذهبون إلى أنّ المحرّم لها هذا.

و قال بعض الفقهاء:المحرّم لها آيتان:

إحداهما: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ الأعراف:33.

قال أبو إسحاق:الخمر هذه المجمع عليها،و قياس كلّ ما تعمل عملها أن يقال له:خمر،و أن يكون بمنزلتها في التّحريم،لأنّ إجماع العلماء أنّ القمار كلّه حرام و إنّما ذكر الميسر من بينه،فجعل كلّه قياسا على

ص: 816

الميسر،و الميسر إنّما يكون قمارا في الجزر خاصّة، و كذلك كلّ ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.[ثمّ ذكر اللّغة و قد سبقت في النّصوص اللّغويّة](1:171)

القفّال:الحكمة في وقوع التّحريم على هذا التّرتيب[و ذكر ما قال المفسّرون فى ترتيب نزول الآيات فى الخمر]أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، و كان انتفاعهم به كثيرا،فعلم أنّه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ عليهم،فاستعمل في التّحريم هذا التّدريج و الرّفق.و سمّي عصير العنب و التّمر إذا اشتدّ و غلى:

خمرا،لأنّه يخمر العقل،كما سمّي سكرا،لأنّه يسكره أي يحجزه.و هو حرام مطلقا،و كذا كلّ ما أسكر عند أكثر العلماء.(الشّربينيّ 1:143)

الجصّاص :هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر،لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافية مغنية؛و ذلك لقوله: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، و الإثم كلّه محرّم بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ الأعراف:33،فأخبر أنّ الإثم محرّم، و لم يقتصر على إخباره بأنّ فيها إثما حتّى وصفه بأنّه كبير،تأكيدا لخطرها.

و قوله: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ لا دلالة فيه على إباحتها،لأنّ المراد منافع الدّنيا،و إنّ في سائر المحرّمات منافع لمرتكبيها في دنياهم،إلاّ أنّ تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحقّ بارتكابها.فذكره لمنافعها غير دالّ على إباحتها،لا سيّما و قد أكّد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية:

وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما يعني أنّ ما يستحقّ بهما من العقاب أعظم من النّفع العاجل الّذي ينبغي منهما.

و ممّا نزل في شأن الخمر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43.

و ليس في هذه الآية دلالة على تحريم ما لم يسكر منها،و فيها الدّلالة على تحريم ما يسكر منها، لأنّه إذا كانت الصّلاة فرضا نحن مأمورون بفعلها في أوقاتها،فكلّ ما أدّى إلى المنع منها فهو محظور،فإذا كانت الصّلاة ممنوعة في حال السّكر و كان شربها مؤدّيا إلى ترك الصّلاة،كان محظورا،لأنّ فعل ما يمنع من الفرض محظور.

و ممّا نزل في شأن الخمر ممّا لا مساق للتّأويل فيه قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:90،91،فتضمّنت هذه الآيات ذكر تحريمها من وجوه:

أحدها:قوله: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ؛ و ذلك لا يصحّ إطلاقه إلاّ فيما كان محظورا محرّما،ثمّ أكّده بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ؛ و ذلك أمر يقتضي لزوم اجتنابه،ثمّ قال تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ و معناه:

فانتهوا.

فإن قيل:ليس في قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ دلالة على تحريم القليل منها.لأنّ مراد الآية ما يلحق من المأثم بالسّكر و ترك الصّلاة و المواثبة و القتال،فإذا حصل المأثم بهذه الأمور فقد و فينا ظاهر الآية مقتضاها من التّحريم،و لا دلالة فيه على

ص: 817

تحريم القليل منها.

قيل له:معلوم أنّ في مضمون قوله: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ضمير شربها،لأنّ الخمر هو فعل اللّه تعالى و لا مأثم فيها،و إنّما المأثم مستحقّ بأفعالنا فيها،فإذا كان الشّرب مضمرا كان تقديره:في شربها و فعل الميسر إثم كبير،فيتناول ذلك شرب القليل منها و الكثير.كما لو قال:حرّمت الخمر،لكان معقولا أنّ المراد به شربها و الانتفاع بها،فيقتضي ذلك تحريم قليلها و كثيرها.[ثمّ أيّده بروايات إلى أن قال:]

و لم يختلف أهل النّقل في أنّ الخمر قد كانت مباحة في أوّل الإسلام،و أنّ المسلمين قد كانوا يشربونها بالمدينة و يتبايعون بها،مع علم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك و إقرارهم عليه،إلى أن حرّمها اللّه تعالى.

فمن النّاس من يقول:إنّ تحريمها على الإطلاق إنّما ورد في قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ... إلى قوله:

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:90،91،و قد كانت محرّمة قبل ذلك في بعض الأحوال،و هي أوقات الصّلاة،بقوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،و أنّ بعض منافعها قد كان مباحا و بعضها محظورا،بقوله: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ إلى أن أتمّ تحريمها بقوله:(فاجتنبوه)المائدة:90، و قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:91،و قد بيّنّا ما يقتضيه ظاهر كلّ واحد من حكم الآيات من حكم التّحريم.

و قد اختلف فيما يتناوله اسم الخمر من الأشربة، فقال الجمهور الأعظم من الفقهاء:«اسم الخمر في الحقيقة يتناول النّيّ المشتدّ من ماء العنب».

و زعم فريق من أهل المدينة و مالك و الشّافعيّ:

أنّ كلّ ما أسكر كثيره من الأشربة فهو خمر.و الدّليل على أنّ اسم الخمر مخصوص بالنّيّ المشتدّ من ماء العنب دون غيره-و أنّ غيره إن سمّي بهذا الاسم فإنّما هو محمول عليه و مشبّه به على وجه المجاز- حديث أبي سعيد الخدريّ قال:أتي النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بنشوان، فقال له:«أشربت خمرا؟»فقال:ما شربتها منذ حرّمها اللّه و رسوله،قال:«فما ذا شربت؟»قال:الخليطين، قال:فحرّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الخليطين.فنفى الشّارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فلم ينكره عليه،و لو كان ذلك يسمّى خمرا من جهة لغة أو شرع لما أقرّه عليه؛إذ كان فى نفي التّسمية الّتي علّق بها حكم نفي الحكم.و معلوم أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لا يقرّ أحدا على حظر مباح،و لا على استباحة محظور.و في ذلك دليل على أنّ اسم الخمر منتف عن سائر الأشربة إلاّ من النّيّ المشتدّ من ماء العنب،لأنّه إذا كان الخليطان لا يسمّيان خمرا مع وجود قوّة الإسكار منهما،علمنا أنّ الاسم مقصور على ما وصفنا.

و يدلّ عليه ما حدّثنا...عن عليّ رضي اللّه عنه قال:سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الأشربة عام حجّة الوداع،فقال:«حرام الخمر بعينها و السّكر من كلّ شراب»[ثمّ أيّدها بروايات مثلها و قال:]

و قد حوى هذا الخبر معاني:منها:أنّ اسم الخمر مخصوص بشراب بعينه دون غيره،و هو الّذي لم يختلف في تسميته بها دون غيرها من ماء العنب،

ص: 818

و أنّ غيرها من الأشربة غير مسمّى بهذا الاسم، لقوله:«و السّكر من كلّ شراب»،و قد دلّ أيضا على أنّ المحرّم من سائر الأشربة هو ما يحدث عنده السّكر،لو لا ذلك لما اقتصر منها على السّكر دون غيره،و لما فصل بينها و بين الخمر في جهة التّحريم.

و دلّ أيضا على أنّ تحريم الخمر حكم مقصور عليها غير متعدّ إلى غيرها قياسا و لا استدلالا؛إذ علّق حكم التّحريم بعين الخمر دون معنى فيها سواها؛ و ذلك ينفي جواز القياس عليها،لأنّ كلّ أصل ساغ القياس عليه فليس الحكم المنصوص عليه مقصورا عليه و لا متعلّقا به بعينه،بل يكون الحكم منصوبا على بعض أوصافه ممّا هو موجود في فروعه،فيكون الحكم تابعا للوصف جاريا معه في معلولاته.

و ممّا يدلّ على أنّ سائر الأشربة المسكرة لا يتناولها اسم الخمر قوله صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث أبي هريرة عنه:«الخمر من هاتين الشّجرتين:النّخلة و العنبة»، فقوله:«الخمر»اسم للجنس لدخول الألف و اللاّم عليه،فاستوعب به جميع ما يسمّى بهذا الاسم،فلم يبق شيء من الأشربة يسمّى به إلاّ و قد استغرقه ذلك،فانتفى بذلك أن يكون ما يخرج من غير هاتين الشّجرتين يسمّى خمرا.

ثمّ نظرنا فيما يخرج منهما هل جميع الخارج منهما مسمّى باسم الخمر أم لا؟فلمّا اتّفق الجميع على أنّ كلّ ما يخرج منهما من الأشربة غير مسمّى باسم الخمر،لأنّ العصير و الدّبس و الخلّ و نحوه من هاتين الشّجرتين،و لا يسمّى شيء منه خمرا،علمنا أنّ مراده بعض الخارج من هاتين الشّجرتين؛و ذلك البعض غير مذكور في الخبر،فاحتجنا إلى الاستدلال على مراده من غيره في إثبات اسم الخمر للخارج منهما، فسقط الاحتجاج به في تحريم جميع الخارج منهما و تسميته باسم الخمر.

و يحتمل مع ذلك أن يكون مراده:أنّ الخمر أحدهما،كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ الرّحمن:22،و يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الأنعام:130،و المراد أحدهما،فكذلك جائز أن يكون المراد في قوله:

«الخمر من هاتين الشّجرتين»أحدهما.فإن كان المراد هما جميعا،فإنّ ظاهر اللّفظ يدلّ على أنّ المسمّى بهذا الاسم هو أوّل شراب يصنع منهما،لأنّه لمّا كان معلوما أنّه لم يرد بقوله:«من هاتين الشّجرتين» بعض كلّ واحدة منهما،لاستحالة كون بعضها خمرا، دلّ على أنّ المراد أوّل خارج منهما من الأشربة،لأنّ «من»يعتورها معان في اللّغة:منها التّبعيض،و منها الابتداء،كقولك:«خرجت من الكوفة»«و هذا كتاب من فلان»،و ما جرى مجرى ذلك،فيكون معنى «من»في هذا الموضع على ابتداء ما يخرج منهما؛ و ذلك إنّما يتناول العصير المشتدّ و الدّبس السّائل من النّخل إذا اشتدّ،و لذلك قال أصحابنا في من حلف لا يأكل من هذه النّخلة شيئا:«إنّه على رطبها و تمرها و دبسها»لأنّهم حملوا«من»على ما ذكرنا من الابتداء.

و يدلّ على ما ذكرنا من انتفاء اسم الخمر على سائر الأشربة إلاّ ما وصفنا،ما روي عن ابن عمر أنّه

ص: 819

قال:«لقد حرّمت الخمر يوم حرّمت و ما بالمدينة يومئذ منها شيء».و ابن عمر رجل من أهل اللّغة، و معلوم أنّه قد كان في المدينة السّكر و سائر الأنبذة المتّخذة من التّمر،لأنّ تلك كانت أشربتهم،و لذلك قال جابر بن عبد اللّه:«نزل تحريم الخمر و ما يشرب النّاس يومئذ إلاّ البسر و التّمر»و قال أنس بن مالك:

«كنت ساقي عمومتي من الأنصار حين نزل تحريم الخمر،فكان شرابهم يومئذ الفضيخ،فلمّا سمعوا أراقوها».

فلمّا نفى ابن عمر اسم الخمر عن سائر الأشربة الّتي كان بالمدينة،دلّ ذلك على أنّ الخمر عنده كانت شراب العنب النّيّئ المشتدّ،و أنّ ما سواها غير مسمّى بهذا الاسم.

و يدلّ عليه أنّ العرب كانت تسمّي الخمر سبيئة، و لم تكن تسمّى بذلك سائر الأشربة المتّخذة من تمر النّخل،لأنّها كانت تجلب إليها من غير بلادها.

فتقول:سبأت الخمر،إذا شريتها؛فنقلوا الاسم إلى المشريّ بعد أن كان الأصل إنّما هو بجلبها من موضع إلى موضع،على عادتها في الاتّساع في الكلام.

و يدلّ عليه أيضا قول أبي الأسود الدّؤليّ-و هو رجل من أهل اللّغة حجّة فيما قال منها-فقال:

دع الخمر تشربها الغواة فإنّني

رأيت أخاها مغنيا لمكانها

فإن لا تكنه أو يكنها فإنّه

أخوها غذته أمّه بلبانها

فجعل غيرها من الأشربة أخا لها بقوله:«رأيت أخاها مغنيا لمكانها»و معلوم أنّه لو كان يسمّى خمرا لما سمّاه أخا لها،ثمّ أكّدها بقوله:«فإن لا تكنه أو يكنها فإنّه أخوها»،فأخبر أنّها ليست هو.

فثبت بما ذكرنا من الأخبار عن رسول اللّه و عن الصّحابة و أهل اللّغة:أنّ اسم الخمر مخصوص بما وصفنا،و مقصور عليه دون غيره.

و يدلّ على ذلك أنّا وجدنا بلوى أهل المدينة بشرب الأشربة المتّخذة من التّمر و البسر كانت أعمّ منها بالخمر،و إنّما كانت بلواهم بالخمر-خاصّة- قليلة لقلّتها عندهم،فلمّا عرف الكلّ من الصّحابة تحريم النّيّ المشتدّ،و اختلفوا فيما سواها.-و روي عن عظماء الصّحابة،مثل عمر و عبد اللّه و أبي ذرّ و غيرهم شرب النّبيذ الشّديد،و كذلك سائر التّابعين و من بعدهم من أخلافهم من الفقهاء من أهل العراق، لا يعرفون تحريم هذه الأشربة و لا يسمّونها باسم الخمر،بل ينفونه عنها-دلّ ذلك على معنيين:

أحدهما:أنّ اسم الخمر لا يقع عليها و لا يتناولها، لأنّ الجميع متّفقون على ذمّ شارب الخمر،و أنّ جميعها محرّم محظور.

و الثّاني:أنّ النّبيذ غير محرّم،لأنّه لو كان محرّما، لعرفوا تحريمها كمعرفتهم بتحريم الخمر؛إذ كانت الحاجة إلى معرفة تحريمها أمسّ منها إلى معرفة تحريم الخمر،لعموم بلواهم بها دونها.و ما عمّت البلوى من الأحكام،فسبيل وروده نقل التّواتر الموجب للعلم و العمل.و في ذلك دليل على أنّ تحريم الخمر لم يعقل به تحريم هذه الأشربة،و لا عقل الخمر اسما لها.

ص: 820

و احتجّ من زعم أنّ سائر الأشربة الّتي يسكر كثيرها خمر،بما روي عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«كلّ مسكر خمر»و بما روي عن الشّعبيّ عن النّعمان بن بشير عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«الخمر من خمسة أشياء:«التّمر،و العنب،و الحنطة،و الشّعير، و العسل»،و روي عن عمر من قوله نحوه،و بما روي عن عمر:«الخمر ما خامر العقل»،و بما روي عن طاوس عن ابن عبّاس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«كلّ مخمر خمر،و كلّ مسكر حرام».و بما روي عن أنس قال:«كنت ساقي القوم حيث حرّمت الخمر في منزل أبي طلحة،و ما كان خمرنا يومئذ إلاّ الفضيخ،فحين سمعوا تحريم الخمر أهرقوا الأواني و كسروها» و قالوا:فقد سمّى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الأشربة خمرا و كذلك عمر،و أنس.

و عقلت الأنصار من تحريم الخمر تحريم الفضيخ، و هو نقيع البسر،و لذلك أراقوها و كسروا الأواني.

و لا تخلو هذه التّسمية من أن تكون واقعة على هذه الأشربة من جهة اللّغة أو الشّرع،و أيّهما كان فحجّته ثابتة و التّسمية صحيحة.فثبت بذلك أنّ ما أسكر من الأشربة كثيره فهو خمر،و هو محرّم بتحريم اللّه إيّاها من طريق اللّفظ.

و الجواب عن ذلك و باللّه التّوفيق:أنّ الأسماء على ضربين:ضرب سمّي به الشّيء حقيقة لنفسه و عبارة عن معناه،و الضّرب الآخر ما سمّي به الشّيء مجازا.

فأمّا الضّرب الأوّل،فواجب استعماله حيث ما وجد.و أمّا الضّرب الآخر،فإنّما يجب استعماله عند قيام الدّلالة عليه.نظير الضّرب الأوّل قوله تعالى:

يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً النّساء:26،27،فأطلق لفظ«الإرادة» في هذه المواضع حقيقة.و نظير الضّرب الثّاني قوله:

فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الكهف:77، فإطلاق لفظ«الإرادة»في هذا الموضع مجاز لا حقيقة.

و نحو قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ المائدة:90، فاسم«الخمر»في هذا الموضع حقيقة فيما أطلق فيه، و قال في موضع آخر: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً يوسف:36،فأطلق اسم«الخمر»في هذا الموضع مجازا،لأنّه إنّما يعصر العنب لا الخمر.و نحو قوله:

رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها النّساء:

75،فاسم«القرية»فيها حقيقة و إنّما أراد البنيان،ثمّ قوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها يوسف:82، مجاز،لأنّه لم يرد بها ما وضع اللّفظ له حقيقة،و إنّما أراد أهلها.

و تنفصل الحقيقة من المجاز بأنّ ما لزم مسمّياته فلم ينتف عنه بحال،فهو حقيقة فيه،و ما جاز انتفاؤه عن مسمّياته فهو مجاز.أ لا ترى أنّك إذا قلت:إنّه ليس للحائط إرادة،كنت صادقا،و لو قال قائل:إنّ اللّه لا يريد شيئا،أو الإنسان العاقل ليست له إرادة،كان مبطلا في قوله.

و كذلك جائز أن تقول:إنّ العصير ليس بخمر،

ص: 821

و غير جائز أن يقال:إنّ النّيّ المشتدّ من ماء العنب ليس بخمر.و نظائر ذلك كثيرة في اللّغة و الشّرع، و الأسماء الشّرعيّة في معنى أسماء المجاز لا تتعدّى بها مواضعها الّتي سمّيت بها.فلمّا وجدنا اسم الخمر قد ينتفي عن سائر الأشربة سوى النّيّ المشتدّ من ماء العنب،علمنا أنّها ليست بخمر في الحقيقة.[ثمّ استدلّ على جواز انتفاء اسم الخمر عمّا وصفه بحديث أبي سعيد الخدريّ المتقدّم،و قال:]

فنفى اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأقرّه عليه و لم ينكره،فدلّ ذلك على أنّه ليس بخمر.

و قال ابن عمر:حرّمت الخمر و ما بالمدينة يومئذ منها شيء،فنفى اسم الخمر عن أشربة تمر النّخل مع وجودها عندهم يومئذ.و يدلّ عليه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:

«الخمر من هاتين الشّجرتين»،و هو أصحّ إسنادا من الأخبار الّتي ذكر فيها أنّ الخمر من خمسة أشياء،فنفى بذلك أن يكون ما خرج من غيرهما خمرا؛إذ كان قوله:«الخمر من هاتين الشّجرتين»،اسما للجنس مستوعبا لجميع ما يسمّى بهذا الاسم.فهذا الخبر معارض ما روي من أنّ الخمر من خمسة أشياء،و هو أصحّ إسنادا منه.

و يدلّ عليه أنّه لا خلاف أنّ مستحلّ الخمر كافر، و أنّ مستحلّ هذه الأشربة لا تلحقه سمة الفسق،فكيف بأن يكون كافرا،فدلّ ذلك على أنّها ليست بخمر في الحقيقة.

و يدلّ عليه أنّ خلّ هذه الأشربة لا يسمّى خلّ خمر،و أنّ خلّ الخمر هو الخلّ المستحيل من ماء العنب النّيّ المشتدّ.فإذا ثبت بما ذكرنا انتفاء اسم الخمر عن هذه الأشربة،ثبت أنّه ليس باسم لها في الحقيقة.و أنّه إن ثبت تسميتها باسم الخمر في حال،فهو على جهة التّشبيه بها عند وجود السّكر منها،فلم يجز أن يتناولها إطلاق تحريم الخمر،لما وصفنا من أنّ أسماء المجاز لا يجوز دخولها تحت إطلاق أسماء الحقائق.فينبغي أن يكون قوله:الخمر من خمسة أشياء،محمولا على الحال الّتي يتولّد منها السّكر،فسمّاها باسم الخمر في تلك الحال،لأنّها قد عملت عمل الخمر في توليد السّكر و استحقاق الحدّ.

و يدلّ عليه أنّ هذه التّسمية إنّما تستحقّها في حال توليدها السّكر قول عمر:«الخمر ما خامر العقل»و قليل النّبيذ لا يخامر العقل،لأنّ ما خامر العقل هو ما غطّاه،و ليس ذلك بموجود في قليل ما أسكر كثيره من هذه الأشربة.

و إذا ثبت بما وصفنا أنّ اسم الخمر مجاز في هذه الأشربة فلا يستعمل إلاّ في موضع يقوم الدّليل عليه، فلا يجوز أن ينطوي تحت إطلاق تحريم الخمر.أ لا ترى أنّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد سمّى فرسا لأبي طلحة ركبه لفزع كان بالمدينة،فقال:وجدناه بحرا،فسمّى الفرس بحرا؛إذ كان جوادا واسع الخطو!و لا يعقل بإطلاق اسم «البحر»الفرس الجواد.

فصحّ بما وصفنا أنّ اسم الخمر لا يقع على هذه الأشربة الّتي وصفنا،و أنّه مخصوص بماء العنب النّيّ المشتدّ حقيقة،و إنّما يسمّى به غيرها مجازا، و اللّه أعلم.[و استشهد بالشّعر مرّتين](1:390)

ص: 822

الثّعلبيّ: نزلت في عمر بن الخطّاب و معاذ بن جبل و نفر من الأنصار أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا:يا رسول اللّه أفتنا في الخمر و الميسر فإنّها مذهبة للعقل، مسلبة للمال،فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و جملة القول أنّ تحريم الخمر على أقوال المفسّرين و الحفّاظ مختلفة،و بعضها متّفقة.هي أنّ اللّه أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكّة: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً النّحل:67، و هو المسكر،فكان المسلمون يشربونها و هي لهم يومئذ حلال،و نزلت في مسألة عمر و معاذ:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ ربّكم تقدّم في تحريم الخمر»،فتركها قوم لقوله: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، و قالوا:لا حاجة لنا في شيء فيه إثم كبير،[و شربها قوم]لقوله: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ، و كانوا يتمتّعون بمنافعها،و يجتنبون آثامها،إلى أن صنع عبد الرّحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أمامهم الخمر فشربوا و سكروا،و حضرت صلاة المغرب،فقدّموا بعضهم ليصلّي بهم،فقرأ: (قل يا ايّها الكافرون اعبد ما تعبدون) إلى آخر السّورة،فحذف (لا)،فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،فحرّم المسكر في أوقات الصّلاة،فقال عمر:إنّ اللّه يقارب في النّهي عن شرب الخمرة، فلا أراه إلاّ و سيحرّمها.فلمّا نزلت:-حرّم اللّه-تركها قوم،و قالوا:لا خير في شيء يحول بيننا و بين الصّلاة، و كان قوم يشربونها و يجلسون في بيوتهم،و كانوا يتركونها أوقات الصّلاة،و يشربونها في غير حين الصّلاة،إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر...فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فخرج مسرعا يجرّ رداءه حتّى انتهى إليه،و رفع شيئا كان بيده ليضربه،فلمّا عاينه الرّجل قال:أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسول اللّه،و اللّه لا أطعمها أبدا.

[إلى أن قال:]

فأمّا ماهيّة الخمر،فاختلف الفقهاء فيها،فقال بعضهم:هو خاصّ فيما اعتصر من العنبة و النّخلة، فغلي بطبعه دون عمل النّار فيه،فإنّ ما سوى ذلك ليس بخمر.و هذا مذهب سفيان الثّوريّ و أبي حنيفة و أبي يوسف و أكثر أهل الرّأي.ثمّ اختلفوا في المطبوخ فقالوا:كلّ عصير طبخ حتّى يذهب ثلثاه فهو حلال إلاّ أنّه يكره،فإن طبخ حتّى يذهب ثلثاه و بقي ثلثه فهو حلال مباح شربه و بيعه إلاّ أنّ المسكر منه حرام، و احتجّوا في ذلك بحديث:«الخمر من هاتين الشّجرتين:النّخلة و العنبة».

و اختلفوا في المطبوخ بالمشمش...[فذكر الأقوال و الآراء فيه و في غيره من المسكرات،فلاحظ]

(2:141)

نحوه أبو الفتوح.(3:203)

الماورديّ: يعني يسألك أصحابك يا محمّد عن الخمر و الميسر و شربها،و هذه أوّل آية نزلت فيها.[ثمّ ذكر اللّغة و قد سبقت](1:276)

ص: 823

الطّوسيّ: قال أكثر المفسّرين:الخمر عصير العنب إذا اشتدّ.و قال جمهور أهل المدينة:ما أسكر كثيره فهو خمر،و هو الظّاهر في رواياتنا.(2:212)

القشيريّ: الخمر:ما خامر العقول،و كما أنّ الخمر حرام بعينها فالسّكر حرام بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«حرّمت الخمر بعينها،و السّكر من كلّ شراب»،فمن سكر من شراب الغفلة استحقّ ما يستحقّ شارب الخمر من حيث الإشارات،فكما أنّ السّكران ممنوع من الصّلاة فصاحب السّكر بالغفلة محجوب عن المواصلات و أوضح شواهد الوجود،فمن لم يصدّق فليجرّب.

(1:188)

الواحديّ: قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ...

نزلت في جماعة من الصّحابة،أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا:

أفتنا في الخمر و الميسر،فإنّهما مذهبة للعقل مسلبة للمال،فنزلت هذه الآية.و الخمر إنّما سمّيت خمرا، لأنّها تخامر العقل،أي تخالطه.يقال:خامره الدّاء،إذا خالطه.[ثمّ استشهد بشعر]

و هي كلّ شراب مسكر مغطّ للعقل،سواء كان عصيرا أو نقيعا،مطبوخا كان أو نيّا.(1:322)

البغويّ: [نحو الثّعلبيّ إلاّ أنّه قال:]

و اختلف العلماء في ماهيّة الخمر،فقال قوم:هي عصير العنب أو الرّطب الّذي اشتدّ و غلى من غير عمل النّار فيه.و اتّفقت الأئمّة على أنّ هذه الخمر نجس يحدّ شاربها و يفسق،و يكفر مستحلّها،و ذهب السّفيان الثّوريّ و أبو حنيفة و جماعة إلى أنّ التّحريم لا يتعدّى هذا،و لا يحرم ما يتّخذ من غيرها كالمتّخذ من الحنطة و الشّعير و الذّرّة و العسل و الفانيذ،إلاّ أن يسكر منه فيحرم.

و قالوا:إذا طبخ عصير العنب و الرّطب حتّى ذهب نصفه فهو حلال،لكنّه يكره،و إن طبخ حتّى ذهب ثلثاه قالوا:هو حلال،مباح شربه،إلاّ أنّ السّكر منه حرام،و يحتجّون بما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه كتب إلى بعض عمّاله:و أنّ أرزاق المسلمين من الطّلاء ما ذهب ثلثاه و بقي ثلثه،و رأى أبو عبيدة و معاذ:شرب الطّلاء على الثّلث.

و قال قوم:إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالا و هو قول إسماعيل بن عليّة.و ذهب أكثر أهل العلم إلى أنّ كلّ شراب أسكر كثيره فهو خمر و قليله حرام، يحدّ شاربه.[ثمّ احتجّ بروايات](البغويّ 1:276)

الزّمخشريّ: نزلت في الخمر أربع آيات:[ذكر نحو الثّعلبيّ و أضاف:]

و عن عليّ رضي اللّه عنه:لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة،لم أؤذّن عليها،و لو وقعت في بحر ثمّ جفّ و نبت فيه الكلأ،لم أرعه.

و عن ابن عمر رضي اللّه عنه:لو أدخلت إصبعي فيه لم تتبعني.و هذا هو الإيمان حقّا،و هم الّذين اتّقوا اللّه حقّ تقاته.

و الخمر ما غلى و اشتدّ و قذف بالزّبد من عصير العنب و هو حرام،و كذلك نقيع الزّبيب أو التّمر الّذي لم يطبخ،فإن طبخ حتّى ذهب ثلثاه ثمّ غلى و اشتدّ ذهب خبثه و نصيب الشّيطان،و حلّ شربه ما دون السّكر إذا لم يقصد بشربه اللّهو و الطّرب،عند أبي

ص: 824

حنيفة و عن بعض أصحابه:لأن أقول مرارا هو حلال أحبّ إليّ من أن أقول مرّة هو حرام،و لأن أخرّ من السّماء فأتقطّع قطعا أحبّ إليّ من أن أتناول منه قطرة.

و عند أكثر الفقهاء هو حرام كالخمر،و كذلك كلّ ما أسكر من كلّ شراب.و سمّيت خمرا لتغطيتها العقل و التّمييز،كما سمّيت سكرا لأنّها تسكرهما،أي تحجزهما،و كأنّها سمّيت بالمصدر،من خمره خمرا،إذا ستره،للمبالغة.(1:358)

نحوه ملخّصا البيضاويّ(1:115)،و النّسفيّ(1:

109)،و الشّربينيّ(1:141)،و أبو السّعود(1:262).

ابن العربيّ: ...في تحقيق اسم الخمر و معناه:

و قد اختلف العلماء في ذلك على قولين:

أحدهما:أنّ الخمر شراب يعتصر من العنب خاصّة،و ما اعتصر من غير العنب كالزّبيب و التّمر و غيرهما،يقال لهما:نبيذ.قاله أبو حنيفة،و أهل الكوفة.

الثّاني:أنّ الخمر كلّ شراب ملذّ مطرب قاله أهل المدينة و أهل مكّة؛و تعلّق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم و لا أزمّة،ذكرناها في شرح الحديث و مسائل الخلاف،فلا يلتفت إليها.

و الصّحيح ما روى الأئمّة أنّ أنسا قال:«حرّمت الخمر،يوم حرّمت و ما بالمدينة خمر الأعناب إلاّ قليل،و عامّة خمرها البسر و التّمر».خرّجه البخاريّ.و اتّفق الأئمّة على رواية:أنّ الصّحابة إذ حرّمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب،و إنّما كانوا يشربون خمر النّبيذ،فكسروا دنانهم،و بادروا الامتثال،لاعتقادهم أنّ ذلك كلّه خمر.و صحّ عن عمر أنّه قال على المنبر:«إنّ تحريم الخمر نزل و هي من خمسة:العنب،و التّمر،و العسل،و الحنطة،و الشّعير.

و الخمر:ما خامر العقل،»و قد استوفينا القول في المسألة في مسائل الخلاف اشتقاقا و أصولا و قرآنا و أخبارا.

قال الحسن:حرّمت الخمر بهذه الآية.و قالت الجماعة:حرّمت بآية المائدة.و الصّحيح أنّ آية المائدة حرّمتها.(1:149)

ابن عطيّة: و أجمعت الأمّة على خمر العنب إذا غلت و رمت بالزّبد أنّها حرام قليلها و كثيرها،و أنّ الحدّ واجب في القليل منها و الكثير.و جمهور الأمّة على أنّ ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرّم قليله و كثيره،و الحدّ في ذلك واجب.

و قال أبو حنيفة و سفيان الثّوريّ و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و جماعة من فقهاء الكوفة:ما أسكر كثيره من غير خمر العنب،فما لا يسكر منه حلال، و إذا سكر أحد منه دون أن يتعمّد الوصول إلى حدّ السّكر فلا حدّ عليه

و هذا قول ضعيف يردّه النّظر،و أبو بكر الصّدّيق و عمر الفاروق و الصّحابة على خلافه،و روي أنّ النّبيّ عليه السّلام قال:«كلّ مسكر خمر،و كلّ خمر حرام، و ما أسكر كثيره فقليله حرام».قال ابن المنذر في الإشراف:«لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل و لا حجّة لمحتجّ».و روي أنّ هذه الآية أوّل تطرّق إلى تحريم

ص: 825

الخمر،ثمّ بعده: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،ثمّ قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ...

المائدة:91،ثمّ قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ...

المائدة:90،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«حرّمت الخمر» و لم يحفظ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فى حدّ الخمر إلاّ أنّه جلّد أربعين...(1:292)

الطّبرسيّ: و هي كلّ شراب مسكر مخالط للعقل و مغطّ عليه،و ما أسكر كثيره فقليله خمر.هذا هو الظّاهر في روايات أصحابنا،و هو مذهب الشّافعيّ.

و قيل:الخمر عصير العنب إذا اشتدّ و غلى،و هو مذهب أبي حنيفة.(1:316)

ابن الجوزيّ: في تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال:

أحدها:أنّها سمّيت خمرا،لأنّها تخامر العقل،أي تخالطه.

و الثّاني:لأنّها تخمّر العقل،أي تستره.

و الثّالث:لأنّها تخمّر أي تغطّى.ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم.[إلى أن قال:]

اختلف العلماء:هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟على قولين:

أحدهما:أنّها تقتضي ذمّها دون تحريمها،رواه السّدّيّ عن أشياخه،و به قال سعيد بن جبير، و مجاهد،و قتادة،و مقاتل.و على هذا القول تكون هذه الآية منسوخة.

و القول الثّاني:أنّ لها تأثيرا في التّحريم،و هو أنّ اللّه تعالى أخبر أنّ فيها إثما كبيرا،و الإثم كلّه محرّم بقوله: وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ الأعراف:33.هذا قول جماعة من العلماء،و حكاه الزّجّاج،و اختاره القاضي أبو يعلى للعلّة الّتي بيّنّاها.و احتجّ لصحّته بعض أهل المعاني،فقال:لمّا قال اللّه تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ؛ وقع التّساوي بين الأمرين،فلمّا قال:

وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما صار الغالب الإثم،و بقي النّفع مستغرقا في جنب الإثم،فعاد الحكم للغالب المستغرق،فغلب جانب الحظر (1).(1:239)

الفخر الرّازيّ: المسألة الأولى:قالوا:نزلت في الخمر أربع آيات:[فذكر نحو ما مرّ عن الثّعلبيّ و أضاف:]

و من النّاس من قال بأنّ اللّه حرّم الخمر و الميسر بهذه الآية،ثمّ نزل قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصّلاة،لأنّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلّي إلاّ مع السّكر،فكان المنع من ذلك منعا من الشّرب ضمنا، ثمّ نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوّة في التّحريم.

و عن الرّبيع بن أنس أنّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.

المسألة الثّانية:اعلم أنّ عندنا أنّ هذه الآية دالّة على تحريم الخمر،فنفتقر إلى بيان أنّ الخمر ما هو؟ثمّ إلى بيان أنّ هذه الآية دالّة على تحريم شرب الخمر؟

أمّا المقام الأوّل:في بيان أنّ الخمر ما هو؟قال الشّافعيّ رحمه اللّه:كلّ شراب مسكر فهو خمر،و قال أبو حنيفة:الخمر عبارة عن عصير العنب الشّديدر.

ص: 826


1- في الأصل:الخطر.

الّذي قذف بالزّبد.

حجّة الشّافعيّ على قوله وجوه:

أحدها:ما روى أبو داود في«سننه»:عن الشّعبيّ عن ابن عمر رضي اللّه عنه،قال:نزل تحريم الخمر يوم نزل و هي من خمسة:من العنب،و التّمر، و الحنطة،و الشّعير،و الذّرّة؛و الخمر ما خامر العقل.

وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه:

أحدها:أنّ عمر أخبر أنّ الخمر حرّمت يوم حرّمت و هي تتّخذ من الحنطة و الشّعير،كما أنّها كانت تتّخذ من العنب و التّمر.و هذا يدلّ على أنّهم كانوا يسمّونها كلّها خمرا.

و ثانيها:أنّه قال:حرّمت الخمر يوم حرّمت، و هي تتّخذ من هذه الأشياء الخمسة،و هذا كالتّصريح بأنّ تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة.

و ثالثها:أنّ عمر ألحق بها كلّ ما خامر العقل من شراب،و لا شكّ أنّ عمر كان عالما باللّغة،و روايته أنّ الخمر اسم لكلّ ما خامر العقل فغيّره.

الحجّة الثّانية:روى أبو داود عن النّعمان بن بشير رضي اللّه عنه،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ من العنب خمرا،و إنّ من التمر خمرا،و إنّ من العسل خمرا،و إنّ من البرّ خمرا،و إنّ من الشّعير خمرا».و الاستدلال به من وجهين:

أحدهما:أنّ هذا صريح في أنّ هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر،فتكون داخلة تحت الآية الدّالّة على تحريم الخمر.

و الثّاني:أنّه ليس مقصود الشّارع تعليم اللّغات، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أنّ الحكم الثّابت في الخمر ثابت فيها،و الحكم المشهور الّذي اختصّ به الخمر هو حرمة الشّرب،فوجب أن يكون ثابتا في هذه الأشربة.

قال الخطّابيّ رحمه اللّه:و تخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة،ليس لأجل أنّ الخمر لا يكون إلاّ من هذه الخمسة بأعيانها،و إنّما جرى ذكرها خصوصا، لكونها معهودة في ذلك الزّمان،فكلّ ما كان في معناها من ذرّة أو سلت أو عصارة شجرة،فحكمها حكم هذه الخمسة،كما أنّ تخصيص الأشياء السّتّة بالذّكر في خبر الرّبا لا يمنع من ثبوت حكم الرّبا في غيرها.

الحجّة الثّالثة:روى أبو داود أيضا عن نافع عن ابن عمر،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كلّ مسكر خمر، و كلّ مسكر حرام».قال الخطّابيّ: قوله عليه السّلام:«كلّ مسكر خمر»دلّ على وجهين:

أحدهما:أنّ الخمر اسم لكلّ ما وجد منه السّكر من الأشربة كلّها،و المقصود منه:أنّ الآية لمّا دلّت على تحريم الخمر،و كان مسمّى الخمر مجهولا للقوم، حسن من الشّارع أن يقال:مراد اللّه تعالى من هذه اللّفظة هذا:إمّا على سبيل أنّ هذا هو مسمّاه في اللّغة العربيّة،أو على سبيل أن يضع اسما شرعيّا على سبيل الإحداث،كما في الصّلاة و الصّوم و غيرهما.

و الوجه الآخر:أن يكون معناه أنّه كالخمر في الحرمة؛و ذلك لأنّ قوله:هذا خمر،فحقيقة هذا اللّفظ يفيد كونه في نفسه خمرا،فإن قام دليل على أنّ ذلك ممتنع،وجب حمله مجازا على المشابهة في الحكم،الّذي

ص: 827

هو خاصيّة ذلك الشّيء.

الحجّة الرّابعة:روى أبو داود عن عائشة رضي اللّه عنها أنّها قالت:سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن البتع، فقال:«كلّ شراب أسكر فهو حرام».قال الخطّابيّ:

«البتع شراب يتّخذ من العسل»و فيه إبطال كلّ تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة،و إفساد لقول من قال:إنّ القليل من المسكر مباح،لأنّه عليه السّلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس،فيدخل فيه القليل و الكثير منها.و لو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه و مقاديره لذكره و لم يهمله.

الحجّة الخامسة:روى أبو داود عن جابر بن عبد اللّه،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما أسكر كثيره فقليله حرام».

الحجّة السّادسة:روى أيضا عن القاسم عن عائشة،قالت:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«كلّ مسكر حرام و ما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرام».قال الخطّابيّ: «الفرق»مكيال يسع ستّة عشر رطلا،و فيه أبين البيان أنّ الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشّراب.

الحجّة السّابعة:روى أيضا أبو داود عن شهر بن حوشب،عن أمّ سلمة،قالت:نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن كلّ مسكر و مفتر.قال الخطّابيّ:المفتر كلّ شراب يورث الفتور و الخدر في الأعضاء،و هذا لا شكّ أنّه متناول لجميع أنواع الأشربة،فهذه الأحاديث كلّها دالّة على أنّ كلّ مسكر فهو خمر،و هو حرام.

النّوع الثّاني من الدّلائل على أنّ كلّ مسكر خمر:

التّمسّك بالاشتقاقات.قال أهل اللّغة:أصل هذا الحرف التّغطية،سمّي الخمار خمارا،لأنّه يغطّي رأس المرأة،و الخمر ما واراك من شجر و غيره،من وهدة و أكمة،و خمرت رأس الإناء أي غطّيته،و الخامر هو الّذي يكتم شهادته.قال ابن الأنباريّ:سمّيت خمرا، لأنّها تخامر العقل،أي تخالطه.يقال:خامره الدّاء إذا خالطه،و أنشد لكثيّر:

*هنيئا مريئا غير داء مخامر*

و يقال:خامر السّقام كبده،و هذا الّذي ذكره راجع إلى الأوّل،لأنّ الشّيء إذا خالط الشّيء صار بمنزلة السّاتر له.فهذه الاشتقاقات دالّة على أنّ الخمر ما يكون ساترا للعقل،كما سمّيت مسكرا،لأنّها تسكر العقل،أي تحجزه،و كأنّها سمّيت بالمصدر من خمره خمرا،إذا ستره للمبالغة.و يرجع حاصله إلى أنّ الخمر هو السّكر،لأنّ السّكر يغطّي العقل،و يمنع من وصول نوره إلى الأعضاء.فهذه الاشتقاقات من أقوى الدّلائل على أن مسمّى الخمر هو المسكر،فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه؟لا يقال:هذا إثبات للّغة بالقياس،و هو غير جائز،لأنّا نقول:ليس هذا إثباتا للّغة بالقياس،بل هو تعيين المسمّى بواسطة هذه الاشتقاقات،كما أنّ أصحاب أبي حنيفة رحمهم اللّه يقولون إنّ مسمّى النّكاح هو الوطء،و يثبتونه بالاشتقاقات،و مسمّى الصّوم هو الإمساك،و يثبتونه بالاشتقاقات.

النّوع الثّالث:من الدّلائل الدّالّة على أنّ الخمر هو المسكر،أنّ الأمّة مجمعة على أنّ الآيات الواردة في

ص: 828

الخمر ثلاث:اثنان منها و ردا بلفظ الخمر؛أحدهما:

هذه الآية،و الثّانية:آية المائدة،و الثّالثة:وردت في السّكر،و هو قوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،و هذا يدلّ على أنّ المراد من الخمر هو المسكر.

النّوع الرّابع من الحجّة:أنّ سبب تحريم الخمر هو أنّ عمر و معاذا قالا:«يا رسول اللّه إنّ الخمر مسلبة للعقل،مذهبة للمال،فبيّن لنا فيه»،فهما إنّما طلبا الفتوى من اللّه و رسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل،فوجب أن يكون كلّ ما كان مساويا للخمر في هذا المعنى:إمّا أن يكون خمرا،و إمّا أن يكون مساويا للخمر في هذا الحكم.

النّوع الخامس من الحجّة:أنّ اللّه علّل تحريم الخمر بقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ المائدة:91،و لا شكّ أنّ هذه الأفعال معلّلة بالسّكر،و هذا التّعليل يقينيّ،فعلى هذا تكون هذه الآية نصّا في أنّ حرمة الخمر معلّلة بكونها مسكرة،فإمّا أن يجب القطع بأنّ كلّ مسكر خمر،و إن لم يكن كذلك فلا بدّ من ثبوت هذا الحكم في كلّ مسكر،و كلّ من أنصف و ترك العناد،علم أنّ هذه الوجوه ظاهرة جليّة في إثبات هذا المطلوب.

حجّة أبي حنيفة رحمه اللّه من وجوه:

أحدها:قوله تعالى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً النّحل:

67،منّ اللّه تعالى علينا باتّخاذ السّكر و الرّزق الحسن،و ما نحن فيه سكر و رزق حسن،فوجب أن يكون مباحا،لأنّ المنّة لا تكون إلاّ بالمباح.

و الحجّة الثّانية:ما روى ابن عبّاس أنّه عليه الصّلاة و السّلام أتى السّقاية عام حجّة الوداع فاستند إليها،و قال:اسقوني،فقال العبّاس:أ لا أسقيك ممّا ننبذه في بيوتنا؟فقال:ما تسقي النّاس، فجاءه بقدح من نبيذ فشمّه،فقطّب وجهه و ردّه،فقال العبّاس:يا رسول اللّه أفسدت على أهل مكّة شرابهم، فقال:ردّوا عليّ القدح،فردّوه عليه،فدعا بماء من زمزم و صبّ عليه و شرب،و قال:إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة،فاقطعوا نتنها بالماء.

وجه الاستدلال به أنّ التّقطيب لا يكون إلاّ من الشّديد،و لأنّ المزج بالماء كان لقطع الشّدّة بالنّصّ، و لأنّ اغتلام الشّراب شدّته،كاغتلام البعير سكره.

الحجّة الثّالثة:التّمسّك بآثار الصّحابة.

و الجواب عن الأوّل:أنّ قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً نكرة في الإثبات،فلم قلتم:

إنّ ذلك السّكر و الرّزق الحسن هو هذا النّبيذ؟ثمّ أجمع المفسّرون على أنّ تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثّلاث الدّالّة على تحريم الخمر،فكانت هذه الثّلاث إمّا ناسخة،أو مخصّصة لها.

و أمّا الحديث فلعلّ ذلك النّبيذ كان ماء نبذت تمرات فيه،لتذهب الملوحة،فتغيّر طعم الماء قليلا إلى الحموضة،و طبعه عليه السّلام كان في غاية اللّطافة،فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطّعم،فلذلك قطّب وجهه.

و أيضا كان المراد بصبّ الماء فيه،إزالة ذلك القذر من

ص: 829

الحموضة أو الرّائحة.و بالجملة فكلّ عاقل يعلم أنّ الإعراض عن تلك الدّلائل الّتي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضّعيف،غير جائز.

و أمّا آثار الصّحابة فهي متدافعة متعارضة، فوجب تركها و الرّجوع إلى ظاهر كتاب اللّه و سنّة الرّسول عليه السّلام،فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر.

المقام الثّاني:في بيان أنّ هذه الآية دالّة على تحريم الخمر،و بيانه من وجوه:

الأوّل:أنّ الآية دالّة على أنّ الخمر مشتملة على الإثم،و الإثم حرام لقوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ الأعراف:33،فكان مجموع هاتين الآيتين دليلا على تحريم الخمر.

الثّاني:أنّ الإثم قد يراد به العقاب،و قد يراد به ما يستحقّ به العقاب من الذّنوب،و أيّهما كان فلا يصحّ أن يوصف به إلاّ المحرّم.

الثّالث:أنّه تعالى قال: وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما صرّح برجحان الإثم و العقاب؛و ذلك يوجب التّحريم.

فإن قيل:الآية لا تدلّ على أنّ شرب الخمر إثم، بل تدلّ على أنّ فيه إثما،فهب أنّ ذلك الإثم حرام فلم قلتم:إنّ شرب الخمر لمّا حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراما؟

قلنا:لأنّ السّؤال كان واقعا عن مطلق الخمر،فلمّا بيّن تعالى أنّ فيه إثما،كان المراد أنّ ذلك الإثم لازم له على جميع التّقديرات،فكان شرب الخمر مستلزما لهذه الملازمة المحرّمة،و مستلزم المحرّم محرّم،فوجب أن يكون الشّرب محرّما.

و منهم من قال:هذه الآية لا تدلّ على حرمة الخمر،و احتجّ عليه بوجوه:

أحدها:أنّه تعالى أثبت فيها منافع للنّاس،و المحرّم لا يكون فيه منفعة.

و الثّاني:لو دلّت هذه الآية على حرمتها،فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة و آية تحريم الصّلاة؟

الثّالث:أنّه تعالى أخبر أنّ فيهما إثما كبيرا، فمقتضاه أنّ ذلك الإثم الكبير يكون حاصلا ما داما موجودين،فلو كان ذلك الإثم الكبير سببا لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشّرائع.

و الجواب عن الأوّل:أنّ حصول النّفع العاجل فيه في الدّنيا لا يمنع كونه محرّما،و متى كان كذلك لم يكن حصول النّفع فيهما مانعا من حرمتهما،لأنّ صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ.

و الجواب عن الثّاني:أنّا روينا عن ابن عبّاس أنّها نزلت في تحريم الخمر،و التّوقّف الّذي ذكرته غير مرويّ عنهم،و قد يجوز أن يطلب الكبار من الصّحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التّحريم،كما التمس إبراهيم صلوات اللّه عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكونا و طمأنينة.

و الجواب عن الثّالث:أنّ قوله: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ إخبار عن الحال لا عن الماضي.و عندنا أنّ اللّه تعالى علم أنّ شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزّمان، و علم أنّه ما كان مفسدة للّذين كانوا قبل هذه الأمّة،

ص: 830

فهذا تمام الكلام في هذا الباب.(6:42-47)

ابن عربيّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ خمر الهوى و حبّ الدّنيا،و ميسر احتيال النّفس في جدب الحظّ. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ الحجاب و البعد، وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ في باب المعاش و تحصيل اللّذّة النّفسانيّة،و الفرح بالذّهول عن الهيئات الرّديئة المشوّشة،و الهموم المكدّرة(1:137)

القرطبيّ: ...و الخمر:ماء العنب الّذي غلى أو طبخ،و ما خامر العقل من غيره فهو في حكمه،لأنّ إجماع العلماء أنّ القمار كلّه حرام و إنّما ذكر الميسر من بينه فجعل كلّه قياسا على الميسر،و الميسر إنّما كان قمارا في الجزر خاصّة،فكذلك كلّ ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.[إلى أن قال:]

قال بعض المفسّرين:إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئا من الكرامة و البرّ إلاّ أعطاه هذه الأمّة،و من كرامته و إحسانه أنّه لم يوجب عليهم الشّرائع دفعة واحدة، و لكن أوجب عليهم مرّة بعد مرّة،فكذلك تحريم الخمر.و هذه الآية أوّل ما نزل في أمر الخمر.[ثمّ قال نحو ابن عبّاس](3:51)

النّيسابوريّ: [نحو الفخر الرّازيّ ملخّصا إلى أن قال:]

و أمّا كيفيّة دلالة الآية على الحرمة،فهي أنّها مشتملة على أنّ في الخمر إثما و الإثم حرام،لقوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ و ممّا يؤكّد هذا أنّ السّؤال كان واقعا عن مطلق الخمر،و قد جعل اللّه تعالى الإثم لازما لهذه الماهيّة،فيلزمها الإثم على جميع التّقادير،من الشّرب و غير ذلك من وجوه الانتفاع و الاستعمال.

و صرّح أيضا بأنّ الإثم الحاصل منها أكبر من النّفع المتوهّم فيها عاجلا،و إنّما لم يقنع كبار الصّحابة بهذه الآية طلبا لما هو آكد في التّحريم ثقة و اطمئنانا، كما التمس إبراهيم عليه السّلام مشاهدة إحياء الموتى،طلبا لمزيد الإيقان،و ركونا إلى سكون النّفس بالعيان.

فإن قيل:لمّا كان الإثم لازما لماهيّة الخمر من حيث هي،فلم لم تكن محرّمة في سائر الشّرائع؟

قلت:كم من نقص في الأديان السّالفة تمّمه شرع خاتم النّبيّين؟

و أيضا هذا لزوم شرعيّ،و يمكن أن تختلف الشّرائع بحسب اختلاف الأزمان،و لا سيّما إذا اعتبرت مصالح الإنسان.(2:233)

الخازن :[نحو الثّعلبيّ و أضاف:]

المسألة الثّانية في الحكم بنجاسة الخمر:

الخمر و ما يلحق به نجسة العين،و يدلّ على نجاستها قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ المائدة:

90.و الرّجس في اللّغة:النّجس،و الشّيء المستقذر.

و قوله تعالى:(فاجتنبوه)فأمر باجتنابها فكانت نجسة العين،و يدلّ على نجاستها أيضا أنّها محرّمة التّناول لا للاحترام،و لأنّ النّاس مشغوفون بها، فينبغي أن يحكم بنجاستها تأكيدا للزّجر عنها.

المسألة الثّالثة في تحريم بيعها و الانتفاع بها:

أجمعت الأمّة على تحريم بيع الخمر و الانتفاع بها

ص: 831

و تحريم ثمنها،و يدلّ على ذلك ما روي عن جابر قال:

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول عام فتح مكّة:«إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الانتفاع بها و الميتة و الخنزير و الأصنام».

[فذكر روايات أخرى بهذا المعنى،ثمّ قال:]

فإن قلت:فما وجه قوله تعالى: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ؟

قلت:منافعها اللّذّة الّتي توجد عند شربها، و الفرح و الطّرب معها،و ما كانوا يصيبون من الرّبح في ثمنها؛و ذلك قبل التّحريم،فلمّا حرّمت الخمر حرّم ذلك كلّه.(1:177)

أبو حيّان :[بحث في اللّغة و قد سبقت ثمّ قال:]

و قال بعض من ألّف في النّاسخ و المنسوخ:أكثر العلماء على أنّها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر،و سورة الأنعام مكّيّة،فلا يعتبر بما فيها من قوله: قُلْ لا أَجِدُ الأنعام:145،و قال ابن جبير:

لمّا نزل قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ كره الخمر قوم للإثم،و شربتها قوم للمنافع،حتّى نزل: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43، فاجتنبوها في أوقات الصّلاة،حتّى نزل:(فاجتنبوه) المائدة:90،فحرّمت.

قال مكّيّ: فهذا يدلّ على أنّ هذه منسوخة بآية المائدة،و لا شكّ في أنّ نزول المائدة بعد البقرة.و قال قتادة:ذمّ اللّه الخمر بهذه الآية و لم يحرّمها.و قال بعض النّاس:لا يقال:إنّ هذه الآية ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر،لأنّه يلزم منه أنّ اللّه أنزل إباحتها،ثمّ نسخ.و لم يكن ذلك،و إنّما كان مسكوتا عن شربها، فكانوا جارين في شربها على عادتهم،ثمّ نزل التّحريم.

كما سكت عنهم في غيرها من المحرّمات إلى وقت التّحريم...

أمّا تفسير الخمر في الشّريعة،فقال الجمهور:كلّ ما خامر العقل و أفسده ممّا يشرب يسمّى خمرا.و قال الرّازيّ عن أبي حنيفة:الخمر اسم ما يتّخذ من العنب خاصّة،و نقل عنه السّمرقنديّ: أنّ الخمر عنده هو اسم ما اتّخذ من العنب و الزّبيب و التّمر،و قال:إنّ المتّخذ من الذّرّة و الحنطة ليس من الأشربة،و إنّما هو من الأغذية المشوّشة للعقل كالبنج و السّيكران.و قيل:

الصّحيح عن أبي حنيفة:أنّ القطرة من هذه الأشربة من الخمر...

و اختلف المفسّرون:هل تدلّ هذه الآية على تحريم الخمر و الميسر أم لا تدلّ؟

و الظّاهر أنّها تدلّ على ذلك،و المعنى:قل في تعاطيهما إثم كبير،أي حصول إثم كبير،فقد صار تعاطيهما من الكبائر.و قد قال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ الأعراف:33،فما كان إثما،أو اشتمل على الإثم،فهو حرام.و الإثم هو الذّنب،و إذا كان الذّنب كثيرا أو كبيرا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه،و كيف يقدم على ذلك مع التّصريح بالخسران إذا كان الإثم أكبر من النّفع؟و قال الحسن:ما فيه الإثم محرّم،و لمّا كان في شربها الإثم سمّيت إثما في قول الشّاعر:

شربت الإثم حتّى زلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

ص: 832

و من قال:لا تدلّ على التّحريم،استدلّ بقوله:

وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ، و المحرّم لا يكون فيه منفعة،و لأنّها لو دلّت على التّحريم لقنع الصّحابة بها،و هم لم يقنعوا حتّى نزلت آية المائدة،و آية التّحريم في الصّلاة.

و أجيب بأنّ المحرّم قد يكون فيه منفعة عاجلة في الدّنيا،و بأنّ بعض الصّحابة سأل أن ينزل التّحريم بالأمر الواضح الّذي لا يلتبس على أحد،فيكون آكد في التّحريم.[ثمّ بحث في«الإثم»و منافع الخمر و الميسر إلى أن قال:]

و ظاهر الآية الإخبار بأنّ فيهما إثما كبيرا،و منافع حالة الجواب و زمانه.و قال ابن عبّاس و الرّبيع:الإثم فيهما بعد التّحريم،و المنفعة فيهما قبل التّحريم،فعلى هذا يكون الإثم في وقت،و المنفعة في وقت.و الظّاهر أنّه إخبار عن الحال،و الإثم الّذي فيهما هو الذّنب الّذي يترتّب عليه العقاب.

و قالت طائفة:الإثم الّذي في الخمر:ذهاب العقل، و السّباب،و الافتراء،و التّعدّي الّذي يكون من شاربها.و المنفعة الّتي في الخمر،قال الأكثرون:ما يحصل منها من الأرباح و الأكساب،و هو معنى قول مجاهد.و قيل:ما ذكر الأطبّاء في منافعها من ذهاب الهمّ،و حصول الفرح،و هضم الطّعام،و تقوية الضّعيف،و الإعانة على الباءة،و تسخية البخيل، و تصفية اللّون،و تشجيع الجبان،و غير ذلك من منافعها.و قد صنّفوا في ذلك مقالات و كتبا، و يسمّونها:الشّراب الرّيحانيّ،و قد ذكروا أيضا لها مضارّ كثيرة من جهة الطّبّ.

و المنفعة الّتي في الميسر:إيسار القامر بغير كدّ و لا تعب.و قيل:التّوسعة على المحاويج،فإنّ من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور،و يفرّقه على الفقراء.

و ذكر المفسرون هنا حكم ما أسكر كثيره من غير الخمر العنبيّة،و حدّ الشارب،و كيفيّة الضّرب،و ما يتوقّى من المضروب فلا يضرب عليه،و لم تتعرّض الآية لشيء من ذلك،و هو مذكور في علم الفقه.

(2:156)

السّمين:[نحو أبي حيّان إلاّ أنّه قال:]

و قوله: عَنِ الْخَمْرِ لا بدّ من حذف مضاف؛إذ السّؤال عن ذاتي الخمر و الميسر غير مراد،و التّقدير:

عن حكم الخمر و الميسر حلاّ و حرمة،و لذلك جاء الجواب مناسبا لهذا المقدّر..(1:536)

الفاضل المقداد:الخمر في الأصل:مصدر خمره إذا ستره سمّي به عصير العنب و التّمر إذا غلى و اشتدّ، لأنّه يخمر العقل،أي يستره،كما سمّي مسكرا لأنّه يسكره أي يحجزه.و هو حرام إجماعا مطلقا،و كذا كلّ ما أسكر في الجملة،و إن لم يسكر قليله عندنا.

و قال أبو حنيفة:نقيع الزّبيب و التّمر إذا طبخ حتّى ذهب ثلثاه حلّ شربه إلاّ ما ورث السّكر.و الحقّ خلافه لما تقدّم.

ثمّ اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشّرائع،و ما أبيحت في شريعة قطّ،و كذا كلّ مسكر،و أوردوا في ذلك أخبارا عن أئمّتهم عليهم السّلام.

و أمّا المفسّرون فقالوا:نزل في الخمر أربع

ص: 833

آيات.[و ذكر نحوا ممّا ذكر الفخر الرّازيّ إلى أن قال:]

قال المحقّقون:و يمكن الاستدلال على تحريمهما جزما بكلّ واحدة من هذه الآيات:

أمّا الأولى:فلأنّه قال: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً النّحل:67،فوصف الرّزق الّذي هو قسيم للسّكر بالحسن،من أدلّة الدّلائل على أنّ المسكر ليس بحلال،و إلاّ لم يختصّ الوصف بالرّزق.

إن قلت:إنّ الآية وردت في معرض الامتنان، و هو سبحانه لا يمتنّ بالمحرّم.

قلت:الامتنان بخلق أصولها من الثّمرات،و كونها صالحة للانتفاع بها على وجوه متعدّدة.

و أمّا الثّانية:فلأنّه أخبر أنّ فيها إثما كبيرا،و الإثم هو الكبيرة بدليل قوله: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً النّساء:112.

و أمّا الثّالثة:فلأنّه بيّن منافاة السّكر للصّلاة، و الصّلاة واجبة،و وجوب أحد المتنافيين يستلزم تحريم الآخر،لأنّ الأمر بالشّيء يستلزم النّهي عن ضدّه،كما قرّر في الأصول.

و أمّا الرّابعة:فلما تقدّم في المكاسب.

ثمّ إنّ السّيّد المرتضى رضي اللّه عنه و جماعة استدلّوا على تحريم الخمر و كلّ مسكر بآية خامسة، و هي قوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:33، و الإثم هنا:الخمر.[ثمّ استشهد بشعر]

و أمّا ما ذكره المفسّرون و الفقهاء من كونها كانت قبله حلالا فباطل بإجماعنا،و النّقل الصّحيح عن أئمّتنا عليهم السّلام،و قوله:صلّى اللّه عليه و آله«كلّ مسكر حرام» و أنّه صلّى اللّه عليه و آله لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مشتريها و ساقيها و آكل ثمنها و حملها و المحمولة إليه و شاربها،و قال صلّى اللّه عليه و آله:«شارب الخمر كعابد الوثن» و غير ذلك من الأخبار.(2:304)

البروسويّ: عَنِ الْخَمْرِ أي عن حكم تعاطيها بقرينة الجواب،لأنّ الحلّ و الحرمة و الإثم و الطّاعة إنّما هي من عوارض أفعال المكلّفين،و لا إثم في ذوات الأشياء و أعيانها.و يدخل في تعاطي الخمر البيع و الشّراء و غيرهما،ممّا يدخل تحت التّصرّف على خلاف الشّرع.[ثمّ قال نحو الزّمخشريّ إلى أن قال:]

و حرّمت الخمر فى الثّالثة (1)من الهجرة بعد غزوة الأحزاب بأيّام.(1:338)

شبّر:و هو كلّ شراب مسكر،و في حكمه الفقّاع للسّنّة،هو في الأصل مصدر:خمره،أي ستره، لأنّه يستر العقل.(1:218)

الشّوكانيّ: السّائلون في قوله: عَنِ الْخَمْرِ هم المؤمنون،كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية.[ثمّ ذكر اللّغة نحوا ممّا سبق إلى أن قال:]

و الخمر:ماء العنب الّذي غلى و اشتدّ و قذف بالزّبد.و ما خامر العقل من غيره فهو في حكمه،كما ذهب إليه الجمهور...و قد أطلت الكلام على الخمر في شرحي ل«المنتقى»،فليرجع إليه.(1:278)ة.

ص: 834


1- هكذا في الأصل و الظّاهر:الخامسة.

الآلوسيّ: [ذكر بعض الرّوايات في سبب النّزول كما سبق عن الثّعلبيّ و الواحديّ إلى أن قال:]

و الخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه عنه:الّتي من ماء العنب،إذا غلى و اشتدّ و قذف بالزّبد.[ثمّ ذكر سبب تسميتها نحو أبي حيّان إلى أن قال:]

و ذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف، و يكفي الاشتداد،لأنّ معنى المحرّم يحصل به.و للإمام أنّ الغليان بداية الشّدّة،و كما لها بقذف الزّبد و سكونه؛إذ به يتميّز الصّافي من الكدر،و أحكام الشّرع قطعيّة فتناط بالنّهاية كالحدّ،و إكفار المستحلّ، و حرمة البيع.و أخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشّرب احتياطا.

ثمّ إطلاق الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا، و هو المعروف عند أهل اللّغة.

و من النّاس من قال:هو حقيقة في كلّ مسكر،لما أخرج الشّيخان و أبو داود و التّرمذيّ و النّسائيّ:

«كلّ مسكر خمر».

و أخرج أبو داود:نزل تحريم الخمر يوم نزل و هو من خمسة:من العنب و التّمر و الحنطة و الشّعير و الذّرّة؛و الخمر ما خامر العقل.و أخرج مسلم عن أبي هريرة:الخمر من هاتين الشّجرتين،و أشار إلى الكرم و النّخلة.و أخرج البخاريّ عن أنس:

«حرّمت الخمر حين حرّمت،و ما يتّخذ من خمر الأعناب إلاّ قليل،و عامّة خمرنا البسر و التّمر».

و يمكن أن يجاب أنّ المقصود من ذلك كلّه بيان الحكم،و تعليم أنّ ما أسكر حرام كالخمر،و هو الّذي يقتضيه منصب الإرشاد-لا تعليم اللّغات العربيّة- سيّما و المخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها.

و ما يقال:إنّه مشتقّ من مخامرة العقل،و هي موجودة في كلّ مسكر،لا يقتضي العموم،و لا ينافي كون الاسم خاصّا فيما تقدّم،فإنّ النّجم مشتقّ من الظّهور،ثمّ هو اسم خاصّ للنّجم المعروف،لا لكلّ ما ظهر،و هذا كثير النّظير.

و توسّط بعضهم،فقال:إنّ الخمر حقيقة في لغة العرب في الّتي من ماء العنب،إذا صار مسكرا،و إذا استعمل في غيره كان مجازا.إلاّ أنّ الشّارع جعله حقيقة في كلّ مسكر شابه موضوعه اللّغويّ،فهو في ذلك حقيقة شرعيّة كالصّلاة و الصّوم و الزّكاة في معانيها المعروفة شرعا.و الخلاف قويّ،و لقوّته و وقوع الإجماع على تسمية المتّخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره،أكفروا مستحلّ الأوّل و لم يكفروا مستحلّ الثّاني،بل قالوا:إنّ عين الأوّل حرام غير معلول بالسّكر و لا موقوف عليه.و من أنكر حرمة العين،و قال:إنّ السّكر منه حرام،لأنّه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب؛إذ سمّاه رجسا فيه،و الرّجس محرّم العين،فيحرم كثيره و إن لم يسكر،و كذا قليله و لو قطرة،و يحدّ شاربه مطلقا.

و في الخبر:«حرّمت الخمر لعينها-و في رواية:بعينها- قليلها و كثيرها سواء،و السّكر من كلّ شراب».

و قالوا:إنّ الطّبخ لا يؤثّر،لأنّه للمنع من ثبوت الحرمة،لا لرفعها بعد ثبوتها،إلاّ أنّه لا يحدّ فيه ما لم يسكر منه،بناء على أنّ الحدّ بالقليل النّيّ خاصّة

ص: 835

و هذا قد طبخ.و أمّا غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتّى يذهب أقلّ من ثلثيه،و هو المطبوخ أدنى طبخة- و يسمّى الباذق و المنصف و هو ما ذهب نصفه بالطّبخ -فحرام عندنا،إذا غلى و اشتدّ و قذف بالزّبد أو إذا اشتدّ على الاختلاف.

و قال الأوزاعيّ و أكثر المعتزلة:إنّه مباح،لأنّه مشروب طيّب و ليس بخمر.و لنا أنّه رقيق ملذّ مطرب،و لذا يجتمع عليه الفسّاق،فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلّق به.

و أمّا نقيع التّمر و هو السّكر و هو النّيّ من ماء التّمر فحرام مكروه.و قال شريك:إنّه مباح للامتنان، و لا يكون بالمحرّم.و يردّه إجماع الصّحابة،و الآية محمولة على الابتداء،كما أجمع عليه المفسّرون.و قيل:

أراد بها التّوبيخ،أي أ تتّخذون منه سكرا و تدعون رزقا حسنا.

و أمّا نقيع الزّبيب و هو النّيّ من ماء الزّبيب، فحرام إذا اشتدّ و غلى،و فيه خلاف الأوزاعيّ.و نبيذ الزّبيب و التّمر إذا طبخ كلّ واحد منهما أدنى طبخة حلال،و إن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على ظنّه أنّه لا يسكر،من غير لهو و لا طرب،عند أبي حنيفة و أبي يوسف،و عند محمّد و الشّافعيّ حرام.

و نبيذ العسل و التّين و الحنطة و الذّرّة و الشّعير و عصير العنب إذا طبخ و ذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأوّل و الثّاني؛و عند محمّد و الشّافعيّ حرام أيضا.و أفتى المتأخّرون بقول محمّد في سائر الأشربة، و ذكر ابن وهبان أنّه مرويّ عن الكلّ...

و عندي أنّ الحقّ الّذي لا ينبغي العدول عنه:أنّ الشّراب المتّخذ ممّا عدا العنب كيف كان،و بأيّ اسم سمّي،[و]متى كان؛بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام -و قليله ككثيره-و يحدّ شاربه،و يقع طلاقه، و نجاسته غليظة.

و في الصّحيحين:أنّه صلّى اللّه عليه و سلّم سئل عن النّقيع و هو نبيذ العسل،فقال:«كلّ شراب أسكر فهو حرام».

و روى أبو داود«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن كلّ مسكر و مفتر»و صحّ:«ما أسكر كثيره فقليله حرام».و في حديث آخر:«ما أسكر الفرق (1)منه فملء الكفّ منه حرام».و الأحاديث متظافرة على ذلك،و لعمري إنّ اجتماع الفسّاق في زماننا على شرب المسكرات-ممّا عدا الخمر-و رغبتهم فيها فوق اجتماعهم على شرب الخمر و رغبتهم فيه بكثير.و قد وضعوا لها أسماء كالعنبريّة و الإكسير و نحوهما،ظنّا منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة و تبيح شربها للأمّة، و هيهات هيهات الأمر وراء ما يظنّون،فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتّى لا يكفّر مستحلّها-كما قدّمنا-لأنّها اجتهاديّة،و لو ذهب ذاهب إلى القول بالتّكفير،لم يبق في يده من النّاس اليوم إلاّ قليل.[إلى أن قال:]

و معنى الآية:يسألونك عمّا في تعاطي هذين الأمرين،و دلّ على التّقدير بقوله تعالى: قُلْ فِيهِماه.

ص: 836


1- الفرق:إناء يكتال به.

إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب إِثْمٌ كَبِيرٌ من حيث إنّ تناولهما مؤدّ إلى ما يوجب الإثم.(2:112-114)

القاسميّ: هذه الآية أوّل آية نزلت في الخمر،على ما قاله ابن عمر و الشّعبيّ و مجاهد و قتادة و الرّبيع بن أنس و عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.ثمّ نزلت الآية الّتي في سورة النّساء ثمّ نزلت الآية الّتي في المائدة[إلى أن قال:]

و حقيقة الخمر ما أسكر من كلّ شيء.

روى«الشّيخان»عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«كلّ مسكر خمر،و كلّ مسكر حرام،و من شرب الخمر في الدّنيا و مات و هو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة».(3:550)

رشيد رضا :[ذكر الرّوايات في سبب النّزول، ثمّ قال:]

و لا يتوقّف فهم معنى الآيات على شيء من هذه الرّوايات،و يظهر من مجموعها أنّ القطع بتحريم الخمر و النّهي عنها كان بعد تمهيد بالذّمّ،و النّهي عن السّكر في حال قرب الصّلاة و أوقات الصّلوات متقاربة،فمن ينهى عن قرب الصّلاة و هو سكران،فلا بدّ أن يتجنّب السّكر في أكثر الأوقات،لئلاّ تحضره الصّلاة و هو سكران،و هو الّذي تدلّ عليه الجملة الحاليّة وَ أَنْتُمْ سُكارى الّتي قيّد بها النّهي-كما سنبيّنه في تفسير الآية من سورة النّساء-و في هذا من الحكمة في التّدريج بالتّكليف ما لا يخفى.[ثمّ ذكر قول القفّال، و قال:]

و الّذي كان يتبادر،لو لا الرّوايات أنّ آية سورة النّساء هي الّتي نزلت أوّلا،فكانوا يمتنعون عن الشّرب في أكثر الأوقات،لئلاّ تفوتهم الصّلاة.و أمّا آية المائدة فلا شكّ أنّها آخر ما نزل،لأنّها أكّدت النّهي،و بيّنت علّة التّحريم بالتّعيين،على أنّ السّورة برمّتها من آخر السّور نزولا.

و قد ذهب بعض الأئمّة إلى أنّ الخمر حرّمت بهذه الآية و أنّ ما أتى بعدها فهو من قبيل التّوكيد،لأنّ لفظ(الاثم)يفيد المحرّم،قال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:33،و لكن ذهب الجمهور إلى أنّ التّحريم كان تدريجا كما تقدّم.

و وجّهه الأستاذ الإمام بأنّه المنقول و المعهود في حكمة التّشريع،و قال:إنّ(الاثم)هو الضّرر، فتحريم كلّ ضارّ لا يقتضي تحريم ما فيه مضرّة من جهة و منفعة من جهة أخرى،لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصّحابة،فترك لها الخمر بعضهم و أصرّ على شربها آخرون،كأنّهم رأوا أنّه يتيسّر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها،و كان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها.و لو فوجئوا بالتّحريم مع ولوع الكثيرين بها و اعتقادهم منفعتها،لخشي أن يخالفوا أو يستثقلوا التّكليف،فكان من حكم اللّه أن ربّاهم على الاقتناع بأسرار التّشريع و فوائده،ليأخذه بقوّة و عقل.[و ذكر معاني الخمر لغة كما سبق،ثمّ قال:]

و جميع هذه المعاني ظاهرة في هذه الأشربة المسكرة كلّها-كما قال ابن عبد البرّ-فيصحّ إطلاق إثم الخمر لغة على كلّ مسكر،و هذا ما ذهب إليه

ص: 837

أشهر علماء اللّغة كالجوهريّ و أبو نصر القشيريّ و أبو حنيفة الدّينوريّ،و المجد صاحب القاموس.

و الظّاهر أنّ هذا الإطلاق حقيقيّ،و لا وجه للعدول عنه إلاّ أن يصحّ أنّ العرب كانت تسمّي نوعا خاصّا من المسكرات خمرا،لا تطلق اللّفظ على مسكر سواه،و هو ما زعمه بعض النّاس.و الحنفيّة على أنّ الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتدّ و قذف بالزّبد، زاد بعضهم:ثمّ سكن.و قيل:إذا اشتدّ فقط.

و يردّه أنّ الصّحابة-و هم صميم العرب-فهموا من تحريم الخمر تحريم كلّ مسكر،و لم يفرّقوا بين ما كان من العنب و ما كان من غيره،بل قال أهل الأثر:«إنّ الخمر حرّمت بالمدينة و لم يكن شرابهم يومئذ إلاّ نبيذ البسر و التّمر»،فهو الّذي تناوله نصّ القرآن ابتداء.و أخرج أبو داود:نزل تحريم الخمر يوم نزل و هو من خمسة:من العنب و التّمر و الحنطة و الشّعير و الذّرّة.و الخمر ما خامر العقل:و كأنّ هذا كلّ ما كان يعرف و لا شكّ أنّ غيره مثله.و الأحاديث الصّحيحة صريحة في ذلك،و منها حديث الصّحيحين و أبي داود و التّرمذي و النّسائيّ: «كلّ مسكر خمر» و روي بزيادة«و كلّ خمر حرام»و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الخلفاء يجلدون كلّ من سكر،و يعبّرون عن ذلك بحدّ الخمر أو عقوبته.يقول المخصّصون:إنّ ما ورد في الحديث اصطلاح شرعيّ لا لغويّ.

و نقول:إنّ الّذي أنزل عليه الذّكر ليبيّن للنّاس ما نزّل عليهم،قد بيّن لهم أنّ الخمر الّتي نهى اللّه عنها في كتابه:هي كلّ مسكر،فلا فرق في حكمها بين مسكر و آخر.و هذا البيان قطعيّ متواتر،لأنّ العمل عليه.

و في حديث أبي داود و غيره:«ما أسكر كثيره فقليله حرام».[إلى أن ذكر مضرّات الخمر،فلاحظ]

(2:322)

طنطاوي:[له بحث مستوفى في تحريم الخمر فراجع](1:193-199)

سيّد قطب :ثمّ يمضي السّياق،يبيّن للمسلمين حكم الخمر و القمار،و كلتاهما لذّة من اللّذائذ الّتي كان العرب غارقين فيها،يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم،و تستغرق مشاعرهم و أوقاتهم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ... و إلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر و الميسر.و لكنّ نصّا في القرآن كلّه لم يرد بحلّهما.إنّما كان اللّه يأخذ بيد هذه الجماعة النّاشئة خطوة خطوة في الطّريق الّذي أراده لها،و يصنعها على عينه للدّور الّذي قدّره لها.

و هذا الدّور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر و الميسر،و لا تناسبه بعثرة العمر،و بعثرة الوعي، و بعثرة الجهد في عبث الفارغين،الّذين لا تشغلهم إلاّ لذائذ أنفسهم،أو الّذين يطاردهم الفراغ و الخواء، فيغرقونه في السّكر بالخمر و الانشغال بالميسر؛أو الّذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار و القمار؛كما يفعل كلّ من يعيش في الجاهليّة.أمس و اليوم و غدا!إلاّ أنّ الإسلام على منهجه في تربية النّفس البشريّة كان يسير على هينة و في يسر و في تؤدة...

و هذا النّصّ الّذي بين أيدينا كان أوّل خطوة من

ص: 838

خطوات التّحريم،فالأشياء و الأعمال قد لا تكون شرّا خالصا.فالخير يتلبّس بالشّرّ،و الشّرّ يتلبّس بالخير في هذه الأرض،و لكن مدار الحلّ و الحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشّرّ.فإذا كان الإثم في الخمر و الميسر أكبر من النّفع،فتلك علّة تحريم و منع،و إن لم يصرّح هنا بالتّحريم و المنع.

هنا يبدو لنا طرف من منهج التّربية الإسلاميّ القرآنيّ الرّبّانيّ الحكيم.و هو المنهج الّذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه و فرائضه و توجيهاته.

و نحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر و الميسر.

عند ما يتعلّق الأمر أو النّهي بقاعدة من قواعد التّصوّر الإيمانيّ،أي بمسألة اعتقاديّة،فإنّ الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللّحظة الأولى.

و لكن عند ما يتعلّق الأمر أو النّهي بعادة و تقليد، أو بوضع اجتماعيّ معقّد،فإنّ الإسلام يتريّث به و يأخذ المسألة باليسر و الرّفق و التّدرّج،و يهيّئ الظّروف الواقعيّة الّتي تيسّر التّنفيذ و الطّاعة.فعند ما كانت المسألة مسألة التّوحيد أو الشّرك:أمضى أمره منذ اللّحظة الأولى في ضربة حازمة جازمة.لا تردّد فيها و لا تلفّت،و لا مجاملة فيها و لا مساومة،و لا لقاء في منتصف الطّريق،لأنّ المسألة هنا مسألة قاعدة أساسيّة للتّصوّر،لا يصلح بدونها إيمان و لا يقام إسلام.

فأمّا في الخمر و الميسر فقد كان الأمر أمر عادة و إلف،و العادة تحتاج إلى علاج؛فبدأ بتحريك الوجدان الدّينيّ و المنطق التّشريعيّ في نفوس المسلمين،بأنّ الإثم في الخمر و الميسر أكبر من النّفع.

و في هذا إيحاء بأنّ تركهما هو الأولى،ثمّ جاءت الخطوة الثّانية بآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،و الصّلاة في خمسة أوقات،معظمها متقارب،لا يكفي ما بينها للسّكر و الإفاقة!

و في هذا تضييق لفرص المزاولة العمليّة لعادة الشّرب،و كسر لعادة الإدمان الّتي تتعلّق بمواعيد التّعاطي؛إذ المعروف أنّ المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدّر في الموعد الّذي اعتاد تناوله.فإذا تجاوز هذا الوقت و تكرّر هذا التّجاوز، فترت حدّة العادة و أمكن التّغلّب عليها.حتّى إذا تمّت هاتان الخطوتان جاء النّهي الحازم الأخير بتحريم الخمر و الميسر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ...

المائدة:90.(1:228)

عزّة دروزة :الجمهور على أنّ الخمر ليس اسم شراب معيّن،و إنّما هو اسم عامّ للمسكر،على اعتبار أنّه يخمر العقل،أي يغطّي عليه و من التّعاريف:أنّ كلّ ما غلى و اشتدّ و قذف الزّبد من عصير الفواكه و الثّمار فهو خمر.[ثمّ بحث في الميسر إلى أن قال:]

تعليقات على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ...

و الآية التّالية لها و تلقيناتها في صدد اليتامى و الصّدقات.و الآيتان فصل تشريعيّ جديد،و قد وضعتا بعد الآية السّابقة:إمّا لأنّهما نزلتا بعدها،أو للمماثلة التّشريعيّة.[ثمّ ذكر أقوال المفسّرين إلى أن قال:]

ص: 839

و اندماج الأسئلة و الأجوبة في سياق واحد منسجم،يدلّ على كلّ حال أنّ هذه الأمور ممّا كان يسأل عنه المسلمون في العهد المدنيّ،فنزلت الآيات فيها مرّة واحدة.

و قال المفسّرون:إنّ نفع الخمر هو ما كان يحدثه من نشوة،و ما كان يعود صنعه على صانعيه و أصحاب الثّمار الّتي يصنع منها،و أنّ نفع الميسر هو ما كان يعود على الرّابح من ربح.

و على كلّ حال،فإنّ أسلوب جواب السّؤال الأوّل يدلّ على ما كان للخمر و الميسر من رسوخ و انتشار في بيئة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و عصره،و ما كان لذلك من تأثير في حياة هذه البيئة اقتصاديّا و اجتماعيّا.

و المتبادر أنّ الإشارة إلى ما لهما من منافع إنّما أتت من ذلك،أي إنّها تقرير للواقع،و ليست بقصد إقرارها و تبريرها.

و السّؤال و الجواب عن الخمر و الميسر هما خطوة أولى تتبعها خطوات أخرى في التّشديد،ثمّ في التّحريم على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورتي النّساء و المائدة اللّتين جاءت الخطوات التّالية في بعض آياتهما.

و لقد انطوى الجواب هنا على استكراه تعاطيهما؛ حيث ذكر إثمهما أوّلا و وصف بالكبر ثانيا،و شدّد في وصفه فذكر أنّه أكبر من نفعهما.و هذا مؤيّد لما قلناه آنفا:من أنّ ذكر منافعهما هو إقرار للواقع،و ليس للتّبرير.

و المتبادر أنّ اختصار الجواب على ذلك في الخطوة الأولى،إنّما كان بسبب ذلك الواقع؛حيث اقتضت حكمة التّنزيل التّدرّج في التّشديد و التّحريم، حينما صارت حالة الإسلام و المسلمين تتحمّل ذلك.

(7:331)

ابن عاشور :استئناف لإبطال عملين غالبين على النّاس في الجاهليّة،و هما:شرب الخمر و الميسر و هذا من عداد الأحكام الّتي بيّنها فى هاته السّورة، ممّا يرجع إلى إصلاح الأحوال الّتي كان عليها النّاس في الجاهليّة.و المشروع في بيانها من قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى البقرة:178،إلى آخر السّورة،عدا ما تخلّل ذلك من الآداب و الزّواجر و البشائر و المواعظ و الأمثال و القصص،على عادة القرآن في تفنّن أساليبه،تنشيطا للمخاطبين و السّامعين و القارئين و من بلغ،و قد تناسقت في هذه الآية...

قال في«الكشّاف»:فلمّا نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم و شربها آخرون،ثمّ نزلت بعدها آية المائدة:

90، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ....

و شرب الخمر عمل متأصّل في البشر قديما، لم تحرّمه شريعة من الشّرائع،لا القدر المسكر بله ما دونه.و أمّا ما يذكره علماء الإسلام أنّ الإسكار حرام في الشّرائع كلّها،فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشّواهد على ضدّه متوافرة.و إنّما جرّأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أنّ الكلّيّات التّشريعيّة- و هي حفظ الدّين و النّفس و العقل و النّسب و المال و العرض-هي ممّا اتّفقت عليه الشّرائع.و هذا القول

ص: 840

و إن كنّا نساعد عليه،فإنّ معناه عندي أنّ الشّرائع كلّها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها،و أمّا أن تكون مراعاة باطّراد في غير شريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتمّ،على أنّ مراعاتها درجات، و لا حاجة إلى البحث في هذا.

بيد أنّ كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر، و لا التّنزيه عن شربها.و في التّوراة الّتي بيد اليهود أنّ نوحا شرب الخمر حتّى سكر،و أنّ لوطا شرب الخمر حتّى سكر سكرا أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع.

و الأخير من الأكاذيب،لأنّ النّبوءة تستلزم العصمة، و الشّرائع و إن اختلفت في إباحة أشياء،فهنالك ما يستحيل على الأنبياء ممّا يؤدّي إلى نقصهم في أنظار العقلاء.و الّذي يجب اعتقاده:أنّ شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء،لا يشربها شاربوها إلاّ للطّرب و اللّهو و السّكر،و كلّ ذلك ممّا يتنزّه عنه الأنبياء،و لأنّها يشربونها لقصد التّقوّي لقلّة هذا القصد من شربها.

و في سفر«اللاّويّين»من التّوراة،و كلّم اللّه هارون قائلا:خمرا و مسكرا لا تشرب أنت و بنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع،لكي لا تموتوا.فرضا دهريّا في أجيالكم و للتّمييز بين المقدّس و المحلّل،و بين النّجس و الطّاهر.

و شيوع شرب الخمر في الجاهليّة معلوم لمن علم أدبهم و تاريخهم،فقد كانت الخمر قوام أودّ حياتهم، و قصارى لذّاتهم،و مسرّة زمانهم،و ملهى أوقاتهم.

و عن أنس بن مالك:«حرّمت الخمر و لم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها،و ما حرّم عليهم شيء أشدّ عليهم من الخمر»فلا جرم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التّدريج،فأقرّ حقبة إباحة شربها؛ و حسبكم في هذا الامتنان بذلك في قوله تعالى:

وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً النّحل:67،على تفسير من فسّر السّكر بالخمر.و قيل:السّكر:هو النّبيذ غير المسكر.

و الأظهر التّفسير الأوّل.

و آية سورة النّحل نزلت بمكّة،و اتّفق أهل الأثر على أنّ تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيّام،أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس،على الخلاف في عام غزوة الأحزاب.و الصّحيح الأوّل،فقد امتنّ اللّه على النّاس بأن اتّخذوا سكرا من الثّمرات الّتي خلقها لهم.ثمّ إنّ اللّه لم يهمل رحمته بالنّاس حتّى في حملهم على مصالحهم،فجاءهم في ذلك بالتّدريج، فقيل:إنّ آية سورة البقرة هذه هي أوّل آية آذنت بما في الخمر من علّة التّحريم،و أنّ سبب نزولها ما تقدّم، فيكون وصفها بما فيها من الإثم و المنفعة تنبيها لهم؛إذ كانوا لا يذكرون إلاّ محاسنها،فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التّحريم.

قال البغويّ: إنّه لمّا نزلت هذه الآية،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم«إنّ اللّه تقدّم في تحريم الخمر»أي ابتدأ يهيّئ تحريمها.يقال:تقدّمت إليك في كذا،أي عرضت عليك، و في«تفسير ابن كثير»:أنّها ممهّدة لتحريم الخمر على البتات،و لم تكن مصرّحة بل معرضة أي معرضة بالكفّ عن شربها تنزّها.

و جمهور المفسّرين على أنّ هذه الآية نزلت قبل

ص: 841

آية سورة النّساء و قبل آية سورة المائدة،و هذا رأي عمر بن الخطّاب كما روى أبو داود،و روى أيضا عن ابن عبّاس أنّه رأى أنّ آية المائدة نسخت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،و نسخت آية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ، و نسب لابن عمر و الشّعبيّ و مجاهد و قتادة و الرّبيع بن أنس و عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.

و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر،فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النّساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى، و إذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النّساء و سورة المائدة،فيجيء على قول هؤلاء أنّ هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة، و أنّها وضعت هنا إلحاقا بالقضايا الّتي حكى سؤالهم عنها.

و أنّ معنى فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ في تعاطيهما بشرب أحدهما و اللّعب بالآخر ذنب عظيم.و هذا هو الأظهر من الآية؛إذ وصف الإثم فيها بوصف(كبير) فلا تكون آية سورة العقود إلاّ مؤكّدة للتّحريم و نصّا عليه،لأنّ ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوّله المتأوّلون بالعذر في شربها...

و الخمر:اسم مشتقّ من مصدر خمر الشّيء يخمره-من باب نصر-إذا ستره،سمّي به عصير العنب إذا غلى و اشتدّ و قذف بالزّبد فصار مسكرا، لأنّه يستر العقل عن تصرّفه الخلقي تسمية مجازيّة، و هي إمّا تسمية بالمصدر،أو هو اسم جاء على زنة المصدر.و قيل:هو اسم لكلّ مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أو عصير غيره،أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر،أو غيرهما من الأنبذة،و ترك حتّى يختمر و يزبد،و استظهره صاحب«القاموس».

و الحقّ أنّ الخمر كلّ شراب مسكر إلاّ أنّه غلب على عصير العنب المسكر،لأنّهم كانوا يتنافسون فيه، و أنّ غيره يطلق عليه خمر و نبيذ و فضيخ.و قد وردت أخبار صحيحة تدلّ على أنّ معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التّمر،و أنّ أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب،و هي من التّمر و الزّبيب و العسل و الذّرّة و الشّعير،و بعضها يسمّى الفضيخ،و النّقيع،و السّكركة،و البتع.و ما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر:«نزل تحريم الخمر و بالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب،معناه ليس معدودا في الخمسة شراب العنب»لقلّة وجوده،و ليس المراد أنّ شراب العنب لا يوجد بالمدينة.و قد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز و نجد،من اليمن و الطّائف و الشّام.

و قد انبنى على الخلاف في مسمّى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام،فقد أجمع العلماء كلّهم على أنّ خمر العنب حرام كثيرها إجماعا،و قليلها عند معظم العلماء،و يحدّ شارب الكثير منها عند الجمهور،و في القليل خلاف،كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ اختلفوا فيما عداها،فقال الجمهور:كلّ شراب

ص: 842

أسكر كثيره فقليله حرام،و حكمه كحكم الخمر في كلّ شيء،أخذا بمسمّى الخمر عندهم،و بالقياس الجليّ الواضح أنّ حكمة التّحريم هي الإسكار،و هو ثابت لجميعها،و هذا هو الصّواب.

و قال أبو حنيفة و أبو يوسف و سفيان الثّوريّ:

يختصّ شراب العنب بتلك الأحكام أمّا ما عداه فلا يحرم منه إلاّ القدر المسكر،هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة.[ثمّ ذكر آراءه و ناقشها مفصّلا إلى أن قال:]

وصف اللّه الخمر بأنّ فيها إثما كبيرا و منافع،و الإثم:

معصية اللّه بفعل ما فيه فساد و لا يرضى اللّه...[إلى أن قال:]

و من آثامها-ما قرّره الأطبّاء المتأخّرون-أنّها تورث المدمنين عليها أضرارا في الكبد و الرّئتين و القلب و ضعفا في النّسل،و قد انفرد الإسلام عن جميع الشّرائع بتحريمها،لأجل ما فيها من المضارّ في المروءة،حرّمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهليّة.

فممّن حرّمها على نفسه في الجاهليّة قيس بن عاصم المنقريّ بسبب أنّه شرب يوما حتّى سكر،فجذب ابنته و تناول ثوبها،و رأى القمر فتكلّم معه كلاما،فلمّا أخبر بذلك حين صحا آلى.[أن]لا يذوق خمرا ما عاش.[ثمّ أنشد أشعارا إلى أن قال:]

و أمّا المنافع فمنها:منافع بدنيّة،و هي ما تكسبه من قوّة بدن الضّعيف في بعض الأحوال،و ما فيها من منافع التّجارة-فقد كانت تجارة الطّائف و اليمن من الخمر-و فيها منافع من اللّذّة و الطّرب.

و ذهب بعض علمائنا إلى أنّ المنافع ماليّة فقط فرارا من الاعتراف بمنافع بدنيّة للخمر،و هو جحود للموجود.و من العجيب أنّ بعضهم زعم أنّ في الخمر منافع بدنيّة،و لكنّها بالتّحريم زالت.[و استشهد بالشّعر 3 مرّات](2:321)

مغنيّة:سأل بعض المسلمين عن حكم الخمر و القمار،و كان السّؤال في المدينة،أي بعد أكثر من ثلاث عشرة سنة من تاريخ الدّعوة الإسلاميّة.و يدلّ هذا على أنّ حكمها كان مسكوتا عنه أمدا طويلا، كما سكت عن حكم بعض المحرّمات إلى وقت البيان، حسبما تقتضيه المصلحة،و قد تستدعي الحكمة الرّفق و التّدريج في بيان الحكم.

و قيل:إنّ بيان حكم الخمر كان من هذا الباب، لأنّ المسلمين كانوا قد ألفوها في الجاهليّة،فلو منعوا عنها دفعة واحدة لشقّ ذلك عليهم.بل إنّ اللّه سبحانه قد ذكّر النّاس بأنّ من جملة نعمه عليهم أنّهم يتّخذون من النّخيل و الأعناب سكرا و رزقا؛حيث قال عزّ من قائل: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً النّحل:67.

سأل بعض المسلمين عن حكم الخمر و القمار، فأمر اللّه نبيّه الأكرم أن يجيبهم بأنّ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و هذا الجواب بمفرده لا يدلّ على تحريم الخمر صراحة،لأنّه لم يقل:الخمر حرام.و لكنّه يدلّ عليه بالالتزام، لقاعدة درء المفسدة أولى من جلب المصلحة،و الأهمّ مقدّم على المهمّ،غير أنّه إذا لحظنا الآية: قُلْ إِنَّما

ص: 843

حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:33،و عطفنا هذه الآية على الآية الّتي نحن بصددها،و جمعناهما في كلام واحد،تكون الدّلالة على التّحريم صريحة و قطعيّة أيضا؛حيث تأتي النّتيجة هكذا:الخمر إثم،و كلّ إثم حرام،فالخمر حرام.

هذا،بالإضافة إلى الآية:90 و 91،من سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ... فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقوله:(فاجتنبوه)أمر بالاجتناب، و الأمر يدلّ على الوجوب،و قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، ظاهر في النّهي،لأنّ معناه انتهوا،و النّهي يدلّ على التّحريم،و لذا قال المسلمون بعد سماع هذه الآية:انتهينا.

أمّا الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،و هذه الآية فقد نزلت قبل آية المائدة الّتي هي أشدّ و أغلظ،و أشرنا أنّ الحكمة ربما تستدعي التّدريج في بيان التّحريم.على أنّ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى لا دلالة فيها على حلّيّة الخمر في غير الصّلاة،و يأتي الكلام عنها مفصّلا إن شاء اللّه حين نصل إليها.

هذا إلى أنّ المسلمين منذ الصّدر الأوّل إلى اليوم قد أجمعوا كلمة واحدة على أنّ الخمر من الكبائر،و أنّ من استحلّها فليس بمسلم،و من ارتكبها متهاونا فهو فاسق،و يحدّ بثمانين جلدة،و قد تواتر عن الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه«لعن غارسها و عاصرها و بائعها و شاريها و ساقيها و شاربها».و في بعض الأخبار أو الآثار:أنّ ما من شريعة سماويّة إلاّ و نهت عن الخمر.

و قد بحثنا هذا الموضوع مفصّلا في الجزء الرّابع من فقه الإمام جعفر الصّادق،باب الأطعمة و الأشربة.

(1:328)

الطّباطبائيّ: الخمر-على ما يستفاد من اللّغة- هو كلّ مائع معمول للسّكر،و الأصل في معناه السّتر، و سمّي به لأنّه يستر العقل و لا يدعه يميّز الحسن من القبح و الخير من الشّرّ.و يقال:لما تغطّي به المرأة رأسها:الخمار،و يقال:خمّرت الإناء إذا غطّيت رأسها، و يقال:أخمرت العجين،إذا أدخلت فيه الخمير، و سمّيت الخميرة خميرة،لأنّها تعجن أوّلا ثمّ تغطّي و تخمّر من قبل.و قد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلاّ الخمر المعمول من العنب و التّمر و الشّعير، ثمّ زاد النّاس في أقسامه تدريجا،فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السّكر،و الجميع:

خمر.

أمّا شرب الخمر فمضرّاته-الطّبّيّة و آثاره السّيّئة في المعدة و الأمعاء و الكبد و الرّئة و سلسلة الأعصاب و الشّرايين و القلب و الحواسّ كالباصرة و الذّائقة و غيرها-ممّا ألّف فيه تأليفات من حذّاق الأطبّاء قديما و حديثا،و لهم في ذلك إحصاءات عجيبة،تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة الّتي يستتبعها هذا السّمّ المهلك.

و أمّا مضرّاته الخلقيّة:من تشويه الخلق و تأديته الإنسان إلى الفحش،و الإضرار و الجنايات،و القتل و إفشاء السّرّ،و هتك الحرمات،و إبطال جميع القوانين

ص: 844

و النّواميس الإنسانيّة الّتي بنيت عليها أساس سعادة الحياة،و خاصّة ناموس العفّة في الأعراض و النّفوس و الأموال،فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول و لا يشعر بما يفعل،و قلّ ما يتّفق جناية من هذه الجنايات الّتي قد ملأت الدّنيا،و نغّصت عيشة الإنسان إلاّ و للخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم (1).

و أمّا مضرّته في الإدراك و سلبه العقل و تصرّفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان،و تغييره مجرى الإدراك حين السّكر و بعد الصّحو،فممّا لا ينكره منكر؛و ذلك أعظم ما فيه من الإثم و الفساد،و منه ينشأ جميع المفاسد الأخر.

و الشّريعة الإسلاميّة-كما مرّت إليه الإشارة- وضعت أساس أحكامها على التّحفّظ على العقل السّليم،و نهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشدّ النّهي كالخمر،و الميسر،و الغشّ،و الكذب،و غير ذلك،و من أشدّ الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال،و قول الكذب و الزّور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني:الأعمال المبطلة لحكومة العقل،و على رأسها السّياسات المبتنية على السّكر و الكذب هي الّتي تهدّد الإنسانيّة،و تهدّم بنيان السّعادة،و لا تأتي بثمرة عامّة إلاّ و هي أمرّ من سابقتها.و كلّما زاد الحمل ثقلا و أعجز حامله،زيد في الثّقل رجاء المقدرة،فخاب السّعي،و خسر العمل.

و لو لم يكن لهذه المحجّة البيضاء و الشّريعة الغرّاء إلاّ البناء على العقل و المنع عمّا يفسده من اتّباع الهوى لكفاها فخرا،و للكلام تتمّة سنتعرّض لها في سورة المائدة إن شاء اللّه.

و لم يزل النّاس بقريحتهم الحيوانيّة يميلون إلى لذائذ الشّهوة،فتشيع (2)بينهم الأعمال الشّهوانيّة أسرع من شيوع الحقّ و الحقيقة،و انعقدت العادات على تناولها و شقّ تركها و الجري على نواميس السّعادة الإنسانيّة،و لذلك أنّ اللّه سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التّدريج،و كلّفهم بالرّفق و الإمهال.

و من جملة تلك العادات الشّائعة السّيّئة:شرب الخمر،فقد أخذ في تحريمه بالتّدريج على ما يعطيه التّدبّر في الآيات المربوطة به،فقد نزلت أربع مرّات:

إحداها:قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:33،و الآية مكّيّة حرّم فيها الإثم صريحا،و في الخمر إثم غير أنّه لم يبيّن أنّ الإثم ما هو و أنّ في الخمر إثما كبيرا.

و لعلّ ذلك إنّما كان نوعا من الإرفاق و التّسهيل، لما في السّكوت عن البيان من الإغماض،كما يشعر به أيضا قوله تعالى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً النّحل:67،!!

ص: 845


1- الصّواب في الاصطلاح العربيّ:مباشرا أو غير مباشر.
2- في الأصل:فيشبع!!

و الآية أيضا مكّيّة،و كأنّ النّاس لم يكونوا متنبّهين بما فيه من الحرمة الكبيرة،حتّى نزلت قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،و الآية مدنيّة و هي تمنع النّاس بعض المنع عن الشّرب و السّكر في أفضل الحالات و في أفضل الأماكن،و هي الصّلاة في المسجد.

و الاعتبار و سياق الآية الشّريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة و آيتي المائدة،فإنّهما تدلاّن على النّهي المطلق،و لا معنى للنّهي الخاصّ بعد ورود النّهي المطلق،على أنّه ينافي التّدريج المفهوم من هذه الآيات،فإنّ التّدريج سلوك من الأسهل إلى الأشقّ لا بالعكس.

ثمّ نزلت آية البقرة،أعني قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و هذه الآية بعد آية النّساء كما مرّ بيانه،و تشتمل الآية على التّحريم،لدلالتها القطعيّة على الإثم في الخمر فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ و تقدّم نزول آية الأعراف المكّيّة الصّريحة في تحريم الإثم.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين:أنّ آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة،فإنّ قوله تعالى:

قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ لا يدلّ على أزيد من أنّ فيه إثما،و الإثم هو الضّرر،و تحريم كلّ ضارّ لا يدلّ على تحريم ما فيه مضرّة من جهة و منفعة من جهة أخرى، و لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصّحابة، فترك لها الخمر بعضهم و أصرّ على شربها آخرون، كأنّهم رأوا أنّهم يتيسّر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها،فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها،فنزل قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ... إلى قوله تعالى:

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.

وجه الفساد أمّا أوّلا:فإنّه أخذ الإثم بمعنى الضّرر مطلقا،و ليس الإثم هو الضّرر،و مجرّد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضّرر المقابل للنّفع،و كيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضّرر في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً النّساء:47،و قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ البقرة:

283،و قوله تعالى: أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ المائدة:

29،و قوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ النّور:11،و قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ النّساء:111،إلى غير ذلك من الآيات؟!

و أمّا ثانيا:فإنّ الآية لم تعلّل الحكم بالضّرر،و لو سلّم ذلك فإنّها تعلّله بغلبة الضّرر على المنفعة، و لفظها صريح في ذلك؛حيث يقول: وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و إرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد،اجتهاد في مقابل النّصّ.

و أمّا ثالثا:فهب أنّ الآية في نفسها قاصرة الدّلالة على الحرمة،لكنّها صريحة الدّلالة على الإثم و هي مدنيّة-قد سبقتها في النّزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحا-فما عذر من سمع التّحريم في آية مكّيّة حتّى يجتهد في آية مدنيّة.

على أنّ آية الأعراف تدلّ على تحريم مطلق الإثم،

ص: 846

و هذه الآية قيّدت الإثم بالكبر،و لا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أنّ«الخمر»فرد تامّ و مصداق كامل للإثم،لا ينبغي الشّكّ في كونه من الإثم المحرّم، و قد وصف القرآن القتل و كتمان الشّهادة و الافتراء و غير ذلك بالإثم،و لم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلاّ في الخمر؛و في الشّرك؛حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً النّساء:48،و بالجملة:لا شكّ في دلالة الآية على التّحريم،ثمّ نزلت آيتا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:90-91،و ذيل الكلام يدلّ على أنّ المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر،و لم ينتزعوا عنه بالكلّيّة حتّى نزلت الآية،فقيل: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، هذا كلّه في الخمر.[و ذكر روايات في الخمر عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام،فلاحظ](2:191)

عبد الكريم الخطيب :[نحو سيّد قطب ملخّصا و أضاف:]

هذه إشارة حادّة من إشارات السّماء،إلى أمرين من أمور الجاهليّة،كانت حياتهم متلبّسة بهما،دائرة في فلكهما،و هما الخمر و الميسر،و قد كان هذان المنكران متلازمين،لا يكاد يفترق أحدهما عن الآخر.

فحيث كان خمر كان معه ميسر،و حيث كان قمار و مقامرة دارت كئوس الخمر و دارت معها رءوس النّدمان.و لهذا قرنهما اللّه سبحانه في هذا المقام:الخمر و الميسر،و دمغهما بالإثم.

و الحكم كما ترى أنّهما يحملان في كيانهما قدرا كبيرا من الإثم،إلى جانب ما يحملان من نفع.و إنّ كفّة الإثم فيهما ترجّح عن كفّة النفع.[إلى أن قال:]

و يتّفق المفسّرون على أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ... المائدة:90.

و نحن-على رأينا في موضع النّسخ-لا نرى في هذا نسخا للآية الكريمة،بل هي محكمة عاملة، و كذلك كلّ الآيات الّتي جاء فيها للخمر ذكر أو حكم،كما أوضحنا ذلك من قبل في مبحث النّسخ.

(1:245)

طه الدّرّة:[نحو المتقدّمين و قال:]

و أخيرا أقول:إنّ اللّه سلبها جميع المنافع قبل أن يحرّمها تحريما قاطعا،و من ظنّ أنّ فيها منفعة بعد التّحريم،فهو ناقص العقل و الإيمان.(1:341)

عبد الرّزّاق نوفل:ذكرت«الأصنام»في القرآن الكريم 5 مرّات:في النّصوص الشّريفة:

الأعراف:138،إبراهيم:35،الأنعام:74،الشّعراء:

71،الأنبياء:57،و لم تذكر غير ذلك.

و كذلك ذكرت«الخمر»5 مرّات في النّصوص الكريمة:البقرة:219،المائدة:90،و 91،يوسف:26، و 41،و لم ترد الخمر في آيات أخرى سوى مرّة في سورة محمّد:15،و هذه لا تحتسب لأنّها لا تخصّ الخمر المحرّمة،و إنّما هي خمر الجنّة الّتي وعد بها المتّقون.

و يكون الخمر قد ذكرت في القرآن الكريم 5 مرّات.و ذكر«الخنزير»5 مرّات أيضا فقط،في

ص: 847

النّصوص الشّريفة:البقرة:173،المائدة:3،الأنعام:

145،النّحل:115،المائدة:60.

و كذلك ذكرت«البغضاء»5 مرّات في النّصوص الكريمة:آل عمران:118،المائدة:14،و 64،و 91، الممتحنة:4.

و تكرّر ذكر«الحصب»و هي حجارة تصيب النّاس تعذيبا لهم،و هي أيضا ما يلقى في النّار كوقود لها من حجر و حطب تكرّرت 5 مرّات أيضا،في النّصوص الشّريفة:الأنبياء:98،الإسراء:68، العنكبوت:40،القمر:24،الملك:17.

و تكرّر«التّنكيل»و هو التّعذيب الشّديد 5 مرّات أيضا،في النّصوص الشّريفة:المزّمّل:12، النّازعات:25،البقرة:66،المائدة:38،النّساء:84.

و ذكر«الحسد»في القرآن الكريم 5 مرّات أيضا، في النّصوص الكريمة:الفتح:15،النّساء:54،البقرة:

109،و هذه ثلاث...و مرّتين ذكر بألفاظ حاسد و حسد في الآية الشّريفة:الفلق:5.

و كذلك تكرّر ذكر«الرّعب»5 مرّات في النّصوص الشّريفة:آل عمران:151،الأنفال:12، الأحزاب:26،الحشر:2،الكهف:18.

و أيضا تكرّرت ألفاظ«الخيبة»5 مرّات في النّصوص الكريمة:إبراهيم:15،طه:61،و 111، الشّمس:10،آل عمران:127.

و يكون بذلك قد تساوى عدد مرّات ذكر كلّ من الأصنام و الخمر و الخنزير و البغضاء و الحصب و التّنكيل و الحسد و الرّعب و الخيبة؛إذ وردت ألفاظ كلّ منها 5 مرّات فقط،في كلّ آيات القرآن الكريم، رغم وقوعها متباعدة في سوره الشّريفة.[نقلناه بحذف الآيات](1:83)

مكارم الشّيرازيّ: الخمر في اللّغة:الغطاء، و كلّ ما يخفي شيئا وراءه هو خمار.

و في المصطلح الشّرعيّ: هو كلّ مائع مسكر،سواء أخذ من العنب أو الزّبيب أو التّمر و كلّ مشروب كحوليّ.و استعمال كلمة«الخمر»لكلّ مائع مسكر بسبب المناسبة بين المعنى اللّغويّ و هو الغطاء،و ما تؤدّي إليه هذه المسكرات من تغطية على العقل و سلبه قدرة التّمييز بين الحسن و القبيح.

بحوث:ما هو الإثم؟

الإثم يطلق على الحالة المرضيّة الّتي تصيب روح الإنسان و عقله،فتمنعه عن الوصول إلى المحاسن و مدارج الكمال.من هنا يكون معنى الآية أنّ الخمر و الميسر يؤدّيان إلى إنزال أفدح الإضرار بروح الإنسان و جسمه.

و هنا نلفت الأنظار إلى مفاسد الخمر و الميسر استنادا إلى آخر ما توصّلت إليه نظريّات علماء النّفس و الأطبّاء.

أضرار المشروبات الكحوليّة:

أثر الكحول في العمر:

أحد علماء الغرب المشهورين قال:لو كان عدد الوفيّات بين الشّباب المدمنين البالغة أعمارهم بين 21-23 سنة يصل إلى 51 شابّا،فإنّ عدد الوفيّات من غير المدمنين في تلك الأعمار لا يبلغ 10 أشخاص.

ص: 848

و قال عالم مشهور آخر:الشّباب في سنّ العشرين الّذين يتوقّع أن تطول أعمارهم إلى خمسين عاما، لا يعمّرون بسبب معاقرة الخمرة أكثر من خمسة و ثلاثين عاما.

التّجارب الّتي أجرتها شركات التّأمين على الحياة أثبتت أنّ أعمار المدمنين على الكحول أقلّ من أعمار غيرهم بنسبة 25-30 بالمائة.

و تذكر إحصائيّات أخرى أنّ معدّل أعمار المدمنين على الكحول يبلغ حوالي 35-50 سنة، بينما معدّل العمر الاعتياديّ مع رعاية القواعد الصّحّيّة يبلغ ستّين عاما فصاعدا.

أثر الكحول على النّسل:

35 بالمائة من عوارض الإدمان الحادّة تنتقل إلى الوليد إذا كان أبوه-حين انعقاد النّطفة-سكرانا،و إن كان الوالدان سكرانين فترتفع نسبة هذه العوارض إلى مائة في المائة.و هذه إحصائيّات تبيّن آثار الإدمان على الجنين:

الأطفال الّذين ولدوا قبل موعد ولادتهم الطّبيعيّ: من أبوين مدمنين 45 بالمائة،و من أمّ مدمنة 31 بالمائة.و من أب مدمن 17 بالمائة.

الأطفال الّذين ولدوا و هم لا يحملون مقوّمات استمرار الحياة:من أب مدمن 6 بالمائة،و من أمّ مدمنة 45 بالمائة.

الأطفال الّذين لا يتمتّعون بطول طبيعيّ: من والدين مدمنين 75 بالمائة،و من أمّ مدمنة 45 بالمائة.

و أخيرا الأطفال الّذين يفتقدون القوّة العقليّة و الرّوحيّة الكافية:من أمّهات مدمنات 75 بالمائة، و من آباء مدمنين 75 بالمائة أيضا.

أثر الكحول في الأخلاق:

العاطفة العائليّة في الشّخص المدمن تضعف، و يقلّ انشداده بزوجه و أبنائه،حتّى يحدث أن يقدم المدمن على قتل أبنائه بيده.

أضرار الكحول الاجتماعيّة:

حسب الإحصائيّة الّتي نشرها معهد الطّب القانونيّ في مدينة«نيون»عام 1961،كانت الجرائم الاجتماعيّة للمدمنين على النحو التّالي:

القتلة:50 بالمائة،المعتدون بالضّرب و الجرح بين المدمنين:77/8 بالمائة،السّرقات بين المدمنين:

88/5 بالمائة،الجرائم الجنسيّة المرتبطة بالمدمنين:

88/8 بالمائة.هذه الإحصائيّات تشير إلى أنّ الأكثرية السّاحقة من الجرائم ترتكب في حالة السّكر.

الأضرار الاقتصاديّة للمشروبات الكحوليّة:

أحد علماء النّفس المشهورين يقول:من المؤسف أنّ الحكومات تحسب ما تدرّ عليها المشروبات الكحوليّة من ضرائب،و لا تحسب الميزانيّة الضّخمة الّتي تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات.

لو حسبت الحكومات الأضرار النّاتجة من المشروبات الكحوليّة،مثل زيادة الأمراض الرّوحيّة، و إهدار الوقت و الاصطدامات النّاتجة عن السّكر، و فساد الجيل،و انتشار روح التّقاعس و التّحلّل، و التّخلّف الثّقافيّ،و المشاكل الّتي تواجه رجال الشّرطة و دور الحضانة المخصّصة لرعاية أبناء

ص: 849

المخمورين،و ما تحتاجه جرائم المخمورين من مستشفيات و أجهزة قضائيّة و سجون،و غيرها من الخسائر و الأضرار النّاتجة عن تعاطي الخمور، و قارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه المشروبات،لوجدت أنّ الأرباح تكاد تكون لا شيء أمام الخسائر،هذا إضافة إلى أنّ الخسائر المؤسفة النّاتجة عن المشروبات الكحوليّة لا يمكن حسابها بالدّولار،لأنّ موت الأعزّاء و تشتّت العوائل و تبدّد الآمال و فقدان الأدمغة المفكّرة لا يمكن حسابه بالمال.

أضرار المشروبات الكحوليّة فظيعة للغاية،حتّى أنّ أحد العلماء قال:لو أنّ الحكومة ضمنت لي غلق حانات الخمور لضمنت لها غلق نصف المستشفيات و دور المجانين.

ممّا تقدّم يتّضح بجلاء معنى الآية الكريمة بشأن الخمر،فلو كان في الخمرة فائدة تجاريّة،و لو كان السّكران يحسب لحظات غفلته عن عمومه أثناء السّكر فائدة له،فإنّ الأضرار الّتي تترتّب عليها أكثر بكثير و أوسع و أطول من فوائدها،حتّى لا يمكن المقارنة بين الاثنين.(2:70)

فضل اللّه :الخمر،أصله:السّتر،و منه:الخمار للمقنعة.و دخل في خمار النّاس،أي في كثير الّذي يستتر فيهم.و يقال:خامره الدّاء،إذا خالطه،و خمّرت الإناء إذا غطّيته.

و في الشّرع:كلّ مائع مسكر،سواء أخذ من العنب،أو الزّبيب،أو التّمر،و كلّ مشروب كحوليّ.

و ربّما كان إطلاق الخمر على المسكر بلحاظ تغطيته على العقل و سلبه القدرة على التّمييز بين الضّرر و النّفع.[إلى أن قال:]

جاء في«المجمع»:أنّ الآية نزلت في جماعة من الصّحابة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا:أفتنا في الخمر و الميسر،فإنّها مذهبة للعقل،مسلبة للمال،فنزلت الآية.

قد نستوحي من هذه الرّواية أنّ التّحريم لم يكن واردا في التّشريع-آنذاك-و أنّهم كانوا يعيشون في وجدانهم الشّرعيّ أجواء التّحريم من خلال طبيعة النّتائج السّلبيّة الّتي يعرفونها في الخمر و الميسر ممّا يختزنانه من فساد للعقل و المال،و ذلك من جهة ما عرفوه من دروس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ما كانوا يسمعونه منه من آيات اللّه و أحاديثه،أنّ اللّه يريد بالنّاس الخير في تشريعاته الإلزاميّة على أساس المصالح و المفاسد الكامنة في الأفعال،فهم يتحسّسون حرمة الأشياء المضرّة في وجدانهم الدّينيّ،فيتطلّعون إلى النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله سائلين عن الحرام في هذا أو ذاك.

و هناك رواية في«الكافي»توحي بأنّ تحريم الخمر بشكل صريح حاسم سابق على هذه الآية.[ثمّ نقل حديث الإمام الكاظم عليه السّلام و قال:]

قد ذكر صاحب تفسير الميزان:أنّ آية الأعراف سابقة في النّزول على آيتي البقرة و آيتي المائدة،فإنّهما تدلاّن على النّهي الخاصّ بعد ورود النّهي المطلق، على أنّه ينافي التّدريج المفهوم من هذه الآيات،فإنّ التّدريج سلوك من الأسهل إلى الأشقّ لا بالعكس.

ص: 850

و لكنّنا لا نجد في رواية«الكافي»دلالة على سبق آية الأعراف على آية البقرة،بل قد تدلّ على تأخّرها عنها،و ذلك لأنّ الإمام في الرّواية،استشهد بآية البقرة على انطباق عنوان الإثم بشكل واضح على الخمر،ممّا يجعل كلمة«الإثم»في آية الأعراف متعلّقا للتّحريم،بدلالة على أنّ المراد به الخمر،فكأنّ آية البقرة مهّدت لبيان تحريم،من حيث كون الخمر مصداقا للإثم.

و التّعبير عن الخمر بالإثم لا يخلو من غموض في فهم المعنى المعيّن من اللّفظ.

و ربّما يقال:إنّ الخمر يسمّى إثما في اللّغة.كما قال الشّاعر

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذلك الإثم يصنع في العقول

و الجواب:أوّلا:أنّ الإمام استدلّ على إرادة الخمر من الإثم في آية الأعراف بآية البقرة الّتي وصف فيها الخمر و الميسر بالإثم،و لم يستشهد بكلام أهل اللّغة في تسمية الخمر بهذا الاسم،ممّا يوحي بأنّ ذلك ليس معروفا في زمن الإمام الكاظم عليه السّلام.

و ثانيا:من الممكن أن يكون هذا الشّاعر قد استوحى القرآن في هذا التّعبير،أو استوحى الكلمة الدّالّة على أنّ مضمون الإثم هو حالة في الشّيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات،فأطلقها عليه من باب إطلاق المفهوم على المصداق،لاشتمال الخمر على ما يوجب فساد العقل،لا من باب إطلاق الكلمة على معناها.

و ثالثا:أنّ ملاحظة صاحب«الميزان»في إثبات سبق آية الأعراف غير دقيقة،لأنّ النّهي المطلق في آية البقرة و آيتي المائدة كان واردا بالأسلوب الّذي يركّز على الأساس السّلبيّ للخمر في العناوين المذكورة الّتي توحي بالحرّيّة و تأمر بالاجتناب؛بحيث يعيش فيها القارئ الجوّ الفكريّ في الخطّ التّشريعيّ،بينما لا توحي آية الأعراف إلاّ بالتّشريع فقط في الحديث عن تحريمه،إلى جانب المحرّمات الأخرى،فلا مانع من أن تكون تلك الآية مقدّمة لآية الأعراف،باعتبار أنّها جاءت حاسمة في بيان الحرمة بلفظها من دون لبس أو إشكال،بعد إعداد الجوّ النّفسيّ المتنوّع للمسلمين في هذه المسألة.

و يؤيّد ما ذكرناه الرّواية الأخرى الواردة في «الكافي»،بطريق مرسل،فقد روى عن بعض أصحابنا مرسلا،قال:إنّ أوّل ما نزل في تحريم الخمر قول اللّه عزّ و جلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ...، فلمّا نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها و تحريم الميسر،و علموا أنّ الإثم ممّا ينبغي اجتنابه،و لا يحمل اللّه عزّ و جلّ عليهم من كلّ طريق، لأنّه قال: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ، ثمّ أنزل اللّه عزّ و جلّ آية أخرى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ... المائدة:90، فكانت هذه الآية أشدّ من الأولى،و أغلظ في التّحريم، ثمّ تلت آية أخرى فكانت أغلظ من الأولى و الثّانية و أشدّ،فقال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ.. المائدة:91،فأمر عزّ و جلّ باجتنابها،و فسّر عللها الّتي لها و من أجلها حرّمها.

ص: 851

ثمّ بيّن اللّه عزّ و جلّ تحريمها،و كشفه في الآية الرّابعة مع ما دلّ عليه في هذه الآية المذكورة المتقدّمة بقوله عزّ و جلّ: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ...

الأعراف:33،و قال اللّه عزّ و جلّ في الآية الأولى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ... ثمّ قال في الآية الرّابعة: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ... فخبّر اللّه عزّ و جلّ أنّ الإثم في الخمر و غيرها،و أنّه حرام؛و ذلك أنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئا بعد شيء،حتّى يوطّن النّاس أنفسهم عليها،و يسكنوا إلى أمر اللّه عزّ و جلّ و نهيه فيها،و كان ذلك من فعل اللّه عزّ و جلّ على وجه التّدبير فيهم أصوب و أقرب لهم إلى الأخذ بها،و أقلّ لنفارهم منها

و إذا كانت هذه الرّواية مرسلة،فإنّ مضمونها يتناسب مع مضمون الآيات،ممّا يبعث على الثّقة بصدورها،فتكون حجّة على أساس المبنى الّذي قرّرناه في علم أصول الفقه،و هو أنّ السّيرة العقلائيّة الّتي هي الأساس في حجّيّة الأخبار جارية على اعتبار الخبر الموثوق به لا خبر الثّقة بالخصوص،بل إنّ اعتباره من أجل كونه سببا للوثوق...[ثمّ أدام البحث لتحدّي القرآن لقضايا الواقع و في طريقته في إثارة القضايا،و الموازنة بين الإيجابيّات و السّلبيّات، و موقف الإسلام من الخمر و الميسر،فراجع](4:210)

2-3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. المائدة:90،91

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«إنّ اللّه لا يجمع الخمر و الإيمان في امرئ أبدا».

«مدمن الخمر كعابد الوثن».

«من شرب الخمر في الدّنيا،ثمّ لم يتب منها حرمها في الآخرة».

«من شرب الخمر في الدّنيا سقاه اللّه من سمّ الأساود و سمّ العقارب،من شربها تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها،فإذا شربها تفسّخ لحمه، ينادي به أهل الجمع ثمّ يؤمر به إلى النّار.ألا و شاربها و عاصرها و معتصرها و بائعها و مبتاعها و حاملها و المحمول إليه،و كلّ فيها سواء في إثمها و حادّ بها، و لا يقبل اللّه منه صلاة و لا صياما و لا حجّا و لا عمرة حتّى يتوب.فإن مات قبل أن يتوب منها كان حقّا على اللّه يعاقبه فيه بكلّ جرعة شربها في الدّنيا شربة من صديد جهنّم.ألا و كلّ مسكر خمر و كلّ خمر حرام».

و عن ابن عبّاس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

«اجتنبوا الخمر فإنّها مفتاح كلّ شرّ،و لا يموتنّ أحدكم و عليه دين،فإنّه ليس هناك دينار و لا درهم، و إنّما يقتسمون هناك الحسنات و السّيّئات واحد بيمينه و واحد بشماله».

و عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«من شرب الخمر بعد أن حرّمها اللّه على لساني،فليس له أن يزوّج إذا خطب،

ص: 852

و لا يصدّق إذا حدّث،و لا يشفّع إذا شفع،و لا يؤتمن على أمانة،فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها،فحقّ على اللّه عزّ و جلّ أن لا يخلف عليه».(الثّعلبيّ 4:106)

ابن عبّاس: الشّراب الّذي خامر العقل.(100)

نحوه الزّجّاج.(2:203)

يريد الخمر من جميع الأشربة الّتي تخمر حتّى تشتدّ و تسكر.(الواحديّ 223:2)

و روى أبو داود عن ابن عبّاس قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،و يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ البقرة:219،نسختها الّتي في المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ.

(القرطبيّ 6:286)

الإمام الباقر عليه السّلام:لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الخمر عشرة:غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمول إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.(الكاشانيّ 2:83)

الإمام الصّادق عليه السّلام:[في حديث:]قال: (1)

سألته عن النّبيذ و الخمر،بمنزلة واحدة هما؟قال:

«لا،إنّ النّبيذ ليس بمنزلة الخمر،إنّ اللّه حرّم الخمر قليلها و كثيرها،كما حرّم الميتة و الدّم و لحم الخنزير، و حرّم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الأشربة المسكر،و ما حرّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد حرّمه اللّه».قلت:أ رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كيف كان يضرب في الخمر؟فقال:«كان يضرب بالنّعال،و يزيد كلّما أتي بالشّارب،ثمّ لم يزل النّاس يزيدون حتّى وقف على ثمانين،أشار بذلك عليّ عليه السّلام على عمر.[و فيها عدّة روايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام كما تأتي أحاديث أخرى عن النّبيّ و الأئمّة أيضا خلال النّصوص الآتية]

(العيّاشيّ 2:74)

الطّبريّ: [نقل روايات في سبب النّزول إلى أن قال:]

و قد اختلف أهل التّأويل في السّبب الّذي من أجله نزلت هذه الآية.و جائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر في أمر الخمر.و جائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الأنصاريّ عند انتشائهما من الشّراب.و جائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يسره و بغضه،و ليس عندنا بأيّ ذلك كان خبر قاطع للعذر،غير أنّه أيّ ذلك كان فقد لزم حكم الآية جميع أهل التّكليف،و غير ضائرهم الجهل بالسّبب الّذي له نزلت هذه الآية.فالخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشّيطان،فرض على جميع من بلغته الآية،من التّكليف اجتناب جميع ذلك،كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (5:36)

القمّيّ: [في رواية...]عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ... أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشّراب خمر،إذا أخمر فهو حرام؟ و أمّا المسكر كثيره و قليله حرام؛و ذلك أنّ الأوّل شرب قبل أن يحرّم الخمر فسكر فجعل يقول الشّعرل.

ص: 853


1- يعني السّائل.

و يبكي على قتلى المشركين من أهل بدر،فسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:اللّهمّ أمسك على لسانه، فأمسك على لسانه فلم يتكلّم حتّى ذهب عنه السّكر فأنزل اللّه تحريمها بعد ذلك.

و إنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ البسر و التّمر،فلمّا نزل تحريمها خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقعد في المسجد ثمّ دعا بآنيتهم الّتي كانوا ينبذون فيها فأكفأ كلّها،ثمّ قال:هذه كلّها خمر و قد حرّمها اللّه، فكان أكثر شيء أكفئ من ذلك يومئذ من الأشربة الفضيخ،و لا أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شيء إلاّ إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا.و أمّا عصير العنب،فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شيء.

حرّم اللّه الخمر قليلها و كثيرها و بيعها و شراءها و الانتفاع بها،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«من شرب الخمر فاجلدوه و من عاد فاجلدوه و من عاد فاجلدوه و من عاد في الرّابعة فاقتلوه».و قال:«حقّ على اللّه أن يسقي من شرب الخمر ممّا يخرج من فروج المومسات».و المومسات:الزّواني،يخرج من فروجهنّ صديد،و الصّديد:قيح و دم غليظ مختلط يؤذي أهل النّار،حرّه و نتنه،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين ليلة،فإن عاد فأربعين ليلة من يوم شربها،فإن مات في تلك الأربعين ليلة من غير توبة،سقاه اللّه يوم القيامة من طينة خبال».

و سمّي المسجد الّذي قعد فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم أكفئت المشربة:مسجد الفضيخ من يومئذ،لأنّه كان أكثر شيء أكفئ من الأشربة الفضيخ.(1:180)

الجصّاص :اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين:

أحدهما:قوله:(رجس)لأنّ الرّجس اسم في الشّرع لما يلزمه اجتنابه،و يقع اسم الرّجس على الشّيء المستقذر النّجس و هذا أيضا يلزم اجتنابه فأوجب وصفه إيّاها بأنّها رجس لزوم اجتنابها.

و الوجه الآخر قوله تعالى:(فاجتنبوه)و ذلك أمر و الأمر يقتضي الإيجاب،فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين.

و الخمر هي عصير العنب النّيّ المشتدّ؛و ذلك متّفق عليه أنّه خمر،و قد سمّي بعض الأشربة المحرّمة باسم الخمر تشبيها بها،مثل الفضيخ و هو نقيع البسر و نقيع التّمر،و إن لم يتناولهما اسم الإطلاق.

و قد روي في معنى الخمر آثار مختلفة،منها:ما روى مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر،قال:«لقد حرّمت الخمر و ما بالمدينة منها شيء».و قد علمنا أنّه كان بالمدينة نقيع التّمر و البسر و سائر ما يتّخذ منهما من الأشربة،و لم يكن ابن عمر ممّن يخفى عليه الأسماء اللّغويّة،فهذا يدلّ على أنّ أشربة النّخل لم تكن عنده تسمّى خمرا.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال:«نزل تحريم الخمر و هو الفضيخ».فأخبر ابن عبّاس أنّ الفضيخ خمر،و جائز أن يكون سمّاه خمرا من حيث كان شرابا محرّما.

و روى حميد الطّويل عن أنس،قال:«كنت

ص: 854

أسقي أبي عبيدة و أبيّ بن كعب و سهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة،فمرّ بنا رجل فقال:إنّ الخمر قد حرّمت،فو اللّه ما قالوا حتّى نتبيّن،حتّى قالوا:أهرق ما في إنائك يا أنس،ثمّ ما عادوا فيها حتّى لقوا اللّه عزّ و جلّ،و أنّه البسر و التّمر،و هو خمرنا يومئذ».

فأخبر أنس أنّ الخمر يوم حرّمت البسر و التّمر.

و هذا جائز أن يكون لما كان محرّما سمّاه خمرا،و أن يكون المراد أنّهم كانوا يجرونه مجرى الخمر و يقيمونه مقامها،لا أنّ ذلك اسم له على الحقيقة.

و يدلّ عليه أنّ قتادة روى عن أنس هذا الحديث، و قال:«إنّما نعدّها يومئذ خمرا».فأخبر أنّهم كانوا يعدّونها خمرا،على معنى أنّهم يجرونها مجرى الخمر.

و روى ثابت عن أنس،قال:«حرّمت علينا الخمر يوم حرّمت و ما نجد خمور الأعناب إلاّ القليل، و عامّة خمورنا البسر و التّمر».

و مع هذا أيضا معناه:أنّهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشّرب و طلب الإسكار و طيبة النّفس، و إنّما كان شراب البسر و التّمر.

و روى المختار بن فلفل قال:سألت أنس بن مالك عن الأشربة،فقال:«حرّمت الخمر و هي من العنب و التّمر و العسل و الحنطة و الشّعير و الذّرّة، و ما خمّرت من ذلك فهو خمر».

فذكر في الحديث الأوّل أنّه من البسر و التّمر، و ذكر في هذا الحديث أنّها من ستّة أشياء،فكان عنده أنّ ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر،ثمّ قال:«و ما خمّرت من ذلك فهو خمر».و هذا يدلّ على أنّه إنّما سمّي ذلك خمرا في حال الإسكار و أنّ ما لا يسكر منه فليس بخمر.

و قد روي عن عمر أنّه قال:«إنّ الخمر حرّمت و هي من خمسة أشياء:من العنب و التّمر و العسل و الحنطة و الشّعير،و الخمر ما خامر العقل».و هذا أيضا يدلّ على أنّه إنّما سمّاه خمرا في حال ما أسكر إذا أكثر منه،لقوله:«و الخمر ما خامر العقل».

و قد روي عن السّريّ بن إسماعيل عن الشّعبيّ أنّه حدّثه أنّه سمع النّعمان بن بشير يقول:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ من الحنطة خمرا و إنّ من الشّعير خمرا و إنّ من الزّبيب خمرا و إنّ من التّمر خمرا و إنّ من العسل خمرا».و لم يقل:إنّ جميع ما يكون من هذه الأصناف خمر،و إنّما أخبر أنّ منها خمرا.و يحتمل أن يريد به:ما يسكر منه،فيكون محرّما في تلك الحال، و لم يرد بذلك أنّ ذلك اسم لهذه الأشربة المتّخذة من هذه الأصناف،لأنّه قد روي عنه بأسانيد أصحّ،من إسناد هذا الحديث ما ينفي أن يكون الخمر من هذه الأصناف،و هو ما حدّثنا...عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«الخمر من هاتين الشّجرتين:النّخلة و العنب».

و عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«الخمر من هاتين الشّجرتين النّخل و العنب».و هذا الخبر يقضي على جميع ما تقدّم ذكره في هذا الكتاب بصحّة سنده.و قد تضمّن نفي اسم الخمر عن الخارج من غير هاتين الشّجرتين،لأنّ قوله:«الخمر»اسم للجنس، فاستوعب بذلك جميع ما يسمّى خمرا،فانتفى بذلك أن

ص: 855

يكون الخارج من غيرهما مسمّى باسم الخمر.

و اقتضى هذا الخبر أيضا أن يكون المسمّى بهذا الاسم من الخارج من هاتين الشّجرتين،و هو على أوّل الخارج منهما ممّا يسكر منه؛و ذلك هو العصير النّيّ المشتدّ،و نقيع التّمر و البسر قبل أن تغيّره النّار،لأنّ قوله:«منهما»يقتضي أوّل خارج منهما ممّا يسكر.

و الّذي حصل عليه الاتّفاق من الخمر،هو ما قدّمنا ذكره من عصير العنب النّيّ المشتدّ إذا غلى و قذف بالزّبد،فيحتمل على هذا إذا كان الخمر ما وصفنا أن يكون معنى حديث أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:

«الخمر من هاتين الشّجرتين»،أنّ مراده أنّها من إحداهما،كما قال تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الأنعام:130،و إنّما الرّسل من الإنس،و قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ الرّحمن:22،و إنّما يخرج من أحدهما.

و يدلّ على أنّ الخمر هو ما ذكرنا،و أنّ ما عداها ليس بخمر على الحقيقة،اتّفاق المسلمين على تكفير مستحلّ الخمر في غير حال الضّرورة،و اتّفاقهم على أنّ مستحلّ ما سواها من هذه الأشربة غير مستحقّ لسمة الكفر،فلو كانت خمرا لكان مستحلّها كافرا خارجا عن الملّة،كمستحلّ النّيّ المشتدّ من عصير العنب.و في ذلك دليل على أنّ اسم الخمر في الحقيقة إنّما يتناول ما وصفنا.

و زعم بعض من ليس معه من الورع إلاّ تشدّده في تحريم النّبيذ دون التّورّع عن أموال الأيتام و أكل السّحت،أنّ كتاب اللّه عزّ و جلّ و الأحاديث الصّحاح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ما جاء في الحديث من تفسير الخمر ما هي،و اللّغة القائمة المشهورة و النّظر،و ما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم،يدلّ على أنّ كلّ شيء أسكر فهو خمر.فأمّا كتاب اللّه فقوله: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً النّحل:67،فعلم أنّ السّكر من العنب مثل السّكر من النّخل.فادّعى هذا القائل أنّ كتاب اللّه يدلّ على أنّ ما أسكر فهو خمر،ثمّ تلا الآية.و ليس في الآية أنّ السّكر ما هو،و لا أنّ السّكر خمر،فإن كان السّكر خمرا على الحقيقة،فإنّما هو الخمر المستحيلة من عصير العنب،لأنّه قال: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ النّحل:67.

و مع ذلك فإنّ الآية مقتضية لإباحة السّكر المذكور فيها،لأنّه تعالى اعتدّ علينا فيها بمنافع النّخيل و الأعناب،كما اعتدّ بمنافع الأنعام و ما خلق فيها من اللّبن،فلا دلالة في الآية إذا على تحريم السّكر و لا على أنّ السّكر خمر،و لو دلّت على أنّ السّكر خمر لما دلّت على أنّ الخمر تكون من كلّ ما يسكر؛إذ فيها ذكر الأعناب الّتي منها تكون الخمر المستحيلة من عصيرها،فكان دعواه على الكتاب غير صحيحة.

و ذكر من الأحاديث في ذلك ما قدّمنا ذكره عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و عن السّلف،و قد بيّنّا وجهه،و ذكرنا ما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«كلّ مسكر خمر»و«كلّ شراب أسكر فهو حرام»و«ما أسكر كثيره فقليله حرام»و نحوها من الأخبار،و المعنى في هذه الأخبار حال وجود الإسكار دون غيرها الموافق لما ذكرنا من الأخبار النّافية لكونها خمرا،و ما ذكرنا من دلالة

ص: 856

الإجماع.

و قد تواترت الآثار عن جماعة من السّلف شرب النّبيذ الشّديد،منهم عمر و عبد اللّه و أبو الدّرداء و بريدة،في آخرين قد ذكرناهم في كتابنا في الأشربة، و روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه شرب من النّبيذ الشّديد،في أخبار أخر،فينبغي على قول هذا القائل أن يكونوا قد شربوا خمرا.

و حدّثنا...عن ابن عبّاس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

«كلّ مسكر حرام».فقلنا:يا ابن عبّاس!إنّ هذا النّبيذ الّذي نشرب يسكرنا!قال:ليس هكذا،إن شرب أحدكم تسعة أقداح لم يسكر فهو حلال،فإن شرب العاشر فأسكره فهو حرام.

حدّثنا...عن الأشعريّ قال:بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معاذا إلى اليمن،فقلت:يا رسول اللّه:إنّك تبعثنا إلى أرض بها أشربة،منها البتع من العسل و المزر من الشّعير و الذّرّة يشتدّ حتّى يسكر،قال:و أعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جوامع الكلم،فقال:«إنّما حرّم المسكر الّذي يسكر عن الصّلاة».فأخبر عليه السّلام في هذا الحديث أنّ المحرّم منه ما يوجب السّكر دون غيره.

و حدّثنا...عن عليّ قال:سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الأشربة عام حجّة الوداع،فقال:«حرّم الخمر بعينها و السّكر من كلّ شراب»،و في هذا الحديث أيضا بيان ما حرّم من الأشربة سوى الخمر و هو ما يوجب السّكر.

و حدّثنا...عن أبي بردة بن نيار،قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«اشربوا في الظّروف و لا تسكروا» فقوله:«اشربوا في الظّروف»منصرف إلى ما كان حظره من الشّرب في الأوعية،فأباح الشّرب منها بهذا الخبر،و معلوم أنّ مراده:ما يسكر كثيره،أ لا ترى أنّه لا يجوز أن يقال:«اشربوا الماء و لا تسكروا»إذ كان الماء لا يسكر بوجه ما؟فثبت أنّ مراده إباحة شرب قليل ما يسكره كثيره.

و أمّا ما روي عن الصّحابة من شرب النّبيذ الشّديد،فقد ذكرنا منه طرفا في كتاب«الأشربة»، و نذكر هاهنا بعض ما روي فيه:حدّثنا...عن علقمة و الأسود قال:«كنّا ندخل على عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه فيسقينا النّبيذ الشّديد».

و حدّثنا.نعيم بن حمّاد قال:كنّا عند يحيى بن سعيد القطّان بالكوفة و هو يحدّثنا في تحريم النّبيذ،فجاء أبو بكر بن عيّاش حتّى وقف عليه،فقال أبو بكر:أسكت يا صبيّ!

حدّثنا الأعمش بن إبراهيم عن علقمة قال:

شربنا عند عبد اللّه بن مسعود نبيذا صلبا آخره يسكر.

و حدّثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال:

شهدت عمر بن الخطّاب حين طعن و قد أتي بالنّبيذ فشربه،قال:عجبنا من قول أبي بكر ليحيى:«أسكت يا صبيّ».و روى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الشّعبيّ عن سعيد و علقمة:أنّ أعرابيّا شرب من شراب عمر،فجلده عمر الحدّ،فقال الأعرابيّ:إنّما شربت من شرابك!فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثمّ شرب منه،و قال:«من رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء»،و روى إبراهيم النّخعيّ عن عمر نحوه،و قال

ص: 857

فيه:إنّه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابيّ.

و حدثنا...عن أمّ سليم و أبي طلحة أنّهما كانا يشربان نبيذ الزّبيب و التّمر يخلطانه،فقيل له:يا أبا طلحة إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن هذا!فقال:«إنّما نهى عنه للعوز في ذلك الزّمان كما نهى عن الإقران».

و ما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا الباب كثير،و قد ذكرنا منه طرفا في كتابنا«الأشربة»و كرهت التّطويل بإعادته هنا.

و ما روي عن أحد من الصّحابة و التّابعين تحريمه الأشربة الّتي يبيحها أصحابنا فيما نعلمه،و إنّما روي عنهم تحريم نقيع الزّبيب و التّمر و ما لم يرد من العصير إلى الثّلث،إلى أن نشأ قوم من الحشو تصنّعوا عند العامّة بالتّشديد في تحريمه،و لو كان النّبيذ محرّما لورد النّقل به مستفيضا لعموم البلوى كانت به؛إذ كانت عامّة أشربتهم نبيذ التّمر و البسر،كما ورد تحريم الخمر و قد كانت بلواهم بشرب النّبيذ أعمّ منها بشرب الخمر،لقلّتها كانت عندهم،و في ذلك دليل على بطلان قول موجبي تحريمه.و قد استقصينا الكلام في ذلك من سائر وجوهه في«الأشربة».لاحظ:

ش رب:«الشّرب».(2:577)

الطّوسيّ: هذا خطاب للمؤمنين أخبرهم اللّه تعالى أنّ الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس.

[ثمّ أدام ما نقلناه عنه في النّصوص اللّغويّة](4:17)

القشيريّ: الخمر ما خامر العقول،و الخمر حرام.

و الإشارة فيه أنّه يزيد نفاد العقل بما يوجب عليه من الالتباس.و من شرب من خمر الغفلة فسكره أصعب؛فشراب الغفلة يوجب البعد عن الحقيقة، و كما أنّ من سكر من خمر الدّنيا ممنوع عن الصّلاة فمن سكر من خمر الغفلة فهو محجوب عن المواصلات.

و كما أنّ من شرب من خمر الدّنيا وجب عليه الحدّ،فكذلك من شرب شراب الغفلة فعليه الحدّ،إذ يضرب بسياط الخوف.

و كما أنّ السّكران لا يقام عليه الحدّ ما لم يفق، فالغافل لا ينجح فيه الوعظ ما لم ينته.

و كما أنّ مفتاح الكبائر شرب الخمر،فالغفلة أصل كلّ زلّة و سبب كلّ ذلّة و بدء كلّ بعد،و حجبة عن اللّه تعالى.

و يقال:لم يحرّم عليه الشّراب في الدّنيا إلاّ و أباح له شراب القلوب؛فشراب الكبائر محظور و شراب الاستئناس مبذول،و على حسب المواجد حظى القوم بالشّراب،و حيثما كان الشّراب كان السّكر.

[ثمّ استشهد بشعر](2:141)

الواحديّ: عن سالم بن عبد اللّه:إنّ أوّل ما حرّمت الخمر...[ثمّ ذكر روايات أخرى بعضها قد سبقت هنا،و بعضها في الآية الأولى](2:222)

الميبديّ: [قال بعد ذكر سبب النّزول:]

فإن قيل:ما الحكمة في تحريم الخمر تدريجا،دون سائر ما حرّم اللّه،فإنّه حرّم دفعة واحدة؟

يقال:لمّا حرّم كلّ محرّم حلّ محلّه مباحا،فلمّا حرّم ربّ العزّة السّفاح مثلا،أحلّ محلّه النّكاح و أباحه،كما حرّم الميتة و أباح الذّبائح،و حرّم الرّبا

ص: 858

و أباح البيع،و حرّم الدّم و أحلّ اللّحم.

و لا جرم أنّ هذه المحرّمات ما شقّ عليهم تركها حين حلّ محلّها الحلال،أمّا الخمر فكانت معشوقة النّفوس،و باعثتها على الطّرب و الجذل،فاعتاد النّاس على معاقرتها،فعلم ربّ العالمين أنّ تركها دون أن يحلّ محلّها شيئا يشقّ عليهم،فرفع عنهم الحرج بفضله و لطفه،و حرّمها عليهم بتدريج.و ذكر أوّلا عيبها و أظهر إثمها،فقال: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، البقرة:219،ثمّ منعها لذلك في الصّلاة،فقال:

لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43، و حرّمها بعد ذلك عليهم،فسهّل لهم تركها بالتّدريج، سبحانه ما أرأفه و ألطفه بعباده!(3:223)

الزّمخشريّ: أكّد تحريم الخمر و الميسر وجوها من التّأكيد،منها:تصدير الجملة ب(انّما).و منها:أنّه قرنهما ب«عبادة الأصنام»و منه قوله عليه الصّلاة و السّلام:«شارب الخمر كعابد الوثن»و منها:أنّه جعلهما رجسا،كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ الحجّ:30،و منها:أنّه جعلهما من عمل الشّيطان،و الشّيطان لا يأتي منه إلاّ الشّرّ البحت.

و منها:أنّه أمر بالاجتناب.و منها:أنّه جعل الاجتناب من الفلاح،و إذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة و محقة.و منها:أنّه ذكر ما ينتج منهما من الوبال،و هو وقوع التّعادي و التّباغض من أصحاب الخمر و القمر،و ما يؤدّيان إليه من الصّدّ عن ذكر اللّه، و عن مراعاة أوقات الصّلاة.و قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ من أبلغ ما ينهى به.[إلى أن قال:]

فإن قلت:لم جمع الخمر و الميسر مع الأنصاب و الأزلام أوّلا،ثمّ أفردهما آخرا؟

قلت:لأنّ الخطاب مع المؤمنين،و إنّما نهاهم عمّا كانوا يتعاطونه من شرب الخمر و اللّعب بالميسر، و ذكر الأنصاب و الأزلام،لتأكيد تحريم الخمر و الميسر،و إظهار أنّ ذلك جميعا من أعمال الجاهليّة و أهل الشّرك،فوجب اجتنابه بأسره.و كأنّه لا مباينة بين من عبد صنما و أشرك باللّه في علم الغيب،و بين من شرب خمرا أو قامر ثمّ أفردهما بالذّكر،ليري أنّ المقصود بالذّكر الخمر و الميسر.(1:641)

نحوه ملخّصا البيضاويّ(1:290)،و النّسفيّ(1:

300)،و الشّربينيّ(1:395)،و أبو السّعود(2:316) و شبّر(2:211).

ابن عطيّة: الخطاب للمؤمنين جميعا،لأنّ هذه الأشياء شهوات و عادات قد تلبّس بها في الجاهليّة، و غلبت على النّفوس،فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين،فأمّا الخمر فكانت لم تحرم بعد.[إلى أن قال:]

و أمر اللّه تعالى باجتناب هذه الأمور،و اقترنت بصيغة الأمر في قوله:(فاجتنبوه)نصوص الأحاديث و إجماع الأمّة،فحصل الاجتناب في رتبة التّحريم،فبهذا حرّمت الخمر بظاهر القرآن و نصّ الحديث و إجماع الأمّة...

و أمر الخمر إنّما كان بتدريج و نوازل كثيرة.[ثمّ أيّده بروايات،فراجع](2:232)

ابن الجوزيّ: [اكتفى بنقل سبب النّزول بأربعة

ص: 859

أقوال،و قد مضت في نصوص الآية الأولى]

(2:416)

الفخر الرّازيّ: [نحو الزّمخشريّ في الآية الثّانية إلاّ أنّه قال:]

فلمّا كان المقصود من هذه الآية النّهي عن الخمر و الميسر،و إنّما ضمّ الأنصاب و الأزلام إلى الخمر و الميسر تأكيدا لقبح الخمر و الميسر،لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذّكر.[إلى أن قال:]

و اعلم أنّ هذه الآية دالّة على تحريم شرب الخمر من وجوه:

أحدها:تصدير الجملة ب(انّما)،و ذلك لأنّ هذه الكلمة للحصر،فكأنّه تعالى قال:لا رجس و لا شيء من عمل الشّيطان إلاّ هذه الأربعة.

و ثانيها:أنّه تعالى قرن الخمر و الميسر بعبادة الأوثان،و منه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«شارب الخمر كعابد الوثن».

و ثالثها:أنّه تعالى أمر بالاجتناب،و ظاهر الأمر للوجوب.

و رابعها:أنّه قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جعل الاجتناب من الفلاح،و إذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة.

و خامسها:أنّه شرح أنواع المفاسد المتولّدة منها فى الدّنيا و الدّين،و هي وقوع التّعادي و التّباغض بين الخلق،و حصول الإعراض عن ذكر اللّه تعالى و عن الصّلاة.

و سادسها:قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ و هو من أبلغ ما ينتهي به،كأنّه قيل:قد تلا عليكم ما فيها من أنواع المفاسد و القبائح،فهل أنتم منتهون مع هذه الصّوارف؟أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ.

و سابعها:أنّه تعالى قال:بعد ذلك: وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا المائدة:92،فظاهره أنّ المراد:و أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول فيما تقدّم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر و الميسر،و قوله:

(و احذروا)أي احذروا عن مخالفتها في هذه التّكاليف.

و ثامنها:قوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ المائدة:92،و هذا تحديد عظيم و وعيد شديد في حقّ من خالف في هذا التّكليف و أعرض فيه عن حكم اللّه.و بيانه:يعني أنّكم إن تولّيتم فالحجّة قد قامت عليكم،و الرّسول قد خرج عن عهدة التّبليغ و الإعذار و الإنذار،فأمّا ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التّكليف و أعرض عنه فذاك إلى اللّه تعالى،و لا شكّ أنّه تحديد شديد فصار كلّ واحد من هذه الوجوه الثّمانية دليلا قاهرا و برهانا باهرا في تحريم الخمر.

و اعلم أنّ من أنصف و ترك الاعتساف علم أنّ هذه الآية نصّ صريح في أنّ كلّ مسكر حرام؛و ذلك لأنّه تعالى لمّا ذكر قوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ قال بعده: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:91،فرتّب النّهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد،

ص: 860

و من المعلوم في بداءة العقول أنّ تلك المفاسد إنّما تولّدت من كونه مؤثّرة في السّكر،و هذا يفيد القطع بأنّ علّة قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هي كون الخمر مؤثّرا في الإسكار،و إذا ثبت هذا وجب القطع بأنّ:

كلّ مسكر حرام،و من أحاط عقله بهذا التّقدير، و بقي مصرّا على قوله فليس لعناده علاج،و اللّه أعلم.

(12:82)

نحوه النّيسابوريّ بتفاوت يسير.(7:22)

العكبريّ: قوله تعالى: فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ:

(فى)متعلّقة ب(يوقع،)و هي بمعنى السّبب،أي بسبب شرب الخمر و فعل الميسر.

و يجوز أن تتعلّق(فى)ب(العداوة)أو ب(البغضاء؛)أي تتعادوا،و أن تتباغضوا بسبب الشّرب،و هو على هذا مصدر بالألف و اللاّم معمل.

(1:459)

الرّازيّ: فإن قيل:كيف جمع الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام في الآية الأولى،ثمّ خصّ الخمر و الميسر في الآية الثّانية؟

قلنا:لأنّ العداوة و البغضاء بين النّاس تقع كثيرا بسبب الخمر و الميسر و كذلك يشتغلون بهما عن الطّاعة،بخلاف الأنصاب و الأزلام،فإنّ هذه المفاسد لا توجد فيها،و إن كانت فيها مفاسد آخر.

و قيل:إنّما كرّر ذكر الخمر و الميسر فقط،لأنّ الخطاب للمؤمنين بدليل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و هم إنّما يتعاطون الخمر و الميسر فقط،و إنّما جمع الأربعة في الآية الأولى إعلاما للمؤمنين أنّ هذه الأربعة من أعمال الجاهليّة،و أنّه لا فرق بين من عبد صنما أو أشرك باللّه تعالى بدعوى علم الغيب،و بين من شرب الخمر أو قامر مستحلاّ لهما.

(مسائل الرّازيّ: 76)

القرطبيّ: و أمّا الخمر فكانت لم تحرّم بعد،و إنّما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد،و كانت وقعة أحد في شوّال سنة ثلاث من الهجرة...

تحريم الخمر كان بتدريج و نوازل كثيرة،فإنّهم كانوا مولعين بشربها.و أوّل ما نزل في شأنها:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ... البقرة:219، فلمّا نزلت هذه الآية تركها بعض النّاس،و قالوا:

لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير،و لم يتركها بعض النّاس،و قالوا:نأخذ منفعتها و نترك إثمها،فنزلت هذه الآية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:43،فتركها بعض النّاس،و قالوا:لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصّلاة،و شربها بعض النّاس في غير أوقات الصّلاة،حتّى نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ...

فصارت حراما عليهم حتّى صار يقول بعضهم:ما حرّم اللّه شيئا أشدّ من الخمر...[و ذكر بعض روايات سبب النّزول،ثمّ قال:]

هذه الأحاديث تدلّ على أنّ شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم،بحيث لا ينكر و لا يغيّر،و أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم أقرّ عليه.و هذا ما لا خلاف فيه، يدلّ عليه آية النّساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى على ما تقدّم.

ص: 861

و هل كان يباح لهم شرب القدر الّذي يسكر؟ حديث حمزة ظاهر فيه؛حين بقر خواصر ناقتي عليّ رضى اللّه عنهما،و جبّ أسنمتهما،فأخبر عليّ بذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم و توقيره و تعزيره،ما يدلّ على أنّ حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر،و لذلك قال الرّاوي فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه ثمل،ثمّ إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لم ينكر على حمزة و لا عنّفه لا في حال سكره و لا بعد ذلك،بل رجع -لمّا قال حمزة:و هل أنتم إلاّ عبيد لأبي-على عقبيه القهقرى و خرج عنه.

و هذا خلاف ما قاله الأصوليّون و حكوه،فإنّهم قالوا:إنّ السّكر حرام في كلّ شريعة،لأنّ الشّرائع مصالح العباد لا مفاسدهم،و أصل المصالح العقل،كما أنّ أصل المفاسد ذهابه،فيجب المنع من كلّ ما يذهبه أو يشوّشه.إلاّ أنّه يحتمل حديث حمزة أنّه لم يقصد بشربه السّكر،لكنّه أسرع فيه فغلبه،و اللّه أعلم.[ثمّ أدام البحث في الاستدلال على الحكم بنجاستها، و تحريم بيعها،و تخليلها،و غير ذلك،فراجع]

(6:285)

الخازن :و كانت الخمر و الميسر ممّا يستطاب عندهم.بيّن اللّه تعالى في هذه الآية أنّ الخمر و الميسر غير داخلين في جملة الطّيّبات و المحلّلات بل هما من جملة المحرّمات.و الخمر كلّ ما خامر العقل و غطّاه.

[و قال نحو الزّمخشريّ في الآية الثّانية](2:73)

أبو حيّان :[ذكر الأقوال في سبب النّزول إلى أن قال:]

و بدأ بالخمر،لأنّ سبب النّزول إنّما وقع بها من الفساد،و لأنّها جماع الإثم،و كانت خمر المدينة حين نزولها الغالب عليها كونها من العسل و من التّمر و من الزّبيب و من الحنطة و من الشّعير،و كانت قليلة من العنب.و قد أجمع المسلمون على تحريم القليل و الكثير من خمر العنب الّتي لم تمسّها نار و لا خالطها شيء.و الأكثر من الأمّة على أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام،و الخلاف في ما لا يسكر قليله و يسكر كثيره من غير خمر العنب،مذكور في كتب الفقه.

(4:13)

السّمين:قوله تعالى: فِي الْخَمْرِ فيه أربعة أوجه:

أحدها:أنّه متعلّق ب(يوقع)أي يوقع بينكم هذين الشّيئين في الخمر أي بسبب شربها،و(فى)تفيد السّببيّة كقوله عليه السّلام:«إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة».

الثّاني:أنّها متعلّقة ب(البغضاء)لأنّه مصدر معرّف ب«أل».

الثّالث:أنّه متعلّق ب(العداوة.)و قال أبو البقاء:و يجوز أن تتعلّق(فى)ب(العداوة)أو ب(البغضاء)أي:أن تتعادوا و أن تتباغضوا بسبب شرب الخمر.و على هذا[الّذي]ذكره تكون المسألة من باب التّنازع،و هو الوجه الرّابع،إلاّ أنّ في ذلك إشكالا؛و هو أنّ من حقّ المتنازعين أن يصلح كلّ منهما للعمل،و هذا العامل الأوّل و هو(العداوة)لو سلّط على المتنازع فيه،لزم الفصل بين المصدر

ص: 862

و معموله بأجنبيّ،و هو المعطوف.و قد يقال:إنّه في بعض صور التّنازع يلتزم إعمال الثّاني،و ذلك في فعلي التّعجّب إذا تنازعا،معمولا فيه،و قد تقدّم هذا مشبعا في«البقرة».(2:604)

ابن كثير :[ذكر الرّوايات في تحريم الخمر و ترتيبه،فراجع](2:636)

الفاضل المقداد:استدلّ أصحابنا القائلون بنجاسة الخمر بهذه الآية،و وجه الاستدلال بها من وجهين:

1-أنّه وصفه بالرّجس،و هو وصف النّجاسة لترادفهما،و لذلك يؤكّد الرّجس بالنّجس،فيقال:

رجس نجس.

2-أنّه أمر باجتنابه،و هو موجب للتّباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بسائر أنواعه،لأنّ معنى الاجتناب كون كلّ منهما في جانب،و هو مستلزم للهجران.و يؤيّد ذلك أيضا روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،في طرقها ضعف،ينجبر بموافقة القرآن.

فروع:

1-كلّ مسكر حكمه حكم الخمر في النّجاسة أنّه خمر،فكلّ خمر نجس،أمّا الكبرى قد تقدّمت،و أمّا الصغرى فلأنّ الخمر إنّما سمّي خمرا،لأنّه يخمر العقل، أي يستره،فكلّ ما يساويه في هذا المعنى فهو مساو له في الاسم،و لقول أبي جعفر عليه السّلام:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:كلّ مسكر حرام و كلّ مسكر خمر»،و مثله رواية ابن عمر عنه صلّى اللّه عليه و آله.

2-العصير من العنب قبل غليانه طاهر حلال، و بعد غليانه و اشتداده نجس حرام؛و ذلك إجماع من فقهائنا.أمّا بعد غليانه و قبل اشتداده فحرام إجماعا منّا،و أمّا النّجاسة فعند بعضنا أنّه نجس أيضا و عند آخرين أنّه طاهر،و الأوّل أحوط.و المراد بالاشتداد:

صيرورة أعلاه أسفله،أو أن يصير له قوام.هذا إذا لم يذهب ثلثاها بالغليان،و إلاّ فهو طاهر حلال.

3-الفقّاع عندنا حكمه حكم الخمر في النّجاسة و التّحريم.[ثمّ استدلّ بروايات](1:51)

البروسويّ: هذه هى الآية الرّابعة من الآيات الأربع الّتي نزلت في الخمر،و قد سبق التّفصيل في سورة البقرة.و يدخل في الخمر كلّ مسكر...

و قوله تعالى:(فى الخمر)متعلّق ب(يوقع) على أن تكون كلمة(فى)هنا لإفادة معنى السّببيّة، كما في قوله عليه السّلام:«إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة»أي يوقع بينكم هذين الشّيئين في الخمر بسبب شربها.[ثمّ قال في تخصيص الخمر و الميسر نحو الزّمخشريّ إلى أن قال:]

اعلم أنّ اللّه تعالى قرن الخمر و الميسر ب الأصنام و فيه تحريم بليغ لهما،و لعلّ قوله عليه السّلام:«شارب الخمر كعابد الوثن»مستفاد من هذه الآية.[ثمّ استشهد لقبحها بروايات و قال:]

فأمّا الخمر فإنّها تخمر العقل،و هو نور روحانيّ علويّ من أوّليّات المخلوقات،و من طبعه الطّاعة و الانقياد و التّواضع لربّه كالملك،و ضدّه الهوى،و هو ظلمانيّ نفسانيّ سفليّ من أخريات المخلوقات،و من طبعه التّمرّد و المخالفة و الإباء،و الاستكبار عن

ص: 863

عبادة ربّه كالشّيطان.فإذا خمّر الخمر نور العقل صار مغلوبا لا يهتدي إلى الحقّ و طريقه.ثمّ يغلب ظلمة الهوى و تكون النّفس أمّارة بالسّوء تستمدّ من الهوى، فتتبع بالهوى السّفليّ جميع شهواتها النّفسانيّة و مستلذّاتها الحيوانيّة السّفليّة،فيظفر بها الشّيطان، فيوقعها في مهالك المخالفات كلّها،و لهذا قال عليه السّلام:

«الخمر أمّ الخبائث»لأنّ هذه الخبائث كلّها تولّدت منها.(2:435)

الآلوسيّ: [قال نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و وجه تلك التّأكيدات أنّ القوم رضي اللّه عنهم- كما قيل-كانوا متردّدين في التّحريم بعد نزول آية البقرة.[ثمّ ذكر اختلاف الصّحابة في شربه و عدم شربه،كما سبقت رواياته في آية البقرة](7:16)

القاسميّ: أي الشّراب الّذي خامر العقل،أي خالطه فستره...قال المهايميّ:لأنّ الخمر تضيع العقل، و ما دون السّكر داع إلى ما يستكمله،فأقيم مقامه في الشّرع الكامل.[إلى أن أدام نحو الفخر الرّازيّ]

(6:2142)

رشيد رضا :[ذكر بعض الرّوايات في سبب نزولها و قال:]

و الحكمة في تحريم الخمر بالتّدريج أنّ النّاس كانوا مفتونين بها،حتّى أنّها لو حرّمت في أوّل الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام،بل عن النّظر الصّحيح المؤدّي إلى الاهتداء به،لأنّهم حينئذ ينظرون إليه بعين السّخط، فيرونه بغير صورته الجميلة،فكان من لطف اللّه تعالى و بالغ حكمته أن ذكرها في سورة البقرة بما يدلّ على تحريمها دلالة ظنّيّة،فيها مجال للاجتهاد ليتركها من لم تتمكّن فتنتها من نفسه.

و ذكرها فى سورة النّساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصّلاة،إذ نهى عن قرب الصّلاة في حال السّكر.فلم يبق للمصرّ على شربها إلاّ الاغتباق بعد صلاة العشاء،و ضرره قليل.و كذا الصّبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له،و لا يخشى أن يمتدّ سكره إلى وقت الظّهر-و قليل ما هم-و كان شيخنا يرى أنّ آية النّساء نزلت قبل آية البقرة،ثمّ تركهم اللّه تعالى على هذه الحال زمنا قوي فيه الدّين، و رسخ اليقين،و كثرت الوقائع الّتي ظهرت لهم بها إثم الخمر و ضررها،و منه كلّ ما ذكر في سبب نزول هذه الآيات...

الخمر:كلّ شراب مسكر،و هذه التّسمية لغويّة و شرعيّة.و قيل:شرعيّة فقط.و هو قول ضعيف.

و قيل:إنّ الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتدّ.

و هذا أضعف ممّا قبله،و لا دليل على هذا لحصر من اللّغة و لا من الشّرع،و قد بيّنّا ذلك في تفسير آية البقرة.

و من أحسن ما ردّ به على أصحاب هذا القول و أخصره قول القرطبيّ: الأحاديث الواردة عن أنس و غيره على صحّتها و كثرتها تبطل مذهب الكوفيّين القائلين بأنّ الخمر لا يكون إلاّ من العنب،و ما كان من غيره لا يسمّى خمرا و لا يتناوله اسم الخمر.و هو قول مخالف للغة العرب و للسّنّة الصّحيحة و للصّحابة، لأنّهم لمّا نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر بالاجتناب

ص: 864

تحريم كلّ ما يسكر،و لم يفرّقوا بين ما يتّخذ من العنب و بين ما يتّخذ من غيره،بل سوّوا بينهما و حرّموا كلّ ما يسكر نوعه،و لم يتوقّفوا و لم يستفصلوا و لم يشكل عليهم شيء من ذلك.بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب،و هم أهل اللّسان،و بلغتهم نزل القرآن،فلو كان عندهم تردّد لتوقّفوا عن الإراقة حتّى يستفصلوا و يتحقّق التّحريم.و قد أخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«من الحنطة خمر و من الشّعير خمر و من التّمر خمر و من الزّبيب خمر و من العسل خمر»و روى أيضا أنّه خطب عمر على المنبر،و قال:ألا إنّ الخمر قد حرّمت و هي من خمسة:من العنب و التّمر و العسل و الحنطة و الشّعير، و الخمر ما خامر العقل.و هو في الصّحيحين و غيرهما، و هو-أي عمر-من أهل اللّغة،انتهى.

و قد تعقّب هذا بعضهم بأنّه يحتمل أن يكون بيانا للاسم الشّرعيّ لا اللّغويّ.و هذا التّعقيب ضعيف و لا يغني عن الحنفيّة شيئا،لأنّهم لا يقولون:إنّ المسكر من غير عصير العنب خمر داخل في عموم الآية شرعا.

و وجه ضعفه أنّ لفظ الخمر ليس اسما لعمل شرعيّ لم يكن معروفا قبل الشّرع،فلمّا جاء به الشّرع أطلق عليه كلمة من اللّغة تتناوله بطريق المجاز،بل هو اسم لنوع من الشّراب يمتاز عن سائر الأشربة بالإسكار.

و هذه التّسمية معروفة عنهم قبل نزول ما نزل من الآيات في الخمر.

و قد نزلت آية البقرة جوابا عن سؤال سألوه عن الخمر؛و لم يقل أحد من مفسّري السّلف و لا الخلف، و لا خطر على بال أحد أنّهم سألوه صلّى اللّه عليه و سلّم عن خمر عصير العنب خاصّة،و أنّها هي المقصودة بالجواب بأنّ فيها إثما كبيرا و منافع للنّاس،و أنّ غيرها ألحق بها في التّحريم بطريق القياس،أو بتفسير النّبيّ و الصّحابة للخمر الشّرعيّة.

و قد بيّنّا فيما أوردناه آنفا من أسباب النّزول أنّه لم يشقّ عليهم تحريم شيء كما شقّ عليهم تحريم الخمر،و أنّ بعضهم كان يودّ لو يجد مخرجا من تحريمها، كما وجد المخرج من آية البقرة الدّالّة على تحريم الخمر بتسميتها إثما مع تصريح القرآن قبل ذلك بتحريم الإثم،و لأجله تركها بعضهم،و تفصّى منه آخرون بتخصيص الإثم بما كان ضررا محضا لا منفعة فيه،و النّصّ قد أثبت أنّ في الخمر منافع.و قد أهرقوا ما كان عندهم من الخمر عند الجزم بالنّهي عنها،كما رأيت و كما ترى بعد.و قلّما كان يوجد عندهم من خمر العنب شيء فلو كان مسمّى الخمر في لغتهم ما كان مسكرا من عصير العنب فقط،لما بادروا إلى إهراق ما كان عندهم.روى البخاريّ في صحيحه عن ابن عمر أنّه قال:نزل تحريم الخمر و أنّ بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها من شراب العنب شيء.

[ثمّ أيّده بروايات و أضاف:]

نعم قد روى النّسائيّ بسند رجاله ثقات عن ابن عبّاس مرفوعا:«حرّمت الخمر قليلها و كثيرها و السّكر من كلّ شراب»و قد اختلف في وصله و انقطاعه و في رفعه و وقفه.و بيّن النّسائيّ علله و من خالف فيه،و معناه على تقدير صحّته.و الاحتجاج

ص: 865

به أنّ الأشربة الّتي شأنها أن يسكر قليلها و كثيرها محرّمة لذاتها بالنّصّ،سواء كانت من العنب أو الزّبيب أو التّمر أو البسر أو غير ذلك.و أمّا سائر الأشربة الّتي ليس من شأنها الإسكار-كالنّبيذ الّذي لم يشتدّ و لم يختمر،و هو ما ينبذ من تمر أو زبيب أو غيرهما في الماء حتّى ينضح و يحلو ماؤه-فشربه حلال ما لم يصل إلى حدّ الإسكار.

و من المعلوم أنّ الأنبذة يسرع إليها الاختمار في بعض البلاد كالحارّة،و بعض الأواني كالقرع و المزفت،و أنّ من النّاس من يسكر بها عند أدنى تغيّر يعرض لها،أو إذا أكثر منها و إن لم تختمر.و لأجل هذا اختلف العلماء في النّبيذ،فذهب الجمهور إلى أنّه إذا صار يسكر الكثير منه فشرب القليل منه يكون حراما لسدّ ذريعة السّكر،و هو إنّما يسكر كثيره إذا تغيّر و لو بحموضة قليلة.و ذهب بعضهم إلى أنّه لا يحرم منه حينئذ إلاّ المقدار المسكر،لأنّه لا يسمّى خمرا فيتناوله النّصّ،فإذا كان ما يشرب منه لم يسكر فلا وجه لقياسه على الخمر.فإن صار بحيث يسكر فهو خمر لغة و شرعا،كما هو المتبادر من فهم الصّحابة للآية،و من تعليل عمر في خطبته لتسمية الخمر بأنّها ما خامر العقل،أو شرعا فقط.و دلالة الحقيقة الشّرعيّة أقوى من دلالة الحقيقة اللّغويّة في الأحكام.

و قد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«كلّ مسكر خمر و كلّ مسكر حرام»رواه مسلم و أبو داود و التّرمذيّ من حديث ابن عمر.و في رواية لمسلم و الدّار قطنيّ: «كلّ مسكر خمر و كلّ خمر حرام».

و قد غلط ابن سيده في اقتصاره على قول صاحب العين:«الخمر عصير العنب إذا أسكر».و لعلّ سبب ذلك أنّ خمرة العنب كانت كثيرة في زمن تدوين اللّغة فظنّ بعضهم أنّ الإطلاق ينصرف إليها لكثرتها، و جودتها.

و نقل الصّحيحين و المسانيد و السّنن بيان معنى الخمر عن الصّحابة أصحّ من نقل جميع اللّغويّين للّغة.

و لمّا لم يجدوا من اطّلع من الحنفيّة على الأحاديث السّابقة و نحوها،تفصّيا منها للاتّفاق على صحّة الكثير منها،حملوا إطلاق لفظ الخمر فيها على المسكر من غير العنب على مجاز التّشبيه،كما في«فتح القدير».و استدلّوا على ذلك بما رواه البخاريّ عن ابن عمر،قال:لقد«حرّمت الخمر و ما بالمدينة منها شيء»و هذه العبارة مبهمة لا يعرف لمن قالها و بأيّ مناسبة قالها،فيحتمل أن يكون بعض النّاس قد ذكر خمرة العنب،فقال ابن عمر ما معناه:أنّ الخمر لمّا حرّمت لم يكن يوجد في المدينة شيء من خمرة العنب، و إنّما كانت خمور أهلها من التّمر و البسر في الغالب.

و يحتمل أن يكون معنى كلامه:أنّ اللّه حرّم الخمر، و لأجل هذا لا يوجد في المدينة منها شيء.و بهذا يجمع بين سائر الأحاديث و الآثار الّتي تقدّم بعضها حتّى عنه و عن أبيه،و إلاّ كانت متعارضة،و لمّا كانت العبارة محتملة لعدّة وجوه سقط الاستدلال بها على ما قالوه.

و لا يمكن الجمع بينها و بين ما عارضها بحمل ما خالفها على المجاز،لأنّ تلك العبارات تأبى أن تكون

ص: 866

تشبيها،كقول عمر في خطبته:«و نزل تحريم الخمر و هي من خمسة:العنب و التّمر و العسل و الحنطة و الشّعير،و الخمر ما خامر العقل».

فهل يمكن أن يقال:نزل تحريم خمرة العنب و هي من خمسة أشياء...؟أم يمكن أن يقال:نزل تحريم ما يشبه الخمر في الإسكار و هو من خمسة أشياء العنب و التّمر...؟إلاّ أنّ هذا لا يقوله أحد يفهم العربيّة،و إن كان يجيز الجمع بين الحقيقة و المجاز،و هو ما لا يجيزه الحنفيّة.

أطلنا هذه الإطالة في بيان حقيقة الخمر،لأنّه قد ظهر في النّاس من عهد بعيد مصداق ما ورد في الحديث،من استحلال أناس لشرب الخمر بتسميتها بغير اسمها.و قد اخترع النّاس بعد زمن التّنزيل أنواعا كثيرة من الخمور أشدّ من خمرة العنب ضررا في الجسم و العقل باتّفاق الأطبّاء،و أشدّ ايقاعا في العداوة و البغضاء،و صدّا عن ذكر اللّه و عن الصّلاة.و القول بأنّه لا يحرم منها قطعا إلاّ ما كان من عصير العنب، و أنّه إنّما يحرم القدر المسكر منه فقط.يجرئ النّاس على شرب القليل من تلك السّموم المهلكة،و القليل يدعو إلى الكثير فالإدمان فالإهلاك،ففي هذا القول مفسدة عظيمة،و ليس في تضعيفه و ترجيح قول جمهور السّلف و الخلف عليه إلاّ المصلحة الرّاجحة، و سدّ ذرائع شرور كثيرة.[ثمّ بحث في الميسر و فسّر الآية التّالية إلى أن قال:]

لم يؤكّد تحريم شيء في القرآن مثل هذا التّأكيد، و لا قريبا منه.و حكمته شدّة افتتان النّاس بشرب الخمر و الميسر،و تأوّلهم كلّ ما يمكن تطرّق الاحتمال إليه من أحكام الأديان الّتي تخالف أهواءهم،كما أوّلت اليهود أحكام التّوراة في تحريم أكل أموال النّاس بالباطل كالرّبا و غيره.و كما استحلّ بعض فسّاق المسلمين شرب بعض الخمور بتسميتها بغير اسمها؛إذ قالوا:هذا نبيذ أو شراب لا يسكر إلاّ الكثير منه،و قد أحلّ ما دون القدر المسكر منه فلان و فلان، يقولون ذلك فيما هو خمر،لا حظّ لهم من شربه إلاّ السّكر.

بل تجرّأ بعض غلاة الفسّاق على القول بأنّ هذه الآيات لا تدلّ على تحريم الخمر،لأنّ اللّه قال:

(فاجتنبوه)و لم يقل:حرّمته فاتركوه،و قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ و لم يقل:فانتهوا عنه.و قال بعضهم:

سألنا هل أنتم منتهون؟فقلنا:لا،ثمّ سكت و سكتنا.

و يصدق على هؤلاء قوله تعالى: اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً المائدة:57،و يمكن أن يقال:إنّ هذا الغلوّ قلّما يصدر عمّن كان صحيح الإيمان، و العياذ باللّه تعالى.

أمّا المؤمنون فقد قالوا:انتهينا ربّنا،و قال:بعضهم:

انتهينا انتهينا.أكّدوا الاستجابة و الطّاعة كما أكّد عليهم التّحريم،و كان فيهم المدمنون للخمر من عهد الجاهليّة،حتّى شقّ عليهم تحريمها،فكان أشدّ من جميع التّكاليف الشّرعيّة.و كانوا قد اجتهدوا في آية البقرة، لأنّ الدّلالة على التّحريم فيها ظنّيّة غير قطعيّة-كما بيّنّاه غير مرّة-فلمّا جاء الحقّ اليقين و التّحريم الجازم،انتهوا و أهرقوا جميع ما كان عندهم من الخمور

ص: 867

في الشّوارع و الأزقّة،حتّى ظلّ أثرها و ريحها زمنا طويلا.

و قد قدح بعض أذكيائهم زناد الفكر عسى أن يهتدوا إلى شيء يجدون فيه بعض الرّخصة من النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فلم يجدوا إلاّ أنّ من قد مات من أهل بدر و أحد، كسيّد الشّهداء حمزة عمّ الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم و غيره،ماتوا و هم دائبون على شربها،فلم تغن عنهم هذه الشّبهة شيئا،لأنّ اللّه لا يكلّف النّاس العمل بأحكام الشّريعة قبل نزولها.و هاك بعض ما ورد في ذلك زائدا،على ما أوردنا من قبل.

روى البيهقيّ في«شعب الإيمان»عن أبي هريرة قال:قام رسول اللّه فقال:«يا أهل المدينة إنّ اللّه يعرّض عن الخمر تعريضا،لا أدري لعلّه سينزل فيها أمر»أي قاطع،ثمّ قام فقال:«يا أهل المدينة إنّ اللّه قد أنزل إليّ تحريم الخمر،فمن كتب منكم هذه الآية و عنده منها شيء فلا يشربها».

و أخرج مسلم و أبو يعلى و ابن مردويه عن أبي سعد الخدريّ قال:خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:«يا أيّها النّاس إنّ اللّه قد عرّض بالخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعه و لينتفع به».فلم نلبث إلاّ يسيرا حتّى قال:«إنّ اللّه قد حرّم الخمر،فمن أدركته هذه الآية و عنده منها شيء فلا يشرب و لا يبع».قال:

فاستقبل النّاس بما كان عندهم منها فسفكوها في طرق المدينة.

و أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن الرّبيع، قال:لمّا نزلت آية البقرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ ربّكم يقدم في تحريم الخمر»ثمّ نزلت آية النّساء،فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:إنّ ربّكم يقرب في تحريم الخمر»ثمّ نزلت آية المائدة فحرّمت الخمر عند ذلك.

و أخرج عبد بن حميد عن عطاء،قال:أوّل ما نزل من تحريم الخمر يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ...

الآية،فقال بعض النّاس:نشربها لمنافعها،و قال آخرون:لا خير في شيء فيه إثم،ثمّ نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى فقال بعض النّاس:نشربها و نجلس في بيوتنا،و قال آخرون:لا خير في شيء يحول بيننا و بين الصّلاة مع المسلمين،فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ...، فنهاهم فانتهوا.

و أخرج أيضا عن قتادة في تفسير آية النّساء أنّه قال:ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال حين نزلت هذه الآية:

«إنّ اللّه قد تقرّب في تحريم الخمر»ثمّ حرّمها بعد ذلك في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب،و أعلم أنّها تسفّه الأحلام،و تجهد الأموال و تشغل عن ذكر اللّه و عن الصّلاة.

و روى أحمد عن أبي هريرة قال:«حرّمت الخمر ثلاث مرّات».ثمّ ذكر نزول الآيات الثّلاث،و ما كان من شأن النّاس عند كلّ واحدة منهنّ،و قال في آية النّساء:«ثمّ أنزل اللّه آية أغلظ منها»أي من آية البقرة،و قال مثل ذلك في آية المائدة.

فهذه الأخبار و الآثار و غيرها ممّا تقدّم في التّصريح بالقطع بتحريم الخمر،تدلّ دلالة قاطعة على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الصّحابة كافّة،فهموا من آية المائدة أنّ

ص: 868

اللّه تعالى حرّم الخمر تحريما باتّا لا هوادة فيه،و أنّ الخمر عندهم كلّ شراب من شأنه أن يسكر شاربه،و قد صرّحوا فيها بلفظ التّحريم،و أنّه كان تعريضا،فجعلته آية المائدة تصريحا،أو أنّ آيتي البقرة و النّساء كانتا مقدّمة لتحريمها أو مفيدتين له إفادة ظنّيّة،كما قلنا من قبل.و إنّ جميع المؤمنين أهرقوا ما كان عندهم من الخمور عند نزول الآية،و كان كلّها أو أكثرها من التّمر و البسر الّذي يكثر في المدينة،و أنّهم لم يجدوا لهم مخرجا من ذلك بتأويل و لا رخصة.

نعم إنّهم كانوا يسمّون بعض الأنبذة بأسماء خاصّة و قد سألوا عنها النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ما حكمها إذا صار يسكر كثيرها أو مطلقا؟قال أبو موسى الأشعريّ: قلت:يا رسول اللّه أفتنا في شرابين كنّا نصنعهما باليمن:البتع- و هو من العسل ينبذ حتّى يشتدّ،-و المزر-و هو من الذّرّة و الشّعير،ينبذ حتّى يشتدّ-.قال:و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد أوتي جوامع الكلم بخواتمه،فقال:«كلّ مسكر حرام»رواه أحمد و الشّيخان.و في حديث عليّ كرّم اللّه وجهه:أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نهاهم عن الجعة، رواه أبو داود و النّسائيّ و غيرهما.و الجعة بكسر و فتح:نبيذ الشّعير،و تسمّى بالإفرنجيّة«بيرا».

و الأصل في النّبيذ أن ينقع الشّيء في الماء حتّى ينضح،فيشرب بعد يوم أو يومين أو ثلاثة،و لم يقصد به أن يترك ليختمر و يصير مسكرا،كما تقدّم.و نزيد عليه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن النّبذ في الأواني الّتي يسرع إليها الاختمار لعدم تأثير الهواء فيها،كالحنتم أي جرار الفخّار المطليّة،و النّقير أي جذوع النّخل المنقورة،و المزفت و هو المقير،أي المطليّ بالقار و هو الزّفت،و الدّباء و هو القرع الكبير.ثمّ بيّن أنّ الظّروف لا تحلّ و لا تحرّم.و أذن بالنّبذ في كلّ وعاء مع تحريم كلّ مسكر.رواه مسلم و أصحاب السّنن.

و عن ابن عبّاس:«أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان ينبذ له الزّبيب فيشربه اليوم و الغد و بعد الغد إلى مساء الثّالثة،ثمّ يؤمر به فيسقى الخادم أو يهراق».رواه أحمد و مسلم،أي يصير بعد ثلاثة أيّام مظنّة لإسكار.

فهذه نهاية المدّة الّتي يحلّ فيها النّبيذ غالبا.و في آخرها كان يحتاط النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فلا يشربه بل يسقيه الخادم أو يريقه لئلاّ يختمر و يشتدّ فيصير خمرا،و العبرة بالإسكار و عدمه.

فائدة تتبعها قاعدة:

علم من الرّوايات الّتي أوردناها آنفا أنّ بعض الصّحابة فهم من آيتي البقرة و النّساء تحريم الخمر فتركها،و لكن عشّاقها وجدوا منهما مخرجا بالاجتهاد.

و كان من سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أن يعذر المجتهدين في اجتهادهم و إن كان بعضهم مخطئا فيه،و قد يجيزه له إذا كان قاصرا عليه:أجنب رجل فأخّر الصّلاة إذ لم يجد الماء،فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:«أصبت».

و أجنب آخر فتيمّم و صلّى إذ لم يجد الماء،فذكره له كالأوّل،فقال له ما قال للأوّل:«أصبت»رواه النّسائيّ و أجاز عمل عمرو بن العاص إذ تيمّم للجنابة مع وجود الماء خوفا من البرد،و صلّى إماما فسأله عن ذلك،فاحتجّ بقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا

ص: 869

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة:195،رواه أحمد و البخاريّ تعليقا،و أبو داود و الدّار قطنيّ.و لكنّه قال لمن ترك الصّلاة مع الجماعة و سأله عن ذلك فاعتذر بالجنابة و فقد الماء:«عليك بالصّعيد فإنّه يكفيك» رواه البخاريّ.

و يؤخذ من هذه الأحاديث و من تلك أنّ التّحريم الّذي يكلّفه جميع النّاس هو ما كان نصّا صريحا،فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكلّف النّاس إراقة ما كان عندهم من الخمر إلاّ عند ما نزلت آية المائدة الصّريحة بذلك،مع كونه فهم من آيتي البقرة و النّساء تحريم الخمر بالتّعريض.و المراد من التّعريض عين المراد من التّصريح،إلاّ أنّ التّعريض حجّة على من فهمه خاصّة،و التّصريح حجّة على المكلّفين كافّة.

و من هنا تعرف سبب ما كان من تساهل السّلف في المسائل الخلافيّة و عدم تضليل أحد منهم لمخالفه، و تعلم أيضا أنّ ما قال العلماء بتحريمه اجتهادا منهم لا يعدّ شرعا يعامل النّاس به،و إنّما يلتزمه من ظهر له صحّة دليلهم،من قياس أو استنباط،من آية أو حديث دلالتهما عليه غير صريحة.و إنّ في تعريض كلام اللّه و رسوله حكما،و سيأتي لهذا المبحث تتمّة في تفسير: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ المائدة:101.[ثمّ بحث في الآية الآتية إلى أن قال:]

شبهة لعشّاق الخمر و دحضها:

قال الإمام الرّازيّ: «زعم بعض الجهّال أنّه تعالى لمّا بيّن في الخمر أنّها محرّمة عند ما تكون موقعة في العداوة و البغضاء و صادّة عن ذكر اللّه و عن الصّلاة، بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد،بل حصل معه أنواع المصالح من الطّاعة و التّقوى و الإحسان إلى الخلق.قالوا:و لا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التّحريم،لأنّه لو كان المراد ذلك لقال:«ما كان جناح على الّذين طعموا»كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143،و لكنّه لم يقل ذلك بل قال:

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا المائدة:93،و لا شكّ أنّ(اذا)للمستقبل لا للماضي.

و اعلم أنّ هذا القول مردود بإجماع كلّ الأمّة، و قولهم:إنّ كلمة(اذا)للمستقبل لا للماضي،فجوابه ما روى أبو بكر الأصمّ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال أبو بكر:يا رسول اللّه كيف بإخواننا الّذين ماتوا و قد شربوا الخمر و فعلوا القمار،و كيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ اللّه حرّم الخمر و هم يطعمونها؟ فأنزل اللّه هذه الآية.و على هذا التّقدير فالحلّ قد ثبت في الزّمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية،لكن في حقّ الغائبين الّذين لم يبلغهم هذا النّصّ»انتهى كلام الرّازيّ بحروفه.

و أقول:إنّ جوابه ضعيف فيما أقرّه و فيما ردّه إلاّ نقل الإجماع،و قد كان رحمه اللّه على سعة اطّلاعه في العلوم العقليّة و النّقليّة غير دقيق في البلاغة و أساليب اللّغة،حتّى أنّ عبارته نفسها ضعيفة.

و الصّواب أن يقال في الرّدّ على احتجاج أصحاب

ص: 870

هذا التّحريف:

أوّلا:أنّ قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا...

ليس خبرا عمّن نزلت بسبب السّؤال عنهم الآية، و إنّما هي قاعدة عامّة إنشائيّة المعنى يعلم منها حكم من مات قبل القطع بتحريم الخمر،و حكم من نزلت الآية في عهدهم و تليت عليهم،و حكم غيرهم من عصرهم إلى آخر الزّمان.و هذا أبلغ و أعمّ فائدة من بيان حكم المسئول عنهم خاصّة.

و ثانيا:أنّ قول المشتبهين:لو كان المراد من الآية بيان حكم الّذين ماتوا لقال:«ما كان جناح على الّذين طعموا»باطل،و قوله تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143،الّذين احتجّوا به لا يدلّ على ما زعموا،فإنّ مثل هذا التّركيب يدلّ على نفي الشّأن لا على نفي حديث مضى،فمعناه:ما كان من شأنه تعالى و لا من مقتضى سنّته و حكمته أن يضيع إيمانكم.و قد بيّنّا من قبل غير مرّة و نقلناه عن «الكشّاف»،فهو يعمّ الماضي و المستقبل،و مثله:

ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللّهِ يوسف:38،و يشبه العبارة الّتي قالوها قوله تعالى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ و لم يقل أحد:إنّها لنفي الحرج في الزّمن الماضي،بل تعمّ نفيه في الحال و الاستقبال،و هو موضع الفائدة له صلّى اللّه عليه و سلّم منها.

و ثالثا:لو كان معنى الآية ما ذكروه،لأخذ به من شقّ عليهم تحريم الخمر من الصّحابة،و من كان يميل إليها بعدهم.

نعم إنّه لو لا ما ورد من سبب نزول الآية،لكان المتبادر من معناها أنّه ليس على المؤمنين الصّالحين تضييق و إعنات فيما أكلوا،و إن شئت قلت:أو شربوا من اللّذائذ-كما توهّم الّذين كانوا حرّموا على أنفسهم طيّبات ما أحلّ اللّه لهم مبالغة في النّسك-إذا كانوا معتصمين بعرى التّقوى في جميع الأوقات و الأحوال،راسخين في الإيمان متحلّين بصالح الأعمال محسنين فيها،لأنّ اللّه تعالى لم يحرّم عليهم شيئا من الطّيّبات،و إنّما حرّم عليهم الخبائث،كالميتة و الدّم و لحم الخنزير،و ما أهلّ به لغير اللّه و الخمر و الميسر، و أكل أموال النّاس بالباطل.و إنّما الجناح و الحرج في الطّعام و الشّراب على الكافرين و الفاسقين،الّذين يسرفون فيهما،و يجعلونهما أكبر همّهم من حياتهم الدّنيا،و لا يجتنبون الخبيث منهما.

فالعبرة في الدّين بالإيمان و التّقوى و العمل الصّالح و الإحسان،فذلك هو النّسك كلّه،لا بالطّعام و الشّراب و تعذيب النّفوس و إرهاقها.و لعلّ شيخنا لو فسّر الآية لجزم بأنّ هذا هو المعنى المراد،و أنّ ما ورد في سبب نزولها-إذا صحّ-يؤخذ الجواب عنه من فحوى الآية.و هو أنّه لا جناح على من كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها،لأنّ العمدة في الدّين هو التّقوى لا أمر الطّعام و الشّراب الّذي لا يحرم منه شيء إلاّ لضرره.

و إذا لم يراع سبب النّزول في تفسير الآية، فلا يمكن أن يقال:إنّ معناها:ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات إثم فيما يشربون من الخمر،بعد القطع بتحريمها،و تأكيده بما في سياق آيات التّحريم

ص: 871

من المؤكّدات،لأنّ كلمة(طعموا)لا مدلول لها في اللّغة إلاّ على أكل الطّعام في الماضي أو تذوّق كلّ ما له طعم من طعام و شراب بمقدّم الفم في الزّمن الماضي أيضا،و لو صحّ أن يكون معنى الآية ما ذكروه،لكان نسخا لتحريم شرب الخمر متّصلا بالتّحريم المؤكّد،أو تخصيصا له بغير أهل التّقوى الكاملة من المؤمنين الصّالحين.و ليس لهذا نظير في الإسلام،و لا في غيره من الشّرائع و الأديان،و لا يتّفق مع بلاغة القرآن.

فإن قيل:إنّ الأفعال الماضية إذا وردت في سياق الأحكام التّشريعيّة و القواعد العلميّة تفيد التّكرار الّذي يعمّ المستقبل،بمعنى أنّ هذا الفعل كلّما وقع كان حكمه كذا،فلم لا يجوز على هذا أن يكون معنى الآية رفع الحرج و المؤاخذة عن المؤمن إذا شرب قليلا من الخمر بالشّروط الشّديدة المبيّنة فيها،و يدخل في عموم التّقوى منها أن لا يسكر و لا يكون بحيث توقع الخمر بينه و بين أحد من النّاس بغضا و لا عداوة، و لا بحيث تصدّه عن ذكر اللّه و عن الصّلاة؟

قلت:إنّ الطّعم في اللّغة لا يدلّ على الشّرب القليل و لا الكثير بل على ذوق المشروب بمقدّم الفم، أو إدراك طعمه من ذوقه بهذه الصّفة،كما حرّره الجوهريّ و تبعه ابن الأثير في«النّهاية»،و قد مرّ بيان ذلك.و أنت ترى الفرق الجليّ بين الشّرب الكثير و الشّرب القليل،و بين طعم الماء بتذوّقه في قصّة طالوت: قالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ البقرة:249، فقد جعل هذا الابتلاء على ثلاث مراتب:الأولى:

البراءة ممّن شرب حتّى روى (1).و الثّانية:الاتّحاد التّامّ بمن لم يذق طعمه البتّة.و الثّالثة بين بين،و هي لمن أخذ غرفة بيده فكسر بها سورة الظّمإ و لم يكرع فيروه.هذا ما جرينا عليه في تفسير الآية:(ج:2 ص 478)و هو ما تعطيه اللّغة،و جرى عليه جهابذتها في تفسير اللّفظ كالزّمخشريّ،و تبعه البيضاويّ و أبو السّعود و الرّازيّ و الآلوسيّ و غيرهم،و قالوا إنّ قوله: إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً استثناء من قوله:

فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ إلاّ أنّ بعضهم خلط،و أدخل في تفسير الآية ما لا يدلّ عليها لفظها،تبعا للرّوايات أو لاصطلاحات الفقهاء فيما يحنث به من حلف أنّه لا يشرب من هذا النّهر مثلا.و إذا كان هذا هو معنى (طعموا)فلا فائدة من إباحة تذوّق طعم الخمر بمقدّم الفم لأحد،فيكون لغوا ينزّه كتاب اللّه عنه.

و لو كان المراد من الآية ما ذكروه لكان نصّها:

ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات جناح في شرب القليل من الخمر-أو ما لا يسكر و لا يضرّ من الخمر- إِذا مَا اتَّقَوْا... و لكان أجدر النّاس بفهم ذلك منها من أنزلت عليه صلّى اللّه عليه و سلّم و من خوطبوا بها أوّلا من فصحاء العرب،و لم يؤثر عن أحد منهم ذلك بل صحّ عنهم ضدّه:

روى أحمد و أبو داود و التّرمذيّ-و قال:حديث حسن-عن عائشة،قالت:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كلّي.

ص: 872


1- في الأصل روي.

مسكر حرام و ما أسكر الفرق منه فملء الكفّ منه حرام».الفرق بفتح الرّاء و سكونها:مكيال يسع ستّة عشر رطلا.و قيل:إنّ ساكن الرّاء مكيال آخر يسع 120 رطلا.و رواة هذا الحديث كلّهم محتجّ بهم في الصّحيحين إلاّ أبو عثمان عمر-أو عمرو-بن سالم قاضي مرو التّابعيّ،فهو مقبول كما قال الحافظ في «تقريب التّهذيب»،و نقل في أصله توثيقه عن أبي داود و ابن حبّان.

و روى أحمد و ابن ماجه و الدّار قطنيّ و صحّحه عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«ما أسكر كثيره فقليله حرام».و روى مثله أبو داود و التّرمذيّ -و حسّنه-و ابن ماجه من حديث جابر.قال الحافظ ابن حجر:رواته ثقات،و في إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات.قال في«التّقريب»صدوق.و لكن قال أبو حاتم الرّازيّ: لا بأس به،ليس بالمتين.و سئل عنه ابن معين فقال:ثقة.

و روى النّسائيّ و الدّار قطنيّ عن سعد بن أبي وقّاص عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره»و في رواية أخرى:«أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن قليل ما أسكر كثيره».و أكثر رجال هذا الحديث قد احتجّ بهم البخاريّ و مسلم في الصّحيحين،و فيهم الضّحّاك بن عثمان احتجّ به مسلم في صحيحه،فلم يبق إلاّ شيخ النّسائيّ محمّد بن عبد اللّه بن عمّار نزيل الموصل.قال الحافظ في«تقريب التّهذيب»:ثقة حافظ،فهذا حديث صحيح لا مطعن فيه.و لا عبرة بما يوهمه كلام مثل العينيّ في هذا المقام.فتحريم قليل كلّ مسكر و كثيره صحّ في عدّة أحاديث و ثبت بالإجماع.

قال الحافظ النّسائيّ-بعد رواية حديث سعد و ما في معناه-:و في هذا دليل على تحريم المسكر قليله و كثيره،و ليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحليلهم آخر الشّربة،و تحليلهم ما تقدّمها الّذي يشرب في الفرق قبلها،و لا خلاف بين أهل العلم أنّ السّكر بكلّيّته لا يحدث على الشّربة الآخرة دون الأولى و الثّانية بعدها،و باللّه التّوفيق انتهى.أي أنّ السّكر يكون من مجموع ما يشرب لا من الشّربة الّتي تعقبها النّشوة.

شبهة أخرى على تحريم قليل المسكر و علّة تحريمه:

و يعلم من هذه الأحاديث فساد قول من عساه يقول:إنّ القليل من الخمر لا تتحقّق فيه علّة التّحريم، و القياس أنّ الحكم يدور مع علّة (1)وجودا و عدما.

و متى فقدت العلّة،كان إثبات الحكم منافيا للحكمة.

و وجه فساده أنّه لا قياس مع النّصّ،و أنّ قاعدة سدّ ذرائع الفساد الثّابتة في الشّريعة تقتضي منع قليل الخمر و الميسر،لأنّه ذريعة لكثيره،و لعلّه لا يوجد في الدّنيا ما يشابههما في ذلك.

بيّنّا في تفسير آية البقرة التّعليل العلميّ الطّبعيّ لكون قليل الخمر يدعو إلى كثيرها-و كذلك الميسر- و كون متعاطيهما قلّما يقدر على تركهما(ج 2 ص 341)و لهذا يقلّ أن يتوب مدمن الخمر،لأنّ ما يبعثه على التّوبة من وازع الدّين أو خوف الضّرر،

ص: 873


1- كذا و الظّاهر:علّته.

يعارضه تأثير سمّ الخمر-الّذي يسمّى:الغول أو الكحول-في العصب الدّاعي بطبعه إلى معاودة الشّرب،و هو أ لم يسكن بالشّرب موقّتا ثمّ يعود كما كان أو أشدّ.و متى تعارضت الاعتقادات و الوجدانات المؤلمة أو المستلذّة في النّفس،رجّحت عند عامّة النّاس الثّانية على الأولى،و إنّما يرجّح الاعتقاد عند الخواصّ و هم أصحاب الدّين القويّ، و الإيمان الرّاسخ و أصحاب الحكمة و العزيمة القويّة.

و هذا الألم الّذي أشرنا إليه قد ذكره أهل التّجربة في أشعارهم،كقول أبي نواس:

*و داوني بالّتي كانت هي الدّاء*

و إنّنا نرى جميع المتعلّمين على الطّريقة المدنيّة في هذا العصر و أكثر النّاس في البلاد الّتي تنشر فيها الجرائد و المجلاّت العلميّة،يعتقدون أنّ الخمر شديدة الضّرر في الجسم و العقل و المال و آداب الاجتماع، و لم نر هذا الاعتقاد باعثا على التّوبة منها إلاّ لأفراد منهم،حتّى أنّ الأطبّاء منهم-و هم أعلم النّاس بمضارّها-كثيرا ما يعاقرونها و يدمنونها،و إذا عذلوا في ذلك أجابوا بلسان الحال أو لسان المقال بما أجاب به طبيب عذله خطيب على أكله طعاما غليظا كان ينهى عن أكله؛إذ قال:إنّ العلم غير العمل،فكما أنّك أيّها الخطيب تسرد على المنبر خطبة طويلة في تحريم الغيبة و الخوض في الأعراض،ثمّ يكون جلّ سمرك في سهرك اغتياب النّاس،كذلك يفعل الطّبيب في نهيه عن الشّيء لا ينتهي عنه إذا كان يستلذّه.

و قد مضت سنّة اللّه تعالى بأن تكون قوّة تأثير الدّين على أشدّها و أكملها في نشأته الأولى،كما يفيده قوله تعالى: وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الحديد:16،و لهذا ترك جمهور المؤمنين الخمر في عصر التّنزيل،و لكن بقي من المدمنين من لم يقو على احتمال آلام الخمار،و ما يعتري الشّارب بعد تنبّه العصب بنشوة السّكر،من الفتور و الخمود الدّاعي إلى طلب ذلك التّنبيه،فكان أفراد منهم يشربون فيجلدون و يضربون بالجريد و كذا بالنّعال، ثمّ يعودون راضين بأن يكون هذا الحدّ الّذي يحدّونه، أو التّعزير الّذي يعزّرونه،مطهّرا لهم من الذّنب الدّينيّ عند اللّه تعالى،و لا يبالون بعد ذلك ما تحمّلوا في سبيل الخمر من إيذاء و إهانة.

و قد كان من هؤلاء المدمنين أبو محجن الثّقفيّ رضى اللّه عنه،و لمّا أبلى في وقعة القادسيّة ما أبلى و كان نصر المسلمين على يده-و ترك سعد بن أبي وقّاص رضى اللّه عنه إقامة الحدّ عليه،و كان قد اعتقله لسكره-تاب إلى اللّه تعالى،و علّل توبته في بعض الرّوايات بأنّه كان يشرب عالما أنّ العقاب الشّرعيّ يطهّره،و إذ حابوه به -كما ظنّ-تاب إلى اللّه تعالى خوفا من عقاب الآخرة.و لم يترك سعد عقابه محاباة-كما ظنّ-بل لأنّ الحدود لا تقام في حال الغزو و لا في دار الحرب، و التّعزير يرجع إلى الاجتهاد.

و التّحقيق أنّ عقاب السّكر تعزير،و أنّ سعدا أدّاه اجتهاده إلى ترك تعزير أبي محجن بعد أن بذل نفسه في سبيل اللّه،و أبلى يومئذ ما أبلى،و لا مطهّر من الذّنب

ص: 874

أقوى من هذا،و هل يوجد في هذا العصر كثير من النّاس يشابهون أبا محجن في قوّة إيمانه و قوّة عزيمته في دينه؟

بعض العبر في الخمر:

من آيات العبرة أنّ الإفرنج الّذين يستبيحون شرب الخمر دينا،يستحسنونه أدبا و مدنيّة،و يصنعون منه أنواعا كثيرة يربحون منها ألوف الألوف من الدّنانير في كلّ عام،قد ألّفوا جمعيّات للنّهي عن الخمور و السّعي لإبطالها،و أقوى هذه الجمعيّات نفوذا و تأثيرا في الولايات المتّحدة الإمريكيّة.و من عجائب وقائع تقليد متفرنجي المسلمين للإفرنج ميل بعضهم إلى الدّخول في هذه الجمعيّات،و تأليف الفروع لها في البلاد الإسلاميّة،و ما أغنى المسلمين عن تقليد غيرهم في هذا!و ما أجدرهم بأن يكونوا هم الأئمّة المتبوعين!.

و من آيات العبرة فيها أنّ العرب كانوا يعدّون من منافع الخمر الحماسة في الحرب و قوّة الإقدام فيها، و قد ثبت عند الإفرنج أنّ السّكر يضعف الجنود عن القيام بأعباء الحرب و احتمال أثقالها،فقرّرت بعض الدّول إبطال الخمور الوطنيّة الشّديدة الرّواج في بلادها-و أكثر انتفاعها الماليّ منها-مدّة الحرب، و لعلّ الدّول كلّها تجمع على هذا بعد،و مع هذا كلّه لا يزال بعض المسلمين الجغرافيّين يتململون من تحريم الإسلام للخمر، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فصّلت:53.

استدراكان:
الاستدراك الأوّل:الخمر نوعان:
اشارة

نوع يخمّر تخميرا،و نوع يقطّر تقطيرا،و أقوى الخمور سمّا و أشدّها ضررا ما كانت مقطّرة،و يعبّرون عنها بالأشربة الرّوحيّة.و هذا من مرجّحات اختيارنا لقول سيّدنا عمر بن الخطّاب في تعليل تسمية الخمر،و أنّه مخامرتها العقل،و قد بيّنّا جميع ما قيل في ذلك في تفسير آية البقرة(ج:2 ص 331).

المرجّح الثّاني:كون هذا القول لإمام من أفصح العرب الخلّص،و أمّا غيره فهو ممّا استنبطه المولّدون من كلام العرب الخلّص.

و الثّالث:أنّ نقله أصحّ،فهو مرويّ في الصّحيحين و كتب السّنن،كما تقدّم.

و قد استدلّ بعضهم على كون الخمر ممّا يعصر،أي لا ممّا ينبذ و يقطّر،بقوله تعالى حكاية عن أحد صاحبي يوسف عليه السّلام في السّجن: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً و هو استدلال ضعيف و سخيف.فإنّ اتّخاذ الخمر من العصير لا ينافي اتّخاذها من غيره،و ليس في العبارة ما يدلّ على الحصر،دع ما يمكن أن يقال:

من أنّ هذا القول حكاية عن أعجميّ في بيان ما رآه في نومه،ممّا هو معهود في بلاده،فليس بحجّة في لغة العرب و لا صناعتهم و صناعة غيرهم للخمر، و بالأولى لا يكون حجّة في الشّرع.

و قد اشتبه على بعض النّاس ما طبخ من العصير قبل وصوله إلى حدّ الإسكار أو بعده هل يسمّى خمرا أم لا؟كما اشتبه على الكثيرين أمر النّبيذ.و من

ص: 875

المطبوخ«الطّلاء»و هو الدّبس،و يسمّى المثلّث إذا اشترطوا أن يغلى العصير حتّى يبقى ثلثه،و منه «الباذق»و هو ما طبخ من عصير العنب أدنى طبخ حتّى صار شديدا،و هو اسم أعجميّ.و قيل:أوّل من صنعه و سمّاه بذلك بنو أميّة و أنّه مسكر،و أظنّ أنّه يكون قبل الطّبخ مسكرا فلا يزيل الطّبخ القليل إسكاره،أو يترك فيه الماء بعد طبخه فيختمر كما يختمر العسل،و كذلك كانوا يفعلون بالدّبس.و لو جاء الإسكار من طريقة الطّبخ لكان نوعا ثالثا من الخمر.

و في صحيح البخاريّ أنّ ابن عبّاس سئل عن الباذق،فقال:سبق محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم الباذق،فما أسكر فهو حرام،أي أنّ العبرة بما يسكر من الشّراب و لا عبرة بالأسماء.فالعسل حلال،و لكنّه يمزج بالماء و يترك حتّى يختمر و يسكر فيصير خمرا.و كلّ من عصير العنب و نبيذ الزّبيب و غيره حلال،فإذا اختمر و صار يسكر حرم قطعا،و سمّي خمرا،لا عصيرا و لا نبيذا، و متى علم أنّه صار مسكرا حرم شرب قليله و كثيره، لا قبل ذلك.

على أنّ من قال من أهل اللّغة:«إنّ الخمر هو المسكر من عصير العنب»إطلاقا لما هو الغالب أو الأهمّ في عصر تدوين اللّغة،لم يمنعهم ذلك و لا تسميتهم لبعض الخمر من غيرها بأسماء أخرى أن يطلقوا اسم الخمر على جميع الأشربة المسكرة.فهذا ابن سيده نقل ذلك الإطلاق في«المخصّص»عن صاحب كتاب«العين»كما أشرنا إليه في موضعه، و أطال في بيان أسماء الخمر بحسب صفاتها،ثمّ عقد بابا للأنبذة الّتي تتّخذ من التّمر و الحبّ و العسل،قال فيه ما نصّه:

«أبو حنيفة أي الدّينوريّ اللّغويّ: فأمّا خمور الحبوب فما اتّخذ من الحنطة فهو المزر،و ما اتّخذ من الشّعير فهو الجعة و من الذّرّة السّكركة و السّقرقة عجميّ.أبو عبيد:الغبيراء السّكركة-إلى أن قال:- ابن دريد:البتع:ضرب من شراب العسل.و قد تقدّم أنّها الخمر بعينها».أشار إلى قوله في باب الخمر:

«أبو عليّ عن السّكري:البتع:الخمر،يمانيّة.و قد بتعنا بتعا:خمرنا خمرا،البتّاع:الخمّار»انتهى.

فائدة لغويّة:

ذكرنا فيما سبق من التّفرقة بين الخمر و النّبيذ أنّ أهل بلاد الشّام يسمّون النّبيذ«نقوعا»و أنّ الصّواب أن يقال:نقيع،ثمّ رأيت في«المخصّص»نقلا عن صاحب«العين»:النّقوع و النّقيع-بفتح النّون فيهما- شيء ينقع فيه الزّبيب و غيره،ثمّ يصفّى ماؤه و يشرب.

الاستدراك الثّاني:

يحتجّ القائلون بكون الخمر المحرّمة بنصّ القرآن

هي ما كان من عصير العنب

بأنّه هو القطعيّ المجمع عليه،و غيره ظنّيّ مختلف فيه.

و هذه العبارة قد تذكر في كثير من كتب الفقه و شروح الحديث،مسلّمة من غير بحث.و فيها أنّ أوّل من قال بهذا القول من الكوفيّين لا حجّة له،فإنّ أهل الإجماع الّذين لا خلاف في إجماعهم هم الصّحابة

ص: 876

رضوان اللّه عليهم،و هم لم يختلفوا في تحريم ما كان عندهم من خمر البسر و التّمر و الحنطة و الشّعير و غيرها.و قد خطب عمر على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحضرة كبار علماء الصّحابة و جمهورهم،فقال:«أيّها النّاس...»فصرّح بأنّ الخمر كانت من هذه الخمسة عندهم،و أنّ مراد الشّرع تحريم ما كان من غيرها أيضا،و أنّ حقيقة الخمر ما خامر العقل،أي خالطه فأفسد عليه إدراكه و حكمه،و منه:الدّاء المخامر.

و من قال:خامره:غطّاه،فقد راعى أصل معنى خمر الشّيء،و المراد واحد.و الحديث متّفق عليه،و لم ينقل أنّ أحدا من الصّحابة أنكر على عمر قوله هذا، و لذلك قال من قال من أهل الحديث و الأصول:إنّ هذا القول له حكم الحديث المرفوع إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من حيث هو تفسير لحكم شرعيّ لا يقوله الصّحابيّ برأيه.

فإن قال قائل:إنّه يمكن أن يقوله باعتبار فهمه للقرآن و السّنّة.

قلنا:إذا كان هذا ما فهمه هذا الإمام في اللّغة و الدّين و وافقه عليه جمهور الصّحابة،و لم ينقل عن أحد أنّه خالفه فيه،فهل يمكن أن نجد لنصّ شرعيّ تفسيرا أصحّ و أقوى من تفسير يصرّح به أمير المؤمنين على منبر الرّسول،و يوافقه عليه علماء الصّحابة و عامّتهم؟و هل نقل عن الصّحابة إجماع مستند إلى دليله أقوى من هذا الإجماع؟فظهر بهذا أنّ كون كلّ شراب من شأنه الإسكار خمرا ثابت بالكتاب و السّنّة و إجماع الصّحابة المقرون بدليله و بالقياس.

فإن قيل:إنّ هذا من الإجماع السّكوتيّ المختلف فيه.

قلنا:إنّه ليس منه؛إذ السّكوتيّ عبارة عن قول لمجتهد ينتشر في مجتهدي عصره فلا ينقل عنهم موافقة له و لا إنكار،و إنّ إقرار جمهور الصّحابة لقول عمر في حكم الموافقة القوليّة،و قوله على المنبر:جدير بأن ينقل و يشيع،و أن يراجعه فيه البعيد إذا بلغه كالقريب،و لو راجعه أحد في ذلك لعاد إلى ذكر المسألة على المنبر،كما فعل عند ما أنكرت عليه المرأة ما كان أراده من الأمر بتحديد المهر.ثمّ إنّ إجماعهم العمليّ على ترك جميع المسكرات منذ نزلت الآية يؤيّد ذلك.و إذا لم يكن مثل هذا إجماعا،فلا سبيل إلى إثبات إجماع قولي قطّ.

فالحاصل أنّ أوّل من قال بهذا القول في الخمر لا حجّة له فيه،بل هو من جعل الدّليل عين المدلول، فإنّه هو المخالف وحده،فكيف تكون دعواه الخلاف حجّة لخلافه؟هذه مصادرة بديهيّة.

نعم يصحّ أن يقال:إنّ هذه شبهة عرضت لمن لم يبلغه النّقل عن الصّحابة،فهو معذور فيها إلى أن يبلغه النّقل،فمتى بلغه زالت الشّبهة بالحجّة.

و أمّا من جاء بعد المخالف الأوّل و بلغه خلافه، فشبهته أقوى عند أهل التّقليد،و هؤلاء ليسوا من أهل الحجّة و البصيرة في الدّين،فالكلام معهم لغو ما لم يحكّموا الدّليل و يرضوا بحكم قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ النّساء:

59،فإن رضوا به بيّنّا لهم ما صحّ من فهم الصّحابة

ص: 877

لقوله تعالى و عملهم به بغير خلاف،و ما صحّ من قول رسوله:«كلّ مسكر خمر»و لفظ المسكر اسم جنس.

تشديد السّنّة في شرب الخمر:
اشارة

روى البخاريّ و مسلم و أصحاب السّنن إلاّ التّرمذيّ من حديث ابن عمر أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«من شرب الخمر في الدّنيا ثمّ لم يتب منها حرّمها في الآخرة»زاد مسلم في رواية:«فلم يسقها».

قيل معناه:أنّه لا يدخل الجنّة فيشربها فيها،و قيل لا يشربها فيها و إن مات مؤمنا و دخلها،لأنّه استعجل شيئا فجوزي بحرمانه،قيل:إلاّ أن يعفو اللّه عنه.

و القول الأوّل لا يصحّ إلاّ بالحمل على المستحلّ لشربها،لأنّه رادّ للشّريعة غير مذعن لها.و رواية مسلم«فلم يسقها»ظاهرة في ردّه.

و روي هذا الحديث بلفظ:«كلّ مسكر خمر و كلّ مسكر حرام،و من شرب الخمر في الدّنيا فمات و هو يدمنها لم يتب،لم يشربها في الآخرة».و قد عزاه الحافظ المنذريّ إلى الشّيخين و أبي داود و التّرمذيّ و النّسائيّ و البيهقيّ-قال-و لفظه في إحدى رواياته.قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من شرب الخمر في الدّنيا و لم يتب لم يشربها في الآخرة و إن دخل الجنّة».

و هذا يردّ ذلك التّأويل أيضا،و لكنّه لم يمنع المنذريّ من حكايته كغيره.

و روى أحمد و البخاريّ و مسلم و أبو داود و التّرمذيّ و النّسائيّ عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«لا يزني الزّاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يسرق السّارق حين يسرق و هو مؤمن، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن».و في رواية البخاريّ تقديم الخمر على السّرقة.قيل:هذا في المستحلّ،و قيل:النّفي لكمال الإيمان،و قيل:هو خبر بمعنى النّهي.و قيل:إنّ الإيمان يفارق مرتكب أمثال هذه الكبائر مدّة ملابسته لها،و قد يعود إليه بعدها.

و حقّق الغزاليّ في كتاب التّوبة من«الإحياء»أنّ مرتكب ذلك لا يكون حال ارتكابه متّصفا بالإيمان الإذعانيّ بحرمة ذلك،و كونه من أسباب سخط اللّه و عقوبته،لأنّ هذا الإيمان يستلزم اجتناب العصيان.

و روى أحمد بإسناد صحيح و ابن حبّان في صحيحه و الحاكم-و قال:صحيح الإسناد-عن ابن عبّاس قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«أتاني جبرئيل فقال:يا محمّد إنّ اللّه لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و شاربها و المحمولة إليه و بائعها و مبتاعها و ساقيها و مسقاها».و روى أبو داود و ابن ماجه عن ابن عمر حديثا بمعناه-و ليس فيه ذكر جبرئيل.- و التّرمذيّ و ابن ماجه من حديث أنس:«لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الخمر عشرة:عاصرها و معتصرها و شاربها و حاملها و المحمولة إليه و ساقيها و بائعها و آكل ثمنها و المشتري لها و المشترى له».قال التّرمذيّ: حديث غريب.

حكمة تشديد الإسلام في الخمر دون الأديان
اشارة

السّابقة،و ردّ شبهة على تحريمها:

إذا قيل:إنّ دين اللّه في حقيقته و جوهره و الحكمة منه واحد لا خلاف فيه بين الرّسل المبلّغين له،و إنّما يختلف بعض الشّرائع في أمرين أصليّين:

ص: 878

أحدهما:ما يختلف باختلاف الزّمان و المكان، و أحوال الشّعوب و الأجيال.

و ثانيهما:ما اقتضته حكمة اللّه تعالى من سير أمور البشر كلّها على سنّة التّرقّيّ التّدريجيّ الّذي من مقتضاه أن يكون الآخر أكمل ممّا قبله،و بهذه السّنّة أكمل اللّه تعالى دينه العامّ بإنزال القرآن و عموم بعثة محمّد عليه الصّلاة و السّلام.و قد قلت:إنّ في الخمر من الضّرر الذّاتيّ ما كان سببا للقطع بتحريمها و ما ذكرت من التّشديد فيها،و هذا يقتضي أن تكون محرّمة على ألسنة جميع الأنبياء عليهم السّلام،و المنقول عن أهل الكتاب:أنّها لم تكن محرّمة عليهم،و أنّ الأنبياء أنفسهم كانوا يشربونها.فهذه شبهة على تحريم الخمر تحدّث بها المحبّون لها،و استدلّ بها بعضهم على حلّ ما دون القدر المسكر ممّا سوى خمرة العنب الّتي زعموا أنّ نصّ القرآن قاصر عليها تعبّدا،كما نقل ذلك صاحب«العقد الفريد»و أمثاله من الأدباء الّذين يعنون بتدوين أخبار الفسّاق و المجانّ و غيرهم.

و أنت ترى أنّ هذه الشّبهة أقوى من شبهة بعض الصّحابة الّتي تقدّمت،و لا يدفعها جوابك عنها،بل زعموا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم شرب من نبيذ مسكر و لكنّه مزجه و لم يسكر به.فما قولك في ذلك؟

فالجواب عن هذا من وجهين:

أحدهما:أنّ نقل أهل الكتاب ليس حجّة عندنا، و لم يثبت عندنا في كتاب و لا سنّة ما ذكروه.و إذا كان قد وجد في المسلمين من حاول إثبات حلّ شرب ما دون القدر المسكر من الخمور كلّها إلاّ ما اتّخذ من عصير العنب و هو أقلّها ضرّا و شرّا-مع نقل القرآن بالتّواتر،و حفظ السّنّة و سيرة أهل الصّدر الأوّل بضبط و إتقان لم يتّفق مثله لأمّة من الأمم في نقل دينها أو تاريخها-فهل يبعد أن يدّعي أهل الكتاب مثل هذه الدّعوى،و ينسبونها إلى أنبياءهم،و هم لا يقولون بعصمتهم؟

الوجه الثّاني:إنّنا إذا سلّمنا ما ينقلونه في العهدين القديم و الجديد من الأخبار الدّالّة على حلّ الخمر و عدم التّشديد إلاّ في السّكر،نقول:أوّلا:إنّ هذا التّحريم من إكمال الدّين بالإسلام،و قد مهّد الأنبياء له من قبل بتقبيح السّكر و ذمّه،و لم يشدّدوا في سدّ ذريعته بالنّهي عن القليل من الخمر لما كان من افتتان البشر بها و منافعهم منها،كما فعل الإسلام من أوّل عهده.

و ثانيا:أنّ اللّه تعالى ما أكمل دينه العامّ بالإسلام إلاّ و هو يعلم أنّ البشر سيدخلون في طور جديد تتضاعف فيه مفاسد السّكر،و أنّ مصلحتهم و خيرهم أن يتسلّح المؤمنون بأقوى السّلاح الأدبيّ لاتّقاء شرور ما يستحدث من أنواع الخمور الشّديدة الفتك بالأجساد و الأرواح،الّتي لم يكن يوجد منها شيء في عصور أولئك الأنبياء عليهم السّلام،و ما ذلك إلاّ سدّ ذريعة هذه المفسدة بتحريم قليل الخمر و كثيرها.و هاك بعض ما يؤثر في كتبهم في ذمّها:

جاء في نبوّة أشعيا عليه السّلام(5:11):«ويل للمبكّرين صباحا يتبعون المسكر للمتأخّرين في القمّة تلهبهم الخمر.(12):و صار العود و الرّباب و الدّفّ

ص: 879

و النّاي و الخمر و لائمهم،و إلى فعل الرّبّ لا ينظرون، و عمل يديه لا يرون.(13):لذلك سبي شعبي لعدم المعرفة،و تصير شرفاؤه رجال جوع،و عامّته يابسين من العطش.(14):لذلك وسعت الهاوية نفسها و فغرت فاها بلا حدّ.»يشير إلى ما استحقّوه بذنوبهم تلك من عذاب الدّنيا و الآخرة.

ثمّ قال(28:1):«ويل لإكليل فخر سكارى أفرايم و للزّهر الذّابل جمال بهائه الّذي على رأس وادي سمائن المضروبين بالخمر-إلى أن قال:-و لكن هؤلاء ضلّوا بالخمر و تاهوا بالمسكر،الكاهن و النّبيّ ترنّحا بالمسكر،ابتلعتهما الخمر،تاها من المسكر ضلاّ في الرّؤيا».

و اعلم أنّ النّبيّ عندهم لا يشترط فيه أن يكون موحى إليه.

و من شواهد العهد الجديد في ذلك قول بولس في رسالته إلى أهل أفسس(5:18):«و لا تسكروا بالخمر الّذي فيه الخلاعة»و نهيه عن مخالطة السّكّير (اكو 5:11)و جزمه بأنّ السّكّيرين لا يرثون ملكوت السّماوات(غلا 5:21 و 1 كو 6:9 و 10).

نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله لم يشرب الخمر:

أمّا نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن يشرب الخمر في الجاهليّة و لا الإسلام،كما صرّحوا به في سيرته،و لكنّه كان يشرب النّبيذ قبل تحريمها و بعده،فإذا اشتبه في وصوله إلى حدّ الإسكار لم يشرب منه كما تقدّم.و قد روى الحميديّ عن أبي هريرة:أنّ رجلا كان يهدي إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم راوية خمر فأهداها إليه عاما،و قد حرّمت، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّها قد حرّمت»فقال الرّجل:

أ فلا أبيعها؟فقال:«إنّ الّذي حرّم شربها حرّم بيعها» قال:أ فلا أكارم بها اليهود؟قال:«إنّ الّذي حرّم شربها حرّم أن يكارم بها اليهود».قال:فكيف أصنع؟ قال:«شنّها على البطحاء».و هذا الحديث لا شربه (1)لها،على أنّه يصحّ هكذا.و لكن له أصلا في صحيح مسلم و سنن النّسائيّ من حديث ابن عبّاس،قال:إنّ رجلا أهدى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم راوية خمر،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«هل علمت أنّ اللّه تعالى حرّمها؟»قال:لا.

فسارّ-أي الرّجل-إنسانا،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

«بم ساررته؟»قال:أمرته ببيعها،فقال:«إنّ الّذي حرّم شربها حرّم بيعها»قال:ففتح المزادة حتّى ذهب ما فيها.

و من العجيب أنّ صاحب«المنتقى»أورد حديث أبي هريرة و ترك حديث ابن عبّاس الصّحيح، و أنّ الشّوكانيّ لم يتكلّم على سنده.

و ما روي في المسند من شربه صلّى اللّه عليه و سلّم من نبيذ السّقاية بمكّة،و هو ما يشرب منه النّاس في الحرم و من كونه شمّه أوّلا-و قيل:ذاقه-فقطّب و أمر بأن يزاد فيه الماء، فهو إن صحّ لا يدلّ على كونه كان مسكرا،و لا على كون شربه منه كان نسخا لتحريم كلّ مسكر،كما زعم بعض المفتونين بالنّبيذ؛إذ لو كان الأمر كذلك لكانت الرّواية دالّة على أنّهم كانوا مصرّين على شرب المسكر و على إسقائه للحجّاج جهرا في الحرم.و هذا

ص: 880


1- كذا!!

زعم لم يقل به أحد،بل هو منقوض بالرّوايات المتّفق عليها،و بما تواتر من أنّهم تركوا بعد نزول آيات المائدة كلّ مسكر،و إنّما يفسّر ذلك ما قاله صلّى اللّه عليه و سلّم لوفد عبد القيس؛إذ أذن لهم بالانتباذ في الأسقية-أي قرب الجلد-قال:«فإن اشتدّ فاكسروه بالماء،فإن أعياكم فأهريقوه».

و في رواية ابن عبّاس أنّهم سألوه ما ذا يفعلون إذا اشتدّ في الأسقية؟فقال:«صبّوا عليه الماء.فسألوه، فقال لهم في الثّالثة أو الرّابعة:أهريقوه»الحديث،رواه أبو داود.و هو يفسّر لنا أمره بكسر ما في سقاية الحجّاج بالماء إذ شمّه،فعلم أنّه بدا فيه التّغيير و قرب أن يصير خمرا.و كما أنّه لم يصحّ شربه صلّى اللّه عليه و سلّم من النّبيذ المسكر،لم يصحّ أيضا ما رواه الدّار قطنيّ و ابن أبي شيبة من أنّ رجلا شرب من إداوة عمر فسكر فجلده، و قال:جلدناك للسّكر،أي لا لمجرّد الشّرب.

و يقول بعض النّصارى:إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم شرب الخمر مع بحيرا الرّاهب و بعض الصّحابة،و إنّ بعض من سكر من الصّحابة قتل الرّاهب بسيف النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان ذلك سبب تحريم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم للخمر.

و هذا قول مختلق لا أصل له البتّة،فلم يرو من طريق صحيح و لا ضعيف و لا موضوع.و بحيرا الرّاهب لم يجئ الحجاز.و إنّما روي أنّه رأى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مع عمّه أبي طالب و غيره من تجّار مكّة في بصرى بالشّام،و لمّا اختبر حاله علم أن سيكون هو النّبيّ الّذي بشّر به عيسى و الأنبياء عليهم السّلام،و أوصى به عمّه، و حذّره من اليهود أن يكيدوا له،و كانت سنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم اثنتي عشرة سنة.و لم يثبت أنّ بحيرا أدرك البعثة، و ليس النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم هو الّذي حرّم الخمر كما حرّم صيد المدينة و خلاها،بل كان ذلك بوحي تدريجيّ،كما تقدّم.[ثمّ ذكر اختلاف العلماء في التّداوي بالخمر...إلى أن استدرك في توضيح و تصحيح البحث في عدم شرب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم للخمر...ثمّ أدام البحث في عقوبة شاربي الخمر،فراجع](7:49-98)

سيّد قطب :[ذكر مقدّمة طويلة حول الخمر و الميسر في الجاهليّة ثمّ قال:]

و مع هذا فلم يكن تحريم الخمر و ما يتّصل بها من الميسر أمرا مفاجئا،فلقد سبقت هذا التّحريم القاطع مراحل و خطوات في علاج هذه التّقاليد الاجتماعيّة المتغلغلة،المتلبّسة بعادات النّفوس و مألوفاتها، و المتلبّسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصاديّة و ملابساتها.

لقد كانت هذه هي المرحلة الثّالثة أو الرّابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلاميّ:

كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتّجاه حين قال اللّه سبحانه في سورة النّحل المكّيّة:

وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً فكانت أوّل ما يطرق حسّ المسلم من وضع السّكر-و هو المخمّر-في مقابل الرّزق الحسن،فكأنّما هو شيء و الرّزق الحسن شيء آخر.

ثمّ كانت الثّانية بتحريك الوجدان الدّينيّ عن طريق المنطق التّشريعيّ في نفوس المسلمين،حين نزلت الّتي في سورة البقرة:219، يَسْئَلُونَكَ عَنِ

ص: 881

اَلْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و في هذا إيحاء بأنّ تركهما هو لأولى ما دام الإثم أكبر من النّفع،إذ أنّه قلّما يخلو شيء من نفع،و لكن حلّه أو حرمته إنّما ترتكز على غلبة الضّرّ أو النّفع.

ثمّ كانت الثّالثة بكسر عادة الشّرّاب،و إيقاع التّنافر بينها و بين فريضة الصّلاة،حين نزلت الّتي في النّساء:43، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ و الصّلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب،و لا يكفي ما بينها للسّكر ثمّ الإفاقة.و في هذا تضييق لفرص المزاولة العمليّة لعادة الشّرّاب،و خاصّة عادة الصّبوح في الصّباح و الغبوق بعد العصر أو المغرب-كما كانت عادة الجاهليّين-و فيه كسر لعادة الإدمان الّتي تتعلّق بمواعيد التّعاطي.و فيه-و هو أمر له وزنه في نفس المسلم-ذلك التّناقض بين الوفاء بفريضة الصّلاة في مواعيدها و الوفاء بعادة الشّرّاب في مواعيدها.

ثمّ كانت هذه الرّابعة الحاسمة و الأخيرة،و قد تهيّأت النّفوس لها تهيّؤا كاملا،فلم يكن إلاّ النّهي حتّى تتبعه الطّاعة الفوريّة و الإذعان.[ثمّ ذكر رواية عمر:اللّهمّ بيّن لنا في الخمر...و قال:]

و لمّا نزلت آيات التّحريم هذه،في سنة ثلاث بعد وقعة أحد،لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة:«ألا أيّها القوم إنّ الخمر قد حرّمت»فمن كان في يده كأس حطّمها،و من كان في فمه جرعة مجّها،و شقّت زقاق الخمر و كسرت قنانيه،و انتهى الأمر كأن لم يكن سكر و لا خمر![إلى أن قال:]

و لعلّه يحسن هنا أن نبيّن ما هي الخمر الّتي نزل فيها هذا النّهي:

أخرج أبو داود بسنده عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:«كلّ مخمّر خمر،و كلّ مسكر حرام».[ثمّ ذكر خطبة عمر نقلا عن القرطبيّ و قال:]

فدلّ هذا و ذلك على أنّ الخمر تشمل كلّ مخمّر يحدث السّكر و أنّه ليس مقصورا على نوع بعينه، و أنّ كلّ ما أسكر فهو حرام.

إنّ غيبوبة السّكر-بأيّ مسكر-تنافي اليقظة الدّائمة الّتي يفرضها الإسلام على قلب المسلم،ليكون موصولا باللّه في كلّ لحظة،مراقبا للّه في كلّ خطرة.ثمّ ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيّا في نماء الحياة و تجدّدها،و في صيانتها من الضّعف و الفساد،و في حماية نفسه و ماله و عرضه،و حماية أمن الجماعة المسلمة و شريعتها و نظامها من كلّ اعتداء.و الفرد المسلم ليس متروكا لذاته و للذّاته،فعليه في كلّ لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدّائمة:تكاليف لربّه، و تكاليف لنفسه،و تكاليف لأهله،و تكاليف للجماعة المسلمة الّتي يعيش فيها،و تكاليف للإنسانيّة كلّها،ليدعوها و يهديها،و هو مطالب باليقظة الدّائمة لينهض بهذه التّكاليف و حتّى حين يستمتع بالطّيّبات،فإنّ الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع،فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذّة.إنّما يسيطر دائما على رغباته فيلبّيها تلبية المالك لأمره، و غيبوبة السّكر لا تتّفق في شيء مع هذا الاتّجاه.

ص: 882

ثمّ إنّ هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلاّ هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات،و جنوح إلى التّصورات الّتي تثيرها النّشوة أو الخمار.و الإسلام ينكر على الإنسان هذا الطّريق،و يريد من النّاس أن يروا الحقائق،و أن يواجهوها،و يعيشوا فيها، و يصرفوا حياتهم وفقها،و لا يقيموا هذه الحياة على تصوّرات و أوهام إنّ مواجهة الحقائق هي محكّ العزيمة و الإرادة.

أمّا الهروب منها إلى تصوّرات و أوهام فهو طريق التّحلّل،و وهن العزيمة،و تذاؤب الإرادة.و الإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة،و إطلاقها من قيود العادة القاهرة«الإدمان»و هذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النّظر الإسلاميّة لتحريم الخمر و تحريم سائر المخدّرات،و هي رجس من عمل الشّيطان،مفسد لحياة الإنسان.

و قد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقيّة النّجاسات الحسّيّة،أو في اعتبار شربها هو المحرّم.و الأوّل قول الجمهور و الثّاني قول ربيعة و اللّيث بن سعد و المزنيّ صاحب الشّافعيّ و بعض المتأخّرين من البغداديّين.و حسبنا هذا القدر في سياق الظّلال.(2:973)

عزّة دروزة :[ذكر بعض روايات أسباب النّزول و قال:]

و يلحظ أنّ الرّوايات مقتصرة على الخمر و الميسر بل إنّ أقواها سندا و أشهرها مقتصرة على الخمر،في حين أنّ الآية احتوت نهيا عن الأنصاب و الأزلام أيضا.

و لقد قال الطّبريّ حينما أورد الآية الأولى:إنّ هذا بيان من اللّه تعالى للّذين حرّموا على أنفسهم طيّبات ما أحلّ اللّه لهم تشبّها بالقسّيسين و الرّهبان، بما هو الأولى و الأوجب عليهم أن يحرّموه.

و القول وجيه و يربط بين هذه الآيات و الآيات السّابقة،مع التّنبيه إلى أنّ حكمة التّنزيل اقتضت توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين،كما هو الشّأن في الآيات السّابقة جريا على النّظم القرآنيّ في المناسبات المماثلة.

و لعلّ وضع الآيات بعد تلك مباشرة ممّا يقوّي هذا التّوجيه،و يسوغ القول باحتمال نزولها بعدها.

و هذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث و الرّوايات الأخرى كلّه أو بعضه،فاقتضت حكمة التّنزيل جمع الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام معا في النّهي و البيان.

و لقد تضمّنت آية سورة البقرة المارّ ذكرها تنبيها إلى أنّ إثم الخمر و الميسر أكبر من نفعهما،و تضمّنت آية سورة النّساء المارّ ذكرها نهيا عن الصّلاة في حالة السّكر.فجاءت هذه الآيات أقوى من المرّتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر و الميسر؛حيث يصحّ القول بأنّ حالة العهد المدنيّ صارت تتحمّل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضّارّة الّتي كان لها رسوخ شديد بين العرب،و متّصلة بمصالحهم الاقتصاديّة في الوقت نفسه،و الّتي اكتفى بسبب ذلك بالخطوات التّمهيديّة في صددها،في آيتي البقرة

ص: 883

و النّساء.

و لقد قال بعض المتمحّلين:إنّ أسلوب الآيات أسلوب تحذير و كراهية أكثر منه أسلوب تشريع و تحريم حاسم.و حاولوا تأييد تمحّلهم بالقول بأنّ حدّ شارب الخمر ليس قرآنيّا،و إنّما هو سنّة نبويّة و راشديّة متموّجة المقدار،و ليس من حدّ على لاعب الميسر.و هذا و ذاك لا يقومان على أساس صحيح،لا من حيث أسلوب الآيات،و لا من حيث مضمونها.بل و من الحقّ أن يقال:إنّ أسلوبها و مضمونها احتويا قوّة في التّحريم،و يكفي أن يكون الخمر و الميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذّكر،للتّدليل على ذلك.فإنّه لن يسع أحدا أن يقول مثلا:إنّ النّهي عن الأنصاب الّتي كان يقيم المشركون طقوسهم الدّينيّة و يقرّبون قرابينهم عندها هو من قبيل التّحذير و الكراهية، و ليس من قبيل التّحريم الزّاجر.يضاف إلى هذا ما أثر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الّذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم و الانتهاء عمّا نهاهم،-كما أنّه من اللّه-من أحاديث عديدة في تحريم كلّ مسكر،و في اعتبار كلّ مسكر خمرا،و في لعن شاربها و بائعها و حاملها و إنذار شاربها و مستحلّيها،و مسمّى بعضها بأسماء أخرى بالنّذر القاصمة.[ثمّ نقل الأحاديث و قال:]

أمّا كون القرآن لم يضع حدّا على شارب الخمر و لاعب الميسر،فالمتبادر أنّ ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيّين لا يتعلّق بهما حقّ الغير.فالحدود القرآنيّة إنّما تفسّر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسّر به أيضا.و يلحظ أنّ القرآن لم يعيّن حدّا على تارك الصّلاة و الصّوم و الحجّ و الزّكاة،و هي أركان الإسلام ممّا يمكن أن يفسّر بمثل ذلك.

و القول بعدم حرمة المسكر و الميسر كفر لا ريب فيه،بإجماع علماء المسلمين في كلّ زمن و مكان، استنادا إلى هذه الآيات و روحها،و الأحاديث النّبويّة العديدة.و إذا كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر،فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل و كرامة،و احتمال إقدام الشّارب على أفعال ضارّة به و بغيره،كما هو المتبادر.

و يلحظ أنّ المأثور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من ذلك يجعل السّنّة النّبويّة من باب التّعزير و التّأديب.[ثمّ نقل بعض الرّوايات إلى أن قال:]

و قد استلهم أصحاب رسول اللّه سنّته من بعده، فروى البخاريّ و مسلم و أبو داود و التّرمذيّ عن أنس:أنّ أبا بكر جلد في الخمر بالجريد و النّعال أربعين،فلمّا كان عمر و دنا النّاس من الرّيف و القرى،قال:ما ترون في جلد الخمر؟فقال عبد الرّحمن بن عوف:أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود فجلد ثمانين.[ثمّ ذكر حديث خطبة عمر نقلا عن ابنه و قال:]

و الجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث الّتي أوردناها قبل تزيل الوهم بحلّ ما يمكن أن يصنع من غير الموادّ المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر.(11:181)

ابن عاشور :استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الّذي قبله،لينظم مضمونه في السّلك

ص: 884

الّذي انتظم فيه مضمون الخطاب السّابق،و هو قوله:

وَ لا تَعْتَدُوا المائدة:87،المشير إلى أنّ اللّه،كما نهى عن تحريم المباح،نهى عن استحلال الحرام،و أنّ اللّه لمّا أحلّ الطّيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد.

فإنّ الخمر كان طيّبا عند النّاس،و قد قال اللّه تعالى:

وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً النّحل:67،و الميسر كان وسيلة لإطعام اللّحم من لا يقدرون عليه.فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يساء تأويله من قوله:

لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ الأنعام:87.

و قد تقدّم في سورة البقرة أنّ المعوّل عليه من أقوال علمائنا أنّ النّهي عن الخمر وقع مدرّجا ثلاث مرّات:الأولى حين نزلت آية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ... البقرة:219،و ذلك يتضمّن نهيا غير جازم،فترك شرب الخمر ناس كانوا أشدّ تقوى،فقال عمر:اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا.ثمّ نزلت آية سورة النّساء:43: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ، فتجنّب المسلمون شربها في الأوقات الّتي يظنّ بقاء السّكر منها إلى وقت الصّلاة؛فقال عمر:اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا.ثمّ نزلت الآية هذه.فقال عمر:

انتهينا.

و المشهور أنّ الخمر حرّمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد،فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود و وضعت بعد ذلك في موضعها هنا.

و روي أنّ هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرت بين سعد بن أبي وقّاص و رجل من الأنصار.روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال:أتيت على نفر من الأنصار،فقالوا:تعال نطعمك و نسقك خمرا؛و ذلك قبل أن تحرّم الخمر فأتيتهم في حشّ،و إذا رأس جزور مشويّ و زقّ من خمر،فأكلت و شربت معهم، فذكرت الأنصار و المهاجرين عندهم،فقلت:

المهاجرون خير من الأنصار،فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضربني به فجرح بأنفي،فأتيت رسول اللّه فأخبرته،فأنزل اللّه تعالى فيّ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ....

و روى أبو داود عن ابن عبّاس قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى النّساء:

43،و يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ البقرة:219،نسختهما في المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ....

فلا جرم كان هذا التّحريم بمحلّ العناية من الشّارع،متقدّما للأمّة في إيضاح أسبابه رفقا بهم و استئناسا لأنفسهم،فابتدأهم بآية سورة البقرة، و لم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك،بل أنبأهم بعذرهم في قوله: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ البقرة:219،ثمّ بآية سورة النّساء،ثمّ كرّ عليها بالتّحريم بآية سورة المائدة،فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشّيطان،و رجالهم الفلاح في اجتنابهما بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، و أثار ما في الطّباع من بغض الشّيطان بقوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ، ثمّ قال:

ص: 885

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:91،فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيّن له المتكلّم حقيقة شيء،ثمّ اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه.

و صيغة هل أنت فاعل كذا،تستعمل للحثّ على فعل في مقام الاستبطاء،نبّه عليه في«الكشّاف»عند قوله تعالى: وَ قِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ الشّعراء:39،قال:و منه قول تأبّط شرّا:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق

دينار اسم رجل،و كذا عبد ربّ.و قوله:أخا عون أو عوف نداء،أي يا أخا عون فتحريم الخمر متقرّر قبل نزول هذه السّورة،فإنّ وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكّة في سنة ثمان،فكان ممّا أوصاهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن لا ينتبذوا في الحنتم و النّقير و المزفّت و الدّبّاء،لأنّها يسرع الاختمار إلى نبيذها.[إلى أن قال:]

و المراد بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها،كلّ بما يتعاطى به من شرب و لعب و ذبح و استقسام.و القصر المستفاد من(انّما)قصر موصوف على صفة،أي أنّ هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتّصاف بالرّجس لا تتجاوزه إلى غيره،و هو ادّعائيّ للمبالغة في عدم الاعتداد،بما عدا صفة الرّجس من صفات هذه الأربعة.أ لا ترى أنّ اللّه قال في الخمر و الميسر: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ البقرة:219،فأثبت لهما الإثم،و هو صفة تساوي الرّجس في نظر الشّريعة،لأنّ الإثم يقتضي التّباعد عن التّلبّس بهما مثل الرّجس.و أثبت لهما المنفعة،و هي صفة تساوي نقيض الرّجس،في نظر الشّريعة،لأنّ المنفعة تستلزم حرص النّاس على تعاطيهما،فصحّ أنّ للخمر و الميسر صفتين.

و قد قصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصّفتين أعني الرّجس،فما هو إلاّ قصر ادّعائيّ يشير إلى ما في سورة البقرة:219،من قوله:

وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، فإنّه لمّا نبّهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة،فقد نبّهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قبالة ما فيهما من الإثم،حتّى كأنّهما تمحّضا للاتّصاف ب فِيهِما إِثْمٌ، فصحّ في سورة المائدة أن يقال في حقّهما ما يفيد انحصارهما في أنّهما فيهما إثم،أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظّرفيّة كالانحصار الّذي في قوله:

إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلى رَبِّي الشّعراء:113،أي حسابهم مقصور على الاتّصاف بكونه على ربّي،أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف.و ذلك هو ما عبّر عنه بعبارة«الرّجس».[إلى أن بحث في نجاسة عين الخمر ثمّ قال:]

و أقول:الّذي يقتضيه النّظر أنّ الخمر ليست نجس العين،و أنّ مساق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها،إنّما القصد أنّها رجس معنويّ،و لذلك وصفه بأنّه من عمل الشّيطان،و بيّنه بعد بقوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ، و لأنّ النّجاسة تعتمد الخباثة و القذارة و ليست الخمر كذلك،و إنّما تنزّه السّلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النّفوس...

ص: 886

و قوله: فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ... أي في تعاطيهما على متعارف إضافة الأحكام إلى الذّوات،أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات و الإقدام على الجرائم،و ما يقع في الميسر من التّحاسد على القامر،و الغيظ و الحسرة للخاسر،و ما ينشأ عن ذلك من التّشاتم و السّباب و الضّرب.على أنّ مجرّد حدوث العداوة و البغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة،لأنّ اللّه أراد أن يكون المؤمنون إخوة؛إذ لا يستقيم أمر أمّة بين أفرادها البغضاء.و في الحديث:

«لا تباغضوا و لا تحاسدوا و كونوا عباد اللّه إخوانا».

و(فى)من قوله: فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ...

للسّببيّة أو الظّرفيّة المجازيّة،أي في مجالس تعاطيهما.

و أمّا الصّدّ عن ذكر اللّه و عن الصّلاة فلما في الخمر من غيبوبة العقل،و ما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الرّبح.

و هذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التّحريم، فلا جرم أن كان اجتماعها مقتضيا تغليظ التّحريم.

و يلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة و البغضاء و الصّدّ عن ذكر اللّه و عن الصّلاة.(5:195)

الطّباطبائيّ: الآيات[المائدة:90-93]متلائمة سياقا فكأنّها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولا،و الآية الأخيرة (1)بمنزلة دفع الدّخل على ما سنبيّنه تفصيلا، فهي جميعا تتعرّض لحال الخمر،و بعضها يضيف إليها الميسر و الأنصاب و الأزلام.

و قد تقدّم في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ... البقرة:219،في الجزء الأوّل،و في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى.. النّساء:43،في الجزء الرّابع من هذا الكتاب،أنّ هاتين الآيتين مع قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ... الأعراف:33،و هذه الآية المبحوث عنها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. إلى قوله:

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:91،إذا انضمّ بعضها إلى بعض دلّت سياقاتها المختلفة على تدرّج الشّارع في تحريم الخمر.لكن لا بمعنى السّلوك التّدريجيّ في تحريمها،من تنزيه و إعافة إلى كراهية إلى تحريم صريح حتّى ينتج معنى النّسخ،أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفيّة،إلى تصريح لمصلحة السّياسة الدّينيّة في إجراء الأحكام الشّرعيّة،فإنّ قوله تعالى: وَ الْإِثْمَ آية مكّيّة في سورة الأعراف إذا انضمّ إلى قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ و هي آية مدنيّة واقعة في سورة البقرة-أوّل سورة مفصّلة نزلت بعد الهجرة-أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجا صريحا لا يدع عذرا لمعتذر،و لا مجالا لمتأوّل.

بل بمعنى أنّ الآيات تدرّجت في النّهي عنها بالتّحريم على وجه عامّ،و ذلك قوله تعالى:

وَ الْإِثْمَ ثمّ بالتّحريم الخاصّ في صورة النّصيحة، و ذلك قوله: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما البقرة:219،و قوله:ُ.

ص: 887


1- و هي: وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.

لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النّوم،ثمّ بالتّحريم الخاصّ بالتّشديد البالغ الّذي يدلّ عليه قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ المائدة:90،91.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر،يدلّ على ذلك أقسام التّأكيد المودعة فيها من(انّما) و التّسمية بالرّجس،و نسبته إلى عمل الشّيطان، و الأمر الصّريح بالاجتناب،و توقّع الفلاح فيه،و بيان المفاسد الّتي تترتّب على شربها،و الاستفهام عن الانتهاء،ثمّ الأمر بإطاعة اللّه و رسوله،و التّحذير عن المخالفة،و الاستغناء عنهم لو خالفوا.و يدلّ على ذلك بعض الدّلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الآيات:

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ...

المائدة:3،بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ إلى آخر الآية،قد تقدّم الكلام في أوّل السّورة في معنى الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام، فالخمر ما يخمر العقل من كلّ مائع مسكر عمل بالتّخمير.[إلى أن قال:]

و قد تقدّم في أوّل الكلام أنّ الآيات تشتمل على فنون من التّأكيد في تحريم هذه الأمور،و هي الابتداء بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ثمّ الإتيان بكلمة الحصر،ثمّ التّوصيف بالرّجس،ثمّ نسبتها إلى عمل الشّيطان،ثمّ الأمر بالاجتناب صريحا،ثمّ رجاء الفلاح في الاجتناب،ثمّ ذكر مفاسدها العامّة من العداوة و البغضاء و الصّرف عن ذكر اللّه و عن الصّلاة،ثمّ التّوبيخ على عدم انتهائهم،ثمّ الأمر بطاعة اللّه و رسوله،و التّحذير عن المخالفة،ثمّ التّهديد على تقدير التّولّي بعد البلاغ المبين.(6:116)

عبد الكريم الخطيب :الخمر ما خامر العقل و ستره،كما يستر الخمار وجه المرأة.فكلّ ما ستر العقل و حجب عنه الرّؤية الصّحيحة الّتي يرى بها الأشياء،و يتصوّر حقائقها،هو خمر،سواء أ كان شرابا أو طعاما.[إلى أن بحث في الخمر،مادّتها،و صفتها، و حكم شاربها بتفصيل،فراجع](4:18-32)

مكارم الشّيرازيّ: [نقل روايات أسباب النّزول و قال:]

مراحل تحريم الخمر و حكمها النّهائيّ:

سبق أن ذكرنا في المجلّد الثّالث من هذا التّفسير في ذيل الآية:43،من سورة النّساء:أنّ معاقرة الخمر في الجاهليّة و قبيل الإسلام كانت منتشرة انتشارا أشبه بالوباء العامّ،حتّى قيل:إنّ حبّ عرب الجاهليّة كان مقصورا على ثلاثة:الشّعر و الخمر و الغزو.

و يستفاد من بعض الرّوايات،أنّه حتّى بعد تحريم الخمر فإنّ الإقلاع عنها كان شاقّا على بعض المسلمين،حتّى قالوا:ما حرّم علينا شيء أشدّ من الخمر!

من الواضح أنّ الإسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشّامل بغير أن يأخذ الأوضاع النّفسيّة و الاجتماعيّة بنظر الاعتبار،لتعذّر الأمر،و شقّ

ص: 888

تطبيق التّحريم،لذلك اتّخذ أسلوب التّحريم التّدريجيّ و إعداد الأفكار و الأذهان لاقتلاع هذه الآفة من جذورها،و هي العادة الّتي كانت قد تأصّلت في نفوسهم و عروقهم.ففي أوّل الأمر وردت إشارات في الآيات المكّيّة تستقبح شرب الخمر،كما في: مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ،لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ النّحل:67، فهنا«سكر»و تعني الشّراب المسكر الّذي كانوا يستخرجونه من التّمر و العنب،قد وضع في قبال الرّزق الحسن،فاعتبره شرابا غير طيّب بخلاف الرّزق الحسن،إلاّ أنّ تلك العادة الخبيث-عادة معاقرة الخمرة-كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإشارات ثمّ إنّ الخمر كانت تؤلّف جانبا من دخلهم الاقتصاديّ لذلك عند ما هاجر المسلمون إلى المدينة و أسّسوا أولى الحكومات الإسلاميّة،نزلت آية ثانية أشدّ في تحريم الخمر من الأولى،لكي تهيّئ الأذهان أكثر إلى التّحريم النّهائيّ،تلك هي الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ البقرة:219،فهاهنا إشارة إلى منافع الخمر الاقتصاديّة لبعض المجتمعات،كالمجتمع الجاهليّ، مصحوبة بإشارة إلى أخطارها الكبيرة،و مضارّها الّتي تفوق كثيرا منافعها الاقتصاديّة.

ثمّ في الآية 43،من سورة النّساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى... يأمر اللّه المسلمين أمرا صريحا بأن لا يقيموا الصّلاة و هم سكارى حتّى يدركوا ما يقولونه أمام اللّه.

واضح أنّ هذا لم يكن يعني أنّ شرب الخمر في غير الصّلاة جائز،بل هي مسألة التّدرّج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة،أي أنّ هذه الآية كأنّها تلتزم الصّمت و لا تقول شيئا صراحة في غير مواقع الصّلاة.

إنّ تقدّم المسلمين في التّعرّف على أحكام الإسلام و استعدادهم الفكريّ لاستئصال هذه المفسدة الاجتماعيّة الكبيرة الّتي كانت متعمّقة في نفوسهم، أصبحا سببا في نزول آية صريحة تماما في تحريم الخمر حتّى سدّت الطّريق أمام الّذين كانوا يتصيّدون الأعذار و المسوّغات،و هذه الآية هي موضوع البحث.

و إنّه لممّا يستلفت النّظر أنّ تحريم الخمرة يعبّر عنه في هذه الآية بصورة متنوّعة:

1-فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي إنّ عدم الصّدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإيمان.

2-استعمال(انّما)الّتي تعني الحصر و التّوكيد.

3-وضعت الخمر و القمار إلى جانب الأنصاب، و هي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتّخذ كالأصنام، للدّلالة على أنّ الخمر و القمار لا يقلاّن ضررا عن عبادة الأصنام،و لهذا جاء في حديث شريف أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:«شارب الخمر كعابد الوثن».

4-الخمر و القمار و عبادة الأصنام،و الاستقسام و الأزلام ضرب من اليانصيب،كلّها قد اعتبرها القرآن رجسا و خبثا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ....

5-و هذه الأعمال القبيحة كلّها من أعمال

ص: 889

الشّيطان مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.

6-و أخيرا يصدر الأمر القاطع الواجب الاتّباع:

(فاجتنبوه.)

لا بدّ من التّنويه بأنّ لتعبير(فاجتنبوه)مفهوما أبعد،إذ أنّ الاجتناب يعني الابتعاد و الانفصال و عدم الاقتراب،ممّا يكون أشدّ و أقطع من مجرّد النّهي عن شرب الخمر.

7-و في الختام يقول تعالى:إنّ ذلك(لعلكم تفلحون)أي لا فلاح لكم بغير ذلك.

8-و في الآية التّالية لها يعدّد بعضا من أضرار الخمر و القمار،الّتي يريد الشّيطان أن يوقعها بهم:

إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ....

9-و في ختام هذه الآية يتقدّم باستفهام تقريريّ:

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.

أي بعد كلّ هذا التّوكيد و التّوضيح،ثمّة مكان لخلق المبرّرات أو للشّكّ و التّردّد في تجنّب هذين الإثمين الكبيرين،لذلك نجد أنّ عمر الّذي كان شديد الولع بالخمر-كما يقول مفسّروا أهل السّنّة-و الّذي كان لهذا السّبب لا يرى في الآيات السّابقة ما يكفي لمنعه،قال عند ما سمع هذه الآية:انتهينا،انتهينا!لأنّه رأى فيها الكفاية.

10-في الآية الثّالثة الّتي تؤكّد هذا الحكم،يأمر المسلمين: وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا ثمّ يتوعّد المخالفين بالعقاب،و أنّ مهمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هي الإبلاغ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.

الآثار المهلكة للخمر و الميسر:

على الرّغم من أنّنا أشرنا في تفسير الآية:219، من سورة البقرة-في المجلّد الثّاني من هذا التّفسير- إشارة موجزة أضرار هاتين الآفتين الاجتماعيّتين، إلاّ أنّنا لتوكيد الأمر-اقتداء بالقرآن الكريم-نضيف هنا أمورا أخرى،هي مجموعة من الإحصاءات المختلفة،كلّ واحدة منها تعتبر شهادة وافية،تدلّ على عظم تلك الأضرار،و عمق تأثيرها.

1-في إحصائيّة صدرت في بريطانيا بشأن الجنون الكحوليّ و مقارنته بالجنون العاديّ،جاء أنّه في مقابل(2249)مجنونا بسبب الإدمان على الخمر هناك(53)مجنونا لأسباب مختلفة أخرى (1).

2-و في إحصاء آخر من أمريكا أنّ 85./.من المصابين بأمراض نفسيّة هم من المدمنين على الخمر (2).

3-يقول عالم إنجليزيّ اسمه«بنتام»:أنّ المشروبات الكحوليّة تحوّل أهالي الشّمال إلى أناس حمقى و بله،و أهالي الجنوب إلى مجانين،ثمّ يضيف:

إنّ الدين الإسلاميّ يحرّم جميع أنواع المسكرات، و هذا واحد من مميّزات الإسلام (1).

4-لو أجري إحصاء عن السّكارى الّذين انتحروا،أو ارتكبوا الجرائم و حطموا العوائل،لكان

ص: 890


1- تفسير طنطاوي 1:194.

لدينا رقم رهيب (1).

5-في فرنسا يذهب كلّ يوم 440 شخصا ضحيّة للخمور. (2)

6-تقول إحصائيّة أخرى من أمريكا:أنّ عدد المرضى النّفسانيّين خلال سنة واحدة بلغ ضعف قتلاها في الحرب العالميّة الثّانية،و يرى العلماء الأمريكان أنّ السّببين الرّئيسيّين لهذا هما المشروبات الكحوليّة و التّدخين (3).

7-جاء في إحصائيّة وضعها عالم يدعى«هوگر» نشرها في مجلّة«العلوم»بمناسبة عيد تأسيسها العشرين،قال فيها:إنّ 0/060 من القتل المتعمّد،0/075 من الضّرب و الجرح و 0/030 من الجرائم الأخلاقيّة «بما فيها الزّنى بالمحارم!»و 0/020 من جرائم السّرقة، سببها المشروبات الكحوليّة،و عن هذا العالم نفسه أنّ 0/040 من الأطفال المجرمين قد ورثوا آثار الكحول (4).

8-إنّ الخسائر الّتي تصيب الاقتصاد البريطانيّ من جرّاء تغيّب العمّال عن العمل بسبب إدمانهم على الخمر،تبلغ سنويّا نحو 50 مليون دولار،و هو مبلغ يكفي لإنشاء الآلاف من رياض الأطفال و المدارس الابتدائيّة و الثّانويّة.

9-الإحصاءات الّتي نشرت عن خسائر الإدمان على الكحول في فرنسا تقول:إنّ الخزينة الفرنسيّة تتحمّل سنويّا مبلغ«137»مليارد فرنك،إضافة إلى الأضرار الأخرى كما يلي:

60 مليار فرنك للصّرف على المحاكم و السّجون.

40 مليار فرنك للصّرف على الإعانات العامّة و المؤسّسات الخيريّة.

10 مليارات من الفرنكات للصّرف على المستشفيات الخاصّة لمعالجة المدمنين على المسكرات.

70 مليار فرنك للصّرف على الأمن الاجتماعيّ.

و هكذا يتّضح أنّ عدد المرضى النّفسانيّين و مصحّات الأمراض العقليّة و جرائم القتل و المخاصمات الدمويّة و السّرقة و الاغتصاب و حوادث المرور،تتناسب تناسبا طرديّا مع عدد حانات الخمور.

10-أثبتت الدّوائر الإحصائيّة في أمريكا أنّ القمار كان السّبب المباشر في 0/030 من الجرائم،و في إحصائيّة أخرى عن جرائم القمار نرى-و للأسف الشّديد-أنّ 0/090 من جرائم السّرقة و 0/050 من الجرائم الجنسيّة و 0/010 من فساد الأخلاق و 0/030 من الطّلاق و 0/040 من الضّرب و الجرح و 0/05 من حوادث الانتحار إنّما هي بسبب القمار (5).

(4:131)

فضل اللّه :[نقل الرّوايات الّتي وردت في أسباب6.

ص: 891


1- دائرة المعارف فريد وجدي.ج 3،ص 790.
2- الآفات الاجتماعيّة في قرننا.ص 25.
3- مجموعة منشورات الجيل الجديد.
4- ندوة الكحول.ص 66.
5- ندوة الكحول ص:66.

النّزول و ناقش بعضها،ثمّ قال:]

هل هناك تدرّج في تحريم الخمر؟

هذا و أخرج أحمد عن أبي هريرة قال:«حرّمت الخمر ثلاث مرّات:قدم رسول اللّه،و هم يشربون الخمر و يأكلون الميسر،فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهما، فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ البقرة:219،فقال النّاس:ما حرّم علينا،إنّما قال:

إِثْمٌ كَبِيرٌ، و كانوا يشربون الخمر حتّى كان يوم من الأيّام صلّى رجل من المهاجرين أمّ أصحابه في المغرب،خلط في قراءته،فأنزل اللّه أغلظ منها:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،و كان النّاس يشربون حتّى يأتي أحدهم الصّلاة و هو مغتبق،ثمّ نزلت آية أغلظ من ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ... إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا:انتهينا ربّنا،فقال النّاس:يا رسول اللّه،ناس قتلوا في سبيل اللّه و ماتوا على فرشهم،كانوا يشربون الخمر و يأكلون الميسر،و قد جعله اللّه رجسا من عمل الشّيطان؟فأنزل اللّه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ..، المائدة:93.

و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«لو حرّم عليهم لتركوه كما تركتم».

وقفة مع الرّواية:

و نلاحظ على هذه الرّواية أنّها تمثّل اجتهادا من الرّاوي،لأنّ الآية الأولى أكثر غلظة و شدّة من الآية الثّانية،لأنّ الأولى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ تتضمّن التّأكيد على الإثم الكبير الّذي هو أكبر من النّفع الّذي يقصده النّاس منهما،ممّا يوحي إليهم بأنّ ذلك يفرض التّرك له،كما هي سيرة العقلاء و حكم العقل في الامتناع عن كلّ ما كان ضرره أكثر من نفعه، بينما الآية الثّانية لا تتضمّن رفض الخمر و إبعاد النّاس عنه،بل تؤكّد على علاقة السّكر بالصّلاة و ضرورة اجتنابه في حال الصّلاة.

و هناك ملاحظة أخرى،و هي أنّ الرّوايات الواردة في مناسبة نزول هذه الآية،تحدّثت عن الخمر و عن مناسبة تحريمها،في الوقت الّذي نجد فيه الآية تتحدّث عن الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام،ما قد يوحي بأنّها نزلت من خلال إيجاد قاعدة تشريعيّة لهذه العادات الجاهليّة،على أساس النّتائج السّلبيّة فيها،فلا تتناسب مع اختصاص الخمر بمناسبة النّزول.

و اللّه العالم.

الخمر محرّمة في كلّ الشّرائع:

هذا و قد جاء في حديث أهل البيت عليهم السّلام أنّ اللّه سبحانه حرّم الخمر في كلّ الشّرائع:

فقد جاء في الكافي و التّهذيب بإسنادهما عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه السّلام قال:«ما بعث اللّه نبيّا قطّ إلاّ و في علم اللّه أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، و لم تزل الخمر حراما،و إنّما ينقلون من خصلة إلى خصلة،و لو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين».و قال أبو جعفر عليه السّلام:«ليس أحد أرفق من اللّه عزّ و جلّ،فمن رفقه تبارك و تعالى أنّه نقلهم من خصلة

ص: 892

إلى خصلة،و لو حمل عليهم جملة لهلكوا»[إلى أن قال:]

أسلوب القرآن الخاصّ في معالجة العادات المضرّة:

للقرآن أساليبه المتنوّعة في إبعاد النّاس عن بعض العادات المضرّة الّتي تحوّلت إلى ما يشبه الإدمان، فيذكرها أكثر من مرّة،و لكنّه يتّبع في ذلك أسلوب الإجمال و التّفصيل من جهة،و طريقة التّدرّج في توضيح الصّورة الحقيقيّة من جهة أخرى.و من هذه العادات:شرب الخمر،و لعب القمار:الميسر، و الأنصاب،و هي الأصنام الّتي كان النّاس ينصبونها لذبح القرابين عليها و يتبرّكون بها،و الأزلام و هي القداح الّتي كانوا يستقسمون بها،و قد تطلق على السّهام الّتي كانوا يتفاءلون بها عند العزم على فعل بعض الأمور.

و قد تقدّم الحديث عن هذه الأمور في آيات سابقة،فقد جاء الحديث عن الخمر و الميسر في سورة البقرة،في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ... البقرة:219،و جاء الحديث عن الخمر وحده في سورة النّساء في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،و جاء الحديث عن الخمر و الأنصاب و الأزلام في هذه السّورة،في آيات التّحريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ و جاءت هذه الآيات لتعطي الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام مفهوما واحدا يبرّر ابتعاد النّاس عنها،و هو أنّها رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، و الرّجس:هو الشّيء القذر الّذي ينفر الطّبع منه.و لعلّ هذه الكلمة واردة على سبيل الكناية،باعتبار ما تشتمل عليه هذه الأشياء من الإضرار و الخصائص السّلبيّة الّتي لو اطّلع النّاس عليها لابتعدوا عنها كما يبتعدون عن الأشياء القذرة الظّاهرة.

فإنّ السّبب في نفور الطّبع من هذه الأشياء هو ما يلاحظه النّاس فيها من الخصائص المنفّرة في رائحتها أو شكلها أو طعمها،ممّا يوحي للإنسان ببعض الأفكار و المشاعر المضادّة.و قد أراد اللّه للنّاس أن يدقّقوا في هذه الأمور ليكتشفوا ما تشتمل عليه من الخصائص المنفّرة الّتي تدفع الإنسان إلى الاجتناب عنها،لما فيها من الإضرار بالحياة و العقيدة و السّلوك، الّتي تضعها في زاوية الأقذار المعنويّة،فالخمر يحوّل السّكران إلى إنسان يتحرّك خارج نطاق الحياة الواعية ليعيش في غيبوبة الخدر الّتي تبعده عن الواقع، و بذلك يفقد الإنسان توازنه في عالم التّصوّر و العلاقة و العمل...

و لهذا كان الأمر بالاجتناب عنها في قوله تعالى:

فَاجْتَنِبُوهُ نتيجة طبيعيّة لما أراد اللّه أن يثيره في نفس الإنسان ضدّ هذه الأشياء،ليربطها في النّهاية بعوامل الفلاح و النّجاح،لأنّهما ينطلقان في حياته من خلال أفعاله النّافعة و الإيجابيّة،كما ينطلقان من خلال نأيه عن الأمور الضّارة و السّلبيّة، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فإنّ الابتعاد عن طريق الخسارة أسلوب من أساليب الفلاح.(8:322)

ص: 893

خمرا

وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً... يوسف:36

ابن عبّاس: عنبا،و أسقي الملك و كان رؤياه أنّه رأى في منامه كأنّه يدخل كرما فرأى في الكرم حبلة حسنة فيها ثلاثة قضبان،و على القضبان عناقيد العنب،فاجتنى العنب فعصره،و ناوله الملك.(196)

نحوه عكرمة.(الطّبريّ: 7:213)

عنبا.(الطّبريّ: 7:213)

نحوه زيد بن عليّ.(224)

الضّحّاك: يقول:أعصر عنبا،و هو بلغة أهل عمان،يسمّون العنب خمرا.(الطّبريّ 7:213)

ابن قتيبة:يقال:عنبا.قال الأصمعيّ: أخبرني المعتمر بن سليمان أنّه لقى أعرابيّا معه عنب،فقال:ما معك؟فقال:خمر.و تكون الخمر بعينها،كما يقال:

عصرت زيتا،و إنّما عصرت زيتونا.(217)

الطّبريّ: و عنى بقوله: أَعْصِرُ خَمْراً أي إنّي أرى في نومي أنّي أعصر عنبا،و كذلك ذلك في قراءة ابن مسعود،فيما ذكر عنه.

و ذكر أنّ ذلك من لغة أهل عمان،و أنّهم يسمّون العنب خمرا.(7:213)

نحوه القرطبيّ(190:9)،و ابن كثير(4:26)، و الثّعالبيّ(5:222).

الزّجّاج: و لم يقل:إنّي أراني في النّوم أعصر خمرا، لأنّ الحال تدلّ على أنّه ليس يرى نفسه في اليقظة يعصر خمرا.و قال أهل اللّغة:الخمر في لغة عمان اسم للعنب،فكأنّه قال:أراني أعصر عنبا.و يجوز أن يكون عنى الخمر بعينها،لأنّه يقال للّذي يصنع من التّمر الدّبس:هذا يعمل دبسا،و إنّما يعمل التّمر حتّى يصير دبسا،و كذلك كلّ شيء نقل من شيء،و كذلك قوله:أعصر خمرا،أي أعصر عنب الخمر،أي العنب الّذي يكون عصيره خمرا.(3:109)

نفطويه:و قوله: أَعْصِرُ خَمْراً أي استخرج الخمر«و إذا عصر العنب فإنّما يستخرج به الخمر، فلذلك قال: أَعْصِرُ خَمْراً. (الهرويّ 2:594)

نحوه السّجستانيّ.(91)

ابن الأنباريّ: العرب تسمّي الشّيء باسم ما يؤول إليه الشّيء إذا انكشف المعنى و لم يلتبس، يقولون:فلان يطبخ الآجرّ و يطبخ الدّبس،و إنّما يطبخ اللّبن و العصير.

مثله الزّجّاج.(الواحديّ 2:613)

و نحوه البغويّ.(2:491)

النّحّاس: في هذا أقوال:منها:أنّ الخمر هاهنا العنب،و منها:أنّ المعنى عنب خمر،و منها:أن يكون مثل قولك:أنا أعصر زيتا أي أعصر ما يؤول أمره إلى الزّيت.[ثمّ استشهد بشعر و قال:]

و هذا قول حسن.و الأوّل أبينها،و أهل التّفسير عليه.(3:425)

الجصّاص :قيل:فيه إضمار عصير العنب للخمر؛و ذلك لأنّ الخمر المائعة لا يتأتّى فيه العصر.

و قيل:معناه أعصر ما يؤول إلى الخمر،فسمّاه باسم الخمر و إن لم يكن خمرا على وجه المجاز.و جائز أن

ص: 894

يعصر من العنب خمرا،بأن يطرح العنب في الخابية و يترك حتّى ينشّ و يغلي،فيكون ما في العنب خمرا، فيكون العصر للخمر على وجه الحقيقة.(3:223)

الماورديّ: أي عنبا.و في تسميته خمرا وجهان:

أحدهما:لأنّ عصيره يصير خمرا فعبّر بما يؤول إليه.

الثّاني:[قول الضّحّاك](3:36)

نحوه النّسفيّ(221:2)،و القاسميّ(9:3538)، و نحوه المراغيّ(12:145).

الطّوسيّ: و الخمر عصير العنب إذا كان فيه الشّدّة،و التّقدير:أعصر العنب للخمر.(6:138)

الواحديّ: معنى أَعْصِرُ خَمْراً: أعصر عنب خمر،أي العنب الّذي يكون عصيره خمرا،فحذف المضاف.(2:613)

نحوه الطّبرسيّ.(3:233)

الزّمخشريّ: يعني عنبا،تسمية للعنب بما يؤول إليه.قيل:«الخمر»بلغة عمان اسم للعنب.(2:319)

نحوه البيضاويّ(1:495)،و النّيسابوريّ(13:5) و أبو السّعود(3:392)،و الكاشانيّ(3:20)، و المشهديّ(4:621)،و البروسويّ(4:257)،و شبّر (3:277)،و الشّوكانيّ(3:33)،و مغنيّة(4:312)، و الطّباطبائيّ(11:171)،و طه الدّرّة(6:480).

ابن عطيّة: قيل:إنّه سمّي العنب خمرا بالمآل، و قيل:هي لغة أزد عمان،يسمّون العنب خمرا...

و يجوز أن يكون وصف الخمر بأنّها معصورة؛إذ العصر لها و من أجلها.(3:243)

أبو الفتوح:أي عنبا.[ثمّ ذكر بعض الأقوال و أضاف:]

و قال بعض:«الخمر»في محلّه،و هو كما يقال:

فلان يعصر الدّهن و الزّيت،إنّما هو يعصر ما يستخرج منه الدّهن و الزّيت،يعني يتعاطى الأفعال من العصر حتّى يستخرج الدّهن و الزّيت.و هو قول سديد.(11:74)

ابن الجوزيّ: أي عنبا،و في تسمية العنب خمرا ثلاثة أقوال:

أحدها:[قول ابن الأنباري ثمّ أضاف في قوله:]

و إنّما كان كذلك،لأنّ العرب توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل،كقولهم:فلان يطبخ آجرّا.

و الثّاني:[قول الضّحّاك،ثمّ أضاف:]

قال ابن القاسم:و قد نطقت قريش بهذه اللّغة و عرفتها.

و الثّالث:أنّ المعنى:أعصر عنب خمر،و أصل خمر، و سبب خمر،فحذف المضاف،و خلّفه المضاف إليه، كقوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف:82.(4:223)

الفخر الرّازيّ: كيف يعقل عصر الخمر؟

الجواب:فيه ثلاثة أقوال:[فذكر نحو قول الواحديّ و ابن الأنباريّ]

و الثّالث:قال أبو صالح:أهل عمان يسمّون العنب بالخمر فوقعت هذه اللّفظة إلى أهل مكّة فنطقوا بها.قال الضّحّاك:نزل القرآن بألسنة جميع العرب.

(18:134)

نحوه الشّربينيّ.(2:107)

ص: 895

ابن عربيّ: و الفتيان اللّذان دخلا معه السّجن؛ أحدهما:قوّة المحبّة الرّوحيّة اللاّزمة له،و هو شرابيّ الملك الّذي يسقيه خمر العشق،كما قيل في القصّة:أنّه كان شرابيّه...

و منام الشّرابيّ في قوله: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً اهتداء قوّة المحبّة إلى عصر خمر العشق،من كرم معرفة القلب،في نوم الغفلة عن الشّهود الحقيقيّ.(1:601)

أبو حيّان :[نحو ابن عطيّة و أضاف:]

و قيل:الخمر بلغة غسّان اسم العنب...

و قرأ أبيّ و عبد اللّه (اعصر عنبا) ،و ينبغي أن يحمل ذلك على التّفسير لمخالفته سواد المصحف و الثّابت عنهما بالتّواتر قراءتهما أَعْصِرُ خَمْراً.

(5:308)

السّمين:و الخمر:العنب،أطلق عليه ذلك مجازا، لأنّه آيل إليه،كما يطلق الشّيء على الشّيء باعتبار ما كان عليه،كقوله: وَ آتُوا الْيَتامى النّساء:2، و مجاز هذا أقرب[ثمّ قال نحو أبي حيّان](4:182)

الآلوسيّ: أي عنبا...و سمّاه بما يؤول إليه،لأنّ الخمر ممّا لا يعصر؛إذ عصر الشّيء إخراج ما فيه من المائع بقوّة،و كون العنب يؤول إلى الخمر،و كون الّذي يؤول إليه ماؤه لا جرمه لا يضرّ،لأنّه المقصود منه،فما عداه غير منظور إليه،فليس فيه تجوّزان بالنّظر إلى المتعارف فيه.و قيل:الخمر بلغة غسّان اسم للعنب،و قيل:في لغة أذرعان...

و قال ابن عطيّة:يجوز أن يكون وصف الخمر بأنّها معصورة،لأنّ العصر من أجلها،فليس ذلك من مجاز الأوّل،و المشهور أنّه منه كما قال الفرّاء:مؤنّثة و ربّما ذكّرت.و عن السّجستانيّ أنّه سمع التّذكير ممّن يوثق به من الفصحاء.(12:238)

مكارم الشّيرازيّ: التّعبير ب إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً إمّا لأنّه رأى في النّوم أنّه يعصر العنب للشّراب أو العنب المخمّر الّذي في الدّنّ،و هو يعصره ليصفّيه مستخرجا منه الشّراب،أو أنّه يعصر العنب ليقدّم عصيره للملك،دون أن يكون خمرا؛و حيث إنّ العنب يمكن أن يتبدّل خمرا أطلق عليه لفظ الخمر.

(7:187)

خمر

..وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ... محمّد:15

القمّيّ: و معنى الخمر،أي خمرة إذا تناولها وليّ اللّه وجد رائحة المسك فيها.(2:303)

ابن عربيّ: وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ أي أصناف من محبّة الصّفات و الذّات.(2:498)

الآلوسيّ: و هي خمر الشّوق و المحبّة.(26:83)

لاحظ:ل ذ ذ:«لذّة»و:ن ه ر:«انهار».

خمرهنّ

وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ.. النّور:31)

عائشة:يرحم اللّه النّساء المهاجرات الأوّل!لمّا أنزل اللّه وَ لْيَضْرِبْنَ... شققن أكثف مروطهنّ، فاختمرن به.

لمّا نزلت هذه الآية،شققن البرد ممّا يلي الحواشي، فاختمرن به.(الطّبريّ 9:306)

ص: 896

ابن عبّاس: يرخين قناعهنّ.(295)

نحوه الخازن.(57:5)

الفرّاء: يقول:لتخمّر نحرها و صدرها بخمار، و ذلك أنّ نساء الجاهليّة كنّ يسدلن خمرهنّ من ورائهنّ فينكشف ما قدّامها،فأمرن بالاستتار.

(2:249)

الجبّائيّ: هي المقانع.(الطّوسيّ 7:430)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و ليلقين خمرهنّ، و هي جمع خمار،على جيوبهنّ،ليسترن بذلك شعورهنّ و أعناقهنّ و قرطهنّ.(9:306)

الشّريف الرّضيّ: هذه استعارة،و المراد بها إسبال الخمر الّتي هي المقانع على فرجات الجيوب، لأنّها حصاصات إلى التّرائب و الصّدور و الثّدي و الشّعور.و أصل الضّرب:من قولهم:ضربت الفسطاط،إذا أقمته بإقامة أعماله،و ضرب أوتاده.

فاستعير هاهنا كناية عن التّناهي في إسبال الخمر، و إضفاء الأزر.(131)

الطّوسيّ: الخمار:غطاء رأس المرأة المنسبل على جبينها،و جمعه:خمر.(7:430)

الواحديّ: الخمر جمع الخمار،و هي ما تغطّي به المرأة رأسها،و المعنى:و ليلقين مقانعهنّ على جيوبهنّ، ليسترن بذلك شعورهنّ و قرطتهنّ و أعناقهنّ،كما قال ابن عبّاس:تغطّي شعرها و صدرها و ترائبها و سوالفها.(3:316)

نحوه البروسويّ(6:142)،و القاسميّ(12:

4511)،و المراغيّ(18:97،99).

الزّمخشريّ: كانت جيوبهنّ واسعة تبدو منها نحورهنّ و صدورهنّ و ما حواليها،و كنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة،فأمرن بأن يسدلنها من قدّامهنّ حتّى يغطّينها.

و يجوز أن يراد ب«الجيوب»:الصّدور،تسمية بما يليها و يلابسها.و منه قولهم:ناصح الجيب،و قولك:

ضربت بخمارها على جيبها،كقولك:ضربت بيدي على الحائط،إذا وضعتها عليه.(3:62)

نحوه طنطاوي.(12:11)

ابن العربيّ: و الخمار هي المقنعة.[ذكر قول عائشة و قال:]

كأنّه من كان لها مرط شقّت مرطها،و من كانت لها إزار شقّت إزارها.و هذا يدلّ على أنّ ستر العنق و الصّدر بما فيه،و يوضّحه حديث عائشة:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يصلّي الصّبح فينصرف النّساء متلفّعات بمروطهنّ.ما يعرفن من الغلس،أي لا تعرف فلانة من فلانة.(3:1369)

ابن عطيّة: و سبب هذه الآية أنّ النّساء كنّ في ذلك الزّمان إذا غطّين رءوسهنّ بالأخمرة سدلنها من وراء الظّهر-قال النّقّاش:كما يصنع النّبط-فيبقى النّحر و العنق و الأذنان لا ستر على ذلك،فأمر اللّه تعالى بالخمار على الجيوب،و هيئة ذلك يستر جميع ما ذكرناه.(4:178)

نحوه القرطبيّ.(12:230)

الفخر الرّازيّ: الخمر واحدها:خمار،و هي المقانع.

ص: 897

قال المفسّرون:إنّ نساء الجاهليّة كنّ يشددن خمرهنّ من خلفهنّ،و إنّ جيوبهنّ كانت من قدّام، فكان ينكشف نحورهنّ و قلائدهنّ،فأمرن أن يضربن مقانعهنّ على الجيوب ليتغطّى بذلك أعناقهنّ و نحورهنّ و ما يحيط به من شعر و زينة من الحليّ في الأذن و النّحر و موضع العقدة منها.و في لفظ «الضّرب»مبالغة في الإلقاء،و الباء للإلصاق.

(23:206)

مثله النّيسابوريّ.(18:93)

البيضاويّ: سترا لأعناقهنّ.(2:124)

أبو حيّان :«الخمر»:جمع خمار و هو المقنعة الّتي تلقي المرأة على رأسها،و هو جمع كثرة مقيس فيه، و يجمع في القلّة على«أخمرة»و هو مقيس فيها أيضا.

[ثمّ استشهد بشعر]

و قرأ طلحة (بخمرهنّ) بسكون الميم.(6:443)

نحوه الآلوسيّ.(18:142)

ابن كثير :يعني المقانع يعمل لها صفّات ضاربات على صدورهنّ،لتواري ما تحتها من صدرها و ترائبها،ليخالفن شعار نساء أهل الجاهليّة،فإنّهنّ لم يكن يفعلن ذلك،بل كانت المرأة منهنّ تمرّ بين الرّجال مسفّحة بصدرها لا يواريه شيء.

و ربّما أظهرت عنقها و ذوائب شعرها و أقرطة آذانها،فأمر اللّه المؤمنات أن يستترن في هيئاتهنّ و أحوالهنّ،كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ و قال في هذه الآية الكريمة: وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ.

و الخمر:جمع خمار،و هو ما يخمّر به،أي يغطّى به الرّأس،و هي الّتي تسمّيها النّاس المقانع.(5:89)

نحوه ملخّصا الفاضل المقداد.(2:222)

الشّربينيّ: أي يسترن الرّءوس و الأعناق و الصّدور بالمقانع.[ثمّ قال نحو الزّمخشريّ](2:616)

أبو السّعود :إرشاد إلى كيفيّة إخفاء بعض مواضع الزّينة بعد النّهي عن إبدائها.[ثمّ ذكر نحو الزّمخشريّ](4:453)

الشّوكانيّ: و الخمر:جمع خمار و هو ما تغطّي به المرأة رأسها.و منه:اختمرت المرأة و تخمّرت.[ثمّ قال نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]

و في لفظ«الضّرب»مبالغة في الإلقاء الّذي هو الإلصاق.قرأ الجمهور(بخمرهن)بتحريك الميم، و قرأ طلحة بن مصرّف بسكونها.(30:4)

عزّة دروزة :جمع خمار،و هو غطاء كانت النّساء يتّشحن أو يتقنّعن به.(10:43)

ابن عاشور :المعنى ليشددن وضع الخمر على الجيوب،أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد.

و الباء في قوله:(بخمرهن)لتأكيد اللّصوق، مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب،زيادة على المبالغة المستفادة من فعل(يضربن.)(18:166)

الطّباطبائيّ: الخمر بضمّتين:جمع خمار،و هو ما تغطّي به المرأة رأسها،و ينسدل على صدرها.

(15:112)

ص: 898

حجازي:(خمرهن:)جمع خمار،و هو ما يستر الرّأس...

و قد كانت العادة المتفشّية في الجاهليّة أن تكشف المرأة عن نحرها و صدرها-و للأسف أصبحت هذه العادة متفشّية في مجتمعنا الحاضر-و لذا خصّهما اللّه بالذّكر،و إن كان الحكم السّابق يشملهما لاقتلاع تلك العادة السّيّئة الّتي يقع فيها كثير من النّاس.

(18:56)

عبد الكريم الخطيب :و الخمر:جمع خمار،و هو ما تستر به المرأة نحرها،و المعنى أنّه يجب عليهنّ ستر العنق و النّحر بالخمر،و ضربها على العنق،و إرسالها إلى النّحور.(9:1265)

مكارم الشّيرازيّ: كلمة«خمر»:جمع خمار، على وزن«فعال»و هي في الأصل تعني الغطاء،إلاّ أنّه يطلق بصورة اعتياديّة على الشّيء الّذي تستخدمه النّسوة لتغطية رءوسهنّ.[ثمّ قال نحو ابن عطيّة](11:66)

الوجوه و النّظائر

الحيريّ: الخمر على وجهين:

أحدهما:الخمر بعينه و هو مسكر،كقوله:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ البقرة:219، و قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ المائدة:

90.

و الثّاني:العنب،كقوله: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً يوسف:36.(237)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة الخمر،و هو ما أسكر من عصير العنب أو التّمر،و هي خمرة؛و الجمع:خمور.

يقال:خمر الرّجل يخمره خمرا،أي سقاه الخمر، و المخمّر:متّخذ الخمر،و المخمور،و المستخمر و الخمّير:الشّرّيب للخمر دائما،و الخمّار:بائعها.و تخمّر بالخمر:تسكّر بها،و اختمار الخمر:إدراكها و غليانها.و عنب خمريّ:يصلح للخمر،و لون خمريّ:

يشبه لون الخمر.

و خمرة الخمر و خمارها:ما خالط من سكرها.

و الخمار:بقيّة السّكر،يقال:رجل خمر،أي في عقب خمار،و رجل مخمور:به خمار،و قد خمر خمرا و خمر.

و الخمرة و الخمير و الخميرة:ما يجعل في العجين، سمّيت بذلك،لأنّها مختمرة،كخمرة النّبيذ و الطّيب.

يقال:خمر العجين و الطّيب و نحوهما يخمره و يخمره خمرا،فهو خمير،و خمّره،أي جعل فيه الخمير،و خبز خمير و خبزة خمير:خبز بائت،و قد اختمر الطّيب و العجين،و خمرة اللّبن:روبته الّتي تصبّ عليه ليروب سريعا.

و الخمر:ما واراك من الشّجر و الجبال و نحوها، تشبيها بالخمرة الّتي تواري العقل و تستره.يقال:

توارى الصّيد عنّي في خمر الوادي،و خمر عنّي يخمر خمرا:خفي و توارى فهو خمر،و أخمرته الأرض عنّي و منّي و عليّ: وارته،و أخمر القوم:تواروا بالخمر ،و مكان خمر:كثير الخمر،يقال:أخمرت الأرض،أي كثر خمرها.و يقال للرّجل إذا ختل صاحبه:هو يدبّ

ص: 899

له الضّرّاء و يمشي له الخمر.

و الخمر:وهدة يختفي فيها الذّئب،و كذا خرز ناحيتي المزادة ثمّ تعليتها بخرز آخر،كأنّ الخرز الثّاني يواري الأوّل.

و الخمار:ما تغطّي به المرأة رأسها؛و الجمع:أخمرة و خمر و خمر،و هو من الخمر.يقال:تخمّرت بالخمار و اختمرت،أي لبسته،و خمّرت به رأسها:غطّته، و الخمّر:لغة فيه.

و الخمرة:هيئة الاختمار،يقال:إنّها لحسنة الخمرة،و في المثل:«إنّ العوان لا تعلّم الخمرة»،أي إنّ المرأة المجرّبة لا تعلّم كيف تفعل.

و المخمّرة من الشّياه:النّعجة السّوداء و رأسها أبيض،مثل الرّخماء،و فرس مخمّر:أبيض الرّأس و سائر لونه ما كان،مشتقّ من خمار المرأة.و ما شمّ خمارك،أي ما أصابك،يقال ذلك للرّجل إذا تغيّر عمّا كان عليه.

و الخمرة:حصيرة أو سجّادة صغيرة تنسج من سعف النّخل و ترمّل بالخيوط،سمّيت خمرة،لأنّها تستر الوجه من الأرض،أو لأنّ خيوطها مستورة بسعفها.

و الخمرة و الخمرة:ما خامرك من الرّيح،أي خالطك.يقال:وجدت خمرة الطّيب،أي ريحه، و خمرة النّبيذ و الطّيب:ما يجعل فيه من الخمر و الدّرديّ.يقال:وجدت منه خمرة طيّبة،إذا اختمر الطّيب،أي وجدت ريحه.

و خامره الدّاء:خالط جوفه،و هو مخامر و خمر، و خامر الشّيء:قاربه و خالطه،فهو مخامر.

و الخمرة:الاستخفاء و السّتر.يقال:خمر الشّيء يخمره خمرا و أخمره،أي ستره،و خمّر وجهه:غطّاه و ستره و خمّر إناءك:غطّه،و يقال للضّبع:خامري أمّ عامر،أي استتري،و أخمرت الشّيء:أضمرته،و أخمر فلان عليّ ظنّة:أضمرها،و اجعله في سرّ خميرك:

اكتمه،و خمر فلان شهادته:كتمها،و خمرت الرّجل أخمره:استحييت منه،و خامر الرّجل بيته و خمّره:

لزمه فلم يبرحه،و كذلك خامر المكان،و خمر عليه و أخمر:حقد،لأنّ الحقد يضمر و يستر في الصّدور.

و المخامرة:أن يبيع الرّجل غلاما حرّا على أنّه عبده،لأنّه يواري حرّيّته،و استخمره:استعبده،قال الطّوسيّ: «الأصل فيه أمرته أن يتّخذ الخمر،ثمّ كثر حتّى جرى في كلّ شيء يأمر به».و أخمره الشّيء:

أعطاه إيّاه أو ملّكه،كأنّه وهبه ما ليس له،فوارى ملكيّته،و أخمر الشّيء:أغفله،و هو من هذا أيضا.

2-و عسف«آرثر جفري»في رأيه،و تنكّب عن الحقّ حين قال:«لا ريب أنّ هذا اللّفظ«الخمر» آراميّ المنشإ».و شطّ في قوله أيضا،إذ زعم أنّه دخل العربيّة بواسطة اللّغة السّريانيّة حين دخول الخمر إلى أرض الجزيرة العربيّة عبر التّجّار النّصارى الّذين كانوا يحتكرون تجارتها.

و يبدو من كلامه أنّ لفظ«الخمر»عرفته العرب بعد نبوّة السّيّد المسيح عليه السّلام و انتشار النّصرانيّة في أطراف بلاد العرب كالشّام.و لا شكّ أن لو اكتشف أثر يدلّ على معرفة العرب لهذا اللّفظ قبل الميلاد،

ص: 900

لقال:إنّه دخل الجزيرة العربيّة بواسطة اللّغة العبريّة حين دخول الخمر إليها عبر التّجّار اليهود!

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

جاء منها الاسم بلفظين:(الخمر)6 مرّات، و(خمر)جمع خمار مرّة،في 7 آيات:

1-الخمر

1- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ... البقرة:219

2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ المائدة:90

3- إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ... المائدة:91

4- ...قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً...

يوسف:36

5- يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً... يوسف:41

6- ...وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ...

محمّد:15

2-خمر

7- ...وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ...

النّور:31

يلاحظ أوّلا:أنّ مشتقّات هذه المادّة جاءت في محورين:

الأوّل:الخمر في(1-6)،و فيها بحوث:

1-استأنفت الآية(1)الكلام بالسّؤال عن الخمر و الميسر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما.

و يلفت نسق الآية السّامع بلفظ يَسْئَلُونَكَ إلى خطورة المسئول عنه،و يتبعه الجواب بلفظ(قل) و تكرّر هذا النّسق خمس عشرة مرّة في أمور مختلفة، سأل المسلمون النّبيّ عنها استرشادا كهذه الآية،أو سأله اليهود عنها مداهنة،كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ البقرة:189، أو سأله مشركو مكّة عنها مكابرة،كقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً طه:

105،و إن كان ما سأله المشركون عنه بتحريض من اليهود؛إذ كانوا و لا زالوا منجم الباطل و الضّلالة، و مغرس الفتنة و الدّعارة.

و جعل السّؤال عن الخمر و الميسر في هذه الآيات،في عداد السّؤال عن الظّواهر الكونيّة و الطّبيعيّة و الأحكام الشّرعيّة و الشّئون الاجتماعيّة و العقائد و التّاريخ و الغيب و القتال،كما سنبحث ذلك في«س أ ل»إن شاء اللّه.

2-تشدّد اللّه في حكم الخمر في(2)و(3) باستعمال أداة الحصر«إنّما»فيهما،فكان المحصور في (2)الخمر و ما عطف عليها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. كما حصرت أحكام أخرى ب«إنّما»أيضا لخطورتها،و هي:

ص: 901

إثم تبديل وصيّة الميّت: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة:181.

نجاسة المشركين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا التّوبة:28.

تأخير الأشهر الحرم: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً التّوبة:37.

فحكم الآية(1)إثم،و حكم(2)نجاسة،و حكم (3)اتّباع الشّيطان و الانسداد عن ذكر اللّه و عن الصّلاة،و هذه الأحكام الثّلاثة اجتمعت في الخمر قبل تحريمها و لهذا حرّمت.

و كان المحصور في(3)إرادة الشّيطان لإثارة الشّحناء بين المسلمين بالخمر و الميسر: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، كما حصر الفعل الّذي يخصّ الشّيطان ب«إنّما»:

أمره: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ البقرة:169.

استزلاله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ آل عمران:155.

و هذا يعني أنّ إرادة الشّيطان إغواء النّاس أجمعين،و إغراؤهم بعصيان ربّ العالمين،بينما إرادة اللّه إذهاب الرّجس عن عباده المخلصين: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً الأحزاب:33،و تعذيب أولياء الشّيطان المفسدين: وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ التّوبة:85،فما أحبّ عدل الرّحمن،و ما أشنأ جور الشّيطان!انظر:ر و د:«يريد».

3-جاء لفظ«الخمر»معمول(اعصر)في(4):

قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً، و معمول (يسقى)في(5): يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً. و أمّا عصر الخمر في(4)فهو خلاف طبيعتها.و ذهب أغلب المفسّرين إلى أنّ هذا المعنى مجازيّ،فتأوّلوا فيه،قال ابن عبّاس:أعصر عنبا،و إليه ذهب عكرمة و ابن زيد و الضّحّاك و غيرهم.و قال الجصّاص:فيه إضمار:عصير العنب للخمر.أو عنب خمر،أي العنب الّذي يكون عصيره خمرا،فحذف المضاف،كما قال الواحديّ.و قال ابن عطيّة:وصف الخمر بأنّها معصورة،إذ العصر لها و من أجلها.

و ذهب بعض إلى أنّه حقيقة،قال الطّبريّ:أي إنّي أرى في نومي أنّي أعصر عنبا،و كذلك ذلك في قراءة ابن مسعود فيما ذكر عنه.و قال الزّجّاج:عنى الخمر بعينها،لأنّه يقال للّذي يصنع من التّمر الدّبس:

هذا يعمل دبسا،و إنّما يعمل التّمر حتّى يصير دبسا.

و لعلّ قول الطّبريّ أقرب الأقوال،لأنّ أحد الفتيين هكذا رأى نفسه في المنام،فينبغي وصف ما رآه

ص: 902

حقيقة،و إن كان مخالفا للطّبيعة.و أمّا وصف رؤياه مجازا فهو تأويل في اللّغة،و تأويل ما رآه في الاصطلاح هو قوله تعالى على لسان يوسف في(5).

4-بيّن اللّه أنواع أنهار جنّة المتّقين في(6): مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ، و لم يبيّنها إلاّ في هذه الآية.و وصف ما في الأنهار،فماؤها غَيْرِ آسِنٍ، و لبنها لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، و خمرها لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ و عسلها(مصفى.)

و يلحظ أنّ صفات الماء و اللّبن و العسل تخصّ جنسها،فالماء آسن و غير آسن،و اللّبن طيّب الطّعم و متغيّر الطّعم،و العسل مصفّى و غير مصفّى.و أمّا الخمر فلا توصف بما وصفت به هذه الثّلاثة،فهي كالخلّ كلّما عتقت راقت.و إنّما وصفها تعالى باللّذّة تمييزا لها عن خمر الدّنيا الكريهة الطّعم،فهي لا توصف باللّذّة و عدمها.[لاحظ:أ س ن:«آسن»،بحث الاستعمال القرآنيّ،فقد بحثنا هناك حول الآية]

5-و لقد بسط المفسّرون الكلام في الخمر ذيل الآيات الثّلاث(1-3)اهتماما بأمرها في الإسلام، و قد ذكرنا أقوالهم-على طولها و تكرارها أحيانا، و اشتمالها على ما جاء في السّنّة و المذاهب الفقهيّة- خلال النّصوص التّفسيريّة،لتكون مرجعا للباحثين حول الخمر-و كذا الميسر-على ضوء الكتاب و السّنّة و الفقه،و نلخّصها في أمور:

أ:سبب نزول الآيات و ترتيب نزولها في تحريم الخمر.و أحسن ما قالوا في هذا السّياق:أنّ اللّه حرّم الخمر تدريجا أوّلا بالتّعريض في سورة مكّيّة: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ النّحل:67.

حيث وصف(رزقا)فقال: وَ رِزْقاً حَسَناً، و لم يصف(سكرا)به.

ثمّ في آية مدنيّة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ النّساء:43،حيث حرّم شربها في أوقات الصّلاة.

ثمّ في آية مدنيّة أيضا: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما البقرة:219،حيث قال:إنّ فيهما إثم كبير،و أنّ إثمهما أكبر من نفعهما.

و ثانيا:و قد حرّم الإثم في آية أخرى قبلها.

و بالتّنصيص في آيتي المائدة بما فيهما من أساليب التّأكيد:و هي الجمع بينه و بين الميسر و الأنصاب و الأزلام،و أنّه رجس،و من عمل الشّيطان،و أنّ الشّيطان يوقع بها بينكم العداوة و البغضاء،و يصدّكم عن ذكر اللّه و الصّلاة،و ابتداء تحريمه بالحصر مرّتين بلفظ(انّما)مكرّرا،و ختمه ب فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، ثمّ تذييل الآيتين بالأمر بطاعة اللّه و الرّسول في آية بعدها: وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ.... لاحظ:

كلام الطّبريّ،و الجصّاص،و الثّعلبيّ،و المرتضى، و الميبديّ،و القرطبيّ،و رشيد رضا،و سيّد قطب، و ابن عاشور،و الطّباطبائيّ،و مغنيّة،و فضل اللّه في

ص: 903

النّصوص.

ب:هل«الخمر»اسم لعصير العنب أو يعمّ كلّ مسكر؟

لاحظ:كلام الجصّاص،و الثّعلبيّ،و ابن العربيّ، و الطّوسيّ،و الفخر الرّازيّ،و النّيسابوريّ،و الفاضل المقداد،و الشّوكانيّ،و رشيد رضا،و ابن عاشور، و مغنيّة،و سيّد قطب،و الطّباطبائيّ،و مكارم الشّيرازيّ،و فضل اللّه في النّصوص.

ج:هل الخمر كانت محرّمة في جميع الأديان-كما في روايات أهل البيت عليهم السّلام-أو في الإسلام فقط.لاحظ:كلام الفاضل المقداد،و رشيد رضا في النّصوص.و نصوصا من العهد القديم في تحريمه عند رشيد رضا.

د:«النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يشرب الخمر قطّ»عن رشيد رضا.

ه:آراء فقهيّة:عن الجصّاص،و ابن عطيّة.

و:حكم النّبيذ و النّقيع و العصير المطبوخ:عن الجصّاص،و البغويّ،و الفخر الرّازيّ،و الآلوسيّ، و رشيد رضا.

ز:هل الخمر نجس؟عن الخازن،و سيّد قطب.

ح:مضرّات الخمر:عن أبي حيّان،و رشيد رضا، و سيّد قطب،و ابن عاشور،و الطّباطبائيّ،و مكارم الشّيرازيّ.

ط:شواهد في الآيات على تشديد حرمة الخمر:

الزّمخشريّ،و ابن عطيّة،و الفخر الرّازيّ،و الرّازيّ، و السّمين،و الفاضل المقداد،و البروسويّ،و رشيد رضا.

ي:أسلوب القرآن في معالجة العادات المضرّة، و إعذار النّبيّ عليه السّلام المجتهدين في اجتهادهم:عن رشيد رضا،و فضل اللّه.

ك:شبهات حول حرمة الخمر و دحضها:عن رشيد رضا،و سيّد قطب.

ل:كلام عبد الرّزّاق نوفل في مجيء الخمر، و الأصنام،و الخنزير،و البغضاء،و الحصب،و التّنكيل، و الحسد،و الرّعب،و الخيبة،كلّها خمس مرّات في القرآن.

م:الإشارة و التّأويل في آيات الخمر:عن القشيريّ،و ابن عربيّ.

المحور الثّاني:الخمر:جمع خمار في(7):

وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، و فيها بحوث:

1-جاءت هذه الآية في سورة النّور-و هي مدنيّة-الّتي تتضمّن أحكاما و حدودا اجتماعيّة عديدة،منها:حدّ الزّنى و القذف،و التّشدّد في حجاب النّساء عامّة و التّرخيص للنّساء القواعد فيه خاصّة، و الأمر بإنكاح الأيامى و العبيد و الإماء،و أمر غير القادرين على الزّواج بالاستعفاف،و النّهي عن إكراه

ص: 904

الإماء على البغاء،و غيرها،فهي تضاهي السّور الطّوال ذات الحدود و الأحكام،كالبقرة و النّساء في هذا الباب.

و بدأت هذه السّورة بمعالجة ظاهرة الزّنى الخطيرة،و الحدّ من استفحالها في المجتمع الإسلاميّ، بتطويق بؤرتها و تبديد جرثومتها،من خلال جلد الزّانيين و فضحهما،و جلد من ينسب الزّنى إلى المحصنات دون بيّنة و لا شاهد.ثمّ كافحت السّورة عوامل هذه الظّاهرة و حوافزها،و هي نظرة الرّجل إلى المرأة،و نظرة المرأة إلى الرّجل شهوة،و علاجها غضّ بصرهما معا،و على المرأة خاصّة أن لا تبدي زينتها إلاّ ما استثني.و تناولت أخطر حافز إلى ذلك، و هو التّبرّج و السّفور،فكان و لا زال الدّاء العضال للمجتمعات البشريّة قاطبة،و قد حسمه الإسلام بالحجاب.و من العوامل الأخرى أيضا:انقياد الأيامى و الإماء و ضراعتهنّ،فأمر الإسلام بتزويج الأحرار و العبيد،كما نهى عن إكراه الإماء على البغاء،و أمر من لا يقدر على الزّواج بالاستعفاف،منعا لتفاقم هذه الظّاهرة.

2-استعمل الضّرب في الخمار من دون آيات الحجاب دلالة على التّشدّد في هذا الحكم،لما في الضّرب من شدّة،كما وكّد أيضا بوصل فعله بلام الأمر و تعديته ب«على»الّذي يفيد الفوقيّة و العلوّ، و كذا سائر معاني«ضرب على...»،و منها الغلبة، و الإلزام،و الإمضاء،و الإمساك،و الإفساد، و التّضييق،انظر:ض ر ب:«.و ليضربن».ثمّ إنّ الباء في بِخُمُرِهِنَّ للإلصاق،فكأنّه قال:و ليضربنّ خمرهنّ ملصقة على جيوبهنّ،و هذا تأكيد لهذا الحكم و تشدّد فيه أيضا.

و استعملت في سائر آيات الحجاب معان سلسة لطيفة،و منها حجاب نساء النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأحزاب:33، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً الأحزاب:

59، وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ الأحزاب:

53،و حجاب سائر نساء المؤمنين: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً الأحزاب:55، وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ النّور:60.

3-ممّا يفتّ في العضد،و يكسف البال أنّ المتخمّرات من نساء المسلمين في هذا العصر قليلات و السّافرات كثيرات،فتشبّهن بنساء اليهود و النّصارى،فما هذه إلاّ ردّة جاهليّة،أو هرطقة صليبيّة،أو نعقة صهيونيّة،وقى اللّه المسلمين شرّها.

ثانيا:اثنتان(4 و 5)من هذه الآيات السّبع مكّيّة جاءتا خلال قصّة يوسف عليه السّلام،و الباقي مدنيّة،أربعة

ص: 905

منها(1-3 و 7)تشريع لحكم الخمر أو الحجاب، و واحدة(6)وعيد للمنافقين.

ثالثا:من نظائر الخمر في القرآن:

الكأس: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ الطّور:23.

السّكر: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ النّحل:67.

الرّحيق: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ

المطفّفين:25.

الشّراب: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً

الدّهر:21.

ص: 906

فهرس الأعلام المنقول عنهم بلا واسطة و أسماء كتبهم

الآلوسيّ:محمود (1)(1270)

روح المعاني،ط:دار إحياء التّراث،بيروت.

ابن أبي الحديد:عبد الحميد(665)

شرح نهج البلاغة،ط:إحياء الكتب،بيروت.

ابن أبي اليمان:يمان(284)

التّقفية،ط:بغداد.

ابن الأثير:مبارك(606)

النّهاية،ط:إسماعيليان،قم.

ابن الأثير:عليّ(630)

الكامل،ط:دار صادر،بيروت.

ابن الأنباريّ:محمّد(328)

غريب اللّغة،ط:دار الفردوس،بيروت.

ابن باديس:عبد الحميد(1359)

تفسير القرآن،ط:دار الفكر،بيروت.

ابن جزيّ:محمّد(741)

التّسهيل،دار الكتاب العربيّ،بيروت.

ابن الجوزيّ:عبد الرّحمن(597)

زاد المسير،ط:المكتب الإسلاميّ،بيروت.

ابن خالويه:حسين(370)

إعراب ثلاثين سورة،ط:حيدرآباد دكّن.

ابن خلدون:عبد الرّحمن(808)

المقدّمة،ط:دار القلم،بيروت.

ابن دريد:محمّد(321)

الجمهرة،ط:حيدرآباد دكّن.

ابن السّكّيت:يعقوب(244)

1-تهذيب الألفاظ،ط:الآستانة الرّضويّة،مشهد.

2-إصلاح المنطق،ط:دار المعارف بمصر.

3-الإبدال،ط:القاهرة.

4-الأضداد،ط:دار الكتب العلميّة،بيروت.

ابن سيده:عليّ(458)

المحكم،ط:دار الكتب العلميّة،بيروت.

ابن الشّجريّ:هبة اللّه(542)

الأماليّ،ط:دار المعرفة،بيروت.

ابن شهرآشوب:محمّد(588)

متشابه القرآن،ط:طهران.

ابن عاشور:محمّد طاهر(1393)

ص: 907


1- هذه الأرقام تاريخ الوفيات بالهجريّة.

التّحرير و التّنوير،ط:مؤسّسة التّاريخ،بيروت.

ابن العربيّ:عبد اللّه(543)

أحكام القرآن،ط:دار المعرفة،بيروت.

ابن عربيّ:محيى الدّين(628)

تفسير القرآن،ط:دار اليقظة،بيروت.

ابن عطيّة:عبد الحقّ(546)

المحرّر الوجيز،ط:دار الكتب العلميّة،بيروت.

ابن فارس:أحمد(395)

1-المقاييس،ط:طهران.

2-الصّاحبيّ،ط:المكتبة اللّغويّة،بيروت.

ابن قتيبة:عبد اللّه(276)

1-غريب القرآن،ط:دار إحياء الكتب،القاهرة

2-تأويل مشكل القرآن،ط:المكتبة العلميّة، القاهرة.

ابن القيّم:محمّد(751)

التّفسير القيّم،ط:لجنة التّراث العربيّ،لبنان.

ابن كثير:إسماعيل(774)

1-تفسير القرآن،ط:دار الفكر،بيروت.

2-البداية و النّهاية،ط:المعارف،بيروت.

ابن منظور:محمّد(711)

لسان العرب،ط،دار صادر،بيروت.

ابن ناقيا:عبد اللّه(485)

الجمّان،ط:المعارف،الاسكندريّة.

ابن هشام:عبد اللّه(761)

مغني اللّبيب،ط:المدنيّ،القاهرة.

أبو البركات:عبد الرّحمن(577)

البيان،ط:الهجرة،قم.

أبو حاتم:سهل(248)

الأضداد،ط:دار الكتب،بيروت.

أبو حيّان:محمّد(745)

البحر المحيط،ط:دار الفكر،بيروت.

أبو رزق:...(معاصر)

معجم القرآن،ط:الحجازيّ،القاهرة.

أبو زرعة:عبد الرّحمن(403)

حجّة القراءات،ط:الرّسالة،بيروت.

أبو زهرة:محمّد(1395)

المعجزة الكبرى،ط:دار الفكر،بيروت.

أبو زيد:سعيد(215)

النّوادر،ط:الكاثوليكيّة،بيروت.

أبو السّعود:محمّد(982)

إرشاد العقل السّليم،ط:مصر.

أبو سهل الهرويّ:محمّد(433)

التّلويح،ط:التّوحيد،مصر.

أبو عبيد:قاسم(224)

غريب الحديث،ط:دار الكتب،بيروت.

أبو عبيدة:معمر(209)

مجاز القرآن،ط:دار الفكر،مصر.

أبو عمرو الشّيبانيّ:إسحاق(206)

الجيم،ط:المطابع الأميريّة،القاهرة.

ابو الفتوح:حسين(554)

روض الجنان،ط:الآستانة الرّضويّة،مشهد.

أبو الفداء:إسماعيل(732)

ص: 908

المختصر،ط:دار المعرفة،بيروت.

أبو هلال:حسن(395)

الفروق اللّغويّة،ط:بصيرتي،قم.

أحمد بدويّ(معاصر)

من بلاغة القرآن،ط:دار النّهضة،مصر.

الأخفش:سعيد(215)

معاني القرآن،ط:عالم الكتب،بيروت.

الأزهريّ:محمّد(370)

تهذيب اللّغة،ط:الدّار المصريّة.

الإسكافيّ:محمّد(420)

درّة التّنزيل،ط:دار الآفاق،بيروت.

الأصمعيّ:عبد الملك(216)

الأضداد،ط:دار الكتب،بيروت.

ايزوتسو:توشيهيكو(1371)

خدا و إنسان در قرآن،ط:انتشار،طهران.

البحرانيّ:هاشم(1107)

البرهان،ط:مؤسّسة البعثة،بيروت.

البروسويّ:إسماعيل(1127)

روح البيان،ط:جعفريّ،طهران.

البستانيّ:بطرس(1300)

دائرة المعارف،ط:دار المعرفة،بيروت.

البغويّ:حسين(516)

معالم التّنزيل،ط:دار إحياء التّراث العربيّ بيروت.

بنت الشّاطئ:عائشة(1378)

1-التّفسير البيانيّ،ط:دار المعارف،مصر.

2-الإعجاز البيانيّ،ط:دار المعارف،مصر.

بهاء الدّين العامليّ:محمّد(1031)

العروة الوثقى،ط:مهر،قم.

بيان الحقّ:محمود(نحو 555)

وضح البرهان،ط:دار القلم،بيروت.

البيضاويّ:عبد اللّه(685)

أنوار التّنزيل،ط:مصر.

التّستريّ:محمّد تقيّ(1415)

نهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة،ط:أمير كبير، طهران.

التّفتازانيّ:مسعود(793)

المطوّل،ط:مكتبة الدّاوريّ،قم.

الثّعالبيّ:عبد الملك(429)

فقه اللّغة،ط:مصر.

ثعلب:أحمد(291)

الفصيح،ط:التّوحيد،مصر.

الثّعلبيّ:أحمد(427)

الكشف و البيان،ط:دار إحياء التّراث العربيّ، بيروت.

الجرجانيّ:عليّ(816)

التّعريفات،ط:ناصر خسرو،طهران.

الجزائريّ:نور الدّين(1158)

فروق اللّغات،ط:فرهنگ إسلامى،طهران.

الجصّاص:أحمد(370)

أحكام القرآن،ط:دار الكتاب،بيروت.

جمال الدّين عيّاد(معاصر)

بحوث في تفسير القرآن،ط:المعرفة،القاهرة.

ص: 909

الجواليقيّ:موهوب(540)

المعرّب،ط:دار الكتب:مصر.

الجوهريّ:اسماعيل(393)

صحاح اللّغة،ط:دار العلم،بيروت.

الحائريّ:سيّد علي(1340)

مقتنيات الدّرر،ط:الحيدريّة،طهران.

الحجازيّ:محمّد محمود(معاصر)

التّفسير الواضح،ط:دار الكتاب،مصر.

الحربيّ:إبراهيم(285)

غريب الحديث،ط:دار المدنيّ،جدّة.

الحريريّ:قاسم(516)

درّة الغوّاص،ط:المثنّى،بغداد.

حسنين مخلوف(معاصر)

صفوة البيان،ط:دار الكتاب،مصر.

حفنيّ:محمّد شرف(معاصر)

إعجاز القرآن البيانيّ،ط:الأهرام،مصر.

الحمويّ:ياقوت(626)

معجم البلدان،ط:دار صادر،بيروت.

الحيريّ:إسماعيل(431)

وجوه القرآن،ط:مؤسّسة الطّبع للآستانة الرّضويّة المقدّسة،مشهد.

الخازن:عليّ(741)

لباب التّأويل،ط:التّجاريّة،مصر.

الخطّابيّ:حمد(388)

غريب الحديث،ط:دار الفكر،دمشق.

الخليل:بن أحمد(175)

العين،ط:دار الهجرة،قم.

خليل ياسين(معاصر)

الأضواء،ط:الأديب الجديدة،بيروت.

الدّامغانيّ:حسين(478)

الوجوه و النّظائر،ط:جامعة تبريز.

الرّازيّ:محمّد(666)

مختار الصّحاح،ط:دار الكتاب،بيروت.

الرّاغب:حسين(502)

المفردات،ط:دار المعرفة،بيروت.

الرّاونديّ:سعيد(573)

فقه القرآن،ط:الخيّام،قم.

رشيد رضا:محمّد(1354)

المنار،ط:دار المعرفة،بيروت.

الزّبيديّ:محمّد(1205)

تاج العروس،ط:الخيريّة،مصر.

الزّجّاج:إبراهيم(311)

1-معاني القرآن،ط:عالم الكتب،بيروت.

2-فعلت و أفعلت،ط:التّوحيد،مصر.

3-إعراب القرآن،ط:دار الكتاب،بيروت.

الزّركشيّ:محمّد(794)

البرهان،ط:دار إحياء الكتب،القاهرة.

الزّركليّ:خير الدّين(1396)

الأعلام،ط:بيروت.

الزّمخشريّ:محمود(538)

1-الكشّاف،ط:دار المعرفة،بيروت.

2-الفائق،ط:دار المعرفة،بيروت.

ص: 910

3-أساس البلاغة،ط:دار صادر،بيروت.

السّجستانيّ:محمّد(330)

غريب القرآن،ط:الفنّيّة المتّحدة،مصر.

السّكّاكيّ:يوسف(626)

مفتاح العلوم،ط:دار الكتب،بيروت.

سليمان حييم(معاصر)

فرهنگ عبريّ،فارسي،ط:إسرائيل.

السّمين:أحمد.(756)

الدّرّ المصون،ط:دار الكتب العلمية،بيروت.

السّهيليّ:عبد الرّحمن(581)

روض الأنف،ط:دار الكتب العلميّة،بيروت.

سيبويه:عمرو(180)

الكتاب،ط:عالم الكتب،بيروت.

السّيوطيّ:عبد الرّحمن(911)

1-الإتقان،ط:رضي،طهران.

2-الدّرّ المنثور،ط:بيروت.

3-تفسير الجلالين،ط:مصطفى البالي،مصر(مع أنوار التّنزيل).

سيّد قطب(1387)

في ظلال القرآن،ط:دار الشّروق،بيروت.

شبّر:عبد اللّه(1342)

الجوهر الثّمين،ط:الألفين،الكويت.

الشّربينيّ:محمّد(977)

السّراج المنير،ط:دار المعرفة،بيروت.

الشّريف الرّضيّ:محمّد(406)

1-تلخيص البيان،ط:بصيرتي،قم.

2-حقائق التّأويل،ط:البعثة،طهران.

الشّريف العامليّ:محمّد(1138)

مرآة الأنوار،ط:آفتاب،طهران.

الشّريف المرتضى:عليّ(436)

الأمالي،ط:دار الكتب،بيروت.

شريعتي:محمّد تقي(1407)

تفسير نوين،ط:فرهنگ إسلامى،طهران.

شوقي ضيف(معاصر)

تفسير سورة الرّحمن،ط:دار المعارف بمصر.

الشّوكانيّ:محمّد(1250)

فتح القدير،دار المعرفة،بيروت.

الصّابونيّ:محمّد عليّ(معاصر)

روائع البيان،ط:الغزاليّ،دمشق.

الصّاحب:إسماعيل(385)

المحيط في اللّغة،ط:عالم الكتب،بيروت.

الصّغانيّ:حسن(650)

1-التّكملة،ط:دار الكتب،القاهرة.

2-الأضداد،ط:دار الكتب،بيروت.

صدر المتألهين:محمّد(1059)

تفسير القرآن،ط:بيدار،قم.

الصّدوق:محمّد(381)

التّوحيد،ط:النّشر الإسلاميّ،قم.

طه الدّرّة:محمّد علي

تفسير القرآن الكريم و إعرابه و بيانه،ط:دار الحكمة،دمشق.

الطّباطبائيّ:محمّد حسين(1402)

ص: 911

الميزان،ط:إسماعيليان،قم.

الطّبرسيّ:فضل(548)

مجمع البيان،ط:الإسلاميّة،طهران.

الطّبريّ:محمّد(310)

1-جامع البيان،ط:دار الكتب العلميّة،بيروت.

2-اخبار الأمم و الملوك،ط:الاستقامة،القاهرة.

الطّريحيّ:فخر الدّين(1085)

1-مجمع البحرين،ط:المرتضويّة،طهران.

2-غريب القرآن،ط:النّجف.

طنطاوي:جوهريّ(1358)

الجواهر،ط:مصطفى البابيّ،مصر.

الطّوسيّ:محمّد(460)

التّبيان،ط:النّعمان،النّجف.

عبد الجبّار:أحمد(415)

1-تنزيه القرآن،ط:دار النّهضة،بيروت.

2-متشابها لقرآن،ط:دار التّراث،القاهرة.

عبد الرّزّاق نوفل(معاصر)

الإعجاز العدديّ،ط:دار الشّعب،القاهرة.

عبد الفتّاح طبّارة(معاصر)

مع الأنبياء،ط:دار العلم،بيروت.

عبد الكريم الخطيب(معاصر)

التّفسير القرآنيّ،ط:دار الفكر،بيروت.

عبد اللّطيف البغداديّ(629)

ذيل الفصيح،ط:التّوحيد،القاهرة.

عبد المنعم الجمّال:محمّد(معاصر)

التّفسير الفريد،ط:بإذن مجمع البحوث الإسلاميّ الأزهر.

العدنانيّ:محمّد(1360)

1-معجم الأغلاط،ط:مكتبة لبنان،بيروت.

2-معجم الأخطاء الشّائعة،ط:مكتبة لبنان، بيروت.

العروسيّ:عبد عليّ(1112)

نور الثّقلين،ط:إسماعيليان،قم.

عزّة دروزة:محمّد(1400)

تفسير الحديث،ط:دار إحياء الكتب القاهرة.

العكبريّ:عبد اللّه(616)

التّبيان،ط:دار الجيل،بيروت.

علي أصغر حكمت(معاصر)

نه گفتار در تاريخ أديان،ط:أدبيّات،شيراز.

العيّاشيّ:محمّد(نحو 320)

التّفسير،ط:الإسلاميّة،طهران.

الفارسيّ:حسن(377)

الحجّة،ط:دار المأمون،بيروت.

الفاضل المقداد:عبد اللّه(826)

كنز العرفان،ط:المرتضويّة،طهران.

الفخر الرّازيّ:محمّد(606)

التّفسير الكبير،ط:عبد الرّحمن،القاهرة.

فرات الكوفيّ:ابن إبراهيم(نحو 300)

تفسير فرات الكوفيّ،ط:وزارة الثّقافة و الإرشاد الإسلاميّ،طهران.

الفرّاء:يحيى(207)

معاني القرآن،ط:ناصر خسرو،طهران.

ص: 912

فريد وجديّ:محمّد(1373)

المصحف المفسّر،ط:دار مطابع الشّعب،بيروت.

فضل اللّه:محمّد حسين(معاصر)

من وحي القرآن،ط:دار الملاك،بيروت.

الفيروزآباديّ:محمّد(817)

1-القاموس المحيط،ط:دار الجيل،بيروت.

2-بصائر ذوي التّمييز،ط:دار التّحرير،القاهرة.

الفيّوميّ:أحمد(770)

مصباح المنير،ط:المكتبة العلميّة،بيروت.

القاسميّ:جمال الدّين(1332)

محاسن التّأويل،ط:دار إحياء الكتب،القاهرة.

القاليّ:إسماعيل(356)

الأمالي،ط:دار الكتب،بيروت.

القرطبيّ:محمّد(671)

الجامع لأحكام القرآن،ط:دار إحياء التّراث بيروت.

القشيريّ:عبد الكريم(465)

لطائف الإشارات،ط:دار الكتاب،القاهرة.

القمّيّ:عليّ(328)

تفسير القرآن،ط:دار الكتاب،قم.

القيسيّ:مكّيّ(437)

مشكل إعراب القرآن،ط:مجمع اللّغة،دمشق.

الكاشانيّ:محسن(1091)

الصّافيّ،ط:الأعلميّ،بيروت.

الكرمانيّ:محمود(505)

أسرار التّكرار،ط:المحمّديّة،القاهرة.

الكلينيّ:محمّد(329)

الكافي:ط:دار الكتب الإسلاميّة،طهران.

لويس كوستاز(معاصر)

قاموس سريانيّ-عربيّ،ط:الكاثوليكيّة،بيروت.

لويس معلوف(1366)

المنجد في اللّغة،ط:دار المشرق،بيروت.

الماورديّ:عليّ(450)

النّكت و العيون،ط:دار الكتب،بيروت.

المبرّد:محمّد(286)

الكامل،ط:مكتبة المعارف،بيروت.

المجلسيّ:محمّد باقر(1111)

بحار الأنوار،ط:دار إحياء التّراث،بيروت.

مجمع اللّغة:جماعة(معاصرون)

معجم الألفاظ،ط:آرمان،طهران.

محمّد إسماعيل إبراهيم(معاصر)

معجم الألفاظ و الأعلام،ط:دار الفكر،القاهرة.

محمود شيت خطّاب(معاصر)

المصطلحات العسكريّة،ط:دار الفتح،بيروت.

المدنيّ:عليّ(1120)

أنوار الرّبيع،ط:النّعمان،نجف.

المدينيّ:محمّد(581)

المجموع المغيث،ط:دار المدنيّ،جدّه.

المراغيّ:محمّد مصطفى(1364)

1-تفسير سورة الحجرات،ط:الأزهر،مصر.

2-تفسير سورة الحديد،ط:الأزهر،مصر.

المراغيّ:أحمد مصطفى(1371)

ص: 913

تفسير القرآن،ط:دار إحياء التّراث،بيروت.

مشكور:محمّد جواد(معاصر)

فرهنگ تطبيقى،ط:كاويان،طهران.

المشهديّ:محمّد(1125)

كنز الدّقائق،مؤسّسة النّشر الإسلاميّ،قم.

المصطفويّ:حسن(معاصر)

التّحقيق،ط:دار التّرجمة،طهران.

معرفة:محمّد هادى(1427)

التّفسير و المفسّرون،ط:الجامعة الرّضوية،مشهد.

مغنيّة:محمّد جواد(1400)

التّفسير الكاشف،ط:دار العلم للملايين،بيروت.

مقاتل:ابن سليمان(150)

1-تفسير مقاتل،ط:دار إحياء التّراث العربيّ، بيروت.

2-الأشباه و النّظائر،ط:المكتبة العربيّة،مصر.

المقدسيّ:مطهّر(355)

البدء و التّاريخ،ط:مكتبة المثنّى،بغداد.

مكارم الشّيرازيّ:ناصر(معاصر)

الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل،ط:بيروت.

الميبديّ:أحمد(520)

كشف الأسرار،ط:أمير كبير،طهران.

الميلانيّ:محمّد هادي(1384)

تفسير سورتي الجمعة و التّغابن،ط:مشهد.

النّحّاس:أحمد(338)

معاني القرآن،ط:مكّة المكرّمة.

النّسفيّ:أحمد(710)

مدارك التّنزيل،ط:دار الكتاب،بيروت.

النّهاونديّ:محمّد(1370)

نفحات الرّحمن،ط:سنگى،علمى[طهران].

النّيسابوريّ:حسن(728)

غرائب القرآن،ط:مصطفى البابيّ،مصر.

هارون الأعور:ابن موسى(249)

الوجوه و النّظائر،ط:دار الحرّيّة،بغداد.

هاكس:الإمريكيّ(معاصر)

قاموس كتاب مقدّس ط:مطبعة الإمريكيّ بيروت.

الهرويّ:أحمد(401)

الغريبين،ط:دار إحياء التّراث.

الهمذانيّ:عبد الرّحمن(329)

الألفاظ الكتابيّة،ط:دار الكتب،بيروت.

هوتسما:مارتن تيودر(1362)

دائرة المعارف الإسلاميّة،ط:جهان،طهران.

الواحديّ:عليّ.(468)

الوسيط،ط:دار الكتب العلميّة،بيروت.

اليزيديّ:يحيى(202)

غريب القرآن،ط:عالم الكتب،بيروت.

اليعقوبيّ:أحمد(292)

التّاريخ،ط:دار صادر،بيروت.

يوسف خيّاط(؟)

الملحق بلسان العرب،ط:أدب الحوزة،قم.

ص: 914

فهرس الأعلام المنقول عنهم بالواسطة

أبان بن عثمان.(200)

إبراهيم التّيميّ.(؟)

ابن أبي إسحاق:عبد اللّه.(129)

ابن أبي عبلة:إبراهيم.(153)

ابن أبي نجيح:يسار.(131)

ابن إسحاق:محمّد.(151)

ابن الأعرابيّ:محمّد.(231)

ابن أنس:مالك.(179)

ابن برّيّ:عبد اللّه.(582)

ابن بزرج:عبد الرّحمن.؟)

ابن بنت العراقيّ(704)

ابن تيميّة:أحمد.(728)

ابن جريج:عبد الملك.(150)

ابن جنّيّ:عثمان.(392)

ابن الحاجب:عثمان.(646)

ابن حبيب:محمّد.(245)

ابن حجر:أحمد بن عليّ.(852)

ابن حجر:أحمد بن محمّد.(974)

ابن حزم:عليّ(456)

ابن حلزة:....(؟)

ابن خروف:عليّ.(609)

ابن ذكوان:عبد الرّحمن.(202)

ابن رجب:عبد الرّحمن.(795)

ابن الزّبير:عبد اللّه.(73)

ابن زيد:عبد الرّحمن.(182)

ابن سميقع:محمّد.(؟)

ابن سيرين:محمّد.(110)

ابن سينا:عليّ.(428)

ابن الشّخّير:مطرّف.(542)

ابن شريح:....(؟)

ابن شميّل:نضر.(203)

ابن الشّيخ:...(؟)

ابن عادل.(؟)

ابن عامر:عبد اللّه.(118)

ابن عبّاس:عبد اللّه.(68)

ابن عبد الملك:محمّد.(244)

ص: 915

ابن عساكر(؟)

ابن عصفور:عليّ(696)

ابن عطاء:واصل.(131)

ابن عقيل:عبد اللّه.(769)

ابن عمر:عبد اللّه.(73)

ابن عيّاش:محمّد.(193)

ابن عيينة:سفيان.(198)

ابن فورك:محمّد.(406)

ابن كثير:عبد اللّه.(120)

ابن كعب القرظيّ:محمّد.(117)

ابن الكلبيّ:هشام.(204)

ابن كمال باشا:أحمد.(940)

ابن كمّونة:سعد.(683)

ابن كيسان:محمّد(299)

ابن ماجه:محمّد.(273)

ابن مالك:محمّد.(672)

ابن مجاهد:أحمد.(324)

ابن محيصن:محمّد.(123)

ابن مسعود:عبد اللّه.(32)

ابن المسيّب:سعيد.(94)

ابن ملك:عبد اللّطيف.(801)

ابن المنير:عبد الواحد.(733)

ابن النّحّاس:محمّد.(698)

ابن هانئ:....(؟)

ابن هرمز:عبد الرّحمن.(117)

ابن الهيثم:داود.(316)

ابن الورديّ:عمر.(749)

ابن وهب:عبد اللّه.(197)

ابن يسعون:يوسف.(542)

ابن يعيش:عليّ.(643)

أبو بحريّة:عبد اللّه.(80)

أبو بكر الإخشيد:أحمد.(366)

أبو بكر الأصمّ:....(201)

أبو الجزال الأعرابيّ.(؟)

أبو جعفر القارئ:يزيد.(132)

أبو الحسن الصّائغ.(؟)

أبو حمزة الثّماليّ:ثابت.(150)

أبو حنيفة:النعمان.(150)

أبو حيوة:شريح.(203)

أبو داود:سليمان.(275)

أبو الدّرداء:عويمر.(32)

أبو دقيش:....(؟)

أبو ذرّ:جندب.(32)

أبو روق:عطيّة.(؟)

أبو زياد:عبد اللّه.(؟)

أبو سعيد الخدريّ:سعد.(74)

أبو سعيد البغداديّ:أحمد.(285)

أبو سعيد الخرّاز:أحمد.(285)

أبو سليمان الدّمشقيّ:عبد الرّحمن.(215)

أبو السّمال:قعنب.(؟)

أبو شريح الخزاعيّ.(؟)

أبو صالح.(؟)

ص: 916

أبو الطّيّب اللّغويّ.(؟)أبو العالية:رفيع.(90)

أبو عبد الرّحمن:عبد اللّه.(74)

أبو عبد اللّه:محمّد.(؟)

أبو عثمان الحيريّ:سعيد.(289)

أبو العلاء المعرّيّ:أحمد.(449)

أبو عليّ الأهوازيّ:حسن.(446)

أبو عليّ مسكويه:أحمد.(421)

أبو عمران الجونيّ:عبد الملك.(؟)

أبو عمرو ابن العلاء:زبّان.(154)

أبو عمرو الجرميّ:صالح.(225)

أبو الفضل الرّازيّ.(؟)

أبو قلابة:....(104)

أبو مالك:عمرو.(؟)

أبو المتوكّل:عليّ.(؟)

أبو مجلز:لاحق.(؟)

أبو محلّم:محمّد.(245)

أبو مسلم الأصفهانيّ:محمّد.(322)

أبو منذر السّلاّم:....(؟)

أبو موسى الأشعريّ:عبد اللّه.(44)

أبو نصر الباهليّ:أحمد.(231)

أبو هريرة:عبد الرّحمن.(59)

أبو الهيثم:....(276)

أبو يزيد المدنيّ:...(؟)

أبو يعلى:أحمد.(307)

أبو يوسف:يعقوب.(182)

أبيّ بن كعب.(21)

أحمد بن حنبل.(24)

الأحمر:عليّ.(194)

الأخفش الأكبر:عبد الحميد.(177)

إسحاق بن بشير.(206)

الأسديّ.(؟)

إسماعيل بن القاضي.(؟)

الأصمّ:محمّد.(346)

الأعشى:ميمون.(148)

الأعمش:سليمان.(148)

إلياس:....(؟)

أنس بن مالك.(93)

الأمويّ:سعيد.(200)

الأوزاعيّ:عبد الرّحمن.(157)

الأهوازيّ:حسن.(446)

الباقلاّنيّ:محمّد.(403)

البخاريّ:محمّد.(256)

براء بن عازب.(71)

البرجيّ:عليّ.ذ(؟)

البرجميّ:ضابئ.(؟)

البقليّ.(؟)

البلخيّ:عبد اللّه.(319)

البلّوطيّ:منذر.(355)

بوست:جورج ادوارد.(1327)

التّرمذيّ:محمّد.(279)

ثابت البنانيّ.(127)

ص: 917

الثّعلبيّ:أحمد.(427)

الثّوريّ:سفيان.(161)

جابر بن زيد.(93)

الجبّائيّ:محمّد.(303)

الجحدريّ:كامل.(231)

جمال الدّين الأفغانيّ.(1315)

الجنيد البغداديّ:ابن محمّد.(297)

جهرم بن صفوان.(128)

الحارث بن ظالم.(22 ق)

الحدّاديّ:....(؟)

الحرّانيّ:محمّد.(560)

الحسن بن يسار.(110)

حسن بن حيّ.(؟)

حسن بن زياد.(204)

حسين بن فضل.(548)

حفص:بن عمر.(246)

حمّاد بن سلمة.(167)

حمزة القارئ.(156)

حميد:ابن قيس.(؟)

الحوفيّ:عليّ.(430)

خصيف:....(؟)

الخطيب التّبريزيّ:يحيى.(502)

الخفاجيّ:عبد اللّه.(466)

خلف القارئ.(299)

الخويّيّ:محمّد.(693)

الخياليّ:أحمد.(862)

الدّقّاق.(؟)

الدّمامينيّ:محمّد.(827)

الدّوانيّ.(918)

الدّينوري:أحمد.(282)

الرّبيع بن أنس.(139)

ربيعة بن سعيد(؟)

الرّضيّ الأستراباديّ.(686)

الرّمّانيّ:عليّ.(384)

رويس:محمّد.(238)

الزّناتيّ.(؟)

الزّبير:بن بكّار.(256)

الزّجّاجيّ:عبد الرّحمن.(337)

الزّهراويّ:خلف(427)

الزّهريّ:محمّد.(128)

زيد بن أسلم.(136)

زيد بن ثابت.(45)

زيد بن عليّ.(122)

السّدّيّ:إسماعيل.(128)

سعد بن أبي وقّاص.(55)

سعد المفتيّ.(؟)

سعيد بن جبير.(95)

سعيد بن عبد العزيز.(167)

السّلميّ القارئ:عبد اللّه.(74)

السّلميّ:محمّد.(412)

سليمان بن جمّاز المدنيّ.(170)

سليمان بن موسى.(119)

ص: 918

سليمان التّيميّ.(؟)

سهل التّستريّ.(283)

السّيرافيّ:حسن.(368)

الشّاذليّ.(؟)

الشّاطبيّ(؟)

الشّافعيّ:محمّد.(204)

الشّبليّ:دلف.(334)

الشّعبيّ:عامر.(103)

شعيب الجبئيّ.(؟)

الشّقيق بن إبراهيم.(194)

الشّلوبينيّ:عمر.(645)

شمر:بن حمدويه.(255)

الشّمنّيّ:أحمد(872)

الشّهاب:أحمد.(1069)

شهاب الدّين القرافيّ.(684)

شهر بن حوشب.(100)

شيبان بن عبد الرّحمن.(؟)

شيبة الضّبّيّ.(؟)

شيذلة:عزيزيّ.(494)

صالح المريّ.(؟)

الصّيقليّ:محمّد.(565)

الضّبّيّ:يونس.(182)

الضّحّاك:بن مزاحم.(105)

طاوس:بن كيسان.(106)

الطّبقجليّ:أحمد.(1213)

طلحة بن مصرّف.(112)

الطّيّبيّ:حسين.(743)

عائشة:بنت أبي بكر.(58)

عاصم الجحدريّ.(128)

عاصم القارئ.(127)

عامر بن عبد اللّه.(55)

عبّاس بن الفضل.(186)

عبد الرّحمن بن أبي بكرة.(96)

عبد العزيز:....(612)

عبد اللّه بن أبي ليلى.(؟)

عبد اللّه بن الحارث.(86)

عبد اللّه الهبطيّ.(؟)

عبد الوهّاب النّجّار.(1360)

عبيد بن عمير.(؟)

العتكيّ:عبّاد.(181)

العدويّ:....(؟)

عصام الدّين:عثمان.(1193)

عصمة بن عروة.(؟)

العطاء:بن أسلم.(114)

عطاء بن سائب.(136)

عطاء الخراسانيّ:ابن عبد اللّه.(135)

عكرمة بن عبد اللّه.(105)

العلاء بن سيّابة.(؟)

عليّ بن أبي طلحة.(143)

عمارة بن عائد.(؟)

عمر بن ذرّ.(153)

عمرو بن عبيد(144)

ص: 919

عمرو بن ميمون.(؟)

عيسى بن عمر.(149)

العوفيّ:عطيّة.(111)

العينيّ:محمود.(855)

الغزاليّ:محمّد.(505)

الغزنويّ:....(582)

الفارابيّ:محمّد.(339)

الفاسيّ(؟)

الفضل الرّقاشي.(200)

قتادة بن دعامة.(118)

القزوينيّ:محمّد.(739)

قطرب:محمّد.(206)

القفّال:محمّد.(328)

القلانسي:محمّد.(521)

كراع النّمل:عليّ.(309)

الكسائيّ:عليّ.(189)

كعب الأحبار:ابن ماتع.(32)

الكعبيّ:عبد اللّه.(319)

الكفعميّ:إبراهيم(905)

الكلبيّ:محمّد.(146)

كلنبويّ.(؟)

الكيا الطّبريّ(؟)

اللّؤلؤيّ:حسن.(204)

اللّحيانيّ:عليّ.(220)

اللّيث بن المظفّر.(185)

الماتريديّ:محمّد.(333)

المازنيّ:بكر.(249)

مالك بن أنس.(179)

مالك بن دينار.(131)

المالكيّ(؟)

الملويّ.(؟)

مجاهد:جبر.(104)

المحاسبيّ:حارث.(243)

محبوب:....(؟)

محمّد أبي موسى.(؟)

محمّد بن حبيب.(245)

محمّد بن الحسن.(189)

محمد بن شريح الأصفهانيّ.(؟)

محمّد عبده:ابن حسن خير اللّه.(1323)

محمّد الشّيشنيّ.(؟)

مروان بن الحكم.(65)

المسهر بن عبد الملك.(؟)

مصلح الدّين اللاّري:محمّد.(979)

معاذ بن جبل.(18)

معتمر بن سليمان.(187)

المغربيّ:حسين.(418)

المفضّل الضّبّيّ:ابن محمّد.(182)

مكحول:بن شهراب.(112)

المنذريّ:محمّد.(329)

المهدويّ:أحمد.(440)

مؤرّج السّدوسيّ:ابن عمر.(195)

موسى بن عمران.(604)

ص: 920

ميمون بن مهران.(117)

النّخعيّ:إبراهيم.(96)

نصر بن عليّ.(؟)

نعّوم بك:بن بشّار.(1340)

نفطويه:ابراهيم.(323)

النّقّاش:محمّد.(351)

النّوويّ:يحيى.(676)

هارون بن حاتم.(728)

الهذليّ:قاسم.(175)

همّام بن حارث.(؟)

ورش:عثمان.(197)

وهب بن جرير.(207)

وهب بن منبّه.(114)

يحيى بن جعدة.(؟)

يحيى بن سعيد.(؟)

يحيى بن سلاّم.(200)

يحيى بن وثّاب.(103)

يحيى بن يعمر.(129)

يزيد بن أبي حبيب.(128)

يزيد بن رومان.(130)

يزيد بن قعقاع.(132)

يعقوب بن اسحاق.(202)

اليمانيّ:عمر.(؟)

ص: 921

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.