عنوان و نام پديدآور : المعجم فی فقه لغه القرآن و سر بلاغته/ اعداد قسم القرآن لمجمع البحوث الاسلامیه؛ بارشاد و اشراف محمد واعظ زاده الخراسانی.
مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی، 1419ق. = -1377.
مشخصات ظاهری : ج.
فروست : الموسوعة القرآنیة الکبری.
شابک : دوره 964-444-179-6 : ؛ دوره 978-964-444-179-0: ؛ 1430000 ریال (دوره، چاپ دوم) ؛ 25000 ریال: ج. 1 964-444-180-X : ؛ 30000 ریال: ج. 2 964-444-256-3 : ؛ 32000 ریال: ج. 3 964-444-371-3 : ؛ 67000 ریال (ج. 10) ؛ ج.12 978-964-971-136-2 : ؛ ج.19 978-600-06-0028-0 : ؛ ج.21 978-964-971-484-4 : ؛ ج.28 978-964-971-991-7 : ؛ ج.30 978-600-06-0059-4 : ؛ 1280000 ریال: ج.36 978-600-06-0267-3 : ؛ 950000 ریال: ج.37 978-600-06-0309-0 : ؛ 1050000 ریال: ج.39 978-600-06-0444-8 : ؛ 1000000 ریال: ج.40 978-600-06-0479-0 : ؛ ج.41 978-600-06-0496-7 : ؛ ج.43 978-600-06-0562-9 :
يادداشت : عربی.
يادداشت : جلد سی و ششم تا چهلم باشراف جعفر سبحانی است.
يادداشت : جلد سی و ششم با تنقیح ناصر النجفی است.
يادداشت : جلد سی و هفتم تا چهل و سوم با تنقیح علیرضا غفرانی و ناصر النجفی است.
يادداشت : مولفان جلد چهل و یکم ناصر نجفی، محمدحسن مومن زاده، سیدعبدالحمید عظیمی، سیدحسین رضویان، علی رضا غفرانی، محمدرضا نوری، ابوالقاسم حسن پور، سیدرضا سیادت، محمد مروی ...
يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: 1420ق. = 1378).
يادداشت : ج. 3 (چاپ اول: 1421ق. = 1379).
يادداشت : ج.3 (چاپ دوم: 1429ق. = 1387).
يادداشت : ج. 10 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).
يادداشت : ج.21 (چاپ اول: 1441ق.=1399) (فیپا).
يادداشت : ج.36 (چاپ دوم : 1440ق.=1398)(فیپا).
يادداشت : ج.37 (چاپ اول : 1440ق.=1397)(فیپا).
يادداشت : ج.39 (چاپ اول: 1441ق.=1399) ( فیپا).
يادداشت : ج.40 - 41(چاپ اول: 1442ق.= 1399) (فیپا).
يادداشت : جلد دوازدهم تا پانزدهم این کتاب در سال 1398 تجدید چاپ شده است.
يادداشت : ج.19 و 28 و 30 ( چاپ دوم: 1442ق = 1400 ) (فیپا).
يادداشت : ج.21 (چاپ دوم: 1399).
يادداشت : ج.38 (چاپ دوم: 1399).
يادداشت : ج.30 (چاپ دوم: 1399).
يادداشت : ج.29 (چاپ دوم: 1399).
يادداشت : ج.12 (چاپ چهارم: 1399).
يادداشت : ج.32 (چاپ دوم: 1399).
مندرجات : ج.3. ال و - ا ن س
موضوع : قرآن -- واژه نامه ها
Qur'an -- Dictionaries
موضوع : قرآن -- دایره المعارف ها
Qur'an -- Encyclopedias
شناسه افزوده : واعظ زاده خراسانی، محمدِ، 1385-1304.
شناسه افزوده : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -
شناسه افزوده : Sobhani Tabrizi, Jafar
شناسه افزوده : نجفی، ناصر، 1322 -
شناسه افزوده : غفرانی، علیرضا
شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی. گروه قرآن
شناسه افزوده : بنیاد پژوهش های اسلامی
رده بندی کنگره : BP66/4/م57 1377
رده بندی دیویی : 297/13
شماره کتابشناسی ملی : 582410
اطلاعات رکورد کتابشناسی : فیپا
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
المؤلّفون
الأستاذ محمّد واعظ زاده الخراسانيّ
ناصر النّجفيّ
قاسم النّوريّ
محمّد حسن مؤمن زاده
حسين خاك شور
السيّد عبد الحميد عظيمي
السيّد جواد سيّدي
السيّد حسين رضويان
علي رضا غفراني
محمّد رضا نوري
السيّد علي صبّاغ دارابي
أبو القاسم حسن پور
و قد فوّض عرض الآيات و ضبطها إلى أبي الحسن الملكيّ و مقابلة النّصوص
إلى خضر فيض اللّه و عبد الكريم الرّحيميّ و تنضيد الحروف إلى المؤلّفين
ص: 5
ص: 6
المقدّمة 9
ت م م 11
ت ن و ر 53
ت و ب 63
ت و ر 201
ت وراة 207
ت ي ن 217
ت ي ه 227
حرف الثّاء 241
ث ب ت 243
ث ب ر 273
ث ب ط 289
ث ب ي 295
ث ج ج 303
ث خ ن 309
ث ر ب 319
ث ر ي 327
ث ع ب 337
ث ق ب 355
ث ق ف 365
ث ق ل 375
ث ل ث 437
ث ل ل 515
ث م ر 529
ث م م 563
ث م ن 575
ث م و د 591
ث ن ى 609
ث و ب 687
ث و ر 733
ث و ي 749
ث ي ب 763
حرف الجيم 769
جالوت 771
ج أ ر 775
ج ب ب 781
ج ب ت 793
ج ب ر 799
جبريل 837
ج ب ل 845
الأعلام المنقول عنهم بلا واسطة و اسماء كتبهم 909
الأعلام المنقول عنهم بالواسطة 915
ص: 7
ص: 8
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
نحمد اللّه تعالى على نعمائه كلّها،و نصلّي و نسلّم على رسوله المصطفى نبيّنا محمّد و على آله الطّيّبين الطّاهرين و صحبه المنتجبين.
ثمّ نشكره تعالى على أن وفّقنا لتأليف المجلّد الثّامن من موسوعتنا القرآنيّة:
«المعجم في فقه لغة القرآن و سرّ بلاغته»،و تقديمه إلى روّاد العلوم القرآنيّة،و المختصّين بمعرفة لغاته،و أسرار بلاغته،و رموز إعجازه،و طرائف تفسيره.
و قد اشتمل هذا الجزء على شرح(37)مفردة قرآنيّة من حرف الباء،ابتداء من (ت م م)و انتهاء ب(ج ب ل)من حرف الجيم،و أوسع الكلمات فيه بحثا و تنقيبا هي (ت و ب).
نسأله تعالى،و نبتهل إليه أن يتمّ علينا نعمته و يكمل لنا رحمته و يساعدنا و يأخذ بأيدينا،و يسدّد خطانا بما يضارع الأمل في استمرار العمل،إنّه خير ظهير،و بالإجابة جدير.
محمّد واعظزاده الخراسانيّ مدير قسم القرآن بمجمع البحوث الإسلاميّة
ص: 9
ص: 10
13 لفظا،22 مرّة:10 مكّيّة،12 مدنيّة
في 12 سورة:6 مكّيّة،6 مدنيّة
تمّ 1:1 أتممت 1:-1
تمّت 3:3 أتممناها 1:1
تماما 1:1 يتمّ 6:2-4
أتمّها 1:1 لأتمّ 1:-1
أتمّهنّ 1:-1 أتمم 1:-1
أتممت 1:1 أتمّوا 3:-3
متمّ 1:-1
الخليل :تمّ الشّيء يتمّ تماما،و تمّمه اللّه تتميما و تتمّة.
و تتمّة كلّ شيء:ما يكون تماما لغايته،كقولك:
هذه الدّراهم تمام هذه المئة،و تتمّة هذه المئة.
و التّمّ:الشّيء التّامّ،يقال:جعلته تمّا،أي بتمامه.
و التّميمة:قلادة من سيور،و ربّما جعلت«العوذة» الّتي تعلّق في أعناق الصّبيان.[ثمّ استشهد بشعر]
و في حديث ابن مسعود:«إنّ التّمائم و الرّقى و التّولة من الشّرك».
و أتممته إتماما:علّقت عليه التّميمة.
و استتمّ نعمة اللّه بالشّكر.
و التّمتمة في الكلام:ألاّ يبيّن اللّسان،يخطئ موضع الحرف فيرجع إلى لفظ،كأنّه التّاء و الميم.و رجل تمتام.
و تمّم الرّجل،إذا صار تميميّ الرّأي و الهوى.
و التّمام:أطول ليلة في السّنة،و يقال:ليلة التّمام ثلاث،لا يستبان فيها نقصان من زيادة.
و قيل:بل ليلة أربع عشرة،و هي ليلة البدر،و هي اللّيلة الّتي يتمّ فيها القمر فيصير بدرا.
و التميم في لغة:التّمام.[ثمّ استشهد بشعر]
و التّميم:الشّديد.
و يقال:أبى قائلها إلاّ تمّا،أي أبى إلاّ أن يتمّ على
ص: 11
ما قال.(8:111)
سيبويه :و أمّا تقيّس و تنزّر و تتمّم،فإنّما يجري على نحو:كسّرته فتكسّر،كأنّه قال:تمّم فتتمّم،و قيّس فتقيّس،كما قالوا:نزّرهم فتنزّروا.(4:66)
من العرب من يقول:هذه تميم،يجعله اسما للأب و يصرف،و منهم من يجعله اسما للقبيلة فلا يصرف.
قالوا:تميم بنت مرّ،فأنّثوا،و لم يقولوا:ابن.
(ابن منظور 12:71)
الضّبّيّ: أبى قائلها إلاّ تمّا و تمّا و تمّا،ثلاث لغات، يعني تمام الكلام.(إصلاح المنطق:86)
أبو عمرو الشّيبانيّ: ليل تمام،إذا كان اللّيل ثلاث عشرة ساعة إلى خمس عشرة ساعة.
(الأزهريّ 14:262)
ليل التّمام:ستّة أشهر؛ثلاثة أشهر حين تزيد على ثنتي عشرة ساعة،و ثلاثة أشهر حين ترجع.
(الأزهريّ 14:262)
باب«فعال و فعال»بمعنى واحد،ألقت ولدها لغير تمام و تمام،و لغير تمّ.(إصلاح المنطق:104)
ابن شميّل: ليل التمام في الشّتاء:أطول ما يكون اللّيل،و يكون لكلّ نجم هويّ من اللّيل يطلع فيه حتّى تطلع كلّها فيه،فهذا ليل التّمام.(الأزهريّ 14:262)
مثله ابن السّكّيت.(414)
ليلة السّواء:ليلة ثلاث عشرة،و فيها يستوي القمر،و هي ليلة التّمام.
و ليلة تمام القمر هذا بفتح التّاء،و الأوّل بالكسر.
(الأزهريّ 14:263)
أبو زيد:التّمتام:هو الّذي يعجل في الكلام، و لا يكاد يفهمك.(الأزهريّ 14:261)
تمام الشّيء:ما تمّ به،بالفتح لا غير.
(ابن سيده 9:469)
الأصمعيّ: ليل التّمام في الشّتاء:أطول ما يكون من اللّيل.و يطول ليل التّمام حين تطلع فيه النّجوم كلّها،و هي ليلة ميلاد عيسى عليه السّلام،و النّصارى تعظّمها و تقوم فيها.(الأزهريّ 14:262)
ولدته للتّمام بالألف و اللاّم،و لا يجيء نكرة إلاّ في الشّعر.(ابن منظور 12:68)
اللّحيانيّ: التّميم في الأيسار:أن ينقص الأيسار في الجزور،فيأخذ رجل ما بقي حتّى يتمّم الأنصباء.
(الأزهريّ 14:263)
أبو عبيد: في حديث عبد اللّه:«إنّ التّمائم و الرّقى و التّولة من الشّرك»إنّما أراد بالرّقى و التّمائم عندي:
ما كان بغير لسان العربيّة ممّا لا يدرى ما هو،فأمّا الّذي يحبّب المرأة إلى زوجها فهو عندنا من السّحر.
(2:190)
التّميم:الصّلب.[ثمّ استشهد بشعر]
ولد فلان لتمام و تمام،و ليل التّمام بالكسر لا غير.
(الأزهريّ 14:261)
التّميم:الشّديد.
و التّميمة:عوذة تعلّق على الإنسان.
(الجوهريّ 5:1878)
ابن الأعرابيّ: تمّ،إذا كسر،و تمّ،إذا بلغ.
(الأزهريّ 14:261)
ص: 12
كلّ ليلة طالت عليك فلم تنم فهي ليلة التّمام،أو هي كليلة التّمام.(الأزهريّ 14:262)
إذ فاز قدح الرّجل مرّة بعد مرّة فأطعم لحمه المساكين،سمّي متمّما.[ثمّ استشهد بشعر]
(الأزهريّ 14:263)
التّمّ:النّاس (1)،و جمعه:تممة.
و التّميم:الطّويل،و التّميم:العوذ،واحدتها:تميمة.
(الأزهريّ 14:263)
و تمّمهم:أطعمهم نصيب قدحه.[ثمّ استشهد بشعر]
(ابن سيده 9:470)
ابن السّكّيت: قالوا:تمّمت الكسر تتميما، و ذلك إذا كان عنتا فأبنته.(128)
مثله القاليّ.(2:30)
و ليلة ثلاث عشرة عفراء،و هي ليلة السّواء فيها يستوي القمر،و هي ليلة التّمام.يقال:هذه ليلة تمام القمر و ليلة التّمام،و هو وفاء ثلاث عشرة.(397)
الرّيّاشيّ: نهار نحب،مثل ليل تمام:أطول ما يكون.
(الأزهريّ 14:262)
المبرّد: [في حكاية]«فرجعا عنه و أتمّ إلى قومه» يروى أتمّ بألف و تمّ بغير ألف و نمّ بالنّون،و معنى«تمّ إلى قومه»أي نفذ.(1:359)
ثعلب :تمّمت المولود:علّقت عليه التّمائم.
(ابن سيده 9:470)
الزّجّاج: يقال:تمّ اللّه عليه النّعمة و أتمّ عليه،إذا أسبغها.(فعلت و أفعلت:6)
ابن دريد :تمّ يتمّ تماما.
و امرأة حبلى:متمّ.و ولد الغلام لتمّ و تمام.
و بدر تمام بالكسر،و كذلك ليل تمام.و كلّ شيء بعد هذا فهو تمام،بفتح التّاء.(1:42)
ليل التّمام:أطول ليلة في السّنة،و هو السّابع عشر من كانون الأوّل،و يقال:ليل التّمام:ليل الغموم.
(1:230)
ناقة متمّ،و كذلك المرأة،إذا تمّت أيّام حملها.
(3:445)
ليل التّمام بالكسر لا غير،و لا تنزع منه الألف و اللاّم فيقال:ليل تمام.
فأمّا في الولد فيجوز الكسر و الفتح و نزع الألف و اللاّم،فيقال:ولد الولد لتمام و لتمام.
و أمّا ما سواهما فلا يكون فيه إلاّ الفتح،يقال:خذ تمام حقّك و بلغ الشّيء تمامه.
فأمّا المثل فبالكسر،و هو قولهم:«أبى قائلها إلاّ تمّا».
(ذيل الأماليّ: 6)
الأزهريّ: في حديث ابن مسعود:«إنّ التّمائم و الرّقى و التّولة من الشّرك».
قلت:التّمائم:واحدتها تميمة،و هي خرزات كانت الأعراب يعلّقونها على أولادهم،يتّقون بها النّفس و العين بزعمهم،و هو باطل.[ثمّ استشهد بشعر]
و جعلها ابن مسعود:«من الشّرك»لأنّهم جعلوها واقية من المقادير و الموت،فكأنّهم جعلوا للّه شريكا فيما قدّر و كتب من آجال العباد و الأعراض الّتي تصيبهم.س.
ص: 13
و لا دافع لما قضى،و لا شريك له عزّ و جلّ فيما قدّر.
قلت:و من جعل التّمائم سيورا فغير مصيب.و أمّا قول الفرزدق:
و كيف يضلّ العنبريّ ببلدة
بها قطعت عنه سيور التّمائم
فإنّه أضاف السّيور إلى التّمائم،لأنّ التّمائم خرز يثقب و يجعل فيها سيور و خيوط تعلّق بها،و لم أر بين الأعراب خلافا أنّ التّميمة هي الخرزة نفسها.[إلى أن قال:]
و روي عن عائشة أنّها قالت:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقوم اللّيلة التّمام فيقرأ سورة البقرة و آل عمران و سورة النّساء،و لا يمرّ بآية إلاّ دعا اللّه فيها.
و يقال:سافرنا شهرنا ليل التّمام لا نعرّسه.
و هذه ليالي التّمام،أي شهرا في ذلك الزّمان.
و يقال:ليل التّمام،و ليل تماميّ أيضا.
(14:260)
الصّاحب:[قال نحو ما تقدّم عن الخليل و أضاف:]
و التّمم:التّام الخلق،و كذلك التّميم،و هو الشّديد الخلق أيضا.
و حملته المرأة لتمام و لتمام.
و المتمّ:الّتي تمّت أيّام حملها،أتمّت إتماما.
و تتاممت الشّيء أتتاممه،إذا رجّيته و تبلّغت به.
و بقيت فيه تمامة و تمّة.
و التّمّ:المسحاة.و قيل:الفأس،و جمعه:تممة.
و تمّ الشّيء:أي كسر.و التّتمّم:التّكسّر.
و تمّم على الجريح،إذا أجهز عليه.
و التّمّة و التّمّى:ما تطلبه المرأة من صوف أو شعر لتتمّ به نسجها،و هي المستتمّة.و يقولون:أتمّونا من جزاز غنمكم.و يسمّى الجزاز:التّمّيّ و التّميمة.
و تمّى:اسم امرأة سمّيت بذلك.
و المتمّ في البطن:منقطع عرق السّرّة.
و الصّالغ من الشّتاء يقال له:التّمم،و جمعه:أتمام.
و هو في الخيل:بعد القروح.
و المتمّم:الّذي يتمّم للقوم ثمن جزورهم.و هو أيضا أن يطعم فوز قدحه تامّا.(9:417)
الخطّابيّ: في حديث سليمان أنّه قال:«الجذع التّامّ التّمم يجزئ».
التّمم:التّامّ،و أصله:تمّ،فأظهروا الميمين لمّا ردّوه إلى الأصل.يقال:تامّ و تمّ بمعنى واحد.(3:52)
ابن جنّيّ: و التّميمة:خرزة رقطاء تنظم في السّير، ثمّ تعقد في العنق،و هي التّمائم و التّميم.
(ابن سيده 9:470)
الجوهريّ: تمّ الشّيء تماما،و أتمّه غيره،و تمّمه و استتمّه بمعنى.
و أتمّت الحبلى فهي متمّ،إذا تمّت أيّام حملها.
و ولدت لتمام و تمام،و ولد المولود لتمام و تمام.و قمر تمام و تمام،إذا تمّ ليلة البدر.
و ليل التّمام مكسور لا غير،و هو أطول ليلة في السّنة.[ثمّ استشهد بشعر]
و يقال:أبى قائلها إلاّ تمّا و تمّا و تمّا،ثلاث لغات،أي تماما،و مضى على قوله و لم يرجع عنه، و الكسر أفصح.[ثمّ استشهد بشعر]
ص: 14
و في الحديث:«من علّق تميمة فلا أتمّ اللّه له».
و يقال:هي خرزة.و أمّا المعاذات إذا كتب فيها القرآن و أسماء اللّه عزّ و جلّ فلا بأس بها.
و التّمتام:الّذي فيه تمتمة،و هو الّذي يتردّد في التّاء.
و تتامّوا،أي جاءوا كلّهم و تمّوا.[ثمّ استشهد بشعر]
(5:1877)
ابن فارس: التّاء و الميم أصل واحد منقاس،و هو دليل الكمال،يقال:تمّ الشّيء،إذا كمل،و أتممته أنا.
و من هذا الباب التّميمة،كأنّهم يريدون أنّها تمام الدّواء و الشّفاء المطلوب.[إلى أن قال:]
و تتميم الأيسار:أن تطعمهم فوز قدحك، فلا تنتقص منه شيئا.[ثمّ استشهد بشعر]
و المستتمّ:الّذي يطلب شيئا من صوف أو وبر يتمّ به نسج كسائه.[ثمّ استشهد بشعر]
و الموهوب:تمّة و تمّة.
و أمّا قوله:المتتمّم المتكسّر،فقد يكون من هذا، لأنّه يتناهى حتّى يتكسّر.و يجوز أن يكون التّاء بدلا من ثاء،كأنّه متثمّم،و هو الوجه.و ينشد فيه:
*كانهياض المتعب المتتمّم*(1:339)
أبو هلال :الفرق بين قولك:تماما له،و تماما عليه،في قوله تعالى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ الأنعام:154،أنّ«تماما له»يدلّ على نقصانه قبل تكميله،و«تماما عليه»يدلّ على نقصانه فقط،لأنّه يقتضي مضاعفة عليه.(256)
أبو سهل الهرويّ: و ولد المولود لتمام و تمام،إذا ولد تمّت شهوره تسعة.
و ليل التّمام مكسور التّاء لا غير،و هي أتمّ ما يكون اللّيل،أي أطول.
و قيل:ليل التّمام أن تكون ساعاتها ثلاث عشرة إلى أربع عشرة.(التّلويح في شرح الفصيح:84)
ابن سيده: تمّ الشّيء يتمّ تمّا،و تمّا،و تمّا، و تمامة،و تماما،و تمّة.
و تمام الشّيء،و تمامته،و تتمّته:ما تمّ به.
و أتمّ الشّيء،و أتمّ به،و تمّمه،و تمّ به يتمّ:جعله تامّا.[ثمّ استشهد بشعر]
و ليل التّمام بالكسر لا غير:أطول ما يكون من ليالي الشّتاء.و قيل:هي ثلاث لا يستبان نقصانها.
و قيل:هو إذا بلغت اثنتي عشرة ساعة فما زاد.
و ولدت المرأة لتمّ،و تمام،و تمام،إذا ولدته و قد تمّ خلقه.
و أتمّت المرأة و هي متمّ:دنا ولادها.
و أتمّت النّاقة و هي متمّ:دنا نتاجها.
و أتمّ النّبت:اكتهل.
و أتمّ القمر:امتلأ فبهر،و هو بدر تمام،و بدر تمام، و تمام.
و تمّم على الجريح،أجهز.
و تمّ على الشّيء:أكمله.[ثمّ استشهد بشعر]
و استتمّ النّعمة:سأل إتمامها.
و جعله تمّا،أي تماما.
و تمّم الكسر فتمّم،و تتمّم:انصدع و لم يبن، و قيل:إذا انصدع ثمّ بان.
ص: 15
و قالوا:أبى قائلها إلاّ تمّا،و تمّا،و تمّا.
و التّميم:التّامّ الخلق.
و التّميم:الشّديد.[ثمّ استشهد بشعر]
و قيل:التّميم:التّامّ الخلق الشّديد،من النّاس و الخيل.
و قيل:هي[التّميمة]قلادة يجعل فيها سيور و عوذ.
و المتمّ:منقطع عرق السّرّة.
و التّمم و التّمم من الشّعر و الوبر و الصّوف كالجزز، الواحدة:تمّة.فأمّا التّمم فأراه اسما للجمع.
و استتمّه:طلب منه التّمم.
و أتمّه:أعطاه إيّاها.
و التّامّ من الشّعر:ما يمكن أن يدخله الزّحاف فيسلم منه.و قد تمّ الجزء تماما.
و قيل:المتمّم:كلّ ما زدت عليه بعد اعتدال البيت حرفين،و كانا من الجزء الّذي زدته عليه،نحو:
«فاعلاتن»في ضرب الرّمل،سمّي متمّما لأنّك تمّمت أصل الجزء.
و رجل متمّم،إذا فاز قدحه مرّة بعد مرّة،فأطعم لحمه المساكين.
و تمّم الرّجل:صار هواه تميميّا.و تمّم:انتسب إلى تميم.[ثمّ استشهد بشعر]
و التّمتمة:ردّ الكلام إلى التّاء و الميم،و قيل:هو أن يعجل بكلامه فلا يكاد يفهمك و قيل:هو أن يعجل بكلامه،و قيل:هو أن تسبق كلمته إلى حنكه الأعلى.
و رجل تمتام،و الأنثى:تمتامة.(9:469)
ليلة السّواء:هي ليلة أربع عشرة من الشّهر،أو ثلاث عشرة،فيها يستوي القمر و يكمل؛و ذلك إذا اتّسق،و اتّساقه:استواؤه.
و قيل:لأنّه يستوي في ليلها و نهارها.
و أسوينا:صرنا في ليلة السّواء.
ليلة التّمام:ليلة السّواء.(الإفصاح 2:918)
الطّوسيّ: و التّمام و الكمال و الوفاء نظائر.
و ضدّ التّمام:النّقصان.يقال:تمّ تماما،و أتمّ إتماما، و استتمّ استتماما،و تمّم تتميما و تتمّة.
و تتمّة كلّ شيء:ما يكون تمامه بغايته،كقولك:هذه الدّراهم تمام هذه المئة،و تتمّة هذه المئة.
التّمّ:الشّيء التّمام،تقول:جعلته لك تماما،أي بتمامه.[إلى أن قال:]
و أصل الباب:التّمام و هو الكمال.(1:446)
نحوه الطّبرسيّ.(1:199)
الرّاغب: تمام الشّيء:انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه،و النّاقص:ما يحتاج إلى شيء خارج عنه.و يقال ذلك للمعدود و الممسوح،تقول:عدد تامّ و ليل تامّ.[ثمّ ذكر آيات](75)
الزّمخشريّ: سليمان بن يسار رضي اللّه عنه:
«الجذع التّام التّمم يجزئ في الصّدقة».أراد بالتّامّ:
الّذي استوفى الوقت الّذي يسمّى فيه جذعا كلّه،و بلغ أن يسمّى ثنيّا.و بالتّمم:التّامّ الخلق.و مثله في الصّفات خلق عمم و بطل و حسن يجزئ،أي يقضي في الأضحيّة.
(الفائق 1:155)
تمّ تماما،و أتمّه و تمّمه،و استتمّه،و استتمّ نعمة اللّه
ص: 16
بالشّكر.و ذهبت فلانة إلى جارتها تستتمّها،أي تطلب منها تمّة و هي ما تتمّ به نسجها من صوف أو شعر أو وبر.
[ثمّ استشهد بشعر]
و هذه الدّراهم تمام المئة و تتمّتها.و قد تمّمت المئة تتمّة.
و رجل تميم،و امرأة تميمة:تامّا الخلق وثيقاه.
و اجتمعوا فتتامّوا عشرة.و جعلته لك تمّا،أي بتمامه.[ثمّ استشهد بشعر]
و أبى قائلها إلاّ تمّا،أي تماما و مضيّا فيها.
و أحيا ليل التّمام و التّمام،و هو أطول ليلة في السّنة.[ثمّ استشهد بشعر]
و هذه ليلة التّمام و التّمام:للّيلة تمام القمر.و ولدت لتمام و تمام.و ألقت ولدها لغير تمام و تمام.و قد أتمّت فهي متمّ،كما تقول:مقرب و مدن للّتي دنا نتاجها.[ثمّ استشهد بشعر]
و صبيّ متمّم:علّقت عليه التّمائم.و تممت عنه العين أتمّها تمّا،أي دفعتها عنه بتعليق التّميمة عليه.و في الحديث:«من علّق تميمة فلا أتمّ اللّه له».
و من المجاز:تمّم على الجريح،إذا أجهز عليه.و تمّ على أمره:مضى عليه.و تمّ على أمرك،و تمّ إلى مقصدك.و تمّ تمامه.(أساس البلاغة:39)
المدينيّ: في حديث أسماء:«خرجت و أنا متمّ».
المتمّ،من ذوات الحمل:الّتي تمّت مدّة حملها و شارفت الوضع،و التّمام بالكسر فيها،و في ليل التّمام،فأمّا سائرهما فتمام بالفتح.
و في الحديث:«أعوذ بكلمات اللّه التّامّات».إنّما وصف كلامه تبارك و تعالى بالتّمام،لأنّه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب،كما يكون في كلام الآدميّين.
و وجه آخر:و هو أنّ كلّ كلمة كانت على حرفين فهي عند العرب ناقصة.و التّامّة:ما كانت في الأصل على ثلاثة أحرف.و قد أخبر اللّه سبحانه و تعالى أنّه: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82،و كلمة (كن)ناقصة في الهجاء،فنفى صلّى اللّه عليه و سلّم النّقص عن كلمات اللّه تعالى قطعا للأوهام،و إعلاما أنّ حكم كلامه خلاف كلام الآدميّين،و إن نقص هجاؤه في الكتابة لا يسلبه صفة التّمام و الكمال.
و قيل:معنى التّمام هاهنا أنّها تنفع المتعوّذ بها و تشفيه و تحفظه من الآفات و تكفيه.
و كان أحمد بن حنبل:يستدلّ به على أنّ القرآن غير مخلوق،لأنّه ما من مخلوق إلاّ و فيه نقص.
و في حديث الدّعاء عند الأذان:«اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة».إنّما وصفها بالتّمام،لأنّها أيضا ذكر اللّه عزّ و جلّ،يدعى بها إلى عبادة اللّه تعالى،و هذه الأشياء هي الّتي تستحقّ صفة الكمال و التّمام،و ما سواها من أمور الدّنيا يعرض له النّقص و الفساد.
في الحديث:«فتتامّت إليه قريش»أي توافرت.
و من حديث معاوية:«إن تممت على ما تريد» مخفّف.يقال:تمّ على الأمر،أي استمرّ عليه و تمّمه.
(1:241)
ابن الأثير: في حديث عائشة رضي اللّه عنها:
«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقوم ليلة التّمام»هي ليلة أربع
ص: 17
عشرة من الشّهر،لأنّ القمر يتمّ فيها نوره.و تفتح تاؤه و تكسر.
و قيل:ليل التّمام بالكسر،أطول ليلة في السّنة.
[ثمّ ذكر أحاديث و قال:]
و الحديث الآخر:«من علّق تميمة فلا أتمّ اللّه له».
كأنّهم كانوا يعتقدون أنّها تمام الدّواء و الشّفاء،و إنّما جعلها شركا،لأنّهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم،فطلبوا دفع الأذى من غير اللّه الّذي هو دافعه.
(1:197)
الفيّوميّ: تمّ الشّيء يتمّ بالكسر:تكمّلت أجزاؤه، و تمّ الشّهر:كملت عدّة أيّامه ثلاثين فهو تامّ.و يعدّى بالهمزة و التّضعيف،فيقال:أتممته و تمّمته،و الاسم:
التّمام بالفتح.
و تتمّة كلّ شيء بالفتح:تمام غايته.
و استتمّه مثل أتمّه،و قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ البقرة:196،قال ابن فارس:معناه ائتوا بفروضهما.
و إذا تمّ القمر يقال:ليلة التّمام بالكسر و قد يفتح، و ولد الولد لتمام الحمل بالفتح و الكسر.و ألقت المرأة الولد لغير تمام بالوجهين.
و تمّ الشّيء يتمّ،إذا اشتدّ و صلب فهو تميم،و به سمّي الرّجل.
و تمتم الرّجل تمتمة،إذا تردّد في التّاء،فهو تمتام بالفتح.و قال أبو زيد:هو الّذي يعجل في الكلام و لا يفهمك.(1:77)
الفيروزآباديّ: تمّ يتمّ تمّا و تماما مثلّثتين و تمامة و يكسر.
و أتمّه و تمّمه و استتمّه و تمّ به و عليه:جعله تامّا، و تمام الشّيء و تمامته و تتمّته:ما يتمّ به.
و ليل التّمام ككتاب و ليل تماميّ: أطول ليالي الشّتاء،أو هي ثلاث لا يستبان نقصانها،أو هي إذا بلغت اثنتي عشرة ساعة فصاعدا.
و ولدته لتمّ و تمام و يفتح الثّاني،أي تمام الخلق.
و أتمّت فهي متمّ:دنا ولادها،و النّبت:اكتهل، و القمر:امتلأ فبهر،فهو بدر تمام،و يكسر و يوصف به.
و استتمّ النّعمة:سأل إتمامها.
و تمّم الكسر:انصدع و لم يبن،أو انصدع ثمّ بان، كتمّ (1)فيهما.
و على الجريح:أجهز،و القوم:أعطاهم نصيب قدحه،و صار هواه أو رأيه أو محلّته تميميّا،كتتمّم.
و الشّيء:أهلكه و بلّغه أجله.
و التّميم:التّامّ الخلق،و الشّديد،و جمع تميمة كالتّمائم،لخرزة رقطاء تنظم في السّير،ثمّ يعقد في العنق.
و تمّم المولود تتميما،علّقها عليه.
و المتمّ بفتح التّاء:منقطع عرق السّرّة.
و التّمم كصرد و عنب:الجزز من الشّعر و الوبر و الصّوف،الواحدة:تمّة.
و التّمّ بالفتح:اسم الجمع:و بالكسر:الفأس و المسحاة.
و استتمّه:طلبها منه،فأتمّه:أعطاه إيّاها.
و التّمّة و التّمّى بضمّهما ذلك الموهوب.م.
ص: 18
و كسحاب:ثلاثة صحابيّون...
و من العروض:ما استوفى نصفه نصف الدّائرة، و كان نصفه الأخير بمنزلة الحشو يجوز فيه ما جاز فيه،أو ما يمكن أن يدخله الزّحاف فيسلم منه.
و المتمّم كمعظّم:كلّ ما زدت عليه بعد اعتدال.
و كمحدّث:من فاز قدحه مرّة بعد مرّة،فأطعم لحمه المساكين،أو نقص أيسار جزور الميسر فأخذ ما بقي حتّى يتمّم الأنصباء.
و التّمتمة:ردّ الكلام إلى التّاء و الميم،أو أن تسبق كلمته إلى حنكه الأعلى،فهو تمتام و هي تمتامة، و كثمامة:البقيّة.
و التّمتام لقب محمّد بن غالب الصّبيّ التّمّار، و كشدّاد:جماعة.
و تتامّوا،أي جاءوا كلّهم و تمّوا.
و التّتمّم بالضّمّ:من كان به كسر يمشي به ثمّ أبتّ فتتمّم.
و التّمتم:السّمّاق.(4:85)
السّيوطيّ: قاعدة في الألفاظ يظنّ بها التّرادف، و ليست منه؛و من ذلك:التّمام و الكمال،و قد اجتمعا في قوله: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي المائدة:3.
فقيل:الإتمام:نقصان لإزالة نقصان الأصل، و الإكمال:لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل،و لهذا كان قوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ البقرة:196،أحسن من«تامّة»،فإنّ التّمام من العدد قد علم،من«تامّة»، فإنّ التّمام من العدد قد علم،و إنّما نفى احتمال نقص في صفاتها.
و قيل:«تمّ»يشعر بحصول نقص قبله،و«كمل» لا يشعر بذلك.
و قال العسكريّ: الكمال:اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به،و التّمام:اسم للجزء الّذي يتمّ به الموصوف،و لهذا يقال:القافية تمام البيت،و لا يقال:
كماله،و يقولون:البيت بكماله،أي باجتماعه.[لاحظ ك م ل](2:367)
الطّريحيّ: فيه:«اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة» أي دعوة إلى الصّلاة تامّة،في إلزام الحجّة و إيجاب الإجابة.أو التّامّة الّتي لا يدخلها تغيير بل باقية إلى يوم النّشور.
و قيل:وصفها بالتّمام لأنّها ذكر اللّه،و يدعى بها إلى عبادته؛و ذلك هو الّذي يستحقّ صفات الكمال و التّمام.
و في حديث الكفن:«المفروض ثلاثة أثواب تامّ لا أقلّ منه».قوله:«تامّ»خبر مبتدإ محذوف،أي و هو تامّ،و الضّمير للكفن.
و في حديث عبد اللّه بن جعفر الجعفريّ: «قال لمّا نفرت من منى نويت المقام بمكّة فأتممت الصّلاة،ثمّ جاءني خبر من المنزل فلم أدر أتمّ أم أقصّر؟فقصصت القصّة على أبي الحسن عليه السّلام،قال:ارجع إلى التّقصير» هكذا صحّ الحديث.و لا يخفى منافاته لما اشتهر به الفتوى.
و حمل الشّيخ[الطّوسيّ]:الإتمام فيه على صلاة النّافلة،و بعض المتأخّرين«فأتمّ»بقرينة قوله:«لمّا نفرت من منى نويت المقام»و النّيّة في ذلك الوقت ليس
ص: 19
إلاّ للإتمام،انتهى،و هو قريب.(6:22)
العدنانيّ: في تمام السّاعة الثّامنة و النّصف.
و يخطّئون من يقول:جاء في تمام السّاعة الثّامنة و النّصف،و يقولون:إنّ كلمة«تمام»لا تستعمل إلاّ مع العدد الصّحيح،و لم أعثر على المصدر المعقول،و السّبب المنطقيّ اللّذين اعتمدوا عليهما في تخطئتهم هذه.
فتمام الشّيء لغة،هو ما يتمّ به الشّيء،و مثله:تمامته، و تمامته،و تتمّته.فنصف السّاعة تمامه الدّقيقة الثّلاثون، و الدّقيقة نفسها تمامها الثّانية السّتّون.
و هذا يجعلني عاجزا عن إيجاد مسوّغ لتضييقهم هذا.و لا أرى بأسا في قولنا:
1-سيزورني في تمام السّاعة الثّامنة.
أو:2-سيزورني في تمام السّاعة الثّامنة و الرّبع.
أو:3-سيزورني في تمام الثّامنة و النّصف.
أو:4-سيزورني في تمام السّاعة الثّامنة و الدّقيقة العاشرة.
فما هو رأي مجامعنا؟(100)
محمّد إسماعيل إبراهيم:تمّ الشّيء تمّا و تماما:
كملت أجزاؤه،و تمّ الأمر:تحقّق و نفذ،و أتمّ العمل و تمّمه:جعله تامّا،و تماما،أي إتماما للمراد،أو زيادة.
(1:92)
نحوه مجمع اللّغة.(1:161)
المصطفويّ: فالتّمام:ما كملت أجزاؤه، و لا يحتاج إلى شيء خارج في اكتماله،و يقابله النّاقص، و هو ما لم يتمّ.و أغلب استعمال التّمام في الكمّيّات،كما أنّ أغلب استعمال الكمال في الكيفيّات.
و أيضا:أنّ التّمام يصدق حيث كملت الأجزاء، و الكمال إذا أضيفت إليها خصوصيّات أخر،يزيدها حسنا و بهاء و تماما على تمام.(1:376)
وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... الأعراف:142
ابن جريج:فبلغ ميقات ربّه أربعين ليلة.
(الطّبريّ 9:48)
الطّبريّ: فكمل الوقت الّذي واعد اللّه موسى أربعين ليلة و بلغها.(9:8)
الماورديّ: يعني أنّ اجتماع الأجلين تمام أربعين ليلة،ليدلّ بذلك على أنّ العشر هي ليال و ليست ساعات.
فإن قيل:فمعلوم أنّ العشر مع الثّلاثين مستكملة أربعين،فما معنى قوله: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها:أنّه تأكيد في الذّكر فلم يمتنع.
و الثّاني:كان وعده إلى الجبل الّذي كلّمه فيه.
و الثّالث:لينفي تمام الثّلاثين بالعشر أن يكون من جملة الثّلاثين،لأنّ تمام الشّيء بعض منه.(2:256)
الطّوسيّ: و معناه فتمّ الميقات أربعين ليلة.
و إنّما قال ذلك،مع أنّ ما تقدّم دلّ على هذا العدد، لأنّه لو لم يورد الجملة بعد التّفصيل-و هو الّذي يسمّيه
ص: 20
الكتّاب الفذلكة-لظنّ قوله: وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ أي كمّلنا الثّلاثين بعشر حتّى كملت ثلاثين،كما يقال:تمّمت العشرة بدرهمين و سلّمها إليه.(4:565)
نحوه الطّبرسيّ.(2:473)
الفخر الرّازيّ: [طرح سؤالين:الأوّل:ما الحكمة في ذكر الثّلاثين ثمّ إتمامها بعشر؟و أجاب عنه بوجوه:
1-أمر اللّه بصوم ثلاثين يوما من ذي القعدة،فلمّا أتمّها أنكر خلوف فيه فاستاك،فقالت له الملائكة:كنّا نشمّ من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسّواك فأمره اللّه بعشرة أيّام أخرى.
2-أنزلت التّوراة بعد إتمام الثّلاثين فزاده عشرة أخرى.
3-إنّه بادر إلى ميقات ربّه قبل قومه،فلمّا أعلمه اللّه خبر السّامريّ رجع إلى قومه،ثمّ عاد في عشرة أخرى.
4-الوعد الأوّل حضره موسى وحده،و الثّاني مع قومه.
و الثّاني:قوله: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كلام عار عن الفائدة؟و أجاب عنه بأنّه إزالة لتوهّم أنّ العشرة من تمام الثّلاثين هذا ملخّص كلامه.]
(14:226)
الآلوسيّ: من قبيل الفذلكة لما تقدّم،و كأنّ النّكتة في ذلك أنّ إتمام الثّلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر، و هو ضمّ عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين.
و يحتمل أنّها كانت عشرين فتمّت بعشرة ثلاثين، كما يقال:أتممت العشرة بدرهمين،على معنى لو لا الدّرهمان لم تصر عشرة؛فلدفع توهّم الاحتمال الثّاني جيء بذلك.
و قيل:إنّ الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها بتعيين اللّه تعالى أو بإرادة موسى عليه السّلام،فجيء بما ذكر ليفيد أنّ المراد الأوّل.
و قيل:جيء به رمزا إلى أنّه لم يقع في تلك العشر ما يوجب الجبر.(9:43)
1- وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. الأنعام:115
الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و كملت كلمة ربّك، يعني القرآن.(8:9)
الهرويّ: أي حقّت و وجبت.(1:262)
مثله الطّريحيّ.(6:21)
الماورديّ: يعني القرآن،و في تمامه أربعة أوجه محتملة:
أحدها:تمام حججه و دلائله.
و الثّاني:تمام أحكامه و أوامره.
و الثّالث:تمام إنذاره بالوعد و الوعيد.
و الرّابع:تمام كلامه و استكمال صوره.(2:160)
الطّوسيّ: و معنى وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أنّها بتمامها موافقة لما توجبه المصلحة،من غير زيادة و لا نقصان.
و التّمام و الكمال و الاستيفاء نظائر،و أنّ جميعه صدق لا كذب فيه،كما يقال:كمل فلان إذا تمّت محاسنه.
و في الآية دلالة على أنّ كلام اللّه محدث،لأنّه وصفه بالتّمام و العدل؛و ذلك لا يكون إلاّ حادثا.[إلى أن قال:]
ص: 21
و يجوز أن يكون المراد بقوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أنّها أتتك شيئا بعد شيء حتّى كملت.(4:267)
ابن عطيّة: (تمّت)في هذا الموضع بمعنى استمرّت و صحّت في الأزل صدقا و عدلا،و ليس بتمام من نقص، و مثله ما وقع في كتاب السّيرة من قولهم:و تمّ حمزة على إسلامه،في الحديث مع أبي جهل.(2:337)
الطّبرسيّ: أي كملت على وجه لا يمكن أحدا الزّيادة فيه و النّقصان منه.(2:354)
الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ هذه الآية تدلّ على أنّ كلمة اللّه تعالى موصوفة بصفات كثيرة:
الصّفة الأولى:كونها تامّة،و إليه الإشارة بقوله:
وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ. و في تفسير هذا التّمام وجوه:
الأوّل:ما ذكرنا أنّها كافية وافية،بكونها معجزة دالّة على صدق محمّد عليه الصّلاة و السّلام.
و الثّاني:أنّها كافية في بيان ما يحتاج المكلّفون إليه إلى قيام القيامة،عملا و علما.
و الثّالث:أنّ حكم اللّه تعالى هو الّذي حصل في الأزل،و لا يحدث بعد ذلك شيء،فذلك الّذي يحصل في الأزل هو التّمام،و الزّيادة عليه ممتنعة.
و هذا الوجه هو المراد من قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة».(13:160)
نحوه النّيسابوريّ(8:9)،و البروسويّ(3:90).
البيضاويّ: بلغت الغاية أخباره و أحكامه و مواعيده.(1:328)
مثله الشّربينيّ.(1:446)
رشيد رضا :أمّا تمامها صدقا فهو وقوع مضمونها من حيث كونها خبرا.و أمّا تمامها عدلا فمن حيث كونها جزاء للكافرين المعاندين للحقّ بما يستحقّون، و للمؤمنين المهتدين بما يستحقّون،و إن كانوا بمقتضى الفضل يزادون.
و إذا كانت هذه الآية نزلت بمكّة قبل نصر اللّه تعالى نبيّه على طغاة قومه في بدر و غيرهما فالفعل الماضي فيها (تمّت)بمعنى المستقبل،فهو لتحقّق وقوعه كأنّه وقع، و هذا من ضروب المبالغة البليغة.
و فيه وجه آخر:و هو أنّ المراد بالخبر هنا لازمه، و هو تأكيد ما تضمّنته هذه الآيات من تسلية النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن كفر هؤلاء المعاندين،و إيذائهم له و لأصحابه، و إيئاس الطّامعين من المسلمين في إيمانهم بإيتائهم الآيات المقترحة،كأنّه يقول:كما أنّ سنّتي مضت بأن يكون للرّسول أعداء من شياطين الإنس و الجنّ قد تمّت كلمتي بنصر المرسلين،و خذلان هؤلاء الأعداء الطّغاة المفسدين.(8:12)
المراغيّ: و تمام الشّيء،كما قال الرّاغب:انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه،و تمامها هنا:
أنّها كافية وافية في الإعجاز و الدّلالة على صدق الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم.(8:8)
مثله الحجازيّ.(8:5)
الطّباطبائيّ: [بعد بيان المراد من الكلمة قال:]
فالمراد بتمام الكلمة-و اللّه أعلم-بلوغ هذه الكلمة، أعني ظهور الدّعوة الإسلاميّة بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله،و نزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب،مرتبة الثّبوت و استقرارها في مستقرّ التّحقّق،بعد ما كانت تسير دهرا
ص: 22
طويلا في مدارج التّدريج بنبوّة بعد نبوّة و شريعة بعد شريعة،فإنّ الآيات الكريمة دالّة على أنّ الشّريعة الإسلاميّة تتضمّن جمل ما تقدّمت عليه من الشّرائع، و تزيد عليها بما ليس فيها،كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى الشّورى:13.
و بذلك يظهر معنى«تمام الكلمة»و أنّ المراد به انتهاء تدرّج الشّرائع من مراحل النّقص إلى مرحلة الكمال، و مصداقه الدّين المحمّديّ،قال تعالى: وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الصّفّ:8،9.
و تمام هذه الكلمة الإلهيّة(صدقا)هو أن يصدق القول بتحقّقها في الخارج،بالصّفة الّتي بيّن بها،و(عدلا) أن تتّصف بالتّقسيط على سواء،فلا يتخلّف بعض أجزائه عن بعض،و تزن الأشياء على النّحو الّذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف و ظلم، و لذلك بيّن هذين القيدين،أعني (صِدْقاً وَ عَدْلاً) بقوله:
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ.
فإنّ الكلمة الإلهيّة إذا لم تقبل تبديلا من مبدّل سواء كان المبدّل هو نفسه تعالى،كأن ينقض ما قضى بتبدّل إرادة،أو يخلف ميعاده،أو كان المبدّل غيره تعالى،كأن يعجزه غيره و يقهره على خلاف ما يريد،كانت كلمته (صدقا)تقع كما قال،و(عدلا)لا تنحرف عن حالها الّتي كانت عليها وصفها الّذي وصفت به؛فالجملة أعني قوله:
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ بمنزلة التّعليل يعلّل بها قوله:
صِدْقاً وَ عَدْلاً. (7:329)
محمّد حسنين مخلوف: أي كمل كلامه تعالى و هو القرآن،و بلغ الغاية،صادقا في أخباره،عادلا في أحكامه.(1:238)
2- ...وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا... الأعراف:137
مجاهد :المعنى ما سبق لهم في علمه و كلامه في الأزل،من النّجاة من عدوّهم و الظّهور عليه.
(أبو حيّان 4:376)
الماورديّ: فيها قولان:
أحدهما:أنّ تمام كلمة الحسنى:ما وعدهم من هلاك عدوّهم و استخلافهم في الأرض،بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ الأعراف:129، و سمّاها(الحسنى)لأنّه وعد بما يحبّون.
و الثّاني:و هو قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ...
القصص:5.(2:254)
الطّوسيّ: و قوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يعني صحّ كلامه بإنجاز الوعد الّذي تقدّم بإهلاك عدوّهم،و استخلافهم في الأرض،و إنّما كان الإنجاز تمام للكلام لتمام النّعمة به.(4:559)
مثله الطّبرسيّ.(2:470)
الزّمخشريّ: و معنى تمّت على بني إسرائيل:مضت عليهم و استمرّت،من قولك:تمّ على الأمر،إذا مضى عليه.(2:109)
ص: 23
مثله النّسفيّ(2:73)،و أبو حيّان(4:376).
الفخر الرّازيّ: [نحو ما تقدّم عن الزّمخشريّ و الطّوسيّ](14:122)
مثله النّيسابوريّ(9:37)،و الشّربينيّ(1:510).
البروسويّ: و تمامها[الكلمة]:مضيّها و انتهاؤها إلى الإنجاز،لأنّ العدة بالشّيء التزام لإيقاعه بالعبارة و اللّسان،و تمامها لا يكون إلاّ بوقوع الموعود في الخارج و العيان.(3:224)
الآلوسيّ: أي مضت عليهم و استمرّت من قولهم:
مضى على الأمر،إذا استمرّ.[إلى أن قال:]
و قيل:المراد بها علمه تعالى الأزليّ،و المعنى مضى و استمرّت عليهم ما كان مقدّرا من إهلاك عدوّهم و توريثهم الأرض.(9:38)
رشيد رضا :تمام الشّيء:وصوله إلى آخر حدّه، و كلمة اللّه:وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوّهم و استخلافهم في الأرض.
و في مجاز«الأساس»:و تمّ على أمر:مضى عليه، و تمّ على أمرك،و تمّ إلى مقصدك.
و المعنى نفذت كلمة اللّه و مضت على بني إسرائيل تامّة كاملة،بسبب صبرهم على الشّدائد الّتي كابدوها من فرعون و قومه؛إذ كان وعد اللّه تعالى إيّاهم بما وعدهم مقرونا بأمرهم بالصّبر و الاستعانة به و التّقوى له،كما أمرهم نبيّهم عليه السّلام تبليغا عنه تعالى.(9:100)
الطّباطبائيّ: يريد به ما قضاه في حقّهم أنّه سيورّثهم الأرض و يهلك عدوّهم،و إليه إشارة موسى عليه السّلام في قوله لهم و هو يسلّيهم و يؤكّد رجاءهم:
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ الأعراف:129،و يشير سبحانه إليه في قوله:
وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...
القصص:5.
و تمام الكلمة:خروجها من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعليّة،و علّل ذلك بصبرهم.(8:228)
3- إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ.
هود:119
ابن عبّاس: وجب قول ربّك.(الطّبرسيّ 3:204)
نحوه البروسويّ.(4:202)
الحسن :مضى حكم ربّك.(الطّبرسيّ 3:204)
الشّريف الرّضيّ: و هذه استعارة،و المراد هاهنا بتمام كلمة اللّه سبحانه:صدق وعيده الّذي تقدّم الخبر به، و تمام وقوع مخبره مطابقا لخبره.(تلخيص البيان:168)
ابن عطيّة: أي نفذ قضاؤه و حقّ أمره.(3:216)
الطّبرسيّ: أي وصل وحيه و وعيده الّذي لا خلف فيه بتمامه إلى عباده.(3:204)
القرطبيّ: معنى(تمّت)ثبت ذلك كما أخبر و قدّر في أزله،و تمام الكلمة:امتناعها عن قبول التّغيير و التّبديل.(9:115)
الآلوسيّ: أي أحكمت و أبرمت.(12:169)
نحوه القاسميّ.(9:3499)
محمّد حسنين مخلوف: وجب حكمه و قضاؤه الأزليّ.(1:377)
ص: 24
وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً... البقرة:124
ابن عبّاس: أي فأدّاهنّ.(الطّبريّ 1:529)
مثله قتادة.(أبو حيّان 1:376)
الضّحّاك: أقام بهنّ.(أبو حيّان 1:376)
الحسن :وفى بهنّ.(الطّوسيّ 1:446)
مثله الرّبيع.(أبو حيّان 1:376)
قتادة :أي عمل بهنّ فأتمّهنّ.(الطّبريّ 1:529)
مثله الرّبيع(الطّوسيّ 1:446)،و ابن أبي اليمان (أبو حيّان 1:376)،و الفرّاء(1:76)،و ابن قتيبة(63).
الطّبريّ: فأتمّ إبراهيم الكلمات،و إتمامه إيّاهنّ:
إكماله إيّاهنّ بالقيام للّه بما أوجب عليه فيهنّ،و هو الوفاء الّذي قال اللّه جلّ ثناؤه: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى النّجم:
37،يعني وفى بما عهد إليه بالكلمات،فأمره به من فرائضه و محنه فيها.(1:528)
الطّوسيّ: قال البلخيّ:الضّمير في(اتمّهنّ) راجع إلى اللّه،و هو اختيار الحسين بن عليّ المغربيّ.
قال البلخيّ: الكلمات هي الإمامة على ما قال مجاهد،قال:لأنّ الكلام متّصل،و لم يفصل بين قوله:
إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:124،و بين ما تقدّمه ب(واو)،فأتمّهنّ اللّه بأن أوجب بها الإمامة له بطاعته،و اضطلاعه،و منع أن ينال العهد الظّالمين من ذرّيّته.(1:446)
الزّمخشريّ: و قرأ أبو حنيفة رضي اللّه عنه،و هي قراءة ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: (إبراهيم ربّه) رفع إبراهيم و نصب ربّه.[إلى أن قال:]
و المستكنّ في(فاتمّهنّ)في إحدى القراءتين ل(إبراهيم)بمعنى فقام بهنّ حقّ القيام و أدّاهنّ أحسن التّأدية،من غير تفريط و توان،و نحوه: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى النّجم:37،و في الأخرى للّه تعالى،بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئا.(1:309)
مثله الفخر الرّازيّ(4:43)،و النّسفيّ(1:73)، و النّيسابوريّ(1:437)،و نحوه البيضاويّ(1:80)، و الخازن(1:89)،و أبو السّعود(1:193)،و البروسويّ (1:221).
أبو حيّان :(فاتمّهنّ)الضّمير المستكنّ في فَأَتَمَّهُنَّ يظهر أنّه يعود إلى اللّه تعالى،لأنّه هو المسند إليه الفعل قبله،على طريق الفاعليّة، (فاتمّهنّ)معطوف على(ابتلى)فالمناسب التّطابق في الضّمير.
و على هذا فالمعنى،أي أكملهنّ له من غير نقص،أو بيّنهنّ؛و البيان به يتمّ المعنى و يظهر،أو يسّر له العمل بهنّ،و قوّاه على إتمامهنّ،أو أتمّ له أجورهنّ،أو أدامهنّ سنّة فيه و في عقبه إلى يوم الدّين،أقوال خمسة.
و يحتمل أن يعود الضّمير المستكنّ على(إبراهيم)، فالمعنى على هذا:أدامهنّ أو أقام بهنّ قاله الضّحّاك،أو عمل بهنّ قاله يمان،أو وفى بهنّ قاله الرّبيع،أو أدّاهنّ قاله قتادة.خمسة أقوال تقرب من التّرادف؛إذ محصولها أنّه أتى بهنّ على الوجه المأمور به.(1:376)
الآلوسيّ: الضّمير المنصوب للكلمات لا غير، و المرفوع المستكنّ يحتمل أن يعود ل(إبراهيم)و أن يعود
ص: 25
ل(ربّه)على كلّ من قراءتي الرّفع و النّصب،فهناك أربعة احتمالات:
الأوّل:عوده على(إبراهيم)منصوبا،و معنى (اتمّهنّ)حينئذ:أتى بهنّ على الوجه الأتمّ،و أدّاهنّ كما يليق.
الثّاني:عوده على(ربّه)مرفوعا،و المعنى حينئذ:
يسّر له العمل بهنّ و قوّاه على إتمامهنّ أو أتمّ له أجورهنّ، أو أدامهنّ سنّة فيه و في عقبه إلى يوم الدّين.
الثّالث:عوده على(إبراهيم)مرفوعا،و المعنى عليه:
أتمّ إبراهيم الكلمات المدعوّ بها،بأن راعى شروط الإجابة فيها،و لم يأت بعدها بما يضيّعها.
الرّابع:عوده إلى(ربّه)منصوبا،و المعنى عليه فأعطى سبحانه(إبراهيم)جميع ما دعاه.
و أظهر الاحتمالات الأوّل و الرّابع؛إذ التّمدّح غير ظاهر في الثّاني،مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته،و الاستعمال المألوف غير متّبع في الثّالث،لأنّ الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول.(1:374)
الطّباطبائيّ: [بعد بيان المراد من الكلمات قال:]
و أمّا إتمامهنّ فإن كان الضّمير في قوله تعالى:
(فاتمّهنّ)راجعا إلى إبراهيم،كان معنى إتمامهنّ إتيانه عليه السّلام ما أريد منه،و امتثاله لما أمر به،و إن كان الضّمير راجعا إليه تعالى-كما هو الظّاهر-كان المراد توفيقه لما أريد منه،و مساعدته على ذلك.(1:270)
محمّد حسنين مخلوف:أتى بهنّ على الوجه الأكمل،و أدّاهنّ كما يليق به عليه السّلام،قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفّى النّجم:37.(1:46)
...اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. المائدة:3
ابن عبّاس: إتمام النّعمة:منع المشركين من الحجّ.
مثله ابن جبير و قتادة.(أبو حيّان 3:426)
السّدّيّ: هو الإظهار على العدوّ.(أبو حيّان 3:426)
ابن زيد :بالهداية إلى الإسلام.(أبو حيّان 3:426)
الطّوسيّ: خاطب اللّه تعالى جميع المؤمنين بأنّه أتمّ نعمته عليهم بإظهارهم على عدوّهم المشركين،و نفيهم إيّاهم عن بلادهم،و قطعه طمعهم من رجوع المؤمنين، و عودهم إلى ملّة الكفر،و انفراد المؤمنين بالحجّ و البلد الحرام.(3:436)
الزّمخشريّ: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بفتح مكّة،و دخولها آمنين ظاهرين،و هدم منار الجاهليّة و مناسكهم،و أن لم يحجّ معكم مشرك،و لم يطف بالبيت عريان،و أتممت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدّين و الشّرائع،كأنّه قال:اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي بذلك،لأنّه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام.
(1:593)
نحوه النّسفيّ(1:270)،و النّيسابوريّ(6:40)
الطّبرسيّ: [نحو الطّوسيّ و أضاف:]
قيل:معناه أتممت عليكم نعمتي بأن أعطيتكم من العلم و الحكمة ما لم يعط قبلكم نبيّ و لا أمّة.و قيل:إنّ تمام النّعمة دخول الجنّة.(2:159)
ص: 26
الفخر الرّازيّ: و معنى وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بإكمال أمر الدّين و الشّريعة،كأنّه قال:اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الإكمال، لأنّه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام.[إلى أن قال:]
فإن قيل:لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النّعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم،أو المراد به جعل هذا الشّرع بحيث لا يتطرّق إليه نسخ؟
قلنا:أمّا الأوّل:فقد عرف بقوله: اَلْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ المائدة:3،فحمل هذه الآية عليه أيضا يكون تكريرا.
و أمّا الثّاني:فلأنّ إبقاء هذا الدّين لمّا كان إتماما للنّعمة وجب أن يكون أصل هذا الدّين نعمة لا محالة، فثبت أنّ دين الإسلام نعمة.(11:139)
القرطبيّ: أي بإكمال الشّرائع و الأحكام و إظهار دين الإسلام كما وعدتكم؛إذ قلت: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ البقرة:150،و هي دخول مكّة آمنين مطمئنّين،و غير ذلك ممّا انتظمته هذه الملّة الحنيفيّة إلى دخول الجنّة،في رحمة اللّه تعالى.(6:62)
نحوه أبو حيّان.(3:426)
الآلوسيّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]
و قيل:بإتمام الهداية،و التّوفيق بإتمام سببها.
و قيل:بإكمال الدّين.
و قيل:معنى وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنجزت لكم وعدي.(6:61)
الطّباطبائيّ: الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى،قال الرّاغب:كمال الشّيء:حصول ما هو الغرض منه.و قال:
تمام الشّيء:انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه،و النّاقص:ما يحتاج إلى شيء خارج عنه.
و لك أن تحصل على تشخيص معنى اللّفظين من طريق آخر،و هو أنّ آثار الأشياء الّتي لها آثار على ضربين:فضرب منها ما يترتّب على الشّيء عند وجود جميع أجزائه-إن كان له أجزاء-بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتّب عليه ذلك الأمر،كالصّوم فإنّه يفسد إذا أخلّ بالإمساك في بعض النّهار،و يسمّى كون الشّيء على هذا الوصف بالتّمام،قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة:187،و قال: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً الأنعام:115.
و ضرب آخر:الأثر الّذي يترتّب على الشّيء من غير توقّف على حصول جميع أجزائه،بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء،فكلّما وجد جزء ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه،و لو وجد الجميع ترتّب عليه كلّ الأثر المطلوب منه،قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ البقرة:
196،و قال: وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ البقرة:185،فإنّ هذا العدد يترتّب الأثر على بعضه كما يترتّب على كلّه، و يقال:تمّ لفلان أمره و كمل عقله،و لا يقال:تمّ عقله و كمل أمره.
و أمّا الفرق بين الإكمال و التّكميل،و كذا بين الإتمام و التّتميم،فإنّما هو الفرق بين بابي الإفعال و التّفعيل، و هو أنّ«الإفعال»بحسب الأصل يدلّ[على]الدّفعة، و«التّفعيل»على التّدريج و إن كان التّوسّع الكلاميّ أو التّطوّر اللّغويّ ربّما يتصرّف في البابين،بتحويلهما إلى
ص: 27
ما يبعد من مجري المجرّد أو من أصلهما،كالإحسان و التّحسين،و الإصداق و التّصديق،و الإمداد و التّمديد،و الإفراط و التّفريط،و غير ذلك.فإنّما هي معان طرأت بحسب خصوصيّات الموارد،ثمّ تمكّنت في اللّفظ بالاستعمال.
و ينتج ما تقدّم أنّ قوله: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، يفيد أنّ المراد ب«الدّين»هو مجموع المعارف و الأحكام المشرّعة،و قد أضيف إلى عددها اليوم شيء،و أنّ النّعمة أيّا ما كانت أمر معنويّ واحد،كأنّه كان ناقصا غير ذي أثر فتمّم،و ترتّب عليه الأثر المتوقّع منه.(5:179)
المصطفويّ: فالدّين كان تماما قبل الولاية،و بها كمل و زيد له نور على نور،و لم يكن مستحسنا أن يبقى الدّين ناقصا.
و أمّا النّعم الإلهيّة الموجبة للتّنعّم،و الدّخلية في السّعة في الحياة،فالقدر اللاّزم منها في عيشهم و حياتهم كان موجودا؛و بالولاية قد تمّ العيش و السّعادة ظاهرا و معنا،كما قال تعالى: وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ يوسف:6، وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ البقرة:150، وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ المائدة:6،يريد إتمام النّعمة المتعلّقة عليهم،أي بالنّسبة إلى اقتضاء استعداداتهم و ظرفيّة وجودهم.(1:376)
1- ...ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. المائدة:6
الطّوسيّ: و يريد اللّه مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إيّاه،فيما فرض عليكم من الوضوء و الغسل إذا قمتم إلى الصّلاة مع وجود الماء،و التّيمّم مع عدمه،أن يتمّ نعمته بإباحته لكم التّيمّم،و تصييره لكم الصّعيد الطّيّب طهورا،رخصة منه لكم في ذلك،مع سوابغ نعمه الّتي أنعم بها عليكم.(3:459)
الزّمخشريّ: و ليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه.
(1:598)
الفخر الرّازيّ: ففيه وجهان:
الأوّل:أنّ الكلام متعلّق بما ذكر من أوّل السّورة إلى هنا؛و ذلك لأنّه تعالى أنعم في أوّل السّورة بإباحة الطّيّبات من المطاعم و المناكح،ثمّ إنّه تعالى ذكر بعده كيفيّة فرض الوضوء،فكأنّه قال:إنّما ذكرت ذلك لتتمّ النّعمة المذكورة أوّلا و هي نعمة الدّنيا،و النّعمة المذكورة ثانيا و هي نعمة الدّين.
الثّاني:أنّ المراد و ليتمّ نعمته عليكم أي بالتّرخّص في التّيمّم و التّخفيف في حال السّفر و المرض،فاستدلّوا بذلك على أنّه تعالى يخفّف عنكم يوم القيامة،بأن يعفو عن ذنوبكم و يتجاوز عن سيئاتكم.(11:178)
أبو حيّان :[نحو الزّمخشريّ و الفخر الرّازيّ و أضاف:]
و قيل:تبيين الشّرائع و أحكامها،فيكون مؤكّدا لقوله: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي المائدة:3،و قيل:
بغفران ذنوبهم.
و في الخبر تمام النّعمة:بدخول الجنّة،و النّجاة من
ص: 28
النّار.(3:439)
البروسويّ: بشرعه ما هو مطهّرة لأبدانكم و مكفّرة لذنوبكم (نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) في الدّين.
أو ليتمّ برخصته إنعامه عليكم بعزائمه.و الرّخصة:
ما شرّع بناء على الأعذار،و العزيمة:ما شرّع أصالة.
(2:357)
مثله الآلوسيّ.(6:82)
2- ...وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. يوسف:6
عكرمة :فنعمته على إبراهيم أن نجّاه من النّار، و على إسحاق أن نجّاه من الذّبح.(الطّبريّ 12:154)
الحسن :هذا شيء أعلمه اللّه يعقوب من أنّه سيعطي يوسف النّبوّة.(أبو حيّان 5:281)
مقاتل:بإعلاء كلمتك و تحقيق رؤياك.
(الماورديّ 3:8)
الطّبريّ: باجتبائه إيّاك،و اختياره و تعليمه إيّاك تأويل الأحاديث كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ باتّخاذه هذا خليلا،و تنجيته من النّار،و فدية هذا بذبح عظيم.
(12:154)
الماورديّ: فيه وجهان:
أحدهما:باختيارك للنّبوّة.الثّاني:[قول مقاتل و قد تقدّم]
و فيه وجه ثالث:أن أخرج إخوته إليه حتّى أنعم عليهم بعد إساءتهم إليه.(3:8)
الطّوسيّ: فإتمام النّعمة هو أن يحكم بدوامها على إخلاصها من شائب بها،فهذه النّعمة التّامّة بخلوصها ممّا ينغّصها،و لا تطلب إلاّ من اللّه تعالى،لأنّه لا يقدر عليها سواه.
و قوله: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إخبار من يعقوب ليوسف أنّ اللّه تعالى يديم عليه هذه النّعمة،كما أدامها على أبويه قبله إبراهيم و إسحاق،و اصطفاؤه إيّاهما و جعله لهما نبيّين رسولين إلى خلقه.(6:98)
الزّمخشريّ: و معنى إتمام النّعمة عليهم:أنّه وصل لهم نعمة الدّنيا بنعمة الآخرة،بأن جعلهم أنبياء في الدّنيا و ملوكا،و نقلهم عنها إلى الدّرجات العلى في الجنّة.
و قيل:أتمّها على إبراهيم بالخلّة و الإنجاء من النّار و عن ذبح الولد،و على إسحاق بإنجائه من الذّبح و فدائه بذبح عظيم،و إخراج يعقوب و الأسباط من صلبه.
(2:303)
نحوه البيضاويّ(1:487)،و النّسفيّ(2:213).
الطّبرسيّ: بالنّبوّة،لأنّها منتهى نعيم الدّنيا[ثمّ ذكر مثل الطّوسيّ و أضاف:]
و قيل:معناه و يتمّ نعمته عليك بأن يحوج إخوتك إليك حتّى تنعم عليهم،بعد إساءتهم إليك.
كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ أي كما أتمّ النّعمة على إبراهيم بالخلّة و النّبوّة و النّجاة من النّار،و على إسحاق بأن فداه عن الذّبح بذبح عظيم،عن عكرمة،و قال:إنّه الذّبيح.
و قيل:بإخراج يعقوب و أولاده من صلبه عن أكثر
ص: 29
المفسّرين،قالوا:و ليس هو الذّبيح،و إنّما الذّبيح إسماعيل.(3:210)
الفخر الرّازيّ: و اعلم أنّ من فسّر الاجتباء بالنّبوّة لا يمكنه أن يفسّر إتمام النّعمة هاهنا بالنّبوّة أيضا،و إلاّ لزم التّكرار،بل يفسّر إتمام النّعمة هاهنا بسعادات الدّنيا و سعادات الآخرة.
أمّا سعادات الدّنيا:فالإكثار من الأولاد و الخدم و الأتباع،و التّوسّع في المال و الجاه و الحشم،و إجلاله في قلوب الخلق و حسن الثّناء و الحمد.
و أمّا سعادات الآخرة:فالعلوم الكثيرة،و الأخلاق الفاضلة،و الاستغراق في معرفة اللّه تعالى.
و أمّا من فسّر الاجتباء بنيل الدّرجات العالية، فهاهنا يفسّر إتمام النّعمة بالنّبوّة،و يتأكّد هذا بأمور:
الأوّل:أنّ إتمام النّعمة عبارة عمّا به تصير النّعمة تامّة كاملة خالية عن جهات النّقصان.و ما ذاك في حقّ البشر إلاّ بالنّبوّة،فإنّ جميع مناصب الخلق دون منصب الرّسالة ناقص بالنّسبة إلى كمال النّبوّة،فالكمال المطلق و التّمام المطلق في حقّ البشر ليس إلاّ النّبوّة.
و الثّاني:قوله: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ و معلوم أنّ النّعمة التّامّة الّتي بها حصل امتياز إبراهيم و إسحاق عن سائر البشر ليس إلاّ النّبوّة، فوجب أن يكون المراد بإتمام النّعمة هو النّبوّة.
و اعلم أنّا لمّا فسّرنا هذه الآية بالنّبوّة لزم الحكم بأنّ أولاد يعقوب كلّهم كانوا أنبياء؛و ذلك لأنّه قال: وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ و هذا يقتضي حصول تمام النّعمة لآل يعقوب.فلمّا كان المراد من إتمام النّعمة هو النّبوّة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حقّ من عدا أبناءه،فوجب أن لا يبقى معمولا به في حقّ أولاده.
[إلى أن قال:]
القول الثّاني:أنّ المراد من قوله: وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ خلاصه من المحن،و يكون وجه التّشبيه في ذلك بإبراهيم و إسحاق عليهما السّلام هو إنعام اللّه تعالى على إبراهيم بإنجائه من النّار،و على ابنه إسحاق بتخليصه من الذّبح.
و القول الثّالث:أنّ إتمام النّعمة وصل نعمة اللّه عليه في الدّنيا بنعمة الآخرة،بأن جعلهم في الدّنيا أنبياء و ملوكا،و نقلهم عنها إلى الدّرجات العلى في الجنّة.
و اعلم أنّ القول الصّحيح هو الأوّل،لأنّ النّعمة التّامّة في حقّ البشر ليست إلاّ النّبوّة،و كلّ ما سواها فهي ناقصة بالنّسبة إليها.(18:90)
نحوه النّيسابوريّ(12:83)،و الشّربينيّ(1:90).
القرطبيّ: أي بالنّبوّة.و قيل:بإخراج إخوتك إليك.و قيل:بإنجائك من كلّ مكروه، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ بالخلّة،و إنجائه من النّار.(9:129)
أبو حيّان :[ذكر مثل الزّمخشريّ و أضاف:]
و قيل:بأن يحوج إخوتك إليك،فتقابل الذّنب بالغفران،و الإساءة بالإحسان.(5:281)
أبو السّعود :بأن يضمّ إلى النّبوّة المستفادة من الاجتباء الملك و يجعله تتمّة لها،و توسيط ذكر التّعليم المذكور بينهما لكونه من لوازم النّبوّة و الاجتباء،و لرعاية ترتيب الوجود الخارجيّ،و لما أشرنا إليه من كون أثره وسيلة إلى تمام النّعمة.
و يجوز أن يعدّ نفس الرّؤيا من نعم اللّه تعالى عليه،
ص: 30
فيكون جميع النّعم الواصلة إليه يحسبها مصداقا لهما، تماما لتلك النّعمة. كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ نصب على المصدريّة،أي و يتمّ نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك،و هي نعمة الرّسالة و النّبوّة.
و إتمامها على إبراهيم عليه السّلام باتّخاذه خليلا،و إنجائه من النّار و من ذبح الولد،و على إسحاق بإنجائه من الذّبح و فدائه بذبح عظيم،و بإخراج يعقوب و الأسباط من صلبه.
و كلّ ذلك نعم جليلة وقعت تتمّة لنعمة النّبوّة، و لا يجب في تحقيق التّشبيه كون ذلك في جانب المشبّه به، مثل ما وقع في جانب المشبّه من كلّ وجه.(3:366)
نحوه البروسويّ(4:216)،و الآلوسيّ(12:186- 188)
رشيد رضا :بالنّبوّة و الرّسالة و الملك و الرّئاسة.
(12:256)
عبد الكريم الخطيب :و في قوله تعالى: وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ... إشارة إلى أنّه سبحانه سيختاره للنّبوّة،و هذا هو تمام النّعمة،و كمالها لمن أنعم اللّه عليهم من عباده،و كذلك سيكون إخوته(آل يعقوب)أنبياء كما كان أبواهم إبراهيم و إسحاق نبيّين.
(6:1236)
الطّباطبائيّ: فقوله: وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ... يريد أنّ اللّه أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم،لكنّه يتمّ ذلك في حقّك و في حقّ(آل يعقوب)و هم يعقوب و زوجه و سائر بنيه،كما كان رآه في رؤياه.
و قد جعل(يوسف عليه السّلام)أصلا و(آل يعقوب) معطوفا عليه؛إذ قال: عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ...
كما يدلّ عليه الرّؤيا؛إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له، و رأى آل يعقوب في هيئة الشّمس معها القمر و أحد عشر كوكبا سجّدا له.
و قد ذكر اللّه تعالى ممّا أتمّ به النّعمة على يوسف عليه السّلام أنّه آتاه الحكم و النّبوّة و الملك و العزّة في مصر،مضافا إلى أن جعله من المخلصين،و علّمه من تأويل الأحاديث،و ممّا أتمّ به النّعمة على آل يعقوب أنّه أقرّ عين يعقوب بابنه يوسف عليهما السّلام،و جاء به و بأهله جميعا من البدو،و رزقهم الحضارة بنزول مصر.
و قوله: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ أي نظير ما أتمّ النّعمة من قبل على إبراهيم و إسحاق،و هما أبواك،فإنّه آتاهما خير الدّنيا و الآخرة.فقوله:(من قبل)متعلّق بقوله:(اتمّها)،و ربّما احتمل كونه ظرفا مستقرّا، وصفا لقوله:(ابويك)،و التّقدير كما أتمّها على أبويك الكائنين من قبل.[إلى أن قال:]
و التّدبّر في الآية الكريمة يعطي:
أوّلا:أنّ يعقوب أيضا كان من المخلصين.
و ثانيا:أنّ جميع ما أخبر به يعقوب عليه السّلام منطبق على متن ما رآه يوسف عليه السّلام من الرّؤيا.
و ثالثا:أنّ المراد بإتمام النّعمة تعقيب الولاية،برفع سائر نواقص الحياة السّعيدة،و ضمّ الدّنيا إلى الآخرة، و لا تنافي بين نسبة إتمام النّعمة إلى الجميع و بين اختصاص الاجتباء،و تعليم تأويل الأحاديث بيعقوب و يوسف عليهما السّلام من بينهم،لأنّ النّعمة و هي الولاية مختلفة الدّرجات متفاوتة المراتب؛و حيث نسبت إلى الجميع
ص: 31
يأخذ كلّ منهم نصيبه منها.
على أنّ من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر،كما في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الجاثية:16،و إيتاء الكتاب و الحكم و النّبوّة مختصّ ببعضهم دون جميعهم،بخلاف الرّزق من الطّيّبات.
و رابعا:أنّ يوسف كان هو الوسيلة في إتمام اللّه سبحانه نعمته على آل يعقوب،و لذلك جعله يعقوب أصلا في الحديث،و عطف عليه غيره حتّى ميّزه من بين آله،و أفرده بالذّكر حيث قال: وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ...
و لذلك أيضا نسب هذه العناية و الرّحمة إلى ربّه؛ حيث قال مرّة بعد مرّة:(ربّك)و لم يقل:«يجتبيك اللّه» و لا«انّ اللّه عليم حكيم»فهذا كلّه يشهد بأنّه هو الأصل في إتمام النّعمة على آل يعقوب.
و أمّا أبواه إبراهيم و إسحاق فإنّ التّعبير بما يشعر بالتّنظير كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ يخرجهما من تحت أصالة يوسف،فافهم ذلك.
(11:82-85)
3- يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. التّوبة:32
راجع «مُتِمُّ نُورِهِ» و«ن و ر».
4- وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَ.. .كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ. النّحل:81
الطّوسيّ: كما أنعم عليكم بهذه النّعم ينعم عليكم بجميع ما تحتاجون إليه،و هو إتمام نعمه في الدّنيا.و بيّن أنّه فعل ذلك لتسلموا.(6:413)
نحوه الطّبرسيّ.(3:378)
القرطبيّ: قرأ ابن محيصن و حميد (تتمّ) بتاءين (نعمته) رفعا على أنّها الفاعل.الباقون (يتمّ) بضمّ الياء على أنّ اللّه هو يتمّها.(10:161)
أبو حيّان :أي مثل ذلك الإتمام للنّعمة فيما سبق يتمّ نعمته في المستقبل.و قرأ ابن عبّاس (تتمّ) بتاء مفتوحة (نعمته) بالرّفع،أسند التّمام إليها اتّساعا.(5:524)
نحوه الآلوسيّ.(14:205)
الطّباطبائيّ: امتنان عليهم بإتمام النّعم الّتي ذكرها،و كانت الغاية المرجوّة من ذلك إسلامهم للّه عن معرفتها،فإنّ المترقّب المتوقّع ممّن يعرف النّعم و إتمامها عليه آن يسلم لإرادة منعمه،و لا يقابله بالاستكبار، لأنّ منعما هذا شأنه لا يريد به سوء.(12:315)
5- لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... الفتح:2
ابن عبّاس: إنّه بالنّبوّة و المغفرة.
(ابن الجوزيّ 7:423)
في الجنّة.(القرطبيّ 16:263)
أبو سليمان الدّمشقيّ: بإظهار دينك على سائر الأديان.(ابن الجوزيّ 7:423)
الطّبريّ: بإظهاره إيّاك على عدوّك،و رفعه ذكرك
ص: 32
في الدّنيا،و غفرانه ذنوبك في الآخرة.(26:71)
الماورديّ: فيه قولان:
أحدهما:بفتح مكّة و الطّائف و خيبر.
الثّاني:بخضوع من استكبر،و طاعة من تجبّر.
(5:310)
الطّوسيّ: فإتمام النّعمة فعل ما يقتضيها من تبقيتها على صاحبها و الزّيادة منها،فاللّه تعالى قد أنعم على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و تمّمها بنصره على أعدائه،الرّادّين لها المكذّبين بها،حتّى علا بالحجّة و القهر لكلّ من ناوأه.
و قيل:يتمّ نعمته عليك بفتح مكّة و خيبر و الطّائف.
و قيل:بخضوع من تكبّر،و طاعة من تجبّر.(9:315)
الميبديّ: تمام النّعمة هاهنا النّبوّة و ثوابها،نظيره في سورة يوسف:6، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ.
و قيل: وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء دينك،و فتح البلاد على يدك.(9:207)
نحوه النّسفيّ.(4:157)
ابن عطيّة: و إتمام النّعمة عليه هو إظهاره و تغلّبه على عدوّه و الرّضوان في الآخرة.(5:126)
الطّبرسيّ: معناه و يتمّ نعمته عليك في الدّنيا بإظهارك على عدوّك،و إعلاء أمرك،و نصرة دينك، و بقاء شرعك،و بالآخرة برفع محلّك.[ثمّ ذكر نحو الطّوسيّ](5:111)
الفخر الرّازيّ: يحتمل وجوها:
أحدها:هو أنّ التّكاليف عند الفتح تمّت حيث وجب الحجّ،و هو آخر التّكاليف،و التّكاليف نعم.
ثانيها:يتمّ نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك،فإنّ يوم الفتح لم يبق للنّبيّ عليه الصّلاة و السّلام عدوّ ذو اعتبار،فإنّ بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر،و الباقون آمنوا و استأمنوا يوم الفتح.
ثالثها:و يتمّ نعمته عليك في الدّنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح،و في الآخرة بقبول شفاعتك في الذّنوب، و لو كانت في غاية القبح.(28:78)
مثله النّيسابوريّ(26:41)،و الشّربينيّ(4:38).
القرطبيّ: قيل:بالنّبوّة و الحكمة.[ثمّ ذكر مثل الماورديّ](16:263)
البيضاويّ: بإعلاء الدّين و ضمّ الملك إلى النّبوّة.
(2:399)
أبو حيّان :بإظهارك على عدوّك،و رضاه عنك، و بفتح مكّة و الطّائف و خيبر.(8:90)
البقاعيّ: بنقلتك من عالم الشّهادة إلى عالم الغيب،و من عالم الكون و الفساد إلى عالم الثّبات و الصّلاح الّذي هو أخصّ بحضرته،و أولى برحمته، و إظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل.
(الشّربينيّ 4:38)
أبو السّعود :بإعلاء الدّين و ضمّ الملك إلى النّبوّة و غيرهما،ممّا أفاضه عليه من النّعم الدّينيّة و الدّنيويّة.
(6:98)
مثله الآلوسيّ.(26:91)
المراغيّ: بإعلاء شأن دينك،و انتشاره في البلاد، و رفع ذكرك في الدّنيا و الآخرة.(26:83)
محمّد جواد مغنية: بانتصارك على أعداء اللّه
ص: 33
و أعدائك،و بعلوّ شأنك دنيا و آخرة.(7:84)
الطّباطبائيّ: قيل:أي يتمّها عليك في الدّنيا بإظهارك على عدوّك و إعلاء أمرك و تمكين دينك،و في الآخرة برفع درجتك.
و قيل:أي يتمّها عليك بفتح خيبر و مكّة و الطّائف.
(18:257)
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ... وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
البقرة:150
الإمام عليّ عليه السّلام:تمام النّعمة الموت على الإسلام.
(البغويّ 1:182)
ابن عبّاس: و لأتمّ نعمتي عليكم في الدّنيا و الآخرة.أمّا في الدّنيا فأنصركم على أعدائكم و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم،و أمّا في الآخرة فجنّتي و رحمتي.(الطّبرسيّ 1:233)
سعيد بن جبير: لا يتمّ نعمته على المسلم إلاّ أن يدخل الجنّة.(البغويّ 1:182)
الطّبريّ: و لأتمّ بذلك من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السّلام الّذي جعلته إماما للنّاس،نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم،و أتمم به شرائع ملّتكم الحنيفيّة المسلمة الّتي وصّيت بها نوحا و إبراهيم و موسى و عيسى و سائر الأنبياء غيرهم؛و ذلك هو نعمته الّتي أخبر جلّ ثناؤه أنّه متمّها على رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين به من أصحابه.(2:35)
نحوه البغويّ.(1:182)
أبو مسلم الأصفهانيّ: هو أنّ القوم كانوا يفتخرون باتّباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون،فلمّا حوّل صلّى اللّه عليه و سلّم إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب،و لذلك كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يحبّ التّحوّل إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة،فهذا موضع النّعمة.(الفخر الرّازيّ 4:158)
الماورديّ: يحتمل وجهين:
أحدهما:فيما هديناكم إليه من القبلة.
و الثّاني:ما أعددته لكم من ثواب الطّاعة.(1:207)
الزّمخشريّ: و متعلّق اللاّم محذوف،معناه و لإتمامي النّعمة عليكم و إرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك،أو يعطف على علّة مقدّرة،كأنّه قيل:و اخشوني لأوفّقكم و لأتمّ نعمتي عليكم.
و قيل:هو معطوف على(لئلاّ يكون)،و في الحديث:
«تمام النّعمة دخول الجنّة».(1:323)
نحوه البيضاويّ(1:90)،و الشّربينيّ(1:104)، و أبو السّعود(1:218).
الطّبرسيّ: عطف على قوله:(لئلاّ)،و تقديره:لئلاّ يكون لأحد عليكم حجّة،و لأتمّ نعمتي عليكم بهدايتي إيّاكم إلى قبلة إبراهيم عليه السّلام.
بيّن سبحانه أنّه حوّل القبلة لهذين الغرضين:زوال القالة،و تمام النّعمة.(1:232)
الفخر الرّازيّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]
فإن قيل:إنّه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبيّن أنّ تمام النّعمة إنّما حصل ذلك اليوم،فكيف
ص: 34
قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي.
قلنا:تمام النّعمة اللاّئقة في كلّ وقت هو الّذي خصّه به،و في الحديث:«تمام النّعمة دخول الجنّة».و عن عليّ رضي اللّه عنه:«تمام النّعمة الموت على الإسلام».
(4:158)
نحوه النّيسابوريّ.(2:28)
القرطبيّ: معطوف على (لِئَلاّ يَكُونَ) أي و لأن أتمّ، قاله الأخفش.
و قيل:مقطوع في موضع رفع بالابتداء و الخبر مضمر،التّقدير:و لأتمّ نعمتي عليكم عرّفتكم قبلتي، قاله الزّجّاج.
و إتمام النّعمة:الهداية إلى القبلة،و قيل:دخول الجنّة.(2:170)
النّسفيّ: أي عرّفتكم لئلاّ يكون عليكم حجّة، و لأتمّ نعمتي عليكم بهدايتي إيّاكم إلى الكعبة.(1:83)
أبو حيّان :الظّاهر أنّه معطوف على قوله: (لِئَلاّ يَكُونَ) ،و كان المعنى عرفناكم وجه الصّواب في قبلتكم، و الحجّة لكم لانتفاء حجج النّاس عليكم و لإتمام النّعمة، فيكون التّعريف معلّلا بهاتين العلّتين،و الفصل بالاستثناء و ما بعده كلا فصل؛إذ هو من متعلّق العلّة الأولى.
و قيل:هو معطوف على علّة محذوفة،و كلاهما معلولهما الخشية السّابقة،كأنّه قيل:و اخشوني لأوفّقكم و لأتمّ نعمتي عليكم.
و قيل:تتعلّق اللاّم بفعل مؤخّر،التّقدير:و لأتمّ نعمتي عليكم عرّفتكم قبلتي.و من زعم أنّ الواو زائدة، فقوله ضعيف.
و إتمام النّعمة بما هداهم إليه من القبلة،أو بما أعدّه لهم من ثواب الطّاعة،أو بما حصل للعرب من الشّرف بتحويل القبلة إلى الكعبة،أو بإبطال حجج المحتجّين عليهم،أو بإدخالهم الجنّة،أو بالموت على الإسلام أو النّعمة ستّة:الإسلام،و القرآن،و محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و السّتر، و العافية،و الغنى عن النّاس أو بشرائع الملّة الحنيفيّة، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال لا مصدر التّعيين،و كلّ فيها نعمة.(1:442)
البروسويّ: علّة لمحذوف،أي أمرتكم بتولية الوجوه شطره،لإتمامي النّعمة عليكم،لما أنّه نعمة جليلة،و ما وقع من أوامر اللّه تعالى و تكاليفه،و ائتمار المكلّف بالتّوجّه إلى حيث وجّهه اللّه تعالى،و إن كان نعمة يتوصّل به إلى الثّواب الجزيل،إلاّ أنّ أمره تعالى بالتّوجّه إلى قبلة إبراهيم تمام النّعمة في أمر القبلة،فإنّ القوم كانوا يفتخرون باتّباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلونه،فلمّا وجّهوا إلى قبلته بعد ما صرفوا عنها لمصلحة حادثة،فقد أصابوا تمام النّعمة في أمر القبلة.
فإنّ نعمة اللّه تعالى على عباده ضربان:موهوب و مكتسب،فالموهوب نحو صحّة البدن و سلامة الأعضاء و غيرهما،و المكتسب نحو الإيمان و العمل الصّالح، بامتثال الأوامر و الاجتناب عن المناهي،فإنّ ذلك كلّه يؤدّي إلى سعادة الدّارين.(1:255)
الآلوسيّ: الظّاهر من حيث اللّفظ أنّه عطف على قوله تعالى: (لِئَلاّ يَكُونَ) ،كأنّه قيل:فولّوا وجوهكم
ص: 35
شطره لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّة و لأتمّ إلخ.فهو علّة لمذكور،أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدّارين؛أمّا دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين،و أمّا عقبى فلإثابتكم الثّواب الأوفى.
و لا يرد الفصل بالاستثناء و ما بعده لأنّه كلا فصل؛إذ هو من متعلّق العلّة الأولى،نعم اعترض ببعد المناسبة، و بأنّ إرادة الاهتداء المشعر بها التّرجّي إنّما تصلح علّة للأمر بالتّولية لا لفعل المأمور به،كما هو الظّاهر في المعطوف عليه.
فالظّاهر معنى جعله علّة لمحذوف،أي و أمرتكم بالتّولية-و الخشية-لإتمام نعمتي عليكم و إرادتي اهتداءكم.و الجملة المعلّلة معطوفة على الجملة المعلّلة السّابقة،أو عطف على علّة مقدّرة مثل (وَ اخْشَوْنِي) لأحفظكم و لأتمّ إلخ.
و رجّح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاريّ في الأدب المفرد،و التّرمذيّ من حديث معاذ بن جبل«تمام النّعمة دخول الجنّة».و لا يخفى أنّه على الوجه الأوّل قد يؤول الكلام إلى معنى:فاعبدوا،و صلّوا متّجهين شطر المسجد الحرام،لأدخلكم الجنّة.و الحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذّة بالقذّة،فكونه مرجّحا لذلك بمعزل عن التّحقيق.(2:18)
رشيد رضا :باستقلال قبلتكم في بيت ربّكم الّذي بناه جدّكم،و جعل الأمم فيها تبعا لكم.
و بيانه أنّ هذا النّبيّ عربيّ من ولد إبراهيم،و بلسان العرب نزل عليه الكتاب،و هم قومه الّذين بعث فيهم أوّلا،و ظهرت دعوته فيهم،و امتدّت منهم و بهم إلى سائر الأمم،و كانوا إذا آمنوا يحبّون أن تكون وجهتهم في عبادتهم بيتهم الحرام.
و أن يحيوا سنّة إبراهيم،بتطهيره من عبادة الأصنام، لأنّه معبدهم،و أشرف أثر عندهم،ينسب إلى أبيهم إبراهيم الّذي بناه،و رفع قواعده لعبادة اللّه تعالى،و هو شرفهم و مجدهم و موطن عزّهم و فخرهم،فأتمّ اللّه عليهم النّعمة بإعطائهم ما يحبّون،و توجيه جميع شعوب الإسلام إلى بلادهم،إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها.و في ذلك من الفوائد المادّيّة و المعنويّة ما لا يحصى من النّعم.
نعم إنّ كلّ أمر من اللّه تعالى فامتثاله نعمة،و لكنّه إذا كان فيه حكمة ظاهرة و شرف للأمّة يتعلّق بتاريخها الماضي،و بمجدها الآتي،و كان أثره حميدا نافعا فيها، تكون النّعمة به أتمّ و المنّة أكمل،و لذلك عبّر بالإتمام.
و ذكر الأستاذ الإمام[محمّد عبده]:من الحكمة في جعل القبلة في أوّل الأمر بيت المقدس،أنّ الكعبة كانت في أوّل الإسلام مشغولة بالأصنام و الأوثان،و كان سلطان أهل الشّرك متمكّنا فيها،و الأمل في انكشافه عنها بعيدا،فصرفه اللّه أوّلا عن استقبال بيت مدنس بعبادة الشّرك-و قد كان اللّه أمر إبراهيم بتطهيره للطّائفين و العاكفين و الرّكّع السّجود-إلى بيت المقدس قبلة اليهود الّذين هم أقرب من المشركين إلى ما جاء به من التّوحيد و التّنزيه.
و لمّا قرب زمن تطهير البيت الحرام من الأصنام و الأوثان و عبادتها و إزالة سلطة الوثنيّين عنه،جعله اللّه تعالى قبلة للموحّدين،ليوجّه النّفوس إليه؛فيكون ذلك
ص: 36
مقدّمة لتطهيره،و إتمام النّعمة بالاستيلاء عليه،و السّير فيه على ملّة إبراهيم من التّوحيد و العبادة الصّحيحة للّه تعالى وحده.
أقول:و يؤيّد ما قرّره الأستاذ الإمام في تفسير «الإتمام»و كون تحويل القبلة مقدّمة له،قوله تعالى بعد ذكر الفتح في سورة الفتح: وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً الفتح:2 فكان في الآية بشارة فتح مكّة و نصر اللّه التّوحيد على الشّرك،و ما يتلو ذلك من نشر الإسلام،و انتشار نوره في الأنام،و لذلك قال في سورة الفتح بعد ما ذكر: وَ يَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً الفتح:3.(2:25)
نحوه المراغيّ.(2:18)
محمّد جواد مغنية:أي أنعمت عليكم بالإسلام، و أتممت النّعمة بإعطائي إيّاكم قبلة مستقلّة توحّد كلمتكم،و تجمع شملكم،و تتّجه إليها شعوب العالم من أقطار الأرض،على اختلاف ألوانها و ألسنتها.(1:237)
الطّباطبائيّ: ذكر بعض المفسّرين أنّ اشتمال هذه الآية-و هي آية تحويل القبلة-على قوله: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكّة على هاتين الجملتين؛إذ قال تعالى: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً الفتح:1،2،يدلّ على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكّة.
بيان ذلك:أنّ الكعبة كانت مشغولة في صدر الإسلام بأصنام المشركين و أوثانهم،و كان السّلطان معهم، و الإسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره و قدرته،فهدى اللّه رسوله إلى استقبال بيت المقدس،لكونه قبلة لليهود، الّذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الإسلام.
ثمّ لمّا ظهر أمر الإسلام بهجرة رسول اللّه إلى المدينة، و قرب زمان الفتح،و توقّع تطهير البيت من أرجاس الأصنام،جاء الأمر بتحويل القبلة و هي النّعمة العظيمة الّتي اختصّ به المسلمون،و وعد في آية التّحويل إتمام النّعمة و الهداية و هو خلوص الكعبة من أدناس الأوثان، و تعيّنها لأن تكون قبلة يعبد اللّه إليها،و يكون المسلمون هم المختصّون بها،و هي المختصّة بهم،فهي بشارة بفتح مكّة،ثمّ لمّا ذكر فتح مكّة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النّعمة و البشارة بقوله: وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
و هذا الكلام و إن كان بظاهره وجيها،لكنّه خال عن التّدبّر،فإنّ ظاهر الآيات لا يساعد عليه؛إذ الدّالّ على وعد إتمام النّعمة في هذه الآية: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ البقرة:150،إنّما هو لام الغاية،و آية سورة الفتح الّتي أخذها إنجازا لهذا الوعد و مصداقا لهذه البشارة،أعني قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ... مشتملة على هذه اللاّم بعينها، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النّعمة؛على أنّ آية الحجّ مشتملة على وعد إتمام النّعمة لجميع المسلمين،و آية الفتح على ذلك لرسول اللّه خاصّة،فالسّياق في الآيتين مختلف.
و لو كان هناك آية تحكي عن إنجاز الوعد الّذي تشتمل عليه الآيتان،لكان هو قوله تعالى: اَلْيَوْمَ
ص: 37
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً المائدة:3.
و نظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النّعمة قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة:6،و قوله تعالى:
كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ النّحل:81.
(1:329)
1- وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. البقرة:196
ابن مسعود:إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، و هو المرويّ عن الإمام عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس.
(الزّمخشريّ 1:343)
مثله سعيد بن جبير و طاوس.(الماورديّ 1:254)
أتمّوهما إلى البيت.(ابن العربيّ 1:117)
الإمام عليّ عليه السّلام:أقيموهما إلى آخر ما فيهما،و هو المرويّ عن الإمام زين العابدين عليه السّلام،و مسروق، و سعيد بن جبير،و السّدّيّ.(الطّبرسيّ 1:290)
مثله عطاء.(الطّوسيّ 2:154)
أحرموا بهما من دياركم.
مثله الثّوريّ.(ابن العربيّ 1:117)
مسروق:إنّ إتمامهما واجب بالدّخول فيهما.
مثله ابن زيد،و الشّعبيّ،و أبي بردة.
(الماورديّ 1:254)
ابن عبّاس: إنّه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتّى يتمّ.(ابن الجوزيّ 1:204)
أي أتمّوهما بمناسكهما و حدودهما و تأدية كلّ ما فيهما.
مثله مجاهد.(الطّبرسيّ 1:290)
نحوه علقمة،و النّخعيّ.(ابن عطيّة 1:266)
عبد اللّه بن عمر: إتمامهما:إفرادهما.
(الجصّاص 1:264)
الشّعبيّ: إتمامهما:أن لا تفسخ و أن تتمّهما إذا بدأت بهما.
مثله ابن زيد.(ابن عطيّة 1:265)
مجاهد :إنّه يجب أن يبلغ آخر أعمالهما بعد الدّخول فيهما.
مثله المبرّد و الجبّائيّ.(الطّوسيّ 2:154)
أنّه فعل ما أمر اللّه فيهما.(ابن الجوزيّ 1:204)
الضّحّاك: إتمامهما:أن تكون النّفقة حلالا،و ينتهي عمّا نهى اللّه عنه.(البغويّ 1:241)
طاوس: تمامهما:إفرادهما مؤتنفتين من أهلك.
(الطّبريّ 2:207)
قتادة :إنّ إتمام العمرة:أن نخدم بها في غير الأشهر الحرم،و إتمام الحجّ:أن تأتي بجميع مناسكه حتّى لا يلزم دم لجبران نقصان.(الماورديّ 1:254)
السّدّيّ: أقيموا الحجّ و العمرة.(144)
الإمام الصّادق عليه السّلام: يعني بتمامهما أداؤهما و اتّقاء ما يتّقي المحرم فيهما.(العروسيّ 1:182)
تمام الحجّ:لقاء الإمام[تأويل](العروسيّ 1:183)
إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه و ذكر اللّه كثيرا،و قلّة الكلام إلاّ بخير.فإنّ من تمام الحجّ و العمرة أن يحفظ المرء
ص: 38
لسانه إلاّ من خير،كما قال اللّه تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ البقرة:
197.(العروسيّ 1:183)
مقاتل: إتمامهما:ألاّ تستحلّوا فيهما ما لا ينبغي لكم؛ و ذلك أنّهم كانوا يشركون في إحرامهم،فيقولون:لبّيك اللّهمّ لبّيك،لا شريك لك إلاّ شريكا هو لك،تملكه و ما ملك.فقال:فأتمّوهما و لا تخلطوهما بشيء آخر.
(القرطبيّ 2:366)
الثّوريّ: إتمامهما:أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة و لا لغير ذلك.(ابن عطيّة 1:265)
الطّبريّ: [اكتفى بنقل أقوال بعض من تقدّم عليه](2:206)
الزّجّاج: إتمامهما:أن تكون النّفقة حلالا،و ينتهي عمّا نهى اللّه عنه.
و قال بعضهم:إنّ الحجّ و العمرة لهما مواقف و مشاعر،كالطّواف و الموقف بعرفة و غير ذلك؛فإتمامهما:
تأدية كلّ ما فيهما،و هذا بيّن.(1:266)
أبو مسلم الأصفهانيّ: المعنى أنّ من نوى الحجّ و العمرة للّه وجب عليه الإتمام،و يدلّ على صحّة هذا التّأويل أنّ هذه الآية إنّما نزلت بعد أن منع الكفّار النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في السّنة الماضية عن الحجّ و العمرة،فاللّه تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع حتّى يتمّ هذا الفرض.
و يحصل من هذا التّأويل فائدة فقهيّة و هي أنّ تطوّع الحجّ و العمرة كفرضيهما في وجوب الإتمام.
(الفخر الرّازيّ 5:157)
الأصمّ: إنّ اللّه تعالى فرض الحجّ و العمرة ثمّ أمر عباده أن يتمّوا الآداب المعتبرة.(الفخر الرّازيّ 5:157)
الجصّاص :[ذكر أقوال المتقدّمين إلى أن قال:]
و روي عن طاوس عن أبيه،قال:العمرة واجبة، و احتجّ من أوجبها بظاهر قوله: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ.
قالوا:و اللّفظ يحتمل إتمامهما بعد الدّخول فيهما، و يحتمل الأمر بابتداء فعلهما،فالواجب حمله على الأمرين بمنزلة عموم يشتمل على مشتمل،فلا يخرج منه شيء إلاّ بدلالة.
قال أبو بكر: و لا دلالة في الآية على وجوبها؛و ذلك لأنّ أكثر ما فيها:الأمر بإتمامهما،و ذلك إنّما يقتضي نفي النّقصان عنهما إذا فعلت،لأنّ ضدّ التّمام هو النّقصان لا البطلان،أ لا ترى أنّك تقول للنّاقص:إنّه غير تامّ، و لا تقول مثله لما لم يوجد منه شيء.
فعلمنا أنّ الأمر بالإتمام إنّما اقتضى نفي النّقصان، و لذلك قال عليّ و عمر:إتمامهما:أن تحرم بهما من دويرة أهلك،يعني الأبلغ في نفي النّقصان:الإحرام بهما من دويرة أهلك.
و إذا كان ذلك على ما وصفنا كان تقديره:أن لا يفعلهما ناقصين:و قوله:لا يفعلهما ناقصين لا يدلّ على الوجوب،لجواز إطلاق ذلك على النّوافل.أ لا ترى أنّك تقول:لا تفعل الحجّ التّطوّع و لا العمرة التّطوّع ناقصين و لا صلاة النّفل ناقصة،فإذا كان الأمر بالإتمام يقتضي نفي النّقصان،فلا دلالة فيه إذا على وجوبها.
و يدلّ على صحّة ذلك أنّ العمرة التّطوّع و الحجّ
ص: 39
النّفل مرادان بهذه الآية في النّهي عن فعلهما ناقصين، و لم يدلّ ذلك على وجوبهما في الأصل.
و أيضا فإنّ الأظهر من لفظ«الإتمام»إنّما يطلق بعد الدّخول فيه،قال اللّه عزّ و جلّ: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة:187،فأطلق عليه لفظ «الإتمام»بعد الدّخول.قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما أدركتم فصلّوا و ما فاتكم فأتمّوا»فأطلق لفظ«الإمام»عليها بعد الدّخول فيها.
و يدلّ على أنّ المراد إيجاب إتمامهما بعد الدّخول فيهما أنّ الحجّ و العمرة النّافلتين يلزمه إتمامهما بعد الدّخول فيهما بالآية،فكان بمنزلة قوله:أتمّوهما بعد الدّخول فيهما.فغير جائز إذا ثبت أنّ المراد لزوم الإتمام بعد الدّخول حمله على الابتداء لتضادّ المعنيين.
أ لا ترى أنّه إذا أراد به الإلزام بالدّخول انتفى أن يريد به الإلزام قبل الدّخول،لأنّ إلزامه قبل الدّخول ناف لكونه واجبا بالدّخول،أ لا ترى أنّه لا يجوز أن يقال:إنّ حجّة الإسلام إنّما تلزم بالدّخول و إنّ صلاة الظّهر متعلّق لزومها بالدّخول فيها.و هذا يدلّ على أنّه غير جائز إرادة إيجابهما بالدّخول و إيجابهما ابتداء قبل الدّخول فيهما.
فثبت بما وصفنا أنّه لا دلالة في هذه الآية على وجوب العمرة قبل الدّخول فيها،و ممّا يدلّ على أنّها ليست بواجبة ما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:العمرة هي الحجّ الأصغر،و روي عن عبد اللّه بن شدّاد و مجاهد قالا:
العمرة هي الحجّ الأصغر...[ثمّ ذكر روايات على عدم وجوب العمرة فلاحظ](1:264)
الغزاليّ: الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى الإحرام ثمانية: (1)
الأوّل:في المال،فينبغي أن يبدأ بالتّوبة،و ردّ المظالم، و قضاء الدّيون،و إعداد النّفقة لكلّ من تلزمه نفقته إلى وقت الرّجوع،و يردّ ما عنده من الودائع،و يستصحب من المال الطّيّب الحلال ما يكفيه لذهابه و إيابه من غير تقتير.بل على وجه يمكنه مع التّوسّع في الزّاد و الرّفق بالفقراء،و يتصدّق بشيء قبل خروجه،و يشتري لنفسه دابّة قويّة على الحمل أو يكتريها.فإن اكتراها فليظهر للمكاري كلّ ما يحصل رضاه فيه.
الثّاني:في الرّفيق،فينبغي أن يلتمس رفيقا صالحا محبّا للخير،معينا عليه،إن نسي ذكّره،و إن ذكر ساعده، و إن جبن شجّعه،و إن عجز قوّاه،و إن ضاق صدره صبّره.و أمّا الإخوان و الرّفقاء المقيمون فيودّعهم، و يلتمس أدعيتهم،فإنّ اللّه تعالى جعل في دعائهم خيرا.
و السّنّة في الوداع أن يقول:أستودع اللّه دينك و أمانتك و خواتيم عملك.
الثّالثة:في الخروج من الدّار،فإذا همّ بالخروج صلّى ركعتين،يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ الكافرون:1،و في الثّانية«الإخلاص» و بعد الفراغ يتضرّع إلى اللّه بالإخلاص.
الرّابعة:إذا حصل على باب الدّار قال:بسم اللّه توكّلت على اللّه لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه،و كلّما كانت الدّعوات أزيد كانت أولى.ّ.
ص: 40
و الخامسة:في الرّكوب،فإذا ركب الرّاحلة قال:
بسم اللّه و باللّه و اللّه أكبر،توكّلت على اللّه لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم،ما شاء اللّه كان،و ما لم يشأ لم يكن، سبحان اللّه الّذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين،و إنّا إلى ربّنا لمنقلبون.
السّادسة:في النّزول،و السّنّة أن يكون أكثر سيره باللّيل،و لا ينزل حتّى يحمى النّهار،و إذا نزل صلّى ركعتين و دعا اللّه كثيرا.
السّابعة:إن قصده عدوّ أو سبع في ليل أو نهار، فليقرأ آية الكرسيّ،و شهد اللّه،و الإخلاص، و المعوّذتين،و يقول:تحصّنت باللّه العظيم،و استعنت بالحيّ الّذي لا يموت.
الثّامنة:مهما علا شرفا من الأرض في الطّريق، فيستحبّ أن يكبّر ثلاثا.
التّاسعة:أن لا يكون هذا السّفر مشوبا بشيء من أثر الأغراض العاجلة،كالتّجارة و غيرها.
العاشرة:أن يصون الإنسان لسانه عن الرّفث و الفسوق و الجدال.ثمّ بعد الإتيان بهذه المقدّمات،يأتي بجميع أركان الحجّ على الوجه الأصحّ الأقرب إلى موافقة الكتاب و السّنّة،و يكون غرضه في كلّ هذه الأمور ابتغاء مرضاة اللّه تعالى،فقوله: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني،فإذا أتى العبد بالحجّ عل هذا الوجه كان متّبعا ملّة إبراهيم؛حيث قال تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ البقرة:124.
(الفخر الرّازيّ 5:157)
البغويّ: و تأوّلوا قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ على معنى أتمّوهما إذا دخلتم فيها،أمّا ابتداء الشّروع فيها فتطوّع.
و احتجّ من لم يوجبها بما روي عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه سئل عن العمرة أ واجبة هي؟فقال:لا،و أن تعتمروا خير لكم.و القول الأوّل أصحّ.
و معنى قوله: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ أي ابتدءوهما فإذا دخلتم فيهما فأتمّوهما.فهو أمر بالإبداء و الإتمام،أي أقيموهما،كقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة:187،أي ابتدءوه و أتمّوه.
(1:241)
الزّمخشريّ: ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما و شرائطهما لوجه اللّه،من غير توان و لا نقصان يقع منكم فيهما.[ثمّ استشهد بشعر]
و قيل:إتمامهما:أن تحرم بهما من دويرة أهلك.روي ذلك عن عليّ و ابن عبّاس و ابن مسعود رضي اللّه عنهم.
و قيل:أن تفرد لكلّ منهما سفرا،كما قال محمّد:
حجّة كوفيّة و عمرة كوفيّة.و قيل:أن تكون النّفقة حلالا.و قيل:أن تخلصوهما للعبادة،و لا تشوبهما بشيء من التّجارة و الأغراض الدّنيويّة.
فإن قلت:هل فيه دليل على وجوب العمرة؟
قلت:ما هو إلاّ أمر بإتمامهما،و لا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين،فقد يؤمر بإتمام الواجب و التّطوّع جميعا،إلاّ أن نقول:الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما، بدليل قراءة من قرأ: (و اقيموا الحجّ و العمرة) و الأمر للوجوب في أصله إلاّ أن يدلّ دليل على خلاف
ص: 41
الوجوب،كما دلّ في قوله:(فاصطادوا)المائدة:2، (فانتشروا)الأحزاب:53،و نحو ذلك،فيقال لك:فقد دلّ الدّليل على نفي الوجوب،و هو ما روي أنّه قيل:
«يا رسول اللّه العمرة واجبة مثل الحجّ؟قال:لا،و لكن أن تعتمر خير لك».[ثمّ ذكر روايات على عدم وجوب العمرة فلاحظ](1:343)
نحوه البيضاويّ(1:106)،و النّسفيّ(1:99)، و الشّربينيّ(1:128).
ابن عطيّة: قالت فرقة:إتمامهما أن تفرد كلّ واحدة من حجّة و عمرة و لا تقرن،و هذا على أنّ الإفراد أفضل.
و قالت فرقة:القران أفضل،و ذلك هو الإتمام عندهم.
(1:265)
ابن العربيّ: [نقل سبعة أقوال من المتقدّمين ثمّ قال:]
حقيقة الإتمام للشّيء:استيفاؤه بجميع أجزائه و شروطه،و حفظه من مفسداته و منقصاته.و كلّ الأقوال محتمل في معنى الآية،إلاّ أنّ بعضها مختلف فيه.
أمّا قوله:«أحرم بها من دويرة أهلك»فإنّها مشقّة رفعها الشّرع،و هدّمتها السّنّة بما وقّت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من المواقيت.
و أمّا قول ابن مسعود: إلى البيت،فذلك واجب، و فيه تفصيل،و له شروط،بيانها في موضعها.
و أمّا قول مجاهد فصحيح.
و أمّا ألاّ يجمع بينهما فالسّنّة الجمع بينهما،كذلك فعل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد بيّنّاه في مسائل الخلاف.
و أمّا ألاّ يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ فهو التّمتّع.
و أمّا إتمامهما إذا دخل فيهما،فلا خلاف بين الأمّة فيهما،حتّى بالغوا فقالوا:يلزمه إتمامهما و إن أفسدهما.
و أمّا ألاّ يتّجر فيهما فهو مذهب الفقراء،ألاّ تمتزج الدّنيا بالآخرة،و هو أخلص في النّيّة و أعظم للأجر، و ليس ذلك بحرام.و الكلّ يبيّن في موضعه بحول اللّه و عونه.(1:117)
الفخر الرّازيّ: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ و هذا اللّفظ يحتمل أن يكون المراد منه إيجاب كلّ واحد منهما، أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التّمام،فلو حملناه على الأوّل لا يفيد الثّاني،و لو حملناه على الثّاني أفاد الأوّل،فكان الثّاني أكثر فائدة فوجب حمل اللّفظ عليه،لأنّ الأولى حمل كلام اللّه على ما يكون أكثر فائدة.[إلى أن قال:]
وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ أنّ المراد أفردوا كلّ واحد منهما بسفر.و هذا تأويل من قال بالإفراد،و قد بيّنّاه بالدّليل.و هذا التّأويل يروى عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه،و قد يروى مرفوعا عن أبي هريرة،و كان عمر يترك القران و التّمتّع،و يذكر أنّ ذلك أتمّ للحجّ و العمرة،و أن يعتمر في غير شهور الحجّ، فإنّ اللّه تعالى يقول: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ البقرة:
197.و روى نافع عن ابن عمر أنّه قال:فرّقوا بين حجّكم و عمرتكم.(5:157)
القرطبيّ: اختلف العلماء في المعنى المراد:بإتمام الحجّ و العمرة للّه،فقيل:أداؤهما و الإتيان بهما،كقوله:
(فاتمّهنّ)،و قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة:
ص: 42
187،أي ائتوا بالصّيام.و هذا على مذهب من أوجب العمرة على ما يأتي.
و من لم يوجبها قال:المراد تمامهما بعد الشّروع فيهما،فإنّ من أحرم بنسك وجب عليه المضيّ فيه و لا يفسخه،قال معناه الشّعبيّ و ابن زيد.[ثمّ ذكر أقوال المتقدّمين فلاحظ](2:365)
النّيسابوريّ: [نقل قول أبي مسلم الأصفهانيّ و الأصمّ و الغزاليّ ثمّ قال:]
و قيل:المراد من قوله:(و اتمّوا)أفردوا كلّ واحد منهما بسفره،و يؤيّد هذا تأويل من قال:الإفراد أفضل.
و أقرب هذه الأقوال ما يرجع حاصله إلى معنى:
ائتوا بالحجّ و العمرة تامّين كاملين بمناسكهما و شرائطهما و آدابهما لوجه اللّه،بدليل قوله:(فان احصرتم).(2:154)
أبو حيّان :الإتمام كما تقدّم:ضدّ النّقص،و المعنى افعلوهما كاملين،و لا تأتوا بهما ناقصين شيئا من شروطهما و أفعالهما الّتي تتوقّف وجود ماهيّتهما عليهما، كما قال غيلان:
تمام الحجّ أن تقف المطايا
على خرقاء واضعة اللّثام
جعل وقوف المطايا على محبوبته و هي«ميّ»كبعض مناسك الحجّ الّذي لا يتمّ إلاّ به،هذا ظاهر اللّفظ.و قد فسّر الإتمام بغير ما يقتضيه الظّاهر.[ثمّ ذكر أقوال المتقدّمين فلاحظ](2:71)
فاضل المقداد: [بعد نقل بعض الأقوال قال:]
و الحقّ أنّ المراد أن يؤتى بجميع أجزائهما و كيفيّات تلك الأجزاء.لكن لكون كلّ واحد منهما مركّبا من أجزاء مختلفة ربّما يوهم أنّ من أتى ببعض تلك الأجزاء و أخلّ بالباقي عمدا،يصحّ منه ذلك المأتيّ به،و يجب عليه قضاء الباقي،كمن صام بعض رمضان و ترك الباقي، و ذلك و هم باطل.
فإنّ كلّ واحد من تلك الأجزاء شرط في صحّة الباقي كأجزاء الصّلاة،فإذا لم يأت الحاجّ أو المصلّي بكلّ الأجزاء بطل حجّه و صلاته.بخلاف الصّوم،فإنّ كلّ يوم من أيّام رمضان عبادة مستقلّة لا ارتباط لها بيوم آخر، و لا شرطيّة لأحدهما بالآخر،و لذلك قال المحقّقون من أصحابنا:إنّ كلّ يوم من أيّام رمضان يفتقر إلى نيّة مستقلّة.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يلزم من ذلك أحكام:
1-ما قاله أصحابنا:إنّ من أفسد حجّه وجب عليه إتمامه و الحجّ من قابل،لوجوب إتمام الحجّ،و الإفساد غير مانع منه.ثمّ إنّ الإفساد عندنا سبب مستقلّ لوجوب الحجّ كغيره من الأسباب كالنّذر و الاستئجار، فيجب حجّ آخر غير الأوّل و لو كان مندوبا،و كذا نقول فيمن أفسد صومه الواجب المعيّن أنّه يجب إتمامه و قضاؤه.
2-استدلّ أصحابنا بالآية أيضا على وجوب إتمام الحجّ و العمرة المندوبين،و تقريره يعلم ممّا تقدّم.
3-إنّ الأمر بإتمامهما قد يستدلّ به على وجوب كلّ واحد منهما،لأنّ الأمر للوجوب،و وجوب كلّ واحد من الأجزاء يستلزم وجوب الماهيّة المركّبة من تلك الأجزاء ضرورة،فتكون العمرة واجبة خلافا لأبي حنيفة،فإنّه جعلها سنّة،و كذا قال مالك،و أوّلا الآية
ص: 43
بأنّ المراد:إذا شرعتم فيهما.فإنّ الشّروع في النّدب يوجب إتمامه عندهم أيضا.(2:272)
نحوه الطّريحيّ.(6:22)
أبو السّعود :بيان لوجوب إتمام أفعالهما عند التّصدّي لأدائهما،و إرشاد للنّاس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلّة بذلك من الإحصار و نحوه، من غير تعرّض لحالهما في أنفسهما من الوجوب و عدمه، كما في قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة:
187،فإنّه بيان لوجوب مدّ الصّيام إلى اللّيل من غير تعرّض لوجوب أصله،و إنّما هو بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ... البقرة:183،كما أنّ وجوب الحجّ بقوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...
آل عمران:97.
فإنّ الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمرا بأصله و لا مستلزما له أصلا،فليس فيه دليل على وجوب العمرة قطعا.و ادّعاء أنّ الأمر بإتمامهما أمر بإنشائهما تامّين كاملين حسبما تقتضيه قراءة (و اقيموا الحجّ و العمرة) و أنّ الأمر للوجوب ما لم يدلّ على خلافه دليل ممّا لا سداد له ضرورة،أن ليس البيان مقصورا على أفعال الحجّ المفروض حتّى يتصوّر ذلك،بل الحقّ أنّ تلك القراءة أيضا محمولة على المشهورة،ناطقة بوجوب إقامة أفعالهما كما ينبغي،من غير تعرّض لحالهما في أنفسهما.
فالمعنى أكملوا أركانهما و شرائطهما و سائر أفعالهما المعروفة شرعا لوجه اللّه تعالى،من غير إخلال منكم بشيء منها.[ثمّ ذكر نحو الزّمخشريّ](1:248)
الآلوسيّ: أي اجعلوهما تامّين إذا تصدّيتم لأدائهما لوجه اللّه تعالى.فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشّروع فيهما،و هو متّفق عليه بين الحنفيّة و الشّافعيّة رضي اللّه تعالى عنهم،فإنّ إفساد الحجّ و العمرة مطلقا يوجب المضيّ في بقيّة الأفعال و القضاء، و لا تدلّ على وجوب الأصل.
و القول بالدّلالة بناء على أنّ الأمر بالإتمام مطلقا يستلزم الأمر بالأداء،لما تقرّر من أنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب،ليس بشيء،لأنّ الأمر بالإتمام يقتضي سابقيّة الشّروع،فيكون الأمر بالإتمام مقيّدا بالشّروع،و ادّعاء أنّ المعنى:ائتوا بهما حال كونهما تامّين مستجمعي الشّرائط و الأركان.و هذا يدلّ على وجوبهما،لأنّ الأمر ظاهر فيه،و يؤيّده قراءة (و اقيموا الحجّ و العمرة) ليس بسديد.
أمّا أوّلا:فلأنّه خلاف الظّاهر،و بتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجّها إلى القيد،أعني تامّين،لا إلى أصل الإتيان،كما في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«بيعوا سواء بسواء».
و أمّا ثانيا:فلأنّ الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازيّ المشترك بين الواجب و المندوب،أعني طلب الفعل،و القرينة على ذلك الأحاديث الدّالّة على استحباب العمرة.[ثمّ ذكر الأحاديث فلاحظ](2:78)
رشيد رضا :فالعطف و التّعبير بالإتمام ظاهران في أنّ السّياق في الكلام عن الحجّ،و لذلك لم يقل هنا هذا:
كتب عليكم الحجّ،كما قال في الصّيام.و قد كان الحجّ معروفا في الجاهليّة،لأنّه فرض على عهد إبراهيم
ص: 44
و إسماعيل،فأقرّه الإسلام في الجملة.و لكنّه أزال ما أحدثوا فيه من الشّرك و المنكرات،و زاد ما زاد فيه من المناسك و العبادات.فالآية ليست في فرضيّته و فرضيّة العمرة بل هي في واقعة تتعلّق بهما و بقاصديهما.و قد كانوا توجّهوا إلى ذلك قبل نزولها بعام،كما تقدّم،فدلّ ذلك على أنّ المشروعيّة سابقة لنزول هذه الآيات.
و المراد بإتمام الحجّ و العمرة:الإتيان بهما تامّين ظاهرا:بأداء المناسك على وجهها،و باطنا:بالإخلاص للّه تعالى وحده،دون قصد الكسب و التّجارة أو الرّياء و السّمعة فيهما.و لا ينافي الإخلاص البيع و الشّراء في أثناء الحجّ،إذا لم تكن التّجارة هي المقصودة في الأصل.
(2:217)
نحوه المراغيّ.(2:96)
الطّباطبائيّ: تمام الشّيء هو الجزء الّذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشّيء يكون الشّيء هو هو،و يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه.فالإتمام هو ضمّ تمام الشّيء إليه بعد الشّروع في بعض أجزائه،و الكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشّيء ترتّب عليه من الأثر بعد إتمامه ما لا يترتّب عليه لو لا الكمال؛فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه،و كونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله،و ربّما يستعمل التّمام مقام الكمال بالاستعارة،بدعوى كون الوصف الزّائد على الشّيء داخلا فيه اهتماما بأمره و شأنه.
و المراد بإتمام الحجّ و العمرة هو المعنى الأوّل الحقيقيّ، و الدّليل عليه قوله تعالى بعده: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فإنّ ذلك تفريع على التّمام،بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه و ضمّه إلى أجزائه المأتيّ بها بعد الشّروع،و لا معنى يصحّح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال،و هو ظاهر.(2:75)
2- ...فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. التّوبة:4
الطّوسيّ: و الإتمام:بلوغ الحدّ في العدة من غير زيادة و لا نقصان،فهاهنا معناه إمضاء الأمر على ما تقدّم به العهد إلى انقضاء أجل العقد.(5:201)
الزّمخشريّ: فأدّوه إليهم تامّا كاملا.(2:175)
نحوه الفخر الرّازيّ(15:224)،و النّيسابوريّ (10:42)،و الآلوسيّ(10:49)،و النّسفيّ(2:116).
أبو حيّان :و تعدّى(اتمّوا)ب«الى»لتضمّنه معنى (فأدّوا)أي فأدّوه تامّا كاملا.(5:9)
مثله البروسويّ.(3:385)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. الصّفّ:8
ابن عبّاس: يظهر دينه.(الفخر الرّازيّ 29:314)
الفرّاء: قرأها يحيى أو الأعمش: وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ بالإضافة،و نوّنها أهل الحجاز (متمّ نوره) و كلّ صواب.(3:153)
الطّبريّ: يقول:اللّه معلن الحقّ،و مظهر دينه و ناصر محمّدا عليه الصّلاة و السّلام على من عاداه، فذلك إتمام نوره.[إلى أن قال:]
ص: 45
و اختلفت القرّاء في قراءة قوله تعالى: وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ فقرأته عامّة قرّاء المدينة و البصرة و بعض الكوفيّين: (متمّ نوره) بالنّصب.و قرأ بعض قرّاء مكّة و عامّة قرّاء الكوفة (متمّ) بغير تنوين (نوره) خفضا، و هما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى،فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا.(28:88)
نحوه القاسميّ(16:5791)،و المراغيّ(28:87).
الطّوسي:[نقل القراءتين و أضاف:]
و القراءتان متقاربتان،إلاّ أنّ اسم الفاعل إذا كان لما مضى لا يعمل و لا يجوز إلاّ الإضافة،و إذا كان للحال و الاستقبال جاز فيه التّنوين و الإضافة.(9:593)
الميبديّ: قرئ بالتّنوين،و بالإضافة مُتِمُّ نُورِهِ فحقّ ما وقع الإضافة و حقّ لما لم يقع التّنوين، فالمعنى:أتمّ نوره و يتمّه أبدا.(10:87)
الزّمخشريّ: أي متمّ الحقّ و مبلّغه غايته،و قرئ بالإضافة.(4:99)
نحوه البيضاويّ(2:474)،و النّسفيّ(4:252).
ابن عطيّة: و قرأ نافع و أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر عن عاصم و ابن محيصن و الحسن و طلحة و الأعرج:(و اللّه متمّ)بالتّنوين، (نوره) بالنّصب.و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائيّ و حفص عن عاصم و الأعمش:(متمّ نوره)بالإضافة،و هي في معنى الانفصال،و في هذا نظر.(5:303)
نحوه النّيسابوريّ(28:45)،و أبو حيّان(8:263).
الطّبرسيّ: أي مظهر كلمته و مؤيّد نبيّه و معلن دينه و شريعته،و مبلّغ ذلك غايته.(5:280)
الفخر الرّازيّ: و التّمام لا يكون إلاّ عند النّقصان، فكيف نقصان هذا النّور؟
فنقول:إتمامه بحسب النّقصان في الأثر،و هو الظّهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب؛إذ الظّهور لا يظهر إلاّ بالإظهار و هو الإتمام،يؤيّده قوله تعالى:
اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ المائدة:3.
و عن أبي هريرة:أنّ ذلك عند نزول عيسى من السّماء،قاله مجاهد.
قال هاهنا: مُتِمُّ نُورِهِ و قال في موضع آخر:
مَثَلُ نُورِهِ النّور:35،و هذا عين ذلك أو غيره؟
نقول:هو غيره،لأنّ نور اللّه في ذلك الموضع هو اللّه تعالى عند أهل التّحقيق،و هاهنا هو الدّين أو الكتاب أو الرّسول.(29:315)
القرطبيّ: أي بإظهاره في الآفاق.[ثمّ نقل القراءتين](18:85)
البروسويّ: أي مبلّغه إلى غايته بنشره في الآفاق و إعلائه.جملة حاليّة من فاعل(يريدون)أو(يطفئوا).
(9:503)
رشيد رضا :أي و الحال أنّ اللّه تعالى متمّ نوره بالفعل،فلا يطفئه الافتراء،بل هو كمن ينفخ في نور قويّ ليطفئه فيزيده بذلك اشتعالا،أو كمن يحاول إطفاء نور الشّمس فلا ينال منها منالا.
فالفرق بين الآيتين أنّ آية سورة الصّفّ تعليل لافترائهم،بإرادتهم إطفاء النّور به.و آية براءة لمّا جاءت بعد بيان شركهم بمضاهاتهم لأقوال الوثنيّين من قبلهم،جعل ذلك نفسه،بمعنى إرادة إطفاء النّور
ص: 46
بلا واسطة.
ثمّ إنّ بينهما فرقا آخر و هو التّعبير في آية الصّفّ بقوله: وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ و في سورة براءة:32، وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ و الأوّل يفيد أنّه متمّه بالفعل في الحال،و الثّاني وعد بأن يتمّه في الاستقبال،فيجتمع منهما إثبات هذا الإتمام في الحال و الاستقبال،فهو النّور التّامّ الكامل الّذي لا ينطفئ بالقيل و القال،بل يبقى مشرقا إلى أن يأذن اللّه لهذا العالم بالزّوال.
و لمّا كان هذا الوعد الّذي يتعلّق بالمستقبل المغيب عن علم الخلق من شأنه أن يرتاب فيه النّاس،أكّده اللّه تعالى بما لم يؤكّد به الخبر الأوّل،لأنّ صدقه مشاهد لا يحتاج إلى التّأكيد.و ناهيك بقوله: وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي أنّه لا يرضى و لا تتعلّق إرادته بشيء في هذا الشّأن إلاّ شيئا واحدا و هو أن يتمّ نوره،فلا يجعل في قدرة أحد أن يطفئه.
و الآية تشعر بأنّ هؤلاء الكافرين الكارهين له سيحاولون في المستقبل إطفاء هذا النّور،كما حاولوا ذلك في عصر من أتمّه و أكمله بوحيه إليه و بيانه له.
(10:387)
الفيروزآباديّ: بصيرة في«الإتمام».
و قد ورد في القرآن على ثلاثة أوجه:
الأوّل:بمعنى الوفاء،نحو الأمر و النّهي(فاتمّهنّ) البقرة:124،أي و فى بحقّهنّ.
الثّاني:بمعنى إتمام النّعمة و المنّة وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي المائدة:3.
الثّالث:بمعنى إكمال الأمر فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ القصص:27،و بمعناه الاستتمام،يقال:استتمام المعروف خير من ابتدائه.
إنّ ابتداء العرف مجد باسق
و الخير كلّ الخير في استتمامه
هذا الهلال يرى لأبصار الورى
حسنا و ليس لحسنه كتمامه
و أصل المادّة موضوع لانتهاء الشّيء إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه.
(بصائر ذوي التّمييز 2:160)
1-الأصل في هذه المادّة:التّمام،يقال:تمّ الشّيء يتمّ تمّا و تمّا و تماما و تماما و تماما و تمامة و تمامة و تمّة:
كمل،و أتمّه و تمّمه و استتمّ به و تمّ به:جعله تامّا،و تمّمه اللّه تتميما و تتمّة،و استتمّ النّعمة:سأل إتمامها،و تمّ على الشّيء و تمم عليه:استمرّ عليه و أكمله،و تمّم على الجريح:أجهز،و أتمّ النّبت:اكتمل.و تمام الشّيء و تمامته و تتمّته:ما تمّ به،يقال:هذه الدّراهم تمام و تتمّة هذه المئة.
و التّمّ:الشّيء التّامّ،يقال:جعلته لك تمّا،أي بتمامه، و ولدت المرأة لتمّ،أي ألقته و قد تمّ خلقه،و ولد الغلام لتمّ و تمام،و ولدت لتمام و لتمام و للتّمام،و يقال أيضا:
أتمّت المرأة و هي متمّ:دنا ولادها،و أتمّت النّاقة و هي متمّ:دنا نتاجها.و رئي الهلال لتمّ الشّهر،و أتمّ القمر:
ص: 47
امتلأ فبهر،و هو بدر تمام و تمام،و بدر تمام.
و التّمّة:الجزّة من الصّوف أو الشّعر أو الوبر و هي صوف شاة خلال سنة،و الجمع:تمم،و المستتمّ:الّذي يطلب الصّوف و الوبر ليتمّ به نسج كسائه،يقال:
استتمّه،أي طلب منه التّمم،و أتمّه:أعطاه إيّاها.
و التّميمة:خرزة رقطاء تنظم في السّير و كأنّهم يريدون أن تكون تمام الدّواء و الشّفاء المطلوب،ثمّ يعقد في العنق تتّخذ عوذة،و الجمع تمائم و تميم،يقال:تمّمت المولود،أي علّقت عليه التّمائم،و كان الأعراب يعلّقونها في الجاهليّة على أولادهم،ينفون بها النّفس و العين بزعمهم،فأبطله الإسلام.
و المتتمّم:المتكسّر،يقال:تمّم الكسر فتمّم و تتمّم،أي انصدع و لم يبن،أو انصدع ثمّ بان.و ظلع فلان ثمّ تتمّم تتمّما،أي تمّ عرجه كسرا،من قولهم:تمّ أي كسر،و لأجل هذا سمّي المتتمّم بالمتكسّر،و كأنّ تمام الكسر به.
و التّامّ من الشّعر:ما يمكن أن يدخله الزّحاف (1)فيسلم منه،و قد تمّ الجزء تماما،و المتمّم:كلّ ما زيد عليه بعد اعتدال البيت،و سمّي بذلك لأنّه تمّم أصل الجزء.
و التّتميم في الأيسار:أن ينقص في الأيسار في الجزور،فيأخذ رجل ما بقي حتّى يتمّم الأنصباء،و رجل متمّم:فاز قدحه مرّة بعد مرّة،فأطعم لحمه المساكين، و قد تمّمهم.
و قولهم:تمّم الرجل،أي صار تميميّ الرّأي و الهوى و المحلّة،و تمّم أيضا:انتسب إلى تميم.
2-و ليل التّمام:قيل:هو أطول ما يكون من ليالي الشّتاء،حينما يزيد اللّيل على اثنتي عشرة ساعة،و هو ليل السّابع عشر من كانون الأوّل الّذي يصادف-كما قيل-ميلاد عيسى عليه السّلام،يقال:سافرنا شهرنا ليل التّمام لا نعرّسه-أي لا ننزل آخر اللّيل للرّاحة-و هو ليل تمام، و ليل تمام،و ليل التّمام،و ليل تماميّ.
و قالوا أيضا:هي اللّيلة الّتي يتمّ فيها القمر فيصير بدرا،و هو الصّواب،لأنّه يوافق الاشتقاق.أمّا القول الأوّل فلا يناسب الحال فضلا عن الاشتقاق،لأنّ ميلاد عيسى عليه السّلام يصادف في الخامس و العشرين من كانون الأوّل،و ليس في السّابع عشر منه،كما قيل.و يعدّ الإيرانيّون ليلة الثّاني و العشرين من كانون الأوّل أطول ليلة في العام،و هم يطلقون عليها اسم«يلدا»و لا يزالون يحتفلون بها إلى هذا اليوم.
جاءت من المجرّد ماضيا(4)مرّات(1 و 2 و 3 و 6)، و مصدرا مرّة(20)،و من باب الإفعال ماضيا(5)مرّات (4-8)،و مضارعا(7)مرّات(8-14)،و أمرا(4) مرّات(13 و 16 و 17 و 19)،و اسم الفاعل مرّة(15)في خمسة محاور:
أ-إتمام الكلمة:
1- وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الأنعام:115
2- وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي
ص: 48
إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا... الأعراف:137
3- وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ هود:119
4- وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً... البقرة:124
ب:إتمام السّنين و الميقات:
5- قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ... القصص:27
6- وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... الأعراف:142
ج:إتمام النّعمة:
7- ...اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً المائدة:3
8- وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يوسف:6
9- لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً الفتح:2
10- ...فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ البقرة:150
11- ...ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
المائدة:6
12- ...وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ
النّحل:81
د:إتمام النّور:
13- ...وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ التّحريم:8
14- يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ التّوبة:32
15- يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ الصّفّ:8
ه:إتمام الأحكام و العهود و الكتاب:
16- ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ البقرة:187
17- وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ... البقرة:196
18- وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ... البقرة:233
19- إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ التّوبة:4
20- ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ الأنعام:154
يلاحظ أوّلا:أنّ هذه المادّة جاءت دائما في سياق الإحسان و الإكرام و الإكمال،فتعلّقت بكلمات اللّه في(1 -4)،و بسني عمل موسى لشعيب عليهما السّلام في(5)،
ص: 49
و بميقات اللّه في(6)،و بنعمة اللّه في(7-12)و بنور اللّه في (13-15)،و بالصّيام في(16)،و بالحجّ و العمرة في (17)،و بالرّضاعة في(18)،و بالعهد في(19)، و بالكتاب في(20).
فاللّفظ و المعنى متناسقان مع السّياق،و لهذا قد ضمّت إليها(صدقا و عدلا)في(1)،و(الحسنى)في (2)،و(جاعلك للنّاس اماما)في(4)،و مواجهة شعيب و نكاح ابنته في(5)،و مواعدة اللّه موسى في(6)،و إكمال الدّين في(7)،و الاجتباء و تعليم الأحاديث في(8)، و الاهتداء في(9)و(10)،و الشّكر في(11)،و التّسليم في(12)و هلمّ جرّا.
ثانيا:الآية(3): وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ وعيد لأهل النّار،فيختلف سياقها عن غيرها عند أوّل وهلة،إلاّ أنّ سياق ما قبلها تركيز لعدل اللّه و حكمته،و هما كمال للّه و رحمة للنّاس وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ* وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ... هود:117-119،و بذلك يتلاءم سياق الآيات.فالتّعبير ب تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ في الجميع يحكي حكمة اللّه البالغة و رحمته التّامّة،لاحظ«ك ل م».
ثالثا:تمام كلمة في كلّ آية بحسبها،ففي(1)تمامها (صِدْقاً وَ عَدْلاً) ،أي بلغت نهاية الصّدق و العدل، فلا توجد كلمة أصدق و أعدل منها.
و في(2)وقوعها على بني إسرائيل كما شاء اللّه تماما دون زيادة أو نقصان،و كذلك في(4)تحقّق جزاء أهل النّار تماما،كما شاء اللّه دون نقصان.
و في(3)أتى إبراهيم بما أمره اللّه تماما لم ينقص منه شيء،و لا وجه لما اختلفوا في وجه التّمام في هذه الآيات.
رابعا:قالوا في(6): فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً خالية من الفائدة،لأنّها من قبيل توضيح الواضحات، و أجابوا عنه بوجوه لا تخلو من ضعف.و الحقّ أنّها فذلكة لما قبلها،و الفذلكة تكرار لما سبقها دائما.إلاّ أنّها لا تخلو من فائدة،و لعلّ الفائدة في الآية إزالة الخلاف بينها و بين وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً البقرة:51،أي لا فرق بينهما إلاّ بالإجمال و التّفصيل.
خامسا:إتمام النّعمة في الآيات(7-12)كلّ بحسبها،ففي(7)هو إكمال الدّين،و من كماله ما جاء في تفسير الآية من أمر الولاية،و في(8)موهبة النّبوّة ليوسف و آل يعقوب،و في(9)و(10)نصرة اللّه نبيّه على أعدائه،و في(11)إكمال حكم الطّهارة الّتي بنيت عليها الصّلاة،و في(13)إعطاء النّاس نعمة اللّباس و السّراويل وقاء من البأس و من الحرّ و البرد،لاحظ «ن ع م».
سادسا:للطّباطبائيّ بحث في اشتمال الآيتين(9) و(10)على الوعد بفتح مكّة و نقضه،فلاحظ.
سابعا:إتمام النّور في(13)هو نور المؤمنين في طريقهم إلى الجنّة،و قد نطق به الكتاب في آيات،لاحظ «ن و ر».و في(14)و(15)هو نور الإسلام،فاللّه وعدنا بحفظه و بسطه بين الأنام و غلبته على الأديان،لاحظ «الإسلام»من«س ل م».
ص: 50
ثامنا:جاء في(16)و(17)إتمام الصّيام و الحجّ و العمرة-و قد سبق في(11)إتمام الطّهارة-و في(18) إتمام الرّضاعة،و في(19)إتمام عهد المشركين إلى مدّتهم،و في(20)إتمام الكتاب على موسى عليه السّلام.
تاسعا:جاء في النّصوص خلاف كثير حول هذه الآيات،و ليس الخلاف في الحقيقة في معنى التّمام،بل في مصاديقه و كيفيّته،أو في ما تعلّق به من معاني الكلمة و الكلمات و النّعمة و النّور و غيرها،فلاحظ.
عاشرا:اختلفوا في(17): وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ... اختلافا كثيرا في معنى الإتمام،مستشهدين بالآثار و أقاويل الصّحابة و التّابعين.و لا شاهد لشيء منها في الآية سوى استمرارهما إلى آخرهما و إكمال مناسكهما،فلاحظ.تلك عشرة كاملة.
ص: 51
ص: 52
التّنّور
لفظ واحد،مرّتان مكّيّتان،في سورتين مكّيّتين
الخليل :«التّنّور»عمّت بكلّ لسان،و صاحبه تنّار،و جمعه:تنانير.(8:114)
أبو حاتم: «التّنّور»ليس بعربيّ صحيح، و لم تعرف له العرب اسما غير«التّنّور»فلذلك جاء في التّنزيل وَ فارَ التَّنُّورُ هود:40،لأنّهم قد خوطبوا بما قد عرفوا.(ابن دريد 2:14)
نحوه ابن دريد(3:52)،و الفيّوميّ(1:77).
ثعلب :وزنه«تفعول»من النّور،و أصله«تنوور» فهمزت الواو ثمّ خفّفت،و شدّد الحرف الّذي قبله.[ثمّ استشهد بشعر](أبو حيّان 5:199)
الأزهريّ: و قول من قال[الخليل]:«إنّ التّنّور عمّت بكلّ لسان»يدلّ على أنّ الأصل في الاسم عجميّ فعرّبتها العرب،فصار عربيّا على بناء«فعّول»و الدّليل على ذلك أنّ أصل بنائه«تنر»و لا يعرف في كلام العرب، لأنّه مهمل،و هو نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم،مثل الدّيباج و الدّينار و السّندس و الإستبرق و ما أشبهها،و لمّا تكلّمت بها العرب صارت عربيّة.
قلت:ذات التّنانير:عقبة بحذاء زبالة ممّا يلي المغرب منها.(14:269)
الصّاحب: التّنّور معروف،و صاحبه تنّار،و هو وجه الأرض في قوله عزّ و جلّ: وَ فارَ التَّنُّورُ هود:
40،و قيل:هو الموضع الّذي ينبع منه الماء من العين.
و ذات التّنانير:اسم موضع بالبادية.(9:425)
الجوهريّ: التّنّور:الّذي يخبز فيه،و قوله تعالى:
وَ فارَ التَّنُّورُ قال عليّ رضي اللّه عنه:هو وجه الأرض.(2:602)
نحوه أبو سهل الهرويّ.(التّلويح في شرح الفصيح:47)
الهرويّ: التّنّور:عين ماء معروف،و قيل:هو تنّور الخابزة،وافق لغة العرب لغة العجم.(1:263)
ص: 53
الثّعالبيّ: في ذكر أسماء قائمة في لغتي العرب و الفرس على لفظ واحد:التّنّور،الخمير،الزّمان، الدّين،الكنز،الدّينار،الدّرهم.(305)
ابن سيده: التّنّور:نوع من الكوانين.قال أحمد بن يحيى:التّنّور«تفعول»من النّار.و هذا من الفساد بحيث تراه،و إنّما هو أصل لم يستعمل إلاّ في هذا الحرف، و بالزّيادة،و صاحبه تنّار.
و التّنّور:وجه الأرض،فارسيّ معرّب.و قيل:هو بكلّ لغة،و في التّنزيل: وَ فارَ التَّنُّورُ هود:40، المؤمنون:27.
و كلّ مفجر ماء:تنّور.
و تنانير الوادي:محافله.[ثمّ استشهد بشعر]
(9:475)
التّنّور:الكانون يخبز فيه.(الإفصاح 1:410)
الزّمخشريّ: النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله«أتاه رجل و عليه ثوب معصفر،فقال له:لو أنّ ثوبك هذا كان في تنّور أهلك،أو تحت قدر أهلك،لكان خيرا لك.فذهب الرّجل فجعله في التّنّور أو تحت القدر.
ثمّ غدا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،فقال:ما فعل الثّوب؟فقال:
صنعت ما أمرتني به.فقال:ما كذا أمرتك!أ فلا ألقيته على بعض نسائك؟»
قال أبو الفتح الهمدانيّ: كان الأصل فيه«نوّور» فاجتمع واوان و ضمّة و تشديد فاستثقل ذلك،فقلبوا (1)عين الفعل إلى فائه فصار و نوّر،فأبدلوا من الواو تاء، كقولهم:تولج في و ولج.
أراد لو صرفت ثمنه إلى دقيق تختبزه أو حطب تطبخ به،كان خيرا لك.و المعنى:أنّه كره الثّوب المعصفر للرّجال.(الفائق 1:155)
مثله المدينيّ.(1:244)
ابن الأثير: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]
و التّنّور:الّذي يخبز فيه،يقال:إنّه في جميع اللّغات كذلك.(1:199)
الصّغانيّ: التّنّار:صاحب التّنّور و صانعه.
(2:433)
القرطبيّ: و التّنّور:اسم أعجميّ عرّبته العرب، و هو على بناء«فعّل»لأنّ أصل بنائه«تنّر»و ليس في كلام العرب نون قبل راء.(9:34)
أبو حيّان :التّنّور:مستوقد النّار،و وزنه«فعّول» عند أبي عليّ،و هو أعجميّ و ليس بمشتقّ.(5:199)
الفيروزآباديّ: التّنّور:الكانون يخبز فيه، و صانعه تنّار،و وجه الأرض،و كلّ مفجر ماء،و محفل ماء الوادي،و جبل قرب المصيصة.و ذات التّنانير:عقبة بحذاء زبالة.(1:395)
نحوه محمّد إسماعيل إبراهيم.(1:92)
المصطفويّ: إنّ هذه الكلمة مستعملة في اللّغة العبريّة و العربيّة و الفارسيّة و التّركيّة باختلاف يسير.
فإذا قلنا:إنّ الأصل هو الفارسيّة،فلا بدّ أن يكون مأخوذا من«تن و نور»أي جسم النّور و بدنه،فعبّر بها عن محلّ توقد فيها النّار للطّبخ،ثمّ خفّف فقيل:تنور، و قيل:باللّهجة التّركيّة:تندور،و باللّهجة العربيّة:تنّور،ا.
ص: 54
و كذلك في العبريّة.
و إذا قلنا إنّ الأصل فيها العبريّة،فلا يبعد أن يكون هذا اللّفظ مأخوذا من كلمة«تاء»و«نور»ثمّ انقلبت الهمزة نونا و أدغمت.
قع- [تاء]-حجيرة،غرفة [نور]-«آراميّة»نار.
فيكون معنى التّنّور:حجيرة النّار،ثمّ،استعمل في لغة العرب أيضا.(1:377)
حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ... هود:40
الإمام عليّ عليه السّلام:هو تنوير الصّبح.
(الطّبريّ 12:38)
إذا طلع الفجر.(الطّبريّ 12:39)
إنّه طلوع الشّمس.(ابن الجوزيّ 4:105)
إنّه مسجد بالكوفة من قبل أبواب كندة.
(الماورديّ 2:472)
أي برز النّور و ظهر الضّوء،و تكاثفت حرارة دخول النّهار و تقضّي اللّيل.(أمالي المرتضى 2:170)
إنّه في مسجد الكوفة،و قد صلّى فيه سبعون نبيّا.
(النّيسابوريّ 12:26)
المراد بالتّنوير:وجه الأرض.(النّيسابوريّ 12:27)
مثله عكرمة(الطّبريّ(12:38)،و ابن عبّاس و الزّجّاج(الطّوسيّ 5:556).
أما و اللّه ما هو تنّور الخبز،ثمّ أومأ بيده إلى الشّمس، فقال:طلوعها.(العروسيّ 2:356)
ابن عبّاس: التّنّور:وجه الأرض.قيل له:إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت و من معك.
و العرب تسمّي وجه الأرض:تنّور الأرض.
(الطّبريّ 12:38)
نحوه عكرمة و الزّهريّ و ابن عيينة.
(القرطبيّ 9:33)
إذا رأيت تنّور أهلك يخرج منه الماء،فإنّه هلاك قومك.(الطّبريّ 12:38)
فار التّنّور بالهند.(الطّبريّ 12:40)
يعني خروج الماء من موضع لم يعهد خروجه منه علامة لنوح عليه السّلام،و هو تنّور الخبز.
مثله مجاهد و الحسن.(الطّوسيّ 5:556)
التّنّور الّذي بالجزيرة،و هي عين الورد.
(الأزهريّ 14:269)
مثله عكرمة.(الماورديّ 2:472)
إنّ التّنّور هو تنّور الخبز الحقيقيّ.
مثله مجاهد و الحسن.(الشّريف المرتضى:170)
إنّه تنّور آدم عليه السّلام،وهبه اللّه لنوح.
(ابن الجوزيّ 4:105)
نحوه مجاهد و الحسن.(النّيسابوريّ 12:26)
زرّ بن حبيش:فار التّنّور من زاوية مسجد الكوفة اليمنى.(ابن الجوزيّ 4:105)
الشّعبيّ: موضع تنّور نوح كان في ناحية الكوفة.
ص: 55
(ابن عطيّة 3:171)
مثله مجاهد.(النّيسابوريّ 12:26)
مجاهد :التّنّور:الّذي يخبز فيه،و كان من حجارة،و كان لحوّاء حتّى صار لنوح.
مثله الحسن.(أبو حيّان 5:222)
نحوه الفرّاء و مقاتل.(ابن الجوزيّ 4:105)
التّنّور:حيث ينبجس الماء فيه،أمر نوح أن يركب و من معه السّفينة.(الأزهريّ 14:269)
الحسن :إنّه موضع اجتماع الماء في السّفينة.
(القرطبيّ 9:34)
قتادة :كنّا نحدّث أنّه أعلى الأرض و أشرفها، و كان علما بين نوح و بين ربّه.(الطّبريّ 12:39)
كان تنّور نوح،أو أعلى الأرض و المواضع المرتفعة.
(أبو حيّان 5:222)
و التّنّور:ما زاد على وجه الأرض فأشرف منها.
(الماورديّ 2:472)
الإمام الصّادق عليه السّلام: عن المفضّل بن عمر قال:
قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:جعلت فداك أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ، فأين كان موضعه و كيف كان؟
فقال:كان التّنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد.
فقلت له:فإنّ ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم، ثمّ قلت له:و كان بدو خروج الماء من ذلك التّنّور؟
فقال:نعم،إنّ اللّه عزّ و جلّ أحبّ أن يري قوم نوح آية،ثمّ إنّ اللّه تبارك و تعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضا،و فاض الفرات فيضا،و العيون كلّهنّ فيضا؛ فغرّقهم اللّه عزّ و جلّ و أنجى نوحا و من معه في السّفينة.
(العروسيّ 2:355)
جاءت امرأة نوح إليه،و هو يعمل السّفينة،فقالت له:إنّ التّنّور قد خرج منه ماء.فقام إليه مسرعا حتّى جعل الطّبق عليه فختمه بخاتمه،فقام الماء،فلمّا فرغ نوح من السّفينة،جاء إلى خاتمه ففضّه و كشف الطّبق،ففار الماء.(العروسيّ 2:356)
مقاتل: فار من أقصى دار نوح بعين وردة من أرض الشّام.(الماورديّ 2:472)
كان ذلك تنّور آدم،و إنّما كان بالشّام بموضع يقال له:عين وردة.(القرطبيّ 9:34)
الفرّاء: هو تنّور الخابز،إذا فار الماء من أحرّ مكان في دارك فهي آية العذاب،فأسر بأهلك.(2:14)
ابن قتيبة :التّنوير عند الصّلاة.
(ابن الجوزيّ 4:105)
الطّبريّ: [بعد نقل أقوال المفسّرين قال:]
و أولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله:(التّنّور) قول من قال:هو التّنّور الّذي يخبز فيه،لأنّ ذلك هو المعروف من كلام العرب،و كلام اللّه لا يوجّه إلاّ إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب،إلاّ أن تقوم حجّتهم على شيء منه،بخلاف ذلك فيسلم لها.(12:39)
الزّجّاج: أعلم اللّه جلّ و عزّ:نوحا أنّ وقت إهلاكهم فور التّنّور.و قيل:في التّنّور أقوال:[و قد مرّ ذكرها]
(3:51)
النّقّاش: اسم المستوقد التّنّور،بكلّ لغة.
ص: 56
(ابن عطيّة 3:171)
الشّريف المرتضى:[نقل أقوال الإمام عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و قتادة و عكرمة ثمّ قال:]
و خامسها:أن يكون معنى ذلك اشتدّ غضب اللّه تعالى عليهم،و حلّ وقوع نقمته بهم،فذكر تعالى التّنّور مثلا لحضور العذاب،كما تقول العرب:«قد حمي الوطيس»إذا اشتدّ الحرب،و عظم الخطب.و الوطيس هو التّنّور.و تقول العرب أيضا:«قد فارت قدر القوم» إذا اشتدّ حربهم.[ثمّ استشهد بشعر]
و سادسها:أن يكون«التّنّور»الباب الّذي يجتمع فيه ماء السّفينة،فجعل فوران الماء منه و السّفينة على الأرض علما على ما أنذر به من إهلاك قومه.
و أولى الأقوال بالصّواب قول من حمل الكلام على التّنّور الحقيقيّ،[و هو قول ابن عبّاس]لأنّه الحقيقة و ما سواه مجاز،و لأنّ الرّوايات الظّاهرة تشهد له، و أضعفها و أبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدّة الغضب،و احتداد الأمر تمثيلا و تشبيها،لأنّ حمل الكلام على الحقيقة الّتي تعضدها الرّواية،أولى من حمله على المجاز و التّوسّع،مع فقد الرّواية.
و أيّ المعاني أريد بالتّنّور فإنّ اللّه تعالى جعل فوران الماء منه علما لنبيّه،و آية تدلّ على نزول العذاب بقومه، لينجو بنفسه و بالمؤمنين.(2:171)
نحوه الطّبرسيّ.(3:163)
الطّوسيّ: و في التّنّور أقوال:
منها:أنّ الماء فار من التّنّور الّذي يخبز فيه.
و قيل:التّنّور عين ماء معروفة،و تنّور الخابزة وافقت فيه لغة العرب لغة العجم.[ثمّ ذكر أقوال المتقدّمين](5:556)
ابن عطيّة: و اختلف النّاس في التّنّور:
فقالت:فرقة:كانت هذه أمارة جعلها اللّه لنوح،أي إذا فار التّنّور فاركب في السّفينة،و يشبه أن يكون وجه الأمارة أنّ مستوقد النّار إذا فار بالماء فغيره أشدّ فورانا، و أحرى بذلك.[ثمّ أدام البحث بنقل الأقوال أو الحمل على المجاز](3:170)
الفخر الرّازيّ: في التّنّور قولان:
أحدهما:أنّه التّنّور الّذي يخبز فيه،و الثّاني:أنّه غيره.
أمّا الأوّل و هو أنّه التّنّور الّذي يخبز فيه،فهو قول جماعة عظيمة من المفسّرين كابن عبّاس و الحسن و مجاهد.
و هؤلاء اختلفوا،فمنهم من قال:إنّه تنّور نوح عليه السّلام، و قيل:كان لآدم.قال الحسن:كان تنّورا من حجارة، و كان لحوّاء حتّى صار لنوح عليه السّلام.
و اختلفوا في موضعه،فقال الشّعبيّ:إنّه كان بناحية الكوفة.و عن عليّ رضي اللّه عنه:أنّه في مسجد الكوفة، قال:و قد صلّى فيه سبعون نبيّا.و قيل:بالشّام بموضع يقال له:عين وردان،و هو قول مقاتل.و قيل:فار التّنّور بالهند.و قيل:إنّ امرأته كانت تخبز في ذلك التّنّور،فأخبرته بخروج الماء من ذلك التّنّور،فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السّفينة.
القول الثّاني:ليس المراد من التّنّور تنّور الخبز، و على هذا التّقدير ففيه أقوال:
ص: 57
الأوّل:أنّه انفجر الماء من وجه الأرض،كما قال:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ* وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ القمر:11،12، و العرب تسمّي وجه الأرض تنّورا.
الثّاني:أنّ التّنّور أشرف موضع في الأرض و أعلى مكان فيها،و قد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع، ليكون ذلك معجزة له،و أيضا المعنى أنّه لمّا نبع الماء من أعالي الأرض،و من الأمكنة المرتفعة فشبّهت لارتفاعها بالتّنانير.
الثّالث: (فارَ التَّنُّورُ) أي طلع الصّبح،و هو منقول عن عليّ رضي اللّه عنه.
الرّابع: (فارَ التَّنُّورُ) يحتمل أن يكون معناه أشدّ الأمر،كما يقال:«حمي الوطيس».و معنى الآية إذا رأيت الأمر يشتدّ و الماء يكثر فانج بنفسك و من معك إلى السّفينة.
فإن قيل:فما الأصحّ من هذه الأقوال؟
قلنا:الأصل حمل الكلام على حقيقته،و لفظ التّنّور حقيقة في الموضع الّذي يخبز فيه،فوجب حمل اللّفظ عليه.
و لا امتناع في العقل في أن يقال:إنّ الماء نبع أوّلا من موضع معيّن،و كان ذلك الموضع تنّورا.
فإن قيل:ذكر التّنّور بالألف و اللاّم،و هذا إنّما يكون معهود سابق معيّن،معلوم عند السّامع،و ليس في الأرض تنّور هذا شأنه،فوجب أن يحمل ذلك على أنّ المراد:إذا رأيت الماء يشتدّ نبوعه و الأمر يقوى فانج بنفسك و بمن معك.
قلنا:لا يبعد أن يقال:إنّ ذلك التّنّور كان لنوح عليه السّلام،بأن كان تنّور آدم أو حوّاء،أو كان تنّورا عيّنه اللّه تعالى لنوح عليه السّلام،و عرّفه أنّك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أنّ الأمر قد وقع،و على هذا التّقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره.(17:225)
نحوه البيضاويّ(1:468)،و النّيسابوريّ(12:
26)،و أبو السّعود(3:312)،و القرطبيّ(9:34)، و البروسويّ(4:126).
النّسفيّ: هو كناية عن اشتداد الأمر و صعوبته، و قيل:معناه جاش الماء من تنّور الخبز،و كان من حجر لحوّاء،فصار إلى نوح عليه السّلام.و قيل:التّنّور وجه الأرض.
(2:188)
الخازن :و التّنّور فارسيّ معرّب،لا تعرف له العرب اسما غير هذا،فلذلك جاء في القرآن بهذا اللّفظ، فخوطبوا بما يعرفون.و قيل:إنّ لفظ التّنّور جاء هكذا بكلّ لفظ عربيّ و عجميّ.و قيل:إنّ لفظ التّنّور أصله أعجميّ،فتكلّمت به العرب فصار عربيّا مثل الدّيباج و نحوه،و اختلفوا في المراد بهذا التّنّور.[ثمّ ذكر نحو الفخر الرّازيّ](3:189)
أبو حيّان :[ذكر أقوال المتقدّمين و أضاف:]
و الظّاهر من هذه الأقوال حمله على التّنّور الّذي هو مستوقد النّار،و يحتمل أن تكون«أل»فيه للعهد لتنّور مخصوص،و يحتمل أن تكون للجنس،ففار الماء من التّنانير،و كان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النّيران.
و لا تنافي بين هذا و بين قوله: وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ
ص: 58
عُيُوناً القمر:12؛إذ يمكن أن يراد ب(الارض)أماكن التّنانير،و التّفجير غير الفوران،فحصل الفوران للتّنّور و التّفجير للأرض.(5:222)
الشّربينيّ: [اكتفى بذكر الأقوال السّابقة](2:57)
و مثله الآلوسيّ.(12:52)
رشيد رضا :اشتدّ غضب اللّه تعالى عليهم،فهو مجاز كحمي الوطيس.أو فار الماء من التّنّور عند نوح، لأنّه بدأ ينبع من الأرض.و التّنّور الّذي يخبز فيه الخبز معروف عند العرب.
قيل:إنّ التّاء أصليّة فيه،و قيل:زائدة و قد اتّفقت فيه لغة العرب و العجم.
و قيل:أوّل من صنعه حوّاء أمّ البشر،و أنّ تنّورها بقي إلى زمن نوح،و أنّه هو المراد هنا،و هذا ممّا لا يوثق به.[إلى أن قال:]
و قد روي فيه عن مفسّري الصّحابة و التّابعين بضعة أقوال ما أراها إلاّ من الإسرائيليّات،أقربها إلى اللّغة:أنّ التّنّور أطلق في اللّغة على تنّور الفجر،و أنّ المراد من فورانه هنا ظهور نوره،و هو مرويّ عن عليّ كرّم اللّه وجهه،يعني أنّ هذا الوقت موعدهم كقوم لوط.
و الثّاني:أنّ المراد منه فوران الماء من تنّور الخبز، و كان ذلك علامة لنوح عليه السّلام،و هو يتوقّف على رواية مرفوعة،و ينسب إلى ابن عبّاس رضي اللّه عنه.و أقرب منه أن يكون أوّل نبع ماء الطّوفان من الأرض.و لا يصحّ في هذه الآثار و لا في أمثالها رواية مرفوعة يحتجّ بها.
(12:76)
الطّباطبائيّ: و التّنّور تنّور الخبز،و هو ممّا اتّفقت فيه اللّغتان:العربيّة و الفارسيّة،أو الكلمة فارسيّة في الأصل.
و فوران التّنّور:نبع الماء و ارتفاعه منه،و قد ورد في الرّوايات أنّ أوّل ما ابتدأ الطّوفان يومئذ كان ذلك بتفجّر الماء من تنّور،و على هذا فاللاّم في التّنّور للعهد،يشار بها إلى تنّور معهود في الخطاب.و يحتمل اللّفظ أن يكون كناية عن اشتداد غضب اللّه تعالى،فيكون من قبيل قولهم:«حمي الوطيس»إذا اشتدّ الحرب.[إلى أن قال:]
و في التّنّور أقوال أخر بعيدة من الفهم،كقول من قال:إنّ المراد به طلوع الفجر،و كان عند ذلك أوّل ظهور الطّوفان.و قول بعضهم:إنّ المراد به أعلى الأرض و أشرفها،أي انفجر الماء من الأمكنة المرتفعة و نجود الأرض.و قول آخرين:إنّ التّنّور وجه الأرض هذا.
(10:226)
محمّد جواد مغنية: و للتّنّور معان في اللّغة،منها وجه الأرض،و هو المراد هنا.(4:232)
المصطفويّ: حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ ظاهر الكلام ابتداء الفوران من التّنّور،و بقرينة التّكليف الخاصّ فيما بعده المتوجّه إلى نوح عليه السّلام اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ يفهم أنّ المراد هو التّنّور المخصوص في بيت نوح عليه السّلام،أو في محلّ كان تحت نظره.
و أمّا خصوصيّة التّنّور:فإنّه حجرة للنّار و مركز للحرارة،فلا مناسبة بينه و بين فوران الماء منه إلاّ بأمر خارق للطّبيعة،مضافا إلى أنّ التّنّور محلّ لخروج الخبز، و هو أعلى طعام للإنسان في إدامة حياته،فيكون ابتداء الفوران من ذلك المحلّ،إشارة إلى انقضاء أيّام حياتهم.
ص: 59
و لا يبعد أن يكون المراد ظاهرا أو باطنا،هو فوران القوّة الغضبيّة و ظهورها،و بدوّ حرارة السّخط و العذاب الأليم،فيكون التّنّور عبارة عن صفة و حالة قهّاريّة جبّاريّة للّه المتعال،فإنّ أخذه لشديد.(1:378)
مكارم الشّيرازيّ: «التّنّور»بتشديد النّون،هو المكان الّذي ينضج الخبز فيه بعد أن كان عجينا.لكن ما مناسبة فوران الماء في التّنّور و اقتراب الطّوفان؟
اختلف المفسّرون فكانت لهم أقوال كثيرة في ذلك:
قال بعضهم:كانت العلامة بين نوح و ربّه لحلول الطّوفان أن يفور التّنّور،ليلتفت نوح و أصحابه إلى ذلك فيركبوا في السّفينة مع وسائلهم و أسبابهم.
و قال جماعة آخرون:إنّ كلمة(التّنّور)استعملت هنا مجازا و كناية عن غضب اللّه،و ذلك لأنّ غضب اللّه اشتدّت شعلته و فار،و هذا يوحي بقرب حلول العذاب المدمّر،و هذا التّعبير مطّرد حيث يشبهون شدّة الغضب بالفورة و الاشتعال.
و لكن يبدو أنّ الاحتمال الّذي يرى أنّ(التّنّور)هو بمعناه الحقيقيّ المعروف.هذا الاحتمال أقوى،و المراد ب(التّنّور)ليس تنّورا خاصّا بل المقصود بيان هذه المسألة الدّقيقة،و هي أنّه حين فار التّنّور بالماء-و هو محلّ النّار عادة-التفت نوح عليه السّلام و أصحابه إلى أنّ الأوضاع بدأت تتبدّل بسرعة و أنّه حدثت المفاجأة، فأين«الماء من النّار»؟!
و بتعبير آخر:حين رأوا أنّ سطح الماء ارتفع من تحت الأرض و أخذ يفور من داخل التّنّور الّذي يصنع في مكان يابس و محفوظ،علموا أنّ أمرا مهمّا قد حدث و أنّه قد ظهر في التّكوين أمر خطير،و كان ذلك علامة لنوح و أصحابه أن ينهضوا و يتهيّئوا.
و لعلّ قوم نوح (1)الغفلة رأوا هذه الآية،و هي فوران التّنّور بالماء في بيوتهم،و لكن غضّوا أجفانهم و صمّوا آذانهم كعادتهم عند مثل هذا الإخطار،أي الدّلالة الكبيرة،حتّى أنّهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتّفكير في هذا الأمر،و أنّ إنذارات نوح و إخطاراته كانت لها واقعيّة.في هذه الحالة بلغ الأمر الإلهيّ نوحا قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ (6:498)
1-اختلف اللّغويّون و المفسّرون في معنى«التّنّور» على أقوال،هي:الموقد الّذي يخبز فيه،و طلوع الفجر و نور الصّبح،و وجه الأرض،و موضع اجتماع الماء في سفينة نوح،و مسجد الكوفة،و الموضع المرتفع من الأرض،و عين في الجزيرة و هي عين الوردة.
2-و كما اختلفوا في معناه فقد اختلفوا في أصله أيضا،فقالوا:هو عربيّ،أو فارسيّ،أو آراميّ.بيد أنّه لفظ معروف في كثير من اللّغات،حتّى قيل:إنّه في جميع اللّغات كذلك،فقد جاء في اللّغة الفارسيّة و التّركيّة و العبريّة بلفظ«تنور»،و في الآراميّة و السّريانيّة«تنورا»،و في الأفغانيّة«تنارة»،و في الأبستاق(أوستا)«تنوره».
ص: 60
و يرى«آرثر جفري»أنّ هذا اللّفظ من مخلّفات أقوام كانت تقطن المنطقة السّاميّة،قبل هجرة السّاميّين و الآريّين إليها،ثمّ دخل بعد ذلك لغتي هذين الشّعبين.
3-و أمّا من قال بعربيّته فقد ذهب إلى أنّه من قولهم:نوّر الفجر تنويرا،و هو قول الإمام عليّ عليه السّلام كما تقدّم في معنى التّنور.و أصله على هذا القول«نوّور»على وزن«فعّول)،فاجتمع واوان و ضمّة و تشديد،فاستثقل ذلك،فقلبوا عين الفعل إلى فائه،فصار«ونّور»،فأبدلوا من الواو تاء،كقولهم:تولج،في«و ولج»،و التّولج:كناس الوحش.
و قيل:أصله«تنوور»على وزن(تفعول)من«ت ن ر»، فهمزت الواو الأولى،ثمّ حذفت تخفيفا،و شدّد الحرف الّذي قبلها-أي النّون-فصار«تنّور».
و القول الأوّل أرجح،لأنّ«ت ن ر»مهمل في اللّغة العربيّة،و النّون قبل الرّاء نادر في كلام العرب،كقولهم:
زنر الإناء،أي ملأه،و سنر الرّجل:ضاق خلقه و ساء، و شنّر فلان فلانا و عليه:فضحه و عابه.
جاءت مرّتين في قصّة نوح:
1- حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
هود:40
2- فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ
المؤمنون:27
يلاحظ أوّلا:أنّ التّنّور في القرآن خاصّ بقصّة نوح،و ذكر مرّتين كعلامة لحلول العذاب في سياق واحد،سوى أنّه جاء في الأولى قُلْنَا احْمِلْ فِيها، و في الثّانية فَاسْلُكْ فِيها، و أضيف في الثّانية(منهم)، و لا تفاوت في ذلك سوى مزيد من التّوضيح.
و كونه علامة للعذاب مفهوم من(فار التّنّور)، حيث إنّ ما بعدها جواب لها و مترتّب عليها.
ثانيا:اختلفوا في المراد ب(التّنّور)كما مرّ في النّصوص من دون شاهد في القرآن على شيء منها، سوى ما هو صريح الآيتين:أنّ فوران التّنّور كان علامة لحلول العذاب،فأمر نوح بحمل ما ذكر في السّفينة،و هو الّذى قوّاه بعضهم.
ثالثا:اختلفوا أيضا في محلّ التّنّور بين بلدين:
الكوفة و الشّام،و إنّي أرى أنّه ناشئ من تلك المنافسة و العداوة الّتي كانت بين أهالي البلدين في العصر الأمويّ،فكان هوى أهل الكوفة مع أهل البيت،و أهل الشّام مع بني أميّة،فأراد كلّ منهما أن يكون له حظّ من هذه القصّة.و يلحظ هذا الخلاف بوضوح في كثير من المسائل،فينبغي التّبيّن فيها و قبولها بحذر.
رابعا:لقد أخبر القرآن بقصّة الطّوفان،و كشف آثارها العلم الحديث،و سنبحثها في«طوفان»إنشاء اللّه فانتظر.
ص: 61
ص: 62
25 لفظا،87 مرّة:19 مكّيّة،68 مدنيّة
في 25 سورة:13 مكّيّة،12 مدنيّة
تاب 18:7-11 توبوا 7:4-3
تابا 1:-1 التّائبون 1:-1
تابوا 10:3-7 تائبات 1:-1
تبتم 2:-2 توّاب 2:-2
تبت 3:1-2 التّوّاب 6:-6
يتوب 12:1-11 توّابا 3:-3
يتب 1:-1 التّوّابين 1:-1
يتوبون 3:-3 متاب 1:-1
يتوبوا 3:1-2 متابا 1:1
تتوبا 1:-1 توبة 2:-2
أتوب 1:-1 التّوبة 4:-4
تب 1:-1 توبتهم 1:-1
التّوب 1:1
الخليل :تبت إلى اللّه توبة و متابا،و أنا أتوب إلى اللّه ليتوب عليّ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:3،أي قابل التّوبة، تطرح الهاء.
و التّوبة:الاستحياء،يقال:ما طعامك بطعام توبة، أي لا يستحى منه و لا يحتشم.(8:138)
اللّيث: تاب الرّجل إلى اللّه يتوب توبة و متابا، و اللّه التّوّاب يتوب على عبده،و العبد تائب إلى اللّه، و قال اللّه جلّ و عزّ: وَ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:3،أراد التّوبة.(الأزهريّ 14:332)
أبو حاتم: و التّوّاب:التّائب الفاعل،و التّوّاب:اللّه تعالى،قال: وَ أَنَّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ النّور:10،و قال:
إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ البقرة:222.
(الأضداد:131)
المبرّد: و قوله:[عمر بن عبد اللّه في شعره]
ص: 63
*ما لقاتلي من متاب*
أي من توبة،و المصدر إذا كان بزيادة الميم من:فعل يفعل فهو على«مفعل»قال اللّه جلّ و عزّ: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً الفرقان:71.
و أمّا قوله جلّ ذكره: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:3،فيكون على ضربين:يكون مصدرا و يكون جماعا،فالمصدر قولك:تاب يتوب توبا،كقولك:قال يقول قولا،و الجمع:توبة و توب،مثل تمرة و تمر و جمرة و جمر.(1:383)
الأخفش: التّوب:جمع توبة،مثل عومة و عوم.
(الجوهريّ 1:91)
ابن دريد :و التّوب:مصدر تاب يتوب توبا، و يمكن أن يكون«التّوب»جمع توبة،و رجل تائب و توّاب.(3:199)
تقول العرب:اللّهمّ تقبّل تابتي و توبتي،و ارحم حابتي و حوبتي،و يقولون:قامتي و قومتي و قيامتي.[ثمّ استشهد بشعر](3:488)
الأزهريّ: [نقل قول اللّيث ثمّ قال:]
قلت:أصل تاب:عاد إلى اللّه و رجع و أناب،و تاب اللّه عليه،أي عاد عليه بالمغفرة،و قال جلّ و عزّ:
وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً النّور:31،أي عودوا إلى طاعته و أنيبوا.
و اللّه التّوّاب:يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه.
و استتبت فلانا،أي عرضت عليه التّوبة ممّا اقترف، أي الرّجوع و النّدم على ما فرط منه.[إلى أن قال:]
و التّوّاب:من صفات اللّه تعالى،هو الّذي يتوب على عباده.و التّوّاب من النّاس:هو الّذي يتوب إلى ربّه.(14:332)
الصّاحب: [نحو الخليل و أضاف:]
و التّوبة:الإسلام،يقال:أدرك فلان زمن التّوبة.
و التّابة:التّوبة.(9:473)
الجوهريّ: التّوبة:الرّجوع من الذّنب،و في الحديث:
«النّدم توبة»و كذلك التّوب مثله.
و تاب إلى اللّه توبة و متابا،و قد تاب اللّه عليه:وفّقه لها.
و في كتاب سيبويه:التّتوبة على«تفعلة»:التّوبة.
و استتابه:سأله أن يتوب.(1:92)
ابن فارس: التّاء و الواو و الباء كلمة واحدة تدلّ على الرّجوع...(1:357)
أبو هلال :الفرق بين التّوبة و الاعتذار:أنّ التّائب مقرّ بالذّنب الّذي يتوب منه،معترف بعدم عذره فيه.
و المعتذر يذكر أنّ له فيما آتاه من المكروه عذرا،و لو كان الاعتذار التّوبة لجاز أن يقال:اعتذر إلى اللّه،كما يقال:تاب إليه.
و أصل العذر:إزالة الشّيء عن جهته،اعتذر إلى فلان فعذّره،أي أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة أو في الظّاهر،و يقال:عذرته عذيرا،و لهذا يقال:من عذيري من فلان،و تأويله من يأتيني بعذر منه،و منه قوله تعالى: عُذْراً أَوْ نُذْراً المرسلات:6،و النّذر:
جمع نذير.
الفرق بين النّدم و التّوبة:أنّ التّوبة أخصّ من النّدم،
ص: 64
و ذلك أنّك قد تندم على الشّيء و لا تعتقد قبحه، و لا تكون التّوبة من غير قبح،فكلّ توبة ندم و ليس كلّ ندم توبة.
الفرق بين الاستغفار و التّوبة:أنّ الاستغفار:طلب المغفرة بالدّعاء و التّوبة أو غيرهما من الطّاعة.و التّوبة:
النّدم على الخطيئة مع العزم على ترك المعاودة.فلا يجوز الاستغفار مع الإصرار،لأنّه مسلبة للّه ما ليس من حكمه و مشيئته ما لا تفعله ممّا قد نصب الدّليل فيه،و هو تحكّم عليه،كما يتحكّم المتأمّر المتعظّم على غيره،بأن يأمره بفعل ما أخبر أنّه لا يفعله.(194)
الهرويّ: التّوبة و المتاب واحد،يقال:تاب و ثاب و أناب،إذا راجع الجميل.و توبة اللّه على خلقه:الرّجوع بهم من المعصية إلى الطّاعة،و منه قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ البقرة:54.
و يكون الرّجوع بهم من التّشديد إلى التّخفيف، و من الحظر إلى الإباحة.(1:265)
ابن سيده: تاب إلى اللّه توبا،و توبة و متابا:أناب و رجع عن المعصية إلى الطّاعة.[ثمّ استشهد بشعر]
و تاب هو عليه.
و رجل توّاب:تائب إلى اللّه.
و اللّه توّاب:يتوب على عبده.
و التّتوبة:«تفعلة»من ذلك.(9:541)
التّوبة:رجوع المذنب عن ذنبه بالنّدم عليه.
تاب إلى اللّه تعالى من كذا و عن كذا يتوب توبا و توبة و متابا و تابة:أقلع و أناب و رجع عن المعصية إلى الطّاعة.
و أصل تاب:عاد إلى اللّه و رجع و أناب.
و تاب اللّه على فلان:عاد عليه بالمغفرة،أو وفّقه للتّوبة،أو رجع به من التّشديد إلى التّخفيف أو رجع عليه بفضله و قبوله.
و استتاب فلان فلانا:عرض عليه التّوبة ممّا اقترف،أي الرّجوع و النّدم على ما فرط منه.
و استتابه أيضا:سأله أن يتوب.
و اللّه توّاب:يتوب على عبده إذا تاب إليه من ذنبه.
(الإفصاح 2:1281)
الطّوسيّ: فالتّوبة،و الإنابة،و الإقلاع نظائر في اللّغة،و ضدّ التّوبة:الإصرار.يقال:تاب يتوب توبة و توّابا و استتابة.
و اللّه تعالى يوصف بالتّوّاب،و معناه أنّه يقبل التّوبة عن عباده.
و أصل التّوبة:الرّجوع عمّا سلف،و النّدم على ما فرط.
و اللّه تعالى تائب على العبد بقبول توبته،و العبد تائب إلى اللّه،بمعنى نادم على معصيته.
و التّائب:صفة مدح لقوله: اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ التّوبة:112.(1:169)
مثله الطّبرسيّ.(1:88)
الرّاغب: التّوب:ترك الذّنب على أجمل الوجوه، و هو أبلغ وجوه الاعتذار.
فإنّ الاعتذار على ثلاثة أوجه:إمّا أن يقول المعتذر:
لم أفعل،أو يقول:فعلت لأجل كذا،أو فعلت و أسأت و قد أقلعت.و لا رابع لذلك،و هذا الأخير هو التّوبة.
ص: 65
و التّوبة في الشّرع:ترك الذّنب لقبحه،و النّدم على ما فرط منه،و العزيمة على ترك المعاودة،و تدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة،فمتى اجتمعت هذه الأربع،فقد كمل شرائط التّوبة.
و تاب إلى اللّه:تذكّر ما يقتضي الإنابة.[ثمّ ذكر آيات]
و التّائب:يقال لباذل التّوبة و لقابل التّوبة،فالعبد تائب إلى اللّه،و اللّه تائب على عبده.
و التّوّاب:العبد الكثير التّوبة،و ذلك بتركه كلّ وقت بعض الذّنوب على التّرتيب،حتّى يصير تاركا لجميعه، و قد يقال للّه ذلك لكثرة قبوله توبة العباد حالا بعد حال.
و قوله: وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً الفرقان:71،أي التّوبة التّامّة،و هو الجمع بين ترك القبيح و تحرّي الجميل، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ الرّعد:30، إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:
54.(76)
الزّمخشريّ: تاب العبد إلى اللّه من ذنبه،و تاب اللّه على عبده،و اللّه توّاب،و إلى اللّه المتاب.
و استتاب الحاكم فلانا:عرض عليه التّوبة،و المرتدّ يستتاب.
و أدرك فلان زمن التّوبة،أي الإسلام،لأنّه يتاب فيه من الشّرك.[ثمّ استشهد بشعر](أساس البلاغة:40)
الطّبرسيّ: أصل التّوبة:الرّجوع،و حقيقتها النّدم على القبح مع العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح.
و قيل:يكفي في حدّها النّدم على القبيح،و العزم على أن لا يعود إلى مثله.(1:21)
الصّغانيّ: التّوّاب:من صفات اللّه تعالى،أي يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه،و التّوّاب:
التّائب.
التّابة:التّوبة.و يتيب:جبل من جبال المدينة.
(1:75)
التّوّاب:التّائب،و الّذي يتوب على عباده،و هو اللّه جلّ جلاله.(الأضداد:225)
الفيّوميّ: تاب من ذنبه يتوب توبا و توبة و متابا:
أقلع.
و قيل:التّوبة هي التّوب،و لكن الهاء لتأنيث المصدر.و قيل:التّوبة واحدة كالضّربة،فهو تائب.
و تاب اللّه عليه:غفر له و أنقذه من المعاصي،فهو توّاب مبالغة.
و استتابه:سأله أن يتوب.(1:78)
الفيروزآباديّ: تاب إلى اللّه توبا و توبة و متابا و تابة و تتوبة:رجع عن المعصية،و هو تائب و توّاب.
و تاب اللّه عليه:وفّقه للتّوبة،أو رجع به من التّشديد إلى التّخفيف،أو رجع عليه بفضله و قبوله، و هو توّاب على عباده.
و استتابه:سأله أن يتوب.
و التّابة:التّوبة.(1:41)
نحوه مجمع اللّغة.(1:162)
الطّريحيّ: التّوب و التّوبة:الرّجوع من الذّنوب، و في اصطلاح أهل العلم:النّدم على الذّنب لكونه ذنبا.
و في الحديث:«النّدم توبة».
و فيه عن عليّ عليه السّلام:«التّوبة يجمعها ستّة أشياء:على
ص: 66
الماضي من الذّنوب النّدامة،و للفرائض الإعادة،و ردّ المظالم،و استحلال الخصوم،و أن تعزم أن لا تعود،و أن تربّي نفسك في طاعة اللّه كما ربّيتها في معصية اللّه،و أن تذيقها مرارات الطّاعة كما أذقتها حلاوة المعصية».
و التّوبة:الرّجوع من التّشديد إلى التّخفيف،و منه قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ المزّمّل:
20،و من الحظر إلى الإباحة،و منه قوله تعالى:
تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ البقرة:187.
(2:15)
الكفويّ الحنفيّ: التّوبة:النّدم على الذّنب تقرّ بأنّ لا عذر لك في إتيانه.و الاعتذار:إظهار ندم على ذنب تقرّ بأنّ لك في إتيانه عذرا.فكلّ توبة ندم و لا عكس.
و التّوبة:الرّجوع عن المعصية إلى اللّه.و الإنابة:الرّجوع عن كلّ شيء إلى اللّه.و الأوب:الرّجوع بالطّاعات إلى اللّه.و التّوبة النّدم:كالحجّ عرفة.و التّوبة إذا استعملت ب«على»دلّت على معنى القبول،و اسم الفاعل منه توّاب.يستعمل في اللّه لكثرة قبول التّوبة من العباد،و إذا استعملت ب«عن»كان اسم الفاعل منه تائبا.
(المصطفويّ 1:379)
الجزائريّ: «الإنابة و التّوبة»قيل:التّوبة هي النّدم على فعل ما سبق،و الإنابة ترك المعاصي في المستقبل.
قلت:و يشهد لذلك قول سيّد السّاجدين عليه السّلام في الصّحيفة الشّريفة:«اللّهمّ إن يكن النّدم توبة فأنا أندم النّادمين،و إن يكن التّرك لمعصيتك إنابة فأنا أوّل المنيبين».(24)
محمّد إسماعيل إبراهيم: [نحو الفيروزآباديّ و أضاف:]
و التّوّاب:اسم من أسماء اللّه الحسنى،و معناه أنّه هو الّذي يوفّق عباده إلى أسباب التّوبة و يقبلها منهم، و يقال للعبد:توّاب،أي كثير التّوبة و النّدم و الاستغفار من الذّنوب.(1:92)
المصطفويّ: الأصل الواحد في هذه المادّة:هو الرّجوع من الذّنب و النّدم عليه،و هذا المعنى إذا انتسب إلى العبد.
و أمّا إذا انتسب إلى اللّه المتعال فتستعمل بحرف «على»فتدلّ على الرّجوع بطريق الاستعلاء و الاستيلاء،و يلازم هذا المعنى الرّحمة و العطوفة و المغفرة.
و ظهر الفرق بينها و بين الإنابة و الأوب و الرّجوع و الاعتذار و النّدم.[ثمّ ذكر الآيات](1:379)
1- فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ. البقرة:37
الطّبريّ: يعني على آدم،و الهاء الّتي في(عليه) عائدة على آدم،و قوله: فَتابَ عَلَيْهِ يعني رزقه التّوبة من خطيئته،و التّوبة معناها الإنابة إلى اللّه، و الأوبة إلى طاعته ممّا يكره من معصيته.(1:245)
القفّال:لا بدّ في التّوبة من ترك ذلك الذّنب،و من النّدم على ما سبق،و من العزم على أن لا يعود إلى مثله،
ص: 67
و من الإشفاق فيما بين ذلك كلّه.
أمّا أنّه لا بدّ من التّرك،فلأنّه لو لم يترك لكان فاعلا له،فلا يكون تائبا.
و أمّا النّدم فلأنّه لو لم يندم لكان راضيا بكونه فاعلا له،و الرّاضي بالشّيء قد يفعله،و الفاعل للشّيء لا يكون تائبا عنه.
و أمّا العزم على أن لا يعود إلى مثله،فلأنّ فعله معصية،و العزم على المعصية معصية.
و أمّا الإشفاق فلأنّه مأمور بالتّوبة،و لا سبيل له إلى القطع بأنّه أتى بالتّوبة كما لزمه،فيكون خائفا،و لهذا قال تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ الزّمر:9، و قال عليه السّلام:«لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا».
(الفخر الرّازيّ 3:20)
عبد الجبّار: إذا كانت هذه المعصية صغيرة فكيف تلزم التّوبة؟
و الجواب:إنّها تلزمه،لأنّ المكلّف متى علم أنّه قد عصى لم يحد (1)فيما بعد و هو مختار،و لا مانع من أن يكون نادما أو مصرّا.لكنّ الإصرار قبيح فلا تتمّ مفارقته لهذا القبيح إلاّ بالتّوبة،فهي إذن لازمة سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة،و سواء ذكرها و قد تاب عنها من قبل أو لم يتب.(الفخر الرّازيّ 3:21)
الماورديّ: أي قبل توبته،و التّوبة:الرّجوع،فهي من العبد رجوعه عن الذّنب بالنّدم عليه،و الإقلاع عنه، و هي من اللّه تعالى على عبده رجوع له إلى ما كان عليه.
فإن قيل:فلم قال: فَتابَ عَلَيْهِ و لم يقل:فتاب عليهما،و التّوبة قد توجّهت إليهما؟
قيل عنه جوابان:
أحدهما:لمّا ذكر آدم وحده بقوله: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ذكر بعده قبول توبته،و لم يذكر توبة حوّاء و إن كانت مقبولة التّوبة،لأنّه لم يتقدّم ذكرها.
و الثّاني:أنّ الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحدا،جاز أن يذكر أحدهما و يكون المعنى لهما،كما قال تعالى:
وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها الجمعة:11، و كما قال عزّ و جلّ: وَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ التّوبة:62.(1:109)
نحوه ابن الجوزيّ.(1:70)
الطّوسيّ: و التّوبة شرطها النّدم على ما مضى من القبيح،و العزم على أن لا يعود إلى مثله من القبيح،لأنّ هذه التّوبة هي المجمع على سقوط العقاب عندها، و ما عداها فمختلف فيه.
و قد يقول القائل:قد تبت من هذا الأمر،أي عزمت على ألاّ أفعله،و صرت بمنزلة التّائب،لأنّها طاعة،فأمّا إسقاط العقاب عنده فتفضّل منه تعالى.
و قالت المعتزلة و من وافقها:و ذلك واجب،و قد بيّنّا الصّحيح من ذلك في«شرح الجمل».
و التّوبة إذا كانت من ترك ندب عندنا تصحّ،و تكون على وجه الرّجوع إلى فعله.و على هذا تحمل توبة الأنبياء كلّهم في جميع ما نطق به القرآن،لأنّه قد بيّنّا أنّه لا يجوز عليهم فعل القبيح.
و المطبوع على قلبه له توبة،و به قال أهل العدل.
و قالت البكريّة:لا توبة له.و هو خطأ،من قبل أنّهه.
ص: 68
لا يصحّ تكليفه إلاّ و هو متمكّن من أن يتخلّص من ضرر عقابه.و ذلك لا يتمّ إلاّ بأن يكون له طريق إلى إسقاط عقابه.و قد وعد اللّه بذلك-و إن كان تفضّلا-إذا حصلت التّوبة.
و اختلفوا في التّوبة من الغصب،هل تصحّ مع الإقامة على منع المغصوب؟فقال قوم:لا تصحّ.و قال آخرون:تصحّ-و هو الأقوى-إلاّ أن يكون فاسقا بالمنع،فيعاقب عقاب المانع،و إن سقط عنه عقاب الغصب.
و الصّحيح أنّ القاتل عمدا تصحّ توبته،و قال قوم:
لا تصحّ.
و التّوبة من القتل الّذي يوجب القود:قال قوم:
لا تصحّ إلاّ بالاستسلام لوليّ المقتول،و حصول النّدم، و العزم على أن لا يعود.و قال قوم آخرون:تصحّ التّوبة من نفس القتل،و يكون فاسقا بترك الاستسلام.و هذا هو الأقوى،و اختاره الرّمّانيّ.
فأمّا التّوبة من قبيح بفعل آخر،فلا تصحّ على أصلنا كالتّائب من الإلحاد بعبادة المسيح.و قال قوم:تصحّ، و أجراه مجرى معصيتين يترك بإحداهما الأخرى،فإنّه لا يؤاخذ بالمتروكة.
و قال قوم:التّوبة من اعتقاد جهالة إذا كان صاحبها لا يعلم أنّها معصية بأنّه يعتقد أنّه لا محجوج إلاّ عارف، فإنّه يتخلّص من ضرر تلك المعصية إذا رجع عنها إلى المعرفة،و إن لم يوقع معها توبة.
و قال آخرون:لا يتخلّص إلاّ بالتّوبة،لأنّه محجوج فيه،مأخوذ بالنّزوع عن الإقامة عليه،و هو الأقوى.
فأمّا ما نسي من الذّنوب،فإنّه يجري مجرى التّوبة منه على وجه الجملة،و قال قوم:لا يجري.و هو خطأ، لأنّه ليس عليه في تلك الحال أكثر ممّا عمل.فأمّا ما نسي من الذّنوب ممّا لو ذكر،لم يكن عنده معصية.
و هل يدخل في الجملة إذا أوقع التّوبة من كلّ خطيئة؟قال قوم:يدخل فيها،و قال آخرون:لا يدخل فيها،لكنّه يتخلّص من ضرر المعصية،لأنّه ليس عليه أكثر ممّا علم في تلك السّاعة.و الأوّل أقوى،لأنّ العبد إذا لم يذكر صرف توبته إلى كلّ معصية،هي في معلوم اللّه معصية.
فأمّا المشرك إذا كان يعرف قبل توبته بفسق-إذا تاب من الشّرك-هل يدخل فيه التّوبة من الفسق في الحكم،و إن لم يظهر التّوبة منه؟قال قوم:لا يزول عنه حكم الفسق،و هو قول أكثر المعتزلة.و قال قوم:يزول عنه حكم الفسق.و قال الأخشيذ:القول في هذا باجتهاد.و الّذي يقوى في نفسي أنّه يزول،لأنّ الإسلام الأصل فيه العدالة إلى أن يتجدّد منه بعد الإسلام ما يوجب تفسيقه.
فأمّا التّوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر، يعلم و يعتقد قبحه.فعند أكثر من تقدّم صحيح،و قال أبو هاشم و أصحابه:لا تصحّ،و قد قلنا ما عندنا في ذلك في«شرح الجمل»و اعتمد الأوّلون على أن قالوا:كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه،و يفعل قبيحا آخر و إن علم قبحه،كذلك جاز أن يندم من القبيح،مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه.و هذا إلزام صحيح معتمد.
و اختلفوا في التّوبة عند ظهور أشراط السّاعة،هل
ص: 69
تصحّ أم لا؟فقال الحسن:يحجب عنها عند الآيات السّتّ.و رواه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«بادروا الأعمال قبل ستّ:طلوع الشّمس من مغربها،و الدّجّال، و الدّخان،و دابّة الأرض،و خويصة أحدكم يعني الموت،و أمر العامّة يعني القيامة».و قال قوم:لا شكّ أنّ بعض الآيات يحجب،و باقيها محجوز،و هو الأقوى.
و قوله: فَتابَ عَلَيْهِ يعني قبل توبته،لأنّه لمّا عرضه للتّوبة بما ألقاه من الكلمات فعل التّوبة،و قبلها اللّه تعالى منه.
و قيل: فَتابَ عَلَيْهِ أي وفّق للتّوبة و هداه إليها، فقال:اللّهمّ تب عليّ،أي وفّقني للتّوبة،فلقّنه الكلمات حتّى قالها.فلمّا قالها قبل توبته.[إلى أن قال:]
و إنّما قال: فَتابَ عَلَيْهِ و لم يقل:فتاب عليهما؟ [أجاب كما تقدّم في الوجه الثّاني من كلام الماورديّ]
(1:170)
نحوه الطّبرسيّ.(1:89)
الغزاليّ: اعلم أنّ التّوبة عبارة عن معنى ينتظم و يلتئم من ثلاثة أمور مرتّبة:علم،و حال،و فعل.
فالعلم الأوّل،و الحال الثّاني،و الفعل الثّالث.و الأوّل موجب للثّاني،و الثّاني موجب للثّالث إيجابا اقتضاه اطّراد سنّة اللّه في الملك و الملكوت.
أمّا العلم فهو معرفة عظم ضرر الذّنوب،و كونها حجابا بين العبد و بين كلّ محبوب،فإذا عرف ذلك معرفة محقّقة بيقين غالب على قلبه،ثار من هذه المعرفة تألّم للقلب بسبب فوات المحبوب.فإنّ القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألّم،فإن كان فواته بفعله تأسّف على الفعل المفوّت،فيسمّى تألّمه بسبب فعله المفوّت لمحبوبه ندما.
فإذا غلب هذا الألم على القلب و استولى،انبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمّى إرادة و قصدا إلى فعل له تعلّق بالحال و بالماضي و بالاستقبال.
أمّا تعلّقه بالحال فبالتّرك للذّنب الّذي كان ملابسا، و أمّا بالاستقبال فبالعزم على ترك الذّنب المفوّت للمحبوب إلى آخر العمر،و أمّا بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر و القضاء إن كان قابلا للجبر.
فالعلم هو الأوّل،و هو مطلع هذه الخيرات،و أعني بهذا العلم:الإيمان و اليقين.فإنّ الإيمان عبارة عن التّصديق بأنّ الذّنوب سموم مهلكة،و اليقين عبارة عن تأكّد هذا التّصديق،و انتفاء الشّكّ عنه و استيلائه على القلب،فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار النّدم،فيتألّم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنّه صار محجوبا عن محبوبه،كمن يشرق عليه نور الشّمس و قد كان في ظلمة،فيسطع النّور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب،فرأى محبوبه و قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحبّ في قلبه،و تنبعث تلك النّيران بإرادته للانتهاض للتّدارك.
فالعلم و النّدم و القصد المتعلّق بالتّرك في الحال و الاستقبال و التّلافي للماضي،ثلاثة معان مرتّبة في الحصول،فيطلق اسم«التّوبة»على مجموعها.
و كثيرا ما يطلق اسم«التّوبة»على معنى النّدم وحده،و يجعل العلم كالسّابق و المقدّمة و التّرك كالثّمرة،و التّابع المتأخّر،و بهذا الاعتبار قال عليه السّلام:
«النّدم توبة»إذ لا يخلو النّدم عن علم أوجبه و أثمره،
ص: 70
و عن عزم يتبعه و يتلوه،فيكون النّدم محفوفا بطرفيه، أعني ثمرته مثمر...
و بهذا الاعتبار قيل في حدّ التّوبة:أنّه ذو بان الحشا لما سبق من الخطإ،فإنّ هذا يعرض لمجرّد الألم،و لذلك قيل:هو نار في القلب تلتهب،و صدع في الكبد لا ينشعب.و باعتبار معنى التّرك قيل في حدّ التّوبة:إنّه خلع لباس الجفاء و نشر بساط الوفاء.
و قال سهل بن عبد اللّه التّستريّ: التّوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة،و لا يتمّ ذلك إلاّ بالخلوة و الصّمت و أكل الحلال.و كأنّه أشار إلى المعنى الثّالث من التّوبة.
و الأقاويل في حدود التّوبة لا تنحصر،و إذا فهمت هذه المعاني الثّلاثة و تلازمها و ترتيبها،عرفت أنّ جميع ما قيل في حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها، و طلب العلم بحقائق الأمور أهمّ من طلب الألفاظ المجرّدة...راجع.(4:3)
الزّمخشريّ: و اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حوّاء،لأنّها كانت تبعا له،كما طوى ذكر النّساء في أكثر القرآن و السّنّة لذلك،و قد ذكرها في قوله: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الأعراف:23، فَتابَ عَلَيْهِ: فرجع عليه بالرّحمة و القبول.(1:274)
ابن عطيّة: معناه رجع به،و التّوبة من اللّه تعالى:
الرّجوع على عبده بالرّحمة و التّوفيق،و التّوبة من العبد:
الرّجوع عن المعصية و النّدم على الذّنب،مع تركه فيما يستأنف.
و إنّما خصّ اللّه تعالى آدم بالذّكر هنا في التّلقّي و التّوبة،و حوّاء مشاركة له في ذلك بإجماع،لأنّه المخاطب في أوّل القصّة بقوله: اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ البقرة:35،فلذلك كملت القصّة بذكره وحده.
و أيضا فلأنّ المرأة حرمة و مستورة فأراد اللّه السّتر لها،و لذلك لم يذكرها في المعصية،في قوله: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى طه:121.(1:131)
ابن شهرآشوب:أي قبل توبته و ضمن الثّواب، لأنّ التّوبة غير موجبة لإسقاط العقاب،و إنّما يسقط اللّه تعالى العقاب عندها تفضّلا،و التّوبة هي الرّجوع، فيجوز أن تقع ممّن لا يعهد من نفسه قبيحا،و وجه حسنها في هذا الموضع استحقاق الثّواب بها،أو كونها لطفا.(متشابه القرآن:214)
الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه لا يجوز أن يكون المراد أنّ اللّه تعالى عرّفه حقيقة التّوبة،لأنّ المكلّف لا بدّ و أن يعرف ماهيّة التّوبة،و يتمكّن بفعلها من تدارك الذّنوب، و يميّزها عن غيرها فضلا عن الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام،بل يجب حمله على أحد أمور:
أحدها:التّنبيه على المعصية الواقعة منه على وجه، صار آدم عليه السّلام عند ذلك من التّائبين المنيبين.
و ثانيها:أنّه تعالى عرّفه وجوب التّوبة،و كونها مقبولة لا محالة،على معنى أنّ من أذنب ذنبا صغيرا أو كبيرا ثمّ ندم على موضع ما صنع،و عزم على أن لا يعود، فإنّي أتوب عليه،قال اللّه تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي أخذها و قبلها و عمل بها.
و ثالثها:أنّه تعالى ذكّره بنعمه العظيمة عليه،فصار
ص: 71
ذلك من الدّواعي القويّة إلى التّوبة.
و رابعها:أنّه تعالى علّمه كلاما لو حصلت التّوبة معه،لكان ذلك سببا لكمال حال التّوبة.[ثمّ نقل قول الغزاليّ و القفّال و قال:]
و اعلم أنّ كلام الغزاليّ رحمه اللّه أبين و أدخل في التّحقيق،إلاّ أنّه يتوجّه عليه إشكال،و هو أنّ العلم بكون الفعل الفلانيّ ضررا،مع العلم بأنّ ذلك الفعل صدر منه،يوجب تألّم القلب،و ذلك التّألّم يوجب إرادة التّرك في الحال و الاستقبال،و إرادة تلافي ما حصل منه في الماضي،و إذا كان بعض هذه الأشياء مرتّبا على البعض ترتّبا ضروريّا،لم يكن ذلك داخلا تحت قدرته، فاستحال أن يكون مأمورا به.
و الحاصل:أنّ الدّاخل في الوسع ليس إلاّ تحصيل العلم،فأمّا ما عداه فليس للاختيار إليه سبيل.لكن لقائل أن يقول:تحصيل العلم ليس أيضا في الوسع،لأنّ تحصيل العلم ببعض المجهولات لا يمكن إلاّ بواسطة معلومات متقدّمة على ذلك المجهول،فتلك العلوم الحاضرة المتوسّل بها إلى اكتساب ذلك المجهول إمّا أن تكون مستلزمة للعلم بذلك المجهول،أو لم تكن مستلزمة.
فإن كان الأوّل كان ترتّب المتوسّل إليه على المتوسّل به ضروريّا،فلا يكون ذلك داخلا في القدرة و الاختيار،و إن كان الثّاني لم يكن استنتاج المطلوب المجهول عن تلك المعلومات الحاضرة،لأنّ المقدّمات القريبة لا بدّ و أن تكون بحال يلزم من تسليمها في الذّهن تسليم المطلوب،فإذا لم تكن كذلك لم تكن تلك المقدّمات منتجة لتلك النّتيجة.
فإن قيل:لم لا يجوز أن يقال:تلك المقدّمات و إن كانت حاضرة في الذّهن إلاّ أنّ كيفيّة التّوصّل بها إلى تلك النّتيجة غير حاضرة في الذّهن،فلا جرم لا يلزم من العلم بتلك المقدّمات العلم بتلك النّتيجة لا محالة؟
قلنا:العلم بكيفيّة التّوصّل بها إلى تلك النّتيجة إمّا أن يكون من البديهيّات أو من الكسبيّات،فإن كان من البديهيّات لم يكن في وسعه،و إن كان من الكسبيّات كان القول في كيفيّة اكتسابه كما في الأوّل.فإمّا أن يفضي إلى التّسلسل و هو محال،أو يفضي إلى أن يصير من لوازمه فيعود المحذور المذكور،و اللّه أعلم.[ثمّ نقل قول عبد الجبّار و أضاف:]
أمّا أبو هاشم فإنّه يجوّز أن يخلو العاصي من التّوبة و الإصرار،و يقول:لا يصحّ أن تكون التّوبة واجبة على الأنبياء لهذا الوجه،بل يجب أن تكون واجبة لإحدى خلال.فإمّا أن تجب لأنّ بالصّغيرة قد نقص ثوابهم، فيعود ذلك النّقصان بالتّوبة.و إمّا لأنّ التّوبة نازلة منزلة التّرك،فإذا كان التّرك واجبا عند الإمكان،فلا بدّ من وجوب التّوبة مع عدم الإمكان.
و ربّما قال:تجب التّوبة عليهم من جهة السّمع،و هذا هو الأصحّ على قوله،لأنّ التّوبة و هو كونه نطفة إلى أشرف أحواله،و هو كونه خصيما مبينا.(3:19-21)
القرطبيّ: أي قبل توبته،أو وفّقه للتّوبة.و كان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة.[ثمّ ذكر نحو ما تقدّم في النّصوص](1:324)
البيضاويّ: رجع عليه بالرّحمة و قبول التّوبة، و إنّما رتّبه بالفاء على تلقّي الكلمات،لتضمّنه معنى التّوبة،
ص: 72
و هو الاعتراف بالذّنب و النّدم عليه،و العزم على أن لا يعود.[ثمّ ذكر نحو ما تقدّم عن الزّمخشريّ](1:50)
نحوه الشّربينيّ(1:51)،و أبو السّعود(1:123)، و البروسويّ(1:113).
النّيسابوريّ: [لخّص كلام الغزاليّ و قال:]
و التّوبة لغة:الرّجوع،فيشترك فيه الرّبّ و العبد، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربّه،لأنّ العاصي هارب عن ربّه.و قد يفارق الرّجل خدمة سيّده فيقطع السّيّد معروفه عنه،فإذا عاد إلى السّيّد عاد السّيّد عليه بإحسانه و معروفه.و هذا معنى قبول التّوبة من اللّه، و غفران ذنوب العباد«التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له».(1:285)
أبو حيّان :أي تفضّل عليه بقبول توبته.و أفرده بالإخبار عنه بالتّوبة عليه و إن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسّكنى و النّهي عن قربان الشّجرة و تلقّي الكلمات و التّوبة لأنّه هو المواجه بالأمر و النّهي و هي تابعة له في ذلك،فكملت القصّة بذكره وحده.
كما جاء في قصّة موسى و الخضر؛إذ جاء حتّى إذا ركبا في السّفينة فحملاهما بغير (1)نول،و كان مع موسى يوشع لكنّه كان تابعا لموسى،فلم يذكره و لم يجمع معهما في الضّمير،أو اكتفى بذكر أحدهما؛إذ كان فعلهما واحدا، نحو قوله تعالى: وَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ التّوبة:62،و فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى طه:
117.
أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله:
وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى طه:121،و قد جاء طيّ ذكر النّساء في أكثر القرآن و السّنّة،و قد ذكرها في قوله:
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الأعراف:23.
و إنّما لم يراع هذا السّتر في امرأتي نوح و لوط،لأنّهما كانتا كافرتين،و قد ضرب بهما المثل للكفّار،لأنّ ذنوبهما كانت غاية في القبح و الفحش،و الكافر لا يناسب السّتر عليه و لا الإغضاء عن ذنبه،بل ينادى عليه ليكون ذلك أخزى له و أحطّ لدرجته،و حوّاء ليست كذلك.
و لأنّ معصيتهما تكرّرت و استمرّ منهما الكفر و الإصرار على ذلك،و التّوبة متعذّرة لما سبق في علم اللّه أنّهما لا يتوبان،و ليست حوّاء كذلك،لخفّة ما وقع منها أو لرجوعها إلى ربّها،و لأنّ التّبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع،و هذا المعنى معقود فيهما.
و ذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما،فيه من الشّهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما.
و توبة العبد رجوعه عن المعصية،و توبة اللّه على العبد رجوعه عليه بالقبول و الرّحمة.(1:166)
الكاشانيّ: التّوبة:بمعنى الرّجوع و الإنابة،فإذا نسب إلى اللّه تعالى تعدّت ب«على»و إذا نسبت إلى العبد تعدّت ب«إلى».و لعلّ الأوّل لتضمين معنى الإشفاق و العطف.
و معنى التّوبة من العبد:رجوعه إلى اللّه بالطّاعة و الانقياد بعد ما عصى و عتا،و معناها من اللّه:رجوعه بالعطف على عبده بإلهامه التّوبة أوّلا،ثمّ قبوله إيّاها منه آخرا.فللّه توبتان و للعبد واحدة بينهما،قال اللّه: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا التّوبة:118،أي ألهمهم التّوبةة.
ص: 73
ليرجعوا ثمّ إذا رجعوا قبل توبتهم،لأنّه هو التّوّاب الرّحيم.(1:105)
الآلوسيّ: التّوبة:أصلها الرّجوع،و إذا أسندت إلى العبد كانت-كما في الإحياء-عبارة عن مجموع أمور ثلاثة.[و قد مرّ ذكرها]
و أتى سبحانه بالفاء،لأنّ تلقّي الكلمات عين التّوبة، أو مستلزم لها،و لا شكّ أنّ القبول مترتّب عليه،فهي إذا لمجرّد السّببيّة.و قد يقال:إنّ التّوبة لمّا دام عليها صحّ التّعقيب،باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ.
و على كلّ تقدير لا ينافي هذا ما روي عن ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهما،أنّهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما، و لم يقل جلّ شأنه-فتاب عليهما-لأنّ النّساء تبع يغني عنهنّ ذكر المتبوع،و لذا طوى ذكرهنّ في كثير من الكتاب و السّنّة.(1:237)
رشيد رضا :أي قبل توبته،و عاد عليه بفضله و رحمته،و بيّن سبب ذلك بأنّه تعالى هو التّوّاب،أي الّذي يقبل التّوبة كثيرا.فمهما يذنب العبد و يندم و يتب، يتب الرّبّ عليه.و بأنّه هو الرّحيم بعباده،مهما يسيء أحدهم بما هو سبب لغضبه تعالى و يرجع إليه،فإنّه يحفّه برحمته.(1:279)
المراغيّ: التّوب:الرّجوع،فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية إلى الطّاعة،و إذا وصف به الباري تعالى أريد به الرّجوع عن العقوبة إلى المغفرة.
و لا تكون التّوبة مقبولة من العبد إلاّ بالنّدم على ما كان،و بترك الذّنب الآن،و بالعزم على ألاّ يعود إليه في مستأنف الزّمان،و بردّ مظالم العباد،و بإرضاء الخصم بإيصال حقّه إليه،و الاعتذار له باللّسان.
و الخلاصة إنّه تعالى قبل توبته و عاد إليه بفضله و رحمته.(1:92)
الطّباطبائيّ: التّوبة:توبتان:توبة من اللّه تعالى و هي الرّجوع إلى العبد بالرّحمة،و توبة من العبد و هي الرّجوع إلى اللّه بالاستغفار،و الانقلاع من المعصية.
و توبة العبد محفوفة بتوبتين من اللّه تعالى،فإنّ العبد لا يستغني عن ربّه في حال من الأحوال،فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى و إعانته و رحمته حتّى يتحقّق منه التّوبة،ثمّ تمسّ الحاجة إلى قبوله تعالى و عنايته و رحمته.فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من اللّه،كما يدلّ عليه قوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا التّوبة:118.(1:132)
2- ...عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ... البقرة:187
أبو مسلم:التّوبة من العباد:الرّجوع إلى اللّه بالعبادة،و من اللّه:الرّجوع إلى العبد بالرّحمة و الإحسان.(النّيسابوريّ 2:122)
فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل و التّوسعة عليكم.
(الفخر الرّازيّ 5:117)
الطّوسيّ: أي قبل توبتكم.(2:133)
مثله المراغيّ(2:79)،و الشّربينيّ(1:123).
البغويّ: تجاوز عنكم.(1:229)
الزّمخشريّ: حين تبتم ممّا ارتكبتم من المحظور.
(1:338)
ص: 74
الطّبرسيّ: أي قبل توبتكم،و قيل:معناه فرخّص لكم و أزال التّشديد عنكم.(1:281)
القرطبيّ: يحتمل معنيين:أحدهما:قبول التّوبة من خيانتهم لأنفسهم،و الآخر:التّخفيف عنهم بالرّخصة و الإباحة،كقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ المزّمّل:20،يعني خفّف عنكم.
(2:317)
أبو حيّان :[مثل القرطبيّ و أضاف:]
فصيام شهرين متتابعين توبة من اللّه لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ التّوبة:117،معناه كلّه التّخفيف.
و قيل:معناه أسقط عنكم ما افترضه من تحريم الأكل و الشّرب و الجماع بعد العشاء أو بعد النّوم على الخلاف.و هذا القول راجع لمعنى القول الثّاني.
(2:49)
البروسويّ: عطف على(علم)أي قبل توبتكم و تجاوز عنكم لمّا تبتم ممّا اقترفتموه.(1:299)
مثله الآلوسيّ.(2:65)
رشيد رضا :فإن كان ذنبهم تحريم ما أباح اللّه لهم في ليالي الصّوم أو التّورّع عنه ليوافق صيامهم صيام أهل الكتاب من كلّ وجه،فتفسّر التّوبة بالرّجوع عليهم ببيان الرّخصة بعد ذكر فرض الصّيام مجملا،و التّشبيه فيه مبهما،و يكون العفو عن الخطإ في الاجتهاد الّذي أدّى إلى التّضييق على النّفس و إيقاعها في الحرج.
و إن كان الذّنب هو مخالفة الاعتقاد بأن كانوا فهموا من النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أو من قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة:183،تحريم ملامسة النّساء ليلا مطلقا أو تحريمه كالأكل و الشّرب بعد النّوم في اللّيل، فالتّوبة على ظاهر معناها،أي إنّ اللّه قبل توبتكم،و عفا عن خيانتكم أنفسكم.(2:177)
3- ...مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. الأنعام:54
ابن عطيّة: و التّوبة:الرّجوع،و صحّتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشّيء الّذي تيب منه.
(2:297)
الطّبرسيّ: أي رجع عن ذنبه،و لم يصرّ على ما فعل،و أصلح عمله.(2:308)
الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ هذا لا يتناول التّوبة من الكفر،لأنّ هذا الكلام خطاب مع الّذين وصفهم بقوله:
وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الأنعام:54، فثبت أنّ المراد منه توبة المسلم عن المعصية.
و المراد من قوله:(بجهالة)ليس هو الخطأ أو الغلط، لأنّ ذلك لا حاجة إلى التّوبة،بل المراد منه أن تقدم على المعصية بسبب الشّهوة،فكان المراد منه بيان أنّ المسلم إذا أقدم على الذّنب مع العلم بكونه ذنبا ثمّ تاب منه توبة حقيقيّة،فإنّ اللّه تعالى يقبل توبته.[إلى أن قال:]
قوله تعالى: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فقوله:
(تاب)إشارة إلى النّدم على الماضي.و قوله:(اصلح) إشارة إلى كونه آتيا بالأعمال الصّالحة في الزّمان المستقبل.(13:4)
البروسويّ: أي رجع عنه.(3:39)
ص: 75
رشيد رضا: أي ثمّ رجع عن ذلك السّوء بعد أن عمله شاعرا بقبحه،نادما عليه،خائفا من عاقبته.
(7:450)
مثله المراغيّ.(7:139)
الطّباطبائيّ: و الآية ظاهرة الاتّصال بالآية الّتي قبلها،يأمر اللّه سبحانه فيها نبيّه صلّى اللّه عليه و آله-بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه-أن يتلطّف بهم و يسلّم عليهم، و يبشّر من تاب منهم عن سيّئة توبة نصوحا بمغفرة اللّه و رحمته،فتطيب بذلك نفوسهم و يسكن طيش قلوبهم.
و يتبيّن بذلك أوّلا:أنّ الآية-و هي من آيات التّوبة- إنّما تتعرّض للتّوبة عن المعاصي و السّيّئات دون الكفر و الشّرك،بدليل قوله: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ أي المؤمنين بآيات اللّه.[إلى أن قال:]
و ثالثا:أنّ تقييد قوله:(تاب)بقوله:(اصلح) للدّلالة على تحقّق التّوبة بحقيقتها،فإنّ الرّجوع حقيقة إلى اللّه سبحانه و اللّواذ بجنابه لا يجامع،لطهارة موقفه التّقذّر بقذارة الذّنب الّذي ظهر منه التّائب الرّاجع، و ليست التّوبة قول:«اتوب الى اللّه»قولا لا يتعدّى من اللّسان إلى الجنان،و قد قال تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ البقرة:284.
(7:105)
4- لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
التّوبة:117
ابن عبّاس: كانت التّوبة على النّبيّ لأجل إذنه للمنافقين في القعود،دليله قوله: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ التّوبة:43،و على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التّخلّف عنه.(القرطبيّ 8:278)
يريد ازداد عنهم رضا،ثمّ أكّد هذه المعاني بقوله:
إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (النّيسابوريّ 11:33)
الطّبريّ: لقد رزق اللّه الإنابة إلى أمره و طاعته نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم،و المهاجرين ديارهم و عشيرتهم إلى دار الإسلام،و أنصار رسوله في اللّه،الّذين اتّبعوا رسول اللّه في ساعة العسرة منهم،من النّفقة و الظّهر و الزّاد و الماء... ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يقول:ثمّ رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة و الرّجوع إلى الثّبات على دينه،و إبصار الحقّ الّذي كان قد كاد يلتبس عليهم.(11:54)
الماورديّ: و في هذه التّوبة من اللّه على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و المهاجرين و الأنصار وجهان محتملان:
أحدهما:استنقاذهم من شدّة العسر،الثّاني:أنّها خلاصهم من نكاية العدوّ.و عبّر عن ذلك بالتّوبة و إن خرج عن عرفها،لوجود معنى التّوبة فيه،و هو الرّجوع إلى الحالة الأولى...
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ... و هذه التّوبة غير الأولى و فيها قولان:
أحدهما:أنّ التّوبة الأولى في الذّهاب،و التّوبة الثّانية في الرّجوع.
و القول الثّاني:أنّ الأولى في السّفر،و الثّانية بعد العودة إلى المدينة.
فإن قيل بالأوّل:أنّ التّوبة الثّانية في الرّجوع،
ص: 76
احتملت وجهين:
أحدهما:أنّها الإذن لهم بالرّجوع إلى المدينة.
الثّاني:أنّها بالمعونة لهم في إمطار السّماء عليهم حتّى حيوا،و تكون التّوبة على هذين الوجهين عامّة.
و إن قيل:إنّ التّوبة الثّانية بعد عودهم إلى المدينة، احتملت وجهين:
أحدهما:أنّها العفو عنهم من ممالأة من تخلّف عن الخروج معهم.
الثّاني:غفران ما همّ به فريق منهم من العدول عن الحقّ،و تكون التّوبة على هذين الوجهين خاصّة.
(2:412)
نحوه القرطبيّ.(8:278)
الطّوسيّ: أقسم اللّه تعالى في هذه الآية-لأنّ لام (لقد)لام القسم-بأنّه تاب على النّبيّ و المهاجرين و الأنصار،بمعنى أنّه رجع إليهم و قبل توبتهم.[إلى أن قال:]
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي رجع عليهم بقبول توبتهم.
(5:362)
البغويّ: أي تجاوز و صفح،و معنى توبته على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بإذنه للمنافقين بالتّخلّف عنه.و قيل:افتتح الكلام به،لأنّه كان سبب توبتهم فذكره معهم،كقوله تعالى: فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ الأنفال:41،و نحوه.
[إلى أن قال:]
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ فإن قيل:كيف أعاد ذكر التّوبة و قد قال في أوّل الآية: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ؟
قيل:ذكر التّوبة في أوّل الآية قبل ذكر الذّنب،و هو محض الفضل من اللّه عزّ و جلّ،فلمّا ذكر الذّنب أعاد التّوبة،و المراد منه قبولها.(3:128)
نحوه الميبديّ(4:224)،و ابن الجوزيّ(3:
511)،و الشّربينيّ(1:655).
الزّمخشريّ: تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ كقوله:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ الفتح:2، و قوله: وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ المؤمن:55،و هو بعث للمؤمنين على التّوبة،و أنّه ما من مؤمن إلاّ هو محتاج إلى التّوبة و الاستغفار حتّى النّبيّ و المهاجرون و الأنصار، و إبانة لفضل التّوبة و مقدارها عند اللّه،و أنّ صفة التّوّابين الأوّلين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصّالحين،ليظهر فضيلة الصّلاح.
و قيل:معناه تاب اللّه عليه من إذنه للمنافقين في التّخلّف عنه،كقوله: عَفَا اللّهُ عَنْكَ التّوبة:43.[إلى أن قال:]
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتّوكيد،و يجوز أن يكون الضّمير للفريق،تاب عليهم لكيد ودتهم.(2:218)
نحوه البيضاويّ(1:435)،و النّسفيّ(2:148).
ابن عطيّة: التّوبة من اللّه:رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها،فقد تكون في الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها.و هذه توبته في هذه الآية على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة و أجرها و تحمّل مشقّاتها إلى حاله بعد ذلك كلّه.
و أمّا توبته على المهاجرين و الأنصار،فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة و جدّ في الغزو و نصرة الدّين.
ص: 77
و أمّا توبته على الفريق الّذي كاد أن يزيغ،فرجوعه من حالة محطوطة إلى حال غفران و رضا.(3:92)
الطّبرسيّ: [مثل الطّوسيّ و أضاف:]
و إنّما ذكر اسم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مفتاحا للكلام و تحسينا له، و لأنّه سبب توبتهم،و إلاّ فلم يكن منه ما يوجب التّوبة.
و قد روي عن الرّضا عليّ بن موسى عليه السّلام أنّه قرأ (لقد تاب اللّه بالنّبىّ على المهاجرين و الانصار) .(3:80)
نحوه فضل اللّه.(11:23)
الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك،و بيّن أحوال المتخلّفين عنها، و أطال القول في ذلك على التّرتيب الّذي لخّصناه في هذا التّفسير،عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها.
و من بقيّة الأحكام أنّه قد صدر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نوع زلّة جارية مجرى ترك الأولى،و صدر عن المؤمنين نوع زلّة،فذكر تعالى أنّه تفضّل عليهم و تاب عليهم في تلك الزّلاّت،فقال: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ و في الآية مسائل:
المسألة الأولى:دلّت الأخبار على أنّ هذا السّفر كان شاقّا شديدا على الرّسول عليه الصّلاة و السّلام و على المؤمنين،على ما سيجيء شرحها،و هذا يوجب الثّناء، فكيف يليق بها قوله: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ.
و الجواب من وجوه:أنّه صدر عن النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام شيء من باب ترك الأفضل،و هو المشار إليه بقوله تعالى: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ التّوبة:
43،و أيضا لمّا اشتدّ الزّمان في هذه الغزوة على المؤمنين فربّما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السّفرة،و ربّما وقع في خاطر بعضهم أنّا لسنا نقدر على الفرار.و لست أقول:
عزموا عليه،بل أقول:وساوس كانت تقع في قلوبهم، فاللّه تعالى بيّن في آخر هذه السّورة أنّه بفضله عفا عنها، فقال: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ.
و الوجه الثّاني في الجواب:أنّ الإنسان طول عمره لا ينفكّ عن زلاّت و هفوات،إمّا من باب الصّغائر،و إمّا من باب ترك الأفضل.ثمّ إنّ النّبيّ عليه السّلام و سائر المؤمنين لمّا تحمّلوا مشاقّ هذا السّفر و متاعبه،و صبروا على تلك الشّدائد و المحن،أخبر اللّه تعالى أنّ تحمّل تلك الشّدائد صار مكفّرا لجميع الزّلاّت الّتي صدرت عنهم في طول العمر،و صار قائما مقام التّوبة المقرونة بالإخلاص عن كلّها،فلهذا السّبب قال تعالى: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ.
و الوجه الثّالث في الجواب:أنّ الزّمان لمّا اشتدّ عليهم في ذلك السّفر،و كانت الوساوس تقع في قلوبهم،فكلّما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى اللّه منها، و تضرّع إلى اللّه في إزالتها عن قلبه،فلكثرة إقدامهم على التّوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم قال تعالى:
لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ الآية.
و الوجه الرّابع:لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي،إلاّ أنّه تعالى تاب عليهم و عفا عنهم،لأجل أنّهم تحمّلوا مشاقّ ذلك السّفر،ثمّ إنّه تعالى ضمّ ذكر الرّسول عليه الصّلاة و السّلام،إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدّين.و أنّهم قد
ص: 78
بلغوا إلى الدّرجة الّتي لأجلها ضمّ الرّسول عليه الصّلاة و السّلام إليهم في قبول التّوبة.[إلى أن قال:]
فإن قيل:ذكر التّوبة في أوّل الآية و في آخرها فما الفائدة في التّكرار؟
قلنا:فيه وجوه:
الوجه الأوّل:أنّه تعالى ابتدأ بذكر التّوبة قبل ذكر الذّنب تطييبا لقلوبهم،ثمّ ذكر الذّنب،ثمّ أردفه مرّة أخرى بذكر التّوبة،و المقصود منه تعظيم شأنهم.
و الوجه الثّاني:أنّه إذا قيل:عفا السّلطان عن فلان ثمّ عفا عنه،دلّ ذلك على أنّ ذلك العفو عفو متأكّد بلغ الغاية القصوى في الكمال و القوّة،قال عليه الصّلاة و السّلام:«إنّ اللّه ليغفر ذنب الرّجل المسلم عشرين مرّة»و هذا معنى قول ابن عبّاس في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يريد ازداد عنهم رضا.
و الوجه الثّالث:أنّه قال: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ و هذا التّرتيب يدلّ على أنّ المراد أنّه تعالى تاب عليهم من الوساوس الّتي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،ثمّ إنّه تعالى زاد عليه فقال: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فهذه الزّيادة أفادت حصول وساوس قويّة،فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التّوبة مرّة أخرى لئلاّ يبقى في خاطر أحدهم شكّ،في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس.(16:214)
نحوه النّيسابوريّ.(11:32)
أبو حيّان :[نقل قول ابن عطيّة و الزّمخشريّ و الفخر الرّازيّ ثمّ قال:]
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ الضّمير في(عليهم)عائد على الأوّلين أو على الفريق،فالجملة كرّرت تأكيدا،أو يراد بالأوّل:إنشاء التّوبة و بالثّاني:استدامتها،أو لأنّه لمّا ذكر أنّ فريقا منهم كادت قلوبهم يزيغ نصّ على التّوبة ثانيا، رفعا لتوهّم أنّهم مسكوت عنهم في التّوبة،ثمّ ذكر سبب التّوبة،و هو رأفته بهم و رحمته.(5:109)
البروسويّ: قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:هو العفو عن إذنه للمنافقين في التّخلّف عنه،و هذا الإذن و إن صدر عنه عليه السّلام وحده إلاّ أنّه أسند إلى الكلّ،لأنّ فعل البعض يسند إلى الكلّ لوقوعه فيما بينهم،كما يقال:
بنو فلان قتلوا زيدا.
و هذا الذّنب من قبيل الزّلّة،لأنّ الأنبياء معصومون من الكبائر و الصّغائر عندنا،لأنّ ركوب الذّنوب ممّا يسقط حشمة من يرتكبها و تعظيمه من قلوب المؤمنين، و الأنبياء يجب أن يكونوا مهابين موقّرين،و لذا عصموا من الأمراض المنفرة كالجذام و غيره.
فليس معنى الزّلّة أنّهم زلّوا عن الحقّ إلى الباطل، و لكن معناها أنّهم زلّوا عن الأفضل إلى الفاضل،و أنّهم يعاتبون به لجلال قدرهم،و مكانتهم من اللّه تعالى،كما قال أبو سعيد الخرّاز قدّس سرّه:«حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين».
و قال السّلميّ: «ذكر توبة النّبيّ عليه السّلام،لتكون مقدّمة لتوبة الأمّة،و توبة التّابع إنّما تقبل التّصحيح بالمقدّمة».
و قال في«التّأويلات النّجميّة»:التّوبة فضل من اللّه و رحمة مخصوصة به،لينعم بذلك على عباده،فكلّ نعمة و فضل يوصله اللّه إلى عباده يكون عبوره على ولاية
ص: 79
النّبوّة،فمنها يفيض على المهاجرين و الأنصار و جميع الأمّة،فلهذا قال: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ. [إلى أن قال:]
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي تجاوز عن ذنبهم الّذي فرط منهم،و هو تكرير للتّأكيد و تنبيه على أنّه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة.(3:525)
الآلوسيّ: قال أصحاب المعاني:المراد ذكر التّوبة على المهاجرين و الأنصار،إلاّ أنّه جيء في ذلك بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم تشريفا لهم و تعظيما لقدرهم،و هذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله سبحانه: فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ الأنفال:41،أي عفا سبحانه عن زلاّت سبقت منهم يوم أحد و يوم حنين.
و قيل:المراد ذكر التّوبة عليه-عليه الصّلاة و السّلام- و عليهم،و الذّنب بالنّسبة إليه صلّى اللّه عليه و سلّم من باب خلاف الأولى نظرا إلى مقامه الجليل،و فسّر هنا على ما روي عن ابن عبّاس:بالإذن للمنافقين في التّخلّف،و بالنّسبة إليهم رضي اللّه تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقيّا؛إذ لا عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام، و يفسّر بما فسّر أوّلا.
و جوّز أيضا أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل:إنّ ذنبهم كان الميل إلى القعود عن غزوة تبوك؛حيث وقعت في وقت شديد،و قد تفسّر التّوبة بالبراءة عن الذّنب و الصّون عنه مجازا؛حيث إنّه لا مؤاخذة في كلّ،و ظاهر الإطلاق الحقيقة.و في الآية ما لا يخفى من التّحريض و البعث على التّوبة للنّاس كلّهم.
[إلى أن قال:]
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتّأكيد بناء على أنّ الضّمير للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و المهاجرين و الأنصار رضي اللّه تعالى عنهم،و التّأكيد يجوز عطفه ب«ثمّ»كما صرّح به النّحاة و إن كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهرا.و فيه تنبيه على أنّ توبته سبحانه في مقابلة ما قاسوه من الشّدائد،كما دلّ عليه التّعليق بالموصول.
و يحتمل أن يكون الضّمير للفريق،و المراد أنّه تاب عليهم لكيدودتهم و قربهم من الزّيغ،لأنّه جرم محتاج إلى التّوبة عليه،فلا تكرار لما سبق.(11:39)
رشيد رضا :هذا خبر مؤكّد بلام القسم على حرف التّحقيق،بيّن به تعالى فضل عطفه على نبيّه و أصحابه المؤمنين الصّادقين من المهاجرين و الأنصار، و تجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة و في غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرّون على شيء منها.و إنّما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطّباع البشريّة و اجتهاد الرّأي فيما لم يبيّنه اللّه تعالى لهم بيانا قطعيّا يعدّ مخالفه عاصيا.
و قد بيّنّا في تفسير الآية:104[من سورة التّوبة]أنّ للتّوبة درجات تختلف باختلاف طبقات التّوّابين الرّجّاعين إلى اللّه من كلّ إعراض عنه.و توبته تعالى على عباده لها معنيان:عطفه عليهم-و هذا أعلاهما- و توفيقهم للتّوبة و قبولها منهم،و إنّما يتوبون من ذنب، و ما كلّ ذنب معصية للّه عزّ و جلّ.
و قد فسّر ابن عبّاس التّوبة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم هنا بقوله تعالى،في سياق هذه الغزوة: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ التّوبة:43،و حقّقنا في تفسيرها مسألة ذنوب
ص: 80
الأنبياء و كونها من الاجتهاد الّذي لم يقرّهم اللّه عليه، لأنّ غيره خير منه.
و أمّا المهاجرون و الأنصار رضي اللّه عنهم و هم خلّص المؤمنين اَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ فمنهم من كان ذنبه التّثاقل في الخروج حتّى ورد الأمر الحتم فيه،و التّوبيخ على التّثاقل إلى الأرض،و منهم من كان ذنبهم السّماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين بالقوّة و الاستدراك،و بالفعل.(11:64)
نحوه المراغيّ.(11:39)
الطّباطبائيّ: و الآيتان[التّوبة:117،118]و إن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة أخرى، فالأولى تبيّن التّوبة على النّبيّ و المهاجرين و الأنصار، و الثّانية[و هي عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا و سيأتي ذكرها]تبيّن التّوبة على الثّلاثة المخلّفين مضافا إلى أنّ نوع التّوبة على أهل الآيتين مختلف،فأهل الآية الأولى أو بعضهم تاب اللّه عليهم من غير معصية منهم،و أهل الآية الثّانية تيب عليهم و هم عاصون مذنبون.
و بالجملة:الآيتان مختلفتان غرضا و مدلولا،غير أنّ السّياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد، و متّصلتان كلاما واحدا تبيّن فيه توبته تعالى للنّبيّ و المهاجرين و الأنصار و الثّلاثة الّذين خلّفوا،و من الدّليل عليه قوله: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ إلى أن قال:
وَ عَلَى الثَّلاثَةِ إلخ.فالآية الثّانية غير مستقلّة عن الأولى بحسب اللّفظ و إن استقلّت عنها في المعنى،و ذلك يستدعي نزولهما معا،و تعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال و الامتزاج.
و لعلّ الغرض الأصليّ بيان توبة اللّه سبحانه لأولئك الثّلاثة المخلّفين،و قد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين و الأنصار حتّى للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم،و زوال تميّزهم من سائر النّاس،و عفو أثرهم ذلك عنهم،حتّى يعود الجميع على نعت واحد، و هو أنّ اللّه تاب عليهم برحمته،فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض،أو ينخفض بعضهم عن بعض.
و بهذا تظهر النّكتة في تكرار ذكر التّوبة في الآيتين، فإنّ اللّه سبحانه يبدأ بذكر توبته على النّبيّ و المهاجرين و الأنصار،ثمّ يقول: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ و على الثّلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا فليس إلاّ أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال و التّفصيل،ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالا،ثمّ أشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته،فذكرت عند ذلك توبته الخاصّة به.
و لو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعهما غرض جامع،لكان ذلك تكرارا من غير نكتة ظاهرة.
على أنّ في الآية الأولى دلالة واضحة على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن له في ذلك ذنب و لا زيغ،و لا كاد أن يزيغ قلبه.فإنّ في الكلام مدحا للمهاجرين و الأنصار باتّباع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يزغ قلبه و لا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعا يقتدى به،و لو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكره صلّى اللّه عليه و آله مع سائر المذكورين وجه ظاهر.
فيؤول معنى الآية إلى أنّ اللّه-أقسم لذلك-تاب
ص: 81
و رجع برحمته رجوعا إلى النّبيّ و المهاجرين و الأنصار و الثّلاثة الّذين خلّفوا.فأمّا توبته و رجوعه بالرّحمة على المهاجرين و الأنصار فإنّهم اتّبعوا النّبيّ في ساعة العسرة و زمانها-و هو أيّام مسيرهم إلى تبوك-اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم و يميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السّير،فبعد ما اتّبعوه تاب اللّه عليهم إنّه بهم لرءوف رحيم.
و أمّا الثّلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و وسعت-و كان ذلك بسبب أنّ النّاس لم يعاشروهم و لا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيسا يأنسون به-و ضاقت عليهم أنفسهم- من دوام الغمّ عليهم-و أيقنوا أن لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه بالتّوبة و الإنابة،فلمّا كان ذلك كلّه تاب اللّه عليهم و انعطف و رجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه،فيقبل توبتهم إنّه هو التّوّاب-كثير الرّجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية و التّوفيق للتّوبة إليه ثمّ بقبول تلك التّوبة- و الرّحيم بالمؤمنين.
و قد تبيّن بذلك كلّه أوّلا:أنّ المراد بالتّوبة على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:محض الرّجوع إليه بالرّحمة،و من الرّجوع إليه بالرّحمة:الرّجوع إلى أمّته بالرّحمة،فالتّوبة عليهم:
توبة عليه،فهو صلّى اللّه عليه و آله الواسطة في نزول الخيرات و البركات إلى أمّته.
و أيضا فإنّ من فضله تعالى على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ كلّما ذكر أمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم،و صدّر الكلام بذكره تشريفا له،كما في قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ البقرة:285، و قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التّوبة:26،و قوله: لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا التّوبة:88،إلى غير ذلك من الموارد.
و ثانيا:أنّ المراد بما ذكر ثانيا و ثالثا من التّوبة بقوله:
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ في الموضعين،هو تفصيل ما ذكره إجمالا بقوله: لَقَدْ تابَ اللّهُ.
و ثالثا:أنّ المراد بالتّوبة في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ في الموضعين:رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير و التّوفيق.فقد ذكرنا مرارا في الأبحاث السّابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الرّبّ تعالى،و أنّه يرجع إليه بالتّوفيق و إفاضة رحمة الهداية و هو التّوبة الأولى منه، فيهتدي العبد إلى الاستغفار و هو توبته،فيرجع تعالى إليه بقبول توبته و غفران ذنوبه،و هو التّوبة الثّانية منه تعالى.
و الدّليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك،أمّا في الآية الأولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنبا يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول،و إنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم،و هو يناسب التّوبة الأولى منه تعالى دون الثّانية،و أمّا في الآية الثّانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:(ليتوبوا)و هو الاستغفار،أخذ غاية لتوبته تعالى،فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلاّ التّوبة الأولى منه.
و ربّما أيّد ذلك قوله تعالى:في مقام تعليل توبته عليهم: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم،كما لم يذكر منهم توبة
ص: 82
بمعنى الاستغفار.
و رابعا:أنّ المراد بقوله في الآية الثّانية:(ليتوبوا):
توبة الثّلاثة الّذين خلّفوا،المترتّب على توبته تعالى الأولى عليهم،فالمعنى ثمّ تاب اللّه على الثّلاثة ليتوب الثّلاثة فيتوب عليهم و يغفر لهم،إنّه هو التّوّاب الرّحيم.
فإن قلت:فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم،و هذا مخالف للضّرورة الثّابتة من جهة النّقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.
قلت:القصّة ثابتة نقلا غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية،إلاّ أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك،فقد قال تعالى في مقام الإجمال: لَقَدْ تابَ اللّهُ و هو أعمّ بإطلاقه من التّوبة بمعنى التّوفيق و بمعنى القبول،و كذا قوله بعد: إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ التّوبة:118، و خاصّة بالنّظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر النّاظر إلى قوله: وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ التّوبة:
118،فإذا كانوا أقدموا على التّوبة ليأخذوا ملجأ من اللّه يأمنون فيه و قد هداهم اللّه إليه بالتّوبة فتابوا،فمن المحال أن يردّهم اللّه من بابه خائبين و هو التّوّاب الرّحيم، و كيف يستقيم ذلك؟و هو القائل عزّ من قائل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ النّساء:17.
و ربّما قيل:إنّ معنى ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ثمّ سهّل اللّه عليهم التّوبة ليتوبوا،و هو سخيف.و أسخف منه قول من قال:إنّ المراد بالتّوبة في(ليتوبوا):الرّجوع إلى حالتهم الأولى قبل المعصية.و أسخف منه قول آخرين:إنّ الضّمير في(ليتوبوا)راجع إلى المؤمنين، و المعنى ثمّ تاب على الثّلاثة و أنزل توبتهم على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ اللّه قابل التّوب.
(9:399)
محمّد جواد مغنية: إذا قيل:تاب فلان،فهم النّاس من هذا القول أنّ المذكور كان قد ارتكب ذنبا ثمّ ندم و عزم جادّا على تركه و عدم العودة إليه.و إذا قيل:
تاب اللّه عليه،فهموا أنّ اللّه قبل توبته.
و قد يراد من توبة اللّه على الإنسان رحمته تعالى و رضوانه مع القرينة الدّالّة على ذلك،و المعنى الأوّل،أي قبول اللّه سبحانه التّوبة هو المراد بتوبته على الثّلاثة الّذين خلّفوا،و المعنى الثّاني،أي الرّحمة و الرّضوان هو المراد بتوبته تعالى على النّبيّ و الصّحابة الّذين اتّبعوه و ائتمروا بأمره حتّى في ساعة العسرة.
أمّا القرينة على إرادة الرّضوان من توبته تعالى على النّبيّ و صحابته فهي طبيعة الحال،و نعني بها عصمة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الذّنوب،و طاعة من تابعه في ساعة العسرة.[إلى أن قال:]
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ ممّا كانوا قد همّوا به من مفارقة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.و المراد بالتّوبة هنا أنّ اللّه سبحانه يعاملهم معاملة من لم يهمّ بالذّنب،لأنّ من همّ بالسّيّئة و لم يفعلها فلا تكتب عليه.(4:113)
مكارم الشّيرازيّ: قرأنا في الآية الأولى أنّ اللّه سبحانه قد تاب على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المهاجرين و الأنصار، و قبل توبتهم.و لا شكّ أنّ النّبيّ معصوم من الذّنوب،و لم يرتكب معصية ليتوب فيقبل اللّه توبته،و إن كان بعض مفسّري أهل السّنّة قد اعتبروا التّعبير في هذه الآية
ص: 83
دليلا على صدور السّهو و المعصية من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أحداث تبوك.
إلاّ أنّ التّدقيق في نفس هذه الآية و سائر آيات القرآن سيرشدنا إلى عدم صحّة هذا التّفسير،لأنّ:
أوّلا:إنّ معنى توبة اللّه سبحانه:رجوعه بالرّحمة و الرّعاية على عباده،و لا يوجد في هذا المعنى أثر للزّلل أو المعصية،كما قال في سورة النّساء:26،بعد ذكر قسم من الأحكام: يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ففي هذه الآية،و الّتي قبلها لم يرد حديث عن الزّلل و المعصية،بل الكلام-كما تصرّح به هذه الآية-عن تبيين الأحكام و الإرشاد إلى سنن الماضين القيّمة المفيدة،و هذا بنفسه يوضّح أنّ التّوبة هنا بمعنى شمول رحمة اللّه سبحانه لعباده.
ثانيا:لقد ورد في كتب اللّغة أنّ أحد معاني التّوبة هو ما ذكرناه،ففي كتاب«القاموس»المعروف ورد في أنّ هذا هو أحد معاني التّوبة ما لفظه:رجع عليه بفضله و قبوله.
و ثالثا:إنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحقّ و التّخلّف عنه بجماعة من المؤمنين،مع أنّها تصرّح بأنّ الرّحمة الإلهيّة تعمّ الجميع،و هو بنفسه يبيّن أنّ توبة اللّه هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد،بل هي الرّحمة الإلهيّة الخاصّة الّتي أدركت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كلّ المؤمنين بدون استثناء،من المهاجرين و الأنصار،في اللّحظات الحسّاسة،و ثبتت أقدامهم في أمر الجهاد.(6:231)
5- وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ. التّوبة:118
الحسن :جعل لهم التّوبة ليتوبوا بها،و المخرج ليخرجوا به.(الطّوسيّ 5:365)
أما و اللّه ما سفكوا من دم،و لا أخذوا من مال، و لا قطعوا من رحم،و لكنّ المسلمين تسارعوا في الشّخوص مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تخلّف هؤلاء،و كان أحدهم تخلّف بسبب ضيعة له،و الآخر لأهله،و الآخر طلبا للرّاحة،ثمّ ندموا و تابوا،فقبل اللّه توبتهم.
(الطّبرسيّ 3:80)
الطّوسيّ: و قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها:لطف لهم في التّوبة،كما يقال في الدّعاء:
تاب اللّه عليه.
الثّاني:قبل توبتهم ليتمسّكوا بها في المستقبل.
الثّالث:قبل توبتهم ليرجعوا إلى حال الرّضا عنهم.
[إلى أن قال:]
فإن قيل:ما معنى التّوبة عليهم و اللاّئمة لهم و هم قد خلّفوا فهلاّ عذّروا؟
قيل:ليس المعنى أنّهم أمروا بالتّخلّف و رضي منهم به،كقولك لصاحبك:أين خلّفت فلانا؟فيقول:بموضع كذا،ليس يريد أنّه أمره بالتّخلّف هناك بل لعلّه أن يكون نهاه،و إنّما يريد أنّه تخلّف هناك.(5:365)
الميبديّ: أعاد التّوبة للتّوكيد،لأنّ ذكر التّوبة على هؤلاء مضى في قوله:(و على الثّلثة)،و في معنى
ص: 84
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا لطف بهم في التّوبة و وفّقهم لها.(4:228)
الزّمخشريّ: ثمّ رجع عليهم بالقبول و الرّحمة كرّة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم و يثبتوا،و ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة،علما منهم أنّ اللّه توّاب على من تاب و لو عاد في اليوم مائة مرّة.
(2:218)
نحوه البيضاويّ.(1:435)
ابن عطيّة: لمّا كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة الّتي هي عن اللّه عزّ و جلّ،ليكون ذلك منبّها على تلقّي النّعمة من عنده لا ربّ غيره.و لو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة الّتي هي عن المذنب،كما قال اللّه تعالى: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ الصّفّ:5،ليكون هذا أشدّ تقريرا للذّنب عليهم،و هذا من فصاحة القرآن و بديع نظمه و معجز اتّساقه.(3:94)
الطّبرسيّ: أي ثمّ سهّل اللّه عليهم التّوبة حتّى تابوا.
و قيل:(ليتوبوا)أي ليعودوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية.
و قيل:معناه ثمّ تاب على الثّلاثة و أنزل توبتهم على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ليتوب المؤمنون من ذنوبهم،لعلمهم بأنّ اللّه سبحانه قابل التّوبة.(3:80)
ابن الجوزيّ: أعاد التّوبة تأكيدا(ليتوبوا).قال ابن عبّاس:ليستقيموا.و قال غيره:وفّقهم للتّوبة ليدوموا عليها و لا يرجعوا إلى ما يبطلها.
و سئل بعضهم عن التّوبة النّصوح فقال:أن تضيق على التّائب الأرض،و تضيق عليه نفسه،كتوبة كعب و صاحبيه.(3:513)
الفخر الرّازيّ: و لمّا وصفهم اللّه بهذه الصّفات الثّلاث قال: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ و فيه مسائل:
المسألة الأولى:اعلم أنّه لا بدّ هاهنا من إضمار، و التّقدير:حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و ضاقت عليهم أنفسهم و ظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه،تاب عليهم ثمّ تاب عليهم،فما الفائدة في هذا التّكرار؟
قلنا:هذا التّكرير حسن للتّأكيد كما أنّ السّلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول:عفوت عنك ثمّ عفوت عنك.
فإن قيل:فما معنى قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا؟
قلنا:فيه وجوه:
الأوّل:قال أصحابنا:المقصود منه بيان أنّ فعل العبد مخلوق للّه تعالى،فقوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يدلّ على أنّ التّوبة فعل اللّه،و قوله:(ليتوبوا)يدلّ على أنّها فعل العبد،فهذا صريح قولنا،و نظيره فَلْيَضْحَكُوا التّوبة:
82،مع قوله: وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى النّجم:43، و قوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ الأنفال:5،مع قوله:
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا التّوبة:40،و قوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ يونس:22،مع قوله: قُلْ سِيرُوا الأنعام:11.
و الثّاني:المراد تاب اللّه عليهم في الماضي،ليكون ذلك داعيا لهم إلى التّوبة في المستقبل.
ص: 85
و الثّالث:أصل التّوبة:الرّجوع،فالمراد ثمّ تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم و عادتهم في الاختلاط بالمؤمنين،و زوال المباينة،فتسكن نفوسهم عند ذلك.
الرّابع: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أي ليدوموا على التّوبة،و لا يراجعوا ما يبطلها.
الخامس: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لينتفعوا بالتّوبة و يتوفّر عليهم ثوابها،و هذان النّفعان لا يحصلان إلاّ بعد توبة اللّه عليهم.
المسألة الثّانية:احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ قبول التّوبة غير واجب على اللّه عقلا،قالوا:لأنّ شرائط التّوبة في حقّ هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر.
ثمّ إنّه عليه الصّلاة و السّلام ما قبلهم و لم يلتفت إليهم، و تركهم مدّة خمسين يوما أو أكثر،و لو كان قبول التّوبة واجبا عقلا لما جاز ذلك.
أجاب الجبّائيّ عنه بأن قال:يقال:إنّ تلك التّوبة صارت مقبولة من أوّل الأمر،لكنّه يقال:أراد تشديد التّكليف عليهم لئلاّ يتجرّأ أحد على التّخلّف عن الرّسول فيما يأمر به من جهاد و غيره.و أيضا لم يكن نهيه عليه الصّلاة و السّلام عن كلامهم عقوبة،بل كان على سبيل التّشديد في التّكليف.
قال القاضي:و إنّما خصّ الرّسول عليه الصّلاة و السّلام هؤلاء الثّلاثة بهذا التّشديد،لأنّهم أذعنوا بالحقّ و اعترفوا بالذّنب فالّذي يجري عليهم،و هذه حالهم يكون في الزّجر أبلغ ممّا يجري على من يظهر العذر من المنافقين.
و الجواب:أنّا متمسّكون بظاهر قوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ و كلمة(ثمّ)للتّراخي،فمقتضى هذا اللّفظ تأخير قبول التّوبة،فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولا عن الظّاهر من غير دليل.
فإن قالوا:الموجب لهذا العدول قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الشّورى:25.
قلنا:صيغة(يقبل)للمستقبل،و هو لا يفيد الفور أصلا بالإجماع،ثمّ إنّه تعالى ختم الآية بقوله: إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ. (16:219)
نحوه ملخّصا النّيسابوريّ.(11:34)
القرطبيّ: المعنى ثمّ تاب عليهم ليثبتوا على التّوبة، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا النّساء:
136،و قيل:أي فسح لهم و لم يعجّل عقابهم كما فعل بغيرهم،قال جلّ و عزّ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ النّساء:160.
(8:288)
أبو حيّان :و يكون قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بعد قوله: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ التّوبة:117،و دعوى أنّ(ثمّ)زائدة،و جواب(اذا)ما بعد(ثمّ)بعيد جدّا و غير ثابت من لسان العرب زيادة«ثمّ».
و من زعم أنّ(اذا)بعد(حتّى)قد تجرّد من الشّرط و تبقى لمجرّد الوقت،فلا تحتاج إلى جواب،بل تكون غاية للفعل الّذي قبلها،و هو قوله:(خلّفوا)أي خلّفوا إلى هذا الوقت.[ثمّ ذكر مثل الزّمخشريّ و أضاف:]
و قيل:معنى(ليتوبوا)ليدوموا على التّوبة و لا يراجعوا ما يبطلها.
و قيل:(ليتوبوا)ليرجعوا إلى حالهم و عادتهم من
ص: 86
الاختلاط بالمؤمنين و تستكنّ نفوسهم عند ذلك.
(5:110)
البروسويّ: أي وفّقهم للتّوبة(ليتوبوا)ليرجعوا عن المعصية.و اعلم أنّ هاهنا أمورا ثلاثة:التّوفيق للتّوبة و هو ما دلّ عليه قوله:(ثمّ تاب)،و نفس التّوبة و هو ما دلّ عليه قوله:(ليتوبوا)،و قبول اللّه تعالى إيّاها و هو ما دلّ عليه قوله:(و على الثّلثة).
و إنّما عطف الأمر الأوّل على الثّالث بكلمة(ثمّ) لكونه أصل الجميع مقدّما على الأمر الثّالث بمرتبتين، فتكون كلمة(ثمّ)للتّراخي الرّتبيّ.
و يجوز أن يكون المعنى ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي أنزل قبول توبتهم(ليتوبوا)أي ليصيروا من جملة التّوّابين و يعدّوا منهم،فتكون كلمة(ثمّ)على أصل معناها،لأنّ إنزال القبول متفرّع على نفس القبول المذكور بقوله:
(و على الثّلثة).(3:528)
الآلوسيّ: أي وفّقهم للتّوبة(ليتوبوا)أو أنزل قبول توبتهم في القرآن و أعلمهم بها ليعدّهم المؤمنون في جملة التّائبين،أو رجع عليهم بالقبول و الرّحمة مرّة بعد أخرى ليستقيموا على التّوبة و يستمرّوا عليها.
و قيل:التّوبة ليست هي المقبولة،و المعنى قبل توبتهم من التّخلّف ليتوبوا في المستقبل؛إذ صدرت منهم هفوة،و لا يقنطوا من كرمه سبحانه.(11:42)
نحوه رشيد رضا(11:66)،و المراغيّ(11:42).
محمّد جواد مغنية:و تسأل أنّ الظّاهر من قوله تعالى: تابَ عَلَيْهِمْ أنّهم قد تابوا و قبلت توبتهم، و الظّاهر من قوله:(ليتوبوا)أنّهم لم يتوبوا بعد،فما هو وجه الجمع؟
و أجيب بأجوبة أرجحها أنّ المراد ب تابَ عَلَيْهِمْ أنّه تعالى يقبل توبتهم لكي يتوبوا و لا يصرّوا على الذّنب،و يقولوا:لو قبل اللّه منّا التّوبة لتبنا،فهو أشبه بما لو أساء إليك من تحبّ و أنت تريد أن تغفر له،و لكن بسبب،فتلقّنه العذر ليعتذر هو،و تغفر أنت.(4:115)
الطّباطبائيّ: [مضى نصّه خلال آية(4)]
6- إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً... *وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً.
الفرقان:70،71
ابن عبّاس: المعنى من آمن من أهل مكّة و هاجر و لم يكن قتل وزنى،بل عمل صالحا و أدّى الفرائض، فإنّه يتوب إلى اللّه متابا.(القرطبيّ 13:79)
ابن الأنباريّ: معناه من أراد التّوبة و قصد حقيقتها،فينبغي له أن يريد اللّه بها و لا يخلط بها ما يفسدها،و هذا كما يقول الرّجل:من تجر فإنّه يتّجر في البزّ،و من ناظر فإنّه يناظر فى النّحو،أي من أراد ذلك فينبغي أن يقصد هذا الفنّ.
و يجوز أن يكون معنى هذه الآية:و من تاب و عمل صالحا فإنّ ثوابه و جزاءه يعظمان له عند ربّه الّذي أراد بتوبته.فلمّا كان قوله: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً يؤدّي عن هذا المعنى كفى منه،و هذا كما يقول الرّجل للرّجل:إذا تكلّمت فاعلم أنّك تكلّم الوزير،أي تكلّم من يعرف كلامك و يجازيك،و مثله قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ
ص: 87
تَوَكَّلْتُ يونس:71،أي فإنّي أتوكّل على من ينصرني و لا يسلمني.
و قال قوم:معنى الآية فإنّه يرجع إلى اللّه مرجعا يقبله منه.(ابن الجوزيّ 6:108)
القفّال: يحتمل أن تكون الآية الأولى[الفرقان:
70]فيمن تاب من المشركين،و لهذا قال: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ ثمّ عطف عليه من تاب من المسلمين و أتبع توبته عملا صالحا فله حكم التّائبين أيضا.
(القرطبيّ 13:79)
الطّوسيّ: (و من تاب)من معاصيه و أقلع عنها و ندم عليها و أضاف إلى ذلك الأعمال الصّالحات فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً أي يرجع إليه مرجعا عظيما جميلا.
و فرّق الرّمّانيّ بين التّوبة إلى اللّه و التّوبة من القبيح لقبحه،بأنّ التّوبة إلى اللّه تقتضي طلب الثّواب،و ليس كذلك التّوبة من القبيح لقبحه.(7:510)
البغويّ: قال بعض أهل العلم:هذا في التّوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل و الزّنى،يعني من تاب من الشّرك و عمل صالحا،أي أدّى الفرائض ممّن لم يقتل و لم يزن فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ أي يعود إليه بعد الموت(متابا)حسنا،يفضّل به على غيره ممّن قتل وزنى،فالتّوبة الأولى و هو قوله:(و من تاب)رجوع عن الشّرك،و الثّاني رجوع إلى اللّه للجزاء و المكافأة.
قال بعضهم:هذه الآية أيضا في التّوبة عن جميع السّيّئات،و معناه و من أراد التّوبة و عزم عليها فليتب لوجه اللّه،و قوله: يَتُوبُ إِلَى اللّهِ خبر بمعنى الأمر، أي ليتب إلى اللّه.و قيل:معناه فليعلم أنّ توبته و مصيره إلى اللّه.(3:459)
مثله الميبديّ(7:67)،و الخازن(5:90).
الزّمخشريّ: و من يترك المعاصي و يندم عليها و يدخل في العمل الصّالح،فإنّه بذلك تائب إلى اللّه(متابا) مرضيّا عنده،مكفّرا للخطايا محصّلا للثّواب،أو فإنّه تائب متابا إلى اللّه الّذي يعرف حقّ التّائبين،و يفعل بهم ما يستوجبون و الّذي يحبّ التّوّابين و يحبّ المتطهّرين.
و في كلام بعض العرب:اللّه أفرح بتوبة العبد من المظلّ الواجد و الظّمآن الوارد،و العقيم الوالد.أو فإنّه يرجع إلى اللّه و إلى ثوابه مرجعا حسنا،و أيّ مرجع.(3:101)
نحوه النّيسابوريّ(19:35)،و أبو السّعود(5:26).
ابن عطيّة: أكّد بهذه الألفاظ أمر التّوبة و المعنى (و من تاب)فإنّه قد تمسّك بأمر وثيق و هكذا،كما تقول لمن تستحسن قوله في أمره:لقد قلت يا فلان قولا، فكذلك الآية معناها مدح المتاب،كأنّه قال:فإنّه يجد بابا للفرج و المغفرة عظيما.(4:221)
الطّبرسيّ: [مثل الطّوسيّ و أضاف:]
فعلى هذا يكون المعنى:من عزم على التّوبة من المعاصي فإنّه ينبغي أن يوجّه توبته إلى اللّه بالقصد إلى طلب جزائه و رضائه عنه،فإنّه يرجع إلى اللّه فيكافئه.
و قيل:معناه من تاب و عمل صالحا فقد انقطع إلى اللّه فأعرفوا ذلك له:فإنّ من انقطع إلى خدمة بعض الملوك فقد أحرز شرفا،فكيف المنقطع إلى اللّه سبحانه؟
(4:181)
الفخر الرّازيّ: ففيه سؤالان:
ص: 88
السّؤال الأوّل:ما فائدة هذا التّكرير؟
الجواب من وجهين:
الأوّل:أنّ هذا ليس بتكرير،لأنّ الأوّل لمّا كان في تلك الخصال بيّن تعالى أنّ جميع الذّنوب بمنزلتها في صحّة التّوبة منها.
الثّاني:أنّ التّوبة الأولى رجوع عن الشّرك و المعاصي،و التّوبة الثّانية رجوع إلى اللّه تعالى للجزاء و المكافأة،كقوله تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ الرّعد:30،أي مرجعي.
السّؤال الثّاني:هل تكون التّوبة إلاّ إلى اللّه تعالى فما فائدة قوله: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً؟
الجواب من وجوه:
الأوّل:ما تقدّم من أنّ التّوبة الأولى الرّجوع عن المعصية،و الثّانية الرّجوع إلى حكم اللّه تعالى و ثوابه.
الثّاني:معناه أنّ من تاب إلى اللّه فقد أتى بتوبة مرضيّة للّه مكفّرة للذّنوب محصّلة للثّواب العظيم.
الثّالث:قوله:(و من تاب)يرجع إلى الماضي،فإنّه سبحانه ذكر أنّ من أتى بهذه التّوبة في الماضي على سبيل الإخلاص فقد وعده بأنّه سيوفّقه للتّوبة في المستقبل، و هذا من أعظم البشارات.(24:113)
القرطبيّ: لا يقال:«من قام فإنّه يقوم»فكيف قال:من تاب فإنّه يتوب؟[نقل قولي ابن عبّاس و القفّال ثمّ قال:]
و قيل:أي من تاب بلسانه و لم يحقّق ذلك بفعله فليست تلك التّوبة نافعة،بل من تاب و عمل صالحا فحقّق توبته بالأعمال الصّالحة فهو الّذي تاب إلى اللّه متابا،أي تاب حقّ التّوبة و هي النّصوح،و لذا أكّد بالمصدر،ف(متابا)مصدر معناه التّأكيد،كقوله: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً النّساء:164،أي فإنّه يتوب إلى اللّه حقّا فيقبل اللّه توبته حقّا.(13:79)
أبو حيّان :الظّاهر أنّ(و من تاب)أي أنشأ التّوبة، فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ أي يرجع إلى ثوابه و إحسانه.[ثمّ ذكر قولي ابن عطيّة و الزّمخشريّ و أضاف:]
و قيل:من عزم على التّوبة فإنّه يتوب إلى اللّه فليبادر إليها و يتوجّه بها إلى اللّه.
و قيل:من تاب من ذنوبه فإنّه يتوب إلى من يقبل التّوبة عن عباده،و يعفو عن السّيّئات.
و قيل:و من تاب استقام على التّوبة،فإنّه يتوب إلى اللّه،أي فهو التّائب حقّا عند اللّه.(6:516)
الشّربينيّ: أي عن ذنوبه غير ما ذكر...(فانّه يتوب)أي يرجع واصلا(الى اللّه)،أي الّذي له صفات الكمال فهو يقبل التّوبة عن عباده و يعفو عن السّيّئات (متابا)أي رجوعا مرضيّا عند اللّه بأن يرغّبه تعالى في الأعمال الصّالحة،فلا يزال كلّ يوم في زيادة بنيّته و عمله،فيخفّ عليه ما كان ثقيلا و يتيسّر عليه ما كان عسيرا،و يسهل عليه ما كان صعبا،كما مرّ في: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يونس:9،و لا يزال كذلك حتّى يحبّه فيكون سمعه الّذي يسمع به،و بصره الّذي يبصر به، و يده الّتي يبطش بها،و رجله الّتي يمشي بها بأن يوفّقه للخير،فلا يسمع إلاّ ما يرضيه و هكذا.(2:676)
البروسويّ: أي رجع عن المعاصي مطلقا بتركها
ص: 89
بالكلّيّة و النّدم عليها، وَ عَمِلَ صالِحاً يتدارك به ما فرط منه،أو خرج عن المعاصي و دخل في الطّاعات، (فإنّه)بما فعل(يتوب الى اللّه)يرجع إليه تعالى بعد الموت.قال الرّاغب:ذكر(الى)يقتضي الإنابة.(متابا) أي متابا عظيم الشّأن مرضيّا عنده،ماحيا للعقاب محصّلا للثّواب،فلا يتّحد الشّرط و الجزاء،لأنّ في الجزاء معنى زائدا على ما في الشّرط،فإنّ الشّرط هو التّوبة بمعنى الرجوع عن المعاصي،و الجزاء هو الرّجوع إلى اللّه رجوعا مرضيّا.
قال الرّاغب: (متابا)أي التّوبة التّامّة،و هو الجمع بين ترك القبيح و تحرّي الجميل،انتهى.و هذا تعميم بعد التّخصيص،لأنّ متعلّق التّوبة في الآية الأولى الشّرك و القتل و الزّنى فقط،و هاهنا مطلق المعاصي.
و التّوبة في الشّرع:ترك الذّنب لقبحه و النّدم على ما فرط منه،و العزيمة على ترك المعاودة،و تدارك ما أمكنه أن يتدارك من الإعادة،فمتى اجتمع هذه الأربع فقد كمل شرائط التّوبة.
قال ابن عطاء: التّوبة:الرّجوع من كلّ خلق مذموم و الدّخول في كلّ خلق محمود،أي و هي توبة الخواصّ.
و قال بعضهم:التّوبة أن يتوب من كلّ شيء سوى اللّه تعالى أي و هي توبة الأخصّ،فعليك بالتّوبة و الاستغفار فإنّها صابون الأوزار.(6:248)
نحوه الآلوسيّ(19:50)،و المراغيّ(19:40).
الطّباطبائيّ: «المتاب»مصدر ميميّ للتّوبة، و سياق الآية يعطي أنّها مسوقة لرفع استغراب تبدّل السّيّئات حسنات بتعظيم أمر التّوبة،و أنّها رجوع خاصّ إلى اللّه سبحانه،فلا بدع في أن يبدّل السّيّئات حسنات،و هو اللّه يفعل ما يشاء.
و في الآية-مع ذلك-شمول للتّوبة من جميع المعاصي،سواء قارنت الشّرك أم فارقته.و الآية السّابقة [الفرقان:70]كانت خفيّة الدّلالة على حال المعاصي إذا تجرّدت من الشّرك.(15:243)
7- ...عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ.... المزّمّل:20
الطّوسيّ: أي لم يلزمكم إثما كما لا يلزم التّائب،أي رفع التّبعة فيه كرفع التّبعة عن التّائب.(10:69)
البغويّ: فعاد عليكم بالعفو و التّخفيف.(5:170)
الزّمخشريّ: عبارة عن التّرخيص في ترك القيام المقدّر،كقوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ البقرة:187،و المعنى:أنّه رفع التّبعة في تركه عنكم كما يرفع التّبعة عن التّائب.(4:179)
مثله الفخر الرّازيّ(30:186)،و نحوه أبو السّعود (6:324).
القرطبيّ: أي فعاد عليكم بالعفو.و هذا يدلّ على أنّه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به.و قيل:أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم.و أصل التّوبة:
الرّجوع كما تقدّم.
فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف،و من عسر إلى يسر.و إنّما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التّحرّي،فخفّف عنهم ذلك التّحرّي.(19:52)
نحوه أبو حيّان.(8:367)
النّيسابوريّ: ما فرط منكم في مساهلة حصر
ص: 90
الأوقات،و رفع تبعته عنكم.(29:81)
الشّربينيّ: أي رجع بكم إلى التّخفيف بالتّرخّص لكم،في ترك القيام المقدّر أوّل السّورة.(4:422)
نحوه المراغيّ.(29:120)
الآلوسيّ: أي بالتّرخيص في ترك القيام المقدّر، و رفع التّبعة عنكم في تركه.فالكلام على الاستعارة حيث شبّه التّرخيص بقبول التّوبة في رفع التّبعة، و استعمل اللّفظ الشّائع في المشبّه به في المشبّه كما في قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ البقرة:187.
و زعم بعضهم أنّه على ما يتبادر منه فقال:فيه دليل على أنّه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به،و ليس بشيء.
(29:111)
الطّباطبائيّ: توبته تعالى و رجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرّحمة الإلهيّة عليهم بالتّخفيف،فللّه سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم،و أثرها توفيقهم للتّوبة أو لمطلق الطّاعة،أو رفع بعض التّكاليف أو التّخفيف.قال تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا التّوبة:
118،كما أنّ له توبة عليهم بمعنى الرّجوع إليهم بعد توبتهم،و أثرها مغفرة ذنوبهم،و قد تقدّمت الإشارة إليه.
(20:75)
عبد الكريم الخطيب :أي فقبل منكم هذا التّقصير،قبول التّائب من ذنبه،فيرفع عنه وزره، و يغسل ذنوبه،كما يغسل الثّوب ممّا علّق به.
(15:1272)
فضل اللّه :أي خفّف عنكم فلم يلزمكم بقيام اللّيل،فلو تركتموه لم يكن عليكم حرج،كما هو الأمر بالنّسبة إلى التّائب الّذي لا يبقى عليه شيء من ذنبه بعد التّوبة.(23:191)
مكارم الشّيرازيّ: و المراد ب(تاب عليكم)خفّف عليكم التّكاليف،و ليس التّوبة من الذّنب.و يحتمل أن لا يتّخذ الذّنب صورة في حال رفع الحكم الوجوبي فتتمّ بذلك المغفرة الإلهيّة.(19:132)
1- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ. البقرة:160
الطّبريّ: فإن قال قائل:و كيف يتاب على من تاب،و ما وجه قوله: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ، و هل يكون تائب إلاّ و هو متوب عليه،أو متوب عليه إلاّ و هو تائب؟
قيل:ذلك ممّا لا يكون أحدهما إلاّ و الآخر معه، فسواء قيل:إلاّ الّذين تيب عليهم فتابوا،أو قيل:إلاّ الّذين تابوا فإنّي أتوب عليهم.و قد بيّنّا وجه ذلك فيما جاء من الكلام هذا المجيء في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا،فكرهنا إعادته في هذا الموضع.(2:57)
الزّجّاج: و المعنى أنّ من تاب بعد هذا،و تبيّن منهم أنّ ما أتى به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حقّ،قبل اللّه توبته فأعلم اللّه عزّ و جلّ:أنّه يقبل التّوبة و يرحم و يغفر الذّنب الّذي لا غاية بعده.(1:235)
الطّوسيّ: أقبل توبتهم،و الأصل في(اتوب):
أفعل التّوبة،إلاّ أنّه لمّا وصل بحرف الإضافة دلّ على أنّ
ص: 91
معناه أقبل التّوبة،و إنّما كان لفظه مشتركا بين فاعل التّوبة و القابل لها،للتّرغيب في صفة التّوبة؛إذ وصف بها القابل لها،و هو اللّه؛و ذلك من إنعام اللّه على عباده،لئلاّ يتوهّم بما فيها من الدّلالة على مقارفة الذّنب أنّ الوصف بها عيب،فلذلك جعلت في أعلى صفات المدح.
و التّوبة هي النّدم الّذي يقع موقع التّنصّل من الشّيء؛و ذلك بالتّحسّر على موافقته،و العزم على ترك معاودته إن أمكنت المعاودة،و اعتبر قوم المعاودة إلى مثله في القبح.و هو الأقوى،لإجماع الأمّة على سقوط العقاب عندها،و ما عداها فمختلف فيه.
فإن قيل:ما الفائدة في هذا الإخبار،و قد علمنا أنّ العبد متى تاب لا بدّ أن يتوب اللّه عليه؟
قلنا:أمّا على مذهبنا،فله فائدة واضحة،و هو أنّ إسقاط العقاب عندها ليس بواجب عقلا،فإذا أخبر بذلك أفادنا ما لم نكن عالمين به.و من خالف في ذلك قال:وجه ذلك أنّه لمّا كانت توبة مقبولة و توبة غير مقبولة،صحّت الفائدة بالدّلالة على أنّ هذه التّوبة مقبولة.و معنى قبول التّوبة:حصول الثّواب عليها، و إسقاط العقاب عندها.(2:48)
نحوه الطّبرسيّ.(1:242)
البغويّ: أتجاوز عنهم جميع سيّئاتهم،و أقبل توبتهم.(1:194)
نحوه الشّربينيّ.(1:108)
الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا بيّن عظيم الوعيد في الّذين يكتمون ما أنزل اللّه كان يجوز أن يتوهّم أنّ الوعيد يلحقهم على كلّ حال،فبيّن تعالى أنّهم إذا تابوا تغيّر حكمهم،و دخلوا في أهل الوعد.
و قد ذكرنا أنّ التّوبة عبارة عن النّدم على فعل القبيح،لا لغرض سواه،لأنّ من ترك ردّ الوديعة ثمّ ندم عليه-لأنّ النّاس ذمّوه،أو لأنّ الحاكم ردّ شهادته-لم يكن تائبا.و كذلك لو عزم على ردّ كلّ وديعة،و القيام بكلّ واجب،لكي تقبل شهادته،أو يمدح بالثّناء عليه لم يكن تائبا،و هذا معنى الإخلاص في التّوبة.
ثمّ بيّن تعالى أنّه لا بدّ له بعد التّوبة من إصلاح ما أفسده،مثلا لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه،يلزمه إزالة تلك الشّبهة،ثمّ بيّن ثالثا أنّه بعد ذلك يجب عليه فعل ضدّ الكتمان و هو البيان،و هو المراد بقوله:(و بيّنوا)فدلّت هذه الآية على أنّ التّوبة لا تحصل إلاّ بترك كلّ ما لا ينبغي،و بفعل كلّ ما ينبغي.
قالت المعتزلة:الآية تدلّ على أنّ التّوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصحّ،لأنّ قوله:
(و اصلحوا)عامّ في الكلّ.
و الجواب عنه:أنّ اللّفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده.
قال أصحابنا:تدلّ الآية على أنّ قبول التّوبة غير واجب عقلا،لأنّه تعالى ذكر ذلك في معرض المدح و الثّناء على نفسه،و لو كان ذلك واجبا لما حسن هذا المدح.
و معنى(اتوب عليهم)أقبل توبتهم،و قبول التّوبة يتضمّن إزالة عقاب ما تاب منها.
فإن قيل:هلاّ قلتم:إنّ معنى فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ هو قبول التّوبة بمعنى المجازاة و الثّواب كما تقولون
ص: 92
في قبول الطّاعة.
قلنا:الطّاعة إنّما أفاد قبولها استحقاق الثّواب،لأنّه لا يستحقّ بها سواه و هو الغرض بفعلها،و ليس كذلك التّوبة لأنّها موضوعة لإسقاط العقاب،و هو الغرض بفعلها،و إن كان لا بدّ من أن يستحقّ بها الثّواب إذا لم يكن مخطئا.(4:186)
القرطبيّ: استثنى تعالى التّائبين الصّالحين لأعمالهم و أقوالهم،المنيبين لتوبتهم.و لا يكفي في التّوبة عند علمائنا قول القائل:قد تبت،حتّى يظهر منه في الثّاني خلاف الأوّل.
فإن كان مرتدّا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، و إن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصّالح، و جانب أهل الفساد و الأحوال الّتي كان عليها،و إن كان من أهل الأوثان جانبهم و خالط أهل الإسلام،و هكذا يظهر عكس ما كان عليه.(2:187)
أبو حيّان :أي أعطف عليهم.و من تاب اللّه عليه لا تلحقه لعنة.(1:460)
الشّربينيّ: أي رجعوا عن الكتمان،و سائر ما يجب أن يتاب منه.(1:108)
أبو السّعود :(اتوب)أي بالقبول و إفاضة المغفرة و الرّحمة.(1:224)
البروسويّ: أي بالقبول و إفاضة الرّحمة و المغفرة.
فإنّ التّوبة إذا أسندت إليه تعالى بأن قيل:تاب اللّه أو يتوب،تكون بمعنى المقبول،و قبول التّوبة يتضمّن المغفرة،أي إزالة عقاب من تاب.(1:265)
الآلوسيّ: أي رجعوا عن الكتمان أو عنه،و عن سائر ما يجب أن يتاب عنه،بناء على أنّ حذف المعمول يفيد العموم.و فيه إشارة إلى أنّ التّوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللّعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع،فإنّ للعنهم أسبابا جمّة.
(و اصلحوا)ما أفسدوا بالتّدارك فيما يتعلّق بحقوق الحقّ و الخلق،و من ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال،و أن يزيلوا الكلام المحرّف و يكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التّحريف.(و بيّنوا)أي أظهروا ما بيّنه اللّه تعالى للنّاس معاينة،و بهذين الأمرين تتمّ التّوبة.
و قيل:أظهروا ما أحدثوه من التّوبة،ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم،و يقتدي بهم أضرابهم،فإنّ إظهار التّوبة ممّن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار.
و فيه أنّ الصّحيح أنّ إظهار التّوبة إنّما هو لدفع معصية المتابعة و ليس شرطا في التّوبة عن أصل المعصية،فهو داخل في قوله تعالى:(و اصلحوا) فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ بالقبول و إفاضة المغفرة و الرّحمة.(2:28)
نحوه المراغيّ.(2:31)
رشيد رضا :أي أرجع و أعود عليهم بالرّحمة و الرّأفة بعد الحرمان المعبّر عنه باللّعنة.
قال الأستاذ:و هذا من ألطف أنواع التّأديب الإلهيّ، فإنّه لم يذكر أنّه يقبل توبتهم كما هو الواقع،بل أسند إلى ذاته العليّة فعل التّوبة الّذي أسنده إليهم.(2:50)
فضل اللّه :و أنابوا إلى اللّه و غيّروا و بدّلوا،و بدءوا
ص: 93
بحمل الرّسالة و الدّعوة إليه تعالى.[إلى أن قال:]
فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ فأغفر لهم ما أسلفوه من الذّنوب.(3:137)
مكارم الشّيرازيّ: لمّا كان القرآن كتاب هداية، فإنّه لا يغلق منافذ الأمل و التّوبة أمام الأفراد،و لا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذّنوب،لذلك تبيّن الآية التّالية طريق النّجاة من هذا الذّنب الكبير،و تقول:
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ.
عبارة: وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ جاءت بعد عبارة فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ للدّلالة على كثرة محبّة اللّه، و سبق عطفه على عباده التّائبين،فيقول اللّه سبحانه لهؤلاء:إن تبتم،أي عدتم إلى نشر الحقائق،فأنا أعود أيضا إلى إغداق الرّحمة و المواهب عليكم.
و من الملفت للنّظر أنّ اللّه لم يقل أنّه يقبل التّوبة ممّن تاب،بل يقول:من تاب فأنا أيضا أتوب عليه.و الفرق في التّعبيرين واضح،فالثّاني فيه من التّودّد و التّحنّن و إغداق اللّطف ما لا يمكن وصفه.(1:402)
2- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. آل عمران:89
الطّوسيّ: إن قيل:إذا كانت التّوبة من الذّنب لا تصلح إلاّ بعد فعله،فلم قال:(من بعد ذلك).
قيل:فائدته أنّه يفيد معنى تابوا منه،لأنّ توبتهم من غيره لا تنفع في التّخلّص منه،كما لا تنفع التّوبة من الكبير في التّخلّص من الصّغير.فأمّا من قال:إنّ التّوبة من معصية لا تصحّ مع الإقامة على معصية أخرى،فإنّه يقول ذلك على وجه التّأكيد.
فإن قيل:إذا كانت التّوبة وحدها تسقط العقاب و تحصّل الثّواب فلم شرط معها الإصلاح؟
قيل:الوجه في ذلك إزالة الإبهام لئلاّ يعتقد،أنّه إذا حصل الإيمان،و التّوبة من الكفر لا يضرّ معه شيء من أفعال القبائح،كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فصّلت:8،فذكر مع الإيمان عمل الصّالحات،لإزالة الإيهام بأنّ من كان مؤمنا في الحكم،لم يضرّه مع ذلك ما عمله من المعاصي.
و قبول التّوبة واجب،لأنّها طاعة،و استحقاق الثّواب بها ثابت عقلا.فأمّا سقوط العقاب عندها،فإنّما هو تفضّل من اللّه،و لو لا أنّ السّمع ورد بذلك،و إلاّ فلا دلالة في العقل على ذلك.(2:526)
الميبديّ: كلّما ذكرت التّوبة في القرآن قرنت بالإصلاح لأنّ حقيقة التّوبة شيئان:الإخلاص و إصلاح الأعمال،و باجتماعهما تصحّ التّوبة.
فإن قيل:لم قال في البقرة:160 إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا، و هنا لم يقل:(و بيّنوا)؟
قيل في الجواب:إنّ الآية في البقرة نزلت في شأن أحبار اليهود الّذين كتموا وصف محمّد في التّوراة،عن عوامّهم،و هذا معظم ذنبهم،لذا لم يقبل توبتهم حتّى بيّنوه و أظهروه.و لم يكن هذا المعنى فيمن نزلت هذه الآية في شأنهم و ما كان ذنبهم إلاّ الرّدّة،لذا لم يقل:
و بيّنوا.(2:194)
الطّبرسيّ: أي تابوا من الكفر و رجعوا إلى الإيمان،
ص: 94
و أصلحوا ضمائرهم و عزموا على أن يثبتوا على الإسلام.
و هذا أحسن من قول من قال:و أصلحوا أعمالهم بعد التّوبة و صلّوا و صاموا،فإنّ ذلك ليس بشرط في صحّة التّوبة؛إذ لو مات قبل فعل الصّالحات مات مؤمنا بالإجماع.(1:472)
الفخر الرّازيّ: و المعنى إلاّ الّذين تابوا منه،ثمّ بيّن أنّ التّوبة وحدها لا تكفي،حتّى ينضاف إليها العمل الصّالح،فقال:(و اصلحوا)أي أصلحوا باطنهم مع الحقّ بالمراقبات،و ظاهرهم مع الخلق بالعبادات؛و ذلك بأن يعلنوا بأنّا كنّا على الباطل حتّى أنّه لو اغترّ بطريقتهم الفاسدة مغترّ رجع عنها.(8:138)
نحوه النّيسابوريّ(3:244)،و رشيد رضا(3:366)، و عبد الكريم الخطيب(2:518)،و فضل اللّه(6:
143)،و مكارم الشّيرازيّ 2:441).
البروسويّ: [نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]
و هذا النّدم و التّوبة إنّما يحصل لمن لم ترسخ فيه بعد هيئة استيلاء النّفس الأمّارة على قلبه و لم تصر رينا، و بقي فيه من وراء حجاب صفات النّفس مسكة من نور استعداده،فيتداركه اللّه برحمته و توفيقه فيندم، و يواظب على الرّياضات من باب التّزكية و التّصفية.
(2:59)
الآلوسيّ: أي الكفر الّذي ارتكبوه بعد الإيمان، (و اصلحوا)أي دخلوا في الصّلاح،بناء على أنّ الفعل لازم من قبيل«أصبحوا»أي دخلوا في الصّباح.و يجوز أن يكون متعدّيا و المفعول محذوف،أي أصلحوا ما أفسدوا.
ففيه إشارة-كما قيل-إلى أنّ مجرّد النّدم على ما مضى من الارتداد،و العزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلّوا به من الحقوق.
و اعترض بأنّ مجرّد التّوبة يوجب تخفيف العذاب و نظر الحقّ إليهم،فالظّاهر أنّه ليس تقييدا،بل بيان لأن يصلح ما فسد.
و أجيب بأنّه ليس بوارد،لأنّ مجرّد النّدم و العزم على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه،فهو بيان للتّوبة المعتدّ بها،فالمآل واحد عند التّحقيق.
(3:217)
الطّباطبائيّ: أي دخلوا في الصّلاح،و المراد به كون توبتهم نصوحا تغسل عنهم درن الكفر و تطهّر باطنهم بالإيمان.و أمّا الإتيان بالأعمال الصّالحة فهو و إن كان ممّا يتفرّع على ذلك و يلزمه،غير أنّه ليس بمقوّم لهذه التّوبة و لا ركنا منها،و لا في الآية دلالة عليه.
(3:340)
3- وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. الأعراف:153
الطّبريّ: ما ملخّصه:إنّ اللّه يقبل توبة العباد من ذنوبهم صغيرة كانت أو كبيرة،كما قبل توبة عبدة العجل،و إنّهم إذا عملوا السّيّئات ثمّ رجعوا إلى ما يرضي اللّه بإنابتهم إلى ما يحبّ ممّا يكره،و إلى ما يرضى ممّا يسخطه،و صدّقوا بأنّ قابل توبة المذنبين المنيبين إليه بإخلاص قلوبهم و يقين منهم بذلك،يغفر لهم.(9:71)
الماورديّ: التّوبة من السّيّئات هي النّدم على
ص: 95
ما سلف و العزم على ألاّ يفعل مثلها.
فإن قيل:فالتّوبة إيمان فما معنى قوله: ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها:يعني أنّهم تابوا من المعصية،و استأنفوا عمل الإيمان بعد التّوبة.
و الثّاني:يعني أنّهم تابوا بعد المعصية و آمنوا بتلك التّوبة.
و الثّالث:و آمنوا بأنّ اللّه قابل التّوبة.(2:265)
الطّوسيّ: قد بيّنّا فيما مضى أنّ التّوبة الّتي أجمعوا على سقوط العقاب عندها هي النّدم على القبيح،و العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح،و في غيرها خلاف.
[إلى أن قال:]
و قيل:إنّ الآية نزلت فيمن تاب من الّذين كانوا عبدوا العجل فإنّهم تابوا و ندموا،و أكثرهم تعبّدهم اللّه بأن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضا،و استسلموا لذلك،فقتل في يوم واحد سبعون ألفا،ثمّ رفع عنهم ذلك و قبل توبتهم.(4:585)
القشيريّ: وصفهم بالتّوبة بعد عمل السّيّئات ثمّ بالإيمان بعدها،ثمّ قال: مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
و الإيمان الّذي هو بعد التّوبة يحتمل آمنوا بأنّه يقبل التّوبة،أو آمنوا بأنّ الحقّ سبحانه لم يضرّه عصيان،أو آمنوا بأنّهم لا ينجون بتوبتهم من دون فضل اللّه،أو آمنوا،أي عدّوا ما سبق عنهم من نقض العهد شركا.
(2:269)
ابن عطيّة: تضمّنت هذه الآية الوعد بأنّ اللّه عزّ و جلّ يغفر للتّائبين،و الإشارة إلى من تاب من بني إسرائيل.و في الآية ترتيب الإيمان بعد التّوبة،و المعنى في ذلك أنّه أراد،و آمنوا أنّ التّوبة نافعة لهم منجية فتمسّكوا بها،فهذا إيمان خاصّ بعد الإيمان على الإطلاق.
و يحتمل أن يريد بقوله:(و آمنوا)أي و عملوا عمل المؤمنين حتّى وافوا على ذلك.
و يحتمل أن يريد التّأكيد فذكر التّوبة و الإيمان إذ هما متلازمان،إلاّ أنّ التّوبة على هذا تكون من كفر و لا بدّ، فيجيء(تابوا و آمنوا)بمعنى واحد،و هذا لا يترتّب في توبة المعاصي فإنّ الإيمان متقدّم لتلك و لا بدّ و هو و توبة الكفر متلازمان.
و يحتمل قوله:(تابوا و آمنوا)أن يكون لم تقصد رتبة الفعلين على عرف الواو في أنّها لا توجب رتبة،و يكون (و آمنوا)بمعنى و هم مؤمنون قبل و بعد،فكأنّه قال:و من صفتهم أن آمنوا.(2:458)
الفخر الرّازيّ: هذا يفيد أنّ من عمل السّيّئات فلا بدّ و أن يتوب عنها أوّلا؛و ذلك بأن يتركها أوّلا و يرجع عنها،ثمّ يؤمن بعد ذلك.و ثانيا يؤمن باللّه تعالى، و يصدّق بأنّه لا إله غيره إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
و هذه الآية تدلّ على أنّ(السّيّئات)بأسرها مشتركة في أنّ التّوبة منها توجب الغفران،لأنّ قوله:
وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ يتناول الكلّ،و التّقدير:أنّ من أتى بجميع السّيّئات ثمّ تاب فإنّ اللّه يغفرها له،و هذا من أعظم ما يفيد البشارة و الفرح للمذنبين.(15:13)
النّيسابوريّ: ظاهر الآية تدلّ على أنّ التّوبة شرط العفو،و أنّه لا بدّ مع التّوبة من تجديد الإيمان فما
ص: 96
أصعب شأن المذنبين،لكن عموم لفظ(السّيّئات)يدلّ على أنّ من أتى بجميع المعاصي ثمّ تاب فإنّ اللّه يغفرها له،فما أحسن حال التّائبين.(9:55)
أبو حيّان :أي رجعوا إلى اللّه من بعدها،أي من بعد عمل السّيّئات،(و آمنوا):داموا على إيمانهم و أخلصوا فيه.أو تكون«الواو»حاليّة،أي و قد آمنوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد عمل السّيّئات،هذا هو الظّاهر.
و يحتمل أن يكون الضّمير في(من بعدها)عائدا على التّوبة،أي إنّ ربّك من بعد توبتهم،فيعود على المصدر المفهوم من قوله: ثُمَّ تابُوا. و هذا عندي أولى،لأنّك إذا جعلت الضّمير عائدا على(السّيّئات)احتجت إلى حذف مضاف و حذف معطوف؛إذ يصير التّقدير:من بعد عمل السّيّئات و التّوبة منها.(4:397)
البروسويّ: و اعلم أنّ التّوبة عند المعتزلة علّة موجبة للمغفرة،و عندنا سبب محض للمغفرة،و التّوبة:
الرّجوع،فإذا وصف بها العبد كان المراد بها الرّجوع عن المعصية،و إذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرّجوع عن العذاب بالمغفرة.
و التّوبة على ضربين:ظاهر و باطن.
فالظّاهر:هو التّوبة من الذّنوب الظّاهرة،و هي مخالفات ظواهر الشّرع،و توبتها ترك المخالفات و استعمال الجوارح بالطّاعات.
و الباطن:هو توبة القلب من ذنوب الباطن،و هي الغفلة عن الذّكر حتّى يتّصف به؛بحيث لو صمت لسانه لم يصمت قلبه.و توبة النّفس:قطع علائق الدّنيا و الأخذ باليسير و التّعفّف،و توبة العقل:التّفكّر في بواطن الآيات و آثار المصنوعات،و توبة الرّوح:التّحلّي بالمعارف الإلهيّة،و توبة السّرّ:التّوجّه إلى الحضرة العليا بعد الإعراض عن الدّنيا و العقبى.(3:248)
فضل اللّه :فقد جعل اللّه على نفسه قبول التّوبة ممّن تاب إليه بإخلاص،و قد سبقت رحمته غضبه تماما،كما تاب على المشركين الّذين تمرّدوا على الرّسالة و حاربوها،ثمّ أخلصوا للّه الإيمان،و ساروا في الخطّ المستقيم،و جاهدوا في سبيله.(10:252)
4- ...فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ... التّوبة:5
الطّبريّ: فإن رجعوا عمّا هم عليه من الشّرك باللّه، و جحود نبوّة نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم إلى توحيد اللّه،و إخلاص العبادة له،دون الآلهة و الأنداد،و الإقرار بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(10:78)
الجصّاص :لا يخلو قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطا في زوال القتل عنهم،و يكون قبول ذلك و الانقياد لأمر اللّه تعالى فيه هو الشّرط دون وجود الفعل،و معلوم أنّ وجود التّوبة من الشّرك شرط لا محالة في زوال القتل،و لا خلاف أنّهم لو قبلوا أمر اللّه في فعل الصّلاة و الزّكاة و لم يكن الوقت وقت صلاة أنّهم مسلمون و أنّ دماءهم محظورة.
فعلمنا أنّ شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر اللّه و الاعتراف بلزومها دون فعل الصّلاة و الزّكاة،و لأنّ إخراج الزّكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلاّ بعد حول،فغير
ص: 97
جائز أن يكون إخراج الزّكاة شرطا في زوال القتل، و كذلك فعل الصّلاة ليس بشرط فيه و إنّما شرطه قبول هذه الفرائض و التزامها و الاعتراف بوجوبها.
فإن قيل:لمّا قال اللّه تعالى: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فشرط مع التّوبة فعل الصّلاة و الزّكاة.و معلوم أنّ التّوبة إنّما هي الإقلاع عن الكفر و الرّجوع إلى الإيمان،فقد عقل بذكره التّوبة التزام هذه الفرائض و الاعتراف بها؛إذ لا تصحّ التّوبة إلاّ به.ثمّ لمّا شرط مع التّوبة الصّلاة و الزّكاة دلّ على أنّ المعنى المزيل للقتل هو اعتقاد الإيمان بشرائطه و فعل الصّلاة و الزّكاة، فأوجب ذلك قتل تارك الصّلاة و الزّكاة في وقت وجوبهما،و إن كان معتقدا للإيمان معترفا بلزوم شرائعه.
قيل له:لو كان فعل الصّلاة و الزّكاة من شرائط زوال القتل لما زال القتل عمّن أسلم في غير وقت الصّلاة و عمّن لم يؤدّ زكاته مع إسلامه،فلمّا اتّفق الجميع على زوال القتل عمّن وصفنا أمره بعد اعتقاده للإيمان للزوم شرائعه،ثبت بذلك أنّ فعل الصّلاة و الزّكاة ليس من شرائط زوال القتل،و إنّ شرطه إظهار الإيمان و قبول شرائعه،أ لا ترى أنّ قبول الإيمان و التزام شرائعه لمّا كان شرطا في ذلك لم يزل عنه القتل عند إخلاله ببعض ذلك.
(3:81)
القشيريّ: حقيقة التّوبة:الرّجوع بالكلّيّة من غير أن تترك بقيّة،فإذا أسلم الكافر بعد شركه،و لم يقصّر في واجب عليه من قسمي فعله و تركه،حصل الإذن في تخلية سبيله و فكّه.
و كذلك النّفس إذا انخنست،و آثار البشرية إذا اندرست فلا حرج-في التّحقيق-في المعاملات في أوان مراعاة الخطرات مع اللّه عند حصول المكاشفات.
و الجلوس مع اللّه أولى من القيام بباب اللّه تعالى،قال تعالى فيما ورد به الخبر:«أنا جليس من ذكرني».
(3:8)
ابن عطيّة: (فَإِنْ تابُوا) يريد من الكفر فهي متضمّنة الإيمان،ثمّ قرن بها إقامة الصّلاة و إيتاء الزّكاة، تنبيها على مكان الصّلاة و الزّكاة من الشّرع.(3:8)
الطّبرسيّ: أي رجعوا من الكفر و انقادوا للشّرع.
(3:7)
القرطبيّ: هذه الآية فيها تأمّل،و ذلك أنّ اللّه علّق القتل على الشّرك،ثمّ قال: (فَإِنْ تابُوا) ،و الأصل أنّ القتل متى كان للشّرك يزول بزواله،و ذلك يقتضي زوال القتل بمجرّد التّوبة،من غير اعتبار إقامة الصّلاة و إيتاء الزّكاة،و لذلك سقط القتل بمجرّد التّوبة قبل وقت الصّلاة و الزّكاة.
و هذا بيّن في هذا المعنى،غير أنّ اللّه تعالى ذكر التّوبة و ذكر معها شرطين آخرين،فلا سبيل إلى إلغائهما،نظيره قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه و يقيموا الصّلاة و يؤتوا الزّكاة،فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على اللّه».(8:74)
أبو حيّان :أي عن الكفر و الغدر،و التّوبة تتضمّن الإيمان،و ترك ما كانوا فيه من المعاصي.ثمّ نبّه على أعظم الشّعائر الإسلاميّة،و ذلك إقامة الصّلاة و هي أفضل الأعمال البدنيّة،و إيتاء الزّكاة و هي أفضل الأعمال
ص: 98
الماليّة،و بها تظهر القوّة العمليّة كما بالتّوبة تظهر القوّة العلميّة عن الجهل.(5:10)
أبو السّعود : (فَإِنْ تابُوا) عن الشّرك بالإيمان بعد ما اضطرّوا بما ذكر من القتل و الأسر و الحصر.(3:124)
نحوه الآلوسيّ.(10:51)
البروسويّ: [نحو أبي السّعود و أضاف:]
و رجعوا إلى اللّه،أي رجعت النّفوس عن هواها إلى طلب الحقّ تعالى.(3:388)
رشيد رضا :أي فإن تابوا عن الشّرك،و هو الّذي يحملهم على عداوتكم و قتالكم؛بأن دخلوا في الإسلام، و عنوانه العامّ النّطق بالشّهادتين،و كان يكتفي منهم بإحداهما.(10:168)
الطّباطبائيّ: و المراد بالتّوبة معناها اللّغويّ،و هو الرّجوع،أي إن رجعوا من الشّرك إلى التّوحيد بالإيمان، و نصبوا لذلك حجّة من أعمالهم و هي الصّلاة و الزّكاة، و التزموا أحكام دينكم الرّاجعة إلى الخالق جميعا،فخلّوا سبيلهم.(9:153)
عبد الكريم الخطيب :هو تحريض للمشركين على المبادرة بالتّوبة،و خلع نير الشّرك من رقابهم، و ذلك قبل أن يقعوا ليد المسلمين،و تصل إليهم سيوفهم.
فإنّهم إن وصلوا إلى تلك الحال،فلن تكون لهم نجاة، و لن تقبل منهم توبة،شأنهم في هذا شأن الّذين يحاربون اللّه و رسوله،و يسعون في الأرض فسادا.(5:702)
...فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. الأعراف:143
ابن عبّاس: تُبْتُ إِلَيْكَ من مسألتي الرّؤية.
(137)
نحوه مجاهد(القرطبيّ(7:279)،و الطّبريّ(9:
55)،و البغويّ(2:231)،و الميبديّ(3:727).
الماورديّ: فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها:أنّه تاب من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها.
و الثّاني:أنّه تاب من اعتقاده جواز رؤيته في الدّنيا.
و الثّالث:أنّه قال ذلك على جهة التّسبيح،و عادة المؤمنين عند ظهور الآيات الدّالّة على عظيم قدرته.
(2:259)
الطّوسيّ: قيل في معنى توبته ثلاثة أقوال:
أحدها:أنّه تاب لأنّه سأل قبل أن يؤذن له في المسألة،و ليس للأنبياء ذلك.
الثّاني:أنّه تاب من صغيرة ذكرها.
الثّالث:أنّه قال ذلك على وجه الانقطاع إليه و الرّجوع إلى طاعته،و إن كان لم يعص،و هذا هو المعتمد عندنا دون الأوّلين،على أنّه يقال لمن جوّز الرّؤية على اللّه تعالى:إذا كان موسى عليه السّلام إنّما سأل ما يجوز عليه فمن أيّ شيء تاب؟فلا بدّ لهم من مثل ما قلناه من الأجوبة.(4:570)
نحوه الطّبرسيّ.(2:476)
القشيريّ: و يقال:لمّا ردّ موسى إلى حال الصّحو و أفاق رجع إلى رأس الأمر فقال: تُبْتُ إِلَيْكَ يعني
ص: 99
إن لم تكن الرّؤية هي غاية المرتبة فلا أقلّ من التّوبة، فقبله تعالى،لسموّ همّته إلى الرّتبة العليّة.
هذه إناخة بعقوة العبوديّة،و شرط الإنصاف ألاّ تبرح محلّ الخدمة و إن حيل بينك و بين وجود القربة، لأنّ القربة حظّ نفسك،و الخدمة حقّ ربّك،و هي تتمّ بألاّ تكون بحظّ نفسك.(2:262)
الزّمخشريّ: من طلب الرّؤية وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنّك لست بمرئيّ و لا مدرك بشيء من الحواسّ.
فإن قلت:فإن كان طلب الرّؤية للغرض الّذي ذكرته فممّ تاب؟
قلت:من إجرائه تلك المقالة العظيمة و إن كان لغرض صحيح على لسانه،من غير إذن فيه من اللّه تعالى.فانظر إلى إعظام اللّه تعالى أمر الرّؤية في هذه الآية،و كيف أرجف الجبل بطالبيها و جعله دكّا،و كيف أصعقهم،و لم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر،و كيف سبّح ربّه ملتجئا إليه،و تاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه.(2:115)
ابن عطيّة: معناه من أن أسألك الرّؤية في الدّنيا و أنت لا تبيحها.
و يحتمل عندي أنّه لفظ قاله عليه السّلام لشدّة هول ما اطّلع،و لم يعن به التّوبة من شيء معيّن،و لكنّه لفظ يصلح لذلك المقام.
و الّذي يتحرّز منه أهل السّنّة أن تكون توبة من سؤال المحال كما زعمت المعتزلة.(2:451)
الفخر الرّازيّ: قوله تعالى حكاية عن موسى لمّا أفاق أنّه قال: تُبْتُ إِلَيْكَ و لو لا أنّ طلب الرّؤية ذنب لما تاب منه،و لو لا أنّه ذنب ينافي صحّة الإسلام لما قال:
وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.
و اعلم أنّ أصحابنا قالوا:الرّؤية كانت جائزة،إلاّ أنّه عليه السّلام سألها بغير الإذن،و حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين،فكانت التّوبة توبة عن هذا المعنى لا عمّا ذكروه، فهذا جملة الكلام في هذه الآية،و اللّه أعلم بالصّواب.
(14:233)
القرطبيّ: أجمعت الأمّة على أنّ هذه التّوبة ما كانت عن معصية،فإنّ الأنبياء معصومون.و أيضا عند أهل السّنّة و الجماعة الرّؤية جائزة،و عند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبيّن لهم أنّها غير جائزة،و هذا لا يقتضي التّوبة، فقيل:أي تبت إليك من قتل القبطيّ،ذكره القشيريّ.(7:279)
النّيسابوريّ: من طلب الرّؤية بغير إذن منك و إن كان لغرض صحيح،هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنصّ من عندك.(9:46)
الآلوسيّ: لاحظ(رأي)(9:50)
القاسميّ: أمّا التّوبة في حقّ الأنبياء،فلا يستلزم كونها عن ذنب،لأنّ منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزّها مبرّأ من كلّ ما ينحطّ به،و لا شكّ أنّ التّوقّف في سؤال الرّؤية على الإذن كان أكمل،قد ورد«سيّئات المقرّبين حسنات الأبرار».(7:2851)
الطّباطبائيّ: توبة و رجوع منه عليه السّلام بعد الإفاقة؛ إذ تبيّن له أنّ الّذي سأله وقع في غير موقعه،فأخذته العناية الإلهيّة بتعريفه ذلك،و تعليمه عيانا بإشهاده دكّ
ص: 100
الجبل بالتّجلّي أنّه غير ممكن.
فبدأ بتنزيهه تعالى و تقديسه عمّا كان يرى من إمكان ذلك،ثمّ عقّبه بالتّوبة عمّا أقدم عليه،و هو يطمع في أن يتوب عليه،و ليس من الواجب في التّوبة أن تكون دائما عن معصية و جرم بل هو الرّجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان.(8:243)
فضل اللّه :في إحساس عميق بالعظمة الإلهيّة يدفعه إلى التّسبيح،و في شعور بالنّدم يدعوه إلى التّوبة.(10:240)
مكارم الشّيرازيّ: ممّ تاب موسى عليه السّلام؟
سؤال يطرح نفسه هنا هو:أنّ موسى عليه السّلام بعد أن أفاق قال: تُبْتُ إِلَيْكَ في حين أنّه لم يرتكب إثما أو معصية،لأنّ هذا الطّلب كان من جانب بني إسرائيل، و كان طرحه بتكليف من اللّه،فهو أدّى واجبه إذن،ثمّ إذا كان هذا الطّلب لنفسه و كان مراده الشّهود الباطنيّ لم يحسب هذا العمل إثما؟
و لكن يمكن الجواب على هذا السّؤال من جانبين:
الأوّل:أنّ موسى طلب مثل هذا الطّلب بالنّيابة عن بني إسرائيل،و مع ذلك طلب من اللّه أن يتوب عليه، و أظهر الإيمان.
الآخر:أنّ موسى عليه السّلام و إن كان مكلّفا بأن يطرح طلب بني إسرائيل،و لكنّه عند ما تجلّى ربّه للجبل و اتّضحت حقيقة الأمر،انتهت مدّة هذا التّكليف،و في هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأولى يعني الرّجوع إلى ما قبل التّكليف،و إظهار إيمانه حتّى لا تبقى شبهة لأحد،و قد بيّن ذلك بجملة:إنّى تبت إليك و أنا أوّل المؤمنين.(5:195)
1- لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ. آل عمران:128
الفرّاء: في نصبه وجهان،إن شئت جعلته معطوفا على قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ آل عمران:127،أي أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ و إن شئت جعلت نصبه على مذهب«حتّى»،كما تقول:
لا أزال ملازمك أو تعطيني،أو إلاّ أن تعطيني حقّي.
(1:234)
نحوه الزّجّاج.(1:468)
الطّبريّ: منصوب عطفا على قوله:(او يكبتهم)، و قد يحتمل أن يكون تأويله:ليس لك من الأمر شيء حتّى يتوب عليهم،فيكون نصب(يتوب)بمعنى«أو» الّتي هي في معنى«حتّى».و القول الأوّل أولى بالصّواب، لأنّه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفّار و عقابهم،و بعد ذلك...(4:86)
الماورديّ: فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها:ليس لك من الأمر شيء في عقابهم و استصلاحهم،و إنّما ذلك إلى اللّه تعالى في أن يتوب عليهم أو يعذّبهم.
و الثّاني:ليس لك من الأمر شيء فيما تريده و تفعله في أصحابك و فيهم،و إنّما ذلك إلى اللّه تعالى فيما يفعله من اللّطف بهم في التّوبة و الاستصلاح،أو في العذاب و الانتقام.
ص: 101
و الثّالث:أنزلت على سبب لمّا كسرت رباعيّته صلّى اللّه عليه و سلّم.
(1:422)
الشّريف الرّضيّ: أمّا ما انتصب عليه قوله تعالى:
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فهو على ضربين:
أحدهما:أن يكون عطفا على قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ ثمّ قال: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فيكون قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراضا بين المعطوف و المعطوف عليه،كما يقول القائل:ضربت زيدا-فافهم-و عمرا.
و الوجه الثّاني:أن تكون(او)هي الّتي بمعنى«إلاّ أن» فكأنّه قيل له:ليس لك من الأمر شيء إلاّ أن يتوب اللّه عليهم أو يعذّبهم،فيكون أمرك تابعا لأمر اللّه تعالى في ذلك،لرضاك بمصارف أقداره و مواقع تدابيره،أو تكون بمعنى«حتّى»،كأنّه قال:حتّى يتوب عليهم أو يعذّبهم، كما يقول القائل:لا أزال ملازمك أو تعطيني ديني،أي حتّى تعطيني ديني.
و قد قيل في ذلك وجه آخر:و هو أن يكون تقدير الكلام:ليس لك من الأمر شيء أو من أن يتوب عليهم، فأضمر«من»هاهنا اكتفاء ب(من)الأولى،و أضمر(أن) لبيان معناها،و هي مع الفعل الّذي بعدها بمنزلة المصدر.
و هذا مذهب غير سديد،و قول غير مستقيم،لأنّه ليس من كلام العرب قولك:عجبت من أخيك و تقوم، على معنى من أخيك و من أن تقوم،و الدّلائل على فساد ذلك كثيرة لا يحتمل الموضع شرحها،و في ما ذكرناه من ذلك كاف بحمد اللّه.(حقايق التّأويل:356)
الطّوسيّ: قيل في معناه قولان:
أحدهما:أو يلطف لهم بما يقع معه توبتهم،فيتوب عليهم بلطفه لهم.
و الآخر:أو يقبل توبتهم إذا تابوا،كما قال تعالى:
غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:3،و لا تصحّ هذه الصّفة إلاّ للّه عزّ و جلّ،لأنّه يملك الجزاء بالثّواب و العقاب.[و أدام نحو الشّريف الرّضيّ](2:585)
الزّمخشريّ: (او يتوب)عطف على ما قبله و لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراض،و المعنى:أنّ اللّه مالك أمرهم فإمّا يهلكهم أو يهزمهم،أو يتوب عليهم إن أسلموا،أو يعذّبهم إن أصرّوا على الكفر،و ليس لك من أمرهم شيء إنّما أنت عبد مبعوث لإنذارهم و مجاهدتهم.
و قيل:إنّ(يتوب)منصوب بإضمار«أن»،و أنّ يتوب في حكم اسم معطوف ب(او)على الأمر أو على شيء،أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التّوبة عليهم أو من تعذيبهم،أو ليس لك من أمرهم شيء أو التّوبة عليهم أو تعذيبهم.
و قيل:(أو)بمعنى«إلاّ أن»كقولك:لألزمنّك أو تعطيني حقّي،على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلاّ أن يتوب عليهم،فتفرح بحالهم أو يعذّبهم فتتشفّى منهم.
(1:462)
نحوه أبو السّعود.(2:30)
الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مفسّر عند أصحابنا بخلق التّوبة فيهم،و ذلك عبارة عن خلق النّدم فيهم على ما مضى،و خلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل.
ص: 102
قال أصحابنا:و هذا المعنى متأكّد ببرهان العقل؛ و ذلك لأنّ النّدم عبارة عن حصول إرادة في المضيّ متعلّقة بترك فعل من الأفعال في المستقبل،و حصول الإرادات و الكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد،لأنّ فعل العبد مسبوق بالإرادة،فلو كانت الإرادات فعلا للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى، و يلزم التّسلسل و هو محال.فعلمنا أنّ حصول الإرادات و الكراهات في القلب ليس إلاّ بتخليق اللّه تعالى و تكوينه ابتداء.
و لمّا كانت التّوبة عبارة عن النّدم و العزم،و كلّ ذلك من جنس الإرادات و الكراهات،علمنا أنّ التّوبة لا تحصل للعبد إلاّ بخلق اللّه تعالى،فصار هذا البرهان مطابقا لما دلّ عليه ظاهر القرآن،و هو قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.
و أمّا المعتزلة فإنّهم فسّروا قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إمّا بفعل الألطاف،أو بقبول التّوبة.(8:234)
نحوه النّيسابوريّ.(4:62)
أبو حيّان :[نحو الزّمخشريّ و أضاف:]
و على هذا التّأويل تكون الجملة المنفيّة للتّأسيس لا للتّأكيد.
و قيل:(او يتوب)معطوف على(الامر)،و قيل:
على(شىء)أي ليس لك من الأمر أو من توبتهم أو تعذيبهم شيء،أو ليس لك من الأمر شيء أو توبتهم أو تعذيبهم.
و الظّاهر من هذه التّخاريج الأربعة هو الأوّل،و أبعد من ذهب إلى أنّ قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ أي أمر الطّائفتين اللّتين همّتا أن تفشلا.
و قرأ أبيّ (او يتوب عليهم او يعذّبهم) برفعهما على معنى أو هو يتوب عليهم.(3:53)
الآلوسيّ: عطف إمّا على(الامر)أو على(شىء) بإضمار«أن»أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التّوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء،أو ليس لك من أمرهم شيء أو التّوبة عليهم أو تعذيبهم.و فرّقوا بين الوجهين بأنّه على الأوّل سلب ما يتّبع التّوبة و التّعذيب منه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم بالكلّيّة من القبول و الرّدّ و الخلاص من العذاب،و المنع من النّجاة.
و على الثّاني سلب نفس التّوبة و التّعذيب منه عليه الصّلاة و السّلام،يعني لا يقدر أن يجبرهم على التّوبة و لا يمنعهم عنها،و لا يقدر أن يعذّبهم،و لا أن يعفو عنهم، فإنّ الأمور كلّها بيد اللّه تعالى.و على التّقديرين هو من عطف الخاصّ على العامّ-كما قال العلاّمة الثّاني-لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة(أو)نظر.
و تعقّبه بعضهم بأنّ هذا إذا كان(الامر)بمعنى الشّأن، و لك أن تجعله بمعنى التّكليف و الإيجاب،أي ليس ما تأمرهم به من عندك،و ليس الأمر بيدك و لا التّوبة و لا التّعذيب،فليس هناك عطف الخاصّ على العامّ.
و فيه أنّ الحمل على التّكليف تكلّف،و الحمل على الشّأن أرفع شأنا.[إلى أن قال:]
و قيل:إنّ قوله تعالى:(او يتوب)إلخ عطف على (ينقلبوا)أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين،أو التّوب عليهم أو تعذيبهم.[ثمّ أدام نحو أبي حيّان]
(4:50)
ص: 103
الطّباطبائيّ: و قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معطوف على قوله:(يقطع)و الكلام متّصل،و قوله:
وَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ بيان لرجوع أمر التّوبة و المغفرة إلى اللّه تعالى.
و المعنى:أنّ هذا التّدبير المتقن منه تعالى إنّما هو ليقطع طرفا من المشركين بالقتل و الأسر،أو ليخزيهم و يخيبهم في سعيهم،أو ليتوب عليهم أو ليعذّبهم.
أمّا القطع و الكبت فلأنّ الأمر إليه لا إليك حتّى تمدح أو تذمّ،و أمّا التّوبة و العذاب فلأنّ اللّه هو المالك لكلّ شيء فيغفر لمن يشاء،و يعذّب من يشاء،و مع ذلك فإنّ مغفرته و رحمته تسبقان عذابه و غضبه،فهو الغفور الرّحيم.(4:9)
2- يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً. النّساء:26،27
الطّبرسيّ: إذا قيل:لم كرّر قوله تعالى: يَتُوبَ عَلَيْكُمْ؟
فجوابه:أنّه للتّأكيد،و أيضا فإنّ في الأوّل بيان أنّه يريد الهداية و الإنابة،و في الثّاني بيان أنّ إرادته خلاف إرادة أصحاب الأهواء،و أيضا أنّه أتي في الثّاني ب(أن) ليزول الإبهام أنّه يريد ليتوب و لا يريد أن يتوب.
(2:36)
الكاشانيّ: كرّره للتّأكيد و المقابلة.(1:409)
الآلوسيّ: عطف على ما قبله،و حيث كانت التّوبة ترك الذّنب مع النّدم و العزم على عدم العود،و هو ممّا يستحيل إسناده إلى اللّه تعالى.ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور:فقيل:إنّ التّوبة هنا بمعنى المغفرة مجازا لتسبّبها عنها،أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التّبعيّة،لأنّ التّوبة تمنع عنها كما أنّ إرشاده تعالى كذلك،أو مجاز عن حثّه تعالى عليها،لأنّه سبب لها عكس الأوّل،أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفّرها على التّشبيه أيضا،و إلى جميع ذلك أشار ناصر الدّين البيضاويّ.
و قرّر العلاّمة الطّيّبيّ إنّ هذا من وضع المسبّب موضع السّبب،و ذلك لعطف(و يتوب)على(و يهديكم)إلخ على سبيل البيان،كأنّه قيل:ليبيّن لكم و يهديكم و يرشدكم إلى الطّاعات،فوضع موضعه(و يتوب عليكم)،و ما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخلّف المراد عن الإرادة،و هي علّة تامّة يدفعه كون الخطاب ليس عامّا لجميع المكلّفين بل لطائفة معيّنة حصلت لهم هذه التّوبة. وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ جعله بعضهم تكرارا لما تقدّم للتّأكيد و المبالغة،و هو ظاهر إذا كان المراد من التّوبة هناك و هنا شيئا واحدا.و أمّا إذا فسّر (يتوب)أوّلا بقبول التّوبة و الإرشاد مثلا،و ثانيا بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول،فلا يكون تكرارا.
و أيضا إنّما يتمشّى ذلك على كون(ليبيّن لكم) مفعولا و إلاّ فلا تكرار أيضا،لأنّ تعلّق الإرادة بالتّوبة في الأوّل على جهة العلّيّة،و في الثّاني على جهة المفعوليّة، و بذلك يحصل الاختلاف لا محالة.(5:14)
رشيد رضا :قيل:إنّه تكرير لأجل التّأكيد، و قيل:إنّ التّوبة فيه غير التّوبة في الآية السّابقة،بأن
ص: 104
يراد بالأولى القبول و بالثّانية العمل الّذي يكون سبب القبول.و هو تكلّف غير مقبول.
و الصّواب أنّ التّوبة الأولى ذكرت في تعليل أحكام محرّمات النّكاح،فكان معناها أنّ العمل بتلك الأحكام يكون توبة و رجوعا عمّا كان قبلها من أنكحتهم الباطلة الضّارّة،و أنّ اللّه شرّعها لأجل ذلك.
ثمّ أسند إرادة التّوبة إلى اللّه تعالى في جملة مستأنفة، ليبيّن لنا أنّ ذلك ما يريد اللّه تعالى أن نكون عليه دائما في مستقبل أيّامنا بعد الإسلام،و يقابله بما يريده منّا متّبعو الشّهوات،كأنّه يقول:ما جعل إرادة التّوبة علّة لتلك الأحكام إلاّ و هو يريد ذلك دائما منكم،لتزكوا نفوسكم و تطهر قلوبكم و تصلح أحوالكم.(5:36)
الطّباطبائيّ: التّوبة المذكورة هو رجوعه إلى عبده بالنّعمة و الرّحمة،و تشريع الشّريعة،و بيان الحقيقة، و الهداية إلى طريق الاستقامة،كلّ ذلك توبة منه سبحانه،كما أنّ قبول توبة العبد و رفع آثار المعصية توبة.
قوله تعالى: وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ إلخ،كأنّ تكرار ذكر توبته للمؤمنين للدّلالة على أنّ قوله: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً إنّما يقابل من الفقرات الثّلاث في الآية السّابقة الفقرة الأخيرة فقط؛إذ لو ضمّ قوله: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ إلخ إلى الآية السّابقة من غير تكرار قوله:
وَ اللّهُ يُرِيدُ إلخ أفاد المقابلة في معنى جميع الفقرات و لغي المعنى قطعا.(4:281)
محمّد جواد مغنية:قيل:إنّ اللّه سبحانه أراد بقوله: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أنّه تعالى شرّع تلك الأحكام لتعلموا بها تائبين ممّا سلف منكم في زمن الجاهليّة و أوّل الإسلام من نكاح حلائل الآباء،و الجمع بين الأختين، و ما إلى ذلك من المحرّمات.و مهما يكن فإنّ التّائب و غير التّائب لا يمكنه أن يطيع اللّه،و يمتثل أحكامه إلاّ بعد بيانها و العلم بها،فبيان أحكامه لعباده فضل منه و نعمة عليهم.
[إلى أن قال:]
و تسأل:لقد كرّر اللّه سبحانه التّوبة في آيتين لا فاصل بينهما؛حيث قال: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ فما هو القصد من ذلك؟
الجواب:جاءت التّوبة الأولى تعليلا لبيان الحلال و الحرام من النّساء،بصرف النّظر عن أمر اللّه بالتّوبة و إرادته لها.أمّا التّوبة الثّانية فهي تعبير عن أمره تعالى و إرادته التّوبة بترك المحرّمات،و تقابلها إرادة متّبعي الشّهوات،و نظير ذلك أن تقول لولدك:اشتريت لك هذا الكتاب لتقرأه،فاقرأه.فذكرت القراءة أوّلا لبيان السّبب الموجب للقراءة،و أعدتها ثانية،لأنّك تريدها منه،و تأمره بها.(2:301)
فضل اللّه :هل التّوبة الّتي هي إرادة اللّه لنا،هي المغفرة عمّا سلف من ذنوبنا،لتكون الكلمة توجيها للإنسان في أن يفتّش عن طريق التّوبة،فيحاسب نفسه على الأخطاء الّتي قد ارتكبها،ليقف بين يدي اللّه حاملا مشاعر النّدم،و يطلب منه التّوبة على ذلك كلّه،أم هي أسلوب قرآنيّ في التّعبير عن المعنى الّذي توحي به التّوبة،و هو السّير على الخطّ المستقيم الّذي يؤدّي إلى رضا اللّه بكلمة التّوبة،فكأنّه يقول:إنّ اللّه يريد أن
ص: 105
يرضى عنكم من خلال استقامتكم،من خلال ما يثيره أمامكم من فرص المعرفة و الهداية الّتي تؤدّي بكم إلى العمل الصّالح؟
لا نريد أن نرجّح أحد المعنيين،فلكلّ منهما أساس من اللّفظ و الجوّ و السّياق،و حسبنا أن نستوحي منهما الوقوف عند الحدود الّتي نستطيع من خلالها الحصول على رضا اللّه في ما يحبّه و يرضاه.
وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و تعود كلمة التّوبة في خطّ إرادة اللّه،و لكن هل هي تكرير و تأكيد؟ربّما كان الأمر كذلك،و ربّما كانت التّوبة في الآية الأولى بيانا للمنهج الّذي وضعه اللّه لعباده،من أجل أن تتكامل لهم المعرفة و الهداية و السّير على الخطّ المستقيم،بعيدا عن كلّ المقارنات و المعادلات في ما حولهم و من حولهم.
أمّا في هذه الآية،فقد جاءت لتدخل الإنسان في عمليّة موازنة و مقارنة،في ما يواجهه الإنسان من العناصر الشّرّيرة المنحرفة الّتي تريد أن تضلّه و تبعده عن اللّه،ليوازن بين ما يريده اللّه له و بين ما يريده له الآخرون،فإنّ اللّه يريد أن يبلغ بالإنسان إلى الدّرجات العليا الّتي يحصل بها على رضا اللّه تعالى،من خلال ما تعنيه كلمة التّوبة من مقدّمات و نتائج.(7:196)
[لاحظ:رود]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ. التّحريم:4
ابن عبّاس: توبا إلى اللّه يا عائشة و يا حفصة من إيذائكما رسول اللّه،و معصيتكما له.(477)
نحوه الفرّاء(3:166)،و الزّجّاج(5:193).
الطّبريّ: إن تتوبا إلى اللّه أيّتها المرأتان،فقد مالت قلوبكما إلى محبّة ما كرهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من اجتناب جاريته،و تحريمها على نفسه،أو تحريم ما كان له حلالا ممّا حرّمه على نفسه بسبب حفصة.(28:161)
الماورديّ: يعني بالتّوبة اللّتين تظاهرتا و تعاونتا من نساء النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على سائرهنّ،و هما عائشة و حفصة.
(6:40)
الطّوسيّ: و ترجعا إلى طاعته.(10:47)
القشيريّ: و العتاب في الآية مع عائشة و حفصة رضي اللّه عنهما؛إذ تكلّمتا في أمر مارية.(6:175)
الواحديّ: أي من التّعاون على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالإيذاء.
(4:319)
نحوه البغويّ(5:119)،و الخازن(7:98).
الميبديّ: هذا خطاب لعائشة و حفصة،و جواب الشّرط محذوف،أي إن تتوبا إلى اللّه فهذا الواجب.
(10:158)
نحوه أبو الفتوح(19:294)،و النّسفيّ(4:270).
الزّمخشريّ: خطاب لحفصة و عائشة على طريقة الالتفات،ليكون أبلغ في معاتبتهما.(4:127)
نحوه الفخر الرّازيّ(30:44)،و البيضاويّ(2:
486)،و أبو حيّان(8:290)،و أبو السّعود(6:267)، و المشهديّ(10:508)،و البروسويّ(10:52).
ابن عطيّة: و معنى الآية،إن تبتما فقد كان منكما
ص: 106
ما ينبغي أن يتاب منه،و هذا الجواب الّذي للشّرط هو متقدّم في المعنى،و إنّما ترتّب جوابا في اللّفظ.
(5:331)
الطّبرسيّ: من التّعاون على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالإيذاء و التّظاهر عليه،فقد حقّ عليكما التّوبة،و وجب عليكما الرّجوع إلى الحقّ.(5:316)
نحوه الطّباطبائيّ.(19:331)
العكبريّ: جواب الشّرط محذوف،تقديره:
فذلك واجب عليكما،أو يتب اللّه عليكما،و دلّ على المحذوف(فقد صغت)لأنّ إصغاء القلب إلى ذلك ذنب.
(2:1229)
القرطبيّ: يعني حفصة و عائشة حثّهما على التّوبة، على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
(18:188)
النّيسابوريّ: أي فقد وجد منكما ما يوجب التّوبة،و هو ميل قلوبكما عن إخلاص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، من حبّ ما يحبّه،و بغض ما يكرهه.(28:81)
نحوه الشّربينيّ(4:326)،و الطّنطاويّ(24:198).
الآلوسيّ: خطاب لحفصة و عائشة رضي اللّه تعالى عنهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة،فإنّ المبالغ في العتاب يصير المعاتب أوّلا بعيدا عن ساحة الحضور،ثمّ إذا اشتدّ غضبه توجّه إليه و عاتبه بما يريد.(28:152)
نحوه القاسميّ.(16:5863)
عزّة دروزة :أمّا الآيتان الرّابعة و الخامسة[من سورة التّحريم]فقد احتوتا إنذارا يتضمّن معنى التّنديد أيضا،موجّها لزوجات النّبيّ عامّة،و لاثنتين منهنّ خاصّة،كما احتوتا تطمينا و تأييدا للنّبيّ،كما يلي:
1-فعلى الزّوجين أن تتوبا إلى اللّه،فقد كان منهما من الزّيغ و الكيد ما يوجب عليهما ذلك.
2-و إذا كانتا قد تظاهرتا و تعاونتا على الكيد للنّبيّ فلتعلما أنّ اللّه نصيره و ظهيره،و أنّ جبريل و الملائكة و الصّالحين المخلصين من المؤمنين أيضا نصراؤه و ظهراؤه.
3-و أنّ ربّه ليستطيع إذا تراءى له أن يطلّق نساءه بسبب أمثال هذه المكايدات،أن يبدّله بهنّ أزواجا خيرا منهنّ ثيّبات و أبكارا،متّصفات بأحسن الصّفات و أطهرها،من إسلام و إيمان و خشوع و خضوع و عبادة و صوم أو هجرة.(10:143)
المراغيّ: أي إن تتوبا من ذنبكما و تقلعا عن مخالفة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم فتحبّا ما أحبّ و تكرها ما كرهه.(28:158)
عبد الكريم الخطيب :هو دعوة إلى اللّتين دبّرتا هذا الكيد للنّبيّ،سواء أ كانتا حفصة و عائشة،أم غيرهما من أزواجه-صلوات اللّه و سلامه عليه-هو دعوة إليهما من اللّه سبحانه و تعالى،أن يتوبا إليه جلّ شأنه،ممّا كان منهما في حقّ النّبيّ،و فيما وقع في نفسه الشّريفة من أذى من فعلهما،و إن كانتا لم تقصدا للنّبيّ بأذى،و إنّما كان ذلك عن تنافس في حبّه،و حرص على أن تنال كلّ واحدة من نسائه أكبر قدر من القرب منه،و الاستظلال بظلّ جلال النّبوّة و عظمتها.(14:1027)
فضل اللّه : إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ ممّا قمتما به من تصرّف،لا ينسجم مع الدّائرة الأخلاقيّة في التّعامل مع
ص: 107
النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،في نطاق المسئوليّة الزّوجيّة الخاصّة، و تتراجعا عن ذلك.(22:313)
رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ. البقرة:128
الطّبريّ: إن قال لنا قائل:و هل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربّهما التّوبة؟
قيل:إنّه ليس أحد من خلق اللّه إلاّ و له من العمل فيما بينه و بين ربّه ما يجب عليه الإنابة منه و التّوبة،فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك،و إنّما خصّا به الحال الّتي كانا عليها من رفع قواعد البيت،لأنّ ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب اللّه فيها دعاءهما، و ليجعلا ما فعلا من ذلك سنّة يقتدى بها بعدهما،و تتّخذ النّاس تلك البقعة بعدهما موضع تنصّل من الذّنوب إلى اللّه.
و جائز أن يكونا عنيا بقولهما: وَ تُبْ عَلَيْنا: و تب على الظّلمة من أولادنا و ذرّيّتنا،الّذين أعلمتنا أمرهم من ظلمهم و شركهم،حتّى ينيبوا إلى طاعتك.فيكون ظاهر الكلام على الدّعاء لأنفسهما،و المعنيّ به ذرّيّتهما، كما يقال:أكرمني فلان في ولدي و أهلي،و برّني فلان،إذا برّ ولده.(1:556)
الطّوسيّ: أي ارجع علينا بالرّحمة و المغفرة.
و ليس فيه دلالة على جواز الصّغيرة،أو فعل القبيح عليهم،و من ادّعى ذلك،فقد أبطل.
و قال قوم:معناه تب على ظلمة ذرّيّتنا.و قيل:بل قالا ذلك:انقطاعا إليه تعالى تعبّدا ليقتدى بهما فيه،و هو الّذي نعتمده.(1:465)
القشيريّ: وَ تُبْ عَلَيْنا بعد قيامنا بجميع ما أمرتنا حتّى لا نلاحظ حركاتنا و سكناتنا،و نرجع إليك عن شهود أفعالنا لئلاّ يكون خطر الشّرك الخفيّ في توهّم شيء منّا بنا.(1:137)
الزّمخشريّ: ما فرط منّا من الصّغائر أو استتابا لذرّيّتهما.(1:312)
ابن عطيّة: و التّوبة:الرّجوع،و عرفه[بعض العلماء]شرعا من الشّرّ إلى الخير،و توبة اللّه على العبد:
رجوعه به و هدايته له.
و اختلف في معنى طلبهم التّوبة و هم أنبياء معصومون،فقالت طائفة:طلبا التّثبيت و الدّوام.
و قيل:أرادا من بعدهما الذّرّيّة،كما تقول:برّني فلان و أكرمني،و أنت تريد في ولدك و ذرّيّتك.
و قيل،و هو الأحسن عندي:إنّهما لمّا عرفا المناسك و بنيا البيت و أطاعا،أرادا أن يسنّا للنّاس أنّ ذلك الموقف و تلك المواضع مكان التّنصّل من الذّنوب و طلب التّوبة.[ثمّ حكى كلام الطّبريّ و أضاف:]
و أجمعت الأمّة على عصمة الأنبياء في معنى التّبليغ و من الكبائر و من الصّغائر الّتي فيها رذيلة،و اختلف في غير ذلك من الصّغائر،و الّذي أقول به:أنّهم معصومون من الجميع،و أنّ قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّي لأتوب إلى اللّه في اليوم و أستغفره سبعين مرّة»إنّما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها،لتزيد علومه و اطّلاعه على أمر اللّه،فهو
ص: 108
يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى،و التّوبة هنا لغويّة.(1:211)
نحوه القرطبيّ.(2:130)
الطّبرسيّ: وَ تُبْ عَلَيْنا فيه وجوه:
أحدها:أنّهما قالا هذه الكلمة على وجه التّسبيح و التّعبّد و الانقطاع إلى اللّه سبحانه،ليقتدي بهما النّاس فيها،و هذا هو الصّحيح.
و ثانيها:أنّهما سألا التّوبة على ظلمة ذرّيّتهما.
و ثالثها:أنّ معناه:ارجع إلينا بالمغفرة و الرّحمة، و ليس فيه دلالة على جواز الصّغيرة عليهم أو ارتكاب القبيح منهم،لأنّ الدّلائل القاهرة قد دلّت على أنّ الأنبياء معصومون منزّهون عن الكبائر و الصّغائر، و ليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك.(1:210)
الفخر الرّازيّ: وَ تُبْ عَلَيْنا ففيه مسائل:
احتجّ من جوّز الذّنب على الأنبياء بهذه الآية،قال:
لأنّ التّوبة مشروطة بتقدّم الذّنب،فلو لا تقدّم الذّنب و إلاّ لكان طلب التّوبة طلبا للمحال.
و أمّا المعتزلة فقالوا:إنّا نجوّز الصّغيرة على الأنبياء، فكانت هذه التّوبة توبة من الصّغيرة.
و لقائل أن يقول:إنّ الصّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها،و إذا صارت مكفّرة فالتّوبة عنها محال، لأنّ تأثير التّوبة في إزالتها و إزالة الزّائل محال.
و هاهنا أجوبة أخر تصلح لمن جوّز الصّغائر و لمن لم يجوّزها،و هي من وجوه:
أوّلها:يجوز أن يأتي بصورة التّوبة تشدّدا في الانصراف عن المعصية،لأنّ من تصوّر نفسه بصورة النّادم العازم على التحرّز الشّديد،كان أقرب إلى ترك المعاصي،فيكون ذلك لطفا داعيا إلى ترك المعاصي.
و ثانيها:أنّ العبد و إن اجتهد في طاعة ربّه،فإنّه لا ينفكّ عن التّقصير من بعض الوجوه:إمّا على سبيل السّهو،أو على سبيل ترك الأولى،فكان هذا الدّعاء لأجل ذلك.
و ثالثها:أنّه تعالى لمّا أعلم إبراهيم عليه السّلام أنّ في ذرّيّته من يكون ظالما عاصيا،لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيّته أمّة مسلمة،ثمّ طلب منه أن يوافق أولئك العصاة المذنبين للتّوجّه،فقال: وَ تُبْ عَلَيْنا أي على المذنبين من ذرّيّتنا.(4:70)
نحوه النّيسابوريّ(1:455)
احتجّ الأصحاب بقوله: وَ تُبْ عَلَيْنا على أنّ فعل العبد خلق اللّه تعالى.[ثمّ ذكر مذهب المعتزلة و ردّها إن شئت فراجع](4:71)
الشّربينيّ: سأله التّوبة مع عصمتها،هضما لأنفسهما و إرشادا لذرّيّتهما أو لما سلف منهما سهوا قبل النّبوّة.(1:93)
أبو السّعود :استتابة لذرّيّتهما،و حكايتها عنهما لترغيب الكفرة في التّوبة و الإيمان،أو توبة لهما عمّا فرط منهما سهوا،و لعلّهما قالاه هضما لأنفسهما و إرشادا لذرّيّتهما.(1:199)
نحوه البروسويّ.(1:234)
الآلوسيّ: أي وفّقنا للتّوبة أو أقبلها منّا،و التّوبة تختلف باختلاف التّائبين،فتوبة سائر المسلمين:النّدم و العزم على عدم العود،و ردّ المظالم إذا أمكن،و نيّة الرّدّ
ص: 109
إذا لم يكن.و توبة الخواصّ:الرّجوع عن المكروهات من خواطر السّوء،و الفتور في الأعمال،و الإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال،و توبة خواصّ الخواصّ:لرفع الدّرجات،و التّرقّي في المقامات.
فإن كان إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام طلبا التّوبة لأنفسهما خاصّة،فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير.و إن كان الضّمير شاملا لهما و للذّرّيّة،كان الدّعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها،ممّن يصحّ صدور الذّنب المخلّ بمرتبة النّبوّة منه.
و إن قيل:إنّ الطّلب للذّرّيّة فقط و ارتكب التّجوّز في النّسبة إجراء للولد مجرى النّفس بعلاقة البعضيّة، ليكون أقرب إلى الإجابة،أو في الطّرف حيث عبّر عن الفرع باسم الأصل،أو قيل:بحذف المضاف-أي على عصاتنا-زال الإشكال كما إذا قلنا:إنّ ذلك عمّا فرط منهما من الصّغائر سهوا.
و القول بأنّهما لم يقصدا الطّلب حقيقة،و إنّما ذكرا ذلك للتّشريع و تعليم النّاس إنّ تلك المواضع مواضع التّنصّل،و طلب التّوبة من الذّنوب بعيد جدّا،و جعل الطّلب للتّثبيت،لا أراه هنا يجدي نفعا،كما لا يخفى.
و قرأ عبد اللّه (و تب عليهم) بضمير جمع الغيبة أيضا.
(1:386)
الطّباطبائيّ: فقد تبيّن أنّ المراد بالإسلام و البصيرة في العبادة،غير المعنى الشّائع المتعارف، و كذلك المراد بقوله تعالى: وَ تُبْ عَلَيْنا لأنّ إبراهيم و إسماعيل كانا نبيّين معصومين بعصمة اللّه تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتّى يصحّ توبتهما منه،كتوبتنا من المعاصي الصّادرة عنّا.(1:284)
1- وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ. البقرة:54
ابن عيينة: التّوبة:نعمة من اللّه أنعم اللّه بها على هذه الأمّة دون غيرها من الأمم،و كانت توبة بني إسرائيل القتل.(القرطبيّ 1:401)
الماورديّ: فارجعوا إلى طاعة خالقكم.(1:122)
القشيريّ: الإشارة إلى حقيقة التّوبة بالخروج إلى اللّه بالكلّيّة.
قوله جلّ ذكره: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ التّوبة بقتل النّفوس غير... (1)إلاّ أنّ بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرا،و هذه الأمّة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سرّا،فأوّل قدم في القصد إلى اللّه الخروج عن النّفس.
و لقد توهّم النّاس أنّ توبة بني إسرائيل كانت أشقّ، و لا كما توهّموا،فإنّ ذلك كان مقاساة القتل مرّة واحدة، و أمّا أهل الخصوص من هذه الأمّة ففي كلّ لحظة قتل، و لهذا:
ليس من مات فاستراح بميّت
إنّما الميّت ميّت الأحياء
ص: 110
و قتل النّفس في الحقيقة:التّبرّي عن حولها و قوّتها أو شهود شيء منها،و ردّ دعواها إليها،و تشويش تدبيرها عليها،و تسليم الأمور إلى الحقّ سبحانه بجملتها،و انسلاخها من اختيارها و إرادتها،و إمحاء آثار البشريّة عنها،فأمّا بقاء الرّسوم و الهياكل فلا خطر له و لا عبرة به.(1:104)
الزّمخشريّ: إن قلت:ما الفرق بين الفاءات؟
قلت:الأولى للتّسبيب لا غير،لأنّ الظّلم سبب التّوبة،و الثّانية للتّعقيب،لأنّ المعنى فاعزموا على التّوبة فاقتلوا أنفسكم،من قبل أنّ اللّه تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم.
و يجوز أن يكون القتل تمام توبتهم،فيكون المعنى:
(فتوبوا)فأتبعوا التّوبة القتل تتمّة لتوبتكم.و الثّالثة متعلّقة بمحذوف.و لا يخلو إمّا أن ينتظم في قول موسى لهم فتتعلّق بشرط محذوف كأنّه قال:فإن فعلتم فقد تاب عليكم،و إمّا أن يكون خطابا من اللّه تعالى لهم على طريقة الالتفات،فيكون التّقدير:ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم.(1:281)
نحوه أبو حيّان.(1:206)
الطّبرسيّ: أي ارجعوا إلى خالقكم و منشئكم بالطّاعة و التّوحيد،و جعل توبتهم النّدم مع العزم و قتل النّفس جميعا.و هنا إضمار اختصار كأنّه لمّا قال لهم:
فتوبوا إلى بارئكم قالوا:كيف؟قال: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.
(1:113)
الفخر الرّازيّ: فيه سؤالات:
السّؤال الأوّل:يقتضي كون التّوبة مفسّرة بقتل النّفس،كما أنّ قوله عليه السّلام:«لا يقبل اللّه صلاة أحدكم حتّى يضع الطّهور مواضعه فيغسل وجهه ثمّ يديه».يقتضي أن وضع الطّهور مواضعه مفسّر بغسل الوجه و اليدين.
و لكن ذلك باطل،لأنّ التّوبة عبارة عن النّدم على الفعل القبيح الّذي مضى،و العزم على أن لا يأتي بمثله بعد ذلك، و ذلك مغاير لقتل النّفس و غير مستلزم له،فكيف يجوز تفسيره به؟
و الجواب:ليس المراد تفسير التّوبة بقتل النّفس بل بيان أنّ توبتهم لا تتمّ و لا تحصل إلاّ بقتل النّفس.و إنّما كان كذلك لأنّ اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السّلام أنّ شرط توبتهم قتل النّفس،كما أنّ القاتل عمدا لا تتمّ توبته إلاّ بتسليم النّفس حتّى يرضى أولياء المقتول أو يقتلوه، فلا يمتنع أن يكون من شرع موسى عليه السّلام أنّ توبة المرتدّ لا تتمّ إلاّ بالقتل.
إذا ثبت هذا فنقول:شرط الشّيء قد يطلق عليه اسم ذلك الشّيء مجازا،كما يقال للغاصب إذا قصد التّوبة:أنّ توبتك ردّ ما غصبت،يعني أنّ توبتك لا تتمّ إلاّ به،فكذا هاهنا.
السّؤال الثّاني:ما معنى قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ و التّوبة لا تكون إلاّ للبارئ؟
و الجواب:المراد منه النّهي عن الرّياء في التّوبة، كأنّه قال لهم:لو أظهرتم لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى اللّه الّذي هو مطّلع على ضميركم،و إنّما تبتم إلى النّاس؛ و ذلك ممّا لا فائدة فيه،فإنّكم إذا أذنبتم إلى اللّه وجب أن تتوبوا إلى اللّه.
السّؤال الثّالث:كيف اختصّ هذا الموضع بذكر
ص: 111
البارئ؟[تقدّم في(برأ)فراجع]
السّؤال الرّابع:ما الفرق بين[الفاءات في الآية؟تقدّم في قول الزّمخشريّ فراجع](3:80)
الشّربينيّ: أي ارجعوا عن عبادة العجل.(1:60)
أبو السّعود :أي فاعزموا على التّوبة.(1:135)
نحوه البروسويّ(1:137)،و المراغيّ(1:120).
رشيد رضا :إنّها[التّوبة]محو أثر الرّغبة في الذّنب من لوح القلب،و الباعث عليها هو شعور التّائب بعظمة من عصاه و ما له من السّلطان عليه في الحال،و كون مصيره إليه في المآل،لا جرم أنّ الشّعور بهذا السّلطان الإلهيّ بعد مقارفة الذّنب يبعث في قلب المؤمن الهيبة و الخشية،و يحدث في روحه انفعالا ممّا فعل،و ندما على صدوره عنه،و يزيد هذا الحال في النّفس تذكّر الوعيد على ذلك الذّنب،و ما رتّبه اللّه عليه من العقوبة في الدّنيا و الآخرة.هذا أثر التّوبة في النّفس،و هذا الأثر يزعج التّائب إلى القيام بأعمال تضادّ ذلك الذّنب الّذي تاب منه،و تمحو أثره السّيّئ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ هود:114.
فمن علامة التّوبة النّصوح:الإتيان بأعمال تشقّ على النّفس،و ما كانت لتأتيها لو لا ذلك الشّعور الّذي يحدثه الذّنب.و هذه العلامة لا تتخلّف عن التّوبة سواء كان الذّنب مع اللّه تعالى أو مع النّاس.
أ لا ترى أنّ أهون ما يكون من إنسان يذنب مع آخر يباهي به أي يجيء معترفا بالذّنب معتذرا عنه!و هذا ذلّ يشقّ على النّفس لا محالة،و قد أمر بنو إسرائيل بأشقّ الأعمال في تحقيق التّوبة من أكبر الذّنوب،و هو الرّغبة عن عبادة من خلقهم و برأهم إلى عبادة ما عملوا بأيديهم،و قد قال: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ لينبّههم إلى أنّ الإله الحقيقيّ هو الخالق البارئ ليتضمّن الأمر الاحتجاج عليهم و البرهان على جهلهم.
ذلك العمل الّذي أمرهم به موسى هو قتل أنفسهم، و القصّة في التّوراة الّتي بين أيديهم إلى اليوم:دعا موسى إليه من يرجع إلى الرّبّ،فأجابه بنو لاوي فأمرهم بأن يأخذوا السّيوف و يقتل بعضهم بعضا ففعلوا،و قتل في ذلك اليوم«نحو ثلاثة آلاف».(1:320)
2- وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى... هود:3
الفرّاء: (ثمّ)هنا بمعنى«الواو»أي و توبوا إليه لأنّ الاستغفار هو التّوبة،و التّوبة هي الاستغفار.
(البغويّ 2:438)
نحوه الميبديّ.(4:351)
الطّبريّ: ثمّ ارجعوا إلى ربّكم بإخلاص العبادة له، دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد،و براءتكم من عبادتها،و لذلك قيل: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ و لم يقل:و توبوا إليه،لأنّ التّوبة معناها الرّجوع إلى العمل بطاعة اللّه.و الاستغفار:استغفار من الشّرك الّذي كانوا عليه مقيمين،و العمل للّه لا يكون عملا له إلاّ بعد ترك الشّرك به.فأمّا الشّرك فإنّ عمله لا يكون إلاّ للشّيطان،فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتّوبة إليه بعد الاستغفار من الشّرك،لأنّ أهل الشّرك كانوا يرون أنّهم يطيعون اللّه بكثير من أفعالهم،و هم على شركهم
ص: 112
مقيمون.(11:181)
نحوه الزّمخشريّ.(2:258)
الطّوسيّ: إنّما ذكرت التّوبة بعد الاستغفار،لأنّ المعنى اطلبوا المغفرة بأن تجعلوها غرضكم ثمّ توصّلوا إلى مطلوبكم بالتّوبة.(5:514)
نحوه الطّبرسيّ.(3:142)
ابن عطيّة: اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي اطلبوا مغفرته لكم،و ذلك بطلب دخولكم في الإسلام،ثمّ توبوا من الكفر،أي انسلخوا منه و اندموا على سالفه.و(ثمّ)مرتّبة لأنّ الكافر أوّل ما ينيب فإنّه في طلب مغفرة ربّه،فإذا تاب و تجرّد من الكفر تمّ إيمانه.(3:149)
الفخر الرّازيّ: [لاحظ غ ف ر(استغفروا)]
و النّيسابوريّ(12:7)،و الشّربينيّ(2:44)، و أبو حيّان(5:210)،و أبو السّعود(3:282)
البروسويّ: ثمّ أخلصوا التّوبة و استقيموا عليها، كما في«بحر العلوم»للسّمرقنديّ.ف(ثمّ)أيضا على بابها في الدّلالة على التّراخي الزّمانيّ.و يجوز أن يكون(ثمّ) لتفاوت ما بين الأمرين و بعد المنزلة بينهما من غير اعتبار تعقيب و تراخ،فإنّ بين التّوبة و هي انقطاع العبد إليه بالكلّيّة و بين طلب المغفرة بونا بعيدا،كذا ذكره الرّضيّ.
قال الفرّاء:(ثمّ)هاهنا بمعنى الواو لأنّ الاستغفار توبة انتهى.
يقول الفقير: فرّقوا بينهما،كما قال الحدّاديّ عند قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ النّساء:110،أي بالتّوبة الصّادقة،و شرطت التّوبة،لأنّ الاستغفار لا يكون توبة بالإجماع ما لم يقل معه:تبت و أسأت و لا أعود إليه أبدا فاغفر لي يا ربّ.
(4:91)
الآلوسيّ: عطف على(استغفروا).و اختلف في توجيه توسيط(ثمّ)بينهما،مع أنّ الاستغفار بمعنى التّوبة في العرف،فقال الجبّائيّ:إنّ المراد بالاستغفار هنا:
التّوبة عمّا وقع من الذّنوب،و بالتّوبة:الاستغفار عمّا يقع منها بعد وقوعه،أي استغفروا ربّكم من ذنوبكم الّتي فعلتموها ثمّ توبوا إليه من ذنوب تفعلونها.فكلمة(ثمّ) على ظاهرها من التّراخي في الزّمان.
و قال الفرّاء:إنّ(ثمّ)بمعنى«الواو».[ثمّ استشهد بشعر]
و قيل:لا نسلّم أنّ الاستغفار هو التّوبة بل هو ترك المعصية،و التّوبة هي الرّجوع إلى الطّاعة،و لئن سلّم أنّهما بمعنى،ف(ثمّ)للتّراخي في الرّتبة،و المراد بالتّوبة:
الإخلاص فيها و الاستمرار عليها،و إلى هذا ذهب صاحب«الفرائد».
و قال بعض المحقّقين:الاستغفار هو التّوبة إلاّ أنّ المراد بالتّوبة في جانب المعطوف التّوصّل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السّبب على المسبّب،و(ثمّ)على ظاهرها و هي قرينة على ذلك.و أنت تعلم أنّ أصل معنى الاستغفار:طلب الغفر،أي السّتر،و معنى التّوبة:
الرّجوع،و يطلق الأوّل على طلب ستر الذّنب من اللّه تعالى و العفو عنه،و الثّاني على النّدم عليه مع العزم على عدم العود،فلا اتّحاد بينهما بل و لا تلازم عقلا لكن اشترط شرعا لصحّة ذلك الطّلب و قبوله النّدم على الذّنب،مع العزم على عدم العود إليه.
ص: 113
و جاء أيضا استعمال الأوّل في الثّاني،و الاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر،و أمّا على ذاك فلأنّ الظّاهر أنّ المراد من الاستغفار المأمور به:الاستغفار المسبوق بالتّوبة بمعنى النّدم،فكأنّه قيل:استغفروا ربّكم بعد التّوبة ثمّ توبوا إليه.
و لا شبهة في ظهور احتياجه إلى التّوجيه حينئذ، و القلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثّاني على الإخلاص في التّوبة و الاستمرار عليها،و التّراخي عليه يجوز أن يكون رتبيّا و أن يكون زمانيّا،كما لا يخفى.(11:207)
الطّباطبائيّ: و الظّاهر أنّ المراد بالتّوبة في الآية:
الإيمان،كما في قوله تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ المؤمن:7،فيستقيم الجمع بين الاستغفار و التّوبة مع عطف التّوبة عليه ب(ثمّ)،و المعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا،و اطلبوا من ربّكم غفران ما قدّمتم من المعصية،ثمّ آمنوا بربّكم.
و قيل:إنّ المعنى اطلبوا المغفرة و اجعلوها غرضكم، ثمّ توصّلوا إليه بالتّوبة،و هو غير جيّد.
و من التّكلّف ما ذكره بعضهم أنّ المعنى:استغفروا من ذنوبكم الماضية ثمّ توبوا إليه كلّما أذنبتم في المستقبل، و كذا قول آخر:إنّ(ثمّ)في الآية بمعنى«الواو»لأنّ التّوبة و الاستغفار واحد.(10:141)
عبد الكريم الخطيب :و في العطف ب(ثمّ)إشارة إلى أنّ الاستغفار مطلوب دائما من كلّ مؤمن؛إذ كان الإنسان في معرض الزّلل و الانحراف،و هو يعالج شئون الحياة.
أمّا التّوبة فهي رجوع إلى اللّه بعد أن يبعد الإنسان كثيرا عنه،بارتكاب منكر من المنكرات،فالتّوبة يكون الإنسان فيها في مواجهة موقف محدّد،يراجع فيه الإنسان نفسه،فيرجع إلى ربّه من قريب،قبل أن تشطّ به الطّريق،و يبعد عن ربّه.
أمّا الاستغفار فهو دعاء متّصل بين الإنسان و ربّه، و هذا يعني أنّ الإنسان و إن اجتهد في الطّاعة،و أخلص في العبادة،و بالغ في تحرّي الاستقامة،لا يسلم أبدا من أن تقع منه هنات و زلاّت.و إذن فهو على شعور بالنّقص دائما،و في مداومة الاستغفار التجاء إلى اللّه أن يطهّره، و أن يمحو ما علق به من ذنوب.(6:1101)
3- وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (النّور:31)
الفيروزآباديّ: التّوبة من أفضل مقامات السّالكين،لأنّها أوّل المنازل،و أوسطها،و آخرها، فلا يفارقها العبد أبدا،و لا يزال فيها إلى الممات.و إن ارتحل السّالك منها إلى منزل آخر ارتحل به،و نزل به.
فهي بداية العبد و نهايته.و حاجته إليها في النّهاية ضروريّة؛كما حاجته إليها في البداية كذلك.
و قد قال تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً النّور:
31،و هذه الآية في سورة مدنيّة،خاطب اللّه تعالى بها أهل الإيمان،و خيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم، و صبرهم،و هجرتهم،و جهادهم،ثمّ علّق الفلاح بالتّوبة تعلّق (1)المسبّب بسببه،و أتى بأداة(لعلّ)المشعر بالتّرجّي؛إيذانا بأنّكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح،ق.
ص: 114
فلا يرجو الفلاح إلاّ التّائبون،جعلنا اللّه منهم.
و قد قال-تعالى-: وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ الحجرات:11،قسّم العباد إلى تائب،و ظالم -و ما قسم ثالث البتّة-و أوقع الظّلم على من لم يتب، و لا أظلم منه بجهله بربّه،و بحقّه،و بعيب نفسه،و بآفات أعماله،و في الصّحيح:«يا أيّها النّاس توبوا إلى اللّه؛فإنّي أتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة»و كان أصحابه يعدّون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم:«ربّ اغفر لي و تب عليّ إنّك أنت التّواب الرّحيم»مائة مرّة،و ما صلّى صلاة قطّ بعد نزول سورة النّصر إلاّ قال في صلاته:
سبحانك اللّهمّ ربّنا و بحمدك،اللّهمّ اغفر لي.
و قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ يريد بالتّوبة تمييز البقيّة من العزّة،بأن يكون المقصود من التّوبة تقوى اللّه، و هو خوفه،و خشيته،و القيام بأمره،و اجتناب نهيه، فيعمل بطاعته على نور من اللّه،يرجو ثواب اللّه،و يترك معصية اللّه على نور من اللّه،يخاف عقاب اللّه،لا يريد بذلك عزّ الطّاعة؛فإنّ للطّاعة و التّوبة عزّا ظاهرا و باطنا، فلا يكون مقصوده العزّة،و إن علم أنّها تحصل له بالطّاعة و التّوبة.فمن تاب لأجل أمر فتوبته مدخولة.
و سرائر التّوبة ثلاثة أشياء هذا أحدها،و الثّاني نسيان الجناية،و الثّالث التّوبة من الإسلام و الإيمان (1).
قلنا:المراد منه التّوبة من رؤية التّوبة و أنّها إنّما حصلت له بتوفيق اللّه و مشيئته،و لو خلّي و نفسه لم يسمح بها البتّة.فإذا رآها من نفسه،و غفل عن منّة اللّه عليه،تاب من هذه الرّؤية و الغفلة.و لكن هذه الرّؤية ليست التّوبة و لا جزؤها،و لا شرطها،بل جناية أخرى حصلت له بعد التّوبة،فيتوب من هذه الجناية،كما تاب من الجناية الأولى،فما تاب إلاّ من ذنب أوّلا و آخرا.و المراد التّوبة من نقصان التّوبة و عدم توفيتها حقّها.
و وجه ثالث لطيف،و هو أنّه من حصل له مقام الأنس باللّه تعالى،و صفاء وقته مع اللّه تعالى؛بحيث يكون إقباله على اللّه،و اشتغاله بذكر آلائه و أسمائه و صفاته،أنفع شيء له،متى نزل عن هذا الحال اشتغل بالتّوبة من جناية سالفة،قد تاب منها،و طالع الجناية، و اشتغل بها عن اللّه تعالى،فهذا نقص ينبغي أن يتوب إلى اللّه منه.و هي توبة من هذه التّوبة،لأنّه نزول من الصّفاء إلى الجفاء،فالتّوبة من التّوبة إنّما تعقل على أحد هذه الوجوه الثّلاثة،و اللّه أعلم.
و اعلم أنّ صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة، فله في توبته،نظر إلى أمور:
أحدها:النّظر إلى الوعد و الوعيد،فيحدث له ذلك خوفا و خشية تحمله على التّوبة.
الثّاني:أن ينظر إلى أمره تعالى و نهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة،و الإقرار على نفسه بالذّنب.
الثّالث:أن ينظر إلى تمكين اللّه تعالى إيّاه منها، و تخليته بينه و بينها،و تقديرها عليه،و أنّه لو شاء لعصمه منها،فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة باللّه، و أسمائه و صفاته،و حكمته و رحمته،و مغفرته و عفوه، و حلمه و كرمه،و توجب له هذه المعرفة عبوديّة بهذه الأسماء،لا تحصل بدون لوازمها،و يعلم ارتباط الخلق،ن.
ص: 115
و الأمر و الجزاء،بالوعد و الوعيد بأسمائه و صفاته،و أنّ ذلك موجب الأسماء و الصّفات،و أثرها في الوجود،و أنّ كلّ اسم مفيض لأثره.و هذا المشهد يطلعه على رياض مؤنقة المعارف و الإيمان،و أسرار القدر و الحكمة،يضيق عن التّعبير عنها نطاق الكلم و النّظر.
الرّابع:نظره إلى الآمر له بالمعصية،و هو شيطانه الموكّل به،فيفيده النّظر إليه اتّخاذه عدوّا،و كمال الاحتراز منه،و التّحفّظ و التّيقّظ لما يريده منه عدوّه، و هو لا يشعر؛فإنّه يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض:عقبة الكفر باللّه و دينه و لقائه،ثمّ عقبة البدعة،إمّا باعتقاده خلاف الحقّ،و إمّا بالتّعبّد بما لم يأذن به اللّه من الرّسوم المحدثة-قال بعض مشايخنا:تزوّجت الحقيقة الكافرة،بالبدعة الفاجرة، فولد بينهما خسران الدّنيا و الآخرة-ثمّ عقبة الكبائر يزيّنها له و أنّ الإيمان فيه الكفاية.ثمّ عقبة الصّغائر بأنّها مغفورة ما اجتنبت الكبائر و لا يزال يجنيها حتّى يصرّ عليها،ثمّ عقبة المباحات،فيشغله بها عن الاستكثار من الطّاعات.و أقلّ ما يناله منه تفويت الأرباح العظيمة،ثمّ عقبة الأعمال المرجوحة،المفضولة يزيّنها له،و يشغله بها عمّا هو أفضل و أعظم ربحا.و لكن أين أصحاب هذه العقبة!فهم الأفراد في العالم.و الأكثرون قد ظفر بهم في العقبة الأولى.فإن عجز عنه في هذه العقبات جاء في عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى،على حسب مرتبته في الخير.و هذه نبذة من لطائف أسرار التّوبة، رزقنا اللّه تعالى إيّاها بمنّه و فضله إنّه حقيق بذلك.
و يقال:إنّ التّوبة من طريق المعنى على ثلاثة أنواع، و من طريق اللّفظ و سبيل اللّطف على ثلاثة و ثلاثين درجة:
أمّا المعنى،فالأوّل:التّوبة من ذنب يكون بين العبد و بين الرّبّ،و هذا يكون بندامة الجنان،و استغفار اللّسان.
و الثّاني:التّوبة من ذنب يكون بين العبد و بين طاعة الرّبّ،و هذا يكون بجبر النّقصان الواقع فيها.
الثّالث:التّوبة من ذنب يكون بين العبد و بين الخلق، و هذه تكون بإرضاء الخصوم بأيّ وجه أمكن.
و أمّا درجات اللّطف،فالأولى:أنّ اللّه أمر الخلق بالتّوبة،و أشار بأنّها الّتي تليق بحال المؤمن وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ.
الثّانية:لا تكون التّوبة مثمرة حتّى يتمّ أمرها تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً التّحريم:8.
الثّالثة:لا تنظر أنّك فريد في طريق التّوبة،فإنّ أباك آدم كان مقدّم التّائبين فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ البقرة:37،و الكليم موسى لم يكن له لمّا علا على الطّور تحفة غير التّوبة سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ الأعراف:143.
ثمّ إنّه بشّر النّاس بالتّمتّع من الأعمار،و استحقاق فضل الرّءوف الغفّار ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً هود:3،و أشار صالح على قومه بالتّوبة، و بشّرهم بالقربة و الإجابة ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ هود:61،و سيّد المرسلين مع الأنصار و المهاجرين سلكوا طريق النّاس لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ التّوبة:117،و الصّدّيق الأكبر اقتدى في التّوبة بسائر النّبيّين تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ
ص: 116
اَلْمُسْلِمِينَ الأحقاف:15.
أصحاب النّبيّ ما نالوا التّوبة إلاّ بتوفيق اللّه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا التّوبة:118،تحرّزا من انتشار العصمة أمرن بالتّوبة إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما التّحريم:4،و من توقّف عن سلوك طريق النّاس وسم جبين حاله بميسم الخائبين وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ الحجرات:11،الأزواج اللاّئقة بخاتم النّبيّين تعيّن بالتّوبة قانِتاتٍ تائِباتٍ التّحريم:5.
الرّجال لا يقعدهم على سرير السّرور إلاّ التّوبة اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ التّوبة:112،و لا يظنّ التّوّاب اختصاص النّعت به فإنّا جعلنا هذا الوصف من جملة صفات العليّ: إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً النّساء:16،و إذا وفّقنا العبد للتّوبة تارة قرّبناه بالحكمة وَ أَنَّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ النّور:10،و إذا قبلنا منه التّوبة قرّبناه بالرّحمة وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:160،و المؤمن إذا تاب أقبلنا عليه بالقبول،و تكفّلنا له بنيل المأمول وَ يَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الأحزاب:73.
و إن أردت أن تكون في أمان الإيمان،مصاحبا لسلاح الصّلاح،فعليك بالتّوبة وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً طه:82، إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً...* وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً...
الفرقان:70،71.
و إذا أقبل العبد على باب التّوبة استحكم عقد أخوّته،مع أهل الإسلام فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ التّوبة:11.و من تاب،و قصد الباب،حصل له الفرج بأفضل الأسباب فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ التّوبة:5،و من أثار غبار المعاصي،و أتبعه برشاش النّدم،غلّبت حكمتنا الطّاعة على المعصية، و سترت الزّلّة بالرّحمة خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ التّوبة:102.
السّارق المارق إذا لاذ و تحرّم بالتّوبة قبل القدرة عليه،فلا سبيل للإيذاء إليه إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ المائدة:34،و إذا أردت التّوبة فأنا المريد لتوبتك قبل وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ النّساء:27،و إذا تبت بتوبتي عليك،و توفيقي لك، جازيتك بالمحبّة إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ البقرة:222، و إنّا لا نقبل توبة من يؤخّر توبته إلى آخر الوقت:
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ النّساء:18،و إنّما يتقبّل توبة من تتّصل توبته بزلّته،و تقترن بمعصيته إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ النّساء:17.
أعظم الذّنوب قتل النّفس و إذا حصل خطأ من غير عمد فبالتّوبة و الصّيام كفّر فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ النّساء:92،نهينا سيّد المرسلين عن التّحكّم على عبادنا،فإنّ ذلك إلينا.و نحن نتوب عليهم لو نشاء لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ آل عمران:128،لا تفرّ من التّوبة؛فإنّها خير لك في الدّارين فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ التّوبة:74، فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ البقرة:54،و من
ص: 117
رمى بنفسه في هوّة الكفر فلا توبة له لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ آل عمران:90،أ يظنّون أنّا لا نقبل توبة المخلص من عبادنا أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ التّوبة:104،نحن نأخذ بيد المذنب،و نقبل باللّطف توبته غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ المؤمن:3، وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الشّورى:25.
و لهذا قيل:التّوبة قصّار المذنبين،و غسّال المجرمين، و قائد المحسنين،و عطّار المريدين،و أنيس المشتاقين، و سائق إلى ربّ العالمين.
(بصائر ذوي التّمييز 2:304-312)
اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. التّوبة:112
ابن عبّاس: (التّائبون)هم الّذين تابوا من الشّرك،و تبرّءوا عن النّفاق.
مثله الحسن.(النّيسابوريّ 11:27)
نحوه البغويّ.(2:392)
الحسن :تابوا إلى اللّه من الذّنوب كلّها.
(الطّبريّ 11:36)
قتادة :تابوا من الشّرك،ثمّ لم ينافقوا في الإسلام.
(الطّبريّ 11:36)
ابن جريج: الّذين تابوا من الذّنوب،ثمّ لم يعودوا فيها.(الطّبريّ 11:36)
الطّبريّ: و معنى(التّائبون):ممّا كرهه اللّه و سخطه، إلى ما يحبّه و يرضاه.(11:36)
الزّجّاج: يصلح أن يكون رفعه على وجوه:أحدها:
المدح،كأنّه قال:هؤلاء التّائبون،أو هم التّائبون؟
و يجوز أن يكون على البدل،المعنى:يقاتل التّائبون، و هذا مذهب أهل اللّغة.
و الّذي عندي،و اللّه أعلم أنّ قوله: اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ رفع بالابتداء،و خبره مضمر،المعنى:
اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ... لهم الجنّة أيضا،أي من لم يجاهده غير معاند و لا قاصد لترك الجهاد،لأنّ بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد،فمن كان هذه صفته فله الجنّة أيضا.
التّائبون:الّذين تابوا من الكفر.(2:471)
الماورديّ: يعني من الذّنوب.
و يحتمل أن يراد بهم الرّاجعون إلى اللّه تعالى في فعل ما أمر و اجتناب ما حظر،لأنّها صفة مبالغة في المدح، و التّائب هو الرّاجع،و الرّاجع إلى الطّاعة أفضل من الرّاجع عن المعصية،لجمعه بين الأمرين.(2:406)
الطّوسيّ: قيل في ارتفاع قوله:(التّائبون)ثلاثة أقوال:
أحدها:إنّه ارتفع بالمدح،و التّقدير هم التّائبون.
الثّاني:بالابتداء و خبره محذوف بعد قوله:
وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ لهم الجنّة.
الثّالث:على أن يكون بدلا من الضّمير في (يقاتلون)أي إنّما يقاتل في سبيل اللّه من هذه صفته.
و قيل:هو كقوله: لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
ص: 118
التّوبة:88،التّائبون.
و قرأ أبيّ كلّ ذلك بالنّصب على أنّه صفة للمؤمنين.
وصف اللّه تعالى المؤمنين الّذين اشتروا منه أنفسهم و أموالهم بأنّهم التّائبون،و معناه الرّاجعون إلى طاعة اللّه المنقطعون إليه و النّادمون على ما فعلوا من قبيح.
(5:354)
القشيريّ: (التّائبون)أي الرّاجعون إلى اللّه،فمن راجع يرجع عن زلّته إلى طاعته،و من راجع يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه،و من راجع يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه،و من راجع يرجع عن الإحساس بنفسه و أبناء جنسه إلى الاستغراق في حقائق حقّه.
و يقال:تائب يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله، فيجد غدا فنون أفضاله،و صنوف لطفه و نواله،و تائب يرجع عن كلّ غير و ضدّ إلى ربّه بربّه لربّه بمحو كلّ أرب،و عدم الإحساس بكلّ طلب.
و تائب يرجع لحظّ نفسه من جزيل ثوابه،أو حذرا على نفسه،من أليم عذابه،و تائب يرجع لأمره برجوعه و إيابه،و تائب يرجع طلبا لفرح نفسه حين ينجو من أوضاره،و يخلص من شؤم أوزاره،و تائب يرجع لمّا سمع أنّه قال:«إنّ اللّه أفرح بتوبة عبده من الأعرابيّ الّذي وجد ضالّته»كما في الخبر،و شتّان ما هما.
أيا قادما من سغرة الهجر مرحبا
أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
(3:66)
الزّمخشريّ: (التّائبون)رفع على المدح،أي هم التّائبون،يعني المؤمنين المذكورين،و يدلّ عليه قراءة عبد اللّه و أبيّ رضي اللّه عنهما «التّائبين» بالياء،إلى «و الحافظين» نصبا على المدح،و يجوز أن يكون جرّا صفة للمؤمنين.
و جوّز الزّجّاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف،أي التّائبون العابدون من أهل الجنّة أيضا و إن لم يجاهدوا، كقوله: وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى النّساء:95.
و قيل:هو رفع على البدل من الضّمير في(يقاتلون).
و يجوز أن يكون مبتدأ و خبره(العابدون)و ما بعده خبر بعد خبر،أي التّائبون من الكفر على الحقيقة،الجامعون لهذه الخصال.(2:216)
نحوه الآلوسيّ(11:30)،و النّيسابوريّ(11:27)، و أبو السّعود(3:196).
ابن عطيّة: و(التّائبون)لفظ يعمّ الرّجوع من الشّرّ إلى الخير،كان ذلك من كفر أو معصية،و الرّجوع من حالة إلى ما هي أحسن منها،و إن لم تكن الأولى شرّا بل خيرا،و هكذا توبة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و استغفاره سبعين مرّة في اليوم.
و التّائب هو المقلع عن الذّنب،العازم على التّمادي على الإقلاع،النّادم على ما سلف.و التّائب عن ذنب يسمّى تائبا و إن قام على غيره إلاّ أن يكون من نوعه فليس بتائب.
و التّوبة و نقضها دائبا خير من الإصرار،و من تاب ثمّ نقض و وافى على النّقض فإنّ ذنوبه الأولى تبقى عليه، لأنّ توبته منها علم اللّه أنّها منقوضة،و يحتمل الأمر غير ذلك،و اللّه أعلم.(3:88)
ص: 119
نحوه القرطبيّ.(8:269)
الطّبرسيّ: أي الرّاجعون إلى طاعة اللّه،و المنقطعون إليه،النّادمون على ما فعلوه من القبائح.(3:75)
نحوه فضل اللّه(11:218)،و مكارم الشّيرازيّ(6:
214).
الفخر الرّازيّ: فيه مسألتان:المسألة الأولى في رفع قوله:(التّائبون...).[و ذكر كما تقدّم عن الزّمخشريّ]
المسألة الثّانية:في تفسير هذه الصّفات التّسعة:
الصّفة الأولى:قوله:(التّائبون)،قال ابن عبّاس رضي اللّه عنه:التّائبون من الشّرك،و قال الحسن:
التّائبون من الشّرك و النّفاق،و قال الأصوليّون:التّائبون من كلّ معصية.و هذا أولى،لأنّ التّوبة قد تكون توبة من الكفر،و قد تكون من المعصية.و قوله:(التّائبون)صيغة عموم محلاّة بالألف و اللاّم،فتتناول الكلّ،فالتّخصيص بالتّوبة عن الكفر محض التّحكّم.
و اعلم أنّا بالغنا في شرح حقيقة التّوبة،في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ البقرة:37.
و اعلم أنّ التّوبة إنّما تحصل عند حصول أمور أربعة:
أوّلها:احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه.
و ثانيها:ندمه على ما مضى.
و ثالثها:عزمه على التّرك في المستقبل.
و رابعها:أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثّلاثة طلب رضوان اللّه تعالى و عبوديّته،فإن كان غرضه منها دفع مذمّة النّاس و تحصيل مدحهم أو سائر الأغراض، فهو ليس من التّائبين.(16:202)
نحوه الشّربينيّ.(1:653)
البروسويّ: و أصل التّوبة:الرّجوع،فإذا وصف بها العبد يراد بها الرّجوع من العقوبة إلى المغفرة و الرّحمة،و هي واجبة على الفور،و يتقدّمها معرفة الذّنب المرجوع عنه أنّه ذنب.
و علامة قبولها أربعة أشياء:أن ينقطع عن الفاسقين، و يتّصل بالصّالحين بالتّردّد إلى مجالسهم الشّريفة أينما كانوا،و أن يقبل على جميع الطّاعات؛إذ الرّجوع إذا صحّ من القلب ترى الأعضاء تنقاد لما خلقت له،كالشّجرة إذا صلح أصلها أثمر فرعها،و أن يذهب عنه فرح الدّنيا؛إذ المقبل على اللّه لا يفرح بشيء ممّا سواه.(3:517)
رشيد رضا :أي هم التّائبون الكاملون في توبتهم، و هي الرّجوع إلى اللّه عن كلّ ما يبعد عن مرضاته.
و تختلف باختلاف أحوال أهلها؛فتوبة الكفّار الّذين يدخلون في الإسلام:هي الرّجوع عن الكفر الّذي كانوا عليه من شرك و غيره،كما تقدّم في قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ التّوبة:11.
و توبة المنافق من النّفاق،و تقدّم ذكرها في هذه السّورة أيضا.
و توبة العاصي من المعصية،و منه توبة من تخلّف عن غزوة تبوك من المؤمنين،و تقدّم قريبا ذكر من تاب منهم و من أرجئ أمره.
و توبة المقصّر في شيء من البرّ و عمل الخير،إنّما
ص: 120
تكون في التّشمير فيه و الاستزادة منه.
و توبة من يغفل عن ربّه،و إنّما تكون في الإكثار من ذكره و شكره.(11:51)
نحوه المراغيّ.(11:33)
الطّباطبائيّ: يصف سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم،و الصّفات مرفوعة بالقطع،أي المؤمنون هم التّائبون العابدون إلخ،فهم التّائبون لرجوعهم من غير اللّه إلى اللّه سبحانه.(9:396)
نحوه عبد الكريم الخطيب.(6:901)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً. التّحريم:5
ابن عبّاس: أي تائبات من الذّنوب.(477)
الطّبريّ: راجعات إلى ما يحبّه اللّه منهنّ من طاعته عمّا يكرهه منهنّ.(28:164)
الميبديّ: راجعات من الذّنوب.(10:159)
الطّبرسيّ: (تائبات)من الذّنوب،و قيل:راجعات إلى أمر الرّسول تاركات لمحابّ أنفسهنّ،و قيل:نادمات على تقصير وقع منهنّ.(5:316)
نحوه النّسفيّ(4:270)،و الشّربينيّ(4:332).
الخازن :أي تاركات للذّنوب لقبحها،أو كثيرات التّوبة.(7:101)
الآلوسيّ: مقلعات عن الذّنب.(28:155)
القاسميّ: أي من الذّنوب لا يصررن عليها.
(16:5864)
1- فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:37
ابن عبّاس: المتجاوز.(7)
أبو عبيدة :أي يتوب على العباد،و التّوّاب من النّاس:الّذي يتوب من الذّنب.(1:39)
الطّبريّ: إنّ اللّه جلّ ثناؤه هو التّوّاب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه،التّارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته،بما سلف من ذنبه.[ثمّ ذكر معنى التّوبة](1:246)
الماورديّ: أي الكثير القبول للتّوبة،و عقّبه بالرّحمة،لئلاّ يخلّي اللّه تعالى عباده من نعمه.(1:11)
الطّوسيّ: و«توّاب»بمعنى أنّه قابل التّوبة،لا يطلق إلاّ عليه تعالى،و لا يطلق في الواحد منّا.(1:172)
الواحديّ: أي يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه.(1:126)
البغويّ: يقبل توبة عباده.(1:108)
الميبديّ: «توّاب»اسم من أسماء اللّه،و هو الّذي يرجع إلى تيسير أسباب التّوبة لعباده مرّة بعد أخرى،بما يظهر لهم من آياته،و يسوق إليهم من تنبيهاته،و يطّلعهم عليه من تخفيفاته و تحذيراته،حتّى إذا اطّلعوا بتعريفه على غوائل الذّنوب استشعروا الخوف بتخويفه،فرجعوا إلى التّوبة،فرجع إليهم فضل اللّه بالقبول.(1:156)
ابن عطيّة: قرأ ابن أبي عقرب: «أنّه» بفتح الهمزة
ص: 121
على معنى(لأنّه)و بنية(التّوّاب)للمبالغة و التّكثير،و في قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ تأكيد،فائدته أنّ التّوبة على العبد إنّما هي نعمة من اللّه،لا من العبد وحده لئلاّ يعجب التّائب،بل الواجب عليه شكر اللّه تعالى في توبته عليه.(1:131)
مثله الثّعالبيّ.(1:67)
ابن العربيّ: و لعلمائنا في وصف الرّبّ بأنّه توّاب ثلاثة أقوال:
أحدها:أنّه يجوز في حقّ الرّبّ سبحانه و تعالى، فيدعى به كما في الكتاب و السّنّة،و لا يتأوّل.
و قال آخرون:هو وصف حقيقيّ للّه سبحانه و تعالى،و توبة اللّه على العبد:رجوعه من حال المعصية إلى حال الطّاعة.
و قال آخرون:توبة اللّه على العبد قبوله توبته؛ و ذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه و تعالى:قبلت توبتك،و أن يرجع إلى خلقه الإنابة و الرّجوع في قلب المسيء،و إجراء الطّاعات على جوارحه الظّاهرة.
(القرطبيّ 1:325)
الطّبرسيّ: أي كثير القبول للتّوبة يقبل مرّة بعد مرّة،و هو في صفة العباد الكثير التّوبة.و قيل:إنّ معناه إنّه يقبل التّوبة و إن عظمت الذّنوب فيسقط عقابها.
(1:89)
القرطبيّ: وصف نفسه سبحانه و تعالى بأنّه التّوّاب،و تكرّر في القرآن معرّفا و منكّرا و اسما و فعلا.
و قد يطلق على العبد أيضا توّاب،قال اللّه تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ البقرة:222.
[ثمّ نقل كلام ابن العربيّ و أضاف:]
لا يجوز أن يقال في حقّ اللّه تعالى:تائب،اسم فاعل من تاب يتوب،لأنّه ليس لنا أن نطلق عليه من الأسماء و الصّفات إلاّ ما أطلقه هو على نفسه أو نبيّه عليه السّلام أو جماعة المسلمين،و إن كان في اللّغة محتملا جائزا.
هذا هو الصّحيح في هذا الباب،على ما بيّنّاه في «الكتاب الأسنى في شرح أسماء اللّه الحسنى»قال اللّه تعالى: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ التّوبة:117،و قال: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الشّورى:25.
و إنّما قيل للّه عزّ و جلّ:(توّاب)لمبالغة الفعل،و كثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه.
اعلم أنّه ليس لأحد قدرة على خلق التّوبة،لأنّ اللّه سبحانه و تعالى هو المنفرد بخلق الأعمال،خلافا للمعتزلة و من قال بقولهم.و كذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه و لا أن يعفو عنه.
قال علماؤنا:و قد كفرت اليهود و النّصارى بهذا الأصل العظيم في الدّين اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ التّوبة:31،و جعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الرّاهب فيعطيه شيئا،و يحطّ عنه ذنوبه اِفْتِراءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ الأنعام:
140.(1:325)
البيضاويّ: الرّجّاع على عباده بالمغفرة،أو الّذي يكثر إعانتهم على التّوبة.و أصل التّوبة:الرّجوع،فإذا وصف بها العبد كان رجوعا عن المعصية،و إذا وصف بها البارئ تعالى أريد بها الرّجوع عن العقوبة إلى المغفرة.
ص: 122
(1:50)
نحوه الشّربينيّ(1:51)،و أبو السّعود(1:123)، و الخازن(1:44).
النّسفيّ: الكثير القبول للتّوبة.(1:44)
النّيسابوريّ: و معنى المبالغة في التّوّاب:أنّ واحدا من ملوك الدّنيا إذا عصاه إنسان ثمّ تاب قبل توبته،ثمّ إذا عاد إلى المعصية و إلى الاعتذار فربّما لم يقبل عذره،لأنّ طبعه يمنعه من قبول العذر.و اللّه تعالى بخلاف ذلك،لأنّه إنّما يقبل التّوبة لا لأمر يرجع إلى رقّة طبع أو جلب نفع أو دفع ضرّ،بل لمحض الإحسان و اللّطف و الرّحمة و الجود،فإنّ فيضه لا ينقطع،و لا تقصير إلاّ من القابل، فكلّما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض إليه لا محالة.
و أيضا يستحقّ المبالغة من جهة أخرى،و هي كثرة عدد المذنبين،المستلزمة لكثرة التّائبين،المستتبعة لكثرة قبول التّوبة و وصفه بالرّحمة.(1:285)
أبو حيّان :[نحو القرطبيّ و أضاف:]
و ذهب بعضهم إلى أنّه تعالى لا يوصف به إلاّ تجوّزا، و أجمعوا أنّه لا يوصف تعالى بتائب و لا آئب و لا رجّاع و لا منيب،و فرق بين إطلاقه على اللّه تعالى و على العبد، و ذلك لاختلاف صلتيهما،أ لا ترى (فَتابَ عَلَيْهِ) (وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ) ،فالتّوبة من اللّه على العبد هي العطف و التّفضّل عليه،و من العبد هي الرّجوع إلى طاعته تعالى،لطلب ثواب أو خشية عقاب أو رفع درجات.
و أعقب الصّفة الأولى بصفة الرّحمة،لأنّ قبول التّوبة سببه رحمة اللّه لعبده،و تقدّم(التّوّاب)لمناسبة(فتاب عليه)و لحسن ختم الفاصلة بقوله:(الرّحيم).(1:167)
الآلوسيّ: و في الجملة الاسميّة ما يقوّي رجاء المذنبين و يجبر كسر قلوب الخاطئين؛حيث افتتحها ب(انّ)و أتى بضمير الفصل و عرّف المسند،و أتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبوله التّوبة كلّما تاب العبد.
و يحتمل أنّ ذلك لكثرة من يتوب عليهم،و جمع بين وصفي كونه توّابا و كونه رحيما إشارة إلى مزيد الفضل، و قدّم(التّوّاب)لظهور مناسبته لما قبله.(1:237)
القاسميّ: في الجمع بين الاسمين وعد للتّائب بالإحسان مع العفو.(2:110)
المراغيّ: (التّوّاب)هو الّذي يقبل التّوبة عن عباده كثيرا،فمهما اقترف العبد من الذّنوب و ندم على ما فرط منه و تاب،تاب اللّه عليه.[إلى أن قال:]
و قد جمع بين الوصفين(التّوّاب الرّحيم)للإشارة إلى عدة اللّه تعالى للعبد التّائب بالإحسان إليه،مع العفو عنه و المغفرة له.(1:92)
مكارم الشّيرازيّ: التّوبة في اللّغة بمعنى العودة، و هي في التّعبير القرآنيّ بمعنى العودة عن الذّنب،إن نسبت إلى المذنب؛و إن نسبت كلمة التّوبة إلى اللّه،فتعني عودته سبحانه إلى الرّحمة الّتي كانت مسلوبة عن العبد المذنب،و لذلك فهو تعالى«توّاب»في التّعبير القرآنيّ.
بعبارة أخرى توبة العبد:عودته إلى اللّه،لأنّ الذّنب فرار من اللّه و التّوبة رجوع إليه،و توبة اللّه:إغداق رحمته على عبده الآئب.(1:153)
و بهذا المعنى جاءت كلمة«التّوّاب»في الآية 45 و 128 من سورة البقرة.
ص: 123
...قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ.
الرّعد:30
ابن عبّاس: المرجع في الآخرة.(208)
مجاهد :يعني بالمتاب:التّوبة.(الماورديّ 3:111)
الطّبريّ: و إليه مرجعي و أوبتي،و هو مصدر من قول القائل:تبت متابا و توبة.(13:150)
نحوه البغويّ.(3:23)
الطّوسيّ: أي إلى اللّه الرّحمن توبتي،و هو النّدم على ما سلف من الخطيئة،مع العزم على ترك المعاودة إلى مثله في القبح.و المتاب و التّوبة مصدران،يقال:تاب يتوب توبة و متابا.(6:252)
نحوه الطّبرسيّ.(3:293)
الميبديّ: أي و إليه أتوب من خطاياي،و الأصل:
متابي،فحذفت الياء،لأنّ الكسرة تدلّ عليها.
(5:200)
الزّمخشريّ: فيثيبني على مصابرتكم و مجاهدتكم.
(2:360)
نحوه الفخر الرّازيّ(19:52)،و النّيسابوريّ(13:
89)،و أبو حيّان(5:391).
أبو البركات: أصل(متابا):متوب،فنقلت الفتحة من الواو إلى التّاء،فتحرّكت في الأصل،و انفتح ما قبلها الآن،فقلبت ألفا.(2:209)
البيضاويّ: مرجعي و مرجعكم.(1:520)
أبو السّعود :أي توبتي،كقوله تعالى: وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ محمّد:19،و المؤمن:55،أمر عليه السّلام بذلك إبانة لفضل التّوبة و مقدارها عند اللّه تعالى،و أنّها صفة الأنبياء،و بعثا للكفرة على الرّجوع عمّا هم عليه بأبلغ وجه و ألطفه،فإنّه عليه السّلام حيث أمر بها و هو منزّه عن شائبة اقتراف ما يوجبها من الذّنب،و إن قلّ،فتوبتهم و هم عاكفون على أنواع الكفر و المعاصي ممّا لا بدّ منه أصلا.
و قد فسّر«المتاب»بمطلق الرّجوع،فقيل:مرجعي و مرجعكم،و زيد:فيحكم بيني و بينكم،و قد قيل:
فيثيبني على مصابرتكم،فتأمّل.(3:458)
نحوه المراغيّ.(13:104)
البروسويّ: مصدر تاب يتوب،و أصله:متابي، أي مرجعي و مرجعكم،فيرحمني و ينتقم لي منكم، و الانتقام من الرّحمن أشدّ،و لذا قيل:نعوذ باللّه من غضب الحليم.(4:375)
الآلوسيّ: أي مرجعي فيثيبني على مصابرتكم و مجاهدتكم.[إلى أن قال:]
ثمّ لا يخفى أنّ حمل(و اليه متاب)على:إليه رجوعي في سائر أموري خلاف الظّاهر،و أنّه على ذلك يكون كالتّأكيد لما قبله.[ثمّ نقل كلام أبي السّعود و قال:]
و فيه أنّ هذا إنّما يصلح باعثا للإقلاع عن الذّنب على أبلغ وجه و ألطفه لو كان الكلام مع غير الكفرة الّذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعا،و لعلّ ذلك ظاهر عند المنصف.
و قال العلاّمة البيضاويّ في ذلك:أي إليه مرجعي و مرجعكم.و كأنّه أراد أيضا فيرحمني و ينتقم منكم، و الانتقام من الرّحمن أشدّ،كما قيل:أعوذ باللّه تعالى من
ص: 124
غضب الحليم.
و تعقّب بأنّه إنّما يتمّ لو كان المضاف إليه المحذوف ضمير المتكلّم و معه غيره،أي متابنا إذ يكون حينئذ مرجعي و مرجعكم تفصيلا لذلك،و لا يكاد يقول به أحد مع قوله:بكسر الباء،فإنّه يقتضي أن يكون المحذوف الياء،على أنّ ذلك الضّمير لا يناسب ما قبله،و لعلّ العلاّمة اعتبر أنّ في الآية اكتفاء على ما قيل،أي متابي و متابكم،أو أنّ الكلام دالّ عليه التزاما.و هذا أولى على ما قيل،فتأمّل.(13:153)
الطّباطبائيّ: أي هو وحده ربّي من غير شريك، كما تقولون،و لربوبيّته لي وحده أتّخذه القائم على جميع أموري و بها،و أرجع إليه في حوائجي.و بذلك يظهر أنّ قوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ من آثار الرّبوبيّة المتفرّعة عليها،فإنّ الرّبّ هو المالك المدبّر،فمحصّل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع.
و قيل:إنّ المراد ب«المتاب»هو التّوبة من الذّنوب، لما في المعنى الأوّل من لزوم كون (إِلَيْهِ مَتابِ) تأكيدا لقوله: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) و هو خلاف الظّاهر.
و فيه منع رجوعه إلى التّأكيد،ثمّ منع كونه خلاف الظّاهر،و هو ظاهر.
و ذكر بعضهم:أنّ المعنى:إليه متابي و متابكم،و فيه أنّه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه،و مجرّد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التّقدير،من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.(11:358)
فضل اللّه :فأوجّه إليه التّوبة من ذنوبي الّتي أسلفتها،و أفتح له كلّ حياتي المستقبليّة،الّتي أثير فيها كلّ تاريخ حياتي الماضية بالتّوبة و الإيمان.
(13:55)
1- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ... النّساء:92
ابن عبّاس: تجاوزا من اللّه لقاتل الخطأ إن فعل ذلك.(77)
الجبّائيّ: إنّما قال: تَوْبَةً مِنَ اللّهِ تعالى بهذه الكفّارة الّتي يلتزمها بدرء عقاب القاتل و ذمّه،لأنّه يجوز أن يكون عاصيا في السّبب،و إن لم يكن عاصيا في القتل،من حيث إنّه رمى في موضع هو منهيّ عنه بأن يكون رجمه،و إن لم يقصد القتل.(الطّوسيّ 3:293)
الطّبريّ: يعني تجاوزا من اللّه لكم إلى التّيسير عليه،بتخفيفه عنكم،ما خفّف عنكم،من فرض تحرير الرّقبة المؤمنة،إذا أعسرتم بها،بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين.(5:215)
الزّجّاج: و نصب تَوْبَةً مِنَ اللّهِ على جهة نصب «فعلت ذلك حذار الشّرّ».المعنى فعليه صيام شهرين و عليه دية إذا وجد توبة من اللّه،أي فعل ذلك توبة من اللّه.(2:91)
نحوه النّيسابوريّ.(5:117)
الطّوسيّ: قوله: تَوْبَةً مِنَ اللّهِ نصب على القطع،معناه:رجعة من اللّه لكم.[ثمّ أدام نحو الطّبريّ و نقل قول الجبّائيّ ثمّ قال:]
و هذا ليس بشيء،لأنّ الآية عامّة في كلّ خطإ،
ص: 125
و ما ذكره ربّما اتّفق في الآحاد...(3:293)
الواحديّ: أي اعملوا بما أوجبه للتّوبة من اللّه،أي ليقبل اللّه توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم.(2:95)
البغويّ: أي جعل اللّه ذلك توبة القاتل الخطأ.
(1:676)
مثله الخازن.(1:478)
الزّمخشريّ: قبولا من اللّه و رحمة منه،من تاب اللّه عليه،إذا قبل توبته،يعني شرع ذلك توبة منه.أو نقلكم من الرّقبة إلى الصّوم توبة منه.(1:554)
نحوه النّسفيّ.(1:244)
ابن عطيّة: (توبة)نصب على المصدر،و معناه رجوعا بكم إلى التّيسير و التّسهيل.(2:94)
الطّبرسيّ: أي ليتوب اللّه به عليكم،فتكون التّوبة من فعل اللّه.
و قيل:إنّ المراد بالتّوبة هنا:التّخفيف من اللّه،لأنّ اللّه إنّما جوّز للقاتل العدول إلى الصّيام تخفيفا عليه، و يكون كقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ المزّمّل:20.(2:91)
الفخر الرّازيّ: قوله: تَوْبَةً مِنَ اللّهِ انتصب بمعنى صيام ما تقدّم،كأنّه قيل:اعملوا بما أوجب اللّه عليكم لأجل التّوبة من اللّه،أي ليقبل اللّه توبتكم،و هو كما يقال:فعلت كذا حذر الشّرّ.
فإن قيل:قتل الخطإ لا يكون معصية،فما معنى قوله:
تَوْبَةً مِنَ اللّهِ؟
قلنا:فيه وجوه:الأوّل:أنّ فيه نوعين من التّقصير، فإنّ الظّاهر أنّه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل،أ لا ترى أنّ من قتل مسلما على ظنّ أنّه كافر حربيّ،فلو أنّه بالغ في الاحتياط و الاستكشاف فالظّاهر أنّه لا يقع فيه.و من رمى إلى صيد فأخطأ و أصاب إنسانا،فلو احتاط فلا يرمي إلاّ في موضع يقطع بأنّه ليس هناك إنسان فإنّه لا يقع في تلك الواقعة،فقوله:
تَوْبَةً مِنَ اللّهِ تنبيه على أنّه كان مقصّرا في ترك الاحتياط.
الوجه الثّاني في الجواب:أنّ قوله: تَوْبَةً مِنَ اللّهِ راجع إلى أنّه تعالى أذن له في إقامة الصّوم مقام الإعتاق عند العجز عنه؛و ذلك لأنّ اللّه تعالى إذا تاب على المذنب فقد خفّف عنه،فلمّا كان التّخفيف من لوازم التّوبة أطلق لفظ التّوبة لإرادة التّخفيف،إطلاقا لاسم الملزوم على اللاّزم.
الوجه الثّالث في الجواب:أنّ المؤمن إذا اتّفق له مثل هذا الخطإ فإنّه يندم،و يتمنّى أن لا يكون ذلك ممّا وقع، فسمّى اللّه تعالى ذلك:النّدم،و ذلك التّمنّي:توبة.
(10:236)
نحوه البروسويّ.(2:260)
العكبريّ: (توبة)مفعول من أجله،و التّقدير:
شرع ذلك لكم توبة منه.و لا يجوز أن يكون العامل فيه صوم،إلاّ على تقدير حذف مضاف،تقديره:لوقوع توبة،أو لحصول توبة من اللّه.
و قيل:هو مصدر منصوب بفعل محذوف،تقديره:
تاب عليكم توبة منه.
و لا يجوز أن يكون في موضع الحال،لأنّك لو قلت:
فعليه صيام شهرين تائبا من اللّه،لم يجز.فإن قدّرت
ص: 126
حذف مضاف جاز،أي صاحب توبة من اللّه.(1:381)
نحوه البيضاويّ(1:237)،و أبو حيّان(3:326)، و السّمين الحلبيّ(2:415)،و الشّربينيّ(1:323).
القرطبيّ: نصب على المصدر،و معناه رجوعا.
و إنّما مسّت حاجة المخطئ إلى التّوبة،لأنّه لم يتحرّز، و كان من حقّه أن يتحفّظ.
و قيل:أي فليأت بالصّيام تخفيفا من اللّه تعالى عليه بقبول الصّوم بدلا عن الرّقبة،و منه قوله تعالى: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ البقرة:187،أي خفّف،و قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ المزّمّل:20.(5:328)
النّيسابوريّ: جذبة منه.(5:130)
أبو السّعود :نصب على أنّه مفعول له،أي شرع لكم ذلك توبة،أي قبولا لها،من تاب اللّه عليه،إذا قبل توبته،أو مصدر مؤكّد لفعل محذوف،أي تاب عليكم توبة.
و قيل:على أنّه حال من الضّمير المجرور في(عليه) بحذف المضاف،أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة.(2:179)
نحوه المشهديّ(2:574)،و الشّوكانيّ(1:636)، و الآلوسيّ(5:114).
رشيد رضا :أي شرع اللّه لكم ما ذكر توبة منه عليكم،فهو يريد به أن يتوب عليكم لتتوبوا و تطهّر نفوسكم من التّهاون و قلّة التّحرّي الّتي تفضي إلى قتل الخطإ.(5:337)
نحوه المراغيّ.(5:122)
الطّباطبائيّ: تَوْبَةً مِنَ اللّهِ إلخ،أي هذا الحكم و هو إيجاب الصّيام توبة و عطف رحمة من اللّه لفاقد الرّقبة،و ينطبق على التّخفيف،فالحكم تخفيف من اللّه في حقّ غير المستطيع.
و يمكن أن يكون قوله:(توبة)قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفّارة،أعني قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إلخ،و المعنى:أنّ جعل الكفّارة للقاتل خطأ توبة و عناية من اللّه للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا، و ليتحفّظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل، نظير قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ البقرة:
179.
و كذا هو توبة من اللّه للمجتمع و عناية لهم؛حيث يزيد به في أحرارهم واحدا بعد ما فقدوا واحدا،و يرمّم ما ورد على أهل المقتول من الضّرر المالي بالدّية المسلّمة.
(5:40)
عبد الكريم الخطيب :أي أنّ صيام هذين الشّهرين لأجل التّوبة المتنزّلة على القاتل من اللّه، و الرّحمة به من أن يقتل نفسه أسفا و ندما؛إذ علم اللّه أنّه لم يعمد إلى القتل،فاقتضت حكمته تعالى أن يرحم هذا القاتل،و يجعل له من همّه فرجا،و من ضيقه مخرجا.
(3:864)
مكارم الشّيرازيّ: و العبارة الأخيرة من الآية الكريمة الّتي هي(توبة من اللّه)قد تكون إشارة إلى أنّ وقوع الخطإ يكون غالبا بسبب التّهاون و قلّة الحذر،و إنّ الخطأ إذا كان كبيرا كالقتل يجب التّعويض عنه أوّلا و إرضاء أهل القتيل،لكي تشمل القاتل أو الخاطئ بعد
ص: 127
ذلك التّوبة الإلهيّة.(3:339)
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً...
التّحريم:8
النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:قال معاذ بن جبل:يا رسول اللّه ما التّوبة النّصوح؟
قال:أن يتوب التّائب،ثمّ لا يرجع في ذنب،كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع.(الواحديّ 4:322)
شهر بن حوشب:أن لا يعود و لو حزّ بالسّيف و أحرق بالنّار.(الشّربينيّ 4:332)
ابن مسعود:التّوبة النّصوح:تكفّر كلّ سيّئة،و هو في القرآن.(الواحديّ 4:322)
الرّجل يذنب الذّنب ثمّ لا يعود فيه.
(الطّبريّ 28:167)
ابن عبّاس: تَوْبَةً نَصُوحاً خالصا صادقا من قلوبكم،و هو النّدم بالقلب،و الاستغفار باللّسان، و الإقلاع بالبدن و الضّمير،على أن لا يعود إليه أبدا.
(477)
أن لا يعود صاحبه لذلك الذّنب الّذي يتوب منه.
(الطّبريّ 28:167)
أنس بن مالك:هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح،و قلب عن المعاصي جموح.
(القرطبيّ 18:198)
ابن المسيّب: توبة تنصحون بها أنفسكم.
(البغويّ 5:123)
سعيد بن جبير: هي التّوبة المقبولة،و لا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط:خوف ألاّ تقبل،و رجاء أن تقبل،و إدمان الطّاعات.(القرطبيّ 18:198)
مجاهد :يستغفرون ثمّ لا يعودون.
(الطّبريّ 28:168)
الضّحّاك: أن تحول عن الذّنب،ثمّ لا تعود له أبدا.
(الطّبريّ 28:168)
الحسن :إنّ النّصوح أن يبغض الذّنب الّذي أحبّه، و يستغفر منه إذا ذكره.(الماورديّ 6:45)
هي أن يكون العبد نادما على ما مضى،مجمعا على أن لا يعود فيه.(الشّربينيّ 4:332)
القرظيّ: يجمعها أربعة أشياء:الاستغفار باللّسان، و الإقلاع بالأبدان،و إضمار ترك العود بالجنان،و مهاجرة سيّئ الإخوان.(البغويّ 5:123)
قتادة :هي الصّادقة النّاصحة.(الطّبريّ 28:168)
سماك: أن تنصب الذّنب الّذي أقللت فيه الحياء من اللّه تعالى أمام عينيك،و تتبعه نظرك.
(الشّربينيّ 4:332)
السّدّيّ: لا تصحّ إلاّ بنصيحة النّفس و نصيحة المؤمنين،لأنّ من صحّت توبته أحبّ أن يكون النّاس مثله.(الشّربينيّ 4:332)
نحوه سريّ السّقطيّ.(القرطبيّ 18:198)
الكلبيّ: أن يستغفر باللّسان و يندم بالقلب و يمسك بالبدن.(الشّربينيّ 4:332)
الإمام الصّادق عليه السّلام: التّوبة النّصوح:أن يكون باطن الرّجل كظاهره و أفضل.(المشهديّ 10:516)
الثّوريّ: علامة التّوبة النّصوح أربعة:القلّة،
ص: 128
و العلّة،و الذّلّة،و الغربة.(القرطبيّ 18:198)
ابن زيد :التّوبة النّصوح:الصّادقة،يعلم أنّها صدق ندامة على خطيئته،و حبّ الرّجوع إلى طاعته، فهذا النّصوح.(الطّبريّ 28:168)
الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذّنب بين عينيه،فلا يزال كأنّه ينظر إليه.(القرطبيّ 18:198)
شقيق البلخيّ: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة،و لا ينفكّ من النّدامة،لينجو من آفاتها بالسّلامة.
(القرطبيّ 18:198)
الفرّاء: جعلوه من صفة التّوبة،و معناها:يحدّث نفسه إذا تاب من ذلك الذّنب ألاّ يعود إليه أبدا.
(3:168)
أبو زيد :توبة نصوح:صادقة،يقال:نصحته،أي صدقته.(الواحديّ 4:321)
ذو النّون المصريّ: علامة التّوبة النّصوح ثلاث:
قلّة الكلام،و قلّة الطّعام،و قلّة المنام.
(القرطبيّ 18:198)
التّوبة:إدمان البكاء على ما سلف من الذّنوب و الخوف من الوقوع فيها،و هجران إخوان السّوء، و ملازمة أهل الجنّة.(البروسويّ 10:62)
التّستريّ: هي التّوبة لأهل السّنّة و الجماعة،لأنّ المبتدع لا توبة له،بدليل قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«حجب اللّه على كلّ صاحب بدعة أن يتوب».(القرطبيّ 18:199)
المبرّد: أراد توبة ذا نصح،يقال:نصحت نصحا و نصاحة و نصوحا.(القرطبيّ 18:199)
الجنيد البغداديّ: التّوبة النّصوح هو أن ينسى الذّنب فلا يذكره أبدا،لأنّ من صحّت توبته صار محبّا للّه، و من أحبّ اللّه نسي ما دون اللّه.(القرطبيّ 18:198)
الطّبريّ: ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة اللّه،و إلى ما يرضه عنكم تَوْبَةً نَصُوحاً رجوعا لا تعودون فيها أبدا.(28:167)
الزّجّاج: و جاء في التّفسير أنّ التّوبة النّصوح:الّتي لا يعاود التّائب معها المعصية،و قال بعضهم:الّتي لا ينوي معها معاودة المعصية.(5:195)
رويم:هو أن تكون للّه وجها بلا قفا،كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه.(القرطبيّ 18:198)
الشّريف الرّضيّ: و قرأ أبو بكر ابن عيّاش منفردا عن سائر القرّاء،عن عاصم (نصوحا) بضمّ النّون، و معناه:توبة تنصحون فيها نصوحا،و هو مصدر «نصح».و من قرأ«نصوحا»بفتح النّون،فإنّما أراد به صفة التّوبة،و معناه:توبة مبالغة في النّصح لأنفسكم، و«فعول»من أسماء الفاعلين يستعمل للمبالغة في الوصف،يقال:رجل شكور و صبور،و سيف قطوع، و جمل حمول.
فإذا كان(نصوحا)صفة للتّوبة-و المراد به المبالغة على ما قلنا-علمنا أنّ هناك توبة قد تقع على غير هذه الصّفة،و يشملها جميعا اسم التّوبة،حتّى يصحّ أن يوصف إحداهما بالمبالغة،و إلاّ لم يكن لزيادة هذه الصّفة معنى.(حقائق التّأويل:277)
الماورديّ: [ذكر خمسة من الأقوال المتقدّمة و أضاف:]
و هي على هذه التّأويلات مأخوذة من النّصاحة
ص: 129
و هي الخياطة،و في أخذها منها وجهان:
أحدهما:لأنّها توبة قد أحكمت طاعته و أوثقتها، كما يحكم الخيّاط الثّوب بخياطته و توثيقه.
الثّاني:لأنّها قد جمعت بينه و بين أولياء اللّه و ألصقته بهم،كما يجمع الخيّاط الثّوب و يلصق بعضه ببعض.
(6:45)
القشيريّ: التّوبة النّصوح:هي الّتي لا يعقبها نقض.
و يقال:هي الّتي لا تراها من نفسك،و لا ترى نجاتك بها،و إنّما تراها بربّك.
و يقال:هي أن تجد المرارة في قلبك عند ذكر الزّلّة، كما كنت تجد الرّاحة لنفسك عند فعلها.(6:176)
الواحديّ: يعني ينصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه.(4:321)
نحوه الخازن.(7:101)
الزّمخشريّ: وصفت التّوبة بالنّصح على الإسناد المجازيّ.و النّصح صفة التّائبين،و هو أن ينصحوا بالتّوبة أنفسهم،فيأتوا بها على طريقها،متداركة للفرطات ماحية للسّيّئات؛و ذلك أن يتوبوا عن القبائح لقبحها نادمين عليها،مغتمّين أشدّ الاغتمام لارتكابها،عازمين على أنّهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللّبن في الضّرع،موطّنين أنفسهم على ذلك.[ثمّ نقل أقوال المفسّرين و قال:]
و قيل:(نصوحا)من نصاحة الثّوب،أي توبة ترفو خروقك في دينك و ترمّ خللك.و قيل:خالصة من قولهم:عسل ناصح،إذا خلص من الشّمع.
و يجوز أن يراد:توبة تنصح النّاس،أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها،و استعماله الجدّ و العزيمة في العمل على مقتضياتها.
و قرأ زيد بن عليّ: (توبا نصوحا) .(4:129)
نحوه أبو السّعود(6:269)،و المشهديّ(10:
516)،و النّسفيّ(2:271)،و الشّوكانيّ(5:310).
ابن عطيّة: أمر عباده بالتّوبة،و التّوبة فرض على كلّ مسلم.و تاب معناه رجع؛فتوبة العبد:رجوعه من المعصية إلى الطّاعة،و توبة اللّه تعالى على العبد:إظهار صلاحه و نعمته عليه في الهداية إلى الطّاعة،و قبول توبة الكفّار يقطع بها على اللّه إجماعا من الأمّة.
و اختلف النّاس في توبة العاصي؛فجمهور أهل السّنّة على أنّه لا يقطع بقبولها و لا ذلك على اللّه بواجب، و الدّليل على ذلك دعاء كلّ واحد من المذنبين في قبول التّوبة.و لو كانت مقطوعا بها لما كان معنى للدّعاء في قبولها،و ظواهر القرآن في ذلك هي كلّها بمعنى المشيئة.
و روي عن أبي الحسن الأشعريّ أنّه قال:التّوبة إذا توفّرت شروطها قطع على اللّه بقبولها،لأنّه تعالى أخبر بذلك.
و هذا المسلك[موافق]بظواهر القرآن،و على هذا القول أطبقت المعتزلة.
و التّوبة:النّدم على فارط المعصية،و العزم على ترك مثلها في المستقبل،و هذا من المتمكّن،و أمّا غير المتمكّن كالمجبوب في الزّنى فالنّدم وحده يكفيه.
و التّوبة عبادة كالصّلاة و نحوها،فإذا تاب العبد و حصلت توبته بشروطها و قبلت ثمّ عاود الذّنب، فتوبته الأولى لا تفسدها عوده بل هي كسائر ما تحصل
ص: 130
من العبادات.(5:333)
الطّبرسيّ: أي خالصة لوجه اللّه.[ثمّ نقل بعض ما تقدّم من أقوال المفسّرين](5:318)
الفخر الرّازيّ: أي توبة بالغة في النّصح.(30:47)
القرطبيّ: أمر بالتّوبة،و هي فرض على الأعيان في كلّ الأحوال و كلّ الأزمان.[إلى أن قال:]
اختلفت عبارة العلماء و أرباب القلوب في التّوبة النّصوح على ثلاثة و عشرين قولا،فقيل:هي الّتي لا عودة بعدها كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع.[ثمّ نقل أقوال المفسّرين و قال:]
و قال أبو بكر الورّاق:هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت،و تضيق عليك نفسك،كالثّلاثة الّذين خلّفوا.
و قال أبو بكر الواسطيّ: هي توبة لا لفقد عوض، لأنّ من أذنب في الدّنيا لرفاهيّة نفسه ثمّ تاب طلبا لرفاهيّتها في الآخرة،فتوبته على حفظ نفسه لا للّه.
و قال أبو بكر الدّقّاق المصريّ: التّوبة النّصوح هي ردّ المظالم و استحلال الخصوم،و إدمان الطّاعات.[إلى أن قال:]
و قال فتح الموصليّ: علامتها ثلاث:مخالفة الهوى، و كثرة البكاء،و مكابدة الجوع و الظّمأ.
و أصل التّوبة النّصوح:من الخلوص،يقال:هذا عسل ناصح،إذا خلص من الشّمع.و قيل:هي مأخوذة من«النّصاحة»و هي الخياطة.و في أخذها منها وجهان:
[ثمّ ذكر نحو ما تقدّم عن الماورديّ و أضاف:]
و في الأشياء الّتي يتاب منها و كيف التّوبة منها؛قال العلماء:الذّنب الّذي تكون منه التّوبة لا يخلو:إمّا أن يكون حقّا للّه أو للآدميّين،فإن كان حقّا للّه كترك صلاة فإنّ التّوبة لا تصحّ منه حتّى ينضمّ إلى النّدم قضاء ما فات منها.و هكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزّكاة.
و إن كان ذلك قتل نفس بغير حقّ فأن يمكّن من القصاص إن كان عليه و كان مطلوبا به.و إن كان قذفا يوجب الحدّ فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به.
فإن عفي عنه،كفاه النّدم و العزم على ترك العود بالإخلاص.و كذلك إن عفي عنه بالقتل بمال،فعليه أن يؤدّيه إن كان واجدا له،قال اللّه تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ البقرة:178.
و إن كان ذلك حدّا من حدود اللّه-كائنا ما كان-فإنّه إذا تاب إلى اللّه تعالى بالنّدم الصّحيح سقط عنه،و قد نصّ اللّه تعالى على سقوط الحدّ عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم.و في ذلك دليل على أنّها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم،حسب ما تقدّم بيانه.
و كذلك الشّرّاب و السّرّاق و الزّناة إذا أصلحوا و تابوا و عرف ذلك منهم،ثمّ رفعوا إلى الإمام،فلا ينبغي له أن يحدّهم.و إن رفعوا إليه فقالوا:تبنا،لم يتركوا،و هم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا.هذا مذهب الشّافعيّ.
فإن كان الذّنب من مظالم العباد،فلا تصحّ التّوبة منه إلاّ بردّه إلى صاحبه،و الخروج عنه-عينا كان أو غيره- إن كان قادرا عليه.فإن لم يكن قادرا،فالعزم أن يؤدّيه إذا قدر في أعجل وقت و أسرعه.
و إن كان أضرّ بواحد من المسلمين،و ذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتي،فإنّه يزيل ذلك
ص: 131
الضّرر عنه،ثمّ يسأله أن يعفو عنه و يستغفر له،فإذا عفا عنه فقد سقط الذّنب عنه.و إن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه-عرفه بعينه أو لم يعرفه- فذلك صحيح.
و إن أساء رجل إلى رجل بأن فزّعه بغير حقّ، أو غمّه أو لطمه،أو صفعه بغير حقّ،أو ضربه بسوط فآلمه،ثمّ جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه،عازما على أن لا يعود،فلم يزل يتذلّل له حتّى طابت نفسه فعفا عنه،سقط عنه ذلك الذّنب و هكذا إن كان شانه بشتم لا حدّ فيه.(18:197-200)
نحوه أبو حيّان.(8:293)
الشّربينيّ: قال الفقهاء:التّوبة الّتي لا تعلّق لحقّ آدميّ فيها لها ثلاثة شروط:أحدها:أن يقلع عن المعصية،و ثانيها:أن يندم على ما فعله،و ثالثها:أن يعزم على أن لا يعود إليها.فإذا اجتمعت هذه الشّروط في التّوبة كانت نصوحا،و إن فقد شرط منها لم تصحّ توبته.
و إن كانت تتعلّق بآدميّ،فشروطها أربعة،هذه الثّلاثة المتقدّمة.و الرّابع:أن يبرأ من حقّ صاحبها،فان كانت المعصية مالا و نحوه ردّه إلى مالكه،و إن كانت حدّ قذف و نحوه مكّنه من نفسه أو طلب العفو منه،و إن كانت غيبة استحلّه منها.
قال العلماء:التّوبة واجبة من كلّ معصية،كبيرة أو صغيرة على الفور،و لا يجوز تأخيرها،و تجبّ من جميع الذّنوب.و إن تاب من بعضها صحّت توبته عمّا تاب منه، و بقي عليه الّذي لم يتب منه.هذا مذهب أهل السّنّة و الجماعة،و قد قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا أيّها النّاس توبوا إلى اللّه فإنّي أتوب إليه في اليوم مائة مرّة».(4:332)
نحوه المراغيّ.(28:164)
البروسويّ: [حكى بعض الأقوال المتقدّمة و قال:]
قال الشّيخ أبو عبد اللّه ابن خفيف قدّس سرّه:
طالب عباده بالتّوبة،و هو الرّجوع إليه من حيث ذهبوا عنه.و النّصوح في التّوبة:الصّدق فيها و ترك ما منه تاب سرّا و علنا،و قولا و فكرا.
و قال القاشانيّ رحمه اللّه:مراتب التّوبة كمراتب التّقوى،فكما أنّ أوّل مراتب التّقوى هو الاجتناب عن المنهيّات الشّرعيّة،و آخرها الاتّقاء عن الأنانيّة و البقيّة (1)،فكذلك التّوبة أوّلها الرّجوع عن المعاصي، و آخرها الرّجوع عن ذنب الوجود الّذي هو من أمّهات الكبائر عند أهل التّحقيق.
و في«التّأويلات النّجميّة»:يشير إلى المؤمنين الّذين لم تترسّخ أقدامهم في أرض الإيمان ترسّخ أقدام الكمّل، و يحثّهم على التّوبة إلى اللّه بالرّجوع عن الدّنيا و محبّتها، و الإقبال على اللّه و طاعته توبة بحيث ترفو جميع خروق وقعت في ثوب دينه،بسبب استيفاء اللّذّات الجسمانيّة، و استقصاء الشّهوات الحيوانيّة.
و يقال:توبة العوامّ عن الزّلاّت،و الخواصّ عن الغفلات،و الأخصّ عن رؤية الحسنات.(10:62)
الآلوسيّ: [ذكر كما تقدّم عن الزّمخشريّ و أضاف:]
الكلام في التّوبة كثير،و حيث كانت أهمّ الأوامر الإسلاميّة و أوّل المقامات الإيمانيّة و مبدأ طريق السّالكين و مفتاح باب الواصلين،لا بأس في ذكر شيءا.
ص: 132
ممّا يتعلّق بها،فنقول:
هي لغة الرّجوع،و شرعا وصفا لنا على ما قال السّعد:النّدم على المعصية لكونها معصية،لأنّ النّدم عليها بإضرارها بالبدن أو إخلالها بالعرض أو المال مثلا لا يكون توبة،و أمّا النّدم لخوف النّار أو للطّمع في الجنّة ففي كونه توبة تردّد.و مبناه على أنّ ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها و لكونها معصية أم لا؟و كذا النّدم عليها لقبحها مع غرض آخر.
و الحقّ أنّ جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقّق النّدم فتوبة،و إلاّ فلا،كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كلّ واحد منهما،و كذا في التّوبة عند مرض مخوف بناء على أنّ ذلك النّدم هل يكون لقبح المعصية بل للخوف،و ظاهر الأخبار قبول التّوبة ما لم تظهر علامات الموت،و يتحقّق أمره عادة.
و معنى النّدم تحزّن و توجّع على أن فعل و تمنّى كونه لم يفعل.و لا بدّ من هذا للقطع بأنّ مجرّد التّرك كالماجن إذا ملّ مجونه فاستروح إلى بعض المباحات،ليس بتوبة، و لقوله عليه الصّلاة و السّلام:«النّدم توبة»و قد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة.
و اعترض بأنّ فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو نحوه،و قد لا يقدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف مثلا أو جبّ في الزّنى، فلا يتصوّر العزم على التّرك لما فيه من الإشعار بالقدرة و الاختيار.
و أجيب:بأنّ المراد العزم على التّرك على تقدير الخطور و الاقتدار،حتّى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على التّرك،و بذلك يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال:
إنّ العزم على ترك المعاودة إنّما يقارن التّوبة في بعض الأحوال و لا يطّرد في كلّ حال؛إذ العزم إنّما يصحّ ممّن يتمكّن من مثل ما قدّمه،و لا يصحّ من المجبوب العزم على ترك الزّنى،و من الأخرس العزم على ترك القذف.
و قال بعض الأجلّة:التّحقيق أنّ ذكر العزم إنّما هو للبيان و التّقرير لا للتّقييد و الاحتراز؛إذ النّادم على المعصية لقبحها لا يخلو من ذلك العزم البتّة على تقدير الخطور و الاقتدار،و علامة النّدم طول الحسرة و الخوف و انسكاب الدّمع.و من الغريب ما قيل:إنّ علامة صدق النّدم عن ذنب كالزّنى:أن لا يرى في المنام أنّه يفعله اختيارا؛إذ يشعر ذلك ببقاء حبّه إيّاه و عدم انقلاع أصوله من قبله بالكلّيّة،و هو ينافي صدق النّدم.
و قال المعتزلة:يكفي في التّوبة أن يعتقد أنّه أساء و أنّه لو أمكنه ردّ تلك المعصية لردّها،و لا حاجة إلى الأسف و الحزن لإفضائه إلى التّكليف بما لا يطاق.
و قال الإمام النّوويّ: التّوبة ما استجمعت ثلاثة أمور:أن يقلع عن المعصية،و أن يندم على فعلها،و أن يعزم عزما جازما على أن لا يعود إلى مثلها أبدا.فإن كانت تتعلّق بآدميّ لزم ردّ الظّلامة إلى صاحبها أو وارثه أو تحصيل البراءة منه،و ركنها الأعظم النّدم.
و في«شرح المقاصد»قالوا:إن كانت المعصية في خالص حقّ اللّه تعالى فقد يكفي النّدم،كما في ارتكاب الفرار من الزّحف و ترك الأمر بالمعروف،و قد تفتقر إلى أمر زائد كتسليم النّفس للحدّ في الشّرب و تسليم ما وجب في ترك الزّكاة،و مثله في ترك الصّلاة.
ص: 133
و إن تعلّقت بحقوق العباد لزم مع النّدم،و العزم إيصال حقّ العبد أو بدله إليه إن كان الذّنب ظلما كما في الغصب و القتل العمد،و لزم إرشاده إن كان الذّنب إضلالا له،و الاعتذار إليه إن كان إيذاء كما في الغيبة إذا بلغته،و لا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلاّ إذا بلغه على وجه أفحش.
و التّحقيق أنّ هذا الزّائد واجب آخر خارج عن التّوبة-على ما قاله إمام الحرمين-من أنّ القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحّت توبته في حقّ اللّه تعالى،و كان منعه القصاص من مستحقّه معصية متجدّدة تستدعي توبة،و لا يقدح في التّوبة عن القتل،ثمّ قال:
و ربّما لا تصحّ التّوبة بدون الخروج من حقّ العبد كما في الغصب،ففرق بين القتل و الغصب،و وجهه لا يخفى على المتأمّل.
و لم يختلف أهل السّنّة و غيرهم في وجوب التّوبة على أرباب الكبائر،و اختلف في الدّليل،فعندنا السّمع كهذه الآية و غيرها،و حمل الأمر فيها على الرّخصة و الإيذان بقولها و دفع القنوط-كما جوّزه الآمديّ احتمالا و بنى عليه عدم الإثابة عليها-ممّا لا يكاد يقبل.و عند المعتزلة العقل.
و أوجبت الجهميّة التّوبة عن الصّغائر سمعا لا عقلا، و أهل السّنّة على ذلك.و مقتضى كلام النّوويّ، و المازريّ،و غيرهما وجوبها حال التّلبّس بالمعصية، و عبارة المازريّ:«اتّفقوا على أنّ التّوبة من جميع المعاصي واجبة،و أنّها واجبة على الفور،و لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة».
و في«شرح الجوهرة»أنّ التّمادي على الذّنب بتأخير التّوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته، و صرّحت المعتزلة بأنّها واجبة على الفور حتّى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التّوبة عنه،و ساعتين إثمان و هلمّ جرّا.بل ذكروا أنّ بتأخير التّوبة عن الكبيرة ساعة واحدة يكون له كبيرتان:المعصية،و ترك التّوبة، و ساعتين أربع:الأوليان،و ترك التّوبة على كلّ منهما، و ثلاث ساعات ثمان و هكذا،و تصحّ عن ذنب دون ذنب لتحقّق النّدم و العزم على عدم العود.و خالف أبو هاشم محتجّا بأنّ النّدم على المعصية يجب أن يكون لقبحها و هو شامل لها كلّها،فلا يتحقّق النّدم على قبيح مع الإصرار على آخر.
و أجيب بأنّ الشّامل للكلّ هو القبح لا خصوص قبح تلك المعصية،و هذا الخلاف في غير الكافر إذا أسلم و تاب من كفره مع استدامته بعض المعاصي،أمّا هو فتوبته صحيحة و إسلامه كذلك بالإجماع،و لا يعاقب إلاّ عقوبة تلك المعصية.
نعم اختلف في أنّ مجرّد إيمانه هل يعدّ توبة أم لا بدّ من النّدم على سالف كفره؟فعند الجمهور مجرّد إيمانه توبة.
و قال الإمام و القرطبيّ:لا بدّ من النّدم على سالف الكفر، و عدم اشتراط العمل الصّالح مجمع عليه عند الأئمّة، خلافا لابن حزم،و كذا تصحّ التّوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين المتوب عنه و لو لم يشقّ عليه تعيينه.
و خالف بعض المالكيّة فقال:إنّما تصحّ إجمالا ممّا علم إجمالا،و أمّا ما علم تفصيلا فلا بدّ من التّوبة منه تفصيلا.
و لا تنتقض التّوبة الشّرعيّة بالعود فلا تعود عليه ذنوبه
ص: 134
الّتي تاب منها بل العود و النّقض معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها.
و قالت المعتزلة: من شروط صحّتها أن لا يعاود الذّنب،فإن عاوده انتقضت توبته و عادت ذنوبه،لأنّ النّدم المعتبر فيها لا يتحقّق إلاّ بالاستمرار،و وافقهم القاضي أبو بكر.و الجمهور على أنّ استدامة النّدم غير واجبة بل الشّرط أن لا يطرأ عليه ما ينافيه و يدفعه،لأنّه حينئذ دائم حكما كالإيمان حال النّوم،و يلزم من اشتراط الاستدامة مزيد الحرج و المشقّة،و قال الآمديّ:يلزم أيضا اختلال الصّلوات و سائر العبادات،و يلزم أيضا أن لا يكون بتقدير عدم استدامة النّدم و تذكّره تائبا،و أن يجب عليه إعادة التّوبة و هو خلاف الإجماع.
نعم اختلف العلماء فيمن تذكر المعصية بعد التّوبة منها،هل يجب عليه أن يجدّد النّدم؟و إليه ذهب القاضي منّا،و أبو عليّ من المعتزلة زعما منهما أنّه لو لم يندم كلّما ذكرها لكان مشتهيا لها فرحا بها،و ذلك إبطال للنّدم و رجوع إلى الإصرار،و الجواب المنع إذ ربّما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها و لا اشتهاء لها و ابتهاج بها.و لو كان الأمر كما ذكر للزم أن لا تكون التّوبة السّابقة صحيحة.و قد قال القاضي نفسه:إنّه إذا لم يجدّد ندما كان ذلك معصية جديدة يجب النّدم عليها،و التّوبة الأولى مضت على صحّتها؛إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها.
و بعدم وجوب التّجديد عند ذكر المعصية صرّح إمام الحرمين،و يفهم من كلامهم أنّ محلّ الخلاف إذا لم يبتهج عند ذكر الذّنب به و يفرح و يتلذّذ بذكره أو سماعه،و إلاّ وجب التّجديد اتّفاقا.و ظاهر كلامهم أنّ المعاودة غير مبطلة و لو كانت في مجلس التّوبة بل و لو تكرّرت تكرارا يلتحق بالتّلاعب،و في هذا الأخير نظر.فقد قال القاضي عياض:«إنّ الواقع في حقّ اللّه تعالى بما هو كفر تنفعه توبته مع شديد العقاب،ليكون ذلك زجرا له و لمثله،إلاّ من تكرّر ذلك منه و عرف استهانته بما أتى به، فهو دليل على سوء طويته و كذب توبته».
و ينبغي عليه أن يقيّد ذلك بأن لا تكثر كثرة تشعر بالاستهانة و تدخل صاحبها في دائرة الجنون.
و اختلف في صحّة التّوبة الموقّتة بلا إصرار،كأن لا يلابس الذّنوب أو ذنب كذا سنة،فقيل:تصحّ،و قيل:
لا.و في«شرح الجوهرة»قياس صحّتها من بعض الذّنوب دون بعض صحّتها فيما ذكر.
ثمّ إنّ للتّوبة مراتب من أعلاها ما روي عن يعسوب المؤمنين كرّم اللّه تعالى وجهه أنّه سمع أعرابيّا يقول:اللّهمّ إنّي استغفرك و أتوب إليك،فقال:يا هذا إنّ سرعة اللّسان بالتّوبة توبة الكذّابين،فقال الأعرابيّ:
و ما التّوبة؟قال كرّم اللّه تعالى وجهه:«يجمعها ستّة أشياء:على الماضي من الذّنوب النّدامة،و للفرائض الإعادة،و ردّ المظالم،و استحلال الخصوم،و أن تعزم على أن لا تعود،و أن تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربّيتها في المعصية،و أن تذيقها مرارة الطّاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي».
و أريد بإعادة الفرائض:أن يقضي منها ما وقع في زمان معصيته كشارب الخمر يعيد صلاته قبل التّوبة لمخامرته للنّجاسة غالبا،و هذه توبة نحو الخواصّ،
ص: 135
فلا مستند في هذا الأثر لابن حزم و أضرابه،كما لا يخفى.
(28:158-160)
القاسميّ: أي توبة ترقع الخروق،و ترتق الفتوق، و تصلح الفاسد،و تسدّ الخلل،من«النّصح»بمعنى الخياطة.أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الّذي تاب عنه،و النّظر إليه بعدم الالتفات،و قطع النّظر عنه.
(16:5868)
عزّة دروزة :التّوبة الّتي ينصح الإنسان بها نفسه أي ينقذها،و هي التّوبة الّتي يندم بها صاحبها عمّا فرط منه،و يعتزم على عدم العودة.(10:150)
الطّباطبائيّ: التّوبة النّصوح:ما يصرف صاحبه عن العود إلى المعصية،أو ما يخلص العبد للرّجوع عن الذّنب فلا يرجع إلى ما تاب منه.(19:335)
عبد الكريم الخطيب :و التّوبة النّصوح:هي التّوبة الصّادرة عن قلب مفعم بالنّدم،و عن ضمير مثقل بما خالطه من إثم،و من وراء ذلك عزيمة صادقة و نيّة منعقدة على عدم العودة،لما كان منه التّوبة.
(14:1033)
فضل اللّه :و هي التّوبة الحقيقيّة الّتي تتحرّك من النّدم العميق على ما أسلفتموه من عمل لا يرضي اللّه، و من العزم الأكيد على عدم العودة إليه في المستقبل، و التّخطيط للسّير في الخطّ المستقيم في طاعة اللّه.
(22:322)
مكارم الشّيرازيّ: نعم إنّ أوّل خطوة على طريق النّجاة هي التّوبة و الإقلاع عن الذّنب،التّوبة الّتي يكون هدفها رضا اللّه و الخوف منه،التّوبة الخالصة من أيّ هدف آخر كالخوف من الآثار الاجتماعيّة و الآثار الدّنيويّة للذّنوب،و أخيرا التّوبة الّتي يفارق بها الإنسان الذّنب،و يتركه إلى الأبد.
و من المعلوم أنّ حقيقة التّوبة إنّما هي النّدم على الذّنب.و شرطها التّصميم على التّرك في المستقبل.و أمّا إذا كان العمل قابلا لأن يجبر و يعوّض فلا بدّ من الجبران و التّعويض،و التّعبير ب يُكَفِّرَ عَنْكُمْ التّحريم:8، إشارة إلى هذا المعنى.
و بناء على هذا يمكننا تلخيص أركان التّوبة بخمسة أمور:ترك الذّنب،النّدم،التّصميم على الاجتناب في المستقبل،جبران ما مضى،الاستغفار.
«نصوح»من مادّة«نصح»بمعنى طلب الخير بإخلاص،و لذلك يقال للعسل الخالص بأنّه«ناصح» و الّذي يطلب الخير حقّا يجب أن يقرن طلبه بالعزم على التّرك،و«التّوبة»تستبطن كلا المعنيين.
و أمّا حول المعنى الحقيقيّ للتّوبة النّصوح فقد وردت تفاسير مختلفة و متعدّدة حتّى قال البعض:إنّها بلغت (23)تفسيرا.غير أنّ جميع هذه التّفاسير تجتمع على محور واحد،هو حقيقة التّوبة و فروعها،و الأمور المتعلّقة بها،و شرائطها المختلفة.
من هذه التّفاسير القول:بأنّ التّوبة النّصوح يجب أن تتوفّر فيها أربعة شروط:النّدم الدّاخليّ،الاستغفار باللّسان،ترك الذّنب،و التّصميم على الاجتناب في المستقبل.
و قال البعض الآخر:بأنّها-أي التّوبة النّصوح- ذات شروط ثلاثة:الخوف من أنّها لا تقبل،و الاستمرار
ص: 136
على طاعة اللّه (1).أو أنّ التّوبة النّصوح:هو أن تكون الذّنوب دائما أمام أعين أصحابها،ليشعر الإنسان بالخجل منها.
أو أنّها تعني إرجاع المظالم و الحقوق إلى أصحابها، و طلب التّحليل،و براءة الذّمّة من المظلومين،و المداومة على طاعة اللّه.
أو هي الّتي تشتمل على أمور ثلاثة:قلّة الأكل،قلّة القول،قلّة النّوم.
أو التّوبة النّصوح:هي الّتي يرافقها بكاء العين، و اشمئزاز القلب من الذّنوب،و ما إلى ذلك من فروع التّوبة الواقعيّة،و هي التّوبة الخالصة التّامّة الكاملة.
جاء في حديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما سأله معاذ بن جبل عن«التّوبة النّصوح»أجابه قائلا:أن يتوب التّائب ثمّ لا يرجع في الذّنب،كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع».
و بهذا التّعبير اللّطيف يتّضح أنّ«التّوبة»يجب أن تحدث انقلابا في داخل النّفس الإنسانيّة،و تسدّ عليها أيّ طريق للعودة إلى الذّنب،و تجعل من الرّجوع أمرا مستحيلا،كما يستحيل إرجاع اللّبن إلى الضّرع و الثّدي.
و قد جاء هذا المعنى في روايات أخرى،و كلّها توضح الدّرجة العالية للتّوبة النّصوح،فإنّ الرّجوع ممكن في المراتب الدّنيا من التّوبة النّصوح،و تتكرّر التّوبة حتّى يصل الإنسان إلى المرحلة الّتي لا يعود بعدها إلى الذّنب.
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى آثار التّوبة الصّادقة بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ.
و هنا يتوجّهون إلى اللّه بطلب العفو: يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ التّحريم:8.
و التّوبة النّصوح لها في الحقيقة خمس ثمرات مهمّة:
الأولى:غفران الذّنوب و السّيّئات.
الثّانية:دخول الجنّة المملوءة بنعم اللّه.
الثّالثة:عدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الّذي ترتفع فيه الحجب و تظهر فيه حقائق الأشياء،و يذلّ و يفتضح الكاذبون الفجّار.نعم في ذلك اليوم سيكون للرّسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين شأن عظيم،لأنّهم لم و لن يقولوا إلاّ ما هو واقع.
الرّابع:أنّ نور إيمانهم و عملهم يتحرّك بين أيديهم، فيضيء طريقهم إلى الجنّة.و اعتبر بعض المفسّرين أنّ النّور الّذي يتحرّك أمامهم إنّما هو نور العمل،و كان لنا تفسير آخر أوردناه في ذيل الآية(12)من سورة الحديد.
الخامس:يتّجهون إلى البارئ أكثر من ذي قبل، و يرجونه تكميل نورهم،و الغفران الكامل لذنوبهم.[إلى أن قال:]
التّوبة باب إلى رحمة اللّه.
كثيرا ما تهجم على الإنسان الشّكوك و الذّنوب،!!
ص: 137
خاصّة في بدايات توجّهه إلى اللّه،و إذا أغلقت جميع أبواب العودة و الرّجوع عن هذه الذّنوب بوجهه،فإنّه سيبقى في نهجه هذا إلى الأبد،و لهذا نجد الإسلام قد فتح بابا للعودة و سمّاه التّوبة،و دعا جميع المذنبين و المقصّرين إلى دخول هذا الباب لتعويض و جبران الماضي.
يقول الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام في مناجاة التّائبين:
إلهي أنت الّذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك سمّيته التّوبة،فقلت: تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً التّحريم:8، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه!!
و قد شدّدت الرّوايات على أهمّيّة التّوبة إلى الحدّ الّذي نقرأ في الحديث عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال:«إنّ اللّه تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته و زاده في ليلة ظلماء فوجدها».
كلّ هذه الرّوايات العظيمة تحثّ و تؤكّد على هذا الأمر الحياتي المهمّ.لكن ينبغي التّأكيد على أنّ«التّوبة» ليست مجرّد لقلقة لسان،و تكرار قول«استغفر اللّه»و إنّما للتّوبة شروطا و أركانا،مرّت الإشارة إليها في تفسير التّوبة النّصوح،في الآيات السّابقة.و كلّما حصلت التّوبة بتلك الشّروط و الأركان فإنّها ستؤتي ثمارها و تعفّي آثار الذّنب في قلب الإنسان روحه تماما.و لذا ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السّلام:«التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له،و المقيم على الذّنب و هو مستغفر منه كالمستهزئ».
و قد وردت بحوث أخرى عن التّوبة في ذيل الآية (17)من سورة النّساء،و في ذيل الآية(53)من سورة الزّمر.(18:417-422)
1 و 2- إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ... النّساء:17،18
الطّبريّ: ما التّوبة على اللّه لأحد من خلقه إلاّ للّذين يعملون السّوء من المؤمنين بجهالة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، يقول:ما اللّه براجع لأحد من خلقه،إلى ما يحبّه من العفو عنه،و الصّفح عن ذنوبه الّتي سلفت عنه،إلاّ للّذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم،جهالة منهم،و هم بربّهم مؤمنون،ثمّ يراجعون طاعة اللّه و يتوبون منه،إلى ما أمرهم اللّه به من النّدم عليه و الاستغفار،و ترك العود إلى مثله،من قبل نزول الموت بهم،و ذلك هو القريب الّذي ذكره اللّه تعالى ذكره،فقال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. (4:298)
الطّوسيّ: التّوبة هي النّدم على القبيح مع العزم على ألاّ يعود إلى مثله في القبح،و في النّاس من قال:
يكفي النّدم على ما مضى من القبيح،و العزم على ألاّ يعود إلى مثله.
و الأوّل أقوى،لإجماع الأمّة على أنّها إذا حصلت على ذلك الوجه أسقطت العقاب،و إذا حصلت على الوجه الثّاني ففي سقوط العقاب عنها خلاف،و قد ذكر اللّه تعالى في هذه الآية أنّ التّوبة إنّما يقبلها ممّن يعمل
ص: 138
السّوء بجهالة[إلى أن قال:]
و ظاهر الآية يدلّ على أنّ اللّه يقبل التّوبة من جميع المعاصي كفرا كان أو قتلا أو غيرهما من المعاصي، و يقربه أيضا قوله: وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ -إلى قوله- إِلاّ مَنْ تابَ الفرقان:68-70،فاستثنى من القتل كما استثنى من الزّنى و الشّرك.و حكي عن الحسن أنّه قال:
لا يقبل اللّه توبة القاتل.
و روي أنّه إنّما قال ذلك لرجل كان عزم على قتل رجل،على أن يتوب فيما بعد،فأراد صدّه عن ذلك.
و قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ معناه أنّ اللّه يقبل توبتهم إذا تابوا و أنابوا،و قوله: مِنْ قَرِيبٍ حثّ على أنّ التّوبة يجب أن تكون عقيب المعصية،خوفا من الاخترام،و ليس المراد بذلك أنّها لو تأخّرت لما قبلت.[إلى أن قال:]
أخبر اللّه تعالى في هذه الآية أنّه لا يقبل التّوبة من الّذي يعمل المعاصي حتّى إذا حضره الموت،قال: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. و أجمع أهل التّأويل على أنّ الآية تناولت عصاة أهل الصّلاة،إلاّ ما حكي عن الرّبيع أنّه قال:إنّها في المنافقين.و هذا غلط لأنّ المنافقين كفّار،و قد بيّن اللّه الكفّار بقوله: وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ.
و قال الرّبيع أيضا:إنّ الآية منسوخة بقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ النّساء:48،و هذا خطأ،لأنّ النّسخ لا يدخل في الخبر الّذي يجري هذا المجرى.
و من جوّز العفو بلا توبة يمكنه أن يقول:إنّ التّوبة الّتي وعد اللّه بإسقاط العقاب عندها قطعا متى حصلت في هذا الوقت لا يسقط العقاب،و لا يمنع ذلك من أن يتفضّل اللّه بإسقاط العقاب ابتداء بلا توبة،كما لو خرج من دار الدّنيا من غير توبة أصلا،لم يمنع ذلك من جواز العفو عنه،فليس في الآية ما ينافي القول بجواز العفو من غير توبة.
و قال جميع المفسّرين،كابن عبّاس،و ابن عمر، و إبراهيم،و ابن زيد،و غيرهم:إنّ الّذين يحتضرون لا تقبل لهم توبة،غير أنّ الّذين يحضرون الميّت لا يعرفون تلك الحال معرفة يمكن بها الإشارة إليها.
فإن قيل:فلم لم تقبل التّوبة في الآخرة؟قيل:لرفع التّكليف و حصول الإلجاء إلى فعل الحسن دون القبيح، و الملجأ لا يستحقّ بفعله ثوابا و لا عقابا،لأنّه يجري مجرى الاضطرار.
و حكى الرّمّانيّ عن قوم أنّهم قالوا:بتكليف أهل الآخرة،و أنّ التّوبة إنّما لم يجب قبولها،لأنّ صاحبها هناك في مثل حال المتعوّذ بها،لا المخلص فيها.و هذا خطأ،لأنّ اللّه تعالى يعلم أسرارهم كما يعلم إعلانهم.(3:145)
الزّمخشريّ: (التّوبة)من تاب اللّه عليه،إذا قبل توبته و غفر له،يعني إنّما القبول و الغفران واجب على اللّه تعالى لهؤلاء.[إلى أن قال:]
فإن قلت:ما معنى(من)في قوله:من قريب)؟
قلت:معناه التّبعيض،أي يتوبون بعض زمان قريب،كأنّه سمّي ما بين وجود المعصية و بين حضرة الموت زمانا قريبا،ففي أيّ جزء تاب من أجزاء الزّمان فهو تائب من قريب،و إلاّ فهو تائب من بعيد.
ص: 139
فإن قلت:ما فائدة قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لهم؟
قلت:قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ إعلام بوجوبها عليه،كما يجب على العبد بعض الطّاعات، و قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ عدة بأنّه يفي بما وجب عليه،و إعلام بأنّ الغفران كائن لا محالة،كما يعد العبد الوفاء بالواجب، وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عطف على اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ سوّى بين الّذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت و بين الّذين ماتوا على الكفر في أنّه لا توبة لهم لأنّ حضرة الموت أوّل أحوال الآخرة، فكما أنّ المائت على الكفر قد فاتته التّوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت،لمجاوزة كلّ واحد منهما أوان التّكليف و الاختيار.(1:512)
نحوه القرطبيّ(5:90)،و الشّربينيّ(1:281)، و النّسفيّ(1:214).
ابن عطيّة: (انّما)حاصرة،و هو مقصد المتكلّم بها أبدا،فقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر،كقوله تعالى: إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ النّساء:
171،و قد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر،كقوله:إنّما الشّجاع عنترة،فيبقى الحصر في مقصد المادح،و يتحصّل من ذلك لكلّ سامع تحقيق هذه الصّفة للموصوف بمبالغة.و هذه الآية ممّا يوجب النّظر فيها أنّها حاصرة،و هي في عرف الشّرع:الرّجوع من شرّ إلى خير.
و حدّ التّوبة:النّدم على فارط فعل،من حيث هو معصية اللّه عزّ و جلّ،و إن كان النّدم من حيث أضرّ ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة،فإن كان ذلك الفعل ممّا يمكن هذا النّادم فعله في المستأنف فمن شروط التّوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف،و إلاّ فثمّ إصرار لا توبة معه،و إن كان ذلك الفعل لا يمكنه،مثل أن يتوب من الزّنى فيجبّ بأثر ذلك و نحو ذلك،فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على التّرك.
و التّوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمّة،و الإجماع هي القرينة الّتي حمل بها قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً النّور:31،على الوجوب.
و تصحّ التّوبة من ذنب من الإقامة على غيره من غير نوعه،خلافا للمعتزلة في قولهم:لا يكون تائبا من أقام على ذنب،و تصحّ التّوبة و إن نقضها التّائب في ثاني حال بمعاودة الذّنب،فإنّ التّوبة الأولى طاعة قد انقضت و صحّت،و هو محتاج بعد موافقة الذّنب إلى توبة أخرى مستأنفة.و الإيمان للكافر ليس نفس توبته،و إنّما توبته ندمه على سالف كفره.
و قوله تعالى:(على اللّه)فيه حذف مضاف،تقديره:
على فضل اللّه و رحمته لعباده،و هذا نحو قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لمعاذ بن جبل:«يا معاذ أ تدري ما حقّ اللّه على العباد؟ قال:اللّه و رسوله أعلم،قال:أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا،ثمّ سكت قليلا،ثمّ قال:يا معاذ أ تدري ما حقّ العباد على اللّه؟قال:اللّه و رسوله أعلم،قال:أن يدخلهم الجنّة».فهذا كلّه إنّما معناه:ما حقّهم على فضل اللّه و رحمته.
و العقيدة:أنّه لا يجب على اللّه تعالى شيء عقلا، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي
ص: 140
وجوب تلك الأشياء سمعا،فمن ذلك تخليد الكفّار في النّار،و من ذلك قبول إيمان الكافر،و التّوبة لا يجب قبولها على اللّه تعالى عقلا،فأمّا السّمع فظاهره قبول توبة التّائب.قال أبو المعالي و غيره:فهذه الظّواهر إنّما تعطي غلبة ظنّ لا قطعا على اللّه بقبول التّوبة.
و قد خولف أبو المعالي و غيره في هذا المعنى،فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامّة الشّروط،فقول أبي المعالي يغلب على الظنّ قبول توبته،و قال غيره:
يقطع على اللّه تعالى بقبول توبته،كما أخبر عن نفسه عزّ و جلّ.
و كان أبي رحمة اللّه عليه يميل إلى هذا القول و يرجّحه،و به أقول،و اللّه تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التّائب المفروض معنى قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الشّورى:25،و قوله:
وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ طه:82.[ثمّ ذكر معنى الجهالة و قال:]
فابن عبّاس رضي اللّه عنه ذكر أحسن أوقات التّوبة،و الجمهور حدّدوا آخر وقتها،و قال إبراهيم النّخعي:كان يقال:التّوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه،و روى بشير بن كعب و الحسن أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«إنّ اللّه تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر و يغلب على عقله».لأنّ الرّجاء فيه باق و يصحّ منه النّدم و العزم على ترك الفعل في المستأنف،فإذا غلب تعذّرت التّوبة،لعدم النّدم و العزم على التّرك.
و قوله تعالى:(من قريب)إنّما معناه:من قريب إلى وقت الذّنب،و مدّة الحياة كلّها قريب،و المبادر في الصّحّة أفضل،و ألحق لأمله من العمل الصّالح،و البعد كلّ البعد الموت.
و قوله تعالى: وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي بمن يتوب و ييسّره هو للتّوبة حكيما فيما ينفذه من ذلك، و في تأخير من يؤخّر حتّى يهلك.
ثمّ نفى بقوله تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ أن يدخل في حكم التّائبين من حضره موته و صار في حيّز اليأس، و حضور الموت هو غاية قربه،كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء و الغرق،فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، و بهذا قال ابن عبّاس و ابن زيد و جماعة المفسّرين، و قال الرّبيع:الآية الأولى قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ هي في المؤمنين،و الآية الثّانية قوله: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية،نزلت في المسلمين ثمّ نسخت بقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ النّساء:48،116،فحتّم أن لا يغفر للكافر، و أرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة.
و طعن بعض النّاس في هذا القول بأنّ الآية خبر، و الأخبار لا تنسخ.و هذا غير لازم،لأنّ الآية لفظها الخبر،و معناه تقرير حكم شرعيّ فهي نحو قوله تعالى:
وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ البقرة:284،و نحو قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الأنفال:65،و إنّما يضعف القول بالنّسخ من حيث تنبني الآيتان و لا يحتاج إلى تقرير نسخ،لأنّ هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الّذي لم يتب من قريب،فنحتاج أن نقول:إنّ قوله: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ النّساء:48،نسخها و إنّما نفت هذه الآية
ص: 141
أن يكون تائبا،من لم يتب إلاّ مع حضور الموت.
فالعقيدة عندي في هذه الآيات:أنّ من تاب من قريب فله حكم التّائب،فيغلب الظّنّ عليه أنّه ينعم و لا يعذّب،و هذا مذهب أبي المعالي و غيره.و قال غيرهم:بل هو مغفور له قطعا،لإخبار اللّه تعالى بذلك، و أبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة.
و من لم يتب حتّى حضره الموت فليس في حكم التّائبين،فإن كان كافرا فهو يخلّد،و إن كان مؤمنا فهو عاص في المشيئة،لكن يغلب الخوف عليه،و يقوى الظّنّ في تعذيبه،و يقطع من جهة السّمع أنّ من هذه الصّنيفة من يغفر اللّه له تعالى تفضّلا منه و لا يعذّبه.
و أعلم اللّه تعالى أيضا أنّ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ، فلا مستعتب لهم و لا توبة في الآخرة.(2:23)
الطّبرسيّ: لمّا وصف تعالى نفسه بالتّوّاب الرّحيم، بيّن عقيبه شرائط التّوبة،فقال:(انّما التّوبة)،و لفظة (انّما)يتضمّن النّفي و الإثبات،فمعناه لا توبة مقبولة(على اللّه)أي عند اللّه إلاّ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. [ثمّ ذكر معنى الجهالة و قال:]
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ التّوبة المقبولة الّتي ينتفع بها صاحبها، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي المعاصي و يصرّون عليها و يسوّفون التّوبة، حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي أسباب الموت من معاينة ملك الموت و انقطع الرّجاء عن الحياة،و هو حال اليأس الّتي لا يعلمها أحد غير المحتضر،قال: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أي فليس عند ذلك اليأس التّوبة.
و أجمع أهل التّأويل على أنّ هذه قد تناولت عصاة أهل الإسلام إلاّ ما روي عن الرّبيع أنّه قال:إنّها في المنافقين.و هذا لا يصحّ لأنّ المنافقين من جملة الكفّار، و قد بيّن الكفّار بقوله: وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ و معناه و ليست التّوبة أيضا للّذين يموتون على الكفر ثمّ يندمون بعد الموت.(2:22)
العكبريّ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ مبتدأ،و في الخبر وجهان:
أحدهما:هو(على اللّه)أي ثابتة على اللّه،فعلى هذا يكون لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ حالا من الضّمير في الظّرف،و هو قوله:(على اللّه)و العامل فيها الظّرف أو الاستقرار،أي كائنة(للّذين).و لا يجوز أن يكون العامل في الحال التّوبة:136،لأنّه قد فصل بينهما بالجارّ.
و الوجه الثّاني:أن يكون الخبر لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ و أمّا(على اللّه)فيكون حالا من شيء محذوف،تقديره:
إنّما التّوبة إذ كانت على اللّه،أو إذا كانت على اللّه،ف«إذ أو إذا»ظرفان،العامل فيهما«الّذين يعملون السّوء»، لأنّ الظّرف يعمل فيه المعنى و إن تقدّم عليه.و(كان) التّامّة،و صاحب الحال ضمير الفاعل في(كان).
و لا يجوز أن يكون(على اللّه)حالا يعمل فيها (الّذين)لأنّه عامل معنويّ،و الحال لا يتقدّم على المعنويّ،و نظير هذه المسألة قولهم:هذا بسرا أطيب منه رطبا.(1:339)
الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الأولى أنّ المرتكبين للفاحشة إذا تابا و أصلحا زال الأذى عنهما،و أخبر على الإطلاق أيضا أنّه توّاب رحيم،ذكر وقت التّوبة و شرطها،و رغّبهم في تعجيلها
ص: 142
لئلاّ يأتيهم الموت و هم مصرّون فلا تنفعهم التّوبة،و في الآية مسائل:
المسألة الأولى:أمّا حقيقة التّوبة فقد ذكرناها في سورة البقرة:37،في تفسير قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ، و احتجّ القاضي على أنّه يجب على اللّه عقلا قبول التّوبة بهذه الآية من وجهين:
الأوّل:أنّ كلمة(على)للوجوب،فقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يدلّ على أنّه يجب على اللّه عقلا قبولها.
الثّاني:لو حملنا قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ على مجرّد القبول لم يبق بينه و بين قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ فرق،لأنّ هذا أيضا إخبار عن الوقوع،أمّا إذا حملنا ذلك على وجوب القبول و هذا على الوقوع،يظهر الفرق بين الآيتين،و لا يلزم التّكرار.
و اعلم أنّ القول بالوجوب على اللّه باطل،و يدلّ عليه وجوه:
الأوّل:أنّ لازمة الوجوب استحقاق الذّمّ عند التّرك.فهذه اللاّزمة إمّا أن تكون ممتنعة الثّبوت في حقّ اللّه تعالى،أو غير ممتنعة في حقّه،و الأوّل باطل لأنّ ترك ذلك الواجب لمّا كان مستلزما لهذا الذّمّ،و هذا الذّمّ محال الثّبوت في حقّ اللّه تعالى،وجب أن يكون ذلك التّرك ممتنع الثّبوت في حقّ اللّه،و إذا كان التّرك ممتنع الثّبوت عقلا كان الفعل واجب الثّبوت،فحينئذ يكون اللّه تعالى موجبا بالذّات لا فاعلا بالاختيار،و ذلك باطل.
و أمّا إن كان استحقاق الذّمّ غير ممتنع الحصول في حقّ اللّه تعالى،فكلّ ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال،فيلزم جواز أن يكون الإله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذّمّ،و ذلك محال لا يقوله عاقل،و لمّا بطل هذان القسمان ثبت أنّ القول بالوجوب على اللّه تعالى باطل.
الحجّة الثّانية:أنّ قادريّة العبد بالنّسبة إلى فعل التّوبة و تركها إمّا أن يكون على السّويّة،أو لا يكون على السّويّة،فإن كان على السّويّة لم يترجّح فعل التّوبة على تركها إلاّ لمرجّح،ثمّ ذلك المرجّح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصّانع،و إن حدث عن العبد عاد التّقسيم،و إن حدث عن اللّه فحينئذ العبد إنّما أقدم على التّوبة بمعونة اللّه و تقويته،فتكون تلك التّوبة إنعاما من اللّه تعالى على عبده،و إنعام المولى على عبده لا يوجب عليه أن ينعم عليه مرّة أخرى؛فثبت أنّ صدور التّوبة عن العبد لا يوجب على اللّه القبول،و أمّا إن كانت قادريّة العبد لا تصلح للتّرك و الفعل فحينئذ يكون الجبر ألزم،و إذا كان كذلك كان القول بالوجوب أظهر بطلانا و فسادا.
الحجّة الثّالثة:التّوبة عبارة عن النّدم على ما مضى و العزم على التّرك في المستقبل،و النّدم و العزم من باب الكراهات و الإرادات و الكراهة و الإرادة لا يحصلان باختيار العبد،و إلاّ افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى و لزم التّسلسل.و إذا كان كذلك كان حصول هذا النّدم و هذا العزم بمحض تخليق اللّه تعالى،و فعل اللّه لا يوجب على اللّه فعلا آخر؛فثبت أنّ القول بالوجوب باطل.
الحجّة الرّابعة:أنّ التّوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم،فلو صار ذلك علّة للوجوب على اللّه لصار فعل العبد مؤثّرا في ذات اللّه و في صفاته،و ذلك لا يقوله
ص: 143
عاقل.
فأمّا الجواب عمّا احتجّوا به،فهو أنّه تعالى وعد قبول التّوبة من المؤمنين،فإذا وعد اللّه بشيء و كان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب.فبهذا التّأويل صحّ إطلاق كلمة(على)و بهذا الطّريق ظهر الفرق بين قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ و بين قوله:
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ.
إن قيل:فلمّا أخبر عن قبول التّوبة و كلّ ما أخبر اللّه عن وقوعه كان واجب الوقوع،فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا.
قلنا:الإخبار عن الوقوع تبع للوقوع،و الوقوع تبع للإيقاع،و التّبع لا يغيّر الأصل،فكان فاعلا مختارا في ذلك الإيقاع.أمّا أنتم تقولون:بأنّ وقوع التّوبة من حيث أنّها هي تؤثّر في وجوب القبول على اللّه تعالى،و ذلك لا يقوله عاقل،فظهر الفرق.
المسألة الثّانية:أنّه تعالى شرط قبول هذه التّوبة بشرطين:
أحدهما قوله: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ و فيه سؤالان:
أحدهما:أنّ من عمل ذنبا و لم يعلم أنّه ذنب لم يستحقّ عقابا،لأنّ الخطأ مرفوع عن هذه الأمّة،فعلى هذا:الّذين يعملون السّوء بجهالة فلا حاجة بهم إلى التّوبة.
و السّؤال الثّاني:أنّ كلمة(انّما)للحصر،فظاهر هذه الآية يقتضي أنّ من أقدم على السّوء مع العلم بكونه سوء أن لا تكون توبته مقبولة،و ذلك بالإجماع باطل.
و الجواب عن السّؤال الأوّل:أنّ اليهوديّ اختار اليهوديّة،و هو لا يعلم كونها ذنبا مع أنّه يستحقّ العقاب عليها.
و الجواب عن السّؤال الثّاني:أنّ من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية،يكون حاله أخفّ ممّن أتى بها مع العلم بكونها معصية،و إذا كان كذلك لا جرم خصّ القسم الأوّل بوجوب قبول التّوبة وجوبا على سبيل الوعد و الكرم.و أمّا القسم الثّاني فلمّا كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التّأكيد في قبول التّوبة،فتكون هذه الآية دالّة من هذا الوجه على أنّ قبول التّوبة غير واجب على اللّه تعالى.[ثمّ ذكر معنى الجهالة إلى أن قال:]
و أمّا الشّرط الثّاني فهو قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ و قد أجمعوا على أنّ المراد من هذا القرب حضور زمان الموت و معاينة أهواله،و إنّما سمّى تعالى هذه المدّة قريبة لوجوه:
أحدها:أنّ الأجل آت و كلّ ما هو آت قريب.
و ثانيها:للتّنبيه على أنّ مدّة عمر الإنسان و إن طالت فهي قليلة قريبة،فإنّها محفوفة بطرفي الأزل و الأبد،فإذا قسّمت مدّة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم.
و ثالثها:أنّ الإنسان يتوقّع في كلّ لحظة نزول الموت به،و ما هذا حاله فإنّه يوصف بالقرب.
فإن قيل:ما معنى(من)في قوله:(من قريب)؟
الجواب:أنّه لابتداء الغاية،أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية،لئلاّ يقع في زمرة المصرّين،فأمّا من تاب بعد المعصية بزمان بعيد و قبل الموت بزمان بعيد،
ص: 144
فإنّه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم قبول التّوبة على اللّه،بقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ، و بقوله:
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ. و من لم تقع توبته على هذا الوجه،فإنّه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة (عسى)في قوله: عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، و لا شكّ أنّ بين الدّرجتين من التّفاوت ما لا يخفى.
و قيل:معناه التّبعيض،أي يتوبون بعض زمان قريب،كأنّه تعالى سمّى ما بين وجود المعصية و بين حضور الموت زمانا قريبا،ففي أيّ جزء من أجزاء هذا الزّمان أتى بالتّوبة فهو تائب من قريب،و إلاّ فهو تائب من بعيد.
و اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر هذين الشّرطين قال:
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ، فإن قيل:فما فائدة قوله:
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ؟
قلنا:فيه وجهان:
الأوّل:أنّ قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ إعلام بأنّه يجب على اللّه قبولها،وجوب الكرم و الفضل و الإحسان،لا وجوب الاستحقاق،و قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ إخبار بأنّه سيفعل ذلك.
و الثّاني:أنّ قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ يعني إنّما الهداية إلى التّوبة و الإرشاد إليها و الإعانة عليها على اللّه تعالى في حقّ من أتى بالذّنب على سبيل الجهالة،ثمّ تاب عنها عن قريب و ترك الإصرار عليها و أتى بالاستغفار عنها.ثمّ قال: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ يعني أنّ العبد الّذي هذا شأنه إذا أتى بالتّوبة قبلها اللّه منه،فالمراد بالأوّل:التّوفيق على التّوبة،و بالثّاني:قبول التّوبة.
ثمّ قال: وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي و كان اللّه عليما بأنّه إنّما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشّهوة و الغضب و الجهالة عليه.حكيما بأنّ العبد لمّا كان من صفته ذلك،ثمّ إنّه تاب عنها من قريب،فإنّه يجب في الكرم قبول توبته.
قوله تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر شرائط التّوبة المقبولة أردفها بشرح التّوبة الّتي لا تكون مقبولة،و في الآية مسائل:
المسألة الأولى:الآية دالّة على أنّ من حضره الموت و شاهد أهواله فإن توبته غير مقبولة،و هذه المسألة مشتملة على بحثين:
البحث الأوّل:الّذي يدلّ على أنّ توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه:
الأوّل:هذه الآية و هي صريحة في المطلوب.
الثّاني:قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا المؤمن:85.
الثّالث:قال في صفة فرعون: حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس:90،91،فلم يقبل اللّه توبته عند مشاهدة العذاب،و لو أنّه أتى بذلك الإيمان قبل تلك السّاعة بلحظة لكان مقبولا.
ص: 145
الرّابع:قوله تعالى: حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها المؤمنون:99،100.
الخامس:قوله تعالى: وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ* وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها المنافقون:10،11، فأخبر تعالى في هذه الآيات أنّ التّوبة لا تقبل عند حضور الموت.
السّادس:روى أبو أيّوب عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّ اللّه تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر،أي ما لم تتردّد الرّوح في حلقه،و عن عطاء:و لو قبل موته بفواق النّاقة.و عن الحسن:إنّ إبليس قال حين أهبط إلى الأرض:و عزّتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده،فقال:و عزّتي لا أغلق عليه باب التّوبة ما لم يغرغر.
و اعلم أنّ قوله: حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي علامات نزول الموت و قربه،و هو كقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ البقرة:180.
البحث الثّاني:قال المحقّقون:قرب الموت لا يمنع من قبول التّوبة،بل المانع من قبول التّوبة مشاهدة الأحوال الّتي عندها يحصل العلم باللّه تعالى على سبيل الاضطرار.
و إنّما قلنا:إنّ نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التّوبة لوجوه:
الاوّل:أنّ جماعة أماتهم اللّه تعالى ثمّ أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل،و مثل أولاد أيّوب عليه السّلام،ثمّ إنّه تعالى كلّفهم بعد ذلك الإحياء،فدلّ هذا على أنّ مشاهدة الموت لا تخلّ بالتّكليف.
الثّاني:أنّ الشّدائد الّتي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشّدائد الحاصلة عند القولنج،و مثل الشّدائد الّتي تلقاها المرأة عند الطّلق أو أزيد منها،فإذا لم تكن هذه الشّدائد مانعة من بقاء التّكليف فكذا القول في تلك الشّدائد.
الثّالث:أنّ عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشدّ،و هو تعالى يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ النّمل:62،فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التّوبة أولى من أن يكون سببا لعدم قبول التّوبة؛فثبت بهذه الوجوه أنّ نفس القرب من الموت و نفس تزايد الآلام و المشاقّ،لا يجوز أن يكون مانعا من قبول التّوبة.
و نقول:المانع من قبول التّوبة أنّ الإنسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا و أهوالا صارت معرفته باللّه ضروريّة عند مشاهدته تلك الأهوال.و متى صارت معرفته باللّه ضروريّة سقط التّكليف عنه، أ لا ترى أنّ أهل الآخرة لمّا صارت معارفهم ضروريّة سقط التّكليف عنهم،و إن لم يكن هناك موت و لا عقاب،لانّ توبتهم عند الحشر و الحساب و قبل دخول النّار،لا تكون مقبولة.
و اعلم أنّ هاهنا بحثا عميقا أصوليّا؛و ذلك لأنّ أهل القيامة لا يشاهدون إلاّ أنّهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا،و يشاهدون أيضا النّار العظيمة و أصناف الأهوال،و كلّ ذلك لا يوجب أن يصير العلم باللّه ضروريّا،لأنّ العلم بأنّ حصول الحياة بعد أن كانت
ص: 146
معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظريّ عند أكثر شيوخ المعتزلة،و بتقدير أن يقال:هذا العلم ضروريّ لكنّ العلم بأنّ الإحياء لا يصحّ من غير اللّه لا شكّ أنّه نظريّ، و أمّا العلم بأنّ فاعل تلك النّيران العظيمة ليس إلاّ اللّه، فهذا أيضا استدلاليّ.
فكيف يمكن ادّعاء أنّ أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون اللّه بالضّرورة،ثمّ هب أنّ الأمر كذلك، فلم قلتم:بأنّ العلم باللّه إذا كان ضروريّا منع من صحّة التّكليف،و ذلك أنّ العبد مع علمه الضّروريّ بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنّه كريم،و أنّه لا ينفعه طاعة العبد و لا يضرّه ذنبه.و إذا كان الأمر كذلك،فلم قالوا:بأنّ هذا يوجب زوال التّكليف؟
و أيضا فهذا الّذي يقوله هؤلاء المعتزلة:من أنّ العلم باللّه في دار التّكليف يجب أن يكون نظريّا،فإذا صار ضروريّا سقط التّكليف.كلام ضعيف،لأنّ من حصل في قلبه العلم باللّه إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه،فهذا يكون ظنّا لا علما،و إن لم يكن تجويز نقيضه قائما،امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه و آكد منه.
و على هذا التّقدير لا يبقى البتّة فرق بين العلم الضّروريّ و بين العلم النّظريّ؛فثبت أنّ هذه الأشياء الّتي تذكرها المعتزلة كلمات ضعيفة واهية،و أنّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد،فهو بفضله وعد بقبول التّوبة في بعض الأوقات،و بعد له أخبر عن عدم قبول التّوبة في وقت آخر،و له أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا،و المردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ الأنبياء:23.
المسألة الثّانية:أنّه تعالى ذكر قسمين:فقال في القسم الأوّل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ و هذا مشعر بأنّ قبول توبتهم واجب، و قال في القسم الثّاني: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فهذا جزم بأنّه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء، فبقي بحكم التّقسيم العقليّ فيما بين هذين القسمين قسم ثالث،و هم الّذين لم يجزم اللّه تعالى بقبول توبتهم،و لم يجزم بردّ توبتهم.فلمّا كان القسم الأوّل:هم الّذين يعملون السّوء بجهالة،و القسم الثّاني:هم الّذين لا يتوبون إلاّ عند مشاهدة البأس،وجب أن يكون القسم المتوسّط بين هذين القسمين:هم الّذين يعملون السّوء على سبيل العمد،ثمّ يتوبون،فهؤلاء ما أخبر اللّه عنهم أنّه يقبل توبتهم،و ما أخبر عنهم أنّه يردّ توبتهم، بل تركهم في المشيئة،كما أنّه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة؛حيث قال: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ النّساء:48،116.
المسألة الثّالثة:أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ من تاب عند حضور علامات الموت و مقدّماته لا تقبل توبته قال:
وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ، و فيه وجهان:
الأوّل:معناه الّذين قرب موتهم،و المعنى أنّه كما أنّ التّوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت،كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت.
الثّاني:المراد أنّ الكفّار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم.
المسألة الرّابعة:تعلّقت الوعيديّة بهذه الآية على صحّة مذهبهم من وجهين:
ص: 147
الأوّل:قالوا:إنّه تعالى قال: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ فعطف اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ على اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ و المعطوف مغاير للمعطوف عليه،فثبت أنّ الطّائفة الأولى ليسوا من الكفّار،ثمّ إنّه تعالى قال في حقّ الكلّ:
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفّار و الفسّاق.
الثّاني:أنّه تعالى أخبر أنّه لا توبة لهم عند المعاينة، فلو كان يغفر لهم مع ترك التّوبة لم يكن لهذا الإعلام معنى.
و الجواب:أنّا قد جمعنا جملة العمومات الوعيديّة في سورة البقرة:81،في تفسير قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و أجبنا عن تمسّكهم بها،و ذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة،و لا حاجة إلى إعادتها في كلّ واحد من هذه العمومات،ثمّ نقول:الضّمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات،و أقرب المذكورات من قوله: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً هو قوله:
وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ فلم لا يجوز أن يكون قوله: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً عائدا إلى الكفّار فقط، و تحقيق الكلام فيه أنّه تعالى أخبر عن الّذين لا يتوبون إلاّ عند الموت أنّ توبتهم غير مقبولة،ثمّ ذكر الكافرين بعد ذلك،فبيّن أنّ إيمانهم عند الموت غير مقبول، و لا شكّ أنّ الكافر أقبح فعلا و أخسّ درجة عند اللّه من الفاسق،فلا بدّ و أن يخصّه بمزيد إذلال و إهانة،فجاز أن يكون قوله: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مختصّا بالكافرين،بيانا لكونهم مختصّين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة و الإذلال.
أمّا الوجه الثّاني ممّا عوّلوا عليه:فهو أنّه أخبر أنّه لا توبة عند المعاينة،و إذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب و تجويز المغفرة،و هذا لا يخلو عن نوع تخويف، و هو كقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ النّساء:48،116،على أنّ هذا تمسّك بدليل الخطاب،و المعتزلة لا يقولون به،و اللّه أعلم.
المسألة الخامسة:أنّه تعالى عطف على الّذين يتوبون عند مشاهدة الموت،الكفّار.و المعطوف مغاير للمعطوف عليه،فهذا يقتضي أنّ الفاسق من أهل الصّلاة ليس بكافر،و يبطل به قول الخوارج:إنّ الفاسق كافر، و لا يمكن أن يقال:المراد منه المنافق،لأنّ الصّحيح أنّ المنافق كافر قال تعالى: وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ المنافقون:1،و اللّه أعلم.
المسألة السّادسة:(اعتدنا)أي أعددنا و هيّأنا، و نظيره قوله تعالى في صفة نار جهنّم: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ آل عمران:131،احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ النّار مخلوقة،لأنّ العذاب الأليم ليس إلاّ نار جهنّم و برده،و قوله:(اعتدنا)إخبار عن الماضي،فهذا يدلّ على كون النّار مخلوقة من هذا الوجه،و اللّه أعلم.
(10:2-9)
البيضاويّ: أي إنّ قبول التّوبة كالمحتوم على اللّه، بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ملتبسين بها سفها،فإنّ ارتكاب
ص: 148
الذّنب سفه و تجاهل،و لذلك قيل:من عصى اللّه فهو جاهل حتّى ينزع عن جهالته ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من زمان قريب،أي قبل حضور الموت،لقوله تعالى:
حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و قوله عليه الصّلاة و السّلام:«إنّ اللّه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر».
و سمّاه قريبا،لأنّ أمد الحياة قريب،لقوله تعالى:
قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ النّساء:77،أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبّه فيطبع عليها،فيتعذّر عليهم الرّجوع.[ثمّ ذكر نحو ما تقدّم عن الزّمخشريّ و أضاف:]
و قيل:المراد بالّذين يعملون السّوء،عصاة المؤمنين و بالّذين يعملون السّيئات،المنافقون،لتضاعف كفرهم و سوء أعمالهم،و ب اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ الكفّار.(2091)
أبو حيّان :و قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ هو على حذف مضاف من المبتدإ و الخبر،و التّقدير:إنّما قبول التّوبة مترتّب على فضل اللّه،فتكون(على)باقية على بابها.
و قال الزّمخشريّ: يعني إنّما القبول و الغفران واجب على اللّه تعالى لهؤلاء،انتهى.
و هذا الّذي قاله هو على طريق المعتزلة،و الّذي نعتقده أنّ اللّه لا يجب عليه تعالى من جهة العقل.فأمّا ما ظاهره الوجوب من جهة السّمع على نفسه كتخليد الكفّار و قبول الإيمان من الكافر بشرطه،فذلك واقع قطعا.و أمّا قبول التّوبة فلا يجب على اللّه عقلا.و أمّا من جهة السّمع فتظافرت ظواهر الآي و السّنّة على قبول اللّه التّوبة،و أفادت القطع بذلك.
و قد ذهب أبو المعالي الجوينيّ و غيره إلى أنّ هذه الظّواهر إنّما تفيد غلبة الظّنّ لا القطع بقبول التّوبة،و التّوبة فرض بإجماع الأمّة،و تصحّ و إن نقضها في ثاني حال بمعاودة الذّنب،و من ذنب و إن أقام على ذنب غيره، خلافا للمعتزلة و من نحا نحوهم ممّن ينتمي إلى السّنّة،إذ ذهبوا إلى أنّه لا يكون تائبا من أقام على ذنب.و قيل:
(على)بمعنى عند،و قال الحسن:بمعنى«من».[إلى أن قال:]
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ لمّا ذكر تعالى أنّ قبول التّوبة على اللّه لمن ذكر،ذكر أنّه تعالى هو يتعطّف عليهم و يرحمهم،و لذلك اختلف متعلّقا التّوبة باختلاف المجرور،لأنّ الأوّل على اللّه،و الثّاني عليهم،ففسّر كلّ بما يناسبه و لمّا ضمّن(يتوب)معنى ما يعدّى ب«على» عدّاه ب(على)كأنّه قال:يعطف عليهم.و في(على) الأولى روعي فيها المضاف المحذوف و هو قبول.[ثمّ ذكر قول الزّمخشريّ و أضاف:]
و هو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم:إنّ اللّه يجب عليه،و تقدّم ذكر مذهبهم في ذلك.
و قال محمّد بن عمر الرّازيّ ما ملخّصه:أنّ قوله:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ إعلام بأنّه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق،«و يتوب عليهم»إخبار بأنّه سيفعل ذلك.أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التّوبة و الإرشاد،(و يتوب عليهم)بمعنى يقبل توبتهم.
(3:197)
الآلوسيّ: أي إنّ قبول التّوبة،و(على)و إن استعملت للوجوب حتّى استدلّ بذلك الواجبة عليه، فالمراد أنّه لازم متحقّق الثّبوت البتّة،بحكم سبق الوعد،
ص: 149
حتّى كأنّه من الواجبات،كما يقال:واجب الوجود.
و قيل:(على)بمعنى«من»،و قيل:هي بمعنى «عند»،و عليه الطّبرسيّ أي إنّما التّوبة عند اللّه، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أي المعصية،صغيرة كانت أو كبيرة.
(4:238)
رشيد رضا :الأستاذ الإمام:ذكر في الآية السّابقة «التّوبة»و بيّن في هذه الآية حكمها و حالها ترغيبا فيها و تنفيرا عن المعصية،بما شدّد في شرط قبولها.و فيه إرشاد لأولياء الأمر إلى الطّريق الّذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم و تأديبهم،فإنّه فرض في الآية السّابقة معاقبة أهل الفواحش،و أمر بالإعراض عمّن تاب بشرط إصلاح العمل.و كأنّ هذه الآية شرح لذلك الإصلاح،أي إن تابوا مثل هذه التّوبة،فأعرضوا عنهم و كفّوا عن عقابهم.
و يذكرون هاهنا مسألة الخلاف بين المعتزلة و أهل السّنّة في وجوب الصّلاح عليه تعالى،و القول الفصل في ذلك:أنّ قبول هذه التّوبة على اللّه تعالى ليس بإيجاب موجب له سلطة،يوجب بها على اللّه،تعالى اللّه عن ذلك،و إنّما ذلك من جملة الكمال الّذي أوجبه تعالى على نفسه بمشيئته و اختياره.
و هذه العبارة و أمثالها ممّا ظاهره وجوب بعض الأشياء على اللّه،قد جاءت على طريق العرب في التّخاطب،و لا يفهم منها إلاّ أنّ ذلك واقع ما له من دافع، و لكن بإيجاب اللّه تعالى له،و لا يمكن أن يظنّ عاقل أنّ قانونا يحكم على الألوهيّة؛فجعل الخلاف في هذه المسألة لفظيّا ظاهر لا تكلّف فيه.(4:442)
الطّباطبائيّ: مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدّمهما من الآيتين،فإنّهما قد اختتمتا بذكر«التّوبة» فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك،و هاتان الآيتان مع ذلك متضمّنتان لمعنى مستقلّ في نفسه،و هو إحدى الحقائق العالية الإسلاميّة و التّعاليم الرّاقية القرآنيّة،و هي حقيقة التّوبة و شأنها و حكمها.
قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ التّوبة هي الرّجوع،و هي رجوع من العبد إلى اللّه سبحانه بالنّدامة،و الانصراف عن الإعراض عن العبوديّة،و رجوع من اللّه إلى العبد رحمة بتوفيقه للرّجوع إلى ربّه أو بغفران ذنبه،و قد مرّ مرارا أنّ توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من اللّه سبحانه،على ما يفيده القرآن الكريم.
و ذلك أنّ التّوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوّة و الحسنات من اللّه،و القوّة للّه جميعا فمن اللّه توفيق الأسباب حتّى يتمكّن العبد من التّوبة،و يتمشّى له الانصراف عن التّوغّل في غمرات البعد و الرّجوع إلى ربّه،ثمّ إذا وفّق للتّوبة و الرّجوع احتاج في التّطهّر من هذه الألواث،و زوال هذه القذارات،و الورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربّه إليه،بالرّحمة و الحنان و العفو و المغفرة.
و هذان الرّجوعان من اللّه سبحانه هما التّوبتان الحافّتان لتوبة العبد و رجوعه،قال تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا التّوبة:118،و هذه هي التّوبة الأولى، و قال تعالى: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ البقرة:160، و هذه التّوبة الثّانية،و بين التّوبتين منه تعالى توبة العبد،
ص: 150
كما سمعت.
و أمّا قوله: عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ لفظة(على) و«اللاّم»تفيدان معنى النّفع و الضّرر،كما في قولنا:دارت الدّائرة لزيد على عمرو،و كان السّباق لفلان على فلان، و وجه إفادة(على)و«اللاّم»معنى الضّرر،و النّفع،أنّ (على)تفيد معنى الاستعلاء،و«اللاّم»معنى الملك و الاستحقاق،و لازم ذلك أنّ المعاني المتعلّقة بطرفين ينتفع بها أحدهما و يتضرّر بها الآخر،كالحرب و القتال و النّزاع و نحوها،فيكون أحدهما الغالب و الآخر المغلوب،ينطبق على الغالب منهما معنى الملك و على المغلوب معنى الاستعلاء،و كذا ما أشبه ذلك كمنى التّأثير بين المتأثّر و المؤثّر،و معنى العهد و الوعد بين المتعهّد و المتعهّد له،و الواعد و الموعود له و هكذا،فظهر أنّ كون (على)و«اللاّم»كمعنى الضّرر و النّفع،إنّما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال،لا من ناحية معنى اللّفظ.
و لمّا كان نجاح التّوبة إنّما هو لوعد وعده اللّه عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم،قال هاهنا: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فيجب عليه تعالى قبول التّوبة لعباده.لكن لا على أنّ لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلّفه بتكليف،سواء سمّي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحقّ أو شيئا آخر،تعالى عن ذلك و تقدّس،بل على أنّه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التّائب منهم و هو لا يخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التّوبة على اللّه فيما يجب،و هو أيضا معنى وجوب كلّ ما يجب على اللّه من الفعل.
و ظاهر الآية أوّلا أنّها لبيان أمر التّوبة الّتي للّه،أعني رجوعه تعالى بالرّحمة إلى عبده دون توبة العبد،و إن تبيّن بذلك أمر توبة العبد بطريق اللّزوم فإنّ توبة اللّه سبحانه إذا تمّت شرائطها لم ينفكّ ذلك من تمام شرائط توبة العبد،و هذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة اللّه سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
و ثانيا أنّها تبيّن أمر التّوبة أعمّ ممّا إذا تاب العبد من الشّرك و الكفر بالإيمان،أو تاب من المعصية إلى الطّاعة بعد الإيمان،فإنّ القرآن يسمّي الأمرين جميعا بالتّوبة، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ المؤمن:7،يريد:للّذين آمنوا بقرينة أوّل الكلام فسمّى الإيمان توبة،و قال تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ التّوبة:118.
و الدّليل على أنّ المراد هي التّوبة أعمّ من أن تكون من الشّرك أو المعصية:التّعميم الموجود في الآية التّالية:
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ إلخ فإنّها تتعرّض لحال الكافر و المؤمن معا،و على هذا فالمراد بقوله: يَعْمَلُونَ السُّوءَ ما يعمّ حال المؤمن و الكافر معا،فالكافر كالمؤمن الفاسق ممّن يعمل السّوء بجهالة،إمّا لأنّ الكفر من عمل القلب،و العمل أعمّ من عمل القلب و الجوارح، أو لأنّ الكفر لا يخلو من أعمال سيّئة من الجوارح،فالمراد من للّذين يعملون السّوء بجهالة:الكافر و الفاسق،إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية.[ثمّ ذكر معنى الجهالة و قال:]
و من هنا يظهر معنى قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ
ص: 151
قَرِيبٍ أي إنّ عامل السّوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته،ملازما لها مدى حياته،من غير رجاء في عدوله إلى التّقوى و العمل الصّالح،كما يدوم عليه المعاند اللّجوج بل يرجع عن عمله من قريب،فالمراد بالقريب:
العهد القريب أو الزّمان القريب،و هو قبل ظهور آيات الآخرة و قدوم الموت.
و كلّ معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله و وبال فعله ألزمته نفسه على النّدامة و التّبرّي من فعله،لكنّه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه و هداية فطرته،بل إنّما هي حيلة يحتالها نفسه الشّريرة للتّخلّص من وبال الفعل،و الدّليل عليه أنّه إذا اتّفق تخلّصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيّئات الأعمال،قال تعالى: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ الأنعام:28.
و الدّليل على أنّ المراد ب«القريب»في الآية،هو ما قبل ظهور آية الموت،قوله تعالى في الآية التّالية:
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ إلى قوله: قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، و على هذا يكون قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.
و يتبيّن ممّا مرّ أنّ القيدين جميعا،أعني قوله:
(بجهالة)،و قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ احتراز بأن يراد بالأوّل منهما أن لا يعمل السّوء عن عناد و استعلاء على اللّه،و بالثّاني منهما أن لا يؤخّر الإنسان التّوبة إلى حضور موته كسلا و توانيا و مماطلة؛إذ التّوبة هي رجوع العبد إلى اللّه سبحانه بالعبوديّة،فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرّجوع،و لا معنى للعبوديّة إلاّ مع الحياة الدّنيويّة الّتي هي ظرف الاختيار و موطن الطّاعة و المعصية،و مع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشّى معه طاعة أو معصية،قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً الأنعام:158،و قال تعالى:
فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ المؤمن:84،85،إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة يعود المعنى إلى أنّ اللّه سبحانه إنّما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على اللّه،بحيث يبطل منه روح الرّجوع و التّذلّل للّه،و لم يتساهل و يتسامح في أمر التّوبة تساهلا يؤدّي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
و يمكن أن يكون قوله:(بجهالة)قيدا توضيحيّا، و يكون المعنى:للّذين يعملون السّوء و لا يكون ذلك إلاّ عن جهل منهم،فإنّه مخاطرة بالنّفس و تعرّض لعذاب أليم،أو لا يكون ذلك إلاّ عن جهل منهم بكنه المعصية و ما يترتّب عليها من المحذور،و لازمه كون قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التّوبة،فإنّ من يأتي بالمعصية استكبارا و لا يخضع لسلطان الرّبوبيّة يخرج على هذا الفرض، بقوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ لا بقوله:(بجهالة)و على هذا لا يمكن الكناية بقوله:(ثمّ يتوبون)عن التّكاهل و التّواني،فافهم ذلك.و لعلّ الوجه الأوّل أوفق لظاهر الآية.
ص: 152
و قد ذكر بعضهم:أنّ المراد بقوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أن تتحقّق التّوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا،كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعدّ عرفا متّصلا به،لا أن يمتدّ إلى حين حضور الموت،كما ذكر.
و هو فاسد لإفساده معنى الآية التّالية،فإنّ الآيتين في مقام بيان ضابط كلّيّ لتوبة اللّه سبحانه،أي لقبول توبة العبد،على ما يدلّ عليه الحصر الوارد في قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ إلخ،و الآية الثّانية تبيّن الموارد الّتي لا تقبل فيها التّوبة،و لم يذكر في الآية إلاّ موردان:
هما التّوبة للمسيء المتسامح في التّوبة إلى حين حضور الموت،و التّوبة للكافر بعد الموت،و لو كان المقبول من التّوبة هو ما يعدّ عرفا قريبا متّصلا بزمان المعصية،لكان للتّوبة غير المقبولة مصاديق أخر لم تذكر في الآية.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً الإتيان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم و تعظيم أمرهم،كما يدلّ قوله: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثّانية:
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ.
و قد اختير لختم الكلام قوله: وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً دون أن يقال:و كان اللّه غفورا،رحيما، للدّلالة على أنّ فتح باب التّوبة إنّما هو لعلمه تعالى بحال العباد،و ما يؤدّيهم إليه ضعفهم و جهالتهم،و لحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النّظام و إصلاح الأمور،و هو تعالى لعلمه و حكمته لا يغرّه ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب،و لا يستزلّه مكر و لا خديعة، فعلى التّائب من العباد أن يتوب حقّ التّوبة حتّى يجيبه اللّه حقّ الإجابة.
قوله تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في عدم إعادة قوله:(على اللّه)مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التّلويح إلى انقطاع الرّحمة الخاصّة و العناية الإلهيّة عنهم،كما أنّ إيراد السّيّئات بلفظ الجمع يدلّ على العناية بإحصاء سيّئاتهم و حفظها عليهم،كما تقدّمت الإشارة إليه.
و تقييد قوله: يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ بقوله: حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ المفيد لاستمرار الفعل،إمّا لأنّ المساهلة في المبادرة إلى التّوبة و تسويفها في نفسه معصية مستمرّة متكرّرة،أو لأنّه بمنزلة المداومة على الفعل،أو لأنّ المساهلة في أمر التّوبة لا تخلو غالبا عن تكرّر معاص،مجانسة للمعصية الصّادرة أو مشابهة لها.
و في قوله: حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ دون أن يقال:حتّى إذا جاءهم الموت،دلالة على الاستهانة بالأمر و الاستحقار له،أي حتّى يكون أمر التّوبة هيّنا هذا الهوان سهلا هذه السّهولة،حتّى يعمل النّاس ما يهوونه و يختاروا ما يشاءونه و لا يبالون،و كلّما عرض لأحدهم عارض الموت قال: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فتندفع مخاطر الذّنوب و مهلكة مخالفة الأمر الإلهيّ،بمجرّد لفظ يردّده ألسنتهم،أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر.
و من هنا يظهر معنى تقييد قوله: قالَ إِنِّي تُبْتُ بقوله:(الآن)فإنّه يفيد أنّ حضور الموت و مشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول:(تبت)
ص: 153
سواء ذكره أو لم يذكره،فالمعنى:إنّي تائب لمّا شاهدت الموت الحقّ و الجزاء الحقّ.و قد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة: وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ السّجدة:12.
فهذه التّوبة لا تقبل من صاحبها،لأنّ اليأس من الحياة الدّنيا و هول المطّلع هما اللّذان أجبراه على أن يندم على فعله،و يعزم على الرّجوع إلى ربّه،و لات حين رجوع؛حيث لا حياة دنيويّة و لا خيرة عمليّة.
قوله تعالى: وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ هذا مصداق آخر لعدم قبول التّوبة،و هو الإنسان يتمادى في الكفر ثمّ يموت و هو كافر،فإنّ اللّه لا يتوب عليه،فإنّ إيمانه و هو توبته لا ينفعه يومئذ.و قد تكرّر في القرآن الكريم أنّ الكفر لا نجاة معه بعد الموت؛و أنّهم لا يجابون و إن سألوا،قال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ* خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ البقرة:160،162، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ آل عمران:91، و نفي النّاصرين نفي للشّفاعة في حقّهم،كما تقدّم في الكلام على الآية في الجزء الثّالث من الكتاب.
و تقييد الجملة بقوله:(و هم كفّار)يدلّ على التّوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار و لا تساهل،فإنّ التّوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبوديّة اختياريّة و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدّم،لكن التّوبة منه تعالى بمعنى الرّجوع بالمغفرة و الرّحمة يمكن أن يتحقّق بعد الموت لشفاعة الشّافعين.
و هذا في نفسه من الشّواهد على أنّ المراد بالآيتين:بيان حال توبة اللّه سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى اللّه إلاّ بالتّبع.
قوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً اسم الإشارة يدلّ على بعدهم من ساحة القرب و التّشريف، و الإعتاد:الإعداد أو الوعد.
التّوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التّعاليم الحقيقيّة المختصّة بهذا الكتاب السّماويّ،فإنّ التّوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهيّة كدين موسى و عيسى عليهما السّلام،لكن لا من جهة تحليل حقيقة التّوبة،و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أنّ ذلك إيمان.
حتّى أنّه يلوح من الأصول الّتي بنوا عليها الدّيانة المسيحيّة المستقلّة عدم نفع التّوبة و استحالة أن يستفيد منها الإنسان،كما يظهر ممّا أوردوه في توجيه الصّلب و الفداء،و قد تقدّم نقله في الكلام على خلقة المسيح،في الجزء الثّالث من هذا الكتاب.
هذا و قد انجرّ أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التّوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة و تتّجر بها، و كان أولياء الدّين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم.لكنّ القرآن حلّل حال الإنسان بحسب وقوع
ص: 154
الدّعوة عليه و تعلّق الهداية به،فوجده بالنّظر إلى الكمال و الكرامة و السّعادة الواجبة له في حياته الأخرويّة -عند اللّه سبحانه الّتي لا غنى له عنها في سيره الاختياريّ إلى ربّه-فقيرا كلّ الفقر في ذاته،صفر الكفّ بحسب نفسه،قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ فاطر:15،و قال: وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً الفرقان:3.
فهو واقع في مهبط الشّقاء و منحطّ البعد و منعزل المسكنة،كما يشير إليه قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ التّين:4، 5،و قوله: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا مريم:71،72،و قوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى طه:117.
و إذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة و استقراره في مستقرّ السّعادة،يتوقّف على انصرافه عمّا هو فيه من مهبط الشّقاء و منحطّ البعد،و انقلاعه عنه برجوعه إلى ربّه،و هو توبته إليه في أصل السّعادة و هو الإيمان،و في كلّ سعادة فرعيّة و هي كلّ عمل صالح،أعني التّوبة و الرّجوع عن أصل الشّقاء و هو الشّرك باللّه سبحانه، و عن فروعات الشّقاء و هي سيّئات الأعمال بعد الشّرك.
فالتّوبة بمعنى الرّجوع إلى اللّه و الانخلاع عن ألواث البعد و الشّقاء يتوقّف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان،و التّنعّم بأقسام نعم الطّاعات و القربات.
و بعبارة أخرى يتوقّف القرب من اللّه و دار كرامته على التّوبة من الشّرك و من كلّ معصية،قال تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النّور:
31،فالتّوبة بمعنى الرّجوع إلى اللّه تعمّ التّوبتين جميعا بل تعمّهما،و غيرهما،على ما سيجيء إن شاء اللّه.
ثمّ إنّ الإنسان لمّا كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا و لا سعادة قطّ إلاّ بربّه،كان محتاجا في هذا الرّجوع أيضا إلى عناية من ربّه بأمره،و إعانة منه له في شأنه، فيحتاج رجوعه إلى ربّه بالعبوديّة و المسكنة إلى رجوع من ربّه إليه بالتّوفيق و الإعانة،و هو توبة اللّه سبحانه لعبده المتقدّمة على توبة العبد إلى ربّه،كما قال تعالى:
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا التّوبة:118،و كذلك الرّجوع إلى اللّه سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذّنوب و تطهيره من القذارات و ألواث البعد،و هذه هي التّوبة الثّانية من اللّه سبحانه المتأخّرة عن توبة العبد إلى ربّه، كما قال تعالى: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ.
و إذا تأمّلت حقّ التّأمّل وجدت أنّ التّعدّد في توبة اللّه سبحانه إنّما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد،و إلاّ فهي توبة واحدة هي رجوع اللّه سبحانه إلى عبده بالرّحمة،و يكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها و بعدها،و ربّما كان مع عدم توبة من العبد،كما تقدّم استفادة ذلك من قوله: وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ و أنّ قبول الشّفاعة في حقّ العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التّوبة،و من هذا الباب قوله تعالى: وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً النّساء:27.
ص: 155
و كذلك القرب و البعد لمّا كانا نسبيّين أمكن أن يتحقّق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه و مراحله إلى بعض،و يصدق حينئذ معنى التّوبة على رجوع بعض المقرّبين من عباد اللّه الصّالحين من موقفه الّذي هو فيه إلى موقف أرفع منه و أقرب إلى ربّه،كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء و هم معصومون بنصّ كلامه،كقوله تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ البقرة:37،و قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ -إلى قوله -وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:127،128،و قوله تعالى:حكاية عن موسى عليه السّلام: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الأعراف:143،و قوله تعالى خطابا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ المؤمن:
55،و قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ التّوبة:117.
و هذه التّوبة العامّة من اللّه سبحانه هي الّتي يدلّ عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى،كقوله تعالى:
غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:3،و قوله تعالى:
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الشّورى:25،إلى غير ذلك.
فتلخّص ممّا مرّ أوّلا:أنّ نشر الرّحمة من اللّه سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه،و إزالة ظلمة المعاصي عن قلبه -سواء في ذلك الشّرك و ما دونه-توبة منه تعالى لعبده، و أنّ رجوع العبد إلى ربّه لمغفرة ذنوبه و إزالة معاصيه -سواء في ذلك الشّرك و غيره-توبة منه إلى ربّه.
و يتبيّن به أنّ من الواجب في الدّعوة الحقّة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشّرك،و تندب إلى مطلق التّوبة الشّامل للتّوبة عن الشّرك و التّوبة عن المعاصي.
و ثانيا:أنّ التّوبة من اللّه سبحانه لعبده أعمّ من المبتدئة و اللاّحقة فضل منه،كسائر النّعم الّتي يتنعّم بها خلقه من غير إلزام و إيجاب يرد عليه تعالى من غيره، و ليس معنى وجوب قبول التّوبة عليه تعالى عقلا إلاّ ما يدلّ عليه أمثال قوله تعالى: وَ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:
3،و قوله: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ النّور:31،و قوله: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ الآية، «البقرة:222،و قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ الآية،من الآيات المتضمّنة لتوصيفه تعالى بقبول التّوبة، و النّادبة إلى التّوبة،الدّاعية إلى الاستغفار و الإنابة، و غيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، و اللّه سبحانه لا يخلف الميعاد.
و من هنا يظهر أنّ اللّه سبحانه غير مجبور في قبول التّوبة،بل له الملك من غير استثناء،يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد،فله أن يقبل ما يقبل من التّوبة على ما وعد،و يردّ ما يردّ منها،كما هو ظاهر قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ آل عمران:90،و يمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً النّساء:137.
و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصّة غرق فرعون و توبته: ...حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس:90،91.
ص: 156
و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصّة غرق فرعون و توبته: ...حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس:90،91.
قال ما محصّله:إنّ الآية لا تدلّ على ردّ توبته،و ليس في القرآن أيضا ما يدلّ على هلاكه الأبديّ،و أنّه من المستبعد عند من يتأمّل سعة رحمة اللّه و سبقتها غضبه أن يجوّز عليه تعالى أنّه يردّ من التجأ إلى باب رحمته و كرامته متذلّلا مستكينا بالخيبة و اليأس.و الواحد منّا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانيّة الفطريّة،من الكرم و الجود و الرّحمة،ليرحم أمثال هذا الإنسان النّادم حقيقة على ما قدّم من سوء الفعال،فكيف بمن هو أرحم الرّاحمين و أكرم الأكرمين و غياث المستغيثين؟
و هو مدفوع بقوله تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الآية،و قد تقدّم أنّ النّدامة حينئذ ندم كاذب،يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذّنب و نزول البلاء.
و لو كان كلّ ندم توبة و كلّ توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة: وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ سبأ:33،إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا،و سؤالهم الرّجوع إلى الدّنيا ليعملوا صالحا،و الرّدّ عليهم بأنّهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و إنّهم لكاذبون.
و إيّاك أن تتوهّم أنّ الّذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التّوبة-على ما تقدّم توضيحه-تحليل ذهنيّ لا عبرة به في سوق الحقائق؛و ذلك أنّ البحث في باب السّعادة و الشّقاء و الصّلاح و الطّلاح الإنسانيّين لا ينتج غير ذلك.فإنّا إذا اعتبرنا حال الإنسان العاديّ في المجتمع على ما نراه من تأثير التّعليم و التّربية في الإنسان، وجدناه خاليا في نفسه عن الصّلاح و الطّلاح الاجتماعيّين،قابلا للأمرين جميعا،ثمّ إذا أراد أن يتحلّى بحلية الصّلاح،و يتلبّس بلباس التّقوى الاجتماعيّ لم يمكن له ذلك إلاّ بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الّذي فيه،و ذلك يحاذي التّوبة الأولى من اللّه سبحانه في باب السّعادة المعنويّة،ثمّ انتزاعه و انصراف نفسه عمّا هو فيه من رثاث الحال و قيد و التّثبّط و الإهمال،و هو توبة بمنزلة التّوبة من العبد فيما نحن فيه.ثمّ زوال هيئة الفساد و وصف الرّذالة المستولية على قلبه حتّى يستقرّ فيه وصف الكمال و نور الصّلاح،فإنّ القلب لا يسع الصّلاح و الطّلاح معا.و هذا يحاذي قبول التّوبة و المغفرة فيما نحن فيه،و كذلك يجري في مرحلة الصّلاح الاجتماعيّ الّذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدّين،في باب التّوبة من الأحكام و الآثار،جريا على الفطرة الّتي فطر اللّه النّاس عليها.
و ثالثا:أنّ التّوبة-كما يستفاد من مجموع ما تقدّم من الآيات المنقولة و غيرها-إنّما هي حقيقة ذات تأثير في النّفس الإنسانيّة،من حيث إصلاحها و إعدادها للصّلاح الإنسانيّ الّذي فيه سعادة دنياه و آخرته و بعبارة أخرى التّوبة إنّما تنفع-إذا نفعت-في إزالة السّيّئات النّفسانيّة الّتي تجرّ إلى الإنسان كلّ شقاء في حياته الأولى و الأخرى،و تمنعه من الاستقرار على أريكة السّعادة، و أمّا الأحكام الشّرعيّة و القوانين الدّينيّة فهي بحالها
ص: 157
لا ترتفع عنه بتوبة،كما لا ترتفع عنه بمعصية.
نعم ربّما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتّوبة بحسب مصالح الجعل،و هذا غير كون التّوبة رافعة لحكم من الأحكام،قال تعالى: وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً النّساء:16،و قال تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة:33، 34،إلى غير ذلك.
و رابعا:أنّ الملاك الّذي شرّعت لأجله التّوبة-على ما تبيّن ممّا تقدّم-هو التّخلّص من هلاك الذّنب و بوار المعصية،لكونها وسيلة الفلاح و مقدّمة الفوز بالسّعادة، كما يشير إليه قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النّور:31،و من فوائدها -مضافة إلى ذلك-أنّ فيها حفظا لروح الرّجاء من الانخماد و الرّكود،فإنّ الإنسان لا يستقيم سيره الحيويّ إلاّ بالخوف و الرّجاء المتعادلين،حتّى يندفع عمّا يضرّه و ينجذب إلى ما ينفعه،و لو لا ذلك لهلك،قال تعالى:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ الزّمر:53،54،و لا يزال الإنسان-على ما نعرف من غريزته-على نشاط من الرّوح الفعّالة،وجد في العزيمة و السّعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة،و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيب سعيه و يبطل أمنيّته،استولى عليه اليأس،و انسلّت به أركان عمله،و ربّما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النّجاح خائبا من الفوز و الفلاح،و التّوبة هي الدّواء الوحيد الّذي يعالج داءه،و يحيي به قلبه،و قد أشرف على الهلكة و الرّدى.
و من هنا يظهر سقوط ما ربّما يتوهّم أنّ في تشريع التّوبة و الدّعوة إليها إغراء بالمعصية،و تحريصا على ترك الطّاعة،فإنّ الإنسان إذا أيقن أنّ اللّه يقبل توبته إذا اقترف أيّ معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا،دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات اللّه، و الانغمار في لجج المعاصي و الذّنوب،فيدقّ باب كلّ معصية قاصدا أن يذنب ثمّ يتوب.
وجه سقوطه:أنّ التّوبة إنّما شرّعت-مضافا إلى توقّف التّحلّي بالكرامات على غفران الذّنوب-للتّحفّظ على صفة الرّجاء و تأثيره حسن أثره.و أمّا ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كلّ معصية بنيّة أن يعصي ثمّ يتوب،فقد فاته أنّ التّوبة بهذا النّعت لا يتحقّق معها حقيقة التّوبة،فإنّها انقلاع عن المعصية،و لا انقلاع في هذا الّذي يأتي به.و الدّليل عليه أنّه كان عازما على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد المعصية،و لا معنى للنّدامة«أعني التّوبة»قبل تحقّق الفعل،بل مجموع الفعل و التّوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصود بقصد واحد مكرا و خديعة يخدع بها ربّ العالمين، و لا يحيق المكر السّيّئ إلاّ بأهله.
و خامسا:أنّ المعصية و هي الموقف السّوء من
ص: 158
الإنسان ذو أثر سيّئ في حياته لا يتاب منها و لا يرجع عنها إلاّ مع العلم و الإيقان بمساءتها،و لا ينفكّ ذلك عن النّدم على وقوعها أوّلا،و النّدم تأثّر خاصّ باطنيّ من فعل السّيّئ.و يتوقّف على استقرار هذا،الرّجوع ببعض الأفعال الصّالحة المنافية لتلك السّيّئة،الدّالّة على الرّجوع و التّوبة ثانيا.
و إلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التّوبة،كالنّدم و الاستغفار و التّلبّس بالعمل الصّالح، و الانقلاع عن المعصية،إلى غير ذلك ممّا وردت به الأخبار،و تعرّض له كتب الأخلاق.
و سادسا:أنّ التّوبة و هي الرّجوع الاختياريّ عن السّيّئة إلى الطّاعة و العبوديّة،إنّما تتحقّق في ظرف الاختيار،و هو الحياة الدّنيا الّتي هي مستوى الاختيار.
و أمّا فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كلّ من طريقي الصّلاح و الطّلاح و السّعادة و الشّقاوة فلا مسرح للتّوبة فيه،و قد تقدّم ما يتّضح به ذلك.
و من هذا الباب التّوبة فيما يتعلّق بحقوق النّاس، فإنّها إنّما تصلح ما يتعلّق بحقوق اللّه سبحانه.و أمّا ما يتعلّق من السّيّئة بحقوق النّاس ممّا يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتّة،لأنّ اللّه سبحانه احترم النّاس بحقوق جعلها لهم في أموالهم و أعراضهم و نفوسهم،و عدّ التّعدّي الى أحدهم في شيء من ذلك ظلما و عدوانا،و حاشاه أن يسلبهم شيئا ممّا جعله لهم من غير جرم صدر منهم،فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه و يظلمهم بذلك،و قد قال عزّ من قائل: إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً يونس:44.
إلاّ أنّ الإسلام و هو التّوبة من الشّرك،يمحو كلّ سيّئة سابقة و تبعة ماضية متعلّقة بالفروع،كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام:«الإسلام يجبّ ما قبله»و به تفسّر الآيات المطلقة الدّالّة على غفران السّيّئات جميعا،كقوله تعالى:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ الزّمر:53،54.
و من هذا الباب أيضا توبة من سنّ سنّة سيّئة أو أضلّ النّاس عن سبيل الحقّ،و قد وردت الأخبار أنّ عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضلّ عن الحقّ،فإنّ حقيقة الرّجوع لا تتحقّق في أمثال هذه الموارد،لأنّ العاصي أحدث فيها حدثا،له آثار يبقى ببقائها، و لا يتمكّن من إزالتها،كما في الموارد الّتي لا تتجاوز المعصية ما بينه و بين ربّه عزّ اسمه.
و سابعا:أنّ التّوبة و إن كانت تمحو ما تمحوه من السّيّئات،كما يدلّ عليه قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ البقرة:
275،على ما تقدّم من البيان في الجزء الثّاني من هذا الكتاب،بل ظاهر قوله تعالى: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً* وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً الفرقان:70،71،و خاصّة بملاحظة الآية الثّانية أنّ التّوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان و العمل الصّالح،توجب تبدّل السّيّئات حسنات،إلاّ أنّ اتّقاء السّيّئة أفضل من اقترافها ثمّ إمحائها بالتّوبة،فإنّ اللّه سبحانه أوضح في كتابه أنّ المعاصي كيفما كانت إنّما
ص: 159
تنتهي إلى وساوس شيطانيّة نوع انتهاء،ثمّ عبّر عن المخلصين المعصومين عن زلّة المعاصي و عثرة السّيّئات بما لا يعادله كلّ مدح،ورد في غيرهم،قال تعالى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ... الحجر:39-42،و قال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصّة: وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ الأعراف:17.
فهؤلاء من النّاس مختصّون بمقام العبوديّة التّشريفيّة،اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصّالحين التّائبين.(4:237-251)
محمّد جواد مغنية:(إنّما التّوبة)الأصل إنّما قبول التّوبة،لأنّ على الإنسان التّوبة،و على اللّه القبول،ثمّ حذف و أقيم المضاف إليه مقامه،و هو مبتدأ و ما بعده خبر،و(بجهالة)في موضع الحال،أي جاهلين، وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ في محلّ جرّ عطفا على قوله: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ.
المعنى:السّوء:العمل القبيح،و الجهالة:السّفاهة بترك الهدى إلى الضّلال،و المراد بالتّوبة عن قريب:أن يتوب المذنب قبل أن يساق إلى الموت،لأنّ الموت آت لا ريب فيه،و كلّ آت قريب.أمّا قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ فهو على حذف مضاف،كما بيّنّا في فقرة الإعراب،أي قبول التّوبة عليه جلّ و علا،و المعنى المحصّل أنّ من أساء ثمّ ندم و أناب،يقبل اللّه إنابته، و يصفح عنه،حتّى كأنّه لا ذنب له،بل إنّ اللّه سبحانه يثيبه ثوابا حسنا.
و تسأل:أنّ ظاهر الآية يدلّ على أنّه يجب على اللّه أن يقبل التّوبة من النّادمين،مع العلم بأنّ اللّه يوجب على غيره ما يشاء،و لا يوجب أحد عليه شيئا؛إذ ليس كمثله شيء.
الجواب:ليس المراد أنّ الغير يوجب على اللّه أن يقبل التّوبة-تعالى اللّه-و إنّما المراد أنّ فضله و كرمه يستوجب هذا القبول تماما،كما تقول للكريم:إنّ كرمك يفرض عليك البذل و العطاء،و من ذلك قوله تعالى:
كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الأنعام:12.
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ ما داموا راغبين رغبة حقيقيّة في العودة إلى صفوف المؤمنين الأخيار، وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً عليم بالتّوبة النّصوحة و الزّائفة، حكيم بقبول الأولى من التّائب.
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية.أنّ اللّه يقبل من تاب إليه،على شريطة أن يتوب قبل أن تظهر له أمارات الموت.أمّا من تاب،و هو يساق إلى القبر فلا تقبل توبته، لأنّها توبة العاجز،عمّا يئس من نواله.
و تسأل:و ما ذا أنت صانع بما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله«من تاب قبل موته بساعة تاب اللّه عليه،و أنّ السّاعة لكثير،من تاب،و قد بلغت الرّوح هذه-مشيرا إلى حلقه-تاب اللّه عليه»؟
الجواب:في هذه الرّواية نظر،لأمور:
الأوّل:أنّها تخالف كتاب اللّه،و قد ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«قد كثرت عليّ الكذّابة في حياتي، و ستكثر بعد وفاتي،فمن كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من
ص: 160
النّار،فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فلا تأخذوا به»،و من أجل هذا لا نأخذ بحديث قبول التّوبة إذا بلغت الرّوح الحلقوم.
و غير بعيد أنّ حكّام الجور في عهد الأمويّين و العبّاسيّين قد أوعزوا إلى بعض أذنابهم أن يضع لهم هذا الحديث،ليحتجّوا به أمام المحكومين بأنّ لهم مندوحة عند اللّه،مهما جاروا و أفسدوا.فلقد كان لكلّ حاكم منهم حزمة من فقهاء السّوء يبرّرون أعمالهم،و يكيّفون الدين طبقا لأهواء الشّياطين.
الأمر الثّاني:أنّ قبول التّوبة عند الموت إغراء بارتكاب الذّنب و المعصية،و هذا من عمل الشّيطان، لا من عمل الرّحمن.
الأمر الثّالث:أنّ اللّه سبحانه إنّما يقبل العمل من العامل إذا صدر منه عن إرادة و حرّيّة كاملة.و بديهة أنّ الإنسان إنّما يكون حرّا بالنّسبة إلى العمل إذا كان قادرا على فعله و تركه معا،أمّا إذا قدر على الفعل دون التّرك، أو على التّرك دون الفعل فإنّه يكون مسيّرا لا مخيّرا،و من هذا الباب التّوبة عند الموت؛إذ المفروض أنّ التّائب في هذه الحال يعجز عن اقتراف الذّنب و المعصية تماما،كما يعجز عنها من يقول غدا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنّا مُؤْمِنُونَ الدّخان:12.
فإن قبل اللّه التّوبة ممّن يساق إلى القبر،فينبغي أن يقبلها ممّن يعذّب في النّار.و الفرق تحكّم،و لذا سوّى اللّه بينهما،و عطف أحدهما على الآخر؛حيث قال: وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ أي إنّ اللّه سبحانه لا يقبل التّوبة أيضا من الّذين يموتون على الكفر،و لا يندمون إلاّ حين يرون العذاب يوم القيامة،بل لا يقبلها منهم،و هم في طريقهم إلى هذا اليوم،كما دلّت الآية(99،100)من سورة المؤمنون: حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
أجل،يجوز في نظر العقل أن يعفو جلّ و عزّ و يصفح عن المذنبين،و إن لم يتوبوا تفضّلا منه و كرما،و لكن هذا شيء و قبول التّوبة عند الموت شيء آخر.
التّوبة فرع عن وجود الذّنب،لأنّها طلب للصّفح عنه،و لا يخلو الإنسان من ذنب ما كبيرا كان أو صغيرا إلاّ من عصم اللّه،و قد نسب إلى الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قوله:
إن تغفر اللّهمّ تغفر جمّا و أيّ عبد لك ما ألمّا
و قد أوجب سبحانه التّوبة على من أذنب تماما،كما أوجب الصّوم و الصّلاة،و من الآيات الدّالّة على وجوبها هذه الآية: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ، و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً التّحريم:8،و قوله: وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً هود:3،و قوله: وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ الحجرات:11.
و الحقيقة أنّ وجوب التّوبة لا يحتاج إلى دليل،لأنّه من القضايا الّتي تحمل دليلها معها،فكلّ إنسان يدرك بفطرته أنّ على المسيء أن يعتذر عن إساءته،و يطلب الصّفح ممّن أساء إليه،و قد جرى على ذلك عرف الدّول
ص: 161
و الشّعوب،حتّى و لو حصل التّعدّي خطأ،و من غير قصد.فإذا اخترقت طائرة دولة أجواء دولة أخرى،أو تجاوز زورق من زوارقها المياه الإقليميّة دون إذن سابق،وجب أن تعلن اعتذارها،و إلاّ أدانها العرف و القانون.إذن كلّ آية أو رواية دلّت على وجوب التّوبة فهي تقرير و تعبير عن حكم الفطرة،و ليست تأسيسا و تشريعا جديدا لوجوب التّوبة.
و على هذا فمن أذنب و لم يتب،فقد أساء مرّتين:مرّة على فعل الذّنب،و مرّة على ترك التّوبة،و أسوأ حالا ممّن ترك التّوبة من فسخها،و عاد إلى الذّنب بعد أن عاهد اللّه على الوفاء بالطّاعة و الامتثال،قال تعالى: عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَ اللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ المائدة:95.و في الحديث:«المقيم على الذّنب،و هو مستغفر منه كالمستهزئ»، اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ البقرة:15.
و يتحقّق الذّنب بترك ما أمر اللّه به،أو فعل ما نهى عنه عن قصد و تصميم.و بديهة أنّ أحكام العقل هي أحكام اللّه بالذّات،لأنّه جلّ و عزّ يبلّغ أحكامه بوسيلتين:العقل،و لسان رسله و أنبيائه.و النّتيجة الحتميّة لهذا المبدأ أنّه لا ذنب و لا عقاب بلا بيان،على حدّ تعبير الفقهاء المسلمين،أو بلا نصّ على حدّ تعبير أهل القوانين الوضعيّة.
إذا تمهّد هذا تبيّن معنى أنّ الإنسان إنّما يكون مذنبا و عاصيا إذا فعل ما نهى اللّه عنه،أو ترك ما أمر اللّه به عن تعمّد و علم،فإذا فعل أو ترك ناسيا،أو مكرها،أو جاهلا،من غير تقصير و إهمال فلا يعدّ مذنبا،و ينتفي السّبب الموجب للتّوبة،قال: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ المائدة:39،أي بعد ذنبه،لأنّ كلّ من أقدم على الذّنب فقد ظلم نفسه بتعريضها للحساب و العقاب.
أمّا تحديد التّوبة فهي أن يندم المذنب على ما كان منه،و يطلب من اللّه العفو و المغفرة،و لا يعود إلى الذّنب ثانية،فإن عاد بطلت التّوبة،و احتاج إلى استئنافها بعهد أحكم،و قلب أسلم.قال الإمام زين العابدين عليه السّلام:
«اللّهمّ إن يكن النّدم توبة إليك فأنا أوّل التّائبين،و إن يكن التّرك لمعصيتك إنابة فأنا أوّل المنيبين،و إن يكن الاستغفار حطّة للذّنوب فإنّي لك من المستغفرين».
و المراد بالاستغفار:الاستغفار بالفعل،لا بالقول، فيبدأ قبل كلّ شيء بتأدية حقوق النّاس،و ردّ ظلامتهم، فإذا كان قد اغتصب درهما من إنسان أعاده إليه،و إن كان قد أساء إليه بقول أو فعل طلب منه السّماحة ثمّ يقضي ما فاته من الفرائض،كالحجّ و الصّوم و الصّلاة.
سمع أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام رجلا يقول:استغفر اللّه، فقال الإمام:أ تدري ما الاستغفار؟إنّه درجة العلّيّين، و هو واقع على ستّة معان،و ذكرها الإمام،منها:العزم على ترك العودة إلى الذّنب،و تأدية الحقوق إلى المخلوقين،و قضاء الفرائض،و متى توافرت هذه العناصر للتّائب كان من الّذين عناهم اللّه بقوله: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى طه:82،أي استمرّ على الهداية،و هي الإيمان و العمل الصّالح،و في الحديث:«التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له»بل يصبح من المحسنين،قال تعالى: تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً هود:3،و قال: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ
ص: 162
البقرة:222،و قال الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:«من رأى أنّه مسيء فهو محسن».
أمّا السّرّ لإحسان التّائب،و عظيم منزلته عند اللّه سبحانه،فهو معرفته بنفسه،و محاسبتها على كلّ عيب و نقص،و جهادها على الكمال و الطّاعة،هذا الجهاد الّذي عبّر عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالجهاد الأكبر.و قديما قال الأنبياء و الحكماء:«اعرف نفسك».و مرادهم أن يعرف الإنسان ما في نفسه من عيوب،و يعمل على تطهيرها من كلّ شائبة.
و قد يقول قائل:إنّ الإنسان نتيجة لعوامل كثيرة:
منها أبواه،و مدرسته،و مجتمعه،و مناخه،و ما إلى ذلك ممّا يؤثّر في تكوين شخصيّته،و لا حول معه و لا طول، و عليه فلا يتّصف الإنسان بأنّه أذنب و أساء،لأنّ الذّنب ذنب المجتمع و الظّروف،و متى انتفى الذّنب انتفى موضوع التّوبة من الأساس.
الجواب:صحيح أنّ محيط الإنسان و ظروفه تؤثّر به، و لكن صحيح أيضا أنّ ذات الإنسان و إرادته تؤثّر في ظروفه و بيئته،كما يتأثّر هو بها،لأنّ لكلّ من الإنسان و ظروفه واقعا ملموسا،و كلّ شيء له واقع ملموس لا بدّ أن يكون له أثر كذلك،و إلاّ لم يكن شيئا،و على هذا يستطيع الإنسان أن يؤثّر في ظروفه،بل يستطيع أن يقلبها رأسا على عقب،إذا كان عبقريّا،و الشّاهد الحسّ و الوجدان.
إنّ شأن الظّروف الّتي يعيشها الإنسان أن تبعث في نفسه الميل و الرّغبة في ثمار الظّروف و نتاجها،و على الإنسان أن ينظر و يراقب هذه الثّمار،و تلك الرّغبة، فإن كانت متّجهة إلى الحسن من الثّمار اندفع مع رغبته، و إلاّ أوقفها و كبح جماحها،و ليس هذا بالأمر العسير.
و لو لم يكن للإنسان مع ظروفه حول و طول لما اتّصف بأنّه محسن،و بأنّه سيّئ،و لبطل العقاب و الثّواب، و سقط المدح و الذّمّ،و لما كان لوجود الأديان و الأخلاق و الشّرائع و القوانين وجه و مبرّر.
سؤال ثان:قلت:إنّ التّوبة فرع الذّنب،مع العلم بأنّ الأنبياء و الأئمّة كانوا يتوبون إلى اللّه،و هم مبرءون عن العيوب و الذّنوب.
الجواب:أنّ الأنبياء و الأئمّة مطهّرون من الدّنس و المعاصي،ما في ذلك ريب.و لكنّهم كانوا لمعرفتهم باللّه، و شدّة خوفهم منه يتصوّرون أنفسهم مذنبين،فيتوبون من ذنب وهميّ لا وجود له.و هذا مظهر و أثر من آثار عصمتهم و علوّ مكانتهم،لأنّ العظيم من لا يرى نفسه عظيما،بل لا يراها شيئا مذكورا في جنب اللّه،و يتّهمها دائما بالتّقصير في طاعته و عبادته،و من أجل هذا يسأله العفو،و يستعين به على حسن العاقبة،على العكس من اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً الكهف:104.
و خير ما قرأته في هذا الباب قطعة من مناجاة الإمام زين العابدين عليه السّلام،يطلب فيها من اللّه أن يسخّر له عبدا من عباده الصّالحين مستجاب الدّعوة لديه تعالى،كي يرى هذا العبد سوء حال الإمام من شدّة خوفه من اللّه، فيتأثّر،و تأخذه الرّقّة على الإمام،و يتوسّل إلى الخالق الجليل أن يرفق بالإمام،فيسمع اللّه دعوة هذا العبد الصّالح،و ينجو الإمام من غضب اللّه و سخطه،و يفوز
ص: 163
برضاه و مغفرته،و هذا ما قاله الإمام بالحرف:«فلعلّ بعضهم برحمتك يرحمني لسوء موقفي،و تدركه الرّقّة عليّ لسوء حالي،فينالني منه بدعوة هي أسمع لديك من دعائي،أو شفاعة أوكد عندك من شفاعتي،تكون بها نجاتي من غضبك،و فوزي برضاك».
قال الإمام زين العابدين،و سيّد السّاجدين مخاطبا ربّه:«لعلّ بعضهم أوكد عندك من شفاعتي تكون بدعوته نجاتي».قال هذا يوم لا أحد على وجه الأرض يدانيه في فضيلة واحدة من فضائله الجلّى،و هنا يكمن سرّ الجلال و العظمة و الكمال.
و بعد،فإنّ التّوبة متشعّبة الأطراف،و تتّسع لكتاب مستقلّ،و قد نعود إلى الكلام عنها في مناسبة ثانية.
(2:272)
فضل اللّه :لمن التّوبة؟
للتّوبة-في المفهوم الإسلاميّ القرآنيّ-معنى العمق الإيمانيّ في الانفتاح على اللّه بالعودة إليه-في حالة الخطيئة-بالإحساس العميق بالنّدم على التّمرّد العمليّ على أوامره و نواهيه،و الإرادة القويّة الواعية في تغيير المسار في خطّ الانحراف إلى خطّ الاستقامة،و من تحويل الموقف من واقع المعصية إلى واقع الطّاعة،في روحيّة إيمانيّة،تتمثّل الإخلاص في العلاقة باللّه.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ الّذي يتقبّل التّوبة عن عباده،ممّا فرضه لهم من الحقّ في قبولها بالعفو عن الخطيئة،و غفران الذّنب و إدخالهم في رحمته من جديد، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ الذّنب(بجهالة)بالسّير في خطّ الانحراف عن خطّه المستقيم،انطلاقا من خلل في التّصوّر،أو في تقدير الأمور،أو في حسابات الرّبح و الخسارة،أو غفلة عن النّتائج السّلبيّة على قضيّة المصير الأخرويّ،أو الخضوع لسلطان الشّهوة تحت تأثير النّفس الأمّارة بالسّوء،ممّا يدخل في عنوان «السّفاهة»العقليّة أو العمليّة،في غياب الوعي الصّافي الّذي ينظر إلى الأمور بوضوح،و يتحرّك معها باتّزان.
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قبل أن يعاينوا الموت؛ و ذلك في الحالة الّتي يملكون فيها التّراجع عن الانحراف، لأنّ السّاحة تحمل الكثير من الفرص للتّغيير،لأنّ التّوبة في مثل هذه الحالة تعني وعي خطورة الخطيئة،و إرادة العودة الواعية إلى اللّه،ممّا يوحي بأنّ هذا الإنسان يتحرّك في نطاق العودة إلى معنى إيمانه،في حركة الطّاعة للّه.
و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بقوله:(من قريب)الزّمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى:التّوبة الفوريّة و النّدم السّريع،لأنّ ذلك هو الّذي يمنع من (1)زوال أثر المعصية من النّفس،و عدم تجذّرها في عمق الشّخصيّة،فتكون الآية واردة على سبيل الإيحاء بالتّوجيه الإلهيّ بضرورة السّرعة في التّوبة،فإنّها أقرب إلى القبول،و لا يمنع ذلك من قبول التّوبة بعد مرور زمان على المعصية،باعتبار أنّه يؤدّي دورا مهمّا في تصحيح المسار،لكنّ الحالة الأولى أقرب إلى الاستقامة.
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ من موقع رحمته الّتي تتّسع للخاطئين التّائبين الّذين ابتعدوا عنه بفعل نقاطة.
ص: 164
الضّعف الّتي سيطرت على شخصيّاتهم و أرادوا العودة إليه،بفعل التّمرّد على الضّعف في اتّجاه الانفتاح على القوّة،لأنّ اللّه يريد أن يمنح الإنسان الفرصة في كلّ وقت،لتحويل نقاط الضّعف في ذاته إلى نقاط قوّة،فإنّ ذلك يوحي بأنّ هذا الإنسان قد بدأ الرّحلة الجديدة إلى اللّه في عمليّة إخلاص و توحيد.
وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً بالواقع الإنسانيّ الّذي تختبئ الغرائز في داخله لتقود كلّ حركته،و تتحرّك النّوازع في حياته لتوجّه هذه الغرائز إلى دائرة الانحراف، ممّا يجعل للإنسان بعض العذر في خطاياه،تحت تأثير الضّغوط الدّاخليّة و الخارجيّة،الأمر الّذي يريد اللّه فيه أن يساعده على الوقوف في خطّ المواجهة و الانتصار على الذّات.
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ و يستغرقون فيها و يخلدون إلى الأرض في غفلة مستمرّة،لا تدع مجالا لأيّ تغيير في الدّاخل،و تمرّد على أيّة حالة من حالات التّوعية و اليقظة الرّوحيّة،لأنّ المسألة عندهم هي أن يعيشوا العمر في دائرة الشّهوات و الأطماع و الملذّات و الأنانيّات،بعيدا عن أيّة رسالة و عن أيّة عودة إلى اللّه و إنابة إليه و رغبة في الحصول على رضوانه،فهم سادرون في غيّهم،مصرّون على خطاياهم، متمرّدون على ربّهم،غافلون عن آخرتهم و عن النّتائج المهلكة الّتي يواجهونها هناك،فلا يفكّرون في توبة، و لا يعملون للتّراجع عن الذّنب.
حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و عاين الأهوال القادمة،و رأى تهاويل الواقع الجديد،و عرف أنّ الفرصة قد انتهت،و أنّه يدخل في عالم جديد يواجه فيه نتائج أعماله،و يقدّم فيه حساب عمره كلّه، قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ كوسيلة من وسائل التّجربة في الخروج من المأزق و التّعبير عن الإحباط.فلم تكن المسألة لديه مسألة وعي و إرادة للتّغيير،لأنّ الوقت قد ذهب،بل هي مسألة اضطرار خائف،لا عمق له في الاختيار.
وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ فلم يأخذوا من الإيمان بأيّ سبب في كلّ مجالات حياتهم،مع قيام الحجّة عليهم في ذلك كلّه، أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً في الدّنيا و الآخرة،جزاء لتمرّدهم على اللّه،في الخطّ الفكريّ و العمليّ.
و هكذا أراد اللّه التّوبة لعباده رحمة بهم،و تشجيعا لهم على التّراجع عن مواقف الخطإ من موقع الإرادة الواعية المسئولة،لينفصلوا بذلك عن الأجواء المنحرفة في كلّ ما تحتويه من مشاعر و أحاسيس و علاقات و ظروف و نزوات و نزعات،فيقف الإنسان موقف المتأمّل الّذي يحسب حساب ذلك كلّه في جميع نتائجه و آثاره،بعيدا عن كلّ الضّغوط الحسّيّة و المعنويّة؛ فيفكّر كيف يستقبل عواقب ذلك بوعي و مسئوليّة.
و على ضوء ذلك،كان لا بدّ للتّوبة من وعي للموقف و من إرادة للتّغيير،فينطلق الإنسان ليدخل في عمليّة مقارنة بين المبادئ الّتي يؤمن بها،من خلال ما يمثّله إيمانه باللّه و طاعته له،من تخطيط للعمل في صعيد الواقع، و بين الممارسات القلقة المنحرفة الّتي تحرّكت في واقع حياته العمليّة.
و هنا تبدأ عمليّة الشّعور بالضّغط الرّوحيّ الّذي
ص: 165
يثير في داخله الإحساس بالنّدم،في حركة المسئوليّة في فكره و ضميره،و تتحرّك إرادة التّحوّل و التّغيير في داخل نفسه.و لعلّ من البديهيّ أن يكون للإنسان امتداد في حياته العمليّة في المستقبل،ليعيش هذا الوعي و هذه الإرادة،و ليتحقّق له الصّدق الواعي الحرّ،و لهذا جاءت هاتان الآيتان لتجيبا عن السّؤال:«لمن التّوبة»؟
و كان الجواب،حديثا عن نموذجين من النّاس، فهناك النّموذج الّذي عمل السّوء بجهالة،و ربّما كانت كلمة«الجهالة»تعطي معنى عدم العلم،و ربّما كانت تعبّر عن السّفاهة و عدم الوعي و عدم المسئوليّة،على أساس العلم الّذي لا يترك تأثيره في عمليّة الوعي الدّاخليّ لا يبتعد عن الجهل في طبيعة النّتائج السّلبيّة.
و قد كثر في القرآن،و في غيره،استخدام كلمة «الجهالة»للتّعبير عن ذلك،بل ربّما قال بعض العلماء:إنّ كلمة«الجهالة»تعني السّفاهة بشكل أساسيّ.و ربّما كان هذا المعنى هو الأقرب للفكرة الّتي تعالجها الآية،لأنّ التّوبة لا تنحصر بأولئك الّذين يعصون اللّه عن غير علم بما يفعلون،بل تشمل كلّ أولئك الّذين ينحرفون عن الخطّ جهلا أو عمدا،من دون وعي عمليّ داخليّ للنّتائج،بالمستوى الّذي يحرّك الإحساس و الشّعور، و يحوّل المعرفة إلى حالة شعوريّة داخليّة قويّة.فقد فتح اللّه لكلّ أولئك باب التّوبة،إذا تراجعوا عن انحرافهم و تابوا عن قريب،أي قبل أن يدهمهم الموت فيلاقوه وجها لوجه.
فإنّ التّوبة تمثّل-في مثل هذا النّموذج-الموقف الّذي يعبّر عن يقظة الإيمان داخل النّفس،و حركته في آفاق الضّمير،و ينطلق بالإنسان في عمليّة التّغيير،لأنّ السّاحة الزّمنيّة المفتوحة أمامه تترك له المجال لتجربة جديدة و عمل جديد،من أجل التّصحيح و التّقويم.
و هؤلاء الّذين يمارسون موقف التّوبة في هذا الاتّجاه،هم الّذين يتقبّل اللّه توبتهم،و يفتح لهم باب رحمته و مغفرته،على أساس علمه بهم و بمنطلقاتهم و تطلّعاتهم، من خلال ما تقتضيه الحكمة من إفساح المجال للإنسان الّذي يعيش حركة التّجربة في حياته بين الخطإ و الصّواب،أن يبدأ عمليّة التّصحيح في كلّ فرصة مناسبة لذلك.
و هناك النّموذج الّذي تمتدّ به المعصية في نطاق التّمرّد في عمر الزّمن،فهو لا يفكّر أبدا أن يتوقّف ما دامت الحياة مفتوحة،و الفرصة متاحة له،لأنّ القضيّة عنده-في كلّ طموحاته-هي إرواء شهواته،و تحقيق مطامعه الذّاتيّة.أمّا حسابات اللّه و الدّار الآخرة،فهي مؤجّلة دائما،بل ربّما كانت من الأمور الثّانويّة المغفول عنها الّتي لا يدخلها في حسابه،حتّى إذا واجه الموت و ضاقت عليه نواحي الحياة قال: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ و لكنّها ليست توبة،بل هي محاولة هروب من حراجة الموقف بالانطلاق بالكلمة السّريعة الّتي يواجه بها الكثيرون من النّاس المواقف الصّعبة،من أجل أن يتخفّفوا بذلك من حراجة المشكلة،ثمّ يرجعون عنها إذا كان هناك مجال للرّجوع.
و بذلك لا تكون هذه الكلمة تعبيرا عن موقف وعي و إرادة تغيير،بل تكون تعبيرا عن حالة تخلّص من المأزق الصّعب.و يتمثّل هذا النّموذج في نوعين من
ص: 166
النّاس:المؤمنين الّذين يعيشون الإيمان فكرا بعيدا عن الممارسة،و الكافرين الّذين يواجهون الموت بالكفر،من دون عمق في الفكر و الشّعور،و امتداد في مجال الالتزام و الممارسة.و قد أكّدت الآية أنّ هؤلاء لا تقبل توبتهم بل ينتظرهم العذاب الأليم.
و قد جاء في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آخر خطبة خطبها:«من تاب قبل موته بسنة،تاب اللّه عليه.
ثمّ قال:إنّ السّنة لكثيرة،من تاب قبل موته بشهر،تاب اللّه عليه،ثمّ قال:إنّ الشّهر لكثير،و من تاب قبل موته بجمعة،تاب اللّه عليه،ثمّ قال:إنّ الجمعة لكثيرة،و من تاب قبل موته بيوم تاب اللّه عليه،ثمّ قال:إنّ يوما لكثير،و من تاب قبل موته بساعة،تاب اللّه عليه.ثمّ قال:و إنّ السّاعة لكثيرة،و من تاب و قد بلغت نفسه هذه-و أهوى بيده إلى حلقه-تاب اللّه عليه».
و سئل الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ النّساء:
18،قال:ذلك إذا عاين أمر الآخرة.و يقول صاحب «الميزان»-تعليقا على ذلك:«و الرّواية الثّانية تفسّر الآية و تفسّر الرّوايات الواردة في عدم قبول التّوبة عند حضور الموت،بأنّ المراد من حضور الموت:العلم به، و مشاهدة آيات الآخرة،و لا توبة عندئذ.و أمّا الجاهل بالأمر،فلا مانع من قبول توبته».
و ما استوحيناه من الآية أنّ المقصود بها التّوبة الّتي تعبّر عن موقف وعي،و إرادة تغيير في ما ينتظره الإنسان من السّاحة الجديدة الزّمنيّة الّتي تتحرّك فيها خطواته العمليّة في المستقبل،و لن يكون ذلك إلاّ في المجال الّذي ينتظر فيه المستقبل في انطلاقات الأمل الكبير بالحياة، و في ضوء ذلك لا تكون أمثال هذه الرّوايات بعيدة عن الجوّ العامّ للآية.
و من خلال هذا العرض،نستطيع اعتبار التّوبة وسيلة عمليّة من وسائل التّربية الرّوحيّة و العمليّة،لأنّ الإنسان قد يعيش في أغلب مواقفه الوقوع في خطإ التّجربة،و يعاني من عقدة الشّعور بالنّقص أمام المنحدر السّحيق الّذي تقوده إليه أخطاؤه،و ربّما يقوده ذلك إلى التّعقيد الدّاخليّ و الضّياع الرّوحي،عند ما يصطدم بالحقيقة،و يواجه النّتائج الحاسمة وجها لوجه،من دون أن يتمكّن من تغيير الواقع،فيبقى أسير عقدته.و يتحوّل ذلك إلى موقف سلبيّ من الحياة و الأشخاص من حوله، نتيجة ما تثيره العقدة الدّاخليّة من أحاسيس و مشاعر، و تحرّكات و تعقيدات.
و جاءت التّوبة الإلهيّة لتقول للإنسان،بأنّ الخطأ حالة طبيعيّة في حياته،انطلاقا من نوازع الضّعف الكامنة في داخل نفسه،الّتي قد يستسلم لها تارة،و قد يتمرّد عليها أخرى،فكان لا بدّ له من أن يسقط أمام حالات الضّعف.و لكن ليس معنى ذلك أنّها ضريبة لازمة له،لا يستطيع الفكاك منها و التحرّر من عبوديّتها، بل هي قضيّة طبيعيّة تماما،كما هي الحالات الطّبيعيّة العارضة للإنسان الّتي قد يحتاج إلى التّعامل معها بفعّاليّة، و معالجتها بحكمة و قوّة،كما يحتاج إلى عدم مواجهتها
ص: 167
باللاّمبالاة و السّلبيّة و الاستمرار في أجواء الضّياع.
و هكذا كانت التّوبة من أجل مساعدة الإنسان على مواجهة المعصية و الخطإ.كحالة طارئة لتزول و تذهب و تذوب،فلا تبقى في حياته كعقدة،لتتجدّد له مشاعر الثّقة بإنسانيّته،و بقدرته على ردّ التّحدّي،و ممارسة التّغيير،و البدء من جديد.فلا يبقى أسير العقدة،بل يقف أمام اللّه بكلّ حرّيّة الإرادة،و إرادة التّغيير،في ثياب بيضاء،و قلب مفتوح للحقّ و الخير،و الأمل الكبير بالمستقيل الأبيض الّذي يبدأ من جديد تماما،كما لو لم يكن هناك أيّ ماض معقّد أسود،لأنّ«التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له»،فيخرج منه كما ولدته أمّه.
و إذا تاب اللّه على الإنسان،و عاش مشاعر التّوبة، و أحسّ باللّطف الإلهيّ يغمره بالمغفرة و الرّضوان،فإنّه يعيش الشّعور الملائكيّ الرّوحيّ في نفسه،كما لو كان ملاكا يطير بجناحين،من طهر و نقاء و فرح روحيّ كبير غامر،فيتجدّد و يتحوّل إلى إنسان جديد،يبدأ الحياة مع اللّه،في انطلاقة عمر جديد.
و في ضوء ذلك،لن تكون التّوبة-كما يخيّل للبعض- وسيلة من وسائل تشجيع الإنسان على الامتداد في الخطإ و الاستغراق في الجريمة،لأنّه يجد في التّوبة طريقة للهروب كلّما أراد ذلك،و هكذا حتّى تكون حياته كلّها جريمة و تراجعا.الأمر الّذي يجعل الشّخصيّة الإنسانيّة في مستوى الميوعة الرّوحيّة و الأخلاقيّة،باسم التّصحيح و التّراجع.و قد أوضحنا الموضوع-من خلال مفهومنا للآية-و قلنا:بأنّ التّوبة ليست حالة طارئة سريعة،تتحرّك في نطاق الممارسة الشّكليّة،بل هي موقف وعي للمبادئ و إرادة للتّغيير،و محاولة جادّة لتركيز الشّخصيّة على أساس متين،ممّا يجعل من التّصوّر الإنسانيّ للمستقبل،تصوّرا للموقف الجديد الثّابت الممتدّ في كلّ خطوات الزّمن.و هذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام في دعاء التّوبة،في الصّحيفة السّجّاديّة في مناجاته للّه:
«اللهمّ أيّما عبد تاب إليك،و هو في علم الغيب عندك فاسخ لتوبته و عائد في ذنبه و خطيئته فإنّي أعوذ به أن أكون كذلك،فاجعل توبتي هذه توبة لا أحتاج بعدها إلى توبة موجبة،لمحو ما سلف و السّلامة في ما بقي».
ثمّ يؤكّد التّصميم على الثّبات على التّوبة-الموقف- فيعمل على الاستعانة باللّه على أن يمنحه القوّة للاستمرار على هذا الخطّ:
«اللّهمّ و لا وفاء لي بالتّوبة إلاّ بعصمتك، و لا استمساك بي عن الخطايا إلاّ بقوّتك،فقوّني بقوّة كافية،و تولّني بعصمة مانعة».
و هذا ما أثارته الآيتان الكريمتان في تحديدهما للتّوبة المقبولة و غير المقبولة و اللّه العالم.(7:147)
مكارم الشّيرازيّ: شرائط قبول التّوبة:
و في هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التّوبة،إذ يقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ.
و هنا يجب أن نرى ما ذا تعني«الجهالة»هل هي الجهل و عدم المعرفة بالمعصية،أم هي عدم المعرفة بالآثار السّيّئة و العواقب المؤلمة للذّنوب و المعاصي؟
إنّ كلمة«الجهل»و ما يشتقّ منها و إن كانت لها معان
ص: 168
مختلفة،و لكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها-في الآية المبحوثة هنا-هو طغيان الغرائز،و سيطرة الأهواء الجامحة،و غلبتها على صوت العقل و الإيمان.و في هذه الصّورة و إن لم يفقد المرء العلم بالمعصية،إلاّ أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة،ينتفي دور العلم و يفقد مفعوله و أثره،و فقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.
و أمّا إذا لم يكن الذّنب عن جهل و غفلة،بل كان عن إنكار لحكم اللّه سبحانه و عناد و عداء،فإنّ ارتكاب مثل هذا الذّنب ينبئ عن الكفر،و لهذا لا تقبل التّوبة منه،إلاّ أن يتخلّى عن عناده و عدائه و إنكاره و تمرّده.
و في الحقيقة إنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة الّتي يذكرها الإمام السّجّاد عليه السّلام في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح؛إذ يقول:«إلهي لم أعصك حين عصيتك و أنا بربوبيّتك جاحد و لا بأمرك مستخفّ،و لا لعقوبتك متعرّض،و لا لوعيدك متهاون،لكن خطيئة عرضت و سوّلت لي نفسي و غلبني هواي».
ثمّ إنّ اللّه سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التّوبة؛إذ يقول: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.
هذا و قد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من (قريب)فقد ذهب كثيرون إلى أنّ معناه التّوبة قبل أن تظهر آثار الموت و طلائعه،و يستشهدون لهذا الرّأي بقوله تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الّذي جاء في مطلع الآية اللاّحقة،و يشير إلى أنّ التّوبة لا تقبل إذ ظهرت علامات الموت.
و لعلّ استعمال لفظة(قريب)إنّما هو لأجل أنّ نهاية الحياة الدّنيويّة مهما بعدت فهي قريبة.
و لكن استعمال لفظة(قريب)إنّما هو لأجل أنّ نهاية الحياة الدّنيويّة مهما بعدت فهي قريبة.
و لكن بعض المفسّرين ذهب إلى تفسير لفظة(من قريب):بالزّمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فورا،و يندموا على ما فعلوه بسرعة،و يتوبوا إلى اللّه،لأنّ التّوبة الكاملة هي الّتي تغسل آثار الجريمة و تزيل رواسبها من الجسم و الرّوح بشكل مطلق حتّى لا يبقى أيّ أثر منه في القلب،و لا يمكن هذا إلاّ إذا تاب الإنسان و ندم قبل أن تتجذّر المعصية في كيانها،و تتعمّق آثارها في وجوده،فتكون له طبيعة ثانية؛إذ في غير هذه الصّورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الرّوح الإنسانيّة،و تعشعش في خلايا قلبه،فالتّوبة الكاملة إذن هي الّتي تتحقّق عقيب وقوع الذّنب في أقرب وقت،و لفظة(قريب)أنسب مع هذا المعنى من حيث اللّغة و الفهم العرفيّ.
صحيح أنّ التّوبة الّتي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضا إلاّ أنّها ليست التّوبة الكاملة.و لعلّ التّعبير بجملة(على اللّه)،أي على اللّه قبولها،كذلك إشارة إلى هذا المعنى،لأنّ مثل هذا التّعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم.و مفهومه هو أنّ قبول التّوبة القريبة من زمن المعصية حقّ من حقوق العباد،في حين أنّ قبول التّوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضّل من اللّه و ليس حقّا.
ثمّ إنّه سبحانه-بعد ذكر شرائط التّوبة-يقول:
فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً
ص: 169
مشيرا بذلك إلى نتيجة التّوبة الّتي توفّرت فيها الشّروط المذكورة.
ثمّ يقول تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ... و هو إشارة إلى من لا تقبل توبته.
و علّة عدم قبول هذا النّوع من التّوبة واضحة،لأنّ الإنسان عند الاحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار،فيرى ما لم يكن يراه من قبل،فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلّقة بالعالم الآخر،و يشاهد بعينيه نتائج أعماله الّتي ارتكبها في هذه الدّنيا،و تتّخذ القضايا الّتي كان يسمع بها صفة محسوسة،و في هذه الحالة من الطّبيعيّ أن يندم كلّ مجرم على جرمه و أفعاله السّيّئة و يفرّ منها فرار الّذي يرى اقتراب ألسنة اللّهب من جسمه.
و من المسلّم أنّ التّكليف الإلهيّ و الاختيار الرّبّانيّ للبشر لا يقوم على أساس هذا النّوع من المشاهدات و المكاشفات،بل يقوم على أساس الإيمان بالغيب، و المشاهدة بعيني العقل و القلب.
و لهذا نقرأ في الكتاب العزيز:أنّ أبواب التّوبة كانت تغلق فى وجه بعض الأقوام العاصية،عند ظهور طلائع العذاب الدّنيويّ و النّقمة العاجلة،و للمثال نقرأ قول اللّه سبحانه عن فرعون إذ يقول: حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس:90،91.
كما يستفاد من بعض الآيات القرآنيّة،مثل الآية (12)من سورة السّجدة:أنّ العصاة يندمون عند ما يشاهدون العذاب الإلهيّ في الآخرة،و لكن لات حين مندم،فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت،إنّ هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الّذين إذا شاهدوا أعواد المشنقة و أحسّوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم و أفعالهم القبيحة،فمن الواضح أنّ مثل هذه التّوبة و هذا النّدم لا يعدّ فضيلة،و لا مفخرة و لا تكاملا،و لهذا لا يكون لها أيّ تأثير.
على أنّ هذه الآية لا تنافي الرّوايات الّتي نصّت على إمكان قبول التّوبة حتّى عند اللّحظة الأخيرة من الحياة، لأنّ المراد في هذه الرّوايات هي اللّحظات الّتي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت و آثاره و طلائعه،و بعبارة أخرى لم تحصل لدى الشّخص العين البرزخيّة الّتي يقف بها على حقائق العالم الآخر.
هذا عن الطّائفة الأولى الّذين لا تقبل توبتهم،و هم من يتوبون عند ما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت،و تبدو عليهم آثاره.
و أمّا الطّائفة الثّانية الّذين لا تقبل توبتهم،فهم الّذين يموتون كفّارا؛إذ يقول سبحانه:
وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ. و لقد ذكر اللّه سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أخرى في القرآن الكريم.
و هنا ينطرح سؤال و هو:متى لا تقبل توبة الّذين يموتون كفّارا؟
احتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر، و احتمل آخرون أن يكون المراد من التّوبة-في هذا
ص: 170
المقام-ليس هو توبة العباد،بل توبة اللّه،يعني عود اللّه على العبد و عفوه و رحمته له.
و لكنّ الظّاهر هو أنّ الآية تهدف أمرا آخر،و تقول:
إنّ الّذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية و الإيمان، و لكنّهم يموتون و هم كفّار لا تقبل توبتهم و لا يكون لها أيّ أثر.
و توضيح ذلك:إنّنا نعلم أنّ من شرائط قبول الأعمال:الموافاة على الإيمان،بمعنى أن يموت الإنسان مؤمنا،فالّذين يموتون و هم كفّار تحبط أعمالهم السّابقة حتّى الصّالحة منها،حسب صريح الآيات القرآنيّة.
و تنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم،حتّى إذا تابوا حال الإيمان في هذه الصّورة أيضا.
و خلاصة القول:أنّ قبول التّوبة مشروط بأمرين:
الأوّل:أن تتحقّق التّوبة قبل أن يرى الشّخص علائم الموت،و الثّاني:أن يموت و هو مؤمن.
ثمّ إنّه يستفاد من هذه الآية أيضا أنّ على الإنسان أن لا يؤخّر توبته؛إذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة فتغلق في وجهه أبواب التّوبة،و لا يتمكّن منها حينئذ.
و الملفت للنّظر أنّ تأخير التّوبة الّذي يعبّر عنه بالتّسويف قد أردف في الآية الحاضرة بالموت حال الكفر،و هذا يكشف عن أهمّيّة التّسويف و خطورته البالغة في نظر القرآن.
ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، و لا حاجة إلى التّذكير بأنّ للتّوبة مضافا إلى ما قيل شرائط أخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.(3:139)
3- أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ. التّوبة:104
راجع«ق ب ل»يقبل.
4- وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ. الشّورى:25
الإمام عليّ عليه السّلام: روى جابر أنّ أعرابيّا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و قال:اللّهمّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك،و كبّر.
فلمّا فرغ من صلاته قال له عليّ رضي اللّه عنه:
يا هذا إنّ سرعة اللّسان بالاستغفار توبة الكذّابين، و توبتك تحتاج إلى التّوبة.
فقال:يا أمير المؤمنين و ما التّوبة؟
قال:اسم يقع على ستّة معان:على الماضي من الذّنوب النّدامة،و لتضييع الفرائض الإعادة،و ردّ المظالم،و إذابة النّفس في الطّاعة كما ربّيتها في المعصية، و إذاقة النّفس مرارة الطّاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كلّ ضحك ضحكته.(الزّمخشريّ 3:468)
السّدّيّ: هو صدق العزيمة على ترك الذّنوب، و الإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب.(النّسفيّ 4:106)
سريّ السّقطيّ: التّوبة:العزم على ترك الذّنوب، و الإقبال بالقلب إلى علاّم الغيوب.(ابن عطيّة 5:35)
التّستريّ: التّوبة:الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة.(البغويّ 4:145)
جنيد البغداديّ: هو الإعراض عمّا دون اللّه.
ص: 171
(النّسفيّ 4:106)
الطّبريّ: و اللّه الّذي يقبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد اللّه و طاعته،من بعد كفره.(25:28)
البغويّ: قيل:التّوبة:ترك المعاصي نيّة و فعلا، و الإقبال على الطّاعة نيّة و فعلا.(4:145)
الزّمخشريّ: التّوبة:أن يرجع عن القبيح و الإخلال بالواجب بالنّدم عليهما،و العزم على أن لا يعاود،لأنّ المرجوع عنه قبيح و إخلال بالواجب،و إن كان فيه لعبد حقّ لم يكن بدّ من التّقصّي على طريقه.
(3:468)
ابن عطيّة: ثمّ ذكر النّعمة في تفضّله بقبول التّوبة عن عباده،و قبول التّوبة فيما يستأنف العبد من زمنه و أعماله مقطوع به بهذه الآية.و أمّا ما سلف من أعماله فينقسم:فأمّا التّوبة من الكفر فماحية كلّ ما تقدّمها من مظالم العباد الفانية.
و أمّا التّوبة من المعاصي فلأهل السّنّة قولان:هل تذهب المعاصي السّالفة للعبد بينه و بين خالقه؟
فقالت فرقة:هي مذهبة لها،و قالت فرقة:هي في مشيئة اللّه تعالى،و أجمعوا على أنّها لا تذهب مظالم العباد.
[ثمّ ذكر معنى التّوبة كما تقدّم عنه في النّصوص اللّغويّة]
(5:35)
الفخر الرّازيّ: قد سبق البحث المستقصى عن حقيقة التّوبة في سورة البقرة،و أقلّ ما لا بدّ منه النّدم على الماضي و التّرك في الحال،و العزم على أن لا يعود إليه في المستقبل.(27:168)
نحوه أبو السّعود(6:18)،و البروسويّ(8:314).
الآلوسيّ: التّوبة:أن يرجع عن القبيح و الإخلال بالواجب في الحال،و يندم على ما مضى،و يعزم على تركه في المستقبل.
و زادوا التّقصّي منه بأيّ وجه أمكن إن كان الذّنب لعبد فيه حقّ،و ذلك بالرّدّ إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيّا،و بالرّدّ إلى ورثته إن كان ميّتا و وحدوا،ثمّ القاضي لو كان أمينا و هو كالإكسير و من رأى الإكسير؟فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدّق عنه،و إلاّ يدع له و يستغفر.
و في«الكشف»التّقصّي داخل في الرّجوع؛إذ لا يصحّ الرّجوع عنه و هو ملتبس به بعد،و اختير أنّ حقيقتها الرّجوع و إنّما النّدم و العزم ليكون الرّجوع إقلاعا،و يتحقّق أنّه التّوبة الّتي ندبنا إليها،و هو موافق لما في«الإحياء»من أنّها اسم لتلك الحالة بالحقيقة، و الباقي شروط التّحقّق.
و يشترط أيضا أن يكون الباعث على الرّجوع مع النّدم و العزم دينيّا،فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التّوبة من شيء.
و أشار الزّمخشريّ إلى ذلك بكون الرّجوع،لأنّ المرجوع عنه قبيح و إخلال بالواجب و خرج عنه ما لو رجع طلبا للثّناء أو رياء أو سمعة،لأنّ قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا،و للذّمّ عاجلا،فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك.[ثمّ نقل كلام عليّ عليه السّلام في التّوبة و قال:]
و هذا يحتمل أن تكون التّوبة مجموع هذه الأمور، فالمراد أكمل أفرادها.و يحتمل أنّها اسم لكلّ واحد
ص: 172
منها،و الأوّل أظهر.
و اختلف في التّوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل صحيحة أم لا؟و الّذي عليه الأصحاب أنّها صحيحة لظواهر الآيات و الأحاديث و صدق التّعريف عليها،و أكثر المعتزلة على أنّها غير صحيحة.
قال أبو هاشم منهم:لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كلّ القبائح،و إن تاب عنه لا لمجرّد قبحه بل لغرض آخر لم تصحّ توبته.و تعقّب بأنّه يجوز أن يكون الباعث شدّة القبح أو أمرا دينيّا آخر،و أيضا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال:لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب أن يفعل كلّ حسن،و إن فعله لغرض آخر لم يقبل،و فيه بحث.
و استدلّ المعتزلة بالآية على أنّه يجب عليه تعالى قبول التّوبة،و استدلّ أهل السّنّة بها على عدم الوجوب، لمكان التّمدّح و لا تمدّح بالواجب،و فيه أيضا بحث.
و الأنفع في هذا المقام أدلّة نفي الوجوب مطلقا عليه، عزّ و جلّ.(25:35)
المراغيّ: و التّوبة:النّدم على المعصية،و الإقلاع عنها،و العزم على عدم العودة إليها.و هذه شروط ثلاثة فيما بين العبد و ربّه،فإذا كملت صحّت التّوبة،و إن فقد واحد منها لم تكن توبة صحيحة،أمّا فيما يتعلّق بحقوق العباد فيزاد على ذلك أن يبرأ من حقّ صاحبها.
و من علامات التّوبة النّصوح:صدق العزيمة على ترك الذّنب،و ألاّ يجد له حلاوة في قلبه عند ذكره.
(25:41)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ. آل عمران:90
ابن عبّاس: لن تقبل توبتهم لأنّها توبة غير خالصة؛إذ هم مرتدّون و عزموا على إظهار التّوبة لستر أحوالهم،و في ضمائرهم الكفر.(أبو حيّان 2:519)
لأنّها لم تكن عن قلب،و إنّما كانت نفاقا.
(الآلوسيّ 3:218)
لأنّها أظهرت الإسلام توبة فاطّلع اللّه تعالى و رسوله على سرائرهم.(الطّبرسيّ 1:472) أبو العالية :لن تقبل توبتهم من تلك الذّنوب الّتي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.
(ابن عطيّة 1:470)
تابوا من بعض،و لم يتوبوا من الأصل.
(الطّبريّ 3:343)
مجاهد :لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر.(أبو حيّان 2:519)
نفي توبتهم مختصّ بالحشرجة و الغرغرة و المعاينة.
(أبو حيّان 2:519)
مثله الحسن و قتادة و السّدّيّ(أبو حيّان 2:519)، و الجبّائيّ(الطّبرسيّ 1:472)،و نحوه الطّبريّ(3:
342)،و البغويّ(1:467).
الحسن :اليهود و النّصارى لن تقبل توبتهم عند الموت.(الطّبريّ 3:343)
نحوه قتادة.(الطّبريّ 3:343)
الطّبريّ: [نقل أقوال المفسّرين و قال:]
ص: 173
و أولى هذه الأقوال بالصّواب في تأويل هذه الآية، قول من قال:عني بها اليهود و أن يكون تأويله:أنّ الّذين كفروا من اليهود بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم عند مبعثه،بعد إيمانهم به قبل مبعثه،ثمّ ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذّنوب في كفرهم،و مقامهم على ضلالتهم،لن تقبل توبتهم من ذنوبهم الّتي أصابوها في كفرهم،حتّى يتوبوا من كفرهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و يراجعوا التّوبة منه،بتصديق ما جاء به من عند اللّه.
و إنّما قلنا:ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصّواب، لأنّ الآيات قبلها و بعدها فيهم نزلت،فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها و بعدها إذ كانت في سياق واحد.
و إنّما قلنا:معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا في كفرهم من المعاصي،لأنّه جلّ ثناؤه قال: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ فكان معلوما أنّ معنى قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إنّما هو معنيّ به:لن تقبل توبتهم ممّا ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم،لا من كفرهم،لأنّ اللّه تعالى ذكره وعد أن يقبل التّوبة من عباده،فقال: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الشّورى:25،فمحال أن يقول عزّ و جلّ:أقبل و لا أقبل في شيء واحد.
و إذ كان ذلك كذلك،و كان من حكم اللّه في عباده أنّه قابل توبة كلّ تائب من كلّ ذنب،و كان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذّنوب الّتى وعد قبول التّوبة منها بقوله: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران:89،علم أنّ المعنى الّذي لا تقبل التّوبة منه،غير المعنى الّذي تقبل منه.
و إذ كان ذلك كذلك،فالّذي لا تقبل منه التّوبة هو الازدياد على الكفر بعد الكفر،لا يقبل اللّه توبة صاحبه ما أقام على كفره،لأنّ اللّه لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه و ضلاله،فأمّا إن تاب من شركه و كفره و أصلح،فإنّ اللّه كما وصف به نفسه غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فإن قال قائل:و ما ينكر أن يكون معنى ذلك،كما قال من قال:فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله،أو توبته الأولى؟
قيل:أنكرنا ذلك،لأنّ التّوبة من العبد غير كائنة إلاّ في حال حياته،فأمّا بعد مماته فلا توبة،و قد وعد اللّه عزّ و جلّ عباده قبول التّوبة منهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم،و لا خلاف بين جميع الحجّة في أنّ كافرا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين،أنّ حكمه حكم المسلمين،في الصّلاة عليه و الموارثة،و سائر الأحكام غيرهما،فكان معلوما بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة،لم ينتقل حكمه من حكم الكفّار إلى حكم أهل الإسلام،و لا منزلة بين الموت و الحياة،يجوز أن يقال:لا يقبل اللّه فيها توبة الكافر.فإذا صحّ أنّها في حال حياته مقبولة،و لا سبيل بعد الممات إليها،بطل قول الّذي زعم أنّها غير مقبولة عند حضور الأجل.
و أمّا قول من زعم أنّ معنى ذلك:التّوبة الّتي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له،لأنّ اللّه عزّ و جلّ لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر،ثمّ كفر بعد إيمان.بل إنّما وصفهم بكفر بعد إيمان،فلم يتقدّم ذلك الإيمان كفر،كان للإيمان لهم توبة منه.فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك،و تأويل القرآن على ما كان موجودا في ظاهر التّلاوة-إذا لم تكن حجّة تدلّ على باطن خاصّ-أولى
ص: 174
من غيره،و إن أمكن توجيهه إلى غيره.(3:344)
الشّريف الرّضيّ: و من سأل عن معنى[الآية]
فقال:فحوى هذه الآية مخالفة لقولكم في وجوب التّوبة،لأنّ من مذهبكم أنّه سبحانه لا بدّ أن يقبل توبة التّائب مع بقاء التّكليف،و قد قال سبحانه: هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ... الشّورى:25،و ظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ قبول التّوبة غير واجب،و أنّه سبحانه متفضّل بذلك،و له ألاّ يفعله كسائر ما يتفضّل به.
فالجواب:أنّ إطلاق اسم التّوبة هاهنا من غير صفة تدلّ على صحّتها أو بطلانها لا تعلّق فيه لخصومنا،لأنّ التّوبة عندنا لها شرائط،متى لم تكن مطابقة لها و واقعة عليها كانت غير مقبولة.و يجري ذلك مجرى قولهم:
«حجّة»،في أنّها قد تكون صحيحة لازمه،و قد تكون باطلة داحضة.فإذا كانت على الوجوه الّتي يجب أن تكون عليها،وصفت بالصّحّة و الثّبات،و إن كانت على ضدّ ذلك وصفت بالبطلان و الاندحاض،أ لا ترى إلى قوله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ الشّورى:
16،فسمّاها:حجّة،و وصفها مع ذلك بأنّها داحضة، لا تنصر قائلها و لا تنفع المدلي بها.
فلهذا قد تسمّى التّوبة:توبة،و هي مع ذلك غير مقبولة،لأنّها لم تقع مطابقة لشرائطها،و على ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً التّحريم:8.[إلى أن قال:]
فبان أنّ التّوبة قد تقع على وجوه فتكون مقبولة، و قد تقع على خلاف تلك الوجوه فتكون غير مقبولة، و هذا يوضّح الغرض الّذي رمينا إليه.
و بعد،فإنّه سبحانه أخبر في هذه الآية-الّتي كلامنا فيها-أنّه لا يقبل توبة القوم الّذي وصفهم بما وصفهم به، و لم يخبر سبحانه على أيّ وجه وقعت توبتهم؛و قد ثبت أنّه لا يجب قبول كلّ ما يقع عليه اسم التّوبة.أ لا ترى أنّ التّائب لو تاب من القبيح لا لقبحه بل لأمر آخر لم تكن تلك التّوبة مقبولة،و كذلك المعاين عند حضور أجله، و انقطاع أمله و زوال لوازم التّكليف عنه،و حصوله مضطرّا إلى المعرفة ملجأ إلى التّحرّز من ضرر العقوبة، لا تقبل توبته،و يصحّح ذلك قوله سبحانه: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ النّساء:18،و كذلك توبة أهل النّار،لأنّهم ملجئون إلى ألاّ يفعلوا القبيح،و لذلك لا يلزم من أساء إليه غيره أن يقبل اعتذاره،و هو عاجز من الاساءة في المستقبل.
فإذا صحّ ذلك فمن أين للخصوم أنّه سبحانه لا يقبل توبة هؤلاء الّذين تابوا،و قد وقعت توبتهم على الوجه الّذي يوجب قبولها منهم!فظاهر هذا الكلام على ما قدّمناه لا يدلّ على ذلك،لأنّه تعالى أضاف«التّوبة» إليهم و هي لا تقع منهم على كلّ وجه يصحّ وقوعها، فادّعاء العموم في جهاتها لا يصحّ.
و قد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك:أنّ التّوبة المتقدّمة الّتي كانت قبل الكفر و قبل الازدياد منه لا تقبل منهم،و قد ازدادوا الآن كفرا،لأنّه تعالى قد أخبر أنّهم كانوا قبل ذلك مؤمنين بقوله: كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ فبيّن سبحانه بهذا أنّ توبتهم وقعت محبطة بالكفر الّذي ردفها و وقع في عقبها،و إنّما تكون التّوبة نافعة إذا استمرّ
ص: 175
التّائب على طريقة الصّلاح،و بعد من قبائح الأفعال، و خرج عن الإصباب (1)و الإصرار،إلى الإشفاق و الحذار،أ لا ترى إلى قوله تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ المؤمن:7،فلم يجتز بقوله:(تابوا) حتّى قال: وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، أي لازموا الطّريقة الصّالحة،و فارقوا الأعمال الموبقة.
و يحتمل ذلك أيضا أن يكون هؤلاء القوم أظهروا التّوبة و لم يعتقدوها بل عزموا في المستقبل على إثبات أمثال ما تابوا منه،و لم يندموا على ما فعلوه لقبحه،و هذان الأمران-أعني النّدم على فعل القبيح لأنّه قبيح،و العزم على ترك معاودة مثله في المستقبل-طنبا التّوبة و عموداها اللّذان بهما تقوم و عليهما تستقيم،فإذا أخلّ بهما أو بواحد منهما كانت التّوبة معتلّة غير سليمة، و معوجّة غير قويمة.
و قد روي أنّ هذه الآية نزلت في قوم ارتدّوا مع الحارث بن سويد بن الصّامت الأنصاريّ و لحقوا بمكّة،ثمّ راجع الحارث الإسلام و وفد إلى المدينة،فتقبّل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله توبته،فقال من بقي من أصحابه على الرّدّة:
«نقيم بمكّة ما أردنا،فإذا صرنا إلى أهلنا رجعنا إلى المدينة و أظهرنا التّوبة،فقبلت منّا كما قبلت من الحارث قبلنا.
فهذا الخبر يدلّ على أنّهم عزموا على إظهار التّوبة بألسنتهم عياذا و ليسوا بعاقدين عليها إخلاصا،فلذلك قال سبحانه: وَ أُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ، لأنّهم لو حقّقوا التّوبة و أخلصوا فيها،لكانت مقبولة منهم و محسوبة لهم.
يبيّن ذلك قوله تعالى أمام هذه الآية: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران:89،و معنى الإصلاح هاهنا:الإخلاص في التّوبة،حتّى يكون الباطن كالظّاهر و الخافي كالعالن، فأخبر سبحانه أنّه لا يقبل من التّوبة إلاّ ما عقدت عليه القلوب و الضّمائر،و صدّقته الأفعال و الظّواهر.
و قال بعضهم:إنّما قال سبحانه: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، لأنّهم تابوا من الكفر الزّائد،و ثبتوا على الأصل الثّابت، فلذلك كانت توبتهم غير مقبولة،و قيل:بل تابوا من الكفر الأوّل و لم يتوبوا من الكفر الثّاني،فكان كفرهم واقعا بعد التّوبة،فلذلك لم يقبل منهم.
و قد يجوز عندي-و اللّه أعلم-أن يكون المراد بذلك لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ أي لا تقبل توبتهم و هم على هذه الصّفة من كونهم ضالّين،فيكون قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ حالا،و لا يكون ابتداء و خبرا.فنفى تعالى قبول التّوبة منهم و هم في حال الضّلال،لأنّ التّوبة-كما بيّنّا أوّلا-لا يجب قبولها إلاّ مع الإخلاص و التّحقيق،و بقاء العقد و الضّمير.أ لا ترى إلى قوله تعالى في الآية الّتي فيها يذكر النّساء: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ النّساء:145،فذكر تعالى بعد ذكر التّوبة،الإصلاح و الإخلاص،لأنّ التّوبة إن لم يتبعها ذلك لم تسمّ توبة و لم تسقط عقوبة.
و قد دخلت على بعض العلماء (2)شبهة،فزعم أنّهر.
ص: 176
لا يجوز أن يكون أراد بقوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عند حضور الموت،و جعل علّته في ذلك أنّ الكافر إذا أسلم قبل موته و لو بطرفة عين،فحكمه حكم من أسلم قبل ذلك بالأيّام الكثيرة و المدّة الطّويلة:في الصّلاة عليه و الدّفن له،و في الموارثة،و سائر الأحكام الجارية في الشّريعة.و ذهب عليه أنّه قد يجوز تعبّدنا بذلك كلّه فيه مع كونه ملجأ إلى إظهار الإيمان،كما تعبّدنا في المنافقين بإجراء أحكام المسلمين عليهم،و إن كانوا كفّارا بنفاقهم، فكان العمل على صلاح الظّواهر مع العلم بفساد البواطن.
(حقائق التّأويل:277-282)
عبد الجبّار: مسألة:قالوا:ثمّ ذكر تعالى بعده ما يدلّ على أنّ التّوبة لا يجب قبولها،و أنّه متفضّل بذلك، و له أن يمنع منها.[و ذكر الآية]
و الجواب عن ذلك:أنّ ظاهر قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لا يدلّ على أنّ التّوبة على أيّ وجه وقعت، و قد تقع عندنا على وجه لا يجب قبولها،لأنّ المعاين إذا حضره الموت و حصل مضطرّا إلى معرفة اللّه تعالى، لا تقبل توبته،كما قال تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ النّساء:18،و لذلك لا تقبل توبة أهل النّار لما كانوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح،و لذلك لا يلزم المساء إليه أن يقبل الاعتذار من العاجز عن إساءته.
فإذا صحّ ذلك،فمن أين أنّه تعالى لا يقبل توبتهم و قد وقعت على الوجه الّذي يجب قبولها،و ظاهر الكلام -على ما بيّنّاه-لا يدلّ على ذلك،لأنّه أضاف التّوبة إليهم،و هي لا تقع منهم على كلّ وجه يصحّ وقوعها، فادّعاء العموم في جهاتها لا يصحّ.
و يجوز أن يكون المراد بذلك:أنّ التّوبة المتقدّمة لا تقبل،و قد ازدادوا الآن كفرا،ليتبيّن بذلك أنّ التّوبة وقعت محبطة بالكفر الّذي وليها،و أنّها إنّما تنفع إذا استمرّ التّائب على الصّلاح.و بيّن أنّه تعالى إذا لم يقبل توبتهم و قد ازدادوا كفرا،فهم ضالّون،لأنّ العقاب-على ما بيّنّاه-هو الضّلال و الهلاك.(متشابه القرآن 1:151)
الطّوسيّ: إن قيل:لم لم تقبل التّوبة من هذه الفرقة؟
قيل:لأنّها كفرت بعد إيمانها ثمّ ازدادت كفرا إلى انقضاء أجلها،فحصلت على ضلالتها،فلم تقبل منها التّوبة الأولى في حال كفرها بعد إيمانها،و لا التّوبة الثّانية في حال إيجابها.
و قيل:إنّما لم تقبل توبتهم لأنّهم لم يكونوا فيها مخلصين،بدلالة قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ [ثمّ نقل كلام الطّبريّ و جواب السّيّد الرّضيّ و قال:]
و إنّما لم يجز قبول التّوبة في حال الإلجاء إليه،لأنّ فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد و الذّمّ،و قد قال اللّه تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ...
النّساء:17،و قال: فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا المؤمن:84،85.
فأمّا إذا عاد في الذّنب،فلا يعود إليه العقاب الّذي سقط بالتّوبة،لأنّه إذا تاب منه صار بمنزلة ما لم يعمله، فلا يجوز عقابه عليه،كما لا يجوز عقابه على ما لم يعمله، سواء قلنا:إنّ سقوط العقاب عند التّوبة كان تفضّلا أو
ص: 177
واجبا.و قد دلّ السّمع على وجوب قبول التّوبة و عليه إجماع الأمّة،و قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الشّورى:25،و قال: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ المؤمن:3،و غير ذلك من الآي.(2:527)
الزّمخشريّ: إن قلت:قد علم أنّ المرتدّ كيفما ازداد كفرا فإنّه مقبول التّوبة إذا تاب،فما معنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ؟
قلت:جعلت عبارة«عن الموت»على الكفر،لأنّ الّذي لا تقبل توبته من الكفّار هو الّذي يموت على الكفر، كأنّه قيل:إنّ اليهود أو المرتدّين الّذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر،داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.
فإن قلت:فأيّ فائدة في هذه الكناية،أعني أن كنّي «عن الموت»على الكفر بامتناع قبول التّوبة؟
قلت:الفائدة فيها جليلة و هي التّغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفّار،و إبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرّحمة الّتي هي أغلظ الأحوال و أشدّها، أ لا ترى أنّ الموت على الكفر إنّما يخاف من أجل اليأس من الرّحمة.(1:443)
ابن عطيّة: عند المعاينة[ثمّ نقل قول أبي العالية و قال:]
فإنّهم كانوا يقولون في بعض الأحيان:نحن نتوب من هذه الأفعال،و هم مقيمون على كفرهم،فأخبر اللّه تعالى أنّه لا يقبل تلك التّوبة.
و تحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدّين،ختم اللّه عليهم بالكفر،و جعل ذلك جزاء لجريمتهم و نكايتهم في الدّين،و هم الّذين أشار إليهم بقوله: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً آل عمران:
86،فأخبر عنهم أنّهم لا تكون لهم توبة فيتصوّر قبولها، فتجيء الآية بمنزلة قول الشّاعر:
*على لا حب لا يهتدي بمناره*
أي قد جعلهم اللّه من سخطه في حيّز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم،فهم لا محالة،يموتون على الكفر، و لذلك بيّن حكم الّذين يموتون كفّارا بعقب الآية،فبانت منزلة هؤلاء،فكأنّه أخبر عن هؤلاء المعيّنين أنّهم يموتون كفّارا.(1:470)
الطّبرسيّ: لأنّها لم تقع على وجه الإخلاص، و يدلّ عليه قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ. و لو حقّقوا في التّوبة لكانوا مهتدين.[ثمّ نقل بعض أقوال المفسّرين و أضاف:]
و قد دلّ السّمع على وجوب قبول التّوبة إذا حصلت شرائطها،و عليه إجماع الأمّة.(1:472)
الفخر الرّازيّ: [ذكر أقوال بعض المفسّرين و أضاف:]
و أقول:جملة هذه الجوابات إنّما تتمشّى على ما إذا حملنا قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً على المعهود السّابق لا على الاستغراق،و إلاّ فكم من مرتدّ تاب عن ارتداده توبة صحيحة،مقرونة بالإخلاص في زمان التّكليف.
فأمّا الجواب الّذي حكيناه عن القفّال و القاضي (1)، فهو جواب مطّرد،سواء حملنا اللّفظ على المعهود السّابق أو على الاستغراق.(8:139)ر.
ص: 178
النّيسابوريّ: [نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]
أقول:و يحتمل أن يكون لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ جعل كناية عن الموت على الكفر،كأنّه قيل:إنّ اليهود و المرتدّين المصرّين على الكفر ما يتوبون عن الكفر،لما في فعلهم من قساوة القلوب و الإفضاء إلى الرّين، و انجراره إلى الموت على حالة الكفر.
و فائدة هذه الكناية تصوير كونهم آيسين من الرّحمة.هذا إذا خصّصنا اليهود و المرتدّين بالمصرّين.
و أمّا على تقدير التّعميم،فنقول:إنّما يجعل الموت على الكفر لازما لازدياد كفرهم،لأنّ القضيّة حينئذ لا تكون كلّيّة،فكم من مرتدّ أو يهوديّ مزداد للكفر لا بمعنى الإصرار،يرجع إلى الاسلام و لا يموت على الكفر.فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر،و هو عدم قبول التّوبة،حتّى برز الكلام في معرض الكناية.
و من المعلوم أنّها ذكر اللاّزم و إرادة الملزوم،و أنّه لا بدّ للعدول من فائدة،فصحّ أن نبيّن فائدة العدول على وجه يصيّر القضيّة كلّيّة،و هي التّغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفّار،و إبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرّحمة،الّتي هي أغلظ الأحوال و أشدّها.
أ لا ترى أنّ الموت على الكفر إنّما يخاف لأجل اليأس من الرّحمة،و هذا هو الّذي عوّل عليه في«الكشّاف».
و الحاصل أنّه كأنّه قيل:إنّ اليهود و المرتدّين الّذين فعلوا ما فعلوا من حقّهم،أن لا تقبل توبتهم.(3:245)
أبو حيّان :و يحتمل قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وجهين:
أحدهما:أنّه تكون منهم توبة و لا تقبل،و قد علم أنّ توبة كلّ كافر تقبل سواء كفر بعد إيمان و ازداد كفرا أم كان كافرا أوّل مرّة،فاحتيج في ذلك إلى تخصيص.[ثمّ نقل أقوال المفسّرين و قال:]
و قيل:لن تقبل توبتهم الّتي تابوها قبل أن كفروا، لأنّ الكفر قد أحبطها.
و قيل:لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر، و إنّما تقبل إذا تابوا إلى الإسلام،و فاصل هذا التّخصيص أنّه تخصيص بالزّمان أو بوصف في التّوبة.
و الوجه الثّاني:أن يكون المعنى لا توبة لهم فتقبل، فنفى القبول و المراد نفي التّوبة،فيكون من باب قوله:
*على لاحب لا يهتدى لمناره*
أي لا منار له فيهتدى به،و يكون ذلك في قوم بأعيانهم،حتم اللّه عليهم بالكفر،أي ليست لهم توبة، فهم لا محالة يموتون على الكفر.(2:519)
الشّربينيّ: إن قيل:قد وعد اللّه تعالى قبول توبة من تاب فما معنى قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ؟
أجيب:بأنّ محلّ القبول إذا كان قبل الغرغرة و هؤلاء توبتهم كانت بعدها،و إنّهم لم يتوبوا أصلا،فكنّى عن عدم توبتهم بعدم قبولها،أو أنّ توبتهم لا تكون إلاّ نفاقا.
(1:230)
أبو السّعود :لأنّهم لا يتوبون إلاّ عند إشرافهم على الهلاك،فكنّى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم،و إبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرّحمة،أو لأنّ توبتهم لا تكون إلاّ نفاقا لارتدادهم و ازديادهم كفرا،و لذلك لم تدخل فيه الفاء.(1:389)
مثله البروسويّ(2:61)،و نحوه القاسميّ(4:
ص: 179
884)،و عبد الكريم الخطيب(2:521).
الآلوسيّ: و قيل:إنّ هذا من قبيل:
*و لا ترى الضّبّ بها ينجحر*
أي لا توبة لهم حتّى تقبل،لأنّهم لم يوفّقوا لها،فهو من قبيل الكناية-كما قال العلاّمة[أبو السّعود]-دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه،لينتقل منه إلى الملزوم.
و على كلّ تقدير لا ينافي هذا ما دلّ عليه الاستثناء و تقرّر في الشّرع،كما لا يخفى.
و قيل:إنّ هذه التّوبة لم تكن عن الكفر و إنّما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه،فتابوا عنها مع إصرارهم على الكفر،فردّت عليهم لذلك.
و يؤيّده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية.[و قد تقدّم]
و تجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع، و قد بسط الكلام عليها في«الأصول».(3:218)
رشيد رضا :يعدّونه من المشكلات؛إذ هو مخالف في الظّاهر للآية السّابقة،و لمثل قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ... الشّورى:25.[ثمّ نقل أقوال المفسّرين و قال:]
فأنت ترى أنّ هذه الأقوال-و هي أظهر ما قيل في الآية-منها ما يرجع إلى وقت التّوبة،و منها ما يتعلّق بالذّنب الّذي تيب عنه.و للأستاذ الإمام وجه يتعلّق بصفة التّوبة و كيفيّتها،فقد ذكر في الدّرس أنّ أولئك الكافرين الّذين ازدادوا كفرا قد يحدث لهم في أنفسهم ألم من مقاومة الحقّ،و قد يحملهم ذلك الألم على ترك بعض الذّنوب و الشّرور.
قال:فهذا النّوع من التّوبة لا يقبل منهم ما لم يصلحوا أمرهم و يخلصوا للّه في اتّباع الحقّ و نصرته.فالتّوبة الّتي يزعمونها على ما هم عليه من مقاومة المحقّين لا يقبلها اللّه تعالى،يعني أنّه قد يقع من هؤلاء نوع من التّوبة لا يكون مطهّرا لأنفسهم من جميع ما لصق بها من الكفر و الأوزار.
و ليس هذا عين قول من قال:إنّ توبتهم هذه الّتي لا تقبل هي توبة في الظّاهر دون الباطن،و باللّسان دون القلب، فإنّ ذلك نفي للتّوبة و هذا إثبات لها،بل هو قريب من قول ابن جرير الّذي هو أظهر الأقوال السّابقة.
و قد يكون مراد الأستاذ الإمام:أنّ النّفوس قد توغل في الشّرّ و تتمكّن في الكفر حتّى تحيط بها خطيئتها،و تصل إلى ما عبّر عنه القرآن:بالرّين و الطّبع و الختم على القلوب.فإذا كان صاحب هذه النّفس قد جحد الحقّ عنادا و استكبارا و ضلّ على علم،فلا يبعد أن تحدّثه نفسه بالتّوبة و أن يحاولها،و لكن يكون له في نفسه من الموانع و الحوائل دون قبولها للخير و الحقّ ما يكون هو السّبب لعدم قبولها.
فإنّ قبول التّوبة المستلزم لمغفرة ذنب التّائب،ليس من قبيل العطاء الجزاف و الأمر الأنف،و إنّما بموافقة سنن اللّه في الفطرة الإنسانيّة،ذلك أنّ من مقتضى الفطرة السّليمة أن يحدث لها-العلم بقبح الذّنب و سوء عاقبته- ألما يحملها على تركه و محو أثره المدنّس لها،بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادّا لذلك الأثر.
و بهذا تكون التّوبة معدّة صاحبها و مؤهّلة له للمغفرة الّتي هي ترك العقوبة على الذّنب المترتّب على محو سببه، و هو تدنيس النّفس و تدسيتها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها الشّمس:9،10.
ص: 180
و بهذا تكون التّوبة معدّة صاحبها و مؤهّلة له للمغفرة الّتي هي ترك العقوبة على الذّنب المترتّب على محو سببه، و هو تدنيس النّفس و تدسيتها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها الشّمس:9،10.
فإذا بلغت التّدسية من بعضها مبلغا تتعذّر معه التّزكية على مريدها أو محاولها،صحّ أن يعبّر عن ذلك بعدم قبول توبة صاحب هذه النّفس،مثال ذلك الثّوب الأبيض النّاصع يصيبه لوث،فيستقبح ذلك صاحبه فيغسله فينظف.فإذا كان اللّوث قليلا و بادر إلى غسله بعيد طروئه،يرجى أن يزول حتّى لا يبقى له أثر.و لكن هذا الثّوب إذا دسّ في الأقذار سنين كثيرة حتّى تخلّلت جميع خيوطه،و تمكّنت منها فاصطبغ بها صبغة جديدة ثابتة،تعذّر تنظيفه و إعادته إلى نصاعته الأولى.
و بين هذه الدّرجة و ما قبلها درجات كثيرة،و قد أشير إلى الطّرفين بقوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً النّساء:17، وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ النّساء:18.(3:366)
نحوه المراغيّ.(3:208)
عزّة دروزة :و لقد تعدّدت تأويلات المفسّرين لمفهوم الآية:90 من سورة آل عمران الّذي يمنع قبول توبة الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرا،فقال بعضهم:إنّها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدّين في كفرهم.
و قال بعضهم:لا تقبل منهم أعمال خير و هم على كفرهم،و هذا و ذاك من تحصيل الحاصل.
و قال بعضهم:لا تقبل توبتهم حين الظّفر بهم،لأنّ توبتهم تكون غير صادقة.
و قال بعضهم:لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت.
و قد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة و الصّواب.و في سورة النّساء آيات تؤيّد القول الأخير خاصّة،حيث جاء فيها إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ الآية، النّساء:17،18.
و يتبادر لنا إلى ذلك أنّ أسلوب الآية و الآية الّتي تليها هو أسلوب تعبيريّ في صدد شدّة الإنذار،تتناسب مع فضاعة العمل.(8:126)
الطّباطبائيّ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً إلى آخر الآيتين،تعليل لما يشتمل عليه قوله أوّلا: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا... آل عمران:
86،و هو من قبيل التّعليل بتطبيق الكلّيّ العامّ على الفرد الخاصّ.
و المعنى أنّ الّذي يكفر بعد ظهور الحقّ و تمام الحجّة عليه،و لا يتوب بعده توبة مصلحة إنّما هو أحد رجلين:
إمّا كافر يكفر ثمّ يزيد كفرا فيطغى،و لا سبيل للصّلاح إليه،فهذا لا يهديه اللّه و لا يقبل توبته،لأنّه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضّلال،و لا مطمع في اهتدائه.
و إمّا كافر يموت على كفره و عناده من غير توبة يتوبها،فلا يهديه اللّه في الآخرة بأن يدخله الجنّة؛إذ لم يرجع إلى ربّه،و لا بدل لذلك حتّى يفتدي به،و لا شفيع و لا ناصر حتّى يشفع له أو ينصره.(3:341)
مكارم الشّيرازيّ: [ذكر الوجوه المذكورة عن المفسّرين،في عدم قبول التّوبة و أضاف:]
لا بدّ أن نضيف هنا أنّ التّفاسير المذكورة آنفا
ص: 181
لا تعارض بينها،و قد تشملها الآية جميعا،و أن يكون التّفسير الأوّل[و هو التّوبة الظّاهريّة لا الواقعيّة] أقرب إلى الآيات السّابقة و إلى سبب نزول هذه الآية.
(2:443)
غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ... المؤمن:3
الطّبريّ: إنّ(التّوب)قد يكون جمع توبة،كما يجمع الدّومة دوما،و العومة عوما،من عومة السّفينة.
[ثمّ استشهد بشعر]
و قد يكون مصدر:تاب يتوب توبا.(24:41)
نحوه الماورديّ(5:142)،و الطّوسيّ(9:54)، و البغويّ(4:104)،و الميبديّ(8:448).
الزّمخشريّ: التّوب و الثّوب و الأوب:أخوات، في معنى الرّجوع.(3:412)
الفخر الرّازيّ: في لفظ(التّوب)قولان:الأوّل:أنّه مصدر،و هو قول أبي عبيدة.و الثّاني:أنّه جماعة التّوبة، و هو قول الأخفش.
قال المبرّد: يجوز أن يكون مصدرا،يقال:تاب يتوب توبا و توبة،مثل قال يقول قولا و قولة.و يجوز أن يكون جمعا ل«توبة»فيكون:توبة و توب،مثل ثمرة و ثمر إلاّ أنّ المصدر أقرب،لأنّ على هذا التّقدير يكون تأويله أنّه يقبل هذا الفعل.(27:27)
نحوه القرطبيّ.(15:291)
أبو حيّان :و(التّوب)يحتمل أن يكون كالذّنب اسم جنس،و يحتمل أن يكون جمع«توبة»كبشر و بشرة و ساع و ساعة.(7:449)
البروسويّ: و(التّوب)مصدر كالتّوبة و هو ترك الذّنب،على أحد الوجوه،و هو أبلغ وجوه الاعتذار، فإنّ الاعتذار على ثلاثة أوجه:إمّا أن يقول المعتذر:لم أفعل،أو يقول:فعلت لأجل كذا،أو فعلت و أسأت و قد اقلعت،و لا رابع لذلك،و هذا الثّالث هو التّوبة.[ثمّ بيّن معنى التّوبة،كما تقدّم](8:150)
الحيريّ: التّوبة على ثلاثة أوجه:
أحدها:الرّجوع من الذّنب،كقوله: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا البقرة:160،و نظيرها في النّساء:146، إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللّهِ، و قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ النّساء:17، و قوله: أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ المائدة:74، و قوله: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ المائدة:34،و قوله: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ التّوبة:5،11،و قوله: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام:54،و قوله: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ مريم:60،و الفرقان:70.
و الثّاني:التّجاوز،كقوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:37،54،و قوله: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ البقرة:160،و قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ... فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ النّساء:17،و قوله: يَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الأحزاب:73.
و الثّالث:النّدامة،كقوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
ص: 182
التّوبة:118.(152)
نحوه الدّامغانيّ.(177)
الفيروزآباديّ: ورد«التّوبة»في القرآن على ثلاثة أوجه:
الأوّل:بمعنى التّجاوز و العفو،و هذا مقيّد ب«على»:
فَتابَ عَلَيْكُمْ البقرة:54، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ الأحزاب:24، وَ يَتُوبُ اللّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ التّوبة:15.
الثّاني:بمعنى الرّجوع و الإنابة،و هذا مقيّد ب«إلى»:
تُبْتُ إِلَيْكَ الأحقاف:15، تُوبُوا إِلَى اللّهِ التّحريم:8، فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ البقرة:54.
الثّالث:بمعنى النّدامة على الزّلّة،و هذا غير مقيّد لا ب«إلى»و لا ب«على»: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا البقرة:160، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ التّوبة:3.
(2:308)
1-الأصل في هذه المادّة:التّوبة،و هي الرّجوع إطلاقا ثمّ خصّت بالرّجوع إلى اللّه عن المعصية،يقال:
تاب إلى اللّه يتوب توبا و توبة و متابا،أي أناب و رجع عن المعصية إلى اللّه،فهو تائب و توّاب.و تاب اللّه عليه:
عاد عليه بالمغفرة،فهو توّاب،لأنّ توبته عليه بفضله إذا تاب إليه من ذنبه،و استتبت فلانا:عرضت عليه التّوبة ممّا اقترف،أي الرّجوع و النّدم على ما فرط منه.
2-و يبدو أنّ التّوبة بهذا المعنى من الألفاظ الإسلاميّة،كالإيمان و الإسلام و الكفر و النّفاق و غيرها، رغم أنّ ابن فارس لم يذكرها في باب«الأسباب الإسلاميّة»من كتاب«الصّاحبيّ»،و لا السّيوطيّ في «معرفة الألفاظ الإسلاميّة»من كتاب«المزهر»؛إذ يعضده ما ذكره ابن عبّاد في«المحيط»أنّ«التّوبة:
الإسلام،يقال:أدرك فلان زمن التّوبة».و عقّب الزّمخشريّ في«الأساس»معلّلا:«لأنّه يتاب فيه من الشّرك».
3-و من الغريب أنّ«آرثر جفري»قد فرّق بين «تاب»و«توّاب»في«مفرداته»،و أفرد لكلّ منهما فصلا،فزعم جازما أنّ«تاب»لفظ آراميّ الأصل، و نقل عن ندّه«بارسكي»أنّ لفظ«توّاب»ليس مشتقّا من«تاب»،بل هو لفظ مستقلّ،دخل العربيّة من الآراميّة أيضا!
و لكن غاب عن ذهنه الوقّاد أنّه لم يأت الفعل «تاب»في اللّغات السّاميّة إلاّ في العربيّة،و ما ذكر هو «ثاب»بالثّاء بنفس المعنى في هذه اللّغات و منها العربيّة، يقال:ثاب يثوب ثوبا و ثوبانا:رجع،فقلبت الثّاء تاء في الآراميّة و السّريانيّة،و شينا في العبريّة،كما هو مطّرد في هذه اللّغات،لعدم وجود الثّاء فيها،فجاء في الآراميّة بلفظ«توب»و في السّريانيّة«تب»،و في العبريّة «شوب».
و أمّا لفظ«التّوّاب»المشتقّ من هذه المادّة،فلم نعثر عليه في سائر اللّغات السّاميّة،اللّهمّ إلاّ كلام لبعض المستشرقين-مثل«بارسكي»الآنف الذّكر-يشوبه تمحّل واضح،لا يسمن و لا يغني من جوع.
ص: 183
جاء ماضيا و مضارعا و أمرا و مصدرا و اسم فاعل في (59)آية،و لها محوران،و قد يتداخلان:
ألف:التّوبة من اللّه على العباد:(20)آية و تضاف إليها آيات التّوّاب وصفا للّه و هي(8)آيات:
1- فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:37
2- وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:54
3- ...عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ... البقرة:187
4- فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة:39
5- وَ حَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ... المائدة:71
6- لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ التّوبة:117
7- وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ التّوبة:118
8- ...وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى* ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى طه:121،122
9- أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ المجادلة:13
10- ...وَ اللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ... المزّمّل:20
11- رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:128
12-13- إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً النّساء:17،18
14- يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ النّساء:26
15- وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً النّساء:27
16- وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التّوبة:15
17- ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ التّوبة:27
18- لِيُعَذِّبَ اللّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً الأحزاب:73
ص: 184
18- لِيُعَذِّبَ اللّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً الأحزاب:73
19- وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التّوبة:102
20- وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التّوبة:106
ب:التّوبة إلى اللّه:(39)آية:
21- إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً مريم:60
22- وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى طه:82
23- إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان:70
24- وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً الفرقان:71
25- فَأَمّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ القصص:67
26- وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً
النّساء:16
27- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:160
28- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران:89
29- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً النّساء:146
30- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. النّور:5
31- وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ الأعراف:153
32- ...كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام:54
33- ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ النّحل:119
34- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة:34
35- ...فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التّوبة:5
36- فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
التّوبة:11
37- رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ
المؤمن:7
38- ...فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الأعراف:143
39- إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ... التّحريم:4
ص: 185
39- إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ... التّحريم:4
40- ...فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ التّوبة:74
41- إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ
البروج:10
42- أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ التّوبة:126
43- وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً... هود:3
44- وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ هود:52
45- ...هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ
هود:61
46- وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ هود:90
47- وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النّور:31
48- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً... التّحريم:8
49- وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ الشّورى:25
50- أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ التّوبة:104
51- وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ النّور:10
52- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ... وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ الحجرات:12
53- ...فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً النّساء:64
54- فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً النّصر:3
55- ...إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
البقرة:222
56- اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ...
التّوبة:112
57- ...مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ التّحريم:5
58- ...فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ... النّساء:92
59- ...قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ الرّعد:30
يلاحظ أوّلا:أنّ«التّوبة»صنفان:توبة من اللّه على العباد،و توبة من العباد إلى اللّه،و الآيات(1-20) و(26)و(27)و(49)إلى(54)ترجع إلى الصّنف الأوّل،و هي(29)آية،و الآيات(21-48)و(2)و(4) و(7)و(12)و(13)من الصّنف الثّاني،و المجموع(32) آية،فهناك آيات جمع فيها الصّنفان،و سنتحدّث عنها.
ثانيا:أنّ«التّوبة»في الصّنف الأوّل تعدّت في كثير من آياتها ب«على»،و معناها رجوع اللّه على العباد
ص: 186
رجوع رحمة،و«على»لاستعلاء اللّه على العباد حين يتوب عليهم،لأنّه المتعال على كلّ شيء.
و جاءت أكثر آيات الصّنف الثّاني بدون متعلّق، مثل: وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً... و قد تعدّت بعضها ب«إلى»،مثل:(24): فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً، و(38): سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ و(39): إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ، و في(43-46): ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، و في(47) و(48): تُوبُوا إِلَى اللّهِ، و في(59): وَ إِلَيْهِ مَتابِ.
و معنى ذلك أنّ العباد يرجعون من الموضع الدّاني إلى اللّه المتعالي،و هذا هو الفارق بين«تاب على»و«تاب إلى»،فالأوّل خاصّ باللّه ربّ العباد،و الثّاني خاصّ بالعباد.
ثالثا:و قد يتغيّر الأسلوب فيهما،ففي صدر(12):
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فانعكس الأمر،حيث تعلّق«على» باللّه،و«اللاّم»بالنّاس،فيتوهّم أنّها صنف ثالث بإزائهما.و ليست كذلك،بل معناها أنّ اللّه أخذ على نفسه للنّاس أن يتوب لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فتدلّ على أنّ توبة اللّه عليهم تتحقّق عقيب توبتهم،فهي من القسم الأوّل كما سيأتي.
رابعا:«التّوبة»إلى اللّه قسمان:ففي بعض الآيات مقدّمة على توبة اللّه عليهم،و في بعضها متأخّرة عنها.
فمن الأوّل الآية(12)،فإنّ الّذين يعملون السّوء بجهالة إذا تابوا إلى اللّه فعند ذلك يتوب اللّه عليهم،كما قال في ذيلها: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ. و مثلها(2):
فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ... فَتابَ عَلَيْكُمْ، و(4): فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، و(26): وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا... إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً، و(27): إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ، و هذا هو طبيعة التّوبتين،فإنّ توبة العباد مجلبة لتوبة اللّه عليهم.
و من الثّاني الآية(7): ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، و قد فسّروها بوجوه:
1-لطف بهم في التّوبة،و وفّقهم لها فتابوا،و الأصل فيه قول الحسن:«جعل لهم التّوبة ليتوبوا بها»و المخرج ليخرجوا به».فالتّوبة نعمة من اللّه أنعمها عليهم،كما أنّ الدّعاء نعمة منه.و إليه يؤول كلام الطّبرسيّ:«ثمّ سهّل اللّه عليهم التّوبة حتّى تابوا».و بهذا احتجّ الفخر الرّازيّ على أنّ فعل العبد فعل اللّه،فنسب التّوبة إليهما،و قد ذكر لها نظائر من القرآن،فلاحظ و تأمّل.
2-قبل توبتهم ليستقيموا على توبتهم،و يثبتوا عليها في المستقبل.
3-تاب اللّه عليهم لينتفعوا بها فيتوبوا،و عليه فللّه توبتان تتوسّطهما توبة العباد،فتاب عليهم ليتوبوا،ثمّ قال: أَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ. و لعلّ الوجه الأخير أقرب إلى السّياق،و أليق بكرامة اللّه تعالى للعباد و هو الّذي اعتمد عليه الطّباطبائيّ.
خامسا:تنقسم آيات التّوبة إلى توبة عن معصية -و هي الأكثر-و توبة عن كفر و نفاق،و هي الأقلّ، و يشخّصهما السّياق:
فالقسم الأوّل خطاب للمؤمنين،و يقارن بأمور
ص: 187
كالعفو(3): فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ، و(49):
وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، و الإصلاح(4): فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ، و الزّيغ(6): مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ، و الضّيق و الالتجاء إليه(7): حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ...، و الاجتباء و الهداية(8):
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى، و ترك الصّدقة عند النّجوى(9): أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ...، و التّقصير(10): عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ، و المناسك(11): وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا، و السّيّئات و الجهالة(12): إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، و سنخصّها بالبحث،و البيان و الهداية(14): يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، و نحوها.
أمّا القسم الثّاني فخطاب للكفّار و المنافقين،و قد يقارن بالإيمان و العمل الصّالح،مثل:(21-25): إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً، أو بالإيمان وحده.
و العمدة في ذلك ملاحظة المخاطبين و أعمالهم(31):
وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا.
و بالصّلاة و الزّكاة(35): فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ. و نظيرها(36).
سادسا:حصرت الآية(12)التّوبة بالّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، ففيها ثلاثة عناصر:عمل السّوء،و الجهالة،و التّوبة من قريب.
و معنى ذلك أنّ من كفر أو نافق،أو عمل السّوء بعلم،أو لم يتب من قريب،فلا توبة له!و نظيرها الآيتان(32) و(33): ...مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ...، ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا....
فلنتناول تلك العناصر الثّلاثة بالبحث أوّلا:ثمّ وجه الحصر ثانيا.
1-عمل السّوء في تلك الآيات الثّلاث،و عمل السّيّئات في(31)ظاهر في المعصية،كبيرة كانت أو صغيرة،و خصّها بعضهم بالصّغيرة بحسب السّياق،و هو لا يبعد دون الشّرك و الكفر و النّفاق،لاحظ السّوء من «س و ء».
2-الجهالة:و هو يقابل الجهل بإزاء العلم تارة،و هو الشّائع في الكلام،و بإزاء العقل تارة أخرى،و هو الغالب عليه في القرآن؛إذ لم يأت من الأوّل حسب السّياق، سوى«الجاهل»في يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ البقرة:
273،و«الجهالة»في أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ الحجرات:6،و كذلك في السّنّة.و قد بدأ الكلينيّ المحدّث الإماميّ الكبير(م 329 ه)كتابه«الكافي»ب«كتاب العقل و الجهل»،فالمراد منها في آيات التّوبة السّفاهة،و قديما قالوا:«من عصى اللّه فهو جاهل»،لاحظ«ج ه ل»، و على هذا فقيد«الجهالة»توضيحيّ.
3-«من قريب»،أي دون إصرار عليه دهرا طويلا، و قيل:قبل موته،بقرينة ما بعدها في(13): حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، و هذا
ص: 188
توضيحيّ أيضا.
أمّا وجه الحصر فيها فيبيّنه ما بعدها وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ...، أي يشترط في قبول التّوبة أن لا تتأخّر إلى أوان الموت،و لا تصدر عن الكافر،فالحصر هنا إضافيّ و ليس حقيقيّا،و لم يأت المفسّرون-رغم إسهابهم فيه-بيانا واضحا،فلاحظ النّصوص.
سابعا:أشكلت توبة الأنبياء على المفسّرين من كلا الفريقين في(1)و(6)و(8)و(11)و(39)،لاقتضائها صدور المعصية منهم،و هم منزّهون عنها لعصمتهم!و قد احتلّت أجوبتهم مساحات واسعة من كتب التّفسير، و نوجزها بما يلي:
1-إنّها ليست معصية،و إنّما هي ترك الأولى،و ترك الأولى منهم-قد يعبّر عنه بالعصيان،كما في شأن آدم وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى طه:121-و إن قيل:إنّ عصيانه كان قبل هبوطه إلى الأرض-فإنّ للنّاس درجات،و إنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.و إليه يرجع ما يقال:إنّ الأنبياء يرون طاعتهم لا تليق بجلال اللّه،فيتوبون عنها كأنّها معصية صدرت عنهم.
فالتّوبة تختلف باختلاف التّائبين،فتوبة عامّة المؤمنين:النّدم على ما صدر عنهم من المعصية،و العزم على عدم العود إليه.و توبة الخواصّ:الرّجوع من المكروهات و خواطر السّوء و من الفتور في الأعمال، و الإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال.و توبة خواصّ الخواصّ-و هم الأنبياء عليهم السّلام-لرفع الدّرجات،و التّرقّي في المقامات،و إلى أمثالها ممّا جاء في النّصوص.و هذه اختلفت ألفاظها فإنّها جميعا ترجع إلى وجه واحد،و هو عندنا أحسن الوجوه.
2-ليس أحد من خلق اللّه إلاّ و له من العمل فيما بينه و بين اللّه ما يوجب عليه التّوبة،و لا بدّ من إرجاع هذا إلى ما قبله،و إلاّ فهو اعتراف بصدور المعصية منهم.
3-قالوا في(11): وَ تُبْ عَلَيْنا في دعاء إبراهيم و إسماعيل،أي تب على الظّلمة من أولادنا،و إليه يرجع كلّ ما قيل:إنّ الأنبياء إنّما يتوبون عن سيّئات أممهم دون أنفسهم.
4-إنّها تعليم للنّاس ليقتدوا بهم و يجعلوهم أسوة.
5-إنّها طلب لمزيد من رحمة اللّه بلسان التّوبة إليه، كما قال النّبيّ:«و إنّي لأتوب إلى اللّه في اليوم،و أستغفر سبعين مرّة»،و هو رجوع من حالة إلى أرفع منها.
6-إنّها توبة عمّا فرط منهم سهوا من الصّغائر الّتي ليست فيها رذيلة،و هذا قول بعض أهل السّنّة من المعتزلة دون جمهورهم،و عامّة الإماميّة.
7-التّوبة لغة:الرّجوع إلى اللّه،و هو لا يستلزم صدور معصية عنهم،و هذا لا يتماشى مع سياق بعض الآيات،كيف و قد قال تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى طه:121.
8-إنّها طلب التّثبّت و الدّوام في طاعة اللّه.
9-إنّها جاءت بصورة التّوبة تشدّدا في الانصراف عن المعصية.
10-طلبوا التّوبة هضما لأنفسهم أمام اللّه، و إرشادا لذرّيّتهم،و هذا راجع إلى الوجهين:(1)و(2).
ثامنا:من جملة تلك الآيات الآية(6): لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ... فلا يأتي فيها شيء من التّوجيهات المذكورة في سائر الآيات،لأنّها راجعة جميعا إلى توبة الأنبياء دون توبة اللّه عليهم.و قد زاد الطّين بلّة أنّها ضمّت النّبيّ إلى المهاجرين و الأنصار، فتاب اللّه عليهم جميعا،كما جاء فيها بصيغة واحدة، فظاهرها صدور ذنب عنه عليه السّلام و عنهم في عرض واحد.
ص: 189
ثامنا:من جملة تلك الآيات الآية(6): لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ... فلا يأتي فيها شيء من التّوجيهات المذكورة في سائر الآيات،لأنّها راجعة جميعا إلى توبة الأنبياء دون توبة اللّه عليهم.و قد زاد الطّين بلّة أنّها ضمّت النّبيّ إلى المهاجرين و الأنصار، فتاب اللّه عليهم جميعا،كما جاء فيها بصيغة واحدة، فظاهرها صدور ذنب عنه عليه السّلام و عنهم في عرض واحد.
و قد أوّلوها بوجوه بعد اتّفاقهم على نزول الآية في شأن غزوة تبوك،و كانت شاقّة عليهم جدّا،كما صرّح به القرآن فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ:
1-توبته على النّبيّ من أجل أنّه أذن للمنافقين في القعود،و كان يرى فيه مصلحة،و دليله قوله قبلها في هذه السّورة: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ التّوبة:43،فأرشده اللّه إلى ما هو أعلى من ذلك،فمرجعه إلى ترك الأولى.
و ما أحسن قول الطّبرسيّ فيها(5:65):«و هذا من لطيف المعاتبة،بدأ بالعفو قبل العتاب».
و أمّا التّوبة على المؤمنين فمن أجل ميل قلوب بعضهم إلى التّخلّف عنه من شدّة العناء،أو من أجل زيغ قلوب فريق منهم،كما صرّحت به الآية،أو تثاقل بعضهم في الخروج،أو استماعهم إلى المنافقين،فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين.
2-ازداد عنهم رضا،فأكّده بقوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
3-رزق اللّه النّبيّ و المهاجرين و الأنصار الإنابة إلى اللّه في ساعة العسرة،و الثّبات على دينه،و الصّمود في طاعته.
4-استنقاذهم من شدّة العسر و تخليصهم من نكاية العدوّ،و عبّر عنها بالتّوبة،لأنّها لغة رجوع إلى الحالة الأولى.
5-لقد أقسم لهم-لأنّ اللاّم في«لقد»للقسم-بأنّه رجع عليهم مرّتين:مرّة قبل توبتهم،و مرّة بعد توبتهم؛ حيث قال: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ، فقبل توبتهم عمّا صدر عنهم من ترك الأولى في النّبيّ و خواطر السّوء في المؤمنين.
6-افتتح اللّه توبته على النّبيّ،فذكره مفتاحا للكلام و تحسينا له،أو لأنّه كان سبب توبتهم فذكره معهم، كقوله: فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ الأنفال:41،عند من جعل ذكر اللّه تبرّكا،لا استحقاقا للخمس.
7-إنّه بعث للمؤمنين على التّوبة،و أنّه ما من مؤمن -حتّى النّبيّ-إلاّ و هو محتاج إلى التّوبة،كما أنّه إبانة لفضل التّوبة عند اللّه،و أنّ صفة التّوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصّالحين ليظهر فضيلة الصّلاح،و لهذا كرّرها.
8-إنّهم لمّا تحمّلوا مشاقّ هذا السّفر و متاعبه، و صبروا على تلك الشّدائد و المحن،جعلها اللّه مكفّرة لجميع الزّلاّت الّتي صدرت عنهم طيلة حياتهم،و قامت مقام التّوبة منهم.
9-ضمّ إليهم اسم النّبيّ تنبيها على عظم مراتبهم في الدّين،و أنّهم قد بلغوا إلى الدّرجة الّتي ضمّ فيها النّبيّ إليهم.
10-و نحوها ممّا يرجع إلى إحدى هذه،أو إلى ما أحصيناه من الوجوه قبلها.
ص: 190
11-فرّق الطّباطبائيّ بين الآيتين:(117)و(118) من هذه السّورة،و أنّ نوع التّوبة على أهل الآيتين مختلف،فقد تاب على جميع أهل الآية الأولى-و هم النّبيّ و المهاجرون و الأنصار-أو على بعضهم من غير معصية منهم،و تاب على أهل الثّانية-أي الثّلاثة الّذين خلّفوا-و هم عاصون.
غير أنّ السّياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد،و متّصلتان بكلام واحد،لأنّ الثّانية عطفت على الأولى،أي«على الثّلاثة»عطف على«النّبيّ و المهاجرين»،فهي غير مستقلّة عنها لفظا،بل مستقلّة عنها معنى،و في الأولى دلالة واضحة على أنّه لم يكن للنّبيّ ذنب...إلى آخر ما ذكره مطوّلا،و هو خلاف سياق الآيات،و لا سيّما قوله: عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.
تاسعا:لقد كرّرت التّوبة في بعض الآيات،و هي أقسام:
أ-ما كرّرت مرّتين،و كلاهما من اللّه:
1- فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (1).
2- لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ... ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ (6).
3- وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (11).
4- أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ... وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (50).
و لا ريب أنّ تكرار التّوبة من اللّه للتّأكيد،و لا سيّما بلفظ(التّوّاب الرّحيم)،دلالة على أنّها صفة ثابتة للّه، و أنّه مستعدّ دائما لقبول توبة العباد،و العطف عليهم بلا حدّ و لا منتهى إذا أذنبوا و تابوا،و سنوضّح ذلك في معنى«التّوّاب».
و للمفسّرين وجوه في تكرار التّوبة في الآية(6)، و حاصلها ما يلي:
1-التّأكيد لقبول توبتهم تطييبا لقلوبهم،و إزالة لوساوسهم،و هو بمثابة:عفا السّلطان عن فلان،ثمّ عفا عنه.فدلّ على أنّ ذلك العفو عفو متأكّد،بلغ الغاية في الكمال و القوّة.
2-أو أنّ الأولى في الذّهاب إلى«تبوك»،و الثّانية في الرّجوع عنها.
3-الأولى في السّفر،و الثّانية بعد العودة إلى المدينة.
4-الأولى قبل توبتهم و الثّانية بعدها.
5-الأولى قبل ذكر الذّنب و الثّانية بعده.
6-الأولى للنّبيّ و المهاجرين و الأنصار جميعا،و هي لطف و تكريم لهم من دون ذنب منهم،و الثّانية خاصّة بالمهاجرين و الأنصار أو ببعضهم بإزاء ما صدر عنهم من ذنب،و هو الّذي يستفاد من كلام الطّباطبائيّ على طوله.
7-الأولى إنشاء للتّوبة،و الثّانية استدامتها.
8-إنّه لمّا ذكر أنّ فريقا منهم كادت قلوبهم تزيغ، نصّ على التّوبة ثانيا،رفعا لتوهّم أنّه سكوت عنهم في التّوبة فكرّرها،و ذكر سببها،و هو رأفته بهم و رحمته لهم.
و من هذا القبيل الآيتان(14)و(15)،فالثّانية من تتمّة الأولى في سورة النّساء(26)و(27)،و قد كرّر فيهما يَتُوبَ عَلَيْكُمْ.
ب-ما كرّرت مرّتين،و كلاهما من العباد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً (48).
و قد جاء في النّصوص تفسير«التّوبة النّصوح»
ص: 191
و شروطها فلاحظ.و النّصوح:مبالغة في النّصح،أي التّوبة الّتي تنصح الإنسان العاصي مرّة بعد مرّة،حتّى ينوي ألاّ يعود إلى الذّنب أبدا،لاحظ«ن ص ح».
ج-ما كرّرت مرّتين:مرّة من اللّه و مرّة من العباد:
1- فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ (4).
2- فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا... إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (26).
و هذا الأسلوب موافق لطبيعة التّوبة؛حيث يبدأ العبد بالتّوبة إلى اللّه،فيتوب اللّه عليه،و هو بمنزلة الدّعاء من العبد و الإجابة من اللّه تعالى.
د-ما كرّرت ثلاث مرّات،و كلّها من العباد:
وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً (24).
و هذه الآية من تتمّة ما قبلها(23): إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فقد كرّرت التّوبة فيهما أربع مرّات،و كلّها من قبل العبد.أمّا وجه تكرارها في الآيتين فيحتمل أن تكون الأولى في من تاب من المشركين المذكورين فيها، و لهذا قال فيها: مَنْ تابَ وَ آمَنَ. و الثّانية في من تاب من المسلمين عن سيّئاته،و ليس فيه(و آمن)،لأنّه مؤمن بالفعل.
و أمّا وجه تكرارها في الثّانية ثلاث مرّات:مرّة في الشّرط(من تاب)،و مرّتين في الجزاء فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً -و(متابا)فيها مصدر ميميّ،و هو مفعول مطلق جاء تأكيدا للفعل-فقيل في وجهها:إنّ الجزاء تكرار للشّرط للتّنبيه على عظمها،و هو من قبيل:من ناظر فإنّه يناظر في النّحو.
أي من تاب فينبغي أن يتوب متابا لا يعود إلى ذنبه أبدا،أو من تاب فقد عمل عملا عظيما،و ثوابه و جزاؤه عظيمان،كما يقال:إذا تكلّمت فاعلم أنّك تكلّم الوزير،أى تكلّم من يعرف كلامك و يجازيك.
و قيل:معناها من تاب عن سيّئاته فإنّه يرجع إلى ربّه مرجعا يقبله منه.و عليه فالأولى هي التّوبة،و الثّانية جزاؤها.
و قيل:الأولى الرّجوع عن القبيح،و الثّانية الرّجوع إلى اللّه،و هما شيئان،و الثّاني مترتّب على الأوّل،أي من يرجع عن عمل قبيح فلا بدّ أن يرجع إلى اللّه،لكي يقبله منه و يجزيه عليه،لاحظ النّصوص.
ه-ما كرّرت ثلاث مرّات:مرّة من العبد و مرّتين من اللّه:
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ (27).
فهذه من قبيل(ج)توبة من العبد و جزاء من اللّه، و ذيله وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ، تأكيد لما قبله بذكر «التّوّاب»،و هو للمبالغة،أي أنّها صفة دائمة له تعالى.
و-ما كرّرت أربع مرّات:ثلاث من اللّه،و واحدة من العباد.
وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا... ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (7).
فقوله:(و على الثّلثة)عطف على ما قبله لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ...، فهذه توبة واحدة من اللّه في صدر
ص: 192
الآية،و اثنان في ذيلها تابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ... هُوَ التَّوّابُ، و يتوسّطها قوله:(ليتوبوا)،و هي للعباد.
و إذا ضمّت هذه الآية إلى ما قبلها لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ -و قد تكلّمنا حولها-فيرتقي ذكر التّوبة فيهما إلى ستّ مرّات.و معلوم أنّ تكرار التّوبة من اللّه على الّذين خلّفوا صدرا و ذيلا تطييب لقلوبهم،و تأكيد للطف اللّه بهم،و قد سبق بيانه في الآية(6).
إنّما الكلام هنا في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، حيث ترتّبت و تعاقبت فيها توبة العباد على توبة اللّه، و هو خلاف المعتاد الّذي مرّ في(ج)،فأوّلوها بوجوه:
1-لطف اللّه بهم في التّوبة و وفّقهم لها.
2-قبل توبتهم ليتمسّكوا بها في المستقبل.
3-قبل توبتهم ليرجعوا إلى حال الرّضا عنهم،أو إلى حالتهم الأولى قبل المعصية،أو ليرجعوا إلى حالهم في الاختلاط بالمؤمنين،لأنّهم كانوا منعزلين عنهم، فلا يكلّمهم أحد منهم.
4-رجع عليهم بالرّحمة و قبول العذر،ليستقيموا و يثبتوا على توبتهم في المستقبل،و لا يرجعوا إلى ما يبطلها،و يتوبوا لو فرطت منهم خطيئة أيضا،علما منهم أنّ اللّه توّاب رحيم.
5-سهّل لهم التّوبة حتّى تابوا.
6-تاب عليهم في الماضي ليكون داعيا لهم في المستقبل.
7-تاب عليهم لينتفعوا بالتّوبة،و يتوفّر لهم ثوابها.
8-قال الفخر الرّازيّ:لتدلّ على أنّ فعل العبد فعل اللّه،(فتاب عليهم)فعل اللّه،و(ليتوبوا)فعل العباد، و نظيرها فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً التّوبة:82،مع قوله:
وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى النّجم:43،و ذكر له في القرآن شواهد أخرى.
هذا رأي الأشاعرة،و ينكره المعتزلة و الإماميّة و من ينحو نحوهم،مع أنّه بعيد عن سياق الآية،بل هي على خلاف هذا القول أدلّ؛إذ ظاهرها أنّ هناك توبتين:توبة من اللّه،و توبة من العبد،و هما مختلفتان تماما،و الأولى داعية إلى الثّانية و باعثة عليها.
9-ما أفاده الطّباطبائيّ أنّ للّه توبتين:توبة قبل توبة العبد،و توبة بعدها،و توبة العبد محفوفة بهما،و أنّ اللّه يرجع إلى العبد بالتّوفيق لهم و إفاضة رحمة الهداية عليهم -و هو التّوبة الأولى منه-فيهتدي العبد إلى الاستغفار، و هو توبته،فيرجع اللّه تعالى إليه بقبول توبته و غفران ذنوبه،و هو التّوبة الثّانية منه تعالى.و مآل هذا الوجه إلى بعض الوجوه السّابقة،و لا بأس به.
ز-ما كرّرت خمس مرّات:مرّتين من اللّه،و ثلاث مرّات من العباد:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ... وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ... حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ (12)و(13).
فظهر أنّ التّوبة الأولى و الثّالثة من اللّه،و الثّانية و الرّابعة و الخامسة من العبد،و كلّها مثبتة سوى الرّابعة (و ليست التّوبة)فمنفيّة،أي لا تصحّ توبة العبد إذا أخّرها إلى وقت حضور الموت.و جاز أن تكون هذه من اللّه أيضا،لتكون نفيا بإزاء إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ، أي
ص: 193
لا يقبل اللّه توب العبد لو أخّرها إلى هذا الوقت،و الأوّل أقرب.
عاشرا:جاءت توبة اللّه في جملة من الآيات بلفظ (الغفور الرّحيم)أو(رؤف رحيم)و نحوهما في خواتم الآيات،مثل: إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ في(4)و(19)و (28)و(30)و(32)و(34)و(35)، وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ في(17)، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ في (33)، وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً في(18)و(23)، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ في(6)، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ في(46)،فهذه نظير ما جاء فيه بلفظ (التّوّاب الرّحيم)مثل(2)و غيرها.و(الرّحيم)فيها يشعر بأنّ غفران اللّه و توبته على العباد تنشأ من رحمته تعالى عليهم.
و نظيرها قوله: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً في(22)،و قوله: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا... في (37).فالغفّار بمثابة التّوّاب،و قد قام مقامه،أو هو مقدّمة لقبول التّوبة،كما سنتكلّم عنه.
الحادي عشر:اجتمع الاستغفار و التّوبة من العباد في جملة من الآيات،مثل: وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ في(43-46)،فجاءا مفصولين ب«ثمّ»، فيدلّ على أنّ الاستغفار شيء سوى التّوبة،مقدّم عليه كمقدّمة لها.
و ما يفضّ النّزاع و يحلّ المشكلة هو أنّ هذه الآيات كلّها في سورة هود؛إذ خاطب هود قومه عاد،و خاطب صالح قومه ثمود،و شعيب قومه أهل مدين،و كانوا كلّهم مشركين.فاستغفارهم رجوع من الشّرك إلى التّوحيد أوّلا،و توبتهم رجوع عن الذّنب ثانيا.
و الشّاهد عليه-مع وضوحه-أنّ ما قبلها جميعا نهي عن الشّرك و دعوة إلى التّوحيد،فقبل الآية(43):
أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ هود:2،و قبل سائر الآيات:
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ الأعراف:59
و هناك أقوال أخرى غير موجّهة:
1-(ثمّ)بمعنى«الواو»،قاله الفرّاء و تبعه بعضهم.
2-اطلبوا المغفرة كغرض لكم،ثمّ توصّلوا إليه بالتّوبة،فالغفران هدف و التّوبة وسيلة له،قاله الطّوسيّ و من تبعه.
3-استغفروا ربّكم،ثمّ أخلصوا له التّوبة،و بينهما تراخ زمانيّ و رتبيّ.فالاستغفار طلب غفران الذّنوب، و التّوبة انقطاع العبد إلى اللّه بالكلّيّة،و هو مرويّ عن الشّريف الرّضيّ.و وجّهوه بأنّ الاستغفار لا يكون توبة ما لم يقل المستغفر:«تبت»،و ينوي أن لا يعود إليه أبدا، و هو التّوبة الصّادقة.
4-الاستغفار توبة عمّا وقع من الذّنوب،و التّوبة استغفار عمّا يقع بعدها في الحال أو في المستقبل.
5-الاستغفار طلب الغفر،أي السّتر من اللّه و العفو عنه،و التّوبة الرّجوع إليه مع النّدم عمّا مضى،و العزم على عدم العود.
6-الاستغفار ترك المعصية،و التّوبة الرّجوع إلى الطّاعة.
7-الاستغفار المأمور به مسبوق بالتّوبة الّتي بمعنى النّدم،و يتلوه التّوبة،فهناك ثلاثة أمور متتابعة:ندم، و استغفار،ثمّ توبة.
ص: 194
8-الاستغفار دعاء متّصل مستمرّ بين الإنسان و ربّه،فإنّه و إن اجتهد في الطّاعة و أخلص في العبادة، لا يسلم أبدا من أن تصدر عنه زلاّت.أمّا التّوبة فهي رجوع إلى اللّه بعد أن يبعد الإنسان عنه كثيرا بالمعاصي، فهي في مواجهة موقف محدّد.فالاستغفار عمل مستمرّ، و التّوبة خاصّة بحالة ارتكاب منكر من المنكرات.
هذه جهود مشكورة في فهم الآيات من غير ملاحظة سياقها،و ما اخترناه أوّلا هو الموافق للسّياق.
و بذلك يعلم أنّ هناك علاقة ماسّة بين المادّتين«ت و ب» و«غ ف ر»،و كثيرا ما يحلّ أحدهما محلّ الآخر.
الثّاني عشر:جاءت التّوبة من اللّه بألفاظ مثل:
(تاب اللّه)،(يتوب اللّه)،(توّاب)،(انّما التّوبة على اللّه) و نحوها.و جاءت في(49)و(50)مرّتين بلفظ(هو يقبل التّوبة عن عباده)،فهل هما شيء واحد،أو شيئان؟أي إذا تاب العبد و قبل اللّه توبته فقد تاب عليه،أو أنّ التّوبة من اللّه عمل منه يلي قبول توبة العبد؟و الأوّل هو الأقرب،و يؤيّده ما يأتي:
1-سبق أن قلنا:إنّ للّه توبتين:توبة قبل توبة العبد، و هي توفيقه للتّوبة أو نحوه،ممّا قد سبق الكلام فيه، و توبة بعد توبة العبد،و لا يتصوّر له معنى سوى قبول توبة العبد بغفران ذنوبه،و سوى إعطائه مزيدا من الأجر،و الثّواب.و لا يسمّى هذا توبة إلاّ مجازا بعلاقة سببيّة.
2-وصف اللّه ب«التّواب»،أي أنّه-كما سيأتي- بمعنى كثير القبول لتوبة العبد.
3-جاء في ذيل الآية(45): ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ هود:61،و ما بعد الآية(49):
وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ...
الشّورى:26.و معنى ذلك أنّ التّوبة من العبد دعاء منه، و من اللّه استجابة له،فقوله: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ حلّ محلّ إِنَّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ أو تَوّابٌ حَكِيمٌ و نحوهما في سائر الآيات.فقد جاء في ذيل: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ (50)،قوله: (وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ، و هو تأكيد لما قبله،و وصف عامّ للّه،كدليل على فعله الخاصّ.
4-إنّ توبة العبد ليست سوى استغفار ذنوبه من اللّه، و ليست توبة اللّه عليه سوى غفران ذنوبه،و لهذا جاءت «انه غفور رحيم»و نحوها ذيلا لتوبة العباد في كثير من الآيات كما جاء عكسه،أي جاء(توّابا رحيما)ذيلا للاستغفار في الآيتين(53)و(54): فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ... لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً، وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً. و جاء فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ في(3)، و يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ في (49)،فتوبته قبول توبتهم،و عفوه غفران ذنوبهم.
5-و فيها تأكيد أنّ غفران الذّنوب و قبول توبة العباد خاصّ باللّه،و لا حظّ لغيره فيه،حتّى الملائكة و الأنبياء و الأولياء.و هذا من أركان التّوحيد و دعائمه، كما أنّ قبول الشّفاعة و استجابة الدّعاء و العبادة و الاستعانة و أمثالها كلّها للّه سبحانه،لا يشركه فيها أحد.
الثّالث عشر:وصف اللّه ب(التّوّاب)في إحدى عشرة آية،و هي الآيات(1)و(2)(7)و(11)و(26) و(27)و(50-54)،و جاءت كلّها ذيل الآيات،
ص: 195
كفذلكة أو دليل لما قبلها.و قد فسّروه بالمتجاوز عن ذنوب العباد،أو التّارك مجازاتهم،أو قابل التّوب،أو الكثير القبول للتّوبة،أو ميسّر أسباب توبتهم مرّة بعد أخرى،أو المكثر لإعانتهم على التّوبة-و هذا يرجع إلى التّوبة الأولى منه تعالى-أو قابل التّوبة و إن عظمت الذّنوب،أو الرّجّاع على عباده بالمغفرة،لأنّه إنّما يقبل التّوبة-لا لأمر يرجع إلى رقّة طبع،أو جلب نفع،أو دفع ضرر،كما هو ديدن الملوك و الرّؤساء؛إذ هم يقبلون توبة عبيدهم و خدّامهم مرّة،و يرفضونها أخرى،بحسب اختلاف حالتهم النّفسيّة من الرّضى و الغضب،بل لمحض الإحسان و اللّطف و الرّحمة و الجود،فإنّ فيضه لا ينقطع.
و لا تقصير إلاّ من القابل،أي العبد،فكلّما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض إليه.
و عليه فالتّوّاب هو الغفّار،و قد أعقب(التّوّاب)في كثير من الآيات ب«الرّحيم»في جمل اسميّة،لأنّ رحمته سبب قبوله التّوبة.و رحمته صفة ثابتة له،و راسخة في ذاته،فتدلّ على الدّوام،كما أنّ الجملة الاسميّة تدلّ على الثّبات أيضا.
و يشهد على ما ذكرنا في معنى(التّوّاب)أنّه جاء محلّه في اثنتي عشرة آية(الغفور الرّحيم)،و هي:(4)و(17) و(18)و(19)و(23)و(27)و(28)و(31-35)، و هي تزيد(التّوّاب الرّحيم)بواحدة.و في(6):(رؤف رحيم)،و في(46):(رحيم ودود)،و اكتفي في هذين ببيان سبب الغفران،و هو الرّحمة و الودّ من اللّه تعالى لعباده.
و قد جاء محلّ هذه الأوصاف أوصاف تحكي علمه تعالى بذنوب العباد و بصدق نيّتهم في المتاب،و عن حكمته في الثّواب و العقاب.ففي(9): وَ اللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، و في(12): وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً، و في(14)و(16)و(20):(عليم حكيم)،فدلّت على أنّ اللّه لا يغفر ذنوب عباده جهلا بها و بهم،بل غفرانه عن علم كامل و حكمة بالغة.
الرّابع عشر:وصف اللّه ب«التّوّاب»(11)مرّة و وصف العباد بالتّوّابين مرّة واحدة في(55): إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ و إن دلّ هذا على شيء فإنّه يدلّ على البون الشّاسع بين اللّه و عباده بنسبة 11/1،أي إذا كرّر العبد التّوبة فسيتلقّى أضعافها من اللّه،لدوام فيضه و استمرار رحمته،و فيه أبحاث:
1-هناك فرق آخر بينهما،و هو أنّ العباد يتّصفون بلفظ التّائب و التّائبين و التّائبات،كما يوصفون بلفظ الآئب و المنيب و نحوهما،دون اللّه،لأنّ أوصاف اللّه توقيفيّة،و لم يوصف في القرآن إلاّ بالتّوّاب،دون التّائب و نحوه.و كأنّه-مفردا و جمعا-منصرف إلى العباد و خاصّ بهم،أمّا(التّوّاب)فمشترك بينهما لفظا و مختلف معنى،كما علمت.
2-و هناك نكات أخرى في صيغة الجمع،فجاء (التّوّاب)في جانب اللّه(11)مرّة:(7)مرّات مرفوعا، و(4)مرّات منصوبا،فتفوّق الرّفع-و هو رمز العلوّ و التّأثير-على النّصب بنسبة 7/4.و جاء في جانب العباد (3)مرّات:مرّة بلفظ(توّابين)في(55)منصوبا و شاملا للرّجال و النّساء،و مرّة بلفظ(التّائبون)في(56)مرفوعا للرّجال،و مرّة بلفظ(تائبات)في(57)منصوبا للنّساء،
ص: 196
فقد روعي فيها موضع الجنسين إلى جانب مقام الرّبّ المتعال.
3-و جاء(التّوّاب)أيضا وصفا للّه،معرّفا باللاّم في جملة مؤكّدة إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ثلاث مرّات في (1)و(2)و(7):و إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ مرّة في (11).و منكّرا مع التّأكيد مرّتين: إِنَّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ في(52)،و إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً في (26)،و بلا تأكيد مرّتين: لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً في(53) وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ في 27.
4-و قد جمع الوصفان(التّوّاب)و(الرّحيم)فيها جميعا.و جاء مرّة منفردا عنه مع التّأكيد إِنَّهُ كانَ تَوّاباً في(54)،و مرّة مع(حكيم)بدل(رحيم): وَ أَنَّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ في(52).و معلوم أنّ لكلّ من وصفي (الرّحيم)و(الحكيم)حسب مرّاتها دخلا في وصفه بالتّوّاب،و الغالب عليه التّأكيد.
و قد أعقب(التّوّابين)ب(المتطهّرين)في الآية، تنبيها و تأكيدا أنّ التّوّابين حقّا هم المتطهّرون،أي الّذين يريدون و يحبّون أن يتطهّروا عن ذنوبهم أمام اللّه،و قد تطهّروا بالفعل،و أنّ اللّه إنّما يحبّ التّوّابين لأنّه يحبّ المتطهّرين،و في ذلك ألوان من الحكمة و الودّ بين اللّه و العباد.
الخامس عشر:هناك بحث طويل في التّفاسير في وجوب التّوبة على اللّه،و هو بحث كلاميّ سرى إلى التّفاسير من قبل المعتزلة الّذين يحمّلون قواعدهم العقليّة على اللّه،و يطبّقونها عليه بنفس أسلوب تطبيقها في حقّ العباد.و قد أيّدوا حججهم العقليّة،بما تمكّنوا من تأويل الكتاب و السّنّة،و هذا ديدنهم في أصول العقيدة و أصول الفقه.و من أجل ذلك احتجّ القاضي عبد الجبّار بقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ... في(12)على وجوب قبول التّوبة على اللّه عقلا،و أبطل حجّته الفخر الرّازيّ في كلام طويل،لاحظ النّصوص.
و الحقّ أنّه لا يجب على اللّه شيء إلاّ ما أوجبه على نفسه و وعد به،فإنّه لا يخلف الميعاد،و قد وعد اللّه عباده بقبول توبتهم إذا أحرزت الشّروط الّتي شرطها اللّه.
و هذا البحث جار في الآيات عامّة،و في هذه الآية خاصّة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ...؛ حيث أنّ ظاهرها أنّه تعالى أوجب على نفسه القبول،كما أوجب على نفسه الرّحمة في قوله: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الأنعام:
12.
و مع ذلك فلسان الآيات مختلف،فبعضها يعطي الرّجاء في قبول توبتهم دون قطع و بتّ،مثل الآيتين (19)و(20)،فقال في(19): عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، و مثلها(25): فَأَمّا مَنْ تابَ... فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، و في(20): وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. و علّق القبول على مشيئته أيضا في(16)و(17): وَ يَتُوبُ اللّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ.
و الحقّ أنّ الآيات إذا ضمّ بعضها إلى بعض تعطي الرّجاء دون قطع للعصاة من المؤمنين حسب مراتبهم من الطّاعة و العصيان،فلاحظ الآيات من آخر التّوبة،ففيها تفسير أصناف التّائبين.
ص: 197
و هذا كلّه جار في ما لسانه الوعد و الإرجاء،و هو أكثرها،أمّا في ما أخبر اللّه بأنّه تاب على نبيّ أو على جماعة،فلا ريب في وقوعها،كجملة من آيات المحور الأوّل.و عليه فالآيات من هذه الجهة صنفان أيضا:
إخبار عمّا وقع،و وعد بما سيقع.و البحث في وجوب قبول التّوبة على اللّه موضعه الصّنف الثّاني دون الأوّل.
و هناك بحث آخر في وجوب التّوبة على العباد، و لا ريب فيه حسب الكتاب و السّنّة،لاحظ نصّ«محمّد جواد مغنية».بيد أنّ لسان الآيات يختلف فيه وضوحا و خفاء،و شدّة و ضعفا أيضا.
السّادس عشر:جاء المصدر بلفظ التّوبة(6)مرّات في(12)و(13)و(48)و(49)و(50)و(58)،و بلفظ (متابا)مرّتين في(24)و(59)،و فيها أبحاث:
1-إطلاق التّوبة يحكي أنّها كانت في عصر النّبيّ، و في عرف القرآن مفهومة بكلا معنييها،أي توبة العباد -و هي الظّاهر منها-و توبة اللّه،على العباد.
2-و قد وزّعت الآيات بين المعنيين في بدء النّظر بنسبة 4/2،أربع من العباد،و اثنتان من اللّه،فالتّوبة في (12)من اللّه،و في(13)من العباد،و قد تقدّم البحث فيهما في الملاحظة الثّالثة و الرّابعة.و في(49)و(50) وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ من العباد ظاهرا و من اللّه باطنا،لما تقدّم في الملاحظة الثّانية عشرة أنّ توبة اللّه هي نفس قبول توبة العبد.و في(48)خاصّ بالعباد،لأنّهم مأمورون فيها بالتّوبة،أمّا تَوْبَةً مِنَ اللّهِ في(58)فخاصّة باللّه،على أثبت الأقوال،كما يأتي.
3-اختلفوا في«توبة من اللّه»من جهات:
الأولى:في وجه نصبها،فهم بين من جعلها مفعولا لأجله،أي إنّما اكتفى بصيام شهرين متتابعين بدلا من عتق رقبة،من أجل توبته عليكم و قبوله توبتكم،فهي مثل:«فعلت ذلك حذار الشّرّ».و من جعلها مصدرا مؤكّدا لفعل مقدّر،أي تاب عليكم توبة منه.و من جعلها حالا،أي جعل الصّيام حال كونه توبة منه تعالى عليكم،أو حال كونه توبة منكم إليه؛و الأوّل هو الأقرب.
الثّانية:هل هذه التّوبة توبة اللّه على العباد كما هو ظاهرها؛حيث قال: تَوْبَةً مِنَ اللّهِ، و اختاره أكثرهم؟أو توبة العباد،أي ليقبل توبتكم؟و هو تحميل للآية،إلاّ إذا أريد بتوبة اللّه دائما قبول توبة العباد بالذّات،و قد اخترناه.و لكن هذا لا يحوّل تَوْبَةً مِنَ اللّهِ إلى توبة العباد.
الثّالثة:إطلاق التّوبة هنا بكلا معنييها يقتضي صدور التّقصير عن العبد في قتل الخطإ،مع أنّه لا تقصير له.و برّروا ذلك بوجوه،جمعها الفخر الرّازيّ كما يلي.
أوّلا:أنّه كان مقصّرا في ترك الاحتياط.
و ثانيا:أنّ اللّه خفّف عنه بإقامة الصّوم مقام الإعتاق عند العجز،و التّخفيف من لوازم التّوبة،فأطلق التّوبة و أريد به التّخفيف إطلاقا للملزوم على اللاّزم.
و ثالثا:أنّ المؤمن إذا اتّفق له ذلك يندم على فعله، فسمّى اللّه ذلك النّدم توبة من العبد.
و الأقرب أنّ التّوبة هنا-كما اختاره الطّبريّ و غيره- هي التّجاوز عن الإعتاق إلى الصّيام،تخفيفا على العباد
ص: 198
و على المجتمع البشريّ،فهذا نظير قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ المزّمّل:20،و احتمل بعضهم التّخفيف راجعا إلى كلّ ما تقدّم من الصّوم و غيره،و كلّها تخفيف عن القصاص.
السّابع عشر:و بعد ذلك كلّه بقي الكلام في حقيقة التّوبة و شروطها،و قد أطال المفسّرون الكلام في تعريفها ذيل الآيات فلاحظ.و نحن نفضّل أن نغضّ النّظر عنها،و نكتفي بما جاء من القيود و الشّروط في الآيات:
1-أن يصدر العمل عن جهالة:(12)و(32)و(33).
2-أن يصدر عنه السّوء أو السّيّئة أو السّيّئات:
(12)و(13)و(23)و(32)و(31)و(34)و(49).
و قد خصّها بعضهم بالمعاصي الصّغيرة،فلا تعمّ الكبائر، و هذا ليس ببعيد،و قد جاء في(23): يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، و هذا مزيد في العطاء.
3-أن يحسّ في نفسه ترك الطّاعة(10): عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ.
4-أن تكون التّوبة قبل أن يقدر المسلمون عليهم (34)،و هذا خاصّ بالمحاربين.
و هذه شروط العمل الّذي يتوب عنه،و أمّا شروط التّوبة نفسها فهي:
1-أن يسبق إلى التّوبة قبل حضور الموت(12) و(13).
2-أن يحسّ أنّه لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه(7).
3و4-الاعتصام باللّه و الإخلاص في الدّين(29).
5-الإصلاح و العمل الصّالح،و هذا جاء في كثير من الآيات:(4)و(19)و(21-30)و(32)و(33).
6-اتّباع سبيل اللّه(37).
7-التّقوى(52).
8-الإيمان باللّه(21)إلى(25).
9-الاستغفار قبل التّوبة(43)إلى(46)،و هذا و ما قبله خاصّ بالكفّار و المشركين كما سبق.
10-أن تكون توبة نصوحا(48).
11-أن يضمّ إلى استغفارهم استغفار الرّسول (53)،و هذا خاصّ بالمنافقين حسب السّياق.
12-التّسبيح بحمد اللّه قبل الاستغفار(54)،و هذا جاء خطابا للنّبيّ عليه السّلام خاصّة.
13-صفات أخرى للتّائبين(56): اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ....
14-صفات أخرى للتّائبات(57): مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً، و هذه صفات أزواج النّبيّ اللاّتي بهنّ وعده اللّه.
فبعض هذه الشّروط خاصّ بالكفّار و المنافقين، و كثير منها جار في عامّة المؤمنين،فبعضها شرط للقبول،و بعضها شرط للأجر و العطاء الكامل للنّبيّ و أزواجه و للصّالحين من أتباعه،و بملاحظتها تعرف التّوبة حقّ معرفتها.
الثّامن عشر:لا يكمل التّحقيق في كلمة التّوبة -و لا سيّما التّوبة من اللّه-إلاّ بملاحظة آيات المغفرة الّتي تبلغ(162)آية.و في(91)آية منها وصف اللّه ب«الغفور»،و في خمس منها ب«الغفّار»،و جمعت في أربع منها التّوبة و الاستغفار من العباد،و قد تكلّمنا حولها في
ص: 199
الملاحظة الحادية عشرة.
و لهذه المادّة أيضا علاقة ماسّة بمادّة«ع ف و»، و فيها(24)كلمة،و اجتمع في آيتين منها العفو و التّوبة، و قد أشرنا إلى ذلك في الملاحظة الثّانية عشرة.كما جاء «الصّفح»مع«العفو»في ثلاث من آيات الصّفح،فلاحظ «غ ف ر»و«ع ف و»و«ص ف ح».
التّاسع عشر:المكّيّات من هذه المادّة(19)آية، و المدنيّات منها(40)آية،أي ضعف المكّيّات بزيادة ثلاث آيات،و إن دلّ هذا على شيء فإنّه يدلّ على أنّ باب التّوبة في مدينة الرّسول-و كانت تعدّ حينذاك دار الإسلام بلا منازع-كان مفتوحا بكلا مصراعيه للعباد بيمن النّبيّ عليه السّلام،فكان المؤمنون فيها كثيرين مع قلّتهم في مكّة؛حيث كانت إلى قبيل رحيل النّبيّ عليه السّلام عن الدّنيا دار الشّرك و الكفر،رغم وجود الكعبة فيها.
ص: 200
تارة
لفظ واحد،مرّتان مكّيّتان في سورتين مكّيّتين
الخليل :«التّور»تذكّره العرب،و«تارة»ألفها واو،و الجميع:التّير.
و استوأر القوم:فزعوا،و الوحش أيضا إذا نفرت.
[ثمّ استشهد بشعر]
و أتأرت إليه النّظر،إذا حدّدته.(8:134)
أبو عمرو الشّيبانيّ: يقال للرّسول:تور.
(الأزهريّ 14:310)
فلان يتار على أن يؤخذ،أي يدار على أن يؤخذ.
(الجوهريّ 2:602)
الفرّاء: أتأرت إليه النّظر-بهمز في الألفين غير ممدود-إذا أحددته.(الأزهريّ 14:309)
ابن الأعرابيّ: «تأرة»مهموزة،فلمّا كثر استعمالهم لها تركوا همزها.(الأزهريّ 14:309)
التّورة:الجارية الّتي ترسل بين العشّاق.
التّائر:المداوم على العمل بعد فتور،و التّير:جمع تارة،مرّة بعد مرّة.(الأزهريّ 14:310)
ابن دريد :و التّور:عربيّ معروف،هكذا يقول قوم،و قال آخرون:بل هو دخيل.
و التّور:الرّسول بين القوم،عربيّ صحيح.(2:14)
و الطّست و التّور:فارسيّان.(3:502)
الأزهريّ: [حكى قول ابن الأعرابيّ ثمّ قال:]
قلت:و قال غيره:جمع تأرة:تئر مهموزة،و منه يقال:أتأرت إليه النّظر إتآرا:أدمته تارة بعد تارة.[ثمّ نقل قول الفرّاء و قال:]
و يقال:أتأرته بصري أيضا.[ثمّ استشهد بشعر]
و من ترك الهمز قال:أترت إليه الرّمي و النّظر أتيره إتارة،و أترت إليه الرّمي،إذا رميته تارة بعد تارة،فهو متار.[ثمّ استشهد بشعر]
و التّور:إناء معروف،تذكّره العرب.
ص: 201
و التّيّار:تيّار البحر،و هو آذيّه و موجه.[ثمّ استشهد بشعر]
و التّيّار«فيعال»من تار يتور،مثل القيّام من قام يقوم،غير أنّ فعله ممات.(14:309)
الصّاحب:[نحو الخليل و أضاف:]
و التّؤور:اتّباع الشّرط (1).
و هو يتار على كذا،أي يدار عليه.و منه فراء متار، أي يرمى بالأبصار.
و أترته بصري:بمعنى أتأرته.و يقولون:أفردوني و أتاروني.
و أترت الشّيء:فعلته تارة بعد تارة.
و يقال:تاورته،و هما يتتاوران.(9:458)
الجوهريّ: التّور:إناء يشرب فيه،و التّور:
الرّسول بين القوم.(2:602)
ابن فارس: التّاء و الواو و الرّاء ليس أصلا يعمل عليه.أمّا الخليل فذكر في بنائه ما ليس من أصله،و هو استوأرت الوحش.و هذا مذكور في بابه (2).
و ذكر ابن دريد كلمة لو أعرض عنها كان أحسن، قال:التّور:الرّسول بين القوم،عربيّ صحيح.[ثمّ استشهد بشعر](1:357)
ابن سيده: و التّور:من الأواني،مذكّر،قيل:هو عربيّ،و قيل:دخيل.
و التّارة:الحين و المرّة.[ثمّ استشهد بشعر]
و أترت الشّيء:جئت به تارة أخرى،أي مرّة بعد مرّة.
و حكى[اللّحيانيّ]«يا تارات فلان»و لم يفسّره.
[ثمّ استشهد بشعر]
و تير الرّجل:أصيب التّار منه،هكذا جاء على صيغة ما لم يسمّ فاعله.[ثمّ استشهد بشعر](9:530)
الزّمخشريّ: فعل ذلك تارات و تارة بعد أخرى، و هذه شرّ تاراتك.و منها قولهم:تاورته؛بمعنى عاودته.
«و كان رسو